ﰡ
سورة الفرقان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ:" وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ" إِلَى قَوْلِهِ:" وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَفِيهَا آيَاتٌ مَكِّيَّةٌ، قَوْلُهُ:" وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ" الْآيَاتِ. وَمَقْصُودُ هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرُ مَوْضِعِ عِظَمِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرُ مَطَاعِنِ الْكُفَّارِ فِي النبوة والرد على مقالاتهم «١»، فَمِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ افْتَرَاهُ مُحَمَّدٌ، وإنه ليس من عند الله.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) " تَبارَكَ" اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَ" تَقَدَّسَ" وَاحِدٌ، وَهُمَا لِلْعَظَمَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" تَبارَكَ" تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ. قَالَ: وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ الْكَثْرَةُ مِنْ كُلِّ ذِي خَيْرٍ. وَقِيلَ:" تَبارَكَ" تَعَالَى. وَقِيلَ: تَعَالَى عَطَاؤُهُ، أَيْ زَادَ وَكَثُرَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى دَامَ وَثَبَتَ إِنْعَامُهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ، مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ وَمِنْهُ بَرَكَ الْجَمَلُ وَالطَّيْرُ عَلَى الماء، أي دام
تَبَارَكْتَ لَا مُعْطٍ لِشَيْءٍ مَنَعْتَهُ | وَلَيْسَ لِمَا أَعْطَيْتَ يَا رَبِّ مَانِعُ |
تَبَارَكْتَ مَا تُقَدِّرُ يَقَعُ وَلَكَ الشُّكْرُ
قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى" الْمُبَارِكُ" وَذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِنَا. فَإِنْ كَانَ وَقَعَ اتِّفَاقٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ فَيُسَلَّمُ لِلْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ فَكَثِيرٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ اخْتُلِفَ فِي عَدِّهِ، كَالدَّهْرِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ هُنَالِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَ" الْفُرْقانَ" الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مُنَزَّلٍ، كَمَا قَالَ:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ" «٢». وَفِي تَسْمِيَتِهِ فُرْقَانًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- لِأَنَّهُ فَرَقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. الثَّانِي- لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا شَرَعَ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. (عَلى عَبْدِهِ) يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) اسْمُ" يكون" مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى" عَبْدِهِ" وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعُودُ عَلَى" الْفُرْقانَ". وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ" عَلَى عِبَادِهِ". وَيُقَالُ: أَنْذَرَ إِذَا خَوَّفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ" الْبَقَرَةِ" «٣». وَالنَّذِيرُ: الْمُحَذِّرُ مِنَ الْهَلَاكِ. الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّذِيرُ الْمُنْذِرُ، وَالنَّذِيرُ الْإِنْذَارُ. وَالْمُرَادُ بِ" الْعَالَمِينَ" هُنَا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ رَسُولًا إِلَيْهِمَا، وَنَذِيرًا لَهُمَا، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ عَامَّ الرِّسَالَةِ إِلَّا نُوحٌ فَإِنَّهُ عَمَّ بِرِسَالَتِهِ جَمِيعَ الْإِنْسِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، لِأَنَّهُ بَدَأَ بِهِ الْخَلْقَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عَظَّمَ تَعَالَى نَفْسَهُ. (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) نَزَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَفْسَهُ عَمَّا قَالَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوْلَادُ اللَّهِ، يَعْنِي بَنَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَعَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَمَّا قَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الملك) كما قال عبدة الأوثان.
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٩٥
(٣). راجع ج ١ ص ١٨٤ طبعه ثانية أو ثالثة.
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا | يَا عجبا للميت الناشر |
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَائِلُ منهم ذلك النضر بن الحرث، وَكَذَا كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرُ الْأَسَاطِيرِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مُؤْذِيًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (إِنْ هَذا) يَعْنِي الْقُرْآنَ. (إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) أَيْ كَذِبٌ اخْتَلَقَهُ. (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) يَعْنِي الْيَهُودَ، قاله مجاهد. وقال ابن عباس:
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٢٩ طبعه أولى أو ثانية.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٧ الى ٨]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨)
قَوْلُهُ تعالى: (وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ). فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا" ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ مِنْ مَطَاعِنِهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي" قالُوا" لِقُرَيْشٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسٌ مَشْهُورٌ، وَقَدْ تقدم
. وَذِكْرُ السُّوقِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، ذَكَرَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ. وَتِجَارَةُ الصَّحَابَةِ فِيهَا مَعْرُوفَةٌ، وَخَاصَّةً الْمُهَاجِرِينَ، كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ «٣» بِالْأَسْوَاقِ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ تعالى: (لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) أَيْ هَلَّا. (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) جواب الاستفهام. (أَوْ يُلْقى) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَعْنَى: أَوْ هَلَّا يُلْقَى (إِلَيْهِ كَنْزٌ) (أَوْ) هَلَّا (تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) " يَأْكُلُ" بِالْيَاءِ قَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ. وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ بِالنُّونِ، وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ تُؤَدِّيَانِ عَنْ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بالياء أبين، لأنه
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٩٩ طبعه أولى أو ثانية.
(٣). الصفق: التبايع.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٩ الى ١٠]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أَيْ ضَرَبُوا لَكَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى تَكْذِيبِكَ. (فَضَلُّوا) عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَعَنْ بُلُوغِ مَا أَرَادُوا. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) إِلَى تَصْحِيحِ مَا قَالُوهُ فِيكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ) شَرْطٌ وَمُجَازَاةٌ، وَلَمْ يُدْغَمْ" جَعَلَ لَكَ" لِأَنَّ الْكَلِمَتَيْنِ مُنْفَصِلَتَانِ، وَيَجُوزُ الْإِدْغَامُ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. (وَيَجْعَلْ لَكَ) في موضوع جَزْمٍ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ" جَعَلَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ مَقْطُوعًا مِنَ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ. وَيُرْوَى عَنْ عَاصِمٍ أَيْضًا:" وَيَجْعَلُ لَكَ" بِالرَّفْعِ، أَيْ وَسَيَجْعَلُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ قُصُورًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَرَى الْبَيْتَ مِنْ حِجَارَةٍ قَصْرًا كَائِنًا مَا كَانَ. وَالْقَصْرُ فِي اللُّغَةِ الْحَبْسُ، وَسُمِّيَ الْقَصْرُ قَصْرًا لِأَنَّ مَنْ فِيهِ مَقْصُورٌ عَنْ أَنْ يُوصَلَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْعَرَبُ تُسَمِّي بُيُوتَ الطِّينِ الْقَصْرَ. وَمَا يُتَّخَذُ مِنَ الصُّوفِ وَالشَّعْرِ الْبَيْتَ. حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ شِئْتَ أَنْ نُعْطِيَكَ خَزَائِنَ الدُّنْيَا وَمَفَاتِيحَهَا وَلَمْ يُعْطَ ذَلِكَ مَنْ قَبْلَكَ وَلَا يُعْطَاهُ أَحَدٌ بَعْدَكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَاقِصِكَ فِي الْآخِرَةِ شَيْئًا، وَإِنْ شِئْتَ جَمَعْنَا لَكَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ:" يُجْمَعُ ذَلِكَ لِي فِي الْآخِرَةِ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً"
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ١١ الى ١٤]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) يُرِيدُ جَهَنَّمَ تَتَلَظَّى عَلَيْهِمْ. (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أَيْ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) قِيلَ: الْمَعْنَى إِذَا رَأَتْهُمْ جَهَنَّمُ سَمِعُوا لَهَا صَوْتَ التَّغَيُّظِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِذَا رَأَتْهُمْ خُزَّانُهَا سَمِعُوا لَهُمْ تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا حِرْصًا عَلَى عَذَابِهِمْ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَلَهَا عَيْنَانِ؟ قَالَ:" أَمَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:" إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً" يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ لَهُ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ فَيَقُولُ وُكِّلْتُ بِكُلِّ مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَلَهُوَ أَبْصَرُ بِهِمْ مِنَ الطَّيْرِ بِحَبِّ السِّمْسِمِ فَيَلْتَقِطُهُ" فِي رِوَايَةٍ" فَيَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَيَلْتَقِطُ الْكُفَّارَ لَقْطَ الطَّائِرِ حَبَّ
(٢). في ك: ممالك.
(٣). في ك: أصاب الله لك
ورأيت زوجك في الورى «١» | مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا |
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا | وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُقَرَّنِينَا «٥» |
(٢). راجع ج ٩ ص ٩٠ طبعه أولى أو ثانية.
(٣). الزج (بالضم): الحديدة التي في أسفل الرمح.
(٤). راجع ج ٩ ٣٨٤ طبعه أولى أو ثانية.
(٥). الرواية في البيت:" مصفدينا".
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ١٥ الى ١٦]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
قوله تعالى: (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ). إِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ" أَذلِكَ خَيْرٌ" وَلَا خَيْرَ فِي النَّارِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ سِيبَوَيْهِ حَكَى عَنِ الْعَرَبِ: الشَّقَاءُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ السَّعَادَةُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ السَّعَادَةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ أَفْعَلُ مِنْكَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ: عِنْدَهُ خَيْرٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ «١»:
فشركما لخير كما الْفِدَاءُ
قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَدْ دَخَلَتَا فِي بَابِ الْمَنَازِلِ، فَقَالَ ذَلِكَ لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَقِيلَ: هُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَوْلِهِ:" تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ" الْآيَةَ. وَقِيلَ: هُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَوْلِهِ:" أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها". وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى عِلْمِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ فِي النَّارِ خَيْرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أَيْ مِنَ النَّعِيمِ. (خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا) قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَسَأَلُوهُ ذَلِكَ الْوَعْدَ فَقَالُوا:" رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ" «٢». وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْأَلُ لهم
أتهجو ولست له بكف
(٢). راجع ج ٤ ص ٣١٧. [..... ]
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ١٧ الى ١٩]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ الدُّورِيِّ" يَحْشُرُهُمْ" بِالْيَاءِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ:" كانَ عَلى رَبِّكَ" وَفِي آخِرِهِ" أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ". الْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ. (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ. الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ: الْأَصْنَامُ. (فَيَقُولُ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالْيَاءِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ. (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ لِلْكُفَّارِ. (قالُوا سُبْحانَكَ) أَيْ قَالَ الْمَعْبُودُونَ مِنْ دُونَ اللَّهِ سُبْحَانَكَ، أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ (مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ). فَإِنْ قِيلَ: «٢» فَإِنْ كَانَتِ الْأَصْنَامُ الَّتِي تُعْبَدُ تُحْشَرُ فَكَيْفَ تَنْطِقُ وَهِيَ جَمَادٌ؟ قِيلَ لَهُ: يُنْطِقُهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُنْطِقُ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ:" أَنْ نُتَّخَذَ" بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ النَّحْوِيُّونَ، فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وعيسى بن عمر:
(٢). في ط: فإذا.
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي | رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ |
إِذْ أُبَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْغَ | يِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مثبور |
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٢٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ قالوا:" مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفاقة وقالوا:" مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ"
(٢). راجع ج ١١ ص ١٣٥.
(٣). في ك: ليعطيك، ليعطيك صلة.
(٤). راجع ج ٦ ص ٢٥٠.
وَمَشَّى بِأَعْطَانِ الْمَبَاءَةِ وَابْتَغَى | قَلَائِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ «١» |
مِنْهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الْجَوِّ «٢» ضَامِزَةً | وَلَا تُمَشِّي بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ |
(٢). الجو: البر الواسع. وضامزة: ساكنة، وكل ساكت فهو ضامز. والاراجيل: جمع أرجال كأناعيم جمع أنعام، وأرجال جمع رجل. يصف الشاعر أسدا بأن الأسود والرجال تخافه، فالاسود ساكنة من هيبته والرجال ممتنعة عن المشي بواديه.
(٣). راجع ج ١١ ص ٣٢٠.
(٤). راجع ج ٨ ص ١٥.
(٥). راجع ج ١٠ ص ١٠٨.
(٦). راجع ج ٣ ص ١٨٤. [..... ]
تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنِ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا. فَحَقٌّ عَلَى مَنِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالسُّوقِ أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِهِ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ مَحَلَّ الشَّيْطَانِ وَمَحَلَّ جُنُودِهِ، وَإِنَّهُ إِنْ أَقَامَ هُنَاكَ هَلَكَ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ اقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ ضَرُورَتِهِ، وَتَحَرَّزَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ وبليته.
(٢). الحديث رواه الطبراني عن أبى أمامة والخطيب عن أبى هريرة وضعفه السيوطي.
(٣). القهرمان: هو كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده والقائم بأمور الرجل، بلغة الفرس.
(٤). سواه: أي سوى الله تعالى.
. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً" أَيْ بِكُلِّ امْرِئٍ. وَبِمَنْ يَصْبِرُ أَوْ يَجْزَعُ، وَمَنْ يُؤْمِنُ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ، وَبِمَنْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَمَنْ لَا يُؤَدِّي. وَقِيلَ:" أَتَصْبِرُونَ" أَيِ اصْبِرُوا. مِثْلُ" فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" «٣» أَيِ انْتَهُوا، فَهُوَ أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بالصبر
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا) يُرِيدُ لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ وَلِقَاءَ الله، أي لا يؤمنون بذلك. قال:
إذا لسعت النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا | وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلِ «٤» |
لَعَمْرُكَ مَا أَرْجُو إِذَا كُنْتُ مُسْلِمًا | عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي «٥» |
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا | شفاعة جده يوم الحساب |
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٥٥.
(٣). راجع ج ٦ ص ٢٨٥ فما بعد.
(٤). البيت لابي ذؤيب وتقدم شرحه في ج ٨ ص ٣١١ طبعه أولى أو ثانية.
(٥). البيت من قصيده لخبيب بن عدى قالها حين بلغه أن الكفار قد اجتمعوا لصلبه.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ قَصَدْنَا فِي ذَلِكَ إلى ما كان يعمله المجرمين مِنْ عَمَلِ بِرٍّ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ. يُقَالُ: قَدِمَ فُلَانٌ إِلَى أَمْرِ كَذَا أَيْ قَصَدَهُ، وَقَالَ مجاهد:" قَدِمْنا" أَيْ عَمَدْنَا. وَقَالَ الرَّاجِزُ:
وَقَدِمَ الْخَوَارِجُ الضُّلَّالُ | ألى عباد ربهم فقالوا |
(٢). قال النحاس: والتقدير عنده هبي.
(٣). قوله" خلفها" أي خلف الناقة. والرجع: رجع قوائمها. والوقع: وقع خفافها. والمنين: الغبار الدقيق الذي تثيره. [..... ]
(٤). الدقيق: ما دق من التراب، والواحد منه الدقى كما تقول الجلى والجلل.
(٥). كذا في الأصل، وفى" روح المعاني": يعلى بن عبيد.
(٦). راجع ص ٩ من هذا الجزء.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أَيْ وَاذْكُرْ يَوْمَ تَشَقَّقَ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو" تَشَقَّقُ" بِتَخْفِيفِ الشِّينِ وَأَصْلُهُ تَتَشَقَّقُ بِتَاءَيْنِ فخذوا الْأُولَى تَخْفِيفًا، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. الْبَاقُونَ" تَشَّقَّقُ" بِتَشْدِيدِ الشِّينِ عَلَى الْإِدْغَامِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَكَذَلِكَ فِي" ق" «١»." بِالْغَمَامِ" أَيْ عَنِ الْغَمَامِ. والباء وعن يَتَعَاقَبَانِ، كَمَا تَقُولُ: رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ، وَعَنِ الْقَوْسِ. روى أن السماء تتشقق عن سحاب
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) الْمَاضِي عَضِضْتُ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَضَضْتُ بِفَتْحِ الضَّادِ الْأُولَى. وَجَاءَ التَّوْقِيفُ عَنْ أَهْلِ التفسير، منهم ابن عباس وسعيد ابن الْمُسَيِّبِ أَنَّ الظَّالِمَ هَاهُنَا يُرَادُ بِهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأَنَّ خَلِيلَهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَعُقْبَةُ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: أَأُقْتَلُ دُونَهُمْ؟ فَقَالَ، نَعَمْ، بِكُفْرِكَ وَعُتُوِّكَ. فَقَالَ: مَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ فَقَالَ: النَّارُ. فَقَامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَتَلَهُ. وَأُمَيَّةُ قَتَلَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ هَذَا مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله على وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ خَبَّرَ عَنْهُمَا بِهَذَا فَقُتِلَا عَلَى الْكُفْرِ. وَلَمْ يُسَمَّيَا فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْفَائِدَةِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا سَبِيلُ كُلِّ ظالم فبل مِنْ غَيْرِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: وَكَانَ عُقْبَةُ قَدْ هَمَّ بِالْإِسْلَامِ فَمَنَعَهُ مِنْهُ أُبَيِّ بْنُ خَلَفٍ وَكَانَا خِدْنَيْنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَهُمَا جَمِيعًا: قَتَلَ عُقْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا، وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ فِي الْمُبَارَزَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ، وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ:" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ" هُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ وَيُرْوَى لِأُبَيِّ بن خلف أخ أُمَيَّةَ، وَكَانَ قَدْ صَنَعَ وَلِيمَةً فَدَعَا إِلَيْهَا قُرَيْشًا، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ. وَكَرِهَ عُقْبَةُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ طَعَامِهِ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ أَحَدٌ فَأَسْلَمَ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ، فَعَاتَبَهُ خَلِيلُهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، أَوْ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَكَانَ غَائِبًا. فَقَالَ عُقْبَةُ: رَأَيْتُ عَظِيمًا أَلَّا يَحْضُرَ طَعَامِي رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ. فَقَالَ لَهُ خَلِيلُهُ: لَا أَرْضَى حَتَّى تَرْجِعَ وَتَبْصُقَ فِي وَجْهِهِ وَتَطَأَ عُنُقَهُ وَتَقُولَ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَفَعَلَ
(٢). راجع ج ٥ ص ٤٠٠ طبعه أولى أو ثانية.
وَصَاحِبْ خِيَارَ النَّاسِ تَنْجُ مُسَلَّمَا... وَصَاحِبْ شِرَارَ النَّاسِ يَوْمًا فَتَنْدَمَا
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَشْكُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أَيْ قَالُوا فِيهِ غَيْرَ الْحَقِّ مِنْ أَنَّهُ سِحْرٌ وَشِعْرٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَقِيلَ: مَعْنَى" مَهْجُوراً" أَيْ مَتْرُوكًا، فَعَزَّاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسَلَّاهُ بِقَوْلِهِ: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أَيْ كَمَا جَعَلْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ عَدُوًّا مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ- وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- فَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ، فَاصْبِرْ لِأَمْرِي كَمَا صَبَرُوا، فَإِنِّي هَادِيكَ وَنَاصِرُكَ عَلَى كُلِّ مَنْ نَاوَأَكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ" يَا رَبِّ" إِنَّمَا يَقُولُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ هَجَرُوا الْقُرْآنَ وَهَجَرُونِي وَكَذَّبُونِي. وَقَالَ أنس قال النبي صلى الله غلية وَسَلَّمَ:" مَنْ «٣» تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّقَ مُصْحَفَهُ لَمْ يتعاهد ولم ينظر فيه جاء
(٢). الخبيص: حلواء تعمل من التمر والسمن.
(٣). في الأصل:" من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا... " وتصحيح هذا الأثر من روح المعاني والبيضاوي والشهاب على أنهم تكلموا في صحته إذ في سنده أبو هدبة وهو كذاب.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) اخْتُلِفَ فِي قَائِلِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي- أَنَّهُمُ الْيَهُودُ حِينَ رَأَوْا نُزُولَ الْقُرْآنِ مُفَرَّقًا قَالُوا: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى وَالزَّبُورُ" عَلَى دَاوُدَ" «١». فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" كَذلِكَ" أَيْ فَعَلْنَا" لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ" نُقَوِّي بِهِ قَلْبَكَ فَتَعِيهِ وَتَحْمِلُهُ، لِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ أُنْزِلَتْ عَلَى أَنْبِيَاءَ يَكْتُبُونَ وَيَقْرَءُونَ، وَالْقُرْآنُ أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ، وَلِأَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَمِنْهُ مَا هُوَ جَوَابٌ لِمَنْ سَأَلَ عَنْ أُمُورٍ، فَفَرَّقْنَاهُ لِيَكُونَ أَوْعَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَيْسَرَ عَلَى الْعَامِلِ بِهِ، فَكَانَ كُلَّمَا نَزَلَ وَحْيٌ جَدِيدٌ زَادَهُ قُوَّةَ قَلْبٍ. قُلْتُ: فَإِنْ قِيلَ هَلَّا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَحَفِظَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي قُدْرَتِهِ؟. قِيلَ: فِي قُدْرَةِ اللَّهِ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ وَلَا مُعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ" كَذلِكَ" مِنْ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ، أَيْ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَيَتِمُّ الْوَقْفُ عَلَى" كَذلِكَ" ثُمَّ يَبْتَدِئُ" لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" جُمْلَةً واحِدَةً" ثُمَّ يَبْتَدِئُ" كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ" عَلَى مَعْنَى أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ كَذَلِكَ متفرقا لنثبت به فؤادك. قال
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٢٣.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٣٤]
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) تَقَدَّمَ فِي" سُبْحَانَ" «٢». (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) لِأَنَّهُمْ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْكُفَّارُ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ شَرُّ الْخَلْقِ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. (وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أَيْ دِينًا وَطَرِيقًا. وَنَظْمُ الْآيَةِ: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ مَنْصُورٌ عَلَيْهِمْ بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ، وَهُمْ مَحْشُورُونَ على وجوههم.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يُرِيدُ التَّوْرَاةَ. (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) تَقَدَّمَ فِي" طه" «٣» (فَقُلْنَا اذْهَبا) الْخِطَابُ لَهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا أُمِرَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَابِ وَحْدَهُ فِي الْمَعْنَى. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ:" نَسِيا حُوتَهُما" «٤». وَقَوْلُهُ:" يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ" «٥» وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ أَحَدِهِمَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أن يجترئ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ عز وجل:" فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى. قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى. قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى. فَأْتِياهُ فَقُولا
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٣٣.
(٣). راجع ج ١١ ص ١٩١ وص ١٢.
(٤). راجع ج ١٧ ص ١٦١.
(٥). راجع ج ١٠ ص ٣٣٣.
وَنَظِيرُ هَذَا" وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ". وَقَدْ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ" ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا" قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:" اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى " لَا ينافي هذا، لأنهما إذا كان مَأْمُورَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أُمِرَ مُوسَى أَوَّلًا، ثُمَّ لَمَّا قَالَ:" وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي" قَالَ" اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ". (إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يُرِيدُ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَالْقِبْطَ. (فَدَمَّرْناهُمْ) فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ فَكَذَّبُوهُمَا (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِهْلَاكًا.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٣٧]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَوْمَ نُوحٍ) فِي نَصْبِ" قَوْمَ" أَرْبَعَةُ أقوال: العطف على الهاء والميم في" فَدَمَّرْناهُمْ". الثَّانِي- بِمَعْنَى اذْكُرْ. الثَّالِثُ- بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَغْرَقْنَا قَوْمَ نُوحٍ أَغْرَقْنَاهُمْ. الرَّابِعُ- إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِ" أَغْرَقْناهُمْ" قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ قَالَ: لِأَنَّ" أَغْرَقْنَا" لَيْسَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَيَعْمَلُ فِي الْمُضْمَرِ وَفِي" قَوْمَ نُوحٍ". (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) ذِكْرُ الْجِنْسِ وَالْمُرَادُ نُوحٌ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ إِلَّا نُوحٌ وَحْدَهُ، فَنُوحٌ إِنَّمَا بُعِثَ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، وَبِالْإِيمَانِ بِمَا يُنَزِّلُ اللَّهُ، فَلَمَّا كَذَّبُوهُ كَانَ فِي ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِكُلِّ مَنْ بُعِثَ بَعْدَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ الرُّسُلِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ، وَلِأَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا يُصَدِّقُ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَمَنْ كَذَّبَ مِنْهُمْ نَبِيًّا فَقَدْ كَذَّبَ كُلَّ مَنْ صَدَّقَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ. (أَغْرَقْناهُمْ) أَيْ بِالطُّوفَانِ. عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" هُودٍ". (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أَيْ عَلَامَةً ظاهرة على قدرتنا (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) أي المشركين مِنْ قَوْمِ نُوحٍ (عَذاباً أَلِيماً) أَيْ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: أَيْ هَذِهِ سَبِيلِي فِي كُلِّ ظالم.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٣٨]
وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨)
أمي شآمية إذا لا عراق لنا | قوما نودهم إذ قومنا شوس |
تَنَابِلَةٌ يَحْفِرُونَ الرِّسَاسَا | يَعْنِي آبَارَ الْمَعَادِنِ |
(٢). راجع ج ١٥ ص ١٧ فما بعد.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٧٥.
يعني آبار المعادن. قال ابن عباس : سألت كعبا عن أصحاب الرس قال : صاحب " يس " الذي قال :" يا قوم اتبعوا المرسلين " [ يس : ٢٠ ] قتله قومه ورسوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها، وكذا قال مقاتل. السدي : هم أصحاب قصة " يس " أهل أنطاكية، والرس : بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل " يس " فنسبوا إليها. وقال علي رضي الله عنه : هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم، وكان من ولد يهوذا، فيبست الشجرة فقتلوه ورسوه في بئر، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم. وقال ابن عباس : هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا. وقال وهب بن منبه : كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيبا فكذبوه وآذوه، وتمادوا على كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم ؛ فخسف الله بهم فهلكوا جميعا. وقال قتادة : أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمتان أرسل الله إليهما شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين. قال قتادة : والرس قرية بفلج اليمامة. وقال عكرمة : هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا. دليله ما روى محمد ابن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود فحفر أهل القرية بئرا، وألقوا فيها نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه، فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين، ثم هب فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي ). قال النبي صلى الله عليه وسلم :( إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة ) وذكر هذا الخبر المهدوي والثعلبي، واللفظ للثعلبي، وقال : هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس ؛ لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم. وقال الكلبي : أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه. وهم أول من عمل نساؤهم السحق. ذكره الماوردي. وقيل : هم أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين، وسيأتي. وقيل : هم بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في " الحج " في قوله :" وبئر معطلة " [ الحج : ٤٥ ] على ما تقدم٢. وفي الصحاح : والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود. وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق، وكان نساؤهم كلهم سحاقات. وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق ). وقيل : الرس ماء ونخل لبني أسد. وقيل : الثلج المتراكم في الجبال. ذكره القشيري. وما ذكرناه أولا هو المعروف، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر. قال أبو عبيدة : الرس كل ركية لم تطو، وجمعها رِساس. قال الشاعر :
وهم سائرون إلى أرضهم | فيا ليتهم يحفرون الرِّساسا |
بكرن بكورا واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ | فهن لوادي الرَّسِّ كاليدِ للفَمِ |
٢ راجع ج ١٢ ص ٧٥ طبعة أولى أو ثانية..
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٣٩]
وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) قَالَ الزَّجَّاجُ. أَيْ وَأَنْذَرْنَا كُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَبَيَّنَّا لَهُمُ الْحُجَّةَ، وَلَمْ نَضْرِبْ لَهُمُ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ كَمَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى تَقْدِيرِ ذَكَرْنَا كُلًّا وَنَحْوَهُ، لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ تَذْكِيرٌ وَوَعْظٌ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أَيْ أَهْلَكْنَا بِالْعَذَابِ. وَتَبَّرْتُ الشَّيْءَ كَسَرْتُهُ. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ وَالْأَخْفَشُ: دَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا. تبدل التاء والباء من الدال والميم.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٤٠]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ) يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَالْقَرْيَةُ قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ. وَ (مَطَرَ السَّوْءِ) الْحِجَارَةُ الَّتِي أُمْطِرُوا بِهَا. (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) أَيْ فِي أَسْفَارِهِمْ لِيَعْتَبِرُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قُرَيْشٌ فِي تِجَارَتِهَا «١» إِلَى الشَّامِ تَمُرُّ بِمَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
"»
وَقَالَ:" وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ" وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣». (بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً) أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى" يَرْجُونَ" يَخَافُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: بل كانوا لا يرجون ثواب الآخرة.
(٢). راجع ج ١٥ ص ١٢٠.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٤٥.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) جَوَابُ" إِذا"" إِنْ يَتَّخِذُونَكَ" لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَتَّخِذُونَكَ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ قَالُوا أَوْ يَقُولُونَ:" أَهَذَا الَّذِي" وَقَوْلُهُ:" إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً" كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ. وَنَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ كَانَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَهْزِئًا: (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ بَعَثَهُ اللَّهُ." رَسُولًا" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ مُرْسَلًا." أَهذَا" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَ" الَّذِي" خَبَرُهُ." رَسُولًا" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَ" بَعَثَ" فِي صِلَةِ" الَّذِي" وَاسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رُفِعَ بِ" بَعَثَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، لِأَنَّ مَعْنَى" بَعَثَ" أَرْسَلَ وَيَكُونُ مَعْنَى" رَسُولًا" رِسَالَةً عَلَى هَذَا. وَالْأَلِفُ لِلِاسْتِفْهَامِ عَلَى مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالِاحْتِقَارِ. (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) أَيْ قَالُوا قَدْ كَادَ أَنْ يَصْرِفَنَا. (عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) أَيْ حَبَسْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى عبادتها. قال الله تعالى: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا)
يُرِيدُ مَنْ أَضَلُّ دِينًا أَهُمْ أَمْ محمد، وقد رأوه في يوم بدر.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٤٣]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) عَجَّبَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِضْمَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى حَجَرٍ يَعْبُدُهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا هَوِيَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ شَيْئًا عَبَدَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحْسَنَ مِنْهُ تَرَكَ الْأَوَّلَ وَعَبَدَ الْأَحْسَنَ، فَعَلَى هَذَا يَعْنِي: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ بِهَوَاهُ، فَحُذِفَ الْجَارُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَوَى إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ثُمَّ تَلَا هذه الآية.
لعمر أبيها لو تبَدَّتْ لناسك | قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك |
لصلَّى لها قبل الصلاةِ لربه | ولارْتَدَّ في الدنيا بأعمال فاتك |
لَعَمْرُ أَبِيهَا لَوْ تَبَدَّتْ لِنَاسِكِ | قَدِ اعْتَزَلَ الدُّنْيَا بِإِحْدَى الْمَنَاسِكِ |
لَصَلَّى لَهَا قبل الصلاة لربه | ولا ارتد فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَالِ فَاتِكِ |
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٤٤]
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) وَلَمْ يَقُلْ أَنَّهُمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ. وَذَمَّهُمْ عز وجل بِهَذَا." أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ" سَمَاعَ قَبُولٍ أَوْ يُفَكِّرُونَ فِيمَا تَقُولُ فَيَعْقِلُونَهُ، أَيْ أهم بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَسْمَعُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا يَسْمَعُونَ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا، وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ. وَقِيلَ:" أَمْ" بِمَعْنَى بَلْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) أَيْ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يُفَكِّرُونَ فِي الْآخِرَةِ. (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) إِذْ لَا حِسَابَ وَلَا عِقَابَ عَلَى الْأَنْعَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَهَائِمُ تَعْرِفُ رَبَّهَا وَتَهْتَدِي إِلَى مَرَاعِيهَا وَتَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا الَّتِي تَعْقِلُهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقَادُونَ وَلَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْبَهَائِمَ إِنْ لَمْ تَعْقِلْ صِحَّةَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ لَمْ تَعْتَقِدْ بُطْلَانَ ذَلِكَ أَيْضًا.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٤٥ الى ٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦)
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٤٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)
وفيه أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) يَعْنِي سِتْرًا لِلْخَلْقِ يَقُومُ مَقَامَ اللِّبَاسِ فِي سَتْرِ الْبَدَنِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وُصِفَ اللَّيْلُ بِاللِّبَاسِ تَشْبِيهًا مِنْ حَيْثُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ وَيَغْشَاهَا. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَنَّ بَعْضُ الْغَفَلَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عُرْيَانًا فِي الظَّلَامِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ اللَّيْلَ لِبَاسٌ. وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ عُرْيَانًا إِذَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ. وَالسَّتْرُ فِي [الصَّلَاةِ «١»] عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا لَيْسَتْ لِأَجْلِ نَظَرِ النَّاسِ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِطْنَابِ فِي هَذَا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالنَّوْمَ سُباتاً) أَيْ رَاحَةً لِأَبْدَانِكُمْ بِانْقِطَاعِكُمْ عَنِ الْأَشْغَالِ. وَأَصْلُ السُّبَاتِ مِنَ التَّمَدُّدِ. يُقَالُ: سَبَتَتِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا أَيْ نَقَضَتْهُ وَأَرْسَلَتْهُ. وَرَجُلٌ مَسْبُوتٌ أَيْ مَمْدُودُ الْخِلْقَةِ. وَقِيلَ: لِلنَّوْمِ سُبَاتٌ لِأَنَّهُ بِالتَّمَدُّدِ يَكُونُ، وَفِي التَّمَدُّدِ مَعْنَى الراحة. وقيل:
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٤٨]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) تَقَدَّمَ فِي" الْأَعْرَافِ" «١» مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً). فِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَاءً طَهُوراً" يُتَطَهَّرُ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: وَضُوءٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ. وَكُلُّ طَهُورٍ طَاهِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ طَاهِرٍ طَهُورًا. فَالطَّهُورُ (بِفَتْحِ الطَّاءِ) الِاسْمُ. وَكَذَلِكَ الْوَضُوءُ وَالْوَقُودُ. وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الطَّهُورَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ فِي طَاهِرٍ، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ طاهرا مطهرا. وإلى هذا ذهب الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: إِنَّ" طَهُوراً" بِمَعْنَى طَاهِرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً" يعنى طاهرا.
... رِيقُهُنَّ طَهُورُ
فَإِنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ الرِّيقِ بِالطَّهُورِيَّةِ لِعُذُوبَتِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْقُلُوبِ، وَطِيبِهِ فِي النُّفُوسِ، وَسُكُونِ غَلِيلِ الْمُحِبِّ بِرَشْفِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ الْمَاءُ الطَّهُورُ، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشِّعْرِيَّةِ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَجَاوَزُونَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَدَّ الصِّدْقِ إِلَى الْكَذِبِ، وَيَسْتَرْسِلُونَ فِي الْقَوْلِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَرُبَّمَا وَقَعُوا فِي الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَلَوْ لَمْ تُلَامِسْ صَفْحَةُ الْأَرْضِ رِجْلَهَا لَمَا كُنْتُ أَدْرِي عِلَّةً لِلتَّيَمُّمِ وَهَذَا كُفْرٌ صُرَاحٌ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا مُنْتَهَى لُبَابِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ، إِلَّا أَنِّي تَأَمَّلْتُ مِنْ طَرِيقِ الْعَرَبِيَّةِ فوجدت فيه
إلى رجح الأكفال هيف خصورها
وامرأة رجاح وراجح، ثقيلة العجيزة، من نسوة رجح.
ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا «١»
وَقَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْقَاصِرِ كما قال الشاعر:
نؤوم الضحا لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلٍ «٢»
وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ طَهُورِيَّةُ الماء لغيره من الحسن نَظَافَةً وَمِنَ الشَّرْعِ طَهَارَةً، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ". وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَنَّ وَصْفَ طَهُورٍ يختص بالماء ولا يَتَعَدَّى إِلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ، فَكَانَ اقْتِصَارُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ أَدَلَّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهِّرُ، وَقَدْ يَأْتِي فَعُولٌ لِوَجْهٍ آخَرَ لَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَهُوَ العبارة به الْآلَةِ لِلْفِعْلِ لَا عَنِ الْفِعْلِ كَقَوْلِنَا: وَقُودٌ وَسَحُورٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْحَطَبِ والطعم الْمُتَسَحَّرُ بِهِ، فَوَصْفُ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ (بِفَتْحِ الطَّاءِ) أَيْضًا يَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْآلَةِ الَّتِي يُتَطَهَّرُ بِهَا. فَإِذَا ضُمَّتِ الْفَاءُ فِي الْوَقُودِ وَالسَّحُورِ وَالطَّهُورِ عَادَ إِلَى الْفِعْلِ وَكَانَ خَبَرًا عَنْهُ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اسْمَ الْفَعُولِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ) يَكُونُ بِنَاءً لِلْمُبَالَغَةِ وَيَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْآلَةِ، وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنْ قَصُرَتْ أَشْدَاقُهَا عَنْ لَوْكِهِ، وَبَعْدَ هَذَا يَقِفُ الْبَيَانُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ وَعَنِ الْآلَةِ عَلَى الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً". وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" يَحْتَمِلُ الْمُبَالَغَةَ وَيَحْتَمِلُ الْعِبَارَةَ بِهِ عَنِ الْآلَةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِعُلَمَائِنَا، لَكِنْ يَبْقَى قول:" لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ" نص فِي أَنَّ فِعْلَهُ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ. الثَّانِيَةُ- الْمِيَاهُ الْمُنَزَّلَةُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْمُودَعَةُ فِي الْأَرْضِ طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا وَأَرْيَاحِهَا حَتَّى يُخَالِطَهَا غَيْرُهَا، وَالْمُخَالِطُ لِلْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أضرب: ضرب يوافقه
إذا عدموا زادا فإنك عاقر
(٢). هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس، وصدره:
ويضحى فنيت المسك فوق فراشها
والانتطاق: الائتزاز للعمل. والتفضل: التوشح، وهو لبسها أدنى ثيابها.
: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِرِيحِ جِيفَةٍ عَلَى طَرَفِهِ وَسَاحِلِهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ مِنْهُ. وَلَوْ تَغَيَّرَ بِهَا وَقَدْ وُضِعَتْ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَنْجِيسًا لَهُ للمخالطة والاولى مجاورة لا تعويل عليها.
(٢). يثعب: يجري.
لِلْمُخَالِفِ
السنة بينهما في باب
(٢). الجدجد كهدهد طوير شبه الجرادة.
(٣). الركاء (جمع ركوة): إباء صغير من جلد يشرب فيه الماء.
(٢). العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى. وقال بالماء على يده، أي قلب. وقال بثوب، أي رفعه. وكل ذلك على المجاز والاتساع.
(٢). القمقمة والقمقم (كهدهد): ما يسخن فيه الماء من نحاس وغيره.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٤٩]
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِنُحْيِيَ بِهِ) أَيْ بِالْمَطَرِ. (بَلْدَةً مَيْتاً) بِالْجُدُوبَةِ وَالْمَحْلِّ وَعَدَمِ النَّبَاتِ. قَالَ كَعْبٌ: الْمَطَرُ رُوحُ الْأَرْضِ يُحْيِيهَا اللَّهُ بِهِ. وَقَالَ:" مَيْتاً" وَلَمْ يَقُلْ مَيِّتَةً لِأَنَّ مَعْنَى الْبَلْدَةِ وَالْبَلَدِ وَاحِدٌ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْبَلَدِ الْمَكَانَ. (وَنُسْقِيَهُ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِضَمِّ النُّونِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ فِيمَا رَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْهُمَا" نَسْقِيَهُ" (بِفَتْحِ) «٢» النُّونِ. (مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أَيْ بَشَرًا كَثِيرًا وَأَنَاسِيُّ وَاحِدُهُ إِنْسِيٌّ نَحْوَ جَمْعِ الْقُرْقُورِ «٣» قَرَاقِيرُ وَقَرَاقِرُ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ وَالْمُبَرِّدِ وَأَحَدِ قَوْلَيِ الْفَرَّاءِ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ إِنْسَانًا ثُمَّ تُبْدَلُ مِنَ النُّونِ يَاءٌ، فَتَقُولُ: أَنَاسِيُّ، وَالْأَصْلُ أَنَاسِينَ، مِثْلَ سِرْحَانَ وَسَرَاحِينَ، وَبُسْتَانٍ وَبَسَاتِينَ، فَجَعَلُوا الْيَاءَ عِوَضًا مِنَ النُّونِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ سَرَاحِيُّ وَبَسَاتِيُّ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ" أَنَاسِيُّ" بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الَّتِي فِيمَا بَيْنَ لَامِ الْفِعْلِ وَعَيْنِهِ، مِثْلُ قَرَاقِيرَ وَقَرَاقِرَ. وَقَالَ" كَثِيراً" وَلَمْ يَقُلْ كَثِيرِينَ، لِأَنَّ فَعِيلًا قَدْ يُرَادُ بِهِ الكثرة، نحو" وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «٤» ".
(٢). في الأصول:" بضم النون". وهو تحريف والتصويب عن أبى حيان وغيره.
(٣). القرقر: ضرب من السفن. وقيل: هي السفينة العظيمة أو الطويلة.
(٤). راجع ج ٥ ص ٢٧١ فما بعد
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٥٠]
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ". وَقَوْلُهُ:" لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي" وَقَوْلُهُ:" اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً". (لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أَيْ جُحُودًا لَهُ وَتَكْذِيبًا بِهِ. وَقِيلَ:" وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ" هُوَ الْمَطَرُ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: وَأَنَّهُ لَيْسَ عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، فَمَا زِيدَ لِبَعْضٍ نَقَصَ مِنْ غَيْرِهِمْ. فَهَذَا مَعْنَى التَّصْرِيفِ. وَقِيلَ:" صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ" وَابِلًا وَطَشًّا وَطَلًّا وَرِهَامًا- الْجَوْهَرِيُّ: الرِّهَامُ الْأَمْطَارُ اللَّيِّنَةُ- وَرَذَاذًا. وَقِيلَ: تَصْرِيفُهُ تَنْوِيعُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الشُّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالزِّرَاعَاتِ بِهِ وَالطَّهَارَاتِ وَسَقْيِ الْبَسَاتِينِ وَالْغُسْلِ وَشَبَهِهِ." لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً" قَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ قَوْلُهُمْ فِي الْأَنْوَاءِ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قَوْلُهُمْ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، وَأَنَّ نَظِيرَهُ فَعَلَ النَّجْمُ كَذَا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ فِعْلًا فَهُوَ كَافِرٌ. وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهَا رَجُلَيْنِ شَاكِرٌ وَكَافِرٌ فَأَمَّا الشَّاكِرُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى سُقْيَاهُ وَغِيَاثِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وكذا". وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" مَا مِنْ سَنَةٍ بِأَمْطَرَ مِنْ أُخْرَى وَلَكِنْ إِذَا عَمِلَ قَوْمٌ بِالْمَعَاصِي صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِمْ فَإِذَا عَصَوْا جَمِيعًا صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْفَيَافِي وَالْبِحَارِ". وَقِيلَ: التَّصْرِيفُ رَاجِعٌ إِلَى الرِّيحِ، وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «١» بَيَانُهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" لِيَذْكُرُوا" مُخَفَّفَةَ الذَّالِ مِنَ الذِّكْرِ. الْبَاقُونَ مُثَقَّلًا مِنَ التَّذَكُّرِ، أَيْ لِيَذْكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ وَيَعْلَمُوا أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ بِهَا لَا يَجُوزُ الْإِشْرَاكُ بِهِ، فَالتَّذَكُّرُ قَرِيبٌ مِنَ الذِّكْرِ غَيْرَ أَنَّ التَّذَكُّرَ يُطْلَقُ فِيمَا بَعُدَ عَنِ القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أَيْ رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ كَمَا قَسَمْنَا المطر ليخف عَلَيْكَ أَعْبَاءُ النُّبُوَّةِ، وَلَكِنَّا لَمْ نَفْعَلْ بَلْ جَعَلْنَاكَ نَذِيرًا لِلْكُلِّ لِتَرْتَفِعَ دَرَجَتُكَ فَاشْكُرْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ. (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أَيْ فِيمَا يَدْعُونَكَ إِلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ آلِهَتِهِمْ. (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقُرْآنِ. ابْنُ زَيْدٍ: بِالْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: بِالسَّيْفِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. (جِهاداً كَبِيراً) لا يخالطه فتور.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٥٣]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) عَادَ الْكَلَامَ إِلَى ذِكْرِ النِّعَمِ. وَ" مَرَجَ" خَلَّى وَخَلَطَ وَأَرْسَلَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرْسَلَهُمَا وَأَفَاضَ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ:" مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ" أَيْ خَلَطَهُمَا فَهُمَا يَلْتَقِيانِ، يُقَالُ: مَرَجْتُهُ إِذَا خَلَطْتُهُ. وَمَرَجَ الدِّينُ وَالْأَمْرُ اخْتَلَطَ وَاضْطَرَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو بن العاصي «١»:" إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا وَهَكَذَا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَصْنَعُ عِنْدَ ذَلِكَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ! قَالَ:" الْزَمْ بَيْتَكَ وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ أَمْرِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ" خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:" مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ" خَلَّى بَيْنَهُمَا، يُقَالُ مَرَجْتُ الدَّابَّةَ إِذَا خَلَّيْتُهَا تَرْعَى. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْمَرْجُ الْإِجْرَاءُ، فَقَوْلُهُ:" مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ" أَيْ أَجْرَاهُمَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَقُولُ قَوْمٌ أَمْرَجَ الْبَحْرَيْنِ مِثْلَ مَرَجَ فَعَلَ وَأَفْعَلَ بِمَعْنًى. (هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ) أَيْ حُلْوٌ شديد العذوبة.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٥٤]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) أَيْ خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ إِنْسَانًا. (فَجَعَلَهُ) أَيْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ" نَسَباً وَصِهْراً". وَقِيلَ:" مِنَ الْماءِ" إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ فِي أَنَّ كُلَّ حَيٍّ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ عَلَى النَّاسِ فِي إِيجَادِهِمْ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ- قوله تعالى: (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) النَّسَبُ وَالصِّهْرُ مَعْنَيَانِ يَعُمَّانِ كُلَّ قُرْبَى تَكُونُ بَيْنَ آدَمِيَّيْنِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: النَّسَبُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْطِ الْمَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ كَانَ خَلْقًا مُطْلَقًا وَلَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ" بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَى، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِنْتٍ لَهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا وَأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي الدِّينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلَا صِهْرٌ شَرْعًا، فَلَا يُحَرِّمُ الزِّنَى بِنْتَ أُمٍّ وَلَا أُمَّ بِنْتٍ، وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْحَلَالِ لَا يَحْرُمُ مِنَ الْحَرَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ عَلَى عِبَادِهِ وَرَفَعَ قَدْرَهُمَا، وَعَلَّقَ الْأَحْكَامَ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَيْهِمَا فَلَا يَلْحَقُ الْبَاطِلُ بِهِمَا وَلَا يُسَاوِيهِمَا
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٥٥]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) لَمَّا عَدَّدَ النِّعَمَ وَبَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ عَجَّبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِهِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مَا ذَكَرَهُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ لِجَهْلِهِمْ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أَمْوَاتًا جَمَادَاتٍ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ. (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" الْكافِرُ" هُنَا أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَشَرْحُهُ أَنَّهُ يَسْتَظْهِرُ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:" الْكافِرُ" إِبْلِيسُ، ظَهَرَ عَلَى عَدَاوَةِ رَبِّهِ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ:" الْكافِرُ" هُنَا الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الْحَسَنُ:" ظَهِيراً" أَيْ مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى، وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ هَيِّنًا ذَلِيلًا لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا وَزْنَ عِنْدَهُ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ظَهَرْتُ بِهِ أَيْ جَعَلْتُهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ وَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا" أَيْ هينا.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) يُرِيدُ بِالْجَنَّةِ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا مِنَ النَّارِ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ وَكِيلًا وَلَا مسيطرا. (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) يُرِيدُ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ. وَ" مِنْ" لِلتَّأْكِيدِ. (إِلَّا مَنْ شاءَ) لَكِنْ مَنْ شَاءَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَنْ شَاءَ (أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) بِإِنْفَاقِهِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلْيُنْفِقْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا وَيُقَدَّرُ حَذْفُ الْمُضَافِ، التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَجْرَ" مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا" بِاتِّبَاعِ دِينِي حَتَّى يَنَالَ كَرَامَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٥٨]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «١» وَهَذِهِ السُّورَةُ وَأَنَّهُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ وَسَائِطُ أَمَرَ بِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَيْهَا. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أَيْ نَزِّهِ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّا يَصِفُهُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ. وَالتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ. وَقَدْ تقدم. وقيل:" وَسَبِّحْ" أي صل لَهُ، وَتُسَمَّى الصَّلَاةُ تَسْبِيحًا. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي عليما فيجازيهم بها.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٥٩]
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ «١». وَ" الَّذِي"" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ نَعْتًا لِلْحَيِّ. وَقَالَ:" بَيْنَهُما" وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُ أَرَادَ الصِّنْفَيْنِ وَالنَّوْعَيْنِ وَالشَّيْئَيْنِ، كَقَوْلِ الْقُطَامِيِّ: أَلَمْ يَحْزُنْكَ أَنَّ حِبَالَ قَيْسٍ وَتَغْلِبَ قد تباينتا انقطاء أَرَادَ وَحِبَالَ تَغْلِبَ فَثَنَّى، وَالْحِبَالُ جَمْعٌ، لِأَنَّهُ أراد الشيئين والنوعين. (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) قَالَ الزُّجَاجُ: الْمَعْنَى فَاسْأَلْ عَنْهُ. وَقَدْ حَكَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْبَاءَ تَكُونُ بِمَعْنَى عَنْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «٢» " وَقَالَ الشَّاعِرُ:
هلا سألت الخيل يا بنة مَالِكٍ | إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي» |
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي | خَبِيرٌ «٥» بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ |
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢٧٨.
(٣). البيت من معلقة عنترة. [..... ]
(٤). في نسخ الأصل:" وقال امرؤ القيس" وهو تحريف. والبيت من قصيدة لعلقمة مطلعها:
طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ | بُعَيْدَ الشباب عصر حان مشيب |
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٦٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) أَيْ لِلَّهِ تَعَالَى. (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، أَيْ مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا رَحْمَانَ الْيَمَامَةَ، يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ. وَزَعَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا جَهِلُوا الصِّفَةَ لَا الْمَوْصُوفَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:" وَمَا الرَّحْمنُ" وَلَمْ يَقُولُوا وَمَنِ الرَّحْمَنُ. قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْرَأِ الْآيَةَ الْأُخْرَى" وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ «٢» ". (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) هَذِهِ قِرَاءَةُ الْمَدَنِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ، أَيْ لِمَا تَأْمُرُنَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:" يَأْمُرُنَا" بِالْيَاءِ. يَعْنُونَ الرَّحْمَنَ، كَذَا تَأَوَّلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: وَلَوْ أَقَرُّوا بِأَنَّ الرَّحْمَنَ أَمَرَهُمْ مَا كَانُوا كُفَّارًا. فَقَالَ النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ فِي قِرَاءَتِهِمْ هَذَا التَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ لَهُمْ" أَنَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُنَا" النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَصِحُّ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى أَبْيَنَ وَأَقْرَبَ تَنَاوُلًا «٣». (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أَيْ زَادَهُمْ قَوْلُ الْقَائِلِ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ نُفُورًا عَنِ الدِّينِ. وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِلَهِي زَادَنِي لَكَ خُضُوعًا مَا زَادَ عداك نفورا.
(٢). راجع ج ٩ ص ٣١٧
(٣). في ك وز: متناولا
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٦١]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١)قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أَيْ مَنَازِلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «١» ذِكْرُهَا. (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشَّمْسَ، نَظِيرُهُ،" وَجَعَلَ الشَّمْسَ «٢» سِراجاً". وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ:" سِراجاً" بِالتَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:" سُرُجًا" يُرِيدُونَ النُّجُومَ الْعِظَامَ الْوَقَّادَةَ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ أَنَّ السُّرُجَ النُّجُومُ، وَأَنَّ الْبُرُوجَ النُّجُومُ، فَيَجِيءُ الْمَعْنَى نُجُومًا وَنُجُومًا. النَّحَّاسُ: وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ لَهُمْ أَنَّ أَبَانَ بْنَ تَغْلِبَ قَالَ: السُّرُجُ النُّجُومُ الدَّرَارِيُّ. الثَّعْلَبِيُّ: كَالزَّهْرَةِ وَالْمُشْتَرَى وَزُحَلَ وَالسِّمَاكَيْنِ وَنَحْوِهَا. (وَقَمَراً مُنِيراً) يُنِيرُ الْأَرْضَ إِذَا طَلَعَ. وَرَوَى عِصْمَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ" وَقُمْرًا" بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ. وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَهُوَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتِهِ قَالَ: لَا تَكْتُبُوا مَا يَحْكِيهِ عِصْمَةُ الَّذِي يَرْوِي الْقِرَاءَاتِ، وَقَدْ أُولِعَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ بِذِكْرِ مَا يَرْوِيهِ عصمة هذا.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٦٢]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" خِلْفَةً" قَالَ أبو عبيدة: الخلفة كل شي بعد شي. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يُخْلِفُ صَاحِبَهُ. وَيُقَالُ لِلْمَبْطُونِ: أَصَابَتْهُ خِلْفَةٌ، أَيْ قِيَامٌ وَقُعُودٌ يَخْلُفُ هَذَا ذَاكَ. وَمِنْهُ خِلْفَةُ النَّبَاتِ، وَهُوَ وَرَقٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْوَرَقِ الْأَوَّلِ فِي الصَّيْفِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً | وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ من كل مجثم «٣» |
(٢). راجع ج ١٩ ص ٣٠٥.
(٣). العين (بالكسر) جمع أعين وعينا، وهى بقر الوحش، سمية بذلك لسعة أعينها. والاطلاء: جمع طلا، وهو ولد البقرة وولد الظبية الصغير. والمجثم: الموضع الذي يجثم فيه، أي يقام فيه.
وَلَهَا بِالْمَاطِرُونَ إِذَا | أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا |
خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ | سَكَنَتْ مِنْ جَلَّقٍ بِيَعَا |
فِي بُيُوتٍ وَسْطَ دَسْكَرَةٍ | حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا |
الأولى- قوله تعالى :" خلفة " قال أبو عبيدة : الخلفة كل شيء بعد شيء. وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه. ويقال للمبطون : أصابته خلفة، أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك. ومنه خلفه النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف. ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سلمى :
بها العين والآرام يمشين خِلْفَةً | وأطلاؤُها ينهضن من كل مَجْثِمِ١ |
ولها بالماطِرُونِ إذا | أكل النمل الذي جمعا |
خِلْفَةً حتى إذا ارْتَبَعَتْ | سكنت من جِلَّقٍ بِيَعَا |
في بيوتٍ وسطَ دَسْكَرَةٍ | حولَها الزيتونُ قد يَنَعَا |
الثانية- قال ابن العربي : سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول : إن الله تعالى خلق العبد حيا عالما، وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة ؛ إذ الكمال للأول الخالق، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل. ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم.
الثالثة- الأشياء لا تتفاضل بأنفسها، فإن الجواهر والأعراض من حيث الوجود متماثلة، وإنما يقع التفاضل بالصفات. وقد اختلف أي الوقتين أفضل، الليل أو النهار. وفي الصوم غنية في الدلالة، والله أعلم، قاله ابن العربي.
قلت : والليل عظيم قدره، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بقيامه فقال :" ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [ الإسراء : ٧٩ ]، وقال :" قم الليل " [ المزمل : ٢ ] على ما يأتي بيانه. ومدح المؤمنين على قيامه فقال :" تتجافى جنوبهم عن المضاجع " [ السجدة : ١٦ ] وقال عليه الصلاة والسلام :( والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل، وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء وفيه ينزل الرب تبارك وتعالى ) حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الرابعة- قرأ حمزة وحده :" يذْكُر " بسكون الذال وضم الكاف. وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي. وفي مصحف أبي " يتذكر " بزيادة تاء. وقرأ الباقون :" يذكر " بتشديد الكاف. ويذكر ويذكر بمعنى واحد. وقيل : معنى " يذكر " بالتخفيف أي ما يذكر ما نسيه في أحد الوقتين في الوقت الثاني، أو ليذكر تنزيه الله وتسبيحه فيها. " أو أراد شكورا " يقال : شكر يشكر شكرا وشكورا، مثل كفر يكفر كفرا وكفورا. وهذا الشكور على أنهما جعلهما قواما لمعاشهم. وكأنهم لما قالوا :" وما الرحمن " قالوا : هو الذي يقدر على هذه الأشياء.
٢ هو يزيد بن معاوية. والماطرون: موضع بالشام قرب دمشق..
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٦٣]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) لَمَّا ذَكَرَ جَهَالَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَطَعْنَهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةَ ذَكَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا وَذَكَرَ صِفَاتِهُمْ، وَأَضَافَهُمْ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، كَمَا قَالَ:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ" وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ وَشَغَلَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق
(٢). الإيضاع: سير مثل الخبب.
كلهم يمشى رويد... كلهم يطلب صيد «٤»
قُلْتُ: وَفِي عَكْسِهِ أَنْشَدَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لِنَفْسِهِ:
تَوَاضَعْتُ فِي الْعَلْيَاءِ وَالْأَصْلُ كَابِرٌ... وَحُزْتُ قِصَابَ السَّبْقِ بِالْهَوْنِ فِي الْأَمْرِ
سُكُونٌ فَلَا خُبْثَ السَّرِيرَةِ أَصْلُهُ... وَجُلُّ سُكُونِ النَّاسِ مِنْ عِظَمِ الْكِبْرِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ" سَلاماً" مِنَ التَّسْلِيمِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ التَّسَلُّمِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: سَلَامًا، أَيْ تَسَلُّمًا مِنْكَ، أَيْ بَرَاءَةً مِنْكَ. مَنْصُوبٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِ" قالُوا"، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي أَقُولُهُ: أَنَّ" قالُوا" هُوَ الْعَامِلُ فِي" سَلاماً" لِأَنَّ الْمَعْنَى قَالُوا هَذَا اللَّفْظَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى" سَلاماً" سدادا. أي يقول للجاهل كلاما
(٢). الأطلس من الذئاب: هو الذي تساقط شعره، وهو أخبث ما يكون. وقيل: هو الذي في لونه غبرة إلى السواد. [..... ]
(٣). من هـ، وهو الرواية.
(٤). هذا من كلام أبى جعفر المنصور الخليفة في مدح عمرو بن عبيد الزاهد المشهور. وتمامه:
غير عمرو بن عبيد
.
(٢). الفطير: خلاف الخمير، وهو العجين الذي لم يختمر. والهجير: الفائق الفاضل. والنمير: الناجع في الري.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٦٤]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) قَالَ الزَّجَّاجُ: بَاتَ الرَّجُلُ يَبِيتُ إِذَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ، نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ. قَالَ زُهَيْرٌ «١»:
فَبِتْنَا قِيَامًا عِنْدَ رَأْسِ جَوَادِنَا | يُزَاوِلُنَا عَنْ نَفْسِهِ وَنُزَاوِلُهُ |
منع جُفُونَكَ أَنْ تَذُوقَ مَنَامًا | وَاذْرِ الدُّمُوعَ عَلَى الْخُدُودِ سِجَامًا |
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَيِّتٌ وَمُحَاسَبٌ | يَا مَنْ عَلَى سُخْطِ الْجَلِيلِ أَقَامَا |
لِلَّهِ قَوْمٌ أَخْلَصُوا فِي حُبِّهِ | فَرَضِيَ بِهِمْ وَاخْتَصَّهُمْ خُدَّامًا |
قَوْمٌ إِذَا جَنَّ الظَّلَّامُ عَلَيْهِمْ | بَاتُوا هُنَالِكَ سُجَّدًا وَقِيَامًا |
خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ التَّعَفُّفِ ضُمَّرًا | لا يعرفون سوى الحلال طعاما |
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) أَيْ هُمْ مَعَ طَاعَتِهِمْ مُشْفِقُونَ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي سُجُودِهِمْ وَقِيَامِهِمْ. (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أَيْ لَازِمًا دَائِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِكَذَا أَيْ لَازِمٌ لَهُ مُولَعٌ بِهِ. وَهَذَا مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْأَعْشَى:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله | وعرى أفراس الصبا ورواحله |
إِنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ | يُعْطِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي |
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٦٧]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَمَنْ أَمْسَكَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ الْإِقْتَارُ، وَمَنْ أَنْفَقَ، فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْقَوَامُ.
إِذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّ مَا اشْتَهَتْ | وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إِلَى كُلِّ بَاطِلِ |
وَسَاقَتْ إِلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِالَّذِي | دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ |
إِذَا أَنْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ | وَفَرْجَكَ نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا |
وسدادا وَمِلَاكُ حَالٍ. وَالْقِوَامُ بِكَسْرِ الْقَافِ، مَا يَدُومُ عليه الامر ويستقر. وهما لُغَتَانِ بِمَعْنًى. وَ" قَواماً" خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهَا مُقَدَّرٌ فِيهَا، أَيْ كَانَ الْإِنْفَاقُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ قَوَامًا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ يَجْعَلُ" بَيْنَ" اسْمَ كَانَ وَيَنْصِبُهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كَثِيرٌ اسْتِعْمَالُهَا فَتُرِكَتْ عَلَى حَالِهَا فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: مَا أَدْرِي مَا وجه هذا، لان" بينا" إِذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ رُفِعَتْ، كَمَا يقال: بين عينيه أحمر.
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد | كِلاَ طرفي قصد الأمور ذميم |
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت | ولم ينهها تاقت إلى كل باطل |
وساقت إليه الإثم والعار بالذي | دعته إليه من حلاوة عاجل |
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله | وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا |
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٦٨ الى ٦٩]
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إِخْرَاجٌ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ صِفَاتِ الْكَفَرَةِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، وَقَتْلِهِمُ النَّفْسَ بِوَأْدِ الْبَنَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاغْتِيَالِ، وَالْغَارَاتِ، وَمِنَ الزِّنَى الَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ مُبَاحًا. وَقَالَ مَنْ صَرَفَ هَذِهِ الْآيَةَ عَنْ ظَاهِرِهَا مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي: لَا يَلِيقُ بِمَنْ أَضَافَهُمُ الرَّحْمَنُ إِلَيْهِ إِضَافَةَ الِاخْتِصَاصِ، وَذَكَرَهُمْ وَوَصَفَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّشْرِيفِ وُقُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْقَبِيحَةِ مِنْهُمْ حَتَّى يُمْدَحُوا بِنَفْيِهَا عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ أَعْلَى وَأَشْرَفُ، فَقَالَ: مَعْنَاهَا لَا يَدْعُونَ الْهَوَى إِلَهًا، وَلَا يُذِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَعَاصِي فَيَكُونُ قَتْلًا لَهَا. وَمَعْنَى" إِلَّا بِالْحَقِّ" أَيْ إِلَّا بِسِكِّينِ الصَّبْرِ وَسَيْفِ الْمُجَاهَدَةِ فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى نِسَاءٍ لَيْسَتْ لَهُمْ بِمَحْرَمٍ بِشَهْوَةٍ فَيَكُونُ سِفَاحًا، بَلْ بِالضَّرُورَةِ فَيَكُونُ كَالنِّكَاحِ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا كَلَامٌ رَائِقٌ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ السَّبْرِ مَائِقٌ. وَهِيَ نَبْعَةٌ بَاطِنِيَّةٌ وَنَزْعَةٌ بَاطِلِيَّةٌ وَإِنَّمَا صَحَّ تَشْرِيفُ عِبَادِ اللَّهِ بِاخْتِصَاصِ الْإِضَافَةِ بَعْدَ أَنْ تَحَلَّوْا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَتَخَلَّوْا عَنْ نَقَائِضَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ، فَبَدَأَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِصِفَاتِ التَّحَلِّي تَشْرِيفًا لَهُمْ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِصِفَاتِ التَّخَلِّي تَبْعِيدًا لَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا ادَّعَاهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ:" أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:" أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ معك" قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:" أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَهَا:" وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً". وَالْأَثَامُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعِقَابُ، وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ هَذِهِ الْآيَةَ.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٧٠]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً) لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَامِلٌ فِي الْكَافِرِ وَالزَّانِي. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَاتِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي" النِّسَاءِ" «٢» وَمَضَى فِي" الْمَائِدَةِ" «٣» الْقَوْلُ فِي جَوَازِ التَّرَاخِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُسْتَدِلًّا بِهَذِهِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قَالَ النَّحَّاسُ: مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ يُكْتَبُ مَوْضِعَ كَافِرٍ مُؤْمِنٌ، وَمَوْضِعَ عَاصٍ مُطِيعٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: أَنْ يُبَدِّلَهُمُ
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٣٢ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(٣). راجع ج ٦ ص ٢٧٣ طبعه أولى أو ثانية.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٧١]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً) لَا يُقَالُ: مَنْ قَامَ فَإِنَّهُ يَقُومُ، فَكَيْفَ قَالَ مَنْ تَابَ فَإِنَّهُ يَتُوبُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَهَاجَرَ وَلَمْ يَكُنْ قَتَلَ وَزَنَى بَلْ عَمِلَ صَالِحًا وَأَدَّى الْفَرَائِضَ فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، أَيْ فَإِنِّي قَدَّمْتُهُمْ وَفَضَّلْتُهُمْ عَلَى مَنْ قَاتَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَحَلَّ الْمَحَارِمَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى فِيمَنْ تَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِهَذَا قَالَ:" إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ" ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ مَنْ تَابَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَتْبَعَ تَوْبَتَهُ عَمَلًا صَالِحًا فَلَهُ حُكْمُ التَّائِبِينَ أَيْضًا. وَقِيلَ: أَيْ مَنْ تَابَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُحَقِّقْ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَتْ تِلْكَ التَّوْبَةُ نَافِعَةً، بَلْ مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَحَقَّقَ تَوْبَتَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهُوَ الَّذِي تَابَ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، أَيْ تَابَ حَقَّ التَّوْبَةِ وَهِيَ النَّصُوحُ وَلِذَا أَكَّدَ بِالْمَصْدَرِ. فَ" مَتاباً" مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ التَّأْكِيدُ، كَقَوْلِهِ:" وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً" أَيْ فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ حقا فيقبل الله توبته حقا.
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٧٢]
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ" أَيْ لَا يَحْضُرُونَ الْكَذِبَ وَالْبَاطِلَ وَلَا يُشَاهِدُونَهُ. وَالزُّورُ كُلُّ بَاطِلٍ زُوِّرَ وَزُخْرِفَ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ وَتَعْظِيمُ الْأَنْدَادِ. وَبِهِ فَسَّرَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ. عكرمة: لعب
(٢). راجع ج ١٢ ص ٥٥ طبعه أولى أو ثانية.
(٣). راجع ج ٣ ص ٩٩ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
الأولى- قوله تعالى :" والذين لا يشهدون الزور " أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زور وزخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. عكرمة : لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور. مجاهد : الغناء. وقاله محمد ابن الحنفية أيضا. ابن جريج : الكذب، وروي عن مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي : المعنى لا يشهدون بالزور، من الشهادة لا من المشاهدة. قال ابن العربي : أما القول بأنه الكذب فصحيح، لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع، وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة، أو أمر يعود إلى الكفر، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد.
قلت : من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ومخرجها عن الاعتدال، أو يثير كامنا من حب اللهو، مثل قول بعضهم :
ذهبي اللون تحسب من *** وجنتيه النار تقتدحُ
خوفوني من فضيحته *** ليته وافى وأفتضحُ
لا سيما إذا اقترن بذلك شبابات١ وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الأزمان، على ما بيناه في غير هذا الموضع. وأما من قال إنه شهادة الزور وهي :
الثانية- فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق. وقال أكثر أهل العلم : ولا تقبل له شهادة أبدا وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله. وقد قيل : إنه إذا كان غير مبرز فحسنت حال قبلت شهادته حسبما تقدم بيانه في سورة " الحج " ٢ فتأمله هناك.
قوله تعالى :" وإذا مروا باللغو مروا كراما " قد تقدم الكلام في اللغو، وهو كل سقط من قول أو فعل، فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، وتدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر. وقال مجاهد : إذا أوذوا صفحوا. وروي عنه : إذا ذكر النكاح كنوا عنه. وقال الحسن : اللغو المعاصي كلها. وهذا جامع. و " كراما " معناه معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون أهله. أي مروا مر الكرام الذين لا يدخلون في الباطل. يقال تكرم فلان عما يشينه، أي تنزه وأكرم نفسه عنه. وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( لقد أصبح ابن أم عبد كريما ). وقيل : من المرور باللغو كريما أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
٢ راجع ج ٣ ص ٩٩ وما بعدها طبعة أولى أو ثانية..
[سورة الفرقان (٢٥): آية ٧٣]
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أَيْ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ ذَكَرُوا آخِرَتَهُمْ وَمَعَادَهُمْ وَلَمْ يَتَغَافَلُوا حَتَّى يَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ. وَقَالَ: (لَمْ يَخِرُّوا) وَلَيْسَ ثَمَّ خُرُورٌ، كَمَا يُقَالُ: قَعَدَ يَبْكِي وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قَاعِدٍ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ أَنْ يَخِرُّوا صُمًّا وَعُمْيَانًا هِيَ صِفَةُ الكفار، وهي عبارة عن إعراضهم، وقرن ذَلِكَ بِقَوْلِكَ: قَعَدَ فُلَانٌ يَشْتُمُنِي وَقَامَ فُلَانٌ يَبْكِي وَأَنْتَ لَمْ تَقْصِدِ الْإِخْبَارَ بِقُعُودٍ وَلَا قِيَامٍ، وَإِنَّمَا هِيَ تَوْطِئَاتٌ فِي الْكَلَامِ وَالْعِبَارَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَكَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِلذِّكْرِ قَائِمُ الْقَنَاةِ قَوِيمُ الْأَمْرِ، فَإِذَا أَعْرَضَ وَضَلَّ كَانَ ذَلِكَ خُرُورًا، وَهُوَ السُّقُوطُ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ وَتَرْتِيبٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ شُبِّهَ بِهِ الَّذِي يَخِرُّ سَاجِدًا لَكِنَّ أَصْلَهُ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبٍ. وَقِيلَ: أَيْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فَخَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، وَلَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَمْ يَقْعُدُوا عَلَى حَالِهِمُ الْأَوَّلِ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوا. الثَّانِيَةُ- قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ سَجْدَةً يَسْجُدُ مَعَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ إِلَّا الْقَارِئَ وَحْدَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَلَا الْقُرْآنَ وَقَرَأَ السَّجْدَةَ فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَلَسَ مَعَهُ جلس يسمعه فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمِ السَّمَاعَ مَعَهُ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الأعراف" «١».
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٧٤ الى ٧٧]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ مُطِيعِينَ لَكَ. وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ بِالْوَلَدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». وَالذُّرِّيَّةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا. فَكَوْنُهَا لِلْوَاحِدِ قَوْلُهُ:" رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً"" فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا" وَكَوْنُهَا لِلْجَمْعِ" ذُرِّيَّةً ضِعافاً" وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «٢» اشْتِقَاقُهَا مُسْتَوْفًى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ:" وَذُرِّيَّاتِنا" وَقَرَأَ أَبُو عُمَرَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى" وَذُرِّيَّتِنَا" بِالْإِفْرَادِ." قُرَّةَ أَعْيُنٍ" نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَنَا. وَهَذَا نَحْوَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَسٍ:" اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ" وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «٣» وَ" مَرْيَمَ". وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا بُورِكَ لَهُ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ اجْتَمَعَتْ لَهُ فِيهَا أَمَانِيُّهُ مِنْ جَمَالٍ وَعِفَّةٍ وَنَظَرٍ وَحَوْطَةٍ أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ ذُرِّيَّةٌ مُحَافِظُونَ عَلَى الطَّاعَةِ، مُعَاوِنُونَ لَهُ عَلَى وَظَائِفِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى زَوْجِ أَحَدٍّ وَلَا إِلَى وَلَدِهِ، فَتَسْكُنُ عَيْنُهُ عَنِ الْمُلَاحَظَةِ، وَلَا تَمْتَدُّ عَيْنُهُ إِلَى مَا تَرَى، فَذَلِكَ حِينَ قُرَّةِ الْعَيْنِ، وَسُكُونِ النَّفْسِ. وَوَحَّدَ" قُرَّةً" لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، تَقُولُ: قَرَّتْ عَيْنُكَ قُرَّةً. وَقُرَّةُ الْعَيْنِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْقَرَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْقُرِّ وَهُوَ الْأَشْهَرُ. وَالْقُرُّ الْبَرْدُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَأَذَّى بِالْحَرِّ وَتَسْتَرِيحُ إِلَى الْبَرْدِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ دَمْعَ السُّرُورِ بَارِدٌ، وَدَمْعَ الْحُزْنِ سُخْنٌ، فَمِنْ هَذَا يُقَالُ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ، وَأَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَ الْعَدُوِّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَكَمْ سَخِنَتْ بِالْأَمْسِ عَيْنٌ قَرِيرَةٌ وَقَرَّتْ عُيُونٌ دَمْعُهَا الْيَوْمَ سَاكِبُ
(٢). راجع ج ٢ ص ١٠٧ طبعه ثانية.
(٣). راجع ج ٤ ص ٧٣ وج ١١ ص ٨٠ طبعه أولى أو ثانية.
: كأن بصدره وبجانبيه عبيرا بات يعبؤه عَرُوسُ أَيْ يَجْعَلُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. فَالْعِبْءُ الحمل الثقيل، والجمع أعباء. والعبء المصدر. وما اسْتِفْهَامِيَّةٌ، ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ الزَّجَّاجِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْفَرَّاءُ. وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، لِأَنَّكَ إِذَا حَكَمْتَ بِأَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ فَهُوَ نَفْيٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ" قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ عِنْدِي أَنَّ مَوْضِعَ" مَا" نَصْبٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكُمْ، أَيْ أَيُّ مُبَالَاةٍ يُبَالِي رَبِّي بِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ لِتَعْبُدُوهُ، فَالْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُضَافٌ إِلَى
مَفْعُولِهِ، وهو اختيار
عَلِمْنَاهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَالْحَمْدُ لله رب العالمين.
فلم ير غير عادية لزاما