تفسير سورة الفرقان

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٢٥ – سورة الفرقان
الجمهور على أنها مكية. وعن الضحاك : مدنية. وعن بعضهم : مكية إلا ثلاث آيات ١ :﴿ والذين لا يدعون ﴾ إلى ﴿ رحيما ﴾.
قال المهايمي : سميت بالفرقان لاشتمالها على أنه ظهر كثرة خيرات الحق بالفرقان، الذي هو التمييز بين الحق والباطل. والأظهر أنه لذكره فيها بمعانيه الآتية المتسع لها اللفظ لا خصوص ما ذكره، وآياتها سبع وسبعون.
١ (٢٥ الفرقان ٦٨ – ٧٠)..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١)
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً.
يحمد تعالى نفسه الكريمة ويثني عليها، لما أنزله من الفرقان، كما قال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ [الكهف: ١- ٢] الآية.
قال الزمخشري: (البركة) كثرة الخير وزيادته. ومنها تَبارَكَ اللَّهُ وفيه معنيان: تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه، في صفاته وأفعاله.
والْفُرْقانَ مصدر فرق بين الشيئين، إذا فصل بينهما. وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملة واحدة، ولكن مفروقا مفصلا بعضه عن بعض في الإنزال.
ألا ترى إلى قوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: ١٠٦]، انتهى.
قال الناصر: والأظهر ها هنا هو المعنى الثاني. لأنه في أثناء السورة بعد آيات وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: ٣٢]، قال الله تعالى كَذلِكَ أي أنزلناه مفرقا كذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة- والله أعلم-. كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد. انتهى.
قال أبو السعود: وإيراده ﷺ بذلك العنوان، لتشريفه والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ردّا على النصارى، والكناية في (ليكون) للعبد أو للفرقان. و (النذير) صفة بمعنى منذر، أو مصدر بمعنى الإنذار، كالنكر مبالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢]
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي أحدثه إحداثا مراعي فيه التقدير والتسوية لما أريد منه.
كخلق الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المفيدة. وكذلك كل حيوان وجماد خلق على الصورة المقدرة. بأمثلة الحكمة والتدبير لأمر ما، ومصلحته مطابقا لما قدر له، غير متجاف عنه.
ولما تضمن هذا إثبات التوحيد والنبوة، تأثره بالبرهنة عليهما، وتضليل المخالفين فيهما، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً أي لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع ولا إماتة أحد وإحياءه أوّلا وبعثه ثانيا. ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها. وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء. أفاده القاضي.
قال الشهاب: قدم الموت لمناسبته للضر المتقدم وفسر الموت والحياة بالإماتة والإحياء والإنشار، إما بيانا لحاصل المعنى، لأن ملك الموت له القدرة على الإماتة، أو إشارة إلى أنه بمعنى الأفعال. كما في قوله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً أي بجعل الصدق إفكا، والبريء عن الإعانة معينا وَزُوراً أي باطلا لا مصداق له، يعلمون من أنفسهم أنه باطل وبهتان وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها أي ما سطروه، كتبها لنفسه وأخذها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي تلقى عليه ليحفظها بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي دائما.
قال ابن كثير: وهذا الكلام، لسخافته وكذبه وبهته منهم، يعلم كل أحد بطلانه. فإنه قد علم بالضرورة: أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يعاني شيئا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره. وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده، إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبره ونزاهته وأمانته. وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الردية، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره، وإلى أن بعث با (لأمين) لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به، نصبوا له العداوة، ورموه بهذه الأقوال، التي يعلم كل عاقل براءته منها.
وحاروا بما يقذفونه به، فتارة من إفكهم يقولون: ساحر. وتارة يقولون: شاعر. وتارة يقولون: مجنون. وتارة يقولون: كذاب، قال الله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء: ٤٨] و [الفرقان: ٩]، وقال تعالى في جواب ما افتروه هنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦]
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الخفيّ فيهما. إشارة إلى علمه تعالى بحالهم بالأولى. ومن مقتضاه رحمته إياهم بإنزاله، لزيادة حاجتهم وافتقار أمثالهم إلى إخراجهم من الظلمات بأنواره. وفي طيّه ترهيب لهم بأن ما يسرونه من الكيد للنبيّ عليه الصلاة والسلام، مع ما يتقولونه ويفترونه، لا يعزب عن علمه. فسيجزيهم عليه بزهوق باطلهم ومحو أثرهم، وسموق حقه وظهور أمره إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تعليل لما هو مشاهد من تأخير عقوبتهم، مع استيجابهم إياها.
أي فهو يمهل ولا يعاجل لمغفرته ورحمته. أو الوصفان كناية عن كمال قدرته على الانتقام منهم. لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر. هذا ما يستفاد من (الكشاف) ومن تابعه، لبيانه مطابقة ذلك لما قبله.
وقال ابن كثير: قوله تعالى إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً دعاء لهم إلى التوبة والإنابة،
وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه. فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا، يدعوهم سبحانه إلى التوبة، والإقلاع عما هم فيه، إلى الإسلام والهدى. كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: ٧٣- ٧٤]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج: ١٠]، قال الحسن البصريّ: انظروا إلى هذا الكرم والجود. قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.
ثم أشار تعالى إلى تعنتهم بخصوص المنزل عليه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧)
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ أي كما نأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي يتردد فيها لشئونه كما نمشي. قال الزمخشري: يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش. أي فيخالف حاله حالنا. قال أبو السعود: وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم، وقصور أنظارهم على المحسوسات. فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية، وإنما هو بأمور نفسانية. كما أشير إليه بقوله تعالى قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: ١١٠]، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا، إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار فقالوا لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ثم نزلوا أيضا إلى اقتراح أن يرفد بكنز، إن لم يرفد بملك، فقالوا:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٨]
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨)
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي من السماء يستظهر به، ولا يحتاج إلى طلب المعاش،
ويكون دليلا على صدقه. ثم نزلوا فاقتنعوا باقتراح ما هو أيسر منه، فقالوا أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي بستان يرتزق منه وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً
أي مغلوبا على عقله. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٩]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ استعظام للأباطيل التي اجترءوا على التفوه بها.
والتعجب منها. أي انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقوال الخارجة عن العقول فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي القدح في نبوّتك، بأن يجدوا قولا يستقرّون عليه.
أو فضلّوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه.
قال ابن كثير: كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال، حيثما توجه.
لأن الحق واحد، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا.
ثم نبه تعالى على أنه إن شاء آتاه خيرا مما يقترحون، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ١٠]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي إن شاء جعل لك خيرا مما قالوا. وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. ولكن قضت حكمته ذلك ليكون الرضوخ للحق لا للمال. وليصدع بأن الأمر مبنيّ على النظر والاستدلال، لا ما يلهي المشاعر والخيال. مما يتطرق إلى الشغب فيه الجدال، فسبحان الحكيم المتعال. وقوله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ١١]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ إضراب انتقاليّ عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة، وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى، للتخلص إلى بيان ما لهم في
الآخرة بسببها، من فنون العذاب، بقوله وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي نارا شديدة الاستعار، أي التوقد والالتهاب.
وقيل: هذا الإضراب عطف على ما حكى عنهم وهو وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ على معنى: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة. والحال أنا قد أعتدنا لكل من كذب بها سعيرا. فإن جراءتهم على التكذيب بها، وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها، أعجب من القول السابق.
ويجوز أن يتصل بما يليه، كأنه قيل: بل كذبوا بالساعة، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب؟ وكيف يصدقون بتعجيل ما وعدك الله في الآخرة وهم لا يؤمنون بها؟.
ثم وصف تعالى السعير بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ١٢]
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢)
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي إذا كانت بمرأى منهم (أي قريبة منهم) ونسبة الرؤية إليها لا إليهم، للإيذان بأن التغيظ والزفير منها، لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم، حقيقة أو تمثيلا. و (من) في قوله مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ إشعار بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة، حين رأتهم، خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة. فيه مزيد تهويل لأمرها. أفاده أبو السعود. و (التغيّظ) إظهار الغيظ وهو أشد الغضب، وقد يكون مع صوت كما هنا.
شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره، وهو صوت يسمع من جوفه، تصريحا أو مكنيا أو تمثيلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً أي هلاكا. أي نادوه نداء المتمني الهلاك. ليسلموا مما هو أشد منه. كما قيل: أشد من الموت ما يتمنى معه الموت. فيقال لهم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً لكثرة أنواعه المتوالية. فإن عذاب جهنم ألوان وأفانين. أو كثرته باعتبار تجدد أفراده وإن كان متحدا. أو كثرته كناية عن دوامه. لأن
الكثير شأنه ذلك كما قيل في ضده وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: ٣٢- ٣٣]، وقيل: وصف الثبور بالكثرة، لكثرة الدعاء أو المدعوّ به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي حقيقا أن يسأل ويطلب ويتنافس فيه. وما في (على) من معنى الوجوب، لامتناع الخلف في وعده تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أي الله تعالى للمعبودين، تقريعا لعبدتهم أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي عن السبيل بأنفسهم، لإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن المرشد قالُوا سُبْحانَكَ تعجبا مما قيل لهم. لأنهم إما ملائكة معصومون أو جمادات لا قدرة لها على شيء. أو تنزيها له عن الأنداد ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أي نعبدهم فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليّا غيرك، أو (من أولياء) أي أتباعا للعبادة وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون، بعد بيان تنزههم عن إضلالهم. وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة. أي ما أضللناهم. ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم، ليعرفوا حقها ويشكروها. فانهمكوا في الشهوات حتى نسوا الذكر، أي ذكرك. أو التذكر في آلائك، والتدبر في آياتك، فجعلوا أسباب الهداية، بسوء اختيارهم، ذريعة إلى الغواية- أفاده أبو السعود وَكانُوا قَوْماً بُوراً أي هالكين. ثم أشار تعالى لاحتجاجه على عبدتهم وإلزامهم ما يبكتهم، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ١٩]
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أي المعبودون، أيها الكفرة بِما تَقُولُونَ أي في قولكم إنهم آلهة. أو في قولكم هؤلاء أضلونا فَما تَسْتَطِيعُونَ أي ما تملكون صَرْفاً أي دفعا للعذاب عنكم بوجه ما وَلا نَصْراً أي لأنفسكم من البوار وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أيها المكلفون، كدأب هؤلاء نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً. ثم أجاب عن شبههم السابقة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي ليحتاجون إلى التغذي بالطعام ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة. وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم. فإنه تعالى جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة القاهرة، ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف: ١٠٩]، وقوله: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الأنبياء: ٨].
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الصلاح خلافا لمن كرهها لهم.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً قال الزمخشريّ: هذا تصبير لرسول الله ﷺ على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق. بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل. يقول: وجرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم، أيها الناس، ببعض. والمعنى أنه ابتلى المرسلين
بالمرسل إليهم. وبمناصبتهم لهم العداوة. وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل. ونحوه وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: ١٨٦]، وفي قوله تعالى: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً زيادة تسلية وعدة جليلة. أي هو عالم فيما يبتلي به وغيره، فلا يضق صدرك. فإن في صبرك سعادة وفوزا في الدارين.
ثم أشار إلى نوع آخر من أقاويلهم الباطلة، وإبطالها، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢١]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي الرجوع إليه بالبعث والحشر لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي للرسالة، أو لتخبرنا بصدق محمد ﷺ أَوْ نَرى رَبَّنا أي فيخبرنا بذلك لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي في شأنها حتى تفوّهوا بمثل هذه العظيمة وَعَتَوْا أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان عُتُوًّا كَبِيراً أي بالغا أقصى غايته حيث أملوا رتبة التكليم الربانيّ من غير توسط الرسول والملك. ولم يكتفوا بهذا الذكر الحكيم والخارق العظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٢]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ أي عند الموت أو في القيامة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً أي كما كانوا يقولون عند لقاء العدوّ وشدة النازلة حِجْراً أي أسال الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا ومَحْجُوراً تأكيد ل حِجْراً وقيل هو من قول الملائكة ومعناه حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى، أي جعل الله ذلك حراما عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٣]
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أي مما كانوا يراءون به ابتغاء السمعة والشهرة،
ويرونه من مكارمهم فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي مثل الغبار المنثور في الجوّ، في حقارته وعدم نفعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥)
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي ينصدع نظامها فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما يرى اليوم. فيخرب العالم بأسره. و (الباء) بمعنى (مع) أي مع السحب الجوية أو بمعنى (عن) أي تنفطر عن الغمام الذي يسوّد الجو ويظلمه، ويغم القلوب مرآه وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا فيحيطون بالخلائق في المحشر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي فلا يدعيه ثمّ غيره. ويكون له سبحانه السلطة القاهرة الشاملة وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ أي تشتد حسراته وتتصاعد زفراته يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني من أضلّه عن الذكر، وصده عن سبيل الله لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي القرآن، أو موعظة الرسول إِذْ جاءَنِي، وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا أي مبالغا في إضلاله، يعده ويمنيه في الدنيا، ما يحسّره عليه في العقبى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣٠]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠)
وَقالَ الرَّسُولُ أي إثر ما شاهد من عتوهم وعنادهم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي متروكا، معرضا عنه. وجملة وَقالَ الرَّسُولُ عطف على
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ وما بينهما اعتراض، سيقت لانتظام ما قالوه، وطلب النصر عليهم واستنزال الفرج الإلهيّ مما أضاقوا به الصدور، وجلبوه من الكدور، وللإشارة إلى ما يحيق بهم من شقاء الدارين.
تنبيه:
الآية، وإن كانت في المشركين، وإعراضهم هو عدم إيمانهم، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به، والأخذ بآدابه. الذي هو حقيقة الهجر. لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك. إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها. ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها.
ومن (فوائد) الإمام ابن القيم رحمه الله. قوله في هذه الآية: هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها.
فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.
قال: وكل هذا داخل في هذه الآية، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. انتهى.
وفي (الإكليل) : إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه. وكذا قال أبو السعود: فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. ثم قال: وفيه من التحذير ما لا يخفى. فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم، عجل لهم العذاب ولم ينظروا. ثم ذكر تعالى ما يكون أسوة لنبيه، وتسلية له، ووعدا بالنصرة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣١]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً أي إلى ما يبلغك ما تتمناه وَنَصِيراً أي لك على كل من يناوئك. ثم أشار تعالى إلى مقترح خاص بالتنزيل الكريم، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي دفعة واحدة في وقت واحد. وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة الحمقاء بقوله كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي نقوّيه به على القيام بأعباء الرسالة، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة. فإن ما يتواتر إنزاله لذلك، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة، من نزوله مرة واحدة وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي فصلناه تفصيلا بديعا، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده.
قال القاشانيّ: الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر، مدّة يمكن فيها ترسخه في قلبه، وأن يصير ملكة لا حالا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي الذي يقمع تلك الصفة. كما قال بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء: ١٨]، وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي بيانا وهداية، عناية بك وبما أرسلت من أجله، وخذلانا لأعداء الحق وخصوم الرشاد.
تنبيه:
يذكر المفسرون هاهنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة، كنزول بقية الكتب جملة. ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة، صحيح.
فيأخذون لأجله في سرّ مفارقة التنزيل له. والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له، وليس عليه أثارة من علم، ولا يصححه عقل. فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهيّ الثبوت. لمقدار مكث النبيّ. إذ ما دام بين ظهراني قومه، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة. ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين، يتجلى له ذلك واضحا لا مرية فيه. وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك. وما كل كلام معرّض به.
وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص، وتعنت متفنن فيه. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهم فرعون وقومه. والآيات الخوارق التسع. أي فذهبا إليهم. فأرياهموها فكذبوها فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي بالإغراق في البحر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ يعني نوحا. وجمع تعظيما لرسالته. أو هو ومن تقدمه عليهم السلام أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً وَعاداً يعني قوم هود وَثَمُودَ بالصرف وعدمه. قراءتان. على معنى الحي أو القبيلة وَأَصْحابَ الرَّسِّ اسم بئر. ونبيهم قيل: شعيب، وقيل: غيره. ويروي هنا بعضهم آثارا منكرة لا تصح. كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله. فلا يحل الجراءة على روايتها، ولا تنزيل الآية عليها. لأنه من قفو ما ليس للمرء به علم. ومثله يحظر الخوض فيه. وَقُرُوناً أي أقواما بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي الأنباء التي تزجر عن الكفر والفساد وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي إهلاكا عظيما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٠]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها أي في مرورهم، ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله؟
وفيه توبيخ لهم على تركهم الذكر، عند مشاهدة ما يوجبه بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي كفرة، لا يتوقعون عاقبة وجزاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢)
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا أي يستهزئون قائلين ذلك. والإشارة للاستحقار. لأن كلمة (هذا) تستعمل له. وعائد الموصول محذوف. أي بعثه. و (رسولا) حال منه إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي أنه كاد ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليّا، لولا أن ثبتنا عليها.
قال الزمخشريّ: فيه دليل على فرط مجاهدة رسول الله ﷺ في دعوتهم، وبذل قصارى الوسع والطاعة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم، حتى شارفوا بزعمهم، أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا جواب منه تعالى لآخر كلامهم. وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال. ولا بد للوعيد أن يلحقهم، فلا يغرنهم التأخير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٣]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا تعجيب للنبيّ صلوات الله عليه من شناعة حالهم، بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال.
قال الزمخشريّ: من كان في طاعة الهوى في دينه، يتبعه في كل ما يأتي ويذر، ولا يتبصر دليلا، ولا يصغي إلى برهان، فهو عابد هواه وجاعله إلهه. فيقول تعالى لرسوله: هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى؟
أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام؟ وتقول لا بد أن تسلم، شئت أو أبيت. ولا إكراه في الدين. وهكذا كقوله وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: ٤٥]، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: ٢٢].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٤]
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أي منهم. لأن الأنعام تصرف قواها إلى طلب ما ينفعها، والنفرة مما يضرها. وهؤلاء عطّلوا قواهم وهي العقول التي يهتدى بها للحق، ويميز بها بين الخير والشر. ثم أشار
تعالى إلى بعض دلائل التوحيد، وما فيها من النعم العظمى الجديرة بأن تتلقى بالشكر لا بالكفر، كحال هؤلاء الكفرة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥)
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي عجيب صنعه أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي ثابتا على حاله، من الطول والامتداد. من (السكنى) أو غير متقلص من (السكون) بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فلم ينتفع به أحد ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أي علامة يستدل بأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتا في مكان، زائلا ومتسعا ومتقلصا. فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه، على حسب ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا أي أزلناه بعد ما أنشأناه ممتدا، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه قَبْضاً يَسِيراً أي على مهل، قليلا قليلا حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقها.
وفي هذا القبض اليسير، شيئا بعد شيء، من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر. ولو قبض دفعة واحدة، لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي ساترا كاللباس وَالنَّوْمَ سُباتاً أي راحة للأبدان تستعيض به ما خسرته من قواها وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي زمان انتشار لطلب المعاش.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً أي ناشرات للسحاب وفي قراءة (بشرا) بضم الموحدة بدل النون وسكون الشين، أي مبشرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر.
وهي استعارة بديعة. استعيرت الرحمة للمطر ثم رشحت. كقوله: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ
بِرَحْمَةٍ مِنْهُ
[التوبة: ٢١]، وجعلها بين يديه تتمة لها. لأن البشير يتقدم المبشّر به. ويجوز أن تكون تمثيلية. و (بشرا) من تتمة الاستعارة، داخل في جملتها. ومن قرأ (نشرا) كان تجريدا لها. لأن النشر يناسب السحاب وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً أي مطهرا، لقوله: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: ١١]. وهذه الآية أصل في الطهارة بالماء.
قال القاضي: وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة فيه، وتتميم للمنة فيما بعده.
فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته. وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها، فبواطنهم بذلك أولى لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي بإنبات النبات وَنُسْقِيَهُ أي ذلك الماء مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً قال الكرخيّ: خص الأنعام بالذكر، لأنها ذخيرتنا ومدار معاش أكثر أهل المدر. ولذلك قدم سقيها على سقيهم، كما قدم عليها إحياء الأرض. فإنها سبب لحياتها وتعيشها، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أي كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا أي ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي كفران النعمة وجحودها وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي نبيّا ينذر أهله فيخف عليك أعباء النبوة. لكن لم نشأ ذلك، فلم نفعله. بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: ١]، إجلالا لك وتعظيما، وتفضيلا لك على سائر الرسل.
وقال المهايميّ: أي لكن لم نشأ. لأنه يقتضي تفرق الأمم وتكثر الاختلافات.
فجعلنا الواحد نذيرا للكل ليطيعوه أو يقاتلهم. والكفار يريدون أن يطيعهم الرسل أو يتركوهم على ما هم عليه فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد والتصبر. ولا تطعهم فيما يريدونك عليه. وأراد بهذا النهي، تهييجه وتهييج المؤمنين، وتحريكهم. أي إثارة غيرته وغيرتهم. وإلا فإطاعته لهم غير متصوّرة.
وقال أبو السعود: كأنه نهي له، عليه الصلاة والسلام، عن المداراة معهم، والتلطف معهم. أي لأن في ذلك إضعافا للحق وتغشية عليه. وطول أمد في سريانه.
ولذا قال وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن وما نزل إليك من الحق جِهاداً كَبِيراً أي لا يخالطه فتور، بأن تلزمهم بالحجج والآيات، وتدعوهم إلى النظر في سائر الآنات، لتتزلزل عقائدهم، وتسمج في أعينهم عوائدهم. وهذه الآية من أصرح الأدلة في وجوب مجادلة المبطلين، ودعوتهم إلى الحق بقوة، والتفنن في محاجتهم بأفانين الأدلة. فإن الحق يتضح بالأدلة. كما أن الشهور تشتهر بالأهلّة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٣]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أرسلهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي شديد العذوبة قامع للظمإ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي بليغ الملوحة وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر وَحِجْراً مَحْجُوراً أي منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر، وامتزاجه به، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة.
لطيفة:
تلطف هنا المهايميّ في تأويل الآية، بمعنى يصلها بالآية قبلها، في أسلوب غريب. قال رحمه الله في قوله تعالى وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً: يؤثر في بواطنهم فيكون كَبِيراً يفوق ما يؤثر في الظواهر (و) إن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها؟ قيل: غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين. وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ هُوَ الَّذِي مَرَجَ أي جاور الْبَحْرَيْنِ اللذين بينهما غاية الخلاف إذ هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق، القاطعة عطش الطلب وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي مبالغ في الملوحة. وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدّا لأهل الذوق (و) أما لأهل النظر فقد جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي مانعا من الخلط. وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل (و) أما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي
لا جواب عنها، كما أنه جعل بينهما حِجْراً أي منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر مَحْجُوراً أي ممنوعا أن يمنع. وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج، قيل: ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب. وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالا، في قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٤]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً أي كما أخرج من المقدمات نتائج العلوم فَجَعَلَهُ أي البشر نَسَباً أي أصلا أو فرعا أو حاشية لقوم وَصِهْراً أي لآخرين يتعصب من أجل نسبه وصهره، فيعتقد باطلهم حقّا. كذلك أهل الشغب يتعصبون لآبائهم ومشايخهم وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً أي وهو وإن صعب إزالته، فإن ربك الذي أمرك بالجهاد الكبير، قدير على إزالته. كما قدر في النسب والصهر. فلا يبالي المؤمنون لهما. انتهى كلام المهايميّ رحمه الله.
وهو منزع في باب الإشارة غريب، أثرناه عنه للطافته. وأما معنى الآية في عظيم اقتداره سبحانه، حيث خلق البشر وقسمهم من نطفة واحدة قسمين ذوي نسب، أي ذكورا ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان وفلانة بنت فلان. وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن، فظاهر. ونظيره قوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة: ٣٩].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٥]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي معينا للشيطان على عصيان ربه. والمراد بالكافر الجنس، فهو إظهار في مقام الإضمار، لنفي كفرهم عليهم، ولرعاية الفواصل الكريمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة المفهوم من أَرْسَلْناكَ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي يتقرب إليه بالإيمان والطاعة. أي إلى رحمته أو جنابه. فاتخاذ السبيل، مراد به لازم معناه. لأن من سلك طريق شيء، قرب إليه، بل وصل.
قال الزمخشريّ: مثال إِلَّا مَنْ شاءَ والمراد: إلّا فعل من شاء. واستثنائه عن الأجر قول ذي شفقة عليك، قد سعى لك في تحصيل مال: (ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه) فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب. ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين:
إحداهما- قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله. كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثوابا، فإني أطلب الثواب.
والثانية- إظهار الشفقة البالغة، وأنك إن حفظت مالك اعتدّ بحفظك ثوابا ورضي به، كما يرضى المثاب بالثواب.
ولعمري إن رسول الله ﷺ كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. انتهى.
والاستثناء على هذا متصل ادعاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٨]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ أي في دفع شرهم ومكرهم وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي عليما لا يعزب عنه منها شيء، فيجزيهم عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٩]
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي من أيامه تعالى، أو أيام الخلق، قولان للسلف ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي علا فوقه علوّا يليق بجلاله المقدس. وتقدم تفسيره الرَّحْمنُ مرفوع على المدح. أي هو الرحمن، وهو في الحقيقة وصف آخر للحيّ، كما قرئ بالجرّ. وقيل: الموصول مبتدأ والرحمن خبره.
وقيل: الرحمن بدل من المستكن في اسْتَوى وقوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً فيه أوجه: منها (الباء) في (به) صلة (اسأل) ومنها أنها صلة (خبيرا) و (خبيرا) مفعول (اسأل) أي فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته. أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته.
وعليه ففائدة سؤاله هو تصديقه وتأييده.
قال الشهاب: ويصح تنازعهما- أي اسأل وخبيرا- في الباء. وفيه حينئذ نوع من البديع غريب يسمى المتجاذب. وهو كون لفظ واحد بين جملتين يصح جعله من الأولى والثانية. وقد ذكره السعد في أواخر (شرح المفتاح) وهذا مما غفل عنه أصحاب البديعيات. انتهى. ومنها أن الباء للتجريد. كقولك رأيت به أسدا. أي برؤيته. أي اسأل بسؤاله خبيرا والمعنى: إن سألته وجدته خبيرا.
قال في (الكشف) : وهو أوجه، ليكون كالتتميم لقوله الَّذِي خَلَقَ، إلخ فإنه لإثبات القدرة، مدمجا فيه العلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أي من المسمى به؟ لأنهم ما كانوا يعرفونه تعالى بهذا الاسم ولا يطلقونه عليه. أو الاستفهام للتعجب والاستغراب، تفننا في الإباء. أي وما هذه الأسماء والأعلام التي تصدعنا بها، وتقرع آذننا بالإذعان لها. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ أي الأمر بالسجود، المراد به الإذعان بالإيمان نُفُوراً أي استكبارا عن الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦١]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١)
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي نجوما أو هي البروج الاثنا عشر، التي ترى صورها في الأشكال الحاصلة من اجتماع بعض الكواكب على نسب خاصة، وتنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية. وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وهي الشمس وَقَمَراً مُنِيراً أي مضيئا بالليل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٢]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي ذوي عقبة يعقب كل منهما الآخر لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يتفكر فيستدل بذلك على عظم قدرته أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي يشكر على النعمة فيهما، من السكون بالليل والتصرف بالنهار. ويكون فيهما بما يقتضيه ما خلقا له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤)
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي هينين. أو مشيا هينا. أي بسكينة وتواضع. لا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون تبعا لهم أشرا وبطرا. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أي إذا خاطبهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله، بل قالوا كلاما فيه سلام من الإيذاء والإثم. سواء كان بصيغة السلام كقولهم (سلام عليكم)، أو غيرها مما فيه لطف في القول أو عفو أو صفح. كظم للغيظ.
دفعا بالتي هي أحسن وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً أي يكون لهم في الليل فضل صلاة وإنابة، كما قال تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: ١٧- ١٨]، وقوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السجدة: ١٦] الآية، وقوله أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩]، و (البيتوتة) لغة، الدخول في الليل. يقال: بات يفعل كذا يبيت ويبات، إذا فعله ليلا. وقد تستعار البيتوتة للكينونة مطلقا. إلا أن الحقيقة أولى، لكثرة ما ورد في معناها مما تلونا. ولذلك قال السلف: في الآية مدح قيام الليل والثناء على أهله.
وفي قوله لِرَبِّهِمْ إشارة إلى الإخلاص في أدائها وابتغاء وجهه الكريم. لما أن ذلك هو الذي يستتبع أثرها من العمل الصالح وفعل الخير وحفظ حدود الله وَقِياماً جمع قائم أو مصدر أجري مجراه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي هلاكا
دائما. والمراد من قولهم ذلك، فزعهم منها، ووجلهم الشديد المستتبع لتمسكهم بالتقوى، واعتصامهم بالسبب الأقوى. لا مجرد قلقلة اللسان، بلا تأثر من الجنان.
فإنهم لم يبتهلوا إلى المولى، ويتعوذوا به من سعيرها، إلا لعلمهم بسوء حالها.
ومقتضى العلم بالشيء إيفاؤه حقه والعمل بموجبه. ولذا قال تعالى إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي موضع استقرار وإقامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٧]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي لم يجاوزوا الحدّ في الإنفاق، ولم يضيّقوا على أنفسهم وأهليهم وما يعروهم بخلا ولؤما. بل كانوا في ذلك متوسطين، وخير الأمور أوسطها.
قال الزمخشريّ: وصفهم الله بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير. وبمثله أمر رسول الله ﷺ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: ٢٩]،
وروى الإمام أحمد «١» عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال «من فقه الرجل رفقه في معيشته»
وأخرج أيضا عن ابن مسعود «٢» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد»
وروى البزار عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ «ما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في الفقر، وما أحسن القصد في العبادة».
وعن الحسن: ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وسمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف. فقال: لا إسراف في الخير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
(١) أخرجه في المسند ٥/ ١٩٤.
(٢) أخرجه في المسند ١/ ٤٤٧، والحديث رقم ٤٢٦٩.
437
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا يشركون بعبادة ربهم أحدا، فالدعاء بمعنى العبادة وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها بمعنى حرّم قتلها. ومنه الوأد وغيره إِلَّا بِالْحَقِّ أي المزيل لحرمتها وعصمتها وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي ما ذكر من هذه القبائح العظام يَلْقَ أَثاماً أي يجد في الآخرة جزاء إثمه يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ذليلا محتقرا جامعا لعذابي الجسم والروح إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
قال الحافظ ابن كثير: وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل. ولا تعارض بين هذه وآية النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النساء: ٩٣] الآية، فإن هذه، وإن كانت مدنية، إلا أنها مطلقة. فتحمل على من لم يتب. لأن هذه مقيدة بالتوبة. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨ و ١١٦] الآية، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله ﷺ بصحة توبة القاتل. كما ذكر مقررا من قصة الذي «١» قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته، وغير ذلك من الأحاديث. ثم قال:
وفي معنى قوله تعالى: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قولان: أحدهما- أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية:
هم المؤمنون. كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن السيئات.
فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وكذا قال سعيد بن جبير:
أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين.
وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وكذا قال الحسن: أبدلهم بالعمل السيء العمل الصالح. وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وبالفجور إحصانا، وبالفكر إسلاما.
القول الثاني: إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح، حسنات. وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى، ندم واسترجع واستغفر. فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار. انتهى.
ولا بن القيم رحمه الله تعالى في (طريق الهجرتين) في هذا المقام بسط حسن وتناظر متقن، لا بأس بإيراده، لعظم فائدته.
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٥٤- باب حدثنا أبو اليمان، حديث رقم ١٦٢٩، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه مسلم في: التوبة، حديث رقم ٤٦.
438
قال رحمه الله (بعد شرحه
لحديث فرح الله بتوبة عبده ما مثاله
) : وهاهنا مسألة، هذا الموضع أخص المواضع ببيانها. وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحا، فهل تمحى تلك السيئات وتذهب، لا له ولا عليه، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما اختلف الناس فيه، من المفسرين وغيرهم، قديما وحديثا. فقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة قال ابن عطية: يجعل أعمالهم، بدل معاصيهم الأولى طاعة، فيكون ذلك سببا لرحمة الله إياهم، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن. ورد على من قال هو في يوم القيامة. قال: وقد ورد حديث في كتاب مسلم «١» من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة، يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين، بدل سيئاته حسنات. وذكره الترمذيّ والطبريّ. وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية.
قال ابن عطية: وهو معنى كرم العفو. انتهى.
وسيأتي ذكر الحديث والكلام عليه.
وقال الثعلبيّ: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ يبدلهم الله تقبيح أعمالهم في الشرك، محاسن الأعمال في الإسلام. فيبدلهم بالشرك وبقتل المؤمنين، قتل المشركين. وبالزنى، عفة وإحصانا.
وقال آخرون: يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم، حسنات يوم القيامة وأصل القولين، أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة؟
فمن قال إنه في الدنيا، قال هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها.
وهي حسنات، وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة تنقلب حسنة، بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها، فأما أن تنقلب حسنة فلا.
فإنها لم تكن طاعة، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب، فكيف تنقلب محبوبة مرضية؟
قالوا: وأيضا فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا [آل عمران: ١٩٣]، وقوله وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشورى: ٢٥]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:
(١) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٣١٤.
439
٥٣]، والقرآن مملوء من ذلك
وفي الصحيح «١» من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله ﷺ يقول في النجوى؟ قال:
سمعته يقول (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: ربّ! أعرف قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته).
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل.
فهذا الحديث المتفق عليه، والذي تضمن العناية بهذا العبد، إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة. ولم يقل له: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة. فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها.
وقد قال الله في حق الصادقين لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر: ٣٥]، فهولاء خيار الخلق. وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون. وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات، فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها. وأما السيئات، أن تلغى ويبطل أثرها. قالوا: وأيضا، فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب، لكان أحسن حالا من الذي لم يرتكب منها شيئا. وأكثر حسنات منه، لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات، ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه. وكيف يكون صاحب السيئات أرجح ممن لا سيئة له؟ قالوا: وأيضا فكما أن العبد، إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها، فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه، وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها. فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها، فإنها لا تنقلب حسنات فإن قلتم: وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته، لم ننازعكم في هذا. وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضي ثوابا وجوديا. واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت: هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة، بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة. وهذا إنما يكون في
(١) أخرجه البخاري في: المظالم والغصب، باب قول الله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، حديث رقم ١٢٠١.
وأخرجه مسلم في: التوبة، حديث رقم ٥٢.
440
السيئة المحققة. وهي التي قد فعلت ووقعت. فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة. قالوا: ولهذا قال تعالى: سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فأضاف السيئات إليهم، لكونهم باشروها واكتسبوها. ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم، لأنها من غير صنعهم وكسبهم، بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا: وأيضا، فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم. فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها، كما قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة: ٥٩]، وأما ما كان من غير الفاعل، فإنه يجعله من تبديله هو، كما قال تعالى: بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: ١٦]، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات، دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم، لا أنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم. وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.
قالوا: ويدل عليه ما
رواه مسلم «١» في صحيحه عن أبي ذر: قال رسول الله ﷺ «إني لأعلم آخر أهل جنة دخولا الجنة. وآخر أهل النار خروجا منها. رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه. فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة»
قالوا: وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة. فإنهم إنما سموا أبدالا لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة، بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التي عملوا حسنات.
قالوا: وأيضا فالجزاء من جنس العمل. فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة، بدلها الله من صحف الحفظة، حسنات جزاء وفاقا.
قالت الطائفة الأولى: كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر، على صحة قولكم، وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات، قد عذب عليها في النار، حتى كان آخر أهلها خروجا منها فهذا قد عوقب على سيئاته. فزال أثرها بالعقوبة. فبدل مكان كل سيئة منها حسنة. وهذا حكم غير ما نحن فيه. فإن الكلام في التائب من السيئات، لا فيمن مات مصرّا عليها غير تائب. فأين أحدهما من الآخر؟
(١) أخرجه في: كتاب الإيمان، حديث رقم ٣١٤.
441
قالوا: وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة، فحق.
وكذلك نقول: إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة، التي لولا الحسنة لحلت محلها.
قالوا: وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله، فهو حق بلا ريب. ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها، مقارنا لكسبهم إياها بفضله؟.
قالوا: وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم، وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف، لأنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها، فهذا لا دليل لكم. فإن الله خالق أفعال العباد. فهو المبدل للسيئات حسنات خلقا وتكوينا، وهم المبدلون لها فعلا وكسبا.
قالوا: وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم أبدلها الله كذلك في صحف الأعمال. فهذا حق، وبه نقول، وإنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف، بحسنات جعلت موضعها. فهذا منتهى إقدام الطائفتين، ومحط نظر الفريقين. وإليك أيها المنصف الحكم بينهما. فقد أدلى كل منهما بحجته، وأقام بينته. والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما. فأرشد الله من أعان على هدى، فنال به درجة الداعين إلى الله، القائمين ببيان حججه ودينه. أو عذر طالبا منفردا في طريق مطلبه، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق. فغاية أمنيته أن يخلي بينه وبين سيره، وألا يقطع عليه طريقه. فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه، فقد رضي بالدون. وحصل على صفقة المغبون.
ومن شمر إليه ورام ألا يعارضه معارض، ولا يتصدى له ممانع، فقد منى نفسه المحال، وإن صبر على لأوائها وشدتها، فهو والله الفوز المبين، والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
فالصواب، إن شاء الله في هذه المسألة، أن يقال: لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة. والحسنة إنما هي أمر وجوديّ يقتضي ثوابا ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن موافقة المنهيّ. وذلك الكف والحبس أمر وجوديّ وهو متعلق الثواب. وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلا، ولم يحدث به نفسه، فهذا كيف يثاب على تركه؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب، لكان
442
مثابا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ وهذا مما لا يتوهم. وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمرا وجوديا، فالتائب من الذنوب التي عملها، قد قارن كل ذنب منها، ندما عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب. وقد محت التوبة أثر الذنب، وخلفه هذا الندم والعزم، وهو حسنة، قد بدلت تلك السيئة حسنة. وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة. فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها، فتوبته منها حسنة حلت مكانها. فهذا معنى التبديل. لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة.
وقال بعض المفسرين في هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة. وعلى هذا، فقد زال بحمد الله الإشكال. واتضح الصواب. وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.
وأما حديث أبي ذر، وإن كان التبديل فيه في حق المصرّ الذي عذب على سيئاته، فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته. فإن الذنوب التي عذب عليها المصرّ، لما أزال أثرها بالعقوبة، بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها، مع العقوبة، لا يقتضي زوال أثره وتبديلها حسنات. فزوال أثرها بالتوبة النصوح، أعظم من زوال أثرها بالعقوبة. فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة، حسنات، فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات، أولى وأحرى. وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة. لأن التوبة فعل اختياريّ أتى به العبد طوعا ومحبة لله وفرقا منه، وأما العقوبة، فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره، بل يفعل الله. ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب، أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره.
انتهى كلامه رحمه الله. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧١]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١)
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أي ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح، فإنه بذلك تائب إلى الله متابا مرضيّا عنده، مكفرا
للخطايا، محصلا للثواب. قرره الزمخشريّ.
والآية صريحة في أن العمل الصالح والمثابرة عليه قولا وفعلا، شرط في صحة التوبة وقبولها وأنه لا اعتداد بها بدون العمل الصالح. فليتفطن لمعنى هذه الآية من يتوهم أن التوبة استغفار بلسان، أو تخشع بأركان، ولا عمل صالح له يرضي الرحمن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي لا يحضرون الباطل. يقال (شهد كذا) أي حضره. ف (الزور) مفعول به بتقدير مضاف أي محالّه. و (يشهدون) من الشهادة.
فالزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي شهادة الزور أو بالزور. وقد أشار الزمخشريّ للوجهين بقوله: يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطّائين، فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزها عن مخالطة الشر وأهله وصيانة لدينهم عما يثلمه. لأن مشاهدة الباطل شركة فيه. ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة (هم شركاء فاعلية في الإثم) لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة، ورغبتهم في النظر إليه. ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور. انتهى وهي الكذب متعمدا على غيره.
قال المبرد في (الكامل) : ويروى عن ابن عباس في هذه الآية وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور؟ فقال: لا، إنما آية شهادة الزور وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: ٣٦]، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أي اتفق مرورهم بأهل اللغو، وهو كل ما ينبغي ويطرح، مرّوا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم كقوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: ٥٥]، ويدخل في ذلك الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب، والكناية عما يستهجن التصريح به وذلك لأن (كراما) جمع كريم بمعنى مكرم لنفسه وغيره بالصفح ونحوه وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي
وعظوا بها وخوفوا لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي بل أكبّوا عليها سامعين بآذان واعية، مجتلين لها بعيون راعية. وإنما عبر بنفي الضد، تعريضا بما يفعله الكفرة والمنافقون من شدة الإعراض والإباء والنفرة، المستعار لها (الخرور) على تلك الحالة استعارة بديعة. لما فيها من إسقاطهم عن الإنسانية إلى البهيمية، بل إلى أدنى منها، لأنها تسمع وتبصر، وقد نفيا عنهم.
وفي التنزيل الكريم من توصيف المؤمنين بوجل قلوبهم لذكره تعالى، وزيادة إيمانهم إذا تلي عليهم الذكر الحكيم، آيات عديدة. ولذا قال قتادة فيهم: هم قوم عقلوا عن الله، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه ويرحم الله الحسن البصريّ: فقد قال:
كم من رجل يقرؤها، ويخر عليها أصم أعمى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٤]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي أولادا وحفدة، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس، لحيازتهم الفضائل واتصافهم بأحسن الشمائل. و (قرة العين) إما من القر وهو البرد. لأن دمعة السرور باردة، ولذا قيل في ضده (أسخن الله عينه) أو من القرار لعدم النظر لغيره، وجوز في (من) أن تكون بيانية وعليه قول كثير من أن فيه الدعاء بصلاح الزوجات. وقوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي أئمة. اكتفى بالواحد لدلالته على الجنس، مع رعاية الفواصل. أي يقتدى بنا في الخير. أو هداة دعاة إلى الخير. فإن ذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا. قال في (الإكليل) : في الآية طلب الإمامة في الخير. وفي (العجائب) للكرمانيّ: قال القفال وغيره من المفسرين: في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب. انتهى.
وكذا قال الزمخشريّ، عن بعضهم: إن فيه ما يدل على أن الرياسة في الدين، يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
445
أُوْلئِكَ إشارة إلى المتصفين بما ذكر. خبر ل (عباد الرحمن) أو مبتدأ خبره يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا أي على مشاق المجاهدات في الدعوة إلى الخيرات، والدأب على الخيرات، واجتناب المحظورات. و (الغرفة) الدرجة العالية من المنازل في الجنة وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً أي تحييهم الملائكة وتسلم عليهم. أو يحيّي بعضهم بعضا ويسلم عليه. والقصد أنهم يلقون فيها التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً لسلامة أهلها عن الآفات، وخلودهم أبد الآباد.
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ أي لا يبالي بكم ولا يبقيكم إلا إذا عبدتموه وآمنتم به وحده. فالدعاء بمعنى العبادة، كما مرّ.
ثم أشار إلى أنه كيف يمكن العبء بهم، أو يتصور، وقد وجد منهم ما ينافيه، بقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي بما جاءكم من الحق. أي وقد تلي عليكم سنة من كذب وأصرّ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (اللزام) مصدر مؤول باسم الفاعل أتى به للمبالغة. أي فسوف يكون هذا النبأ أو الذكر الحكيم، أو الأمر الجليل، أمر الرسالة، لازما وثابتا. يفتح من الحق رتاجا. وتدخل الناس في دين الله أفواجا. ولقد صدق الله وعده. ونصر عبده وأعز جنده. هزم الأحزاب وحده. نسأله تعالى خير ما عنده.
446

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الشعراء
وهي مكية، إلا قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء:
٢٢٤- ٢٢٧]، إلى آخرها. وقوله: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: ١٩٧]، فقد روي أنهما نزلتا بالمدينة، وكان شعراؤه صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، حسان وكعب بن مالك وابن رواحة، رضي الله عنهم.
وقال الداني: روي بسند صحيح أنها نزلت في شاعرين تهاجيا في الجاهلية، مع كل واحد منهم جماعة. فالسورة على هذا كلها مكية. انتهى.
وقال المهايميّ: سميت هذه السورة بها، لاختصاصها بتمييز الرسل عن الشعراء، لأن الشاعر، إن كان كاذبا فهو رئيس الغواة لا يتصور منه الهداية، وإن كان صادقا لا يتصور منه الافتراء على الله تعالى، وهذا من أعظم مقاصد القرآن، انتهى.
يشير إلى أن ذكر الشعراء فيها، لبيان أنهم في معزل عن الرسالة وتبرئة مقام الرسول صلوات الله عليه. عما افتروا عليه من أنه شاعر فالسورة على هذا كلها مكية، ردّا لفريتهم.
ولما كان لفظ (الشعراء) عامّا، جاز حمله على ما حكوه لشموله له، لا أنه نزل فيه خاصة دون غيره. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، إيضاح ذلك وهي مائتان وسبع وعشرون آية. قال ابن كثير: وقع في تفسير مالك المرويّ عنه، تسميتها (الجامعة).
447
Icon