ﰡ
مَعْنَاهُ فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَدَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ لِجَوَازِ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ معناه فبما نقضهم ميثاقهم والهاء فِي أَمْرِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلَّهِ لِأَنَّهُ يَلِيهِ وَحُكْمُ الْكِنَايَةِ رُجُوعُهَا إلَى مَا يَلِيهَا دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أوامر الله على الوجوب لأنه ألزم للوم والعقاب يخالفه الْأَمْرِ وَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَقْبَلَهُ فَيُخَالِفَهُ بِالرَّدِّ لَهُ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَفْعَلَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَمُعْتَقِدًا لِلُزُومِهِ فَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ خَصَّهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوُجُوبِ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي أَمْرِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ يُسَمَّى أَمْرُهُ كَمَا قَالَ تعالى وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَعْنِي أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بَعْدَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً وَهُوَ الَّذِي تَلِيهِ الْكِنَايَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ آخِرُ سُورَةِ النُّورِ.
سورة الفرقان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً الطَّهُورُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِالطَّهَارَةِ وَتَطْهِيرِ غَيْرِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ ضَرُوبٌ وَقَتُولٌ أَيْ يَضْرِبُ وَيَقْتُلُ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِذَلِكَ وَالْوَضُوءُ يسمى طهورا لأنه طهر مِنْ الْحَدَثِ الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِوَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ
أَيْ بِمَا يُطَهِّرُ
وَقَالَ النبي ﷺ جعلت لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا
فَسَمَّاهُ طَهُورًا مِنْ حَيْثُ اسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةَ وَقَامَ مَقَامَ الْمَاءِ فِيهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ أَحَدُهَا إذَا خَالَطَ الْمَاءَ غَيْرُهُ مِنْ الأشياء الطاهرة والثاني إذا خالطته نَجَاسَةٌ وَالثَّالِثُ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ لِأَجْلِ الْغَلَبَةِ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ لِطَهَارَةِ الْبَدَنِ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ مِثْلُ الْمَرَقِ وَمَاءِ الْبَاقِلَاءِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ الْوُضُوءَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ وَمَا طُبِخَ بِالْمَاءِ لِيَكُونَ أَنْقَى لَهُ نَحْوُ الْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ فَالْوُضُوءُ بِهِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ وَإِنْ خَالَطَهُ غَيْرُهُ لِإِطْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِيهِ وَأَبَاحَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ وَسُؤْرِ الْحَائِضِ وَإِنْ خَالَطَهُمَا شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهِمَا وَأَيْضًا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْمُدِّ وَالسَّيْلِ مَعَ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِمُخَالَطَةِ الطِّينِ لَهُ وَمَا يَكُونُ فِي الصَّحَارَى مِنْ الْحَشِيشِ وَالنَّبَاتِ وَمِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ ذَلِكَ لَهُ يُرَى مُتَغَيِّرًا إلَى السَّوَادِ تَارَةً وَإِلَى الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ أُخْرَى فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي جَمِيعِ مَا خَالَطَهُ الْمَاءُ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ فَيَسْلُبُهُ اسْمَ الْمَاءِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ لَوْ اسْتَعْمَلَهُ لِلطَّهَارَةِ وَلَمْ يَكْفِهِ ثُمَّ اخْتَلَطَ بِهِ غَيْرُهُ فَكَفَاهُ بِاَلَّذِي خَالَطَهُ نَحْوِ مَاءِ الْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانِ فَقَدْ حَصَلَ بَعْضُ وُضُوئِهِ بِمَا لَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ مِمَّا لَوْ أَفْرَدَهُ لَمْ يَطْهُرْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اخْتِلَاطِهِ بِالْمَاءِ وَبَيْنَ إفْرَادِهِ بِالْغُسْلِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ مَا خَالَطَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الطاهرة التي يجوز استعماله لِغَيْرِ الطَّهَارَةِ إذَا كَانَ قَلِيلًا سَقَطَ حُكْمُهُ وَكَانَ الْحُكْمُ لِمَا غَلَبَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي خَالَطَهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ اللَّبَنِ وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْ حب قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ لَا يُقَالُ لَهُ شَارِبُ خَمْرٍ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ الْمَاءُ إذَا كَانَ هُوَ الْغَالِبُ وَالْجُزْءُ الَّذِي خَالَطَهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا سَقَطَ حُكْمُهُ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْت فَيَنْبَغِي أَنْ يجوز
الْحَدُّ وَلَوْ أن خمر أصب فيها مَاءٌ فَمُزِجَتْ بِهِ فَكَانَ الْخَمْرُ هُوَ الْغَالِبُ لإطلاق النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ وَكَانَ حُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ حُكْمَ شَارِبِهَا صَرْفًا غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ وَأَمَّا مَاءُ الْوَرْدِ وَمَاءُ الزَّعْفَرَانِ وَعُصَارَةُ الرَّيْحَانِ وَالشَّجَرِ فَلَمْ يُمْنَعْ الْوُضُوءُ بِهِ مِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ غَيْرِهِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ إلَّا بِتَقْيِيدٍ كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَنِيَّ مَاءً بِقَوْلِهِ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ وَقَالَ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي شَيْءٍ وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي إجَازَتِهِ الْوُضُوءَ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إجَازَتُهُ بِالْمَرَقِ وَبِعَصِيرِ الْعِنَبِ لَوْ خَالَطَهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ مَاءٍ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ الْوُضُوءُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ مِنْ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّيَمُّمُ بالدقيق والأشنان قياسا على التراب.
(فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا تَيَقَّنَّا فيه جزء مِنْ النَّجَاسَةِ أَوْ غَلَبَ فِي الظَّنِّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ مَاءُ الْبَحْرِ وَمَاءُ الْبِئْرِ وَالْغَدِيرِ وَالْمَاءُ الرَّاكِدُ وَالْجَارِي لِأَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْجَارِي وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَصْحَابِنَا لِلْغَدِيرِ الَّذِي إذَا حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الطَّرَفُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي جِهَةِ تَغْلِيبِ الظَّنِّ فِي بُلُوغِ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَيْسَ هَذَا كَلَامًا فِي أَنَّ بَعْضَ الْمِيَاهِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ قَدْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَبَعْضَهَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَلِذَلِكَ قَالُوا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْمَاءِ الَّذِي حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ فَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَدِيرٍ يُطْرَحُ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَالْحَيْضُ فَقَالَ تَوَضَّئُوا فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَخْبُثُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْجُنُبِ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً فِي الْمَاءِ تَرِدُهُ السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ فَقَالَ الْمَاءُ لَا يَتَنَجَّسُ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ فِي الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجَّسُ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ بِرِيحٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ وَقَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً لا يخبث
وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْآخَرُ كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ
فَحَرَّمَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَحْرِيمًا مُبْهَمًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ انْفِرَادِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالْمَاءِ فَوَجَبَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِ كُلِّ مَا تَيَقَّنَّا فِيهِ جُزْءًا مِنْ النَّجَاسَةِ وَيَكُونُ جِهَةَ الْحَظْرِ مِنْ طَرِيقِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِبَاحَةِ فَجِهَةُ الْحَظْرِ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارِيَةَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فِيهَا مِائَةُ جُزْءٍ وَلِلْآخَرِ جُزْءٌ وَاحِدٌ أَنَّ جِهَةَ الْحَظْرِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطْؤُهَا فَإِنْ قِيلَ لِمَ غُلِّبَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ فِي النَّجَاسَةِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي قَدْ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ إذَا لَمْ تَجِدْ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَوْلَ الْقَلِيلَ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ لَا يُغَيِّرُ طَعْمَهُ وَلَا لَوْنَهُ وَلَا رَائِحَتَهُ وَمَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا مَنَعَ الْبَوْلَ الْقَلِيلَ لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لِكُلِّ أَحَدٍ لَكَثُرَ حَتَّى يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ فَيَفْسُدُ قِيلَ لَهُ ظَاهِرُ نَهْيِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَلِيلُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَفِي حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عنه لنفسه وإنما مُنِعَ لِئَلَّا يُفْسِدَ لِغَيْرِهِ إثْبَاتُ مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَإِسْقَاطُ حُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِهِ وَعَلَى أَنَّهُ مَتَى حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ زَالَتْ فَائِدَتُهُ وَسَقَطَ حُكْمُهُ لَعَلِمْنَا بِأَنَّ مَا غَيَّرَ مِنْ النَّجَاسَاتِ طَعْمَ الماء أو لونه أو رائحته محظورا اسْتِعْمَالُهُ بِغَيْرِ هَذَا الْخَبَرِ مِنْ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ حُكْمِهِ رَأْسًا
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ
فَمُنِعَ الْبَائِلُ الِاغْتِسَالَ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالِ التَّغَيُّرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الْإِنَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ
فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ احْتِيَاطًا مِنْ نَجَاسَةٍ أَصَابَتْهُ مِنْ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَهَا إذَا حَلَّتْ الْمَاءَ لَمْ يُغَيِّرْهُ وَلَوْلَا أَنَّهَا تُفْسِدُهُ لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْهَا مَعْنًى
وَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم بنجاسة ولوغ الكلاب بِقَوْلِهِ طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَ سَبْعًا وَهُوَ لَا يُغَيِّرُهُ
فإن قيل قوله تعالى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ- إلى قوله تعالى- فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وقَوْله تَعَالَى وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَحَدُهُمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى حَتَّى تَغْتَسِلُوا أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِمَاءٍ حَلَّتْهُ النَّجَاسَةُ وَبِمَا لَمْ تَحِلَّهُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ قَوْله تَعَالَى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مَاءٌ إذَا كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ وَهَذَا يُعَارِضُ مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ فِي حَظْرِ اسْتِعْمَالِهِ مَاءً خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ قِيلَ لَهُ لَوْ تَعَارَضَ العمومان لَكَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى مِنْ تَضَمُّنِهِ مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ مَتَى اجْتَمَعَا كَانَ الْحُكْمُ لِلْحَظْرِ وَعَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَظْرِ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ قَاضٍ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ الْعُمُومِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ مَأْمُورًا بِمَاءٍ لَا نَجَاسَةَ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا غَيَّرَتْهُ كَانَ مَحْظُورًا وَعُمُومُ إيجَابِ الْحَظْرِ مستعمل فيه
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ
وَصْفُهُ إيَّاهُ بِالتَّطْهِيرِ يَقْتَضِي تَطْهِيرَ مَا لَاقَاهُ فَيُقَالُ لَهُ مَعْنَى قَوْلِهِ طَهُورًا يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا رَفْعُ الْحَدَثِ وَإِبَاحَةُ الصَّلَاةِ بِهِ وَالْآخَرُ إزَالَةُ الْإِنْجَاسِ فَأَمَّا نَجَاسَةٌ مَوْجُودَةٌ فِيهِ لَمْ تُزِلْهَا عَنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُطَهِّرًا لَهَا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ طَهُورًا أَنَّهُ يَجْعَلُ النجاسة غير نجاسة وهذا محال لأن ماحله مِنْ أَجْزَاءِ الدَّمِ وَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْخَبَائِثِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إنْجَاسًا كَمَا أَنَّهَا إذَا ظَهَرَتْ فِيهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَعْيَانُهَا نَجِسَةً وَلَمْ يَكُنْ لِمُجَاوَرَةِ الْمَاءِ إيَّاهَا حُكْمٌ فِي تَطْهِيرِهَا فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا فَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ فَالْحُكْمُ لِلْمَاءِ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ لَبَنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ حُكْمُ الْمَاءِ لِوُجُودِ الْغَلَبَةِ وَلِأَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ مَغْمُورَةٌ مُسْتَهْلَكَةٌ فَحُكْمُ النَّجَاسَةِ إذَا حَلَّتْ الْمَاءَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ إذَا خَالَطَتْهُ قِيلَ لَهُ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْمَائِعَاتِ كُلَّهَا لَا يختلف حكما فِيمَا تُخَالِطُهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ وَأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ مِنْهَا دُونَ الْمُسْتَهْلَكَاتِ الْمَغْمُورَةِ مِمَّا خَالَطَهَا وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ مُخَالَطَةَ النَّجَاسَةِ الْيَسِيرَةِ لِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ غَيْرِ الْمَاءِ تُفْسِدُهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَلَبَةِ مَعَهَا حُكْمٌ بَلْ كَانَ الْحُكْمُ لَهَا دُونَ الْغَالِبِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا فَكَذَلِكَ الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِلنَّجَاسَةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لَهَا فَوَاجِبٌ أَنْ يُطَهِّرَهَا بِالْمُجَاوَرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَامِرًا لَهَا وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَصِيرُ مُطَهِّرًا لَهَا مِنْ أَجْلِ غُمُورِهِ لَهَا وَغَلَبَتِهِ عَلَيْهَا فَقَدْ يَكُونُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ إذَا خَالَطَتْهَا نَجَاسَةٌ غَامِرَةٌ لَهَا وَغَالِبَةٌ عَلَيْهَا وَكَانَ الْحُكْمُ مَعَ ذَلِكَ لِلنَّجَاسَةِ دُونَ مَا غَمَرَهَا وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ ظُهُورِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا نَصِلُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ وَأَيْضًا الْعِلْمُ بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا كَمَا أَنَّ عِلْمَنَا بِوُجُودِهَا فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ كَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا بِظُهُورِهَا وَكَالنَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا كَمُشَاهَدَتِهَا وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ
بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم سئل عن بئر بضاعة وهي تُطْرَحُ فِيهِ عُذْرَةُ النَّاسِ ومحائض النِّسَاءِ وَلُحُومُ الْكِلَابِ فَقَالَ إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
وَبِحَدِيثِ أَبِي بُصْرَةَ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْتَهَيْنَا إلَى غَدِيرٍ فِيهِ
وَبِمَا
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ كَانَتْ طَرِيقًا لِلْمَاءِ إلَى الْبَسَاتِينِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَارِيًا حَامِلًا لِمَا يَقَعُ فيه من الأنجاس وينفله وجائز أن يكون سئل عنها بعد ما نُظِّفَتْ مِنْ الْأَخْبَاثِ فَأَخْبَرَ بِطَهَارَتِهَا بَعْدَ النَّزْحِ وَأَمَّا قِصَّةُ الْغَدِيرِ فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْجِيفَةُ كَانَتْ فِي جَانِبٍ مِنْهُ فَأَبَاحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي اعْتِبَارِ الْغَدِيرِ وَأَمَّا
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّ أَصْلَهُ مَا رَوَاهُ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَفْنَةٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا أَوْ يَغْتَسِلَ فَقَالَتْ لَهُ إنِّي كُنْت جُنُبًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ
وَالْمُرَادُ أَنَّ إدْخَالَ الْجُنُبِ يَدَهُ فِيهِ لَا يُنَجِّسُهُ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الراوي سمع ذلك فنقل المعنى عنده اللَّفْظِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحُكْمَ بِتَنْجِيسِ الْمَاءِ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ أَنَّ زِنْجِيًّا مَاتَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ فَأَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِنَزْحِهَا وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إنَّمَا يُنَجِّسُ الْحَوْضَ أَنْ تَقَعَ فِيهِ فَتَغْتَسِلُ وَأَنْتَ جُنُبٌ فَأَمَّا إذَا أَخَذْت بِيَدِك تَغْتَسِلُ فَلَا بَأْسَ وَلَوْ صَحَّ أَيْضًا هَذَا اللَّفْظُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي قِصَّةِ بِئْرِ بُضَاعَةَ فَحُذِفَ ذِكْرُ السَّبَبِ وَنُقِلَ لَفْظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا فَإِنَّ
قَوْلَهُ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَلَيْسَ يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ إذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْمَاءَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَاسْتَعْمَلُوهُ حَتَّى تَحْتَجَّ بِهِ لِقَوْلِك فَإِنْ قِيلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْت يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَتِهِ قِيلَ لَهُ قَدْ سَقَطَ اسْتِدْلَالُك بِالظَّاهِرِ إذًا وَصِرْت إلَى أَنْ تَسْتَدِلَّ بِغَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِك تَخْلِيَةٌ مِنْ الْفَائِدَةِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ فِيهِ ضُرُوبًا مِنْ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا ادَّعَيْت مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَنَقُولُ إنَّهُ أَفَادَ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ بِمُجَاوَرَتِهِ لِلنَّجَاسَةِ وَلَا يَصِيرُ فِي حُكْمِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ وَاسْتَفَدْنَا بِهِ أَنَّ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ إذَا أَصَابَتْهُمَا نَجَاسَةٌ فَأُزِيلَتْ بِمُوَالَاةِ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي فِي الثَّوْبِ لَيْسَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الَّذِي جَاوَرَهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَيَلْحَقُهُ حُكْمُهَا لأنه إنما جاور ما ليس «١٤- احكام م»
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ مَعْنًى لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ لِلنَّجَاسَةِ لَيْسَ نجس فِي نَفْسِهِ مَعَ ظُهُورِ النَّجَاسَةِ فِيهِ قِيلَ لَهُ هَذَا أَيْضًا مَعْنًى صَحِيحٌ غَيْرُ مَا ادَّعَيْت وَاسْتَفَدْنَا بِهِ فَائِدَةً أُخْرَى غَيْرَ مَا اسْتَفَدْنَاهُ بِالْخَبَرِ الَّذِي اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حَالِ غَلَبَةِ النَّجَاسَةِ وَسُقُوطِ حُكْمِ الْمَاءِ مَعَهَا فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ فِي حُكْمِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ وَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ كَمَا تَقُولُ فِي الْمَاءِ إذَا مَازَجَهُ اللَّبَنُ أَوْ الْخَلُّ إنَّ الْحُكْمَ للأغلب منهما وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ القلتين في مواضع فأغنى عن إعادته هاهنا.
(فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا وَالشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُونَ الْوُضُوءَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ مَا هُوَ وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْ مَالِكٍ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا
رَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ دَاوُد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ وَتَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ وَضُوءِ الرَّجُلِ وَلْيَفْتَرِقَا
وَفَضْلُ الطَّهُورِ يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ مَا يَسِيلُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُغْتَسِلِ وَالْآخَرُ مَا يَبْقَى في الإناء بعد الغسل وعمومه ينتظمهما فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِأَنَّهُ فَضْلُ طَهُورٍ وَأَيْضًا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ
وَرَوَى بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَسْلَمَ حِينَ أَكَلَ مِنْ تَمْرِ الصدقة أرأيت
سَمَّيْتهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ | وَالْقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زمِّيت |
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُمَا أَخْبَرَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِي قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من نَامَ عَنْ جُزْئِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ
وقال الحسن جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً جَعَلَ أَحَدَهُمَا خِلْفَةً لِلْآخَرِ إنْ فَاتَ مِنْ النَّهَارِ شَيْءٌ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ فَاتَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا فِي نحو قوله وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتَهَا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ في قوله خِلْفَةً أَحَدُهُمَا أَسْوَدُ وَالْآخَرُ أَبْيَضُ وَقِيلَ يَذْهَبُ أَحَدُهُمَا وَيَجِيءُ الْآخَرُ
وقَوْله تَعَالَى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ هَوْناً قَالَ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً قَالَ سِدَادًا وَعَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً حُلَمَاءُ لَا يَجْهَلُونَ عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ حَلَمُوا قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ كَأَنَّهُمْ الْقِدَاحُ هَذَا نَهَارُهُمْ يَنْتَشِرُونَ بِهِ فِي النَّاسِ
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً قَالَ هَذَا لَيْلُهُمْ إذَا دَخَلَ يُرَاوِحُونَ بَيْنَ أَطْرَافِهِمْ فَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَعَنْ ابْنِ عباس يمشون عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قَالَ بِالتَّوَاضُعِ لَا يَتَكَبَّرُونَ
وقَوْله
وقَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الْآيَةَ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تزنى بِحَلِيلَةِ جَارِكَ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله أَثاماً
قوله تعالى وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ عن أبى حنيفة الزور الغنا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قَالَ يَشْتَرِي الْمُغَنِّيَةَ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قَالَ الْغِنَاءُ وَكُلُّ لَعِبٍ وَلَهْوٍ
وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُهِيت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ وَصَوْتٍ عِنْدَ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ
وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ الْخَمْرَ وَالْكُوبَةَ وَالْغِنَاءَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا في قوله لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أَنْ لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَحْتَمِلُ أن يريد به الغنا عَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا الْقَوْلَ بِمَا لَا عِلْمَ لِلْقَائِلِ بِهِ وَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ قَوْله تَعَالَى وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ إذَا أُوذُوا مَرُّوا كِرَامًا صَفَحُوا وَرَوَى أَبُو مَخْزُومٍ عَنْ سنان إذا مروا باللغو مروا كراما قَالَ إذَا مَرُّوا بِالرَّفَثِ كَنَوْا وَقَالَ الْحَسَنُ اللغو كله الْمَعَاصِي قَالَ السُّدِّيُّ هِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي أَنَّهُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وقوله تعالى إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً قِيلَ لَازِمًا مُلِحًّا دَائِمًا وَمِنْهُ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ والحاجة وَإِنَّهُ لَمُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ أَيْ مُلَازِمٌ لَهُنَّ لَا يَصْبِرُ عَنْهُنَّ وَقَالَ الْأَعْشَى:
إنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ يُعْطِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي وقال بشر بن أبى حازم: