تفسير سورة غافر

زاد المسير
تفسير سورة سورة غافر من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة المؤمن
قال أبو سليمان الدمشقي : ويقال لها : سورة الطول. وهي مكية، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. وحكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها آيتين نزلتا بالمدينة : قوله :﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ ﴾ والتي بعدها. [ غافر : ٣٥ ٣٦ ]. قال الزجاج : وذكر أن الحواميم كلها نزلت بمكة. قال ابن قتيبة : يقال : إن ﴿ حم ﴾ اسم من أسماء الله أضيفت هذه السورة إليه، كأنه قيل : سورة الله، لشرفها وفضلها، فقيل : آل حاميم، وإن كان القرآن كله سور الله، وإن هذا كما يقال : بيت الله، وحرمُ الله، وناقة الله، قال الكميت :
وجدنا لكم في آل حاميم آية *** تأولها منا تقي ومعرب
وقد تُجعل ﴿ حم ﴾ اسما للسورة، ويدخل الإعراب ولا يصرف، ومن قال هذا في الجميع : الحواميم، كما يقال :﴿ طس ﴾ والطواسين. وقال محمد بن القاسم الأنباري : العرب تقول : وقع في الحواميم، وفي آل حميم، أنشد أبو عبيدة :
حلفت بالسبع اللواتي طولت *** وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنيت فكُررت *** وبالطواسين اللواتي ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت *** وبالمفصل اللواتي فصلت
فمن قال : وقع في آل حاميم، جعل حاميم اسما لكلهن. ومن قال : وقع في الحواميم، جعل ﴿ حم ﴾ كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : من الخطأ أن تقول : قرأت الحواميم، وليس من كلام العرب، والصواب أن تقول : قرأت آل حاميم. وفي حديث ابن مسعود " إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات "، وقال الكميت :
وجدنا لكم في آل حاميم آية ***. . . .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨)
وفي (حم) أربعة أقوال «١» : أحدها: قَسَم أَقْسَمَ الله به وهو من أسمائه عزّ وجلّ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس: قال أبو سليمان: وقد قيل: إن جواب القسم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ «٢». والثاني: أنها حروف من أسماء الله عزّ وجلّ، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن «آلر» و «حم» و «ن» حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أن الحاء مفتاح اسمه «حميد»، والميم مفتاح اسمه «مجيد»، قاله أبو العالية. والثالث: أن الحاء مفتاح كل اسم لله ابتداؤه حاء، مثل «حكيم»، و «حليم»، و «حيّ»، والميم مفتاح كلِّ اسمٍ له ابتداؤه ميم مثل «ملك»، و «متكبِّر»، و «مَجيد»، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وروي نحوه عن عطاء الخراساني. والثالث: أن معنى «حم» :
قُضِيَ ما هو كائن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. ورُوي عن الضحاك والكسائي مثل هذا، كأنهما أرادا الإِشارة إلى حُمَّ، بضم الحاء وتشديد الميم. قال الزجاج: وقد قيل في «حم» : حُمَّ الأمر. والرابع: أن «حم» اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وقرأ ابن كثير: «حم» بفتح الحاء وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: بكسرها واختلف عن الباقين. قال الزجاج: أمّا الميم فساكنة في قراءة القُرّاء كلّهم إلّا عيسى بن عمر، فإنه فتحها وفتحها على ضربين. أحدهما: أن يجعل «حم» اسماً للسُّورة، فينصبه ولا ينوِّنه، لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية نحو هابيل وقابيل. والثاني: على معنى: اتْلُ حم والأجود أن يكون فتح لالتقاء الساكنين حيث جعله اسماً للسُّورة، ويكون حكاية حروف الهجاء.
قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: هذا تنزيلُ الكتاب. والتَّوْبُ: جمع تَوْبَة، وجائز أن يكون مصدراً من تاب يَتُوب تَوْبا. والطوَّل: الفَضْل. قال أبو عبيدة: يقال: فلان ذو طَوْل على قومه، أي: ذو فَضْل. وقال ابن قتيبة: يقال: طُلْ عليَّ يرحمك الله، أي: تَفَضَّلْ. قال الخطابي: ذو: حرف النِّسبة، والنّسبة في كلامهم على ثلاثة أوجه: بالياء، كقولهم: أسديّ، وبكريّ. والثاني: على الجمع، كقولهم: المَهالبة، والمسامعة، والأزارقة. والثالث: ب «ذي» و «ذات»، كقولهم: رجُل مال، أي: ذو مال، وكبش صاف، أي: ذو صوف، وناقة ضامر، أي: ذات ضُمر، فقوله: ذو الطَّوْل، معناه: أهْل الطّول والفضل.
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٣٨: والقول عندي في ذلك نظير القول في أخواتها، وقد بيّنا ذلك في قوله تعالى (الم) ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع، إذ كان القول في (حم) وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه، أعني حروف التهجي قولا واحدا. اه.
(٢) غافر: ١٠.

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤ الى ٦]

ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: ما يُخاصم فيها بالتكذيب لها ودفعها بالباطل إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وباقي الآية في آل عمران «١» والمعنى: إنّ عاقبة أمرهم إلى العذاب كعاقبة مَنْ قَبْلَهم.
قوله تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ فيه قولان: أحدهما: ليقتُلوه، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: ليحبِسوه ويعذِّبوه، ويقال للأسير: أخيذٌ، حكاه ابن قتيبة. قال الأخفش: وإِنما قال:
«ليأخُذوه» فجمع على الكلِّ، لأن الكلَّ مذكَّر ومعناه معنى الجماعة. وما بعد هذا مفسَّر في الكهف «٢» إلى قوله تعالى: فَأَخَذْتُهُمْ أي: عاقبتهم وأهلكتم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم وَكَذلِكَ أي: مِثْل الذي حَقَّ على الأُمم المكذِّبة حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بالعذاب، وهي قوله عزّ وجلّ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «٣»، عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك. وقرأ نافع، وابن عامر: «حَقَّتْ كَلِماتُ ربِّكَ»، أَنَّهُمْ قال الأخفش: لأنهم أو بأنّهم أَصْحابُ النَّارِ.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧ الى ٩]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
ثم أخبر بفضل المؤمنين فقال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهم أربعة أملاك، فإذا كان يوم القيامة جُعلوا ثمانيةً وَمَنْ حَوْلَهُ قال وهب بن منبِّه: حَوْلَ العرش سبعون ألف صفٍّ من الملائكة يطوفون به، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صفٍّ من الملائكة ليس فيِهم أحد إلاّ وهو يسبِّح بما لا يسبِّحه الآخر. وقال غيره: الذين حول العرش هم الكروبيّون وهم سادة الملائكة. وقد ذكرنا في السّورة المتقدّمة معنى قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ «٤». قوله تعالى: رَبَّنا أي يقولون: ربَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً قال الزجاج: هو منصوب على التمييز. وقال غيره: المعنى: وَسِعَتْ رحمتُك وعِلْمُك كلَّ شيء فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا من الشِّرك وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وهو دين الإِسلام. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ قال قتادة: يعني العذاب.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٠ الى ١٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ قال المفسّرون «٥» : لمّا رأوا أعمالهم
(١) آل عمران: ١٩٦.
(٢) الكهف: ٥٦.
(٣) الأعراف: ١٨.
(٤) الزمر: ٧٥.
(٥) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٨٧: يقول تعالى مخبرا عن الكفار: أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظّون، وذلك عند ما باشروا من عذاب الله ما لا قبل لأحد به، فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة، التي كانت سبب دخولهم إلى النار: فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا نادوهم نداء بأن مقت الله لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان، فيكفرون، أشد من مقتكم، أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة.
وأُدخِلوا النّارِ مَقَتُوا أنفُسَهم لِسُوءِ فِعْلِهم، فناداهم مُنادٍ: لَمَقْتُ الله إيّاكم في الدُّنيا: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أكبرُ مِنْ مقتكم أنفُسكم. ثم أخبر عما يقولون في النار بقوله تعالى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ وهذا مثل قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «١» وقد فسَّرناه هنالك. قوله تعالى: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ أي: من النار إِلى الدنيا لنعملَ بالطاعة مِنْ سَبِيلٍ؟
وفي الكلام اختصار، تقديره: فَأُجيبوا أن لا سبيل إِلى ذلك وقيل لهم: ذلِكُمْ يعني العذاب الذي نزل بهم بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي: إِذا قيل «لا إله إلا الله» أنكرَتم، وإن جُعل له شريكٌ آمنتم، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ فهو الذي حكم على المشركين بالنار، وقد بيَّنَّا في سورة البقرة «٢» معنى العليّ، وفي الرّعد «٣» معنى الكبير.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٣ الى ١٧]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي: مصنوعاته التي تَدُلُّ على وَحدانيَّته وقُدرته، والرِّزق هاهنا:
المطر، سمِّي رزقاً، لأنه سبب الأرزاق. و «يتذكَّر» بمعنى يَتَّعظ، و «يُنيب» بمعنى يَرْجِع إِلى الطاعة.
ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: موحِّدين.
قوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ قال ابن عباس: يعني رافع السموات، وحكى الماوردي عن بعض المفسِّرين قال: معناه: عظيم الصِّفات. قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ أي: خالِقُه ومالِكُه. قوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه القرآن. والثاني: النُّبوّة. والقولان مرويّان عن ابن عباس. وبالأول قال ابن زيد، وبالثاني قال السدي. والثالث: الوحي قاله قتادة، وإِنما ُسمِّي القرآن والوحي روحاً، لأن قِوام الدِّين به كما أن قِوام البدن بالرُّوح. والرابع: جبريل، قاله الضحاك.
والخامس: الرَّحمة، حكاه إبراهيم الحربي. قوله تعالى: مِنْ أَمْرِهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مِنْ قضائه، قاله ابن عباس. والثاني: بأمره، قاله مقاتل. والثالث: من قوله تعالى، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني الأنبياء. لِيُنْذِرَ في المشار إِليه قولان: أحدهما: أنه الله عزّ وجلّ. والثاني: النَّبيُّ الذي يوحى إليه. والمراد ب يَوْمَ التَّلاقِ: يوم القيامة وأثبت ياء «التلاقي» في الحالين ابن كثير ويعقوب، وأبو جعفر وافقهما في الوصل والباقون بغير ياءٍ في الحالَيْن. وفي سبب تسميته بذلك خمسة أقوال: أحدها: أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض، رواه يوسف بن مهران عن ابن
(١) البقرة: ٢٨.
(٢) البقرة: ٢٥٥. [.....]
(٣) الرعد: ٩.
عباس: والثاني: يلتقي فيه الأوَّلون والآخِرون، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: يلتقي فيه الخلق والخالق، قاله قتادة ومقاتل. والرابع: يلتقي المظلوم والظالم، قاله ميمون بن مهران. والخامس: يلتقي المرءُ بعمله، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي: ظاهِرون من قُبورهم لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ. فإن قيل:
فهل يَخْفَى عليه منهم اليوم شيء؟. فالجواب: أنْ لا، غير أن معنى الكلام التهديد بالجزاء وللمفسِّرين فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يَخْفَى عليه ممّا عَمِلوا شيءٌ، قاله ابن عباس. والثاني: لا يَستترونَ منه بجبل ولا مَدَر، قاله قتادة. والثالث: أن المعنى: أَبْرَزهم جميعاً، لأنه لا يَخْفَى عليه منهم شيء، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ اتفقوا على أن هذا يقوله الله عزّ وجلّ بعد فَناء الخلائق.
واختلفوا في وقت قوله عزّ وجلّ له على قولين: أحدهما: أنه يقوله عند فَناء الخلائق إِذا لم يبق مجيب.
فيَرُدّ هو على نفسه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، قاله الأكثرون. والثاني: أنه يقوله يوم القيامة. وفيمن يُجيبه حينئذ قولان: أحدهما: أنه يُجيب نفسه وقد سكت الخلائق لقوله تعالى قاله عطاء. والثاني: أن الخلائق كلَّهم يُجيبونه فيقولون: «للهِ الواحدِ القهارِ»، قاله ابن جريج.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ فيه قولان: أحدهما: أنه يومُ القيامة، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: وسميت القيامة بذلك لقُربها، يقال: أَزِفَ شُخوص فلان، أي: قَرُبَ. والثاني: أنه يومُ حُضور المنيَّة، قاله قطرب. قوله تعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ وذلك أنها ترتقي إِلى الحناجر فلا تخرُج ولا تعود، هذا على القول الأول، وعلى الثاني: القلوب هي النُّفوس تبلغ الحناجرَ عند حضور المنيَّة قال الزّجّاج: وكاظِمِينَ منصوب على الحال، والحال محمولة على المعنى لأن القلوب لا يقال لها: كاظمين، وإِنما الكاظمون أصحاب القلوب فالمعنى: إِذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كَظْمهم. قال المفسِّرون: «كاظِمِين» أي: مغمومين ممتلئين خوفاً وحزناً، والكاظم: المُمْسِك للشيء على ما فيه، وقد أشرنا إلى هذا عند قوله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «١». ما لِلظَّالِمِينَ يعني الكافرين مِنْ حَمِيمٍ أي: قريب ينفعُهم وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فيهم فتُقْبَل شفاعتُه. يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ قال ابن قتيبة: الخائنة والخيانة واحد. وللمفسرين فيها أربعة أقوال: أحدها: أنه الرجُل يكون في القوم فتمرُّ به المرأة فيُريهم أنه يغُضُّ بصره، فإذا رأى منهم غفلةً لَحَظَ إِليها، فإن خاف أن يَفْطنُوا له غَضَّ بصره، قاله ابن عباس. والثاني: أنه نظر العين إِلى ما نُهي عنه، قاله مجاهد. والثالث: الغمز بالعين، قاله الضحاك والسدي. قال قتادة: هو الغمز بالعين فيما لا يُحِبُّه الله ولا يرضاه. والرابع: النظرة بعد النظرة، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَما تُخْفِي الصُّدُورُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما تُضْمِره من الفعل أن لو قَدَرْتَ على ما نَظَرْتَ إِليه، قاله ابن عباس. والثاني: الوسوسة، قاله السدي. والثالث: ما
(١) آل عمران: ١٣٤.
يُسِرُّه القلب من أمانة أو خيانة، حكاه الماوردي.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٠ الى ٢٥]
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤)
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي: يحكمُ به فيَجزي بالحسنة والسَّيِّئة. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الآلهة. وقرأ نافع، وابن عامر: «تَدْعُونَ» بالتاء، على معنى: قُلْ لهم: لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ أي: لا يَحْكُمونَ بشيء ولا يجازون به وقد نبّه الله عزّ وجلّ بهذا على أنه حَيٌّ، لأنه إِنما يأمُر ويَقضي من كان حيّاً، وأيَّد ذلك بذِكْر السَّمع والبصر، لأنهما إنما يثبُتان لحيٍّ، قاله أبو سليمان الدمشقي. وما بعد هذا قد تقدّم بعضه «١». وبعضه ظاهر إلى قوله تعالى: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وقرأ ابن عامر: «أشَدَّ مِنْكُمْ» بالكاف، وكذلك هو في مصاحفهم، وهو على الانصراف من الغَيْبَة إلى الخطاب، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ أي: من عذاب الله مِنْ واقٍ يقي العذاب عنهم. ذلِكَ أي:
ذلك العذاب الذي نزل بهم بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إلى آخر الآية. ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا.
وأراد بقوله تعالى: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أعيدوا القتل عليهم كما كان أوّلاً، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كان فرعون قَدْ كف َّعن قتل الوِلْدانِ، فلمّا بَعَثَ اللهُ موسى، أعاد عليهم القتل لِيصُدَّهم بذلك عن متابعة موسى. قوله تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: إنه يَذْهَب باطلاً ويَحيق بهم ما يريده الله عزّ وجلّ.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٦ الى ٣٤]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤)
(١) يوسف: ١٠٩.
34
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وإنما قال هذا، لأنه كان في خاصَّة فرعونَ مَنْ يَمْنَعُه مِنْ قَتْله خوفاً من الهلاك وَلْيَدْعُ رَبَّهُ الذي يزعُم أنه أرسله فلْيمنعه من القتل إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أي: عبادتكم إيّاي أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
«وأن» بغير ألف. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «أو أن» بألف قبل الواو، على معنى: إن لم يبدِّل دِينَكم أوْقَعَ الفسادَ، إلاّ أن نافعاً وأبا عمرو قرآ: «يُظْهِرَ» بضم الياء «الفسادَ» بالنصب. وقرأ الباقون:
«يَظْهَرَ» بفتح الياء «الفسادُ» بالرفع، والمعنى: يظهر الفساد بتغيير أحكامنا، فجعل ذلك فساداً بزعمه وقيل: يقتل أبناءَكم كما تفعلون بهم.
فلمّا قال فرعونُ هذا، استعاذ موسى بربّه فقال: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر: «عُذْتُ» مبيَّنة الذّال، وأدغمها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي: متعظّم عن الإِيمان. فقصد فرعونُ قتل موسى، فقال حينئذ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وفي الآل هاهنا قولان «١» : أحدهما: أنه بمعنى الأهل والنَّسب، قال السدي ومقاتل: كان ابنَ عمّ فرعون، وهو المراد بقوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «٢». والثاني:
أنه بمعنى القبيلة والعشيرة، قال قتادة ومقاتل: كان قبطيّاً. وقال قوم: كان إسرائيليّاً، وإنما المعنى: قال رجل مؤمن يكتُم إيمانَه من آل فرعون. وفي اسمه خمسة أقوال: أحدها: حزبيل، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حبيب، قاله كعب. والثالث: سمعون، بالسين المهملة، قاله شعيب الجبّائي. الرابع:
جبريل. والخامس: شمعان، بالشين المعجمة، رويا عن ابن إسحاق، وكذلك حكى الزجاج «شمعان» بالشين، وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضاً. والأكثرون على أنه آمن بموسى لمّا جاء. وقال الحسن: كان مؤمناً قبل مجيء موسى. وكذلك امرأة فرعون، قال مقاتل: كتم إيمانه من فرعون مائة سنة.
قوله تعالى: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ أي: لأن يقولَ رَبِّيَ اللَّهُ وهذا استفهام إنكار وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بما يدُلُّ على صِدقه وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أي لا يضرُّكم ذلك وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب. وفي «بَعْض» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «كُلّ»، قاله أبو عبيدة، وأنشد للبيد:
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٩٢: المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطيا من آل فرعون قال السدي: كان ابن عم فرعون، ويقال: إنه الذي نجا مع موسى، واختاره ابن جرير، ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليا، لأن فرعون انفعل لكلامه واستحقه، وكف عن قتل موسى عليه السلام، ولو كان إسرائيليا لأوشك أن يعاجل له بالعقوبة، لأنه منهم.
(٢) القصص: ٢٠.
35
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذا لَمْ أَرْضَها أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
أراد: كُلَّ النفُّوس. والثاني: أنها صِلَة، والمعنى: يُصِبْكم الذي يَعِدُكم، حُكي عن الليث.
والثالث: أنها على أصلها، ثم في ذلك قولان أحدهما: أنه وعدهم النجاةَ إن آمنوا، والهلاكَ إن كفروا، فدخل ذِكْر البعض لأنهم على أحد الحالين. والثاني: أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فصار هلاكُهم في الدنيا بعضَ الوَعْد، ذكرهما الماوردي.
قال الزجاج: هذا باب من النظر يذهب فيه المُناظِر إلى إلزام الحُجَّة بأيسر ما في الأمر، وليس في هذا نفي إصابة الكلِّ، ومثله قول الشاعر:
قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ «١»
وإنما ذكر البعض ليوجبَ الكلَّ، لأن البعض من الكلّ، ولكن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزَّلل، فقد أبان فَضْلَ المتأنِّي على المستعجِل، بما لا يَقْدِر الخصم أن يدفعه، فكأنَّ المؤمن قال لهم: أَقَلْ ما يكون في صِدقه أن يُصيبَكم بعضُ الذي يَعِدُكم وفي بعض ذلك هلاككم، قال: وأما بيت لبيد: فإنه أراد ببعض النفوس: نَفْسَه وحدها.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي: لا يوفِّق للصَّواب مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ وفيه قولان:
أحدهما: أنه المشرك، قاله قتادة. والثاني: أنه السَّفَّاك الدّم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي: عالِين في أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا أي: من يَمْنَعُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أي: من عذابه والمعنى: لا تتعرَّضوا للعذاب بالتكذيب وقَتْل النَّبيِّ فقال فرعونُ عند ذلك: ما أَراكُمْ من الرّأي والنّصيحة إِلَّا ما أَرى لنفسي وَما أَهْدِيكُمْ أي: أدعوكم إلاّ إلى طريق الهُدى في تكذيب موسى والإيمان بي، وهذا يَدُلُّ على أنه انقطع عن جواب المؤمِن. وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ قال الزجّاج: أي: مِثْلَ يَوْمِ حزب حزب والمعنى:
أخاف أن تُقيموا على كفركم فينزلَ بكم من العذاب مِثْلُ ما نزل بالأُمم المكذِّبة رسلهم. قوله تعالى:
يَوْمَ التَّنادِ قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «التَّنادِ» بغير ياءٍ. وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير، ويعقوب، وافقهم أبو جعفر في الوصل. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وأبو العالية، والضحاك: «التَّنادِّ» بتشديد الدال. قال الزجاج:
أمّا إثبات الياء فهو الأصل، وحذفها حسن جميل، لأن الكسرة تدُلُّ على الياء، وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدَّال، ومن قرأ بالتشديد، فهو من قولهم: نَدَّ فلان، ونَدَّ البعير: إِذا هرب على وجهه، ويدل على هذا قوله: «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» وقوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ «٢» قال أبو علي: معنى الكلام: إنِّي أخاف عليكم عذاب يوم التَّناد. قال الضحاك: إذا سمع الناسُ زفير جهنم وشهيقها نَدُّوا فِراراً منها في الأرض، فلا يتوجَّهونُ قطراً من أقطار الأرض إلا رأوْا ملائكة، فيرجعون من حيث جاءوا. وقال غيره: يُؤمَر بهم إلى النار فيَفِرُّون ولا عاصم لهم. فأمّا قراءة التخفيف، فهي من النّداء، وفيها للمفسرين أربعة أقوال: أحدها: أنه عند نفخة الفزع ينادي الناسُ بعضهم بعضا.
(١) البيت للقطامي، واسمه عمير.
(٢) عبس: ٣٤.
36
(١٢٣٨) روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يأمر الله عزّ وجلّ إِسرافيلَ بالنَّفخة الأولى فيقول: انفُخْ نفخةَ الفزع، فيفزَعُ أهلُ السموات والأرض إِلاّ من شاء الله، فتُسيَّر الجبالُ، وتُرَجُّ الأرض، وتَذْهَلُ المراضعُ، وتضع الحواملُ، ويولِّي الناس مُدْبِرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو قوله:
«يَوْمَ التَّنادِ»
.
والثاني: أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضاً كما ذكر في الأعراف «١»، وهذا قول قتادة.
والثالث: أنه قولهم: يا حسرتنا، يا ويلتنا، قاله ابن جريج. والرابع: أنه ينادى فيه كلُّ أُناس بإمامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء.
قوله تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ فيه قولان: أحدهما: هرباً من النار. والثاني: أنه انصرافهم إلى النّار. قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي: من مانع.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ وهو يوسف بن يعقوب، ويقال: إنه ليس به، وليس بشيء. قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قَبْلِ موسى بِالْبَيِّناتِ وهي الدّلالات على التوحيد، كقوله تعالى: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ... الآية «٢»، وقال ابن السائب: البيِّنات: تعبير الرُّؤيا وشَقُّ القميص،
هو بعض حديث الصور الطويل: أخرجه الطبراني في «الطوال» ٣٦ وأبو الشيخ في «العظمة ٣٨٨ و ٣٨٩ و ٣٩٠ والبيهقي في «البعث» ٦٦٨ و ٦٦٩ والطبري ٢/ ٣٣٠ و ٣٣١ و ١٧/ ١٠ و ٢٤/ ٣٠ و ٦١ و ٣٠/ ٢٦ ٣١- ٣٢. وإسحاق بن راهوية كما في «المطالب العالية» ٢٩٩١ من طرق عن إسماعيل بن رافع، وهو واه، فرواه تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد، وهو واه. جاء في «الميزان» ٨٧٢: ضعفه أحمد ويحيى وجماعة، وقال الدارقطني وغيره: متروك وقال ابن عدي: أحاديثه كلها مما فيه نظر اه باختصار وقد اضطرب فيه فرواه عن مجهول عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، ومرة عن محمد بن كعب عن مجهول عن أبي هريرة، وتارة بدون واسطة وقد نص الحفاظ على وهن هذا الحديث بطوله. فقال الحافظ في «المطالب العالية» ٢٩٩١: فيه ضعف اه وقال البوصيري في ١/ ٢١: تابعيه مجهول، وجاء في «الفتح» ١١/ ٣٦٨- ٣٦٩ عقب حديث ٦٥١٨ ما ملخصه: وأخرجه عبد بن حميد وأبو يعلى في «الكبير» وعلي بن معبد في «الطاعة والمعصية» ومداره على إسماعيل بن رافع، واضطرب في سنده مع ضعفه، فرواه تارة عن القرظي بلا واسطة، وتارة بذكر رجل مبهم بينهما، وتارة عن القرظي عن أبي هريرة، وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في «تفسيره» عن محمد بن عجلان عن محمد القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع، وخفي عليه أن الشامي أضعف منه، ولعله سرقه من إسماعيل، فلزقه بابن عجلان وقد قال الدارقطني: يضع الحديث. وقال الحافظ ابن كثير: جمعه إسماعيل بن رافع من عدة آثار فساقه كله مساقا واحدا. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع: القاضي: أبو بكر العربي في «سراجه» وتبعه القرطبي في «التذكرة» وقول عبد الحقّ في تضعيفه أولى، وضعفه قبله البيهقي اه كلام الحافظ.
وتكلم عليه أيضا ابن كثير رحمه الله في «نهاية البداية» ٢/ ٢٢٣- ٢٢٤ وخلاصة القول أنه حديث ضعيف بتمامه، وبعض ألفاظه في الصحيحين، وغيرهما، وبعضه في الكتب المعتبرة. وبعضه الآخر منكر لا يتابع عليه. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٩٠ بتخريجنا.
__________
(١) الأعراف: ٤٤، ٥٠.
(٢) يوسف: ٣٩.
37
وقيل: بل بعثه الله تعالى بعد موت ملِك مصر إلى القبط. قوله تعالى: فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ أي: من عبادة الله وحده حَتَّى إِذا هَلَكَ أي: مات قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أي: إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدِّد إِيجابَ الحجة عليكم كَذلِكَ أي: مِثْل هذا الضَّلال يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ أي: مُشْرِكٌ مُرْتابٌ أي: شاكّ في التوحيد وصدق الرّسل.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُجادِلُونَ قال الزجاج: هذا تفسير المسرف المرتاب، والمعنى: هُمْ الذين يجادِلونَ في آيات الله. قال المفسرون: يجادِلونَ في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان، أي: بغير حُجَّة أتتهم من الله. كَبُرَ مَقْتاً أي: كَبُرَ جدالُهم مَقْتاً عند الله وعند الذين آمنوا، والمعنى: يَمْقُتهم الله ويَمْقُتهم المؤمنون بذلك الجدال. كَذلِكَ أي: كما طَبَع اللهُ على قلوبهم حتى كذَّبوا وجادلوا بالباطل، يَطْبع عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ عن عبادة الله وتوحيده. وقد سبق بيان معنى الجبّار في هود «١». وقرأ أبو عمرو: «على كلِّ قلبٍ» بالتنوين، وغيرُه من القرّاء السبعة يُضيفه. وقال أبو علي:
المعنى: يطبع على جملة القلب من المتكبِّر. واختار قراءة الإِضافة الزجاج، قال: لأن المتكبِّر هو الإِنسان لا القلب. فإن قيل: لو كانت هذه القراءة أصوب لتقدَّم القلبُ على الكُلِّ؟ فالجواب: أن هذا جائز عند العرب، قال الفراء: تقدُّم هذا وتأخُّره واحد، سمعتُ بعض العرب يقول: هو يرجِل شعره يومَ كل جمعة، يريد: كلَّ يوم جمعة، والمعنى واحد. وقد قرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني: «على قلبِ كلِّ متكبِّر» بتقديم القلب.
قال المفسرون: فلمّا وعظ المؤمنُ فرعونَ وزجره عن قتل موسى، قال فرعونُ لوزيره: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً وقد ذكرناه في القصص «٢». قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ قال ابن عباس وقتادة: يعني أبوابها. وقال أبو صالح: طرقها. وقال غيره: المعنى: لعلِّي أبلُغُ الطُّرق من سماءٍ الى سماءٍ. وقال الزجاج: لعلِّي أبلُغ ما يؤدِّيني إلى السموات. وما بعد هذا مفسَّر في القصص «٣» إلى قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي: ومِثْلُ ما وصفْنا زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عن سبيل الهدى. قرأ عاصم، وحمزة والكسائي: «وَصُدَّ» بضم الصاد، والباقون بفتحها، وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ في إبطال آيات موسى إِلَّا فِي تَبابٍ أي: في بطلان وخسران.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠)
(١) هود: ٥٩.
(٢) القصص: ٣٨.
(٣) القصص: ٣٨.
ثم عاد الكلامُ إلى نصيحة المؤمن لقومه، وهو قوله: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أي:
طريق الهدى، يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ يعني: الحياة في هذه الدار متاع يُتمتَّع بها أياماً ثم تنقطع وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ التي لا زوال لها. مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فيها قولان: أحدهما: أنها الشِّرك، ومثلها جهنم، قاله الأكثرون. والثاني: المعاصي، ومثلُها: العقوبةُ بمقدارها، قاله أبو سليمان الدمشقي. فعلى الأول، العمل الصالح: التوحيد، وعلى الثاني، هو علىٍ الإطلاق. قوله تعالى:
فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يُدخَلونَ» بضم الياء. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالفتح، وعن عاصم كالقراءتين. وفي قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ قولان: أحدهما:
أنهم لا تَبِعَةَ عليهم فيما يُعْطَون في الجنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه يُصَبُّ عليهم الرِّزق صَبّاً بغير تقتير، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
قوله تعالى: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ أي ما لكم، كما تقول: ما لي أراك حزيناً، معناه: ما لك، ومعنى الآية: أخبِروني كيف هذه الحال، أدعوكم إِلَى النَّجاةِ من النار بالإِيمان وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ أي إلى الشِّرك الذي يوجب النّار؟! ثم فسَّر الدَّعوتَين بما بعد هذا.
ومعنى لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي: لا أعلم هذا الذي ادَّعَوْه شريكاً له. وقد سبق بيان ما بعد هذا «١» إلى قوله تعالى: لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ وفيه قولان: أحدهما: ليس له استجابة دعوة، قاله السدي. والثاني:
ليس له شفاعة، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي: مَرْجِعنا والمعنى أنه يجازينا بأعمالنا. وفي المُسْرِفين قولان قد ذكرناهما عند قوله عزّ وجلّ: مُسْرِفٌ كَذَّابٌ «٢».
قوله تعالى: فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني، وأبو رجاء: «فستَذَكَّرونَ» بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأيوب السختياني بفتح الذال والكاف وتشديدهما جميعاً. أي: إَذا نزل العذاب بكم، ما أقول لكم في الدنيا من النصيحة؟! وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي: أَرُدُّه، وذلك أنهم تواعدوه لمخالَفَتِهِ دينَهم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي: بأوليائه وأعدائه. ثم خرج المؤمن عنهم، فطلبوه فلم يقدروا عليه، ونجا مع
(١) البقرة: ١٢٩، طه: ٨٢.
(٢) غافر: ٢٨. [.....]
39
موسى لمّا عبر البحر، فذلك قوله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا أي: ما أرادوا به من الشَّرِّ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ لما لجوا في البحر سُوءُ الْعَذابِ قال المفسِّرون: هو الغرق. قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «١»، قال ابن مسعود وابن عباس: إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يُعْرَضُونَ على النار كُلَّ يوم مرَّتين فيقال: يا آل فرعون هذه داركم. وروى ابن جرير قال: حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: حدثنا حماد بن محمد البلخي قال: سمعت الأوزاعي، وسأله رجل، فقال:
رأينا طيوراً تخرج من البحر فتأخذ ناحية الغرب بِيْضاً، فَوْجاً فَوْجاً، لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشيّ رجع مثلها سُوداً، قال: وفَطَنْتم إلى ذلك؟ قال: نعم، قال: إن تلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يُعْرَضُونَ على النار غدوّاً وعشيّاً، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء، فينبُت عليها من الليل رياش بِيض، وتتناثر السود، ثم تغدو ويعرضون على النار غدوّاً وعشيّا، فذلك دأبها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله عزّ وجلّ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «٢».
(١٢٣٩) وقد روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقْعَدُه بالغَداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك اللهُ إليه يوم القيامة».
وهذه الآية تدل على عذاب القبر، لأنه بيَّن ما لهم في الآخرة فقال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا
صحيح. أخرجه البخاري ١٣٧٩ ومسلم ٢٨٦٦ ح ٦٥ والنسائي ٤/ ١٠٧- ١٠٨ وأحمد ٢/ ١١٣ ومالك ١/ ٢٣٩ والبغوي في «شرح السنة ١٥١٨ والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» ٤٨ من طرق عن مالك به. وأخرجه البخاري ٣٢٤٠ و ٦٥١٥ والترمذي ١٠٧٢ والنسائي ٤/ ١٠٧ وابن ماجة ٤٢٧٠ وأحمد ٢/ ١٦ و ٥١ و ١٢٣ والطيالسي ١٨٣٢ من طرق عن نافع به. وأخرجه مسلم ٢٨٦٦ ح ٦٦ والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» ٤٩ من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٩٦: وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا. ولكن هاهنا سؤال، وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية، وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ، والجواب: أن الآية دلّت على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا في البرزخ، وليس فيها دلالة على اتصال تألمها في القبور، إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح، فأما حصول ذلك للجسد وتألمه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث التي تدل أنه لا يلزم من ذلك أن يتصل بالأجساد في قبورها، فلما أوحي إليه في ذلك بخصوصيته استعاذ منه، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومن الأحاديث- حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود، وهي تقول:
أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم؟ فارتاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «إنما يفتن يهود» قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟» وقالت عائشة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يستعيذ من عذاب القبر. هكذا رواه مسلم. وفي رواية البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها، أن يهودية دخلت عليها فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عذاب القبر؟ فقال: «نعم، عذاب القبر حق». قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد صلّى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر. وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا.
(٢) أثر باطل. أخرجه الطبري ٣٠٣٧ وإسناده واه، عبد الكريم، قال عنه الذهبي في «الميزان» ٢/ ٦٤٤: فيه جهالة اه. وشيخه لم أجد له ترجمة، والأثر باطل.
40
قرأ ابن كثير، وابن عامر وأبو عمرو، وأبو بكر وأبان عن عاصم: «الساعةُ ادْخُلوا» بالضم، وضم الخاء على معنى الأمر لهم بالدخول، والابتداءُ على قراءة هؤلاء بضم الألف. وقرأ الباقون: بالقطع مع كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بإدخالهم، وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٧ الى ٥٢]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
قوله تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ المعنى: واذكر لقومك يا محمد إذ يختصمون، يعني أهل النّار، والآية مفسّرة في إبراهيم «١». والذين استكبروا هم القادة. ومعنى إِنَّا كُلٌّ فِيها أي: نحن وأنتم، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي: قضى هذا علينا وعليكم. ومعنى قول الخَزَنة لهم:
فَادْعُوا أي: نحن لا نَدْعو لكم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: إن ذلك يَبْطُل ولا يَنْفَع.
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك بإثبات حُججهم.
والثاني: بإهلاك عدوِّهم. والثالث: بأن العاقبة تكون لهم. وفصلُ الخطاب: أنّ نصرهم حاصل لا بدّ منه، فتارة يكون بإعلاءِ أمرهم كما أعطى داود وسليمان من المُلك ما قهرا به كلّ كافر، وأظهر محمّدا صلّى الله عليه وسلّم على مكذِّبيه، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بانجاء الرسل وإهلاك أعدائهم، كما فعل بنوح وقومه وموسى وقومه، وتارة يكون بالانتقام من مكذِّبيهم بعد وفاة الرُّسل، كتسليطه بختنصر على قَتَلَة يحيى بن زكريا. وأمّا نصرهم يوم يقوم الأشهاد، فإن الله منجيهم من العذاب، وواحد الأشهاد شاهد، كما أن واحد الأصحاب صاحب. وفي الأشهاد ثلاثة أقوال: أحدها: الملائكة، شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأُمم بالتكذيب، قاله مجاهد، والسدي. قال مقاتل: وهم الحَفَظة من الملائكة.
والثاني: الملائكة والأنبياء، قاله قتادة. والثالث: أنهم أربعة: الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «تَنْفَعُ» بالتاء، والباقون بالياء لأن المعذرة والاعتذار بمعنى الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أي: لا يُقْبَلُ منهم إن اعتذروا وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: البُعد من الرَّحمة. وقد بيَّنّا في الرعد «٢» أن «لهم» بمعنى «عليهم»، وسُوءُ الدَّارِ: النّار.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٣ الى ٦٨]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
(١) إبراهيم: ٢١.
(٢) الرعد: ٢٥.
41
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى من الضلالة، يعني التوراة وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ بعد موسى، وهو التوراة أيضا في قول الأكثرين، وقال ابن السائب: التوراة والإنجيل والزَّبور، والذِّكرى بمعنى التذكير. فَاصْبِرْ على أذاهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ في نصرك، وهذه الآية في هذه السّورة في موضعين «١»، وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف. ومعنى «سَبّح» : صَلِّ. وفي المراد بصلاة العشيّ والإبكارِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس. والثاني: صلاة الغداة وصلاة العصر، قاله قتادة. والثالث: أنها صلاة كانت قبل أن تُفرض الصلوات، ركعتان غُدوةً، وركعتان عشيَّةً، قاله الحسن.
وما بعد هذا قد تقدم آنفا «٢» إلى قوله: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ الآية، نزلت في قريش والمعنى: ما يَحْمِلُهم على تكذيبك إلاّ ما في صدورهم من التكبُّر عليك، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكِبْر، لأن الله تعالى مُذِلُّهم، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرِّهم ثم نبَّه على قدرته بقوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أي: من إعادتهم، وذلك لكثرة أجزائها وعظم جِرْمها، فنبَّههم على قُدرته على إعادة الخَلْق. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني الكفار حين لا يستدلّون بذلك على
(١) غافر: ٥٥، ٧٧.
(٢) غافر: ٤.
42
التوحيد. وقال مقاتل «١». عظمَّت اليهودُ الدجّالَ وقالوا: إن صاحبنا يُبعَث في آخر الزمان وله سلطان، فقال الله: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ لأن الدجّال من آياته، بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي: بغير حجة، فاستعذ بالله من فتنة الدجّال. قال: والمراد ب «خَلْق الناس» : الدجّال، وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والأول أصح «٢».
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فيه قولان: أحدهما: وحِّدوني واعبُدوني أثِبْكم، قاله ابن عباس. والثاني: سلوني أُعْطِكم، قاله السدي. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي فيه قولان: أحدهما: عن توحيدي. والثاني: عن دعائي ومسألتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو: «سيُدْخَلونَ» بضم الياء، والباقون بفتحها، والدّاخر:
الصّاغر. وما بعد هذا قد سبق في مواضع متفرّقة «٣» إلى قوله: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وهو أجل الحياة إلى الموت وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ توحيدَ الله وقدرته.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٤]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يعني القرآن، يقولون: ليس من عند الله، أَنَّى يُصْرَفُونَ أي: كيف صُرِفوا عن الحق إلى الباطل؟! وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم القَدَريَّة، ذكره جماعة من المفسرين، وكان ابن سيرين يقول: إن لم تكن نزلت في القَدَريَّة فلا أدري فيمن نزلت.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة:
«والسلاسلَ يَسحبونَ» بفتح اللام والياء. وقال ابن عباس: إذا سحبوها كان أشدَّ عليهم.
قوله تعالى: يُسْجَرُونَ قال مجاهد: توقدَ بهم النار فصاروا وَقودَها.
قوله تعالى: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مفسَّر في الأعراف «٤». وفي قوله: لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً قولان: أحدهما: أنهم أرادوا أن الأصنام لم تكن شيئاً، لأنها لم تكن تضُر ولا تنفع، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنهم قالوه على وجه الجحود، قاله أبو سليمان الدمشقي، كَذلِكَ أي: كما أضلَّ الله هؤلاء يضلّ الكافرين.
(١) عزاه لمقاتل، وهو متروك متهم.
(٢) مراد المصنف، أنها نزلت في قريش، هو الأصح. والله أعلم. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٠٠:
وقال كعب وأبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود. وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه، والله أعلم.
(٣) يونس: ٦٧، القصص: ٧٣، الأنعام: ٩٥، النمل: ٦١، الأعراف: ٢٩، الحج: ٥.
(٤) الأعراف: ١٩٠.

[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٥ الى ٨٥]

ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩)
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
ذلِكُمْ العذاب الذي نزل بكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: بالباطل وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ وقد شرحنا المَرَح في بني إسرائيل «١»، وما بعد هذا قد تقدَّم بتمامه «٢» إلى قوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وذلك لأنهم كانوا يقترِحون عليه الآيات فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وهو قضاؤه بين الأنبياء وأممهم، والْمُبْطِلُونَ: أصحاب الباطل.
قوله تعالى: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي: حوائجكم في البلاد. قوله تعالى: أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
استفهام توبيخ. قوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ في «ما» قولان: أحدهما: أنها للنفي. والثاني: أنها للاستفهام، ذكرهما ابن جرير.
قوله تعالى: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الأُمم المكذِّبة، قاله الجمهور، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنهم قالوا: نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نُحَاسَبَ، قاله مجاهد. والثاني: فرحوا بما كان عندهم أنه عِلْم، قاله السدي. والقول الثاني: أنهم الرُّسل، والمعنى: فرح الرُّسل لمّا هلك المكذِّبون ونَجَوْا بما عندهم من العِلْم بالله إذ جاء تصديقُه، حكاه أبو سليمان وغيره. قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ يعني بالمكذِّبين العذاب الذي كانوا به يستهزئون.
والبأس: العذاب. ومعنى سُنَّتَ اللَّهِ: أنه سَنَّ هذه السُّنَّة في الأُمم، أي: أن إيمانهم لا ينفعُهم إذا رأوا العذاب، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ.
فإن قيل: كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك؟ فعنه جوابان. أحدهما: أن «خسر» بمعنى «هلك»، قاله ابن عباس. والثاني: أنه إنما بيَّن لهم خُسرانهم عند نزول العذاب، قاله الزّجّاج.
(١) الإسراء: ٣٧.
(٢) النحل: ٢٩، يونس: ١٠٩، النساء: ١٦٤.
Icon