تفسير سورة غافر

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة غافر من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ غَافِرٍ (الْمُؤْمِن)
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ... (٧)﴾
قال الزمخشري: قيل: خلق الله تعالى خلقا يقال له: [إسرافيل*]: زاوية من زوايا العرش على كاهله.
ابن عرفة؛ إنما هذا إذا قلنا: إن السماء بسيطة، وأما إن كانت [كورية*]؛ فلا يحتاج إلى حامل، لأن الكورة تحمل بعضها بعضا، نعم إن مجموعها محتاج أن تحل بمستقر.
ابن عرفة: وهذا دليل على أن الملائكة أجسام لطيفة، وهو مذهب أهل السنة.
قوله تعالى: (وَمَنْ حَوْلَهُ).
يحتمل أن يكون حاملا ولا محمولا، أي لَا يكون ظلا؛ فيكون معطوفا على الذين يحملون العرش وخبره يسبحون.
قوله تعالى: (وَيُؤمِنُونَ بِهِ).
الزمخشري: ما فائدة قوله تعالى: (وَيُؤمِنُونَ بِهِ)؟، فأجاب: بأن فائدته إظهار شرف الإيمان والحض عليه.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بجواب آخر: وهو احتمال عود الضمير المجرور بأن على الحمد، أي ويؤمنون بحمد ربهم، بمعنى أنهم يعتقدون أنه المستحق للحمد؛ فإنا قد نجد في الدنيا بعضنا يحمد بعضا في الظاهر دون الباطن.
قوله تعالى: (رَحْمَةً وَعِلْمًا).
العلم عام، والرحمة إما عامة فما من عذاب منزل إلا وفي علم الله تعالى ما هو أعظم منه، وإما أنه مخصوص بذلك وبالغائب.
قوله تعالى: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا).
احتج بها المعتزلة، ونحن نقول: إما أن المعاصي أقل والتوبة هنا من الكفر لقوله تعالى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، وإما أن التوبة من الذنوب والمعاصي مسكوت عنه، وهذا الدعاء مقبول من البعض قطعا.
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا).
أي وجبت.
قوله تعالى: (أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ).
حجة لمن يقول من المحدثين: إن الصاحب هو من دام الصحبة معك، خلافا لأكثر المحدثين في قولهم: إن الصاحب من رأى النبي ﷺ وجلس معه ولو لحظة.
قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا).
[المراد*] من قريش، وشبه حالهم في عذابهم وإهلاكهم، [بحال*]: أممهم السالفة أو عام فيهم، وفي الأمم السالفة، وشبه إهلاكهم في الدنيا إهلاكهم في الآخرة الموعود بوقوعه بهم.
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ... (٨)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: إن الدعاء تحصيل الحاصل؛ لَا يجوز إذ لَا فائدة فيه؛ ووعد الله حق واجب وقوعه، وقال تعالى (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)، قال: وأجيب: بأن الدعاء يتم لمن اتصف بالتوبة، واتباع سبيل الحق والدعاء لمن أحل بعض ذلك؛ لكن يلحقه بروحه في وفاته، ويدخله الجنة التي وعد المتقين، وراعى في هذه المعطوفات السبقية في الزمان، فالأب أنسب ثم الزوجات ثم الأولاد.
وقوله تعالى: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
مع أن المناسب الغفور الرحيم إشارة أن هذه النعمة محض تفضل منك ولا يجب عليك شيء.
قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ... (١٧)﴾
قال ابن عرفة: هذا احتراس أو تتميم، أما تقرير كونه احتراسا فلأنه لما تقدمها (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، فقد يتوهم مَن [وُصف الزيادة*] في الحدود، فاحترس من ذلك بما يتضمن أن من [صفته*] العدل؟ فيجزي كل نفس ما كسبت لَا يزيد عليها ولا ينقص، وأما تقدير كونه تتميما، فلأنه لما تقدم اختصاص الله تعالى يومئذ بالملك والقهر والغلبة تممه بأن السلاطين والجبابرة أذلاء محكومون، فهو ينصف المظلوم من ظالمه؛ وإن كان جبارا عنيدا، [**وخبره بما كسبت وما كسب؛ فعلى قراءة
السالكون]: المراد نجازي كل نفس بسبب كسبها الذي كسبت، فيرجع [سببه للجزاء*] وهو الثواب والعقاب، والجزاء يطلق على الإثم وهو المجزى به، وعلى المصدر، وهو [المجازاة*] وهي المحاسبة.
قوله تعالى: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ).
مع أن الظلم منفي عن الله تعالى في الدنيا والآخرة، لكن التقييد بالظرف راجع إلى النَّاس فيما بينهم، أي لَا يظلم بعضهم بعضا يوم القيامة بخلاف الدنيا.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ... (١٨)﴾
يحتمل أن يكون الظرف والعامل فيها ما في (الآزِفَةِ)، أي يوم الواقعة القريبة إذ الحناجر، ويكون عبر بإذ عن المستقبل بالتحقيق، كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ).
فإن قلت: المضاف إليه لَا يعمل، قلنا: قد عملت الجوامد، كقوله: أنا ابن جارية إذ حد النظر؛ وأحرى المضاف إليه، وجعله أبو حيان بدلا من قوله (يَوْمَ الآزِفَةِ) وأعرب (يَومَ الآزِفَةِ) مفعولا؛ فأخرجها عن الظرفية، وجعله من عمل الفعل في المفعول به لَا في الظرف.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ... (٢٠)﴾
يحتمل أن يريد بالقضاء الحكم فقط، ويحتمل الحكم والفعل، فيكون فيه شبهة للمعتزلة في أنه لَا يفعل القبائح؛ يحتمل أن يريد بالحق الأمر المستلزم للثواب، فحينئذ ترك هذه الشبهة، ويحتمل أن يريد به نفس الحق الذي هو ضد الباطل، وهذا إما في الدنيا والآخرة فهو الصواب، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ)، أو هو في الدنيا فقط.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا... (٢١)﴾
يحتمل السير الحسي بالنظر في آثار الأمم السالفة وفي مساكنهم، وحمل السير المعنوي بالنظر في كتب التاريخ، ويؤخذ منه أن التواتر يفيد العلم، وأن العلم الحاصل عن التواتر نظري لَا ضروري؟ وفيه خلاف، قيل: إنه نظري، وقيل: إنه ضروري، وهذه الآية تدل على أنه نظري، كقوله (فَيَنْظُرُوا)، لكن هذا إن أريد به النظر بالفكر، إما أن أريد به النظر بالبصر والسير الحسي؛ فلا يؤخذ منه ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣)﴾
ابن عرفة: كررت هذه القصص في القرآن كثيرا؛ وذلك لكثرة الوفود الواردين على النبي صلى الله محليه وعلى آله وسلم؛ [فيسمعها*] قوم، ولم يسمعها آخرون، فأنزلت القصة عليه لأجلهم بلفظ آخر، إما بحسب اختلاف الأذهان والعقول، وإما لأن الإخبار بها إذا أنزلت بلفظ آخر خاص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَا يسمع من غيره، بخلاف ما لو نزلت بلفظها الأول لكان يقول بعض الصحابة ممن سمعها قبل ذلك يشارك النبي صلى الله محليه وسلم في الإخبار بها للوفود الواردين عليه.
قال: والآيات المعجزات والسلطان المبين راجع إلى التحدي بها والاحتجاج، فهو من قبيل الإرجاع، كقولك: جاءني الشيخ والرجل الصالح، أو يكون السلطان راجع إلى ظهور المعجزة إلا المقترح، قال: وليس من شرطها ظهورها أو راجع إلى نتيجتها، قوله تعالى: (لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) يحتمل أن يكون من باب العدم والملكة؛ فهم يعبدون ولا ينفعهم، أو من باب السلب والإيجاب؛ مثل الحائط لَا يبصر فهم لَا قدرة لهم على العبادة بوجه.
قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤)﴾
إما أن بعضهم، قال (سَاحِرٌ)، وبعضهم قال: (كَذَّابٌ)، أو كل واحد منهم قال ذلك، وهل المراد (كَذَّابٌ) ب الإطلاق، أو كذب في سحره إشارة إلى أن سحره توبة وتقوى وليس بحقيقي؛ لأن السحر عندهم محمود، إذ هو علم من العلوم، وعلى هذا فيكون أطلق الكذب على الفعل، وقد تقدم في حديث سليمان؛ حيث كان يظهر أنه يفعل ولا يفعل، أنه يؤخذ منه عدم إطلاق الكذب على الفعل، وظاهر كلام ابن التلمساني في باب الإخبار في صحة إطلاق الكذب عليه ونحوه لابن عطية في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا).
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا... (٢٥)﴾
مع ما قبلها إشكال. لإيهامه أنه قبل ذلك [لم يكن جاءهم*]، كقولهم: جئت زيدا، فلما أخبرته بقصة عمرو خرج مسافرا، فمفهومه أنه قبل المجيء لم يخبره بذلك، فيلزم منه أنه يجيبهم بالحق، قيل ذلك بدليل قوله تعالى: (فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذابٌ)، والجواب: إنه أولا لم يدعهم إلى الإيمان، بل أتى بالمعجزات فقط، ثم لما دعاهم إلى الإيمان، قالوا ذلك، واعلم أن المبتدأ لَا يحذف إلا إذا كان الخبر لَا يصلح له؛ وكذلك هذا هو عندهم لَا يصح أن يوصف بالسحر إلا هذا الرجل.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ... (٢٧)﴾
من باب عطف الصفات لَا الموصوفات، لئلا يلزم عليه تعدد الآلهة.
فإن قلت: هلا قال: ربنا، فيغلب ضمير المتكلم، لأنه الأصل؟ فالجواب: إنه قال (وَرَبِّكُمْ)، ليدخل فيه فرعون وقومه، ولو قال: وربنا، ما دخل فيه فرعون.
قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨)﴾
ابن عرفة: اتبعوني بالإيمان، كقولك: قال الصالح: اتبعوني في الصلاح.
وقال الفقيه: اتبعوني في الفقه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ... (٣٩)﴾
أي تمتع زائد، والتمتع أمر عرضي، والعرض لَا يبقى زمنين، والقرار وهو دائم لأن مذهبنا: أن الأجسام فانية؛ ولابد لها من مستمر، والمتاع راجع إلى نفي المانع، والقرار راجع إلى وجود المقتضي؛ لأن التمتع مانع من الزهد في الدنيا والتقشف، وكون الآخرة دار مستقر تقتضي وجود الحرص على [الأسباب الموصلة*] إليها.
قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠)﴾
أي رزقا كثيرا دائما غير منقطع؛ لَا يحاسبون على كثيره بشيء.
قوله تعالى: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ... (٤٤)﴾
ابن عرفة: كان بعضهم يقول في مثل هذا، وفي قوله تعالى: (مَا وَعَدَ الرَّحْمَن وَصَدَقَ الْمُرسَلُونَ)، إنما المخبر بالشيء قبل وقوعه؛ تارة يخبر به لموجب ودليل عام عنده، وتارة يكون خبره لغير موجب، فإن أخبر به لموجب ثم وقع نحو ما أخبر به كان خبره صدقا، وإلا كان اتفاقيا ولم يكن صدقا، وكان يستشهد على ذلك بقول مالك رحمه الله فيمن حلف بالطلاق؛ لتمطرن السماء غدا فأمطرت؛ فإنه تطلق عليه زوجته؛ لأن ذلك أمر اتفاقي لَا دليل عليه، فمعنى الآية سيظهر لكم صدقي وتندمون على اتباعي فيه؛ وتعلمون أني إنما قلته لكم لدليل ظهر لي وخفي عنكم.
قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا... (٤٦)﴾
نقل ابن عطية، عن الأوزاعي، أنه قال له رجل: [إني رأيت طيورا بيضا تغدو من البحر ثم ترجع بالعشي سودا مثلها، فقال الأوزاعي: تلك هي التي في حواصلها أرواح آل فرعون يحترق رياشها وتسود بالعرض على النار*].
قيل لابن عرفة: وكيف تغدو من الغد [بيضا*]؟ فقال: لعل تلك الأرواح تنتقل من الغد إلى حواصل طيور أخرى بيض، أو لعل تلك الطيور نبت لها من الغد ريش أبيض؛ لأن ذلك خرق.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ... (٤٧)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: المحاجة مفاعلة واقعة من الجانبين؛ وهي هنا واقعة من الضعفاء فقط، وأما المستكبرون فإنهم قالوا: [إِنَّا كُلٌّ فِيهَا*]، وهذا ليس باحتجاج ولا جواب مع أن قول الضعفاء أتى كالتفسير للمحاجة، قال: وتقدم الجواب بأن الجملة المفسرة إنما تأتي غير معطوفة، والعطف يقتضي المغايرة إلا في قليل، كقوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) فهذا ما خرج عن ذلك؛ فلم يفسر والآية مخاطبتهم، بل ذكر ما يقولون بعد تمامها.
قيل لابن عرفة: أو يكون قول المستكبرين: إن الله قد حكم بين العباد هو الجواب: أي حكم بمساواتكم لنا في العذاب، فلا طاقة لنا على [تخفيفه*] عنكم.
قوله تعالى: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٥٠)﴾
يؤخذ منه منع أهل الذمة من الخروج مع المسلمين للاستسقاء في دار الدنيا، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لمعاذ لما بعثه إلى اليمن [وأهلها*] كفار: "واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب".
قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (٥١)﴾
ابن عطية: هذا إما عام مخصوص؛ لأن في الأنبياء من قتله قومه ولم ينصر عليهم كيحيى، وإما لأن المضرة واقعة بين وفاة من قتل منهم بالانتقام له في قومه في الدنيا.
ابن عرفة: فإن قيل: أن يحيى عليه السلام ليس برسول فالمقام باق على عمومه، قلنا: هو داخل في عموم قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا).
قوله تعالى: ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ... (٥٢)﴾
الأصل [أن*] يقال: وعليهم اللعنة، لكن كان بعضهم يقول: عبر باللام المقتضية للملك والاستحقاق وإشعار استحقاقهم اللعنة، كأنهم حائزون لها [حوز المالك لها*].
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى... (٥٣)﴾
ابن عرفة: هو [التوراة*] وأسباب الرشاد.
قوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ).
عبر بالوراثة؛ لأن بني إسرائيل طوائف تنتقل فيهم التوراة من جيل إلى جيل، فكان بعضهم يرثها عن بعض.
ابن عطية: والوراثة في حق الصدر الأول منهم مجاز.
ابن عرفة: بل حقيقة؛ لأنهم ورثوها عن موسى عليه السلام؛ وصاروا بعد موته هم القائمين بها؛ وعنهم أخذها أولادهم.
قوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥)﴾
إن أريد به حقيقة الذكر؛ فيكون من باب ضربته الظهر والبطن، فالأمر بالتسبيح عام في كل الأزمنة، وإن أريد به الصلوات الخمس؛ فيكون على ظاهره وحقيقته، واختلفوا، ما الأفضل: فالصحيح أن الفكر في أوقاته المعينة في الحديث أفضل من قراءة القرآن في غير ذلك الوقت أفضل من الذكر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ... (٥٦)﴾
قال ابن عرفة: فإن قلت: ما فائدة قوله تعالى: (أَتَاهُم)، مع أنه مستغن عنه؟
قال: عادتهم يجيبون: بأن السلطان المراد به الموجب، أي بغير شبهة توجب لهم عذر.
قيل لابن عرفة: السلطان هو الدليل لَا الشبهة، فقال: بل المراد به هنا الموجب، ومنهم من أجاب: بأن المراد الدليل النقلي والعقلي، فقوله تعالى: (بِغَيرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُم) إشعار نفي الدليل السمعي، وقوله تعالى: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ)، إشعار بنفي الدليل العقلي، فدل على أن كفرهم [عناد*].
قوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ).
قال ابن عرفة: إن قلت: لم كرر (لَا) في قوله تعالى: (وَلَا الْمُسِيءُ (٥٨).. ، ولم يذكرها في قوله تعالى: (وَالْبَصِيرُ)؟
قال: عادتهم يجيبون: بأن عدم مساواة الأعمى والبصير ظاهرة لَا تخفى على أحد، وعدم مساواة المسيء للصالح خفية لَا يدركها إلا من اطلع على حالهما معا، فلذلك كرره.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ... (٦٠)﴾
قال: عادتهم يقولون: القرآن كله [قول الله تعالى*] فتخصيصه بنسبته إليه لَا بد له من فائدة، وهي الاعتناء بهذا، [وأن سُؤلك*] لَا يسوغ تركه، وقوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، ولفظ الأمر فيه زيادة الإشعار بتأكد الطلب.
قال ابن عطية: ومعناه إن شئت ذلك.
قال ابن عرفة: لَا حاجة إلى تقييده بالمشيئة، لأن هذه الشرطية مطلقة كما تقدم لنا في الجواب عن الإشكال الوارد في قوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ)، قال: وبيان ذلك أن القائل لزوجته: [إن دخلت الدار*] فأنت طالق، فلا تطلق [بالدخول*] إلا مرة واحدة، ولا يتكرر عليه الطلاق بدخولها مرارا، فالمطلق يصدق وقد وجدنا بعض [الداعين*] يستجاب، فتصدق الشرطية بذلك، أو يجاب: بأن كل داع يستجاب له، ومن لَا يستجاب له لم يكن أخلص النية، أو استجيب له بإدخال الثواب باستجابة الدعاء وحفظه الليل والنهار ونقصه، والخبر هو المبتدأ لكن أفاد بما ذكر معه من الأوصاف، وقدم هنا صفة الخلق على كلمة التوحيد، وعكس في الأنعام لتقدم ذكر المخلوقات هنا.
قوله تعالى: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)﴾
استغراب وتعجب من صرفهم على الإيمان به، ثم قال: كذلك [يؤفك*] على وجه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، و [يؤفك*] حكاية حال ماضية، أي كذلك فعل الذين من قبلهم.
قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً... (٦٤)﴾
ابن عرفة: انظر هل يؤخذ أنها [كورية*]، وأنها كالقبة، فهي [نصف*] دائرة، لكن يقال: لو كانت نصف دائرة لانكشف عنه دورانها.
قوله تعالى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ).
قالوا: الإنسان هو أحسن الحيوانات خلقا، كما قال الله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ).
فإن قلت: إنه غير عام فإن فيه الأعرج والأحدب والأعمى، قلنا: أحكام الخلق لها اعتبارات، فإن اعتبر بالنسبة إلى المفعول فيرد ما قلتموه، وإن اعتبر بالنظر إلى الفاعل فإِنه عام؛ لأنه فعل كله بحكم متقن دال على [اتصاف*] فاعله بالقدرة والإرادة وصفات الكمال، وتفاوته لَا يقدح في إبداعه، ويحتمل أن يقال: إن كل أحدب هو أحسن من غيره من الحيوانات، فمن هو أحدب وأعمى من النَّاس أحسن من أعمى من غيره.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... (٦٦)﴾
قال ابن عرفة: التعبير عن المنع عن الشيء بلفظ النهي يشعر بأن المكلف بذلك كان ملتبسا به قبل النهي، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يعبد آلهتهم قط، وفرق بين قولك: لَا تفعل كذا، وبين قولك: نهيتك من فعل كذا، فالأول: يقتضي المنع المطلق، والثاني: يقتضي المنع مما أنت فاعله.
قال: والجواب: أن النهي عن المنتهي يقتضي اتصاف أمثاله به، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان بين أظهر المشركين فنهي عن أن يتصف بصفاتهم، قال: وعادة الشيوخ يذكرون سؤالا موردا في حسن الائتلاف؛ وهو لم [أسند*] لفظ العبادة ولفظ الدعاء لآلهتهم، وهلا قال: أن أعبد الذين تعبدون، أو يقول: أن أدعو الذين تدعون، أو يقول: إن الذين تعبدون فما السر في ذلك؟
قال: فأجابوا: بأن المراد بالعبادة الخضوع، أي نهيت أن أخضع للذين [دعوتموهم*] آلهة، والخضوع يستلزم أن يدعوهم آلهة بل هو أعم، فناسب إسناد النهي للأعم المطلق؛ لكونه يستلزم النهي عما فوق من باب [أحرى*]، فاستعمل الأخص في الثبوت والأعم في النهي.
فإن قلت: قوله تعالى: (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي)، مفهومه أنه كان متصفا بذلك قبل مجيء البينات؟ فالجواب: بأن النهي له والمراد غيره، وإما أن يراد بالبينات مطلق الوحي المنزل عليه وعلى من قبله من الأمم، ولا شك أنه كان حين بلوغه متشرعا بشريعة إبراهيم صلى الله عليه وعلى آلهما وسلم، وإنما يرد السؤال لو قلنا: المراد لما حضر زمن إرساله ونزول الوحي عليه.
قوله تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
المراد بالإسلام العملي الراجع للصلاة والصوم والزكاة، والأول أمر عملي اعتقادي، والنهي عما تقدم إما بالشرع أو بالعقل أو بهما، فيرجع إما للحكم فهو شرعي، أو للدليل فهو عقلي أو لهما معا.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ... (٦٩)﴾
قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق التنبيه على كمال الله تعالى بالقدرة، وأخرج عالم الإنسان من العدم للوجود، وتصويره ونقله من حال إلى حال، ثم نقل إلى حالة العدم، واتصافه بالحياة والوحدانية عقبه بذم حالة المجادلين في آيات الله مع وضوحها، وآيات الله إما القرآن وإما المعجزات.
ابن عرفة: ، وتقدم في الآية سؤالا قد خفي ظهوره، وهو أن الجملة المتضمنة لمعنى إذا؛ عقبت بالإنكار، فإنما يريد فيها نقيض لازم ذلك المعنى، ولا يتكرر فيها عين لازمه، تقول: أحسنت إليك فكيف تكفرني، ولا تقول: أحسنت إليك فكيف تشكرني، لأن الشكر من لوازم الإحسان والإنكار هنا تسلط على صرفهم عن الآية وهو عين لازم المجادلة فيها، قال: والجواب: أن ذلك إذا كان هو العجب بأمر خارجي عن المعنى الأول، فحينئذ تؤتى فيه بعين اللازم، كقولك: من لم يعلم إنتاج الشكل الأول فكيف يدرك بعقله إنتاج الشكل الثاني، وهنا التقدير كيف تجادلون فيها وأنى يصرفون عن المانع من خبر الذم.
قلت: وقال ابن عطية في قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عن طريق النظر والهدى.
وقال الزمخشري: كيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان.
قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠)﴾
وفيه الفاء للتعقيب وسوف للتنفيس، فكيف صح الجمع بينهما؟ فالجواب: إن التعقيب لذات الشيء، والتنفيس للعليم بذلك، وفرق بين كون الأغلال في أعناقهم وعلمهم قبل نزوله بهم ليس كعلمه بعد حلوله بهم.
قوله تعالى: ﴿وَالسَّلَاسِلُ... (٧١)﴾
بالخفض.
ابن عطية: على [النصب*]، أي إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، مثل: أدخلت القلنسوة في رأسي.
قال ابن عرفة: وكان يمشي لنا أنه على ظاهره وليس على القلب، والمراد أن الأغلال في السلاسل، والسلاسل في أعناقهم، فالأغلال في أعناقهم، وقد أراني الفقيه أبو سعيد الغبريني أثر القيد في عبد تهادت ساقه [**طرفا] لهم، وهم يجرونها.
قوله تعالى: ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا... (٧٤)﴾
قال ابن عطية: فدعوا إلى الكذب وهذا من أشد الاختلاط وأبين الفساد.
وقال الزمخشري: أي شيئا، أي نبين لهم أنهم لم يكونوا شيئا، كما تقول: حسبت أن فلانا شيئا، فإذا هو ليس بشيء.
قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ).
ابن عرفة: مثل ضلال الأصنام وغيبتهم عنهم في الآخرة، يضل الله الكافرين في الدنيا [حين*] طلبوا الآلهة وطلبتهم الآلهة [لم يتعارفوا*].
قلت: والمعنى على ما قال ابن عطية، أي مثل ضلالهم في الآخرة بكذبهم في إنكارهم عبادتهم الأصنام فضلهم الله في الدنيا لعبادتهم لها.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ... (٧٥)﴾
ابن عرفة: [يوجب*] أن الفرح بغير الحق كبيرة لترتب العقاب الأبدي عليه.
فإِن قلت: العقاب عليه وعلى المدح بعاقله هل هو على كل واحد منهما بانفراد؟ قال: وانظر هل الفرح بغير المباح داخل في ذلك أم لَا؟ قلنا: تجري على الخلاف في المباحِ هل هو حكم شرعي أو لَا؟ وتقدم [نظيره*] في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا).
قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ... (٧٧)﴾
قال ابن سلامة في شرح أسماء الله الحسنى: صرح مسلم أن النبي - ﷺ - إذا قام من الليل يصلي، يقول: "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض" الحديث، وفيه: "أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق والساعة حق"، فلما ذكر ذات الله وصفاته عرف الحق بالألف
واللام، ولما ذكر لقاء الله والجنة والنار نكر الحق ليظهر الفرق والله أعلم مبين ذاته وأفعاله، وأنه الحق الذي لم يكن لغيره وإن كان حقا سواه قائما هو به وبإثباته لولي.
ابن عرفة: أراد أنه عرف الحق الذي هو صفة ذات وصفة نفس، لأن الوعد هو الكلام وكلام الله نفسي لَا لفظي لكن ترد عليه تنكيرا في هذه الآية.
قوله تعالى: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ).
قال ابن عرفة: هذه شرطية متضمنة مانعة الخلو من غير مقدمها ونقيض تاليها، أي فإما نرينك قبل وفاتك وبعض الذي نعدهم أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون فتنتقم لك منهم على كل حال لهم، قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ... (٧٨).. أي إلا بأمر الله أو لَا يخلق الله القدرة على ذلك.
قوله تعالى: (قُضِيَ بِالْحَقِّ).
راجع إما للحكم أو التنفيذ، والمراد به تنفيذ الحكم الواقع أزلا وهو إظهاره.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا... (٧٩)﴾
قال الزمخشري: [الإبل خاصة*].
وقال ابن عطية؛ هي الأزواج الثمانية.
وقال الطبري: إن الأنعام في هذه: يعم البقر، والإبل، والغنم، والخيل، والبغال، والدواب، وغير ذلك.
ويحكي ابن [رشد*] في البيان قولا: بأن الأنعام يدخل تحتها الظباء.
قوله تعالى: (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا).
كان بعضهم يقول للفعل لأنه فعل للعلة لأن الله تعالى لَا يفعل [للغرض*]، لكن أفعاله معللة شرعا.
قوله تعالى: (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ).
هذا من عطف العام على الخاص لأن المركوب خاص ببعض النَّاس، وخاص بالإبل والأكل عام في جميع النَّاس، وعام في جميع الأنعام.
قوله تعالى: ﴿وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ... (٨٠)﴾
من عطف الخاص على العام؛ لأن المنافع خاصة في جميعها من الصوف والوبر وغيره.
قوله تعالى: ﴿كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ... (٨٢)﴾
راجع إلى الملائكة، وقوله (وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ) للكيفية وشدة القوة تارة يظهر آثارها، وتارة لَا يظهر لها أثر، ويؤخذ منه أن التواتر يفيد العلم لأنا نشاهد آثار من مضى وأعمالهم وآنيتهم ولا نعلم إنها آثارهم إلا بخبر التواتر.
قوله تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ).
إما نفي أو استفهام على سبيل الإنكار والعجب.
قوله تعالى: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ... (٨٣)﴾
حكى الزمخشري فيه [وجوها: منها: أنه على طريق التهكم في قوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ: وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب*].
* * *
Icon