تفسير سورة الفرقان

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها سبع وسبعون

سورة الفرقان
مكية إلا الآيات ٦٨ و ٦٩ و ٧٠ فمدنية وآياتها ٧٧ [نزلت بعد يس] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)
البركة: كثرة الخير وزيادته. ومنها (تبارك الله) وفيه معنيان: تزايد خيره، وتكاثر.
أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. والفرقان: مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما وسمى به القرآن لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفروقا، مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال «١». ألا ترى إلى قوله (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) وقد جاء الفرق بمعناه «٢». قال:
ومشركىّ كافر بالفرق
وعن ابن الزبير رضى الله عنه: على عباده، وهم رسول الله ﷺ وأمّته، كما قال (لقد أنزلنا إليكم)، (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا). والضمير في لِيَكُونَ لعبده أو للفرقان.
ويعضد رجوعه إلى الفرقان قراءة ابن الزبير لِلْعالَمِينَ للجنّ والإنس نَذِيراً منذرا أى مخوّفا أو إنذارا، كالنكير بمعنى الإنكار. ومنه قوله تعالى (فكيف كان عذابى ونذر)، الَّذِي لَهُ رفع على الإبدال من الذي نزل أو رفع على المدح. أو نصب عليه. فإن قلت:
(١) قال محمود: «يجوز أن يراد بوصفه بالفرقان تفريقه بين الحق والباطل، ويجوز أن يراد نزوله مفرقا شيئا فشيئا كما قال. وقرآنا فرقناه» قال أحمد: والأظهر هنا هو المعنى الثاني، لأن في أثناء السورة بعد آيات (وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) قال الله تعالى (كذلك) أى أنزلناه مفرقا كذلك (لنثبت به فؤادك) فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة- والله أعلم- كالمقدمة والتوطئة لما يأتى بعد.
(٢) قوله «وقد جاء الفرق بمعناه» في الصحاح: والفرق أيضا: الفرقان. ونظيره: الخسر والخسران. قال الراجز: ومشركي... الخ. (ع)
كيف جاز الفصل بين البدل والمبدل منه؟ قلت: ما فصل بينهما بشيء، لأنّ المبدل منه صلته نزل. و (ليكون) تعليل له، فكأنّ المبدل منه لم يتمّ إلا به. فإن قلت: في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً كأنه قال: وقدّر كل شيء فقدّره؟ قلت: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية، فقدّره وهيأه لما يصلح له، مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوّى الذي تراه، فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابى الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدّرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدّره لأمر مّا ومصلحة مطابقا لما قدر له غير متجاف عنه. أو سمى إحداث الله خلقا لأنه لا يحدث شيئا لحكمته إلا على وجه التقدير من غير تفاوت، فإذا قيل: خلق الله كذا فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدّره في إيجاده لم يوجده متفاوتا. وقيل، فجعل له غاية ومنتهى. ومعناه: فقدّره للبقاء إلى أمد معلوم.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)
الخلق بمعنى الافتعال، كما في قوله تعالى (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا) والمعنى: أنهم آثروا على عبادة الله سبحانه عبادة آلهة لا عجز أبين من عجزهم، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا من أفعال العباد، حيث لا يفتعلون شيئا وهم يفتعلون، لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير وَلا يَمْلِكُونَ أى: لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضرر عنها أو جلب نفع إليها وهم يستطيعون، وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع التي يقدر عليها العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلا الله أعجز.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤)
قَوْمٌ آخَرُونَ قيل: هم اليهود. وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكية الرومي: قال ذلك النضر بن الحرث بن عبد الدار. «جاء» «وأتى» يستعملان في معنى فعل، فيعديان تعديته، وقد يكون على معنى: وردوا ظلما، كما تقول: جئت المكان. ويجوز أن يحذف الجار ويوصل الفعل. وظلمهم: أن جعلوا العربي يتلقن
من العجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب. والزور: أن بهتوه بنسبة ما هو برىّ منه إليه.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥]
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥)
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما سطّره المتقدمون من نحو أحاديث رستم وإسفنديار، جمع: أسطار أو أسطورة كأحدوثة اكْتَتَبَها كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبه:
إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه. وقرئ: أكتتبها. على البناء للمفعول. والمعنى: اكتتبها كاتب له. لأنه كان أمّيا لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب، كقوله (واختار موسى قومه) ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان بارزا منصوبا، وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار (اكتتبها) كما ترى. فإن قلت: كيف قيل: اكتتبها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أراد اكتتابها أو طلبه فهي تملى عليه. أو كتبت له وهو أمىّ فهي تملى عليه: أى تلقى عليه من كتابه يتحفظها: لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. وعن الحسن: أنه قول الله سبحانه يكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار. ووجهه أن يكون نحو قوله:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن أورث ذودا شصائصا نبلا «١»
وحق الحسن أن يقف على الأولين. بُكْرَةً وَأَصِيلًا أى دائما، أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم.
(١)
إن كنت أزننتني بها كذبا جزء فلاقيت بعدها عجلا
أفرح أن أرزأ الكرام وأن أورث ذودا شصائصا نبلا
لحضرمى بن عامر، يخاطب جزء بن سنان بن مؤلة حين اتهمه بسروره بأخذ دية أخيه القتيل، وقيل: لجرير، وليس بذاك. وجزء- بفتح فسكون- وإن هنا للشرط مجردا عن السك، أو بمعنى إذ. وأزننتنى: أى تهمتنى بها:
أى بتلك الفعلة الرذيلة كذبا منك يا جزء، فهو منادى، فلاقيت أنت بعدها عجلا: دعاء عليه بأن ينال مثلها سريعا، وينظر هل يفرح أو يحزن؟ وروى: فلاقيت مثلها عجلا. أفرح، أى: أأفرح بأن أرزأ الكرام وأصاب فيهم، فحذفت همزة الاستفهام الإنكاري أو التعجبي على فرض الوقوع لدلالة المقام عليها، وليصور الكلام بصورة الاخبار والإثبات، فيظهر للخصم قبح دعواه. وأرزأ: مبنى للمجهول، وكذلك أورث، أى: أعطى ذودا: أى قطيعا من الإبل بعد موتهم. والذود: ما بين الثلاثة إلى العشرة، مؤنث لا واحد له من لفظه، عبر به عن الدية كلها استقلالا وتحقيرا لها. ولذلك وصفه بشصائصا: جمع شصوص، وهي النافة القليلة اللبن. وصرفه للوزن. والنبل- كسبب-: جمع نبيل. ويروى بالضم، فهو جمع نبيل أيضا، ككرم وكريم. أو جمع نبلة، كغرف وغرفة:
أي الصغار؟؟؟ أو النجائب فهو من الأضداد، لكن الأول أوفق بالمقام. ويجوز أن الدية كانت عشرة.

[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦]

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
أى يعلم كل سرّ خفىّ في السموات والأرض. ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله ﷺ مع علمكم أنّ ما تقولونه باطل وزور، وكذلك باطن أمر رسول الله ﷺ وبراءته مما تبهتونه به، وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه. فإن قلت:
كيف طابق قوله إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً هذا المعنى؟ قلت: لما كان ما تقدّمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة. أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صبّا، ولكن صرف ذلك عنهم إنه غفور رحيم: يمهل ولا يعاجل.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧ الى ٨]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨)
وقعت اللام في المصحف مفصولة عن هذا خارجة عن أوضاع الخط العربي. وخط المصحف سنة لا تغير. وفي هذا استهانة وتصغير لشأنه وتسميته بالرسول سخرية منهم وطنز «١»، كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسول. ونحوه قول فرعون (إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) أى: إنّ صحّ أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل، ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش. ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى. اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف. ثم نزلوا أيضا فقالوا: وإن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق كما الدهاقين والمياسير. أو يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم. وأراد بالظالمين: إياهم بأعيانهم: وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا. وقرئ: فيكون، بالرفع. أو يكون له جنة، بالياء، ونأكل، بالنون. فإن قلت: ما وجها الرفع والنصب في فيكون؟ قلت: النصب لأنه جواب «لولا» بمعنى «هلا» وحكمه حكم الاستفهام. والرفع على أنه معطوف على أنزل، ومحله الرفع. ألا تراك
(١) قوله «وطنز» في الصحاح «الطنز» : السخرية. (ع) [.....]
تقول: لولا ينزل بالرفع، وقد عطف عليه: يلقى، وتكون مرفوعين، ولا يجوز النصب فيهما لأنهما في حكم الواقع بعد لولا، ولا يكون إلا مرفوعا. والقائلون هم كفار قريش النضر بن الحرث، وعبد الله بن أبى أمية، ونوفل بن خويلد ومن ضامهم مَسْحُوراً سحر فغلب على عقله. أو ذا سحر، وهو الرئة: عنوا أنه بشر لا ملك.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٩]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩)
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أى: قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من نبوّة مشتركة بين إنسان وملك. وإلقاء كنز عليك من السماء وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالا، لا يجدون قولا يستقرّون عليه. أو فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ١٠]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
تكاثر خير الَّذِي إِنْ شاءَ وهب لك في الدنيا خَيْراً مما قالوا، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. وقرئ: ويجعل، بالرفع عطفا على جعل: لأن الشرط إذا وقع ماضيا، جاز في جزائه الجزم والرفع، كقوله:
وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب مالى ولا حرم «١»
ويجوز في (ويجعل لك) إذا أدغمت: أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع جميعا. وقرئ بالنصب، على أنه جواب الشرط بالواو.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١١ الى ١٤]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
بَلْ كَذَّبُوا عطف على ما حكى عنهم. يقول: بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم
(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٥٣٧ فراجعه إن شئت اه مصححه.
بالساعة. ويجوز أن يتصل بما يليه، كأنه قال: بل كذبوا بالساعة، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة. السعير:
النار الشديدة الاستعار. وعن الحسن رضى الله عنه: أنه اسم من أسماء جهنم رَأَتْهُمْ من قولهم: دورهم تترا «١»، أى: وتتناظر. ومن قوله ﷺ «لا تراءى ناراهما» «٢» كأن بعضها يرى بعضها على سبيل المجاز. والمعنى: إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها. وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. ويجوز أن يراد: إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السماوات والأرض. وجاء في الأحاديث: أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا، ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا، كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما في تفسيره أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل:
قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع. وقيل: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. والثبور: الهلاك. ودعاؤه أن يقال: وا ثبوراه، أى: تعال يا ثبور فهذا حينك وزمانك لا تَدْعُوا أى يقال لهم ذلك: أو هم أحقاء بأن يقال لهم، وإن لم يكن ثمة قول ومعنى وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته. أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
الراجع إلى الموصولين محذوف، يعنى: وعدها المتقون وما يشاءونه. وإنما قيل: كانت، لأن ما وعده الله وحده فهو في تحققه كأنه قد كان. أو كان مكتوبا في اللوح قبل أن برأهم بأزمنة
(١). قال محمود: «هو من قولهم: دور بنى فلان تترا، أى على المجاز» قال أحمد: لا حاجة إلى حمله على المجاز فان رؤية جهنم جائزة، وقدرة الله تعالى صالحة، وقد تظافرت الظواهر على وقوع هذا الجائز، وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا حسيا وعقليا. ألا ترى إلى قوله سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وإلى محاجتها مع الجنة، وإلى قولها هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وإلى اشتكائها إلى ربها فأذن لها في نفسين، إلى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل إلى تأويلها، إذ لا محوج إليه. ولو فتح باب التأويل والمجاز في أحوال المعاد، لتطوح الذي يسلك ذلك إلى وادى الضلالة والتحير إلى فرق الفلاسفة، فالحق أنا متعبدون بالظاهر ما لم يمنع مانع، والله أعلم.
(٢). تقدم في المائدة.
متطاولة: أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم. فإن قلت: ما معنى قوله كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً؟
قلت: هو كقوله: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً فمدح الثواب ومكانه، كما قال: بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً فذم العقاب ومكانه لأنّ النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وأن لا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع «١» وضيقه وظلمته وجمعه لأسباب الاجتواء والكراهة، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء. والضمير في كانَ لما يشاءون. والوعد: الموعود، أى: كان ذلك موعودا واجبا على ربك إنجازه، حقيقا أن يسئل ويطلب، لأنه جزاء وأجر مستحق وقيل: قد سأله الناس والملائكة في دعواتهم:
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨)
يحشرهم. فيقول. كلاهما بالنون والياء، وقرئ: يحشرهم، بكسر الشين وَما يَعْبُدُونَ يريد: المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام ينطقها الله. ويجوز أن يكون عاما لهم جميعا. فإن قلت: كيف صحّ استعمال ما في العقلاء؟ قلت: هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم، بدليل قولك- إذا رأيت شبحا من بعيد-: ما هو؟ فإذا قيل لك: إنسان، قلت حينئذ: من هو؟ ويدلك قولهم «من» لما يعقل. أو أريد به الوصف، كأنه قيل: ومعبوديهم.
ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعنى: أطويل أم قصير؟ أفقيه أم طبيب؟ فإن قلت: ما فائدة أنتم وهم؟ وهلا قيل أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم «٢» ضلوا السبيل؟
قلت. ليس السؤال عن الفعل ووجوده، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه، فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام، حتى يعلم أنه المسئول عنه. فإن قلت:
فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه، فما فائدة هذا السؤال؟ قلت: فائدته أن يجيبوا بما
(١). قوله «بغثاثة الموضع» أى فساده ورداءته. والاجتواء: كراهة المقام بالمكان. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «أم هم ضلوا» لعله أم ضلوا، كعبارة النسفي. (ع)
268
أجابوا به، حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا «١» وينخذلوا وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك نوعا مما يلحقهم من غضب الله وعذابه، ويغتبط المؤمنون ويفرحوا بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين. وفيه كسر بين لقول من يزعم «٢» أن الله يضل عباده على الحقيقة «٣»، حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين، ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون
(١). قوله «فيبهتوا» يدهشوا. أو يتحيروا. أفاده الصحاح (ع)
(٢). قوله «لقول من يزعم أن الله... الخ» يريد أهل السنة القائلين: إضلال الله لعباده خلق الضلال في قلوبهم، خلافا للمعتزلة القائلين: أنه تعالى لا يخلق الشر ولا يريده. (ع)
(٣). قال محمود: «في هذه الآية كسر بين لمن يزعم أن الله تعالى يضل عباده حقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون منهم ويستعيذون مما نسب إليهم، ويقولون: بل تفضلك على هؤلاء أوجب أن جعلوا عرض الشكر كفرا، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من ذلك. فهم لله أشد تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حيث أضافوا التفضل بالنعمة إلى الله تعالى، وأسندوا الضلال الذي نشأ عنه إلى الضالين، فهو شرح للاسناد المجازى في قوله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ولو كان مضلا حقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم» قال أحمد: قد تقدم شرح عقيدة أهل الحق في هذا المعنى، وأن الباعث لهم على اعتقاد كون الضلال من خلق الله تعالى: التزامهم للتوحيد المحض والايمان الصرف، الذي دل على صحته بعد الأدلة العقلية قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ والضلال شيء، فوجب كونه خالقه: هذا من حيث العموم. وأما من حيث الخصوص، فأمثال قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، والأصل الحقيقة، وقول موسى عليه السلام إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ فلو كان الإضلال مستحيلا على الله تعالى لما جاز أن يخاطبه الكليم بما لا يجوز، فإذا أوضح ذلك فالملائكة لم يسئلوا في هذه الاية عن المضل لعبادهم حقيقة، فيقال لهم:
من أضل هؤلاء، وإنما قيل لهم: أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا؟ فليس الجواب المطابق العتيد أن يقولوا: أنت أضللتهم. ولو كان معتقدهم أن الله تعالى هو المضل حقيقة، لكان قولهم في جواب هذا السؤال: بل أنت أضللتهم مجاوزة لمحل السؤال ومحله، وإنما كان هذا الجواب مطابقا لو قيل لهم: من أضل عبادي هؤلاء؟ فقد وضح أن هذا السؤال لإيجاب عنه بما تخيله الزمخشري، بتقدير أن يكون معتقدهم أن الله تعالى هو الذي أضلهم، وأن عدو لهم عنه ليس لأنهم لا يعتقدونه، ولكن لأنه لا يطابق، وبقي وراء ذلك نظر في أن جوابهم هذا يدل على معتقدهم الموافق لأهل الحق، لأن أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى وإن خلق لهم الضلالة إلا أن لهم اختيارا فيها وتميزا لها، ولم يكونوا عليها مقسورين كما هم مقسورون على أفعال كثيرة يخلقها الله فيهم كالحركات الرعشية ونحوها. وقد قدمنا في مواضع: أن كل فعل اختيارى له نسبتان: إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى الله تعالى، وإن نظر إلى كونه اختياريا للعبد فهو منسوب إلى العبد. وبذلك قطعت الملائكة في قولهم: بل متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر، فنسبوا نسيان الذكر إليهم، أى: الانهماك في الشهوات الذي نشأ عنه النسيان، لأنهم اختاروه لأنفسهم، فصدقت نسبته إليهم، ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهما كهم في الشهوات إلى الله تعالى: وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم، فيها ضلوا، فلا تنافى بين معتقد أهل الحق وبين مضمون قول الملائكة حينئذ. بل هما متواطئان على أمر واحد، والله أعلم.
269
سبب الشكر، سبب الكفر ونسيان الذكر، وكان ذلك سبب هلاكهم، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه، فهم لربهم الغنىّ العدل أشدّ تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها، وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة. فشرحوا الإضلال المجازى الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم. والمعنى: أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق؟ أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وضل: مطاوع «أضله» وكان القياس: ضل عن السبيل، إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق. والأصل: إلى الطريق، وللطريق. وقولهم: أضلّ البعير، في معنى: جعله ضالا، أى: ضائعا، لما كان أكثر ذلك بتفريط من صاحبه وقلة احتياط في حفظه، قيل: أضله، سواء كان منه فعل أو لم يكن سُبْحانَكَ تعجب منهم، قد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه.
أو نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدّسون الموسومون بذلك، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده. أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، وأن يكون له نبىّ أو ملك أو غيرهما ندّا، ثم قالوا: ما كان يصحّ لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحدا دونك. فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال الله تعالى فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ يريد الكفرة وقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ وقرأ أبو جعفر المدني: نتخذ، على البناء للمفعول. وهذا الفعل أعنى «اتخذ» يتعدى إلى مفعول واحد، كقولك: اتخذ وليا، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانا وليا. قال الله تعالى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ وقال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا فالقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو مِنْ أَوْلِياءَ والأصل: أن نتخذ أولياء، فزيدت مِنْ لتأكيد معنى النفي، والثانية من المتعدي إلى مفعولين. فالأول ما بنى له الفعل. والثاني: مِنْ أَوْلِياءَ. ومن للتبعيض، أى: لا نتخذ بعض أولياء. وتنكير أَوْلِياءَ من حيث أنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام والذكر: ذكر الله والإيمان به. أو القرآن والشرائع. والبور: الهلاك، يوصف به الواحد والجمع. ويجوز أن يكون جمع بائر، كعائذ وعوذ.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ١٩]
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
هذه المفاجأة «١» بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول ونحوها قوله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وقول القائل:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثمّ القفول فقد جئنا خراسانا «٢»
وقرئ: يقولون، بالتاء والياء. فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم أنهم آلهة. ومعنى من قرأ بالياء: فقد كذبوكم بقولهم سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ:
فإن قلت: هل يختلف حكم الباء مع التاء والياء؟ قلت إي والله، هي مع التاء كقوله بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ والجار والمجرور بدل من الضمير، كأنه قيل: فقد كذبوا بما تقولون: وهي مع الياء كقولك: كتبت بالقلم. وقرئ: يستطيعون، بالتاء والياء أيضا. يعنى. فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف: التوبة وقيل: الحيلة، من قولهم: إنه ليتصرف، أى. يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب. أو أن يحتالوا لكم.
الخطاب على العموم للمكلفين. والعذاب الكبير لا حق بكل من ظلم، والكافر ظالم، لقوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والفاسق ظالم. لقوله وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وقرئ:
يذقه، بالياء. وفيه ضمير الله. أو ضمير مصدر يظلم.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)
الجملة بعد «إلا» صفة لموصوف محذوف. والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور. أعنى من المرسلين ونحوه قوله عز من قائل: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ على معنى: وما منا أحد. وقرئ:
ويمشون، على البناء للمفعول، أى: تمشيهم حوائجهم أو الناس. ولو قرئ: يمشون، لكان أوجه لولا الرواية. وقيل: هو احتجاج على من قال مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ.
(١). قوله «هذه المفاجأة» أى: التي في قوله تعالى فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ. (ع)
(٢). يقول: قالوا إن هذه البلدة أبعد ما يراد بنا وغاية السفر بنا، ثم يكون القفول أى الرجوع. ويجوز أنه عطف على خراسان. وقوله «فقد جئنا» مرتب على محذوف، أى: إن صدقوا في قولهم فقد جئنا خراسان، فلم لم نتخلص من السفر. ويجوز أنه عدل إلى الخطاب، أى: فقولوا لهم اقطعوا السفر بنا وارجعوا. فقد جئنا الموعد، لكن ليس ذلك التفاتا.
فِتْنَةً أى محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله ﷺ على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل، يقول: وجرت عادتى وموجب حكمتى على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى: أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم العداوة، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل، ونحوه وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وموقع أَتَصْبِرُونَ بعد ذكر الفتنة موقع أَيُّكُمْ بعد الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. بَصِيراً عالما بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقنّ صدرك، ولا يستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية له عما عيروه به من الفقر، حين قالوا:
أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة. وأنه جعل الأغنياء فتنه للفقراء لينظر: هل يصبرون؟ وأنها حكمته ومشيئته: يغنى من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلناك فتنة لهم، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيرا ليكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوى. وقيل: كان أبو جهل والوليدين المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢١]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)
أى لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة. أو لا يخافون لقاءنا بالشر. والرجاء في لغة تهامة:
الخوف، وبه فسر قوله تعالى لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقيا. اقترحوا من الآيات أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بأن محمدا صادق حتى يصدقوه. أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه. ولا يخلو: إما أن يكونوا عالمين بأن الله لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء، وأن الله لا يصح أن يرى «١». وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون. وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم، كما فعل قوم موسى حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فإن قلت: ما معنى فِي أَنْفُسِهِمْ؟ قلت: معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد
(١). قوله «لا يصح أن يرى، هذا مذهب المعتزلة، وعند أهل السنة: يصح أن يرى. (ع)
في قلوبهم واعتقدوه. كما قال إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ. وَعَتَوْا وتجاوزوا الحدّ في الظلم. يقال: عتا علينا فلان. وقد وصف العتوّ بالكبير، فبالغ في إفراطه يعنى أنهم لم يخسروا على هذا القول العظيم، إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العنوّ، واللام جواب قسم محذوف. وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية. وفي أسلوبها قول القائل:
وجارة جسّاس أبأنا بنابها كليبا غلت ناب كليب بواؤها «١»
وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب. ألا ترى أن المعنى: ما أشدّ استكبارهم، وما أكبر عتوّهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٢]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)
يَوْمَ يَرَوْنَ منصوب بأحد شيئين: إما بما دل عليه لا بُشْرى أى: يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. ويومئذ للتكرير. وإما بإضمار «اذكر» أى: اذكر يوم يرون الملائكة ثم قال لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ. وقوله «للمجرمين» إما ظاهر في موضع ضمير، وإما لأنه عام، فقد تناولهم بعمومه حِجْراً مَحْجُوراً ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو: معاذ الله، «٢» وقعدك الله، وعمرك الله. وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة، أو نحو ذلك: يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا،
(١). لرجل من بنى بكر: قبيلة جساس، يفتخر على بنى تغلب: قبيلة كليب بن ربيعة أخى مهلهل وخال امرئ القيس. وجارة جساس: هي خالته البسوس. أبأنا- بالهمز-: أى قابلنا وساوينا كليبا، بنابها: أى بناقتها المسنة، فقتلناه فيها، ثم قال تعجبا واستعظاما: غلت، أى: ارتفعت وعظمت ناقة مسنة مهزولة بواؤها كليب المشهور.
وبواء كسواء وزنا ومعنى، أى: كفؤها ومساويها كليب بن ربيعة الشجاع المعروف. ومن خبرها أن البسوس أتت مع رجل من جرم تزور أختها هيلة أم جساس بن مرة فخرجت ناقة الجرمي ترعى مع إبل بنى بكر في أرض تغلب لما كان بينهما من المصاهرة والمودة، فأنكر كليب الناقة وظنها أجنبية، فرماها بسهم فأصاب ضرعها فرجعت تشخب دما، وبركت بفناء جساس، فرأتها البسوس فصاحت: واذلاه، واغربتاه! فقال جساس: اهدئى، والله لأعقرن فيها فحلا هو أعز على أهله منها، فظن كليب أنه يعنى فحلا عنده اسمه عليان، فقال: دون عليان خرط القتاد، لكن جساسا كان يعنى نفس كليب، فترقبه يوما ورماه برمحه فصرعه، وتبعه عمرو بن الحرث، فلما رآه كليب قال له:
اسقني يا عمرو. فقال: تركت الماء وراءك وأجهز عليه، فضرب به المثل المشهور:
المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
واشتعلت الحرب بين بكر وتغلب نحو ثلاثين سنة، وضرب المثل السائر: سد كليب في الناقة.
(٢). قوله «وقعدك الله» في الصحاح: وقولهم: قعيدك لا آتيك، وقعيدك الله لا آتيك، وقعدك الله لا آتيك:
يمين العرب، وهي مصادر استعملت منصوبة بفعل مضمر. والمعنى: بصاحبك الذي هو صاحب كل نجوى، كما يقال: نشدتك الله. (ع)
فيقول: حجرا، وهي من حجره إذا منعه، لأنّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا. ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن، تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد، كما كان قعدك وعمرك كذلك، وأنشدت لبعض الرّجاز:
قالت وفيها حيدة وذعر عوذ بربىّ منكم وحجر «١»
فإن قلت: فإذ قد ثبت أنه من باب المصادر، فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت:
جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا. ذيل ذائل، والذيل: الهوان. وموت مائت. والمعنى في الآية: أنهم يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم، لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدوّ الموتور «٢» وشدة النازلة. وقيل: هو من قول الملائكة ومعناه: حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى، أى: جعل الله ذلك حراما عليكم.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٣]
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)
ليس هاهنا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقرى ضيف، ومنّ على أسير، وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها أثرا ولا عثيرا «٣» والهباء: ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وفي أمثالهم: أقل من الهباء مَنْثُوراً صفة للهباء، شبهه بالهباء في قلته وحقارته عنده، وأنه لا ينتفع به، ثم بالمنثور منه، لأنك تراه منتظما مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب. ونحوه قوله كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لم يكف أن شبههم بالعصف حتى جعله مؤوفا بالأكال «٤» ولا أن شبه عملهم بالهباء حتى جعله متناثرا.
أو مفعول ثالث لجعلناه أى فجعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر، كقوله كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أى جامعين للمسح والخسء. ولام الهباء واو، بدليل الهبوة.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٤]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
(١). الحيدة: الصدود، وذعره ذعرا: فزعه. والذعر- بالضم-: اسم مصدر، وكذلك العوذ بمعنى التعوذ والالتجاء، وكذلك الحجر بمعنى الامتناع والتحصن، والمبتدأ محذوف، أى: قالت أمرى تعوذ منكم وتحصن بربي، والحال أنها صادة فزعة، وهذا يقال على لسانهم عند لقاء المكروه. [.....]
(٢). قوله «الموتور» في الصحاح: الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. (ع)
(٣). قوله «لم يترك لها أثرا ولا عثيرا» في الصحاح «العثير» بتسكين الثاء: الغبار. (ع)
(٤). قوله «بالأكال» هو بالضم: الحكة. (ع)
المستقرّ: المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرّين يتجالسون ويتحادثون.
والمقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهنّ وملامستهنّ، كما أنّ المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب. وروى أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وفي معناه قوله تعالى إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ قيل في تفسير الشغل: افتضاض الأبكار، ولا نوم في الجنة. وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه. وفي لفظ الأحسن: رمز إلى ما يتزين به مقيلهم. من حسن الوجوه وملاحة الصور، إلى غير ذلك من التحاسين والزين.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٥]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥)
وقرئ تَشَقَّقُ والأصل: تتشقق، فحذف بعضهم التاء، وغيره أدغمها. ولما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها، جعل الغمام كأنه الذي تشقق به السماء، كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها. ونظيره قوله تعالى السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ. فإن قلت: أى فرق بين قولك: انشقت الأرض بالنبات، وانشقت عن النبات؟ قلت: معنى انشقت به: أنّ الله شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى انشقت عنه: أنّ التربة ارتفعت عنه عند طلوعه. والمعنى: أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. وروى تنشق سماء سماء، وتنزل الملائكة إلى الأرض. وقيل: هو غمام أبيض رقيق، مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل في تيههم. وفي معناه قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ. وقرئ: وننزل الملائكة، وتنزل الملائكة، ونزل الملائكة، ونزلت الملائكة، وأنزل الملائكة، ونزل الملائكة، ونزل الملائكة: على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل: قراءة أهل مكة.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٦]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
الحق: الثابت: لأنّ كل ملك يزول يومئذ ويبطل، ولا يبقى إلا ملكه.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
275
عض اليدين والأنامل، والسقوط في اليد، وأكل البنان، وحرق الأسنان والأرم «١»، وقرعها: كنايات عن الغيظ والحسرة، لأنها من روادفها، فيذكر الرادفة ويدل بها على المردوف، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنى عنه. وقيل: نزلت في عقبة بن أبى معيط بن أمية بن عبد شمس، وكان يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل اتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل وكان أبى بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامى وهو في بيتي، فاستحييت منه فشهدت له والشهادة ليست في نفسي، فقال: وجهى من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فقتل يوم بدر: أمر عليا رضى الله عنه بقتله. وقيل: قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصارى وقال: يا محمد، إلى من السبية «٢» قال: إلى النار. وطعن رسول الله ﷺ أبيا بأحد، فرجع إلى مكة فمات «٣». واللام في الظَّالِمُ يجوز أن تكون للعهد، يراد به عقبة خاصة. ويجوز أن تكون للجنس فيتناول عقبة وغيره. تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم يتشعب به طرق الضلالة والهوى. أو أراد أنى كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط، فليتني حصلت بنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وقرئ: يا ويلتى بالياء، وهو الأصل، لأن الرجل ينادى ويلته وهي هلكته، يقول لها: تعالى فهذا أوانك. وإنما قلبت الياء ألفا كما في: صحارى، ومدارى. فلان: كناية عن الأعلام، كما أن الهن كناية عن الأجناس فإن أريد بالظالم عقبة، فالمعنى: ليتني لم أتخذ أبيا خليلا، فكنى عن اسمه. وإن أريد به الجنس،
(١). قوله «وحرق الأسنان والأرم» في الصحاح: حرقت الشيء حرقا: بروته وحككت بعضه ببعض. ومنه قولهم: حرقت نابه، أى سحقه حتى سمع له صريف. وفلان يحرق عليك الأرم غيظا. وفيه أيضا: أرم على الشيء أى: عض عليه وأرمه أيضا، أى: أكله، والأرم: الأضراس، كأنه جمع آرم، يقال: فلان يحرق عليك الأرم، إذا تغيظ فحك أضراسه بعضها ببعض. (ع)
(٢). قوله «وقال يا محمد إلى من السبية» في الصحاح «السبية» : المرأة تسبى. (ع)
(٣). أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس فذكره مطولا لكن إلى قوله «فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا. ولم يقتل من الأسارى يوم بدر غيره. قتله ثابت بن أبى الأفلح» وروى الطبري من طريق مجاهد في قوله تعالى. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قال «دعا عقبة بن أبى معيط النبي ﷺ إلى طعام صنعه إلى قوله فشهدت له، والشهادة ليست في نفسي» ومن طريق مقسم نحوه، مختصرا قال فقتل عقبة يوم بدر صبرا» وأما أبى بن خلف فقتله النبي ﷺ بيده يوم أحد في القتال وهما اللذان أنزل الله تعالى فيهما وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ وذكره الثعلبي ثم الواحدي من غير سند.
276
فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم لا محالة، فجعله كناية عنه عَنِ الذِّكْرِ عن ذكر الله، أو القرآن، أو موعظة الرسول. ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق، وعزمه على الإسلام. والشيطان: إشارة إلى خليله، سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو أراد إبليس، وأنه هو الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول، ثم خذله. أو أراد الجنس، وكل من تشيطن من الجنّ والإنس. ويحتمل أن يكون وَكانَ الشَّيْطانُ حكاية كلام الظالم، وأن يكون كلام الله. اتخذت: يقرأ على الإدغام والإظهار، والإدغام أكثر.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣٠]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠)
الرسول: محمد ﷺ وقومه قريش، حكى الله عنه شكواه قومه إليه. وفي هذه الحكاية تعظيم للشكاية وتخويف لقومه لأن الأنبياء كانوا إذا التجئوا إليه وشكوا إليه قومهم: حلّ بهم العذاب ولم ينظروا.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣١]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
ثم أقبل عليه مسليا ومواسيا وواعدا النصرة عليهم، فقال وَكَذلِكَ كان كل نبىّ قبلك مبتلى بعداوة قومه، وكفاك بى هاديا إلى طريق قهرهم والانتصار منهم، وناصرا لك عليهم.
مهجورا: تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين، عبدك هذا اتخذني مهجورا، اقض بيني وبينه «١». وقيل: هو من هجر، إذا هذى، أى: جعلوه مهجورا فيه، فحذف الجار وهو على وجهين، أحدهما: زعمهم أنه هذيان وباطل وأساطير الأوّلين. والثاني: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، كقوله تعالى لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر، كالمجلود والمعقول. والمعنى: اتخذوه هجرا.
والعدوّ: يجوز أن يكون واحدا وجمعا. كقوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وقيل المعنى: وقال الرسول يوم القيامة.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
(١). أخرجه الثعلبي من طريق أبى هدية عن أنس وأبو هدية كذاب.
277
نُزِّلَ هاهنا بمعنى أنزل لا غير، كخبر بمعنى أخبر، وإلا كان متدفعا. وهذا أيضا من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه. قالوا: هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة، وماله أنزل على التفاريق. والقائلون:
قريش. وقيل: اليهود. وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته، لأنّ أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقا. وقوله كَذلِكَ جواب لهم، أى:
كذلك أنزل مفرّقا. والحكمة فيه: أن نقوّى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه، لأنّ المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء، وجزأ عقيب جزء. ولو ألقى عليه جملة واحدة لبعل به وتعيا «١» بحفظه، والرسول ﷺ فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام، حيث كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بدّ من التلقن والتحفظ، فأنزل عليه منجما في عشرين سنة. وقيل: في ثلاث وعشرين. وأيضا: فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين، ولأنّ بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرّقا. فإن قلت: ذلك في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدّمه، والذي تقدّم هو إنزاله جملة واحدة، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرّقا؟ قلت: لأنّ قولهم:
لولا أنزل عليه جملة: معناه: لم أنزل مفرّقا؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض: أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة، ثم قالوا: هلا نزل جملة واحدة، كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته وَرَتَّلْناهُ معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك، كأنه قال: كذلك فرقناه ورتلناه. ومعنى ترتيله: أن قدره آية بعد آية، ووقفة عقيب وقفة. ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أى اقرأه بترسل وتثبت. ومنه حديث عائشة رضى الله عنها في صفة قراءته ﷺ «لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه يعدّها» «٢» وأصله: الترتيل في الأسنان:
(١). قوله «لبعل به وتعيا بحفظه» في الصحاح: بعل الرجل- بالكسر-: أى دهش: وفيه أيضا: عييت بأمرى، إذا لم تهتد لوجهه. وأعيا عليه الأمر وتعيا وتعايا، بمعنى اه فتدبر. (ع)
(٢). أخرجه البخاري. من رواية عروة. قال «جلس أبو هريرة رضى الله عنه إلى حجرة عائشة رضى الله عنها فقال إن النبي ﷺ إنما كان يحدث الحديث لوعده العاد لأحصاه» ولمسلم «لم يكن يسرد الحديث كسردكم» وزاد الترمذي والنسائي ولكن كان يتكلم بكلام فصل يحفظه من جلس اليه» وسيأتى في المزمل.
278
وهو تفليجها. يقال: ثغر رتل ومرتل، ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. وقيل: هو أن نزله مع كونه متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة، ولم يفرقه في مدة متقاربة وَلا يَأْتُونَكَ بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة- كأنه مثل في البطلان- إلا أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى، ومؤدّى من سؤالهم. ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام، وضع موضع معناه فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل: معناه كذا وكذا. أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون: هلا كانت هذه صفتك وحالك، نحو: أن يقرن بك ملك ينذر معك، أو يلقى إليك كنز، أو تكون لك جنة، أو ينزل عليك القرآن جملة، إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه، وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته، يعنى: أن تنزيله مفرقا وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما تزل شيء منها: أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة ويقال لهم جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه، كأنه قيل لهم: إن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضللون سبيله وتحتقرون مكانه ومنزلته. ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم، لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. وفي طريقته قوله هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ... الآية ويجوز أن يراد بالمكان: الشرف والمنزلة، وأن يراد الدار والمسكن، كقوله أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازى وعن النبي صلى الله عليه وسلم: يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب وثلث على وجوههم، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا «١».
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)
(١). أخرجه البيهقي من طريق مسدد عن بشر بن المفضل عن على بن زيد عن أوس بن أبى أوس. عن أبى هريرة مرفوعا بهذا. وأصله في الترمذي والبزار وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة من هذا الوجه لكن قال عن أوس ابن خالد وعند الحاكم من رواية أبى الطفيل عن حذيفة بن أسيد عن أبى ذر حدثني الصادق المصدوق «أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج. فوجا طاعمين لا بسين راكبين. وفوجا يمشون ويسعون. وفوجا تسحيهم الملائكة على وجوههم إلى النار» وفي الترمذي والنسائي من رواية معاوية بن جبلة حدثنا يهز بن حكيم رفعه «إنكم محشورون إلى الله ركبانا ورجالا وتمرون على وجوهكم».
الوزارة: لا تنافى النبوّة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. والمعنى: فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم، كقوله اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ أى فضرب فانفلق. أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أوّلها وآخرها، لأنهما المقصود من القصة بطولها أعنى: إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم. وعن علىّ رضى الله عنه فدمّرتهم. وعنه: فدمّراهم. وقرئ فدمّرانّهم، على التأكيد بالنون الثقيلة.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣٧]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧)
كأنهم كذبوا نوحا ومن قبله من الرسل صريحا. أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيب للجميع أو لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة وَجَعَلْناهُمْ وجعلنا إغراقهم أو قصتهم لِلظَّالِمِينَ إمّا أن يعنى بهم قوم نوح، وأصله: وأعتدنا لهم، إلا أنه قصد تظليمهم فأظهر. وإمّا أن يتناولهم بعمومه.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
عطف عادا على «هم» في جعلناهم أو على الظالمين، لأنّ المعنى: ووعدنا الظالمين. وقرئ:
وثمود، على تأويله القبلة. وأما المنصرف فعلى تأويل الحىّ أو لأنه اسم الأب الأكبر. قيل في أصحاب الرس: كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام. فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه. فبيناهم حول الرس وهو البئر غير المطوية. عن أبى عبيدة: انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل: الرس قرية بفلج اليمامة، قتلوا نبيهم فهلكوا، وهم بقية ثمود قوم صالح. وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان، كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير، سميت لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح، وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم، إن أعوزها الصيد. فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا: وقيل: هم أصحاب الأخدود، والرس: هو الأخدود.
وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار. وقيل: كذبوا نبيهم ورسوه في بئر، أى: دسوه فيها بَيْنَ ذلِكَ أى بين ذلك المذكور، وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك، ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت على معنى: فذلك المحسوب أو المعدود ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بينا له القصص العجيبة من قصص الأوّلين، ووصفنا لهم ما أجروا
إليه من تكذيب الأنبياء وجرى عليهم من عذاب الله وتدميره. والتتبير: التفتيت والتكسير.
ومنه: التبر، وهو كسار الذهب والفضة والزجاج. وكُلًّا الأوّل منصوب بما دل عليه ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وهو: أنذرنا. أو: حذرنا. والثاني بتبرنا، لأنه فارغ له.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٠]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
أراد بالقرية «سدوم» من قرى قوم لوط، وكانت خمسا: أهلك الله تعالى أربعا بأهلها وبقيت واحدة. ومطر السوء: الحجارة، يعنى أن قريشا مرّوا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء أَفَلَمْ يَكُونُوا في مرار مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ويذكرون بَلْ كانُوا قوما كفرة بالبعث لا يتوقعون نُشُوراً وعاقبة، فوضع الرجاء موضع التوقع، لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن فمن ثم لم ينظروا ولم يذكروا، ومرّوا بها كما مرّت ركابهم. أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو لا يخافون، على اللغة التهامية.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢)
إِنْ الأولى نافية، والثانية مخففة من الثقيلة. واللام هي الفارقة بينهما. واتخذه هزوا:
في معنى استهزأ به، والأصل: اتخذه موضع هزؤ، أو مهزوءا به أَهذَا محكي بعد القول المضمر.
وهذا استصغار، وبَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وإخراجه في معرض التسليم والإقرار، وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزءوا لقالوا: أهذا الذي زعم أو ادّعى أنه مبعوث من عند الله رسولا. وقولهم إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا دليل على فرط مجاهدة رسول الله ﷺ في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم، ولَوْلا في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى- لا من حيث الصنعة- مجرى التقييد للحكم المطلق وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدّة الإمهال، ولا بدّ للوعيد أن يلحقهم فلا يغرّنهم التأخير. وقوله مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا كالجواب
عن قولهم إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا لأنه نسبة لرسول الله ﷺ إلى الضلال من حيث لا يضلّ غيره إلا من هو ضال في نفسه. ويروى أنه من قول أبى جهل لعنه الله.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٣]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣)
من كان في طاعة الهوى في دينه يتبعه في كل ما يأتى ويذر لا يتبصر دليلا ولا يصغى إلى برهان. فهو عابد هواه وجاعله إلهه، فيقول لرسوله هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام وتقول لا بدّ أن تسلم شئت أو أبيت- ولا إكراه في الدين؟ وهذا كقوله وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ويروى أنّ الرجل منهم كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر. ومنهم الحرث بن قيس السهمي.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٤]
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
أم هذه منقطعة، معناه، بل أتحسب كأن هذه المذمة أشدّ من التي تقدّمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا ولا إلى تدبره عقلا، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلال، ثم أرجح ضلالة منها. فإن قلت لم أخر هواه والأصل قولك: اتخذ الهوى إلها؟ قلت: ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأوّل للعناية، كما تقول: علمت منطلقا زيدا: لفضل عنايتك بالمنطلق «١». فإن قلت: ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت: كان فيهم من لم يصدّه عن الإسلام إلا داء واحد: وهو حب الرياسة، وكفى به داء عضالا. فإن قلت: كيف جعلوا أضل من الإنعام؟ قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها «وتهتدى لمراعيها ومشاربها. وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوّهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشدّ المضارّ والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنىّ والعذب الروى.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦)
(١). قال محمود: «إن قلت لم قدم إلهه وهو المفعول الثاني، وأجاب بأنه قدم عناية به كقولك ظننت منطلقا زيدا إذا كانت عنايتك بالمنطلق» قال أحمد: وفيه نكتة حسنة وهي إفادة الحصر، فان الكلام قبل دخول أرأيت مبتدأ وخبر: المبتدأ هواه، والخبر إلهه. وتقديم الخبز كما علمت يفيد الحصر، فكأنه قال: أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه، والله أعلم.
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ ألم ننظر إلى صنع ربك وقدرته، ومعنى مدّ الظل: أن جعله يمتدّ وينبسط فينتفع به الناس وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أى لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجرة، غير منبسط فلم ينتفع به أحد: سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا. ومعنى كون الشمس دليلا: أنّ الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتا في مكان زائلا «١» ومتسعا ومتقلصا، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إليه: أنه ينسخه بضح الشمس «٢» يَسِيراً أى على مهل. وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا. فإن قلت: ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة: كان الثاني أعظم من الأوّل، والثالث أعظم منهما، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر: وهو أنه مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة، ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب «٣» لعدم النير، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرّا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل، أى: سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق، فهو يزيد بها وينقص، ويمتدّ ويتقلص، ثم نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير. ويحتمل أن يريد: قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تبقى الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، وقوله: قبضناه إلينا: يدل عليه، وكذلك قوله يسيرا، كما قال ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)
شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. والسبات: الموت. والمسبوت: الميت، لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟
قلت: النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق «٤». وهذه الاية مع دلالتها على
(١). قوله «زائلا» لعله زائلا عن آخر. (ع)
(٢). قوله «أنه ينسخه بضح الشمس» في الصحاح: ضحضح السراب وتضحضح، إذا ترقرق. والضح:
الشمس. وفي الحديث «لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل» فانه مقعد الشيطان. (ع)
(٣). قوله «ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب» في الصحاح «الفينان» الطويل، وفيه «الأدم» جمع الأديم، مثل: أفيق وأفق، وربما سمى وجه الأرض أديما. وفيه: جاب يجوب جوبا، إذا خرق وقطع، فتدبر. (ع) [.....]
(٤). قوله «يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق» في الصحاح «العيوف» من الإبل: الذي يشم الماء فيدعه وهو عطشان. وفيه: رنقته ترنيقا: كدرته. (ع)
قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه، لأنّ الاحتجاب بستر الليل، كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية، والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة، أى عبرة فيها لمن اعتبر.
وعن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى، كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٨]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨)
قرئ: الريح. والرياح نشرا: إحياء. ونشرا: جمع نشور، وهي المحيية. ونشرا: تخفيف نشر، وبشرا تخفيف بشر: جمع بشور وبشرى. وبَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ استعارة مليحة، أى: قدام المطر طَهُوراً بليغا في طهارته. وعن أحمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره، فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا. ويعضده قوله تعالى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وإلا فليس «فعول» من التفعيل في شيء. والطهور على وجهين في العربية: صفة، واسم غير صفة، فالصفة قولك: ماء طهور، كقولك: طاهر، والاسم قولك لما يتطهر به: طهور، كالوضوء والوقود، لما يتوضأ به وتوقد به النار. وقولهم: تطهرت طهورا حسنا، كقولك:
وضوءا حسنا، ذكره سيبويه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم، لا صلاة إلا بطهور «١» » أى طهارة. فإن قلت: ما الذي يزيل عن الماء اسم الطهور؟ قلت: تيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظنّ، تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. أو استعماله في البدن لأداء عبادة عند أبى حنيفة وعند مالك بن أنس رضى الله عنهما: ما لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور. فإن قلت:
فما تقول في قوله ﷺ حين سئل عن بئر بضاعة فقال: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه «٢» » ؟ قلت: قال الواقدي: كان بئر بضاعة طريقا للماء إلى البساتين.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٩]
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
وإنما قال مَيْتاً لأنّ البلدة في معنى البلد في قوله: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ، وأنه غير جار
(١). أخرجه الترمذي عن ابن عمر رضى الله عنهما «لا تقبل صلاة إلا بطهور» وأصله في مسلم والطبراني من طريق عيسى بن صبرة عن أبيه عن جده «لا صلاة إلا بوضوء» وفي الباب عن جماعة من الصحابة. قلت: استوفيت طرقه في أول شرحي على الترمذي ولم يذكر المخرج منها إلا شيئا يسيرا
(٢). لم أجده هكذا. بل هو ملفق من حديثين فالأول أخرجه أصحاب السنن من حديث رافع بن خديج. قال يا رسول الله. أنتوضأ من بضاعة وهي بئر يلقى فيها الجيف ولحوم الكلاب والنتن فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه. وقد استوفيت طرقها في تخريج أحاديث الرافعي.
على الفعل كفعول ومفعال ومفعيل. وقرئ: نسقيه بالفتح. وسقى، وأسقى: لغتان. وقيل:
أسقاه: جعل له سقيا. الأناسى: جمع إنسى أو إنسان. ونحوه ظرابى في ظربان، على قلب النون ياء، والأصل: أناسين وظرابين. وقرئ بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل، كقولك:
أناعم، في: أناعيم. فإن قلت: إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك، كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت:
لما كان سقى الأناسى من جملة ما أنزل له الماء، وصفه بالطهور إكراما لهم، وتتميما للمنة عليهم، وبيانا أن من حقهم حين أراد الله لهم الطهارة وأرادهم عليها أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم، وأن يربئوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم. فإن قلت: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟ قلت: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب، بخلاف الأنعام: ولأنها قنية الأناسى، وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقى أنعامهم كالإنعام بسقيهم. فإن قلت: فما معنى تنكير الأنعام والأناسى ووصفها بالكثرة؟ قلت: معنى ذلك أن عليه الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء، فبهم غنية عن سقى السماء، وأعقابهم- وهم كثير منهم- لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه، وكذلك قوله لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً يريد بعض بلاد هؤلاء المتبعدين من مظان الماء. فإن قلت: لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسى؟ قلت: لأنّ حياة الأناسىّ بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم، لم يعدموا سقياهم.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٠]
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠)
يريد: ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل عليهم السلام- وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر- ليفكروا ويعتبروا، ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا فَأَبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها. وقيل: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة، وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل، وجود ورذاذ، وديمة ورهام «١» فأبوا إلا الكفور وأن يقولوا:
مطرنا بنوء كذا، ولا يذكروا صنع الله ورحمته. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ما من عام أقل مطرا من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء، وتلا هذه الآية «٢». وروى
(١). قوله «ورذاذ وديمة ورهام» الرذاذ: مطر ضعيف. والرهام. جمع رهمة وهي المطرة الضعيفة الدائمة، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). أخرجه الحاكم والطبري من رواية الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال: «ما من عام أمطر من عام. ولكن الله يصرفه... الخ» وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه العقيلي من رواية على بن حميد عن شعبة، أخرجه العقيلي من رواية على بن حميد عن شعبة عن أبى إسحاق عن أبى الأحوص عنه وقال: لا يتابع على رفعه.
ثم أخرجه موقوفا من رواية عمر بن مرزوق عن شعبة وقال: هذا أولى، وأورده ابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا.
أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام، لأنه لا يختلف ولكن تختلف فيه البلاد.
وينتزع من هاهنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسى، كأنه قال: لنحيي به بعض البلاد الميتة، ونسقيه بعض الأنعام والأناسى، وذلك البعض كثير. فإن قلت: هل يكفر من ينسب الأمطار إلى الأنواء؟ قلت: إن كان لا يراها إلا من الأنواء ويجحد أن تكون هي والأنواء من خلق الله: فهو كافر. وإن كان يرى أن الله خالقها وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها: لم يكفر.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)
يقول لرسوله ﷺ وَلَوْ شِئْنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى.
ولَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نبيا ينذرها. وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به، وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالتشدد والتصبر فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يريدونك عليه، وإنما أراد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم. والضمير للقرآن أو لترك الطاعة الذي يدل عليه: فَلا تُطِعِ والمراد: أن الكفار يجدون ويجتهدون في توهين أمرك، فقابلهم من جدك واجتهادك وعضك على نواجذك بما تغلبهم به وتعلوهم، وجعله جهادا كبيرا لما يحتمل فيه من المشاق العظام. ويجوز أن يرجع الضمير في بِهِ إلى ما دل عليه: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً من كونه نذير كافة القرى، لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لو جبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله ﷺ تلك المجاهدات كلها، فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم، فقال له وَجاهِدْهُمْ بسبب كونك نذير كافة القرى جِهاداً كَبِيراً جامعا لكل مجاهدة.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٣]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)
سمى الماءين الكثيرين الواسعين: بحرين، والفرات: البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة.
والأجاج: نقيضه، ومرجهما: خلاهما متجاورين متلاصقين، وهو بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج. وهذا من عظيم اقتداره. وفي كلام بعضهم: وبحران: أحدهما مع الآخر ممروج، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج «١» بَرْزَخاً حائلا من قدرته، كقوله تعالى بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها يريد بغير عمد مرئية، وهو قدرته. وقرئ: ملح، على فعل. وقيل: كأنه حذف من مالح تخفيفا، كما قال: وصليانا بردا، بريد: باردا: فإن قلت: وَحِجْراً مَحْجُوراً ما معناه؟
قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ، وقد فسرناها، وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز، كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له: حجرا محجورا، كما قال لا يَبْغِيانِ أى لا يبغى أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغي ثمة كالتعوذ هاهنا: جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوّذ منه. وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٤]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
أراد: فقسم البشر قسمين ذوى نسب، أى: ذكورا ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان وفلانة بنت فلان، وذوات صهر: أى إناثا يصاهر بهنّ، ونحوه قوله تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين: ذكرا وأنثى.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٥]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥)
الظهير والمظاهر، كالعوين والمعاون. و «فعيل» بمعنى مفاعل غير عزيز. والمعنى: أنّ الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك. روى أنها نزلت في أبى جهل، ويجوز أن يريد بالظهير: الجماعة، كقوله وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ كما جاء: الصديق والخليط، يريد بالكافر: الجنس، وأنّ بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله. وقيل: معناه: وكان الذي يفعل هذا الفعل- وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر- على ربه هينا مهينا، من قولهم: ظهرت به، إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه، وهذا نحو قوله أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
(١). قوله «ممزوج» لعله: غير ممزوج، فليحرر. (ع)
مثال إِلَّا مَنْ شاءَ والمراد: إلا فعل من شاء واستثنائه عن الأجر قول ذى شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال: ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه.
فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين، إحداهما: قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله، كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثوابا فإنى أطلب الثواب، والثانية: إظهار الشفقة البالغة وأنك إن حفظت مالك: اعتدّ بحفظك ثوابا ورضى به كما يرضى المثاب بالثواب. ولعمري إنّ رسول الله ﷺ كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلا: تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل: المراد التقرّب بالصدقة والنفقة في سبيل الله.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٨]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨)
أمره بأن يثق به ويسند أمره إليه في استكفاء شرورهم، مع التمسك بقاعدة التوكل وأساس الالتجاء وهو طاعته وعبادته وتنزيهه وتحميده، وعرّفه أن الحي الذي لا يموت، حقيق بأن يتوكل عليه وحده ولا يتكل على غيره من الأحياء الذين يموتون. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ثم أراه أن ليس إليه من أمر عباده شيء، آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأعمالهم كاف في جزاء أعمالهم.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٩]
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يعنى في مدة: مقدارها هذه المدّة، لأنه لم يكن حينئذ نهار ولا ليل. وقيل:
ستة أيام من أيام الآخرة، وكل يوم ألف سنة. والظاهر أنها من أيام الدنيا. وعن مجاهد:
أوّلها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة. ووجهه أن يسمى الله لملائكته تلك الأيام المقدرة بهذه الأسماء فلما خلق الشمس وأدارها وترتب أمر العالم على ما هو عليه، جرت التسمية على هذه الأيام. وأما الداعي إلى هذا العدد- أعنى الستة دون سائر الأعداد- فلا نشك أنه داعى حكمة، لعلمنا أنه لا يقدّر تقديرا إلا بداعي حكمة، وإن كنا لا نطلع عليه ولا نهتدي إلى معرفته.
ومن ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار تسعة عشر، وحملة العرش ثمانية، والشهور اثنى عشر، والسماوات سبعا والأرض كذلك، والصلوات خمسا، وأعداد النصب والحدود والكفارات وغير ذلك. والإقرار بدواعى الحكمة في جميع أفعاله، وبأن ما قدّره حق وصواب هو الإيمان.
وقد نص عليه في قوله وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً، وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا
ثم قال وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وهو الجواب أيضا في أن لم يخلقها في لحظة، وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنهما. إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة، تعليما لخلقه الرفق والتثبت. وقيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيدا للمسلمين. الذي خلق مبتدأ. والرَّحْمنُ خبره. أو صفة للحىّ، والرحمن: خبر مبتدإ محذوف.
أو بدل عن المستتر في استوى. وقرئ: الرحمن، بالجرّ صفة للحىّ. وقرئ فسل، والباء في به صلة سل، كقوله تعالى سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ كما تكون عن صلته في نحو قوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ فسأل به، كقوله: اهتمّ به، واعتنى به، واشتغل به. وسأل عنه كقولك: بحث عنه، وفتش عنه، ونقر عنه. أو صلة خبيرا: وتجعل خبيرا مفعول سل، يريد: فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته. أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته. أو: فسل بسؤاله خبيرا، كقولك: رأيت به أسدا، أى برؤيته. والمعنى: إن سألته وجدته خبيرا.
أو تجعله حالا عن الهاء، تريد: فسل عنه عالما بكل شيء. وقيل: الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة، ولم يكونوا يعرفونه، فقيل: فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب، حتى يعرف من ينكره. ومن ثمة كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة، يعنون مسيلمة. وكان يقال له: رحمن اليمامة:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
وَمَا الرَّحْمنُ يجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به، لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم، والسؤال عن المجهول ب «ما». ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه، لأنه لم يكن مستعملا في كلامهم كما استعمل الرحيم والرحوم والراحم. أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله تعالى لِما تَأْمُرُنا أى للذي تأمرناه، بمعنى تأمرنا سجوده: على قوله: أمرتك الخير. أو لأمرك لنا. وقرئ بالياء، كأن بعضهم قال لبعض: أنسجد لما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم. أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو. وفي زادَهُمْ ضمير اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ لأنه هو المقول.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦١]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١)
البروج: منازل الكواكب السبعة السيارة: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان،
والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت: سميت بالبروج التي هي القصور العالية، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها. واشتقاق البرج من التبرج، لظهوره. والسراج: الشمس كقوله تعالى وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً وقرئ.
سرجا، وهي الشمس والكواكب الكبار معها. وقرأ الحسن والأعمش: وقمرا منيرا، وهي جمع ليلة قمراء، كأنه قال: وذا قمر منيرا لأنّ الليالي تكون قمرا بالقمر، فأضافه إليها.
ونظيره- في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه- قول حسان:
بردي يصفّق بالرّحيق السّلسل «١»
يريد: ماء بردي، ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر، كالرشد والرشد، والعرب والعرب.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٢]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
الخلفة من خلف، كالركبة من ركب: وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كلّ واحد منهما الآخر. والمعنى: جعلهما ذوى خلفة، أى: ذوى عقبة، أى: يعقب هذا ذاك وذاك هذا.
ويقال: الليل والنهار يختلفان، كما يقال: يعتقبان. ومنه قوله وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ويقال: بفلان «٢» خلفة واختلاف، إذا اختلف كثيرا إلى متبرّزه. وقرئ: يذكر ويذكر.
وعن أبىّ بن كعب رضى الله عنه: يتذكر. والمعنى لينظر في اختلافهما الناظر، فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال، وتغيرهما من ناقل ومغير. ويستدل بذلك على عظم قدرته، ويشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار، كما قال عز وعلا: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ. أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين، من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. وعن الحسن رضى الله عنه:
من فانه عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب. ومن فاته بالليل: كان له في النهار مستعتب.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٣]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)
وَعِبادُ الرَّحْمنِ مبتدأ خبره في آخر السورة، كأنه قيل: وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٨٤ فراجعه إن شئت اه مصححه
(٢). قوله «ويقال بفلان خلفة» لعله: لفلان. (ع)
أولئك يجزون الغرفة. ويجوز أن يكون خبره الَّذِينَ يَمْشُونَ وأضافهم إلى الرحمن تخصيصا وتفضيلا. وقرئ: وعباد الرحمن. وقرئ: يمشون هَوْناً حال، أو صفة للمشي، بمعنى:
هينين. أو: مشيا هينا، إلا أنّ في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة. والهون: الرفق واللين.
ومنه الحديث «أحبب حبيبك هونا «١» مّا» وقوله «المؤمنون هينون لينون «٢» » والمثل:
إذا عزّ أخوك فهن. ومعناه: إذا عاسر فياسر. والمعنى: أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، ولقوله وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ. سَلاماً تسلما منكم لا نجاهلكم، ومتاركة لا خير بيننا ولا شر، أى: نتسلم منكم تسلما، فأقيم السلام مقام التسلم. وقيل: قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. والمراد بالجهل: السفه وقلة الأدب وسوء الرعة، «٣» من قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا «٤»
وعن أبى العالية: نسختها آية القتال، ولا حاجة إلى ذلك لأنّ الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٤]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤)
(١). أخرجه الترمذي من رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبى هريرة تفرد به سويد بن عمرو عن حماد بن سلمة عن أيوب قال الترمذي. غريب. وقال ابن حبان، في الضعفاء: سويد بن عمرو يضع المتون الواهية على الأسانيد الصحيحة. وليس هذا من حديث أبى هريرة. وإنما هو من قول على رضى الله عنه. وقد رفعه الحسن بن أبى جعفر عن أيوب عن حميد بن عبد الرحمن عن على. وهو خطأ فاحش. ورواية الحسن بن أبى جعفر في فوائد تمام وأخرجه ابن عدى من طريق الحسن بن دنيا- عن ابن سيرين عن أبى هريرة. قال: الحسن بن دنيا- أجمعوا على ضعفه ورواه الطبراني في الأوسط. من رواية أبى الزناد عن الأعرج. عن أبى هريرة لكن الراوي له عن أبى الزناد متروك. وهو عباد بن كثير. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الطبراني وفيه أبو السلط الهروي. وهو متروك وعن ابن عمرو بن العاص أخرجه أيضا من طريق محمد بن كثير الضمري. عن ابن لهيعة، عن أبى نهشل عنه وهذا إسناد واه جدا. والموقوف عن على. أخرجه البيهقي في الشعب في الحادي والأربعين من رواية أبى إسحاق عن صبرة بن يزيد ثم عن على. وقال الدارقطني. الصحيح على على موقوف
(٢). أخرجه ابن المبارك في الزهد قال أخبرنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول بهذا مرسلا «وزاد كالجمل الأنف الذي إن قيد انقاد. وإن ينخ على صخرة أناخ» وأخرجه البيهقي في الشعب في السادس والخمسين من هذا الوجه قال هذا مرسل ثم أخرجه من طريق العقيلي في منكرات عبد الله بن عبد العزيز. وفي الباب عن ابن أنس مرفوعا ذكره ابن طاهر في الكلام على أحاديث الشهاب. وفيه زكريا بن يحيى الوقاد وهو واهى الحديث.
(٣). قوله «وسوء الرعة» في الصحاح: يقال: فلان سيئ الرعة، أى: قليل الورع. وفيه: قيل ذلك الورع- بكسر الراء-: الرجل التقى. وقد ورع يرع- بالكسر فيهما- ورعا ورعة. (ع)
(٤). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٣٩٠ فراجعه إن شئت اه مصححه.
البيتوتة: خلاف الظلول، وهو أن يدركك الليل، نمت أو لم تنم، وقالوا: من قرأ شيئا من القرآن في صلاته وإن قلّ فقد بات ساجدا وقائما. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء. والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو بأكثره. يقال: فلان يظل صائما ويبيت قائما.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦)
غَراماً هلاكا وخسرانا ملحا لازما قال:
ويوم النّسار ويوم الجفا... ر كانا عذابا وكانا غراما «١»
وقال:
إن يعاقب يكن غراما... وإن يعط جزيلا فإنّه لا يبالى»
ومنه: الغريم: لإلحاجه وإلزامه. وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه، إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم، كقوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ. ساءَتْ في حكم «بئست» وفيها ضمير مبهم يفسره:
مستقرّا. والمخصوص بالذم محذوف، معناه: ساءت مستقرّا ومقاما هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إنّ وجعلها خبرا لها. ويجوز أن يكون ساءَتْ بمعنى: أحزنت. وفيها ضمير اسم إنّ. ومُسْتَقَرًّا حال أو تمييز، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين ومترادفين، وأن يكونا من كلام الله وحكاية لقولهم.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٧]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
قرئ يَقْتُرُوا بكسر التاء وضمها. ويقتروا، بتخفيف التاء وتشديدها. والقتر والإقتار والتقتير: التضييق الذي هو نقيض الإسراف. والإسراف: مجاوزة الحدّ في النفقة. ووصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير. وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١). لبشر بن أبى حازم. والنسار: ماء لبنى عامر. والجفار: ماء لبنى تميم ينجد، يقول: واقعة النسار وواقعة الجفار، كانا عذابا على أهلهما، وكانا غراما، أى: هلاكا لازما لهم. وقيل: شرا دائما.
(٢). للأعشى، يقول: إن يعاقب هذا الممدوح أعداءه يكن غراما أى هلاكا ملازما لهم. وإن يعط السائل عطاء جزيلا عظيما فانه لا يبالى به ولا يكترث به ولا يستكثره، فهو شجاع جواد. [.....]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ وقيل: الإسراف إنما هو الإنفاق في المعاصي، فأما في القرب فلا إسراف. وسمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف. فقال: لا إسراف في الخير. وعن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوّجه ابنته وأحسن إليه، فقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت، وجاء بكلام حسن، فقال ابن لعبد الملك: إنما هو كلام أعدّه لهذا المقام، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر، فسأله عن نفقته وأحواله فقال: الحسنة بين السيئتين، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه: يا بنىّ، أهذا أيضا مما أعدّه؟ وقيل: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسدّ جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحرّ والقرّ «١».
وقال عمر رضى الله عنه: كفى سرفا أن لا يشتهى رجل شيئا إلا اشتراه فأكله «٢». والقوام:
العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما. ونظير القوام من الاستقامة: السواء من الاستواء. وقرئ: قواما، بالكسر، وهو ما يقام به الشيء. يقال: أنت قوامنا، بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص، والمنصوبان أعنى بَيْنَ ذلِكَ قَواماً: جائز أن يكونا خبرين معا، وأن يجعل بين ذلك لغوا، وقواما مستقرا. وأن يكون الظرف خبرا، وقواما حالا مؤكدة. وأجاز الفراء أن يكون بَيْنَ ذلِكَ اسم كان، على أنه مبنى لإضافته إلى غير متمكن، كقوله:
لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت «٣»
وهو من جهة الإعراب لا بأس به، ولكن المعنى ليس بقوى لأنّ ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة، فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
(١). قوله «والقر» أى البرد. (ع)
(٢). أخرجه عبد الرزاق في التفسير عن ابن عيينة عن رجل عن الحسن عن عمر بن الخطاب وهذا منقطع من طريقه. رواه الثعلبي. ورواه أحمد في الزهد عن إسماعيل عن يونس عن الحسن كذلك ورواه ابن ماجة وأبو يعلى والبيهقي في الشعب من طريق نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس رضى الله عنه مرفوعا والأول أصح
(٣). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٤٢٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.
293
حَرَّمَ اللَّهُ أى حرّمها. والمعنى: حرّم قتلها. وإِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بهذا القتل المحذوف.
أو بلا يقتلون، ونفى هذه المقبحات العظام على الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين، للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. والقتل بغير الحق: يدخل فيه الوأد وغيره. وعن ابن مسعود رضى الله عنه قلت: يا رسول الله، أىّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» قلت: ثم أىّ؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت: ثم أى؟ قال «أن تزانى حليلة جارك» «١» فأنزل الله تصديقه. وقرئ: يلق فيه أثاما. وقرئ: يلقى، بإثبات الألف، وقد مر مثله. والآثام: جزاء الإثم، بوزن الوبال والنكال ومعناهما. قال:
جزي الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام «٢»
وقيل هو الإثم. ومعناه: يلق جزاء أثام. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: أياما «٣»، أى شدائد. يقال: يوم ذو أيام: لليوم العصيب. يُضاعَفْ بدل من يلق، لأنهما في معنى واحد، كقوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا «٤»
وقرئ: يضعف، ونضعف له العذاب، بالنون ونصب العذاب. وقرئ بالرفع على الاستئناف أو على الحال، وكذلك يَخْلُدْ وقرئ: ويخلد، على البناء للمفعول مخففا ومثقلا، من الإخلاد والتخليد. وقرئ: وتخلد، بالتاء على الالتفات يُبَدِّلُ مخفف ومثقل، وكذلك سيئاتهم. فإن قلت: ما معنى مضاعفة العذاب وإبدال السيئات حسنات؟ قلت: إذا ارتكب المشرك معاصى مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعا، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه. وإبدال السيئات حسنات: أنه يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات: الإيمان، والطاعة، والتقوى. وقيل: يبدّلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المسلمين: قتل المشركين، وبالزنا:
عفة وإحصانا.
(١). متفق عليه من رواية أبى وائل عن عمرو بن شرحبيل عنه.
(٢). العقوق- بالفتح-: كثير العقوق بالضم، وهو منع بر الوالدين وقطع صلتهما، والأثام- كالوبال-: جزاء الإثم. وقيل: هو الإثم، فسمي به مسببه وهو الجزاء، ومفعول جزى الثاني محذوف. وعقوقا خبر أمسى.
والعقوق: مبتدأ، أى: لا بد العقوق من جزاء سيء عظيم.
(٣). قوله «أياما» وفي الصحاح «الأيام» الدخان. (ع)
(٤). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٣٣١ فراجعه إن شئت اه مصححه.
294

[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧١]

وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١)
يريد. ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإنه بذلك تائب إلى الله مَتاباً مرضيا عنده مكفرا للخطايا محصلا للثواب. أو فإنه تائب متابا إلى الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يستوجبون، والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين. وفي كلام بعض العرب: لله أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد. أو: فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعا حسنا وأىّ مرجع.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٢]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)
يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزها عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينهم عما يثلمه لأنّ مشاهد الباطل شركة فيه، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوّغه الشريعة: هم شركاء فاعليه في الإثم، لأنّ حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه، لأنّ الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه. وفي مواعظ عيسى بن مريم عليه السلام: إياكم ومجالسة الخطائين.
ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعن قتادة:
مجالس الباطل. وعن ابن الحنفية: اللهو والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين. اللغو: كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به. مرّوا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم، كقوله تعالى وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وعن الحسن رضى الله عنه:
لم تسفههم المعاصي. وقيل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا. وقيل:
إذا ذكروا النكاح كنوا عنه
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٣]
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)
لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها ليس بنفي للخرور. وإنما هو إثبات له، ونفى للصمم والعمى، كما تقول:
لا يلقاني زيد مسلما، هو نفى للسلام لا للقاء. والمعنى: أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها، سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها، مظهرين الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم العميان حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها كالمنافقين وأشباههم.

[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٤]

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤)
قرئ: ذريتنا، وذرياتنا. وقرة أعين، وقرّات أعين. سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجا وأعقابا عمالا لله، يسرون بمكانهم وتقرّبهم عيونهم. وعن محمد بن كعب: ليس شيء أقرّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. أراد. أئمة، فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس، كقوله تعالى ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أو أرادوا اجعل كل واحد منا إماما. أو أراد جمع آمّ، كصائم وصيام. أو أرادوا اجعلنا إماما واحدا لا تحادنا واتفاق كلتنا. وعن بعضهم: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقيل: نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة. فإن قلت: مِنْ في قوله مِنْ أَزْواجِنا ما هي؟ قلت: يحتمل أن تكون بيانية، كأنه قيل: هب لنا قرّة أعين، ثم بينت القرّة وفسرت بقوله: من أزواجنا وذرياتنا. ومعناه:
أن يجعلهم الله لهم قرّة أعين، وهو من قولهم: رأيت منك أسدا، أى: أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى: هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح. فإن قلت: لم قال قُرَّةَ أَعْيُنٍ فنكر وقلل؟ قلت: أما التنكير فلأجل تنكير القرّة، لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه، كأنه قيل: هب لنا منهم سرورا وفرحا. وإنما قيل أَعْيُنٍ دون عيون، لأنه أراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. قال الله تعالى وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «١» ويجوز أن يقال في تنكير أَعْيُنٍ أنها أعين خاصة، وهي أعين المتقين.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦)
المراد يجزون الغرفات وهي العلالي في الجنة، فوحد اقتصارا على الواحد الدال على الجنس،
(١). قال محمود: «إن قلت: لم قلل الأعين إذ الأعين صيغة جمع قلة؟ قلت: لأن أعين المتقين قليل بالاضافة إلى غيرهم، يدل على ذلك قوله: وقليل من عبادي الشكور» قال أحمد: والظاهر أن المحكي كلام كل أحد من المتقين، فكأنه قال: يقول كل واحد منهم اجعل لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وهذا أسلم من تأويله، فان المتقين وإن كانوا بالاضافة إلى غيرهم قليلا إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد. والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالنسبة والاضافة، والله أعلم.
والدليل على ذلك قوله وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ وقراءة من قرأ: في الغرفة بِما صَبَرُوا بصبرهم على الطاعات، وعن الشهوات، وعن أذى الكفار ومجاهدتهم، وعلى الفقر وغير ذلك.
وإطلاقه لأجل الشياع في كل مصبور عليه. وقرئ: يلقون، كقوله تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ويلقون، كقوله تعالى يَلْقَ أَثاماً. والتحية: دعاء بالتعمير. والسلام: دعاء بالسلامة، يعنى أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم. أو يحيى بعضهم بعضا ويسلم عليه أو يعطون التبقية والتخليد مع السلامة عن كل آفة. اللهم وفقنا لطاعتك، واجعلنا مع أهل رحمتك، وارزقنا مما ترزقهم في دار رضوانك.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٧]
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
لما وصف عبادة العباد، وعدّد صالحاتهم وحسناتهم، وأثنى عليهم من أجلها، ووعدهم الرفع من درجاتهم في الجنة: أتبع ذلك بيان أنه إنما اكترث لأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم ووعدهم ما وعدهم، لأجل عبادتهم، فأمر رسوله أن يصرّح للناس، ويجزم لهم القول بأن الاكتراث لهم عند ربهم، إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث لهم البتة ولم يعتدّ بهم ولم يكونوا عنده شيء يبالى به. والدعاء: العبادة. وما متضمنة لمعنى الاستفهام، وهي في محل النصب، وهي عبارة عن المصدر، كأنه قيل: وأى عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم. يعنى أنكم لا تستأهلون شيئا من العبء بكم لولا عبادتكم. وحقيقة قولهم ما عبأت به: ما اعتددت به من فوادح همومى ومما يكون عبئا علىّ، كما تقول: ما اكترثت له، أى: ما اعتددت به من كوارثى ومما يهمني. وقال الزجاج في تأويل ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي: أى وزن يكون لكم عنده؟
ويجوز أن تكون ما نافية، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ يقول: إذا أعلمتكم أن حكمى أنى لا أعتدّ بعبادي إلا عبادتهم، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمى، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار.
ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتى أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمرى، فقد عصيت فسوف ترى ما أحلّ بك بسبب عصيانك. وقيل: معناه ما يصنع بكم ربى لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام. وقيل: ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة، فإن قلت: إلى من يتوجه هذا الخطاب؟ قلت: إلى الناس على الإطلاق، ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجدوا في جنسهم من العبادة والتكذيب. وقرئ:
فقد كذب الكافرون. وقيل: يكون العذاب لزاما. وعن مجاهد رضى الله عنه: هو قتل يوم بدر، وأنه لوزم بين القتلى لزاما. وقرئ: لزاما، بالفتح بمعنى اللزوم، كالثبات والثبوت.
Icon