تفسير سورة الشورى

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة الشورى
مكية. وهي خمس وثلاثون آية، ومناسبتها لما قبلها قوله :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ﴾ إلى قوله :﴿ حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾ [ فصلت : ٥٣ ] أي : إن القرآن حق، أي : وحي من الله، مع قوله :﴿ كذلك يوحي إليك ﴾، فهي كالتتمة لما قبلها.

قال تعالى :
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ حم ﴾ * ﴿ عسق ﴾ * ﴿ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ * ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ العَظِيمُ ﴾ * ﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ حم. عسق ﴾ يُشير والله أعلم بكل حرف إلى وصف يدلّ على تعظيم قدر حبيبه صلى الله عليه وسلم، فالحاء : أحبَبْنَاك، أو : حبيْناك، أي : أَعطيناك الملك والملكوت، والميم : ملَّكناك، والعين : عَلَّمناك ما لم تكن تعلم، أو : عيّناك للرسالة، والسين : سيّدناك، والقاف : قرّبناك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : حم عسق، الحاء تُشير إلى حمده لأوليائه، وتنويهه بقدرهم، والميم إلى تمليكهم التصرُّف في حس المُلك، وأسرار الملكوت، والعين إلى علو رتبتهم، أو إلى علومهم اللدنية، والسين إلى سيادتهم وسَنَا نورهم وسرهم، والقاف إلى قُربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم في وجود محبوبهم، فيمتحي القرب من شدة القرب، وبذلك صاروا مقربين. والوحي ينقسم إلى أربعة أقسام ؛ وحي أحكام، ووحي منام، ووحي إلهام، ووحي إعلام، فاختصت الأنبياء بالأول، وشاركتهم الأولياء في الثلاثة. ووحي إعلام هو إطّلاعهم على بعض المغيبات.
وقوله تعالى :﴿ يكاد٣ السماوات يَتَفَطَّرن ﴾ أي : يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطُف حسها أدركت هيبة معاني أسرار الذات، وكذلك الأرواح ؛ إذا لطفت ورقّ حسن بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله، وإذا كثفت بشريتها، بمباشرة الحس واتباع الهوى، غلظ حجابها، فبعدت عن حضرة الحق في حال قربها. وقوله تعالى :﴿ ويستغفرون لمَن في الأرض ﴾، انظر جلالة قدر هذا الآدمي، حتى سخَّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له، ويسعون في مصالحه، فاستحِي من الله أيها العبد، إن كان لك عقل وتمييز.

﴿ كذلك يُوحِي إِليك ﴾ أي : كما خصصناك بهذه الخصائص العظام أوحينا إليك ﴿ وإِلى الذين مِن قبلك ﴾، فقد خصصناهم ببعض ذلك، وأوحينا إليهم، وفي ابن عطية : عن ابن عباس : أن هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله، المنزلة على كل نبيّ أُنزل عليه كتاب، ولذلك قال تعالى :﴿ كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك ﴾. وقال القشيري : الحاء : مفتاح اسمه حكيم وحفيظ، والميم : مفتاح اسمه مالك وماجد ومؤمن ومهيمن، والعين : مفتاح اسمه عليم وعليّ، والسين : مفتاح اسمه سيد وسميع وسريع الحساب، والقاف : مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدوس، أقسم الله تعالى بهذه الحروف أنه كذلك يُوحي إليك يا محمد. ه.
وقال ابن عطية : وإنما فصلت " حم عسق "، ولم يفعل ذلك ب " كهيعص " ؛ لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها. ه. زاد النسفي : وأيضاً : هذه آيتان، و " كهيعص " آية واحدة. ه. فانظره.
﴿ اللهُ ﴾ أي : يوحي الله ﴿ العزيزُ الحكيمُ ﴾ : فاعل " يُوحي "، وقرأ ابن كثير بالبناء للمفعول. و " الله " : فاعل بمحذوف، كأن قائلاً قال : مَن المُوحِي ؟ فقال :﴿ الله العزيز الحكيم ﴾ أي : الغالب بقهره، الحكيم في صنعه وتدبيره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : حم عسق، الحاء تُشير إلى حمده لأوليائه، وتنويهه بقدرهم، والميم إلى تمليكهم التصرُّف في حس المُلك، وأسرار الملكوت، والعين إلى علو رتبتهم، أو إلى علومهم اللدنية، والسين إلى سيادتهم وسَنَا نورهم وسرهم، والقاف إلى قُربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم في وجود محبوبهم، فيمتحي القرب من شدة القرب، وبذلك صاروا مقربين. والوحي ينقسم إلى أربعة أقسام ؛ وحي أحكام، ووحي منام، ووحي إلهام، ووحي إعلام، فاختصت الأنبياء بالأول، وشاركتهم الأولياء في الثلاثة. ووحي إعلام هو إطّلاعهم على بعض المغيبات.
وقوله تعالى :﴿ يكاد٣ السماوات يَتَفَطَّرن ﴾ أي : يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطُف حسها أدركت هيبة معاني أسرار الذات، وكذلك الأرواح ؛ إذا لطفت ورقّ حسن بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله، وإذا كثفت بشريتها، بمباشرة الحس واتباع الهوى، غلظ حجابها، فبعدت عن حضرة الحق في حال قربها. وقوله تعالى :﴿ ويستغفرون لمَن في الأرض ﴾، انظر جلالة قدر هذا الآدمي، حتى سخَّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له، ويسعون في مصالحه، فاستحِي من الله أيها العبد، إن كان لك عقل وتمييز.

﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ مُلكاً وملِكاً، ﴿ وهو العليُّ ﴾ شأنه ﴿ العظيمُ ﴾ سلطانه وبرهانه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : حم عسق، الحاء تُشير إلى حمده لأوليائه، وتنويهه بقدرهم، والميم إلى تمليكهم التصرُّف في حس المُلك، وأسرار الملكوت، والعين إلى علو رتبتهم، أو إلى علومهم اللدنية، والسين إلى سيادتهم وسَنَا نورهم وسرهم، والقاف إلى قُربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم في وجود محبوبهم، فيمتحي القرب من شدة القرب، وبذلك صاروا مقربين. والوحي ينقسم إلى أربعة أقسام ؛ وحي أحكام، ووحي منام، ووحي إلهام، ووحي إعلام، فاختصت الأنبياء بالأول، وشاركتهم الأولياء في الثلاثة. ووحي إعلام هو إطّلاعهم على بعض المغيبات.
وقوله تعالى :﴿ يكاد٣ السماوات يَتَفَطَّرن ﴾ أي : يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطُف حسها أدركت هيبة معاني أسرار الذات، وكذلك الأرواح ؛ إذا لطفت ورقّ حسن بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله، وإذا كثفت بشريتها، بمباشرة الحس واتباع الهوى، غلظ حجابها، فبعدت عن حضرة الحق في حال قربها. وقوله تعالى :﴿ ويستغفرون لمَن في الأرض ﴾، انظر جلالة قدر هذا الآدمي، حتى سخَّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له، ويسعون في مصالحه، فاستحِي من الله أيها العبد، إن كان لك عقل وتمييز.

ثم بيّن عظمته، فقال :﴿ يكادُ١ السماواتُ يتفطَّرْنَ من فوقهن ﴾ ؛ تتشققن من عظمة الله تعالى وعلو شأنه، يدلّ عليه مجيئه بعد قوله :﴿ وهو العلي العظيم ﴾. وقيلَ : من دعائهم له ولداً، كقوله :﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ ﴾ [ مريم : ٩٠ ] إلخ، ويؤيده : مجيء قوله :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾ [ الشورى : ٦ ]. وقرأ البصريّ وشعبة :" ينفطرن "، والأول أبلغ. ومعنى :﴿ من فوقهن ﴾ أي : يبتدين بالانفطار من جهتهنّ الفوقانية. وتخصيصها على التفسير الأول ؛ لأن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة، وأيضاً : استقرار الملائكة إنما هو من فوق، فكادت تنشق من كثرة الثِقل، كما في الحديث :" أطَّت السماء، وحُقّ لها أن تَئطَّ، ما فيها موضع قدم إلا وفيها ملك راكع أو ساجد٢ ".
وعلى الثاني للدلالة على التفطُّر من تحتهن بالطريق الأولى ؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء، الواقعة في الأرض حين أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثر في جهة التحت أولى. وقيل :" من فوقهن " : من فوق الأرض، فالكناية راجعة إلى الأرض، من قوله :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ لأنه بمعنى الأرضين.
والملائكةُ يُسبِّحون بحمدِ ربهم } خضوعاً ؛ لِمَا يرون من عظمته، ﴿ ويستغفرون لمَن في الأرض ﴾ أي : للمؤمنين منهم، خوفاً عليهم من سطواته، ويُوحدون اللهَ وينزهونه عما لا يليق به من الصفات، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه، متعجبين لما رأوا من تعرُّض الكفرة لسخط الله تعالى. ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض، الذين تبرؤوا من تلك الكلمات، ﴿ ألا إِنَّ اللهَ هو الغفورُ الرحيمُ ﴾ حيث لا يعاجلهم بالعقوبة على ما وصفوه به مما لا يجوز عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : حم عسق، الحاء تُشير إلى حمده لأوليائه، وتنويهه بقدرهم، والميم إلى تمليكهم التصرُّف في حس المُلك، وأسرار الملكوت، والعين إلى علو رتبتهم، أو إلى علومهم اللدنية، والسين إلى سيادتهم وسَنَا نورهم وسرهم، والقاف إلى قُربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم في وجود محبوبهم، فيمتحي القرب من شدة القرب، وبذلك صاروا مقربين. والوحي ينقسم إلى أربعة أقسام ؛ وحي أحكام، ووحي منام، ووحي إلهام، ووحي إعلام، فاختصت الأنبياء بالأول، وشاركتهم الأولياء في الثلاثة. ووحي إعلام هو إطّلاعهم على بعض المغيبات.
وقوله تعالى :﴿ يكاد٣ السماوات يَتَفَطَّرن ﴾ أي : يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطُف حسها أدركت هيبة معاني أسرار الذات، وكذلك الأرواح ؛ إذا لطفت ورقّ حسن بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله، وإذا كثفت بشريتها، بمباشرة الحس واتباع الهوى، غلظ حجابها، فبعدت عن حضرة الحق في حال قربها. وقوله تعالى :﴿ ويستغفرون لمَن في الأرض ﴾، انظر جلالة قدر هذا الآدمي، حتى سخَّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له، ويسعون في مصالحه، فاستحِي من الله أيها العبد، إن كان لك عقل وتمييز.


١ يكاد: كذا بالأصل وهي إحدى القراءات، والأكثر يقرؤون "تكاد"..
٢ أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٢١، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٩٠ وأحمد في المسند ٥/١٧٣..
ثم رد على أهل الشرك، فقال :
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ * ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ * ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ * ﴿ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء ﴾ ؛ شركاء، يوالونهم بالعبادة والمحبة ﴿ اللهُ حفيظ عليهم ﴾ : رقيب على أحوالهم وأعمالهم، فيجازيهم بها، ﴿ وما أنت عليهم بوكيلٍ ﴾ ؛ بموكّل عليهم، تجبرهم على الإيمان، ثم نسخ بالجهاد. أو : ما أنت بموكول إليك أمرهم، وإنما وظيفتك الإنذار بما أوحينا إليك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : كلُّ مَن تبع هواه، وترك لله حدّاً، أو نقض له عهداً ؛ فهو ممن اتخذ الشيطانَ وليّاً، فالله يَعلمه، لا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه، ثم إن شاء عَذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. هـ. فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله : لا تأسَ عليهم إن أدبروا، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله، يُنذر الناس بالقرآن، فمَن تبعه كان من أهل الجنة، ومَن خالفه كان من أهل السعير، وبقي خلفاؤه من بعده، العلماء بالله، الذين يُذكِّرون الناس، ويدلونهم على الله، فمَن صَحِبَهم وتبعهم كان من أهل الجنة ؛ جنة المعارف، أو الزخارف، أو هما، ومَن انحرف عنهم كان من أهل السعير، نار القطيعة أو الهاوية.
قال القشيري : كما أنهم اليومَ فريقان ؛ فريق في درجات الطاعات وحلاوة العبادات أو المشاهدات، وفريق في ظلمات الشِّركِ وعقوبات الجحد، فكذلك غداً، فريقٌ هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء. ﴿ ولو شاء الله ﴾ أي : أراد أن يجمعهم كلهم على الرشاد لم يكن مانع. هـ.
وقوله تعالى :﴿ فاللهُ هو الوليُّ ﴾ تحويش إلى التوجُّه إلى الله، ورفض كل ما سواه، كما قال بعضهم : اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً، فكل مَن والى غيرَ الله تعالى خذله، ومن حُبه أبعده.

قلت :﴿ وكذلك ﴾ : الكاف في محل النصب على المصدر، و﴿ قرآناً ﴾ : مفعول " أوحينا ".
﴿ وكذلك أوحينا إِليك قرآناً عربيّاً ﴾ أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح أوحينا إليك قرآناً عربيّاً، لا لبس فيه عليك ولا على قومك، ﴿ لِتُنذِر أُمَّ الْقُرَى ﴾ أي : أهلها، وهي مكة ؛ لأن الأرض دحيت من تحتها، أو : لأنها أشرف البقع، ﴿ و ﴾ تُنذر ﴿ مَنْ حولها ﴾ من العرب أو من سائر البلاد. قال القشيري : وجميعُ العالَم مُحْدِقٌ بالكعبة ؛ لأنها سُرَّةُ الأرضِ. ه.
﴿ وتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ﴾ ؛ يوم القيامة ؛ لأنه تجمع فيه الخلائق، وفيه تجمع الأرواح والأشباح. وحذف المفعول الثاني من " تُنذر " الأول للتهويل، أي : لتنذر الناس أمراً فظيعاً تضيق عنه العبارة، ﴿ لا ريبَ فيه ﴾ ؛ لا شك في وقوع ذلك اليوم، ﴿ فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير ﴾ أي : بعد جمعهم في الموقف يفترقون، فريق يُصرف إلى الجنة، وفريق إلى السعير بعد الحساب، والتقدير : فريق منهم في الجنة. والجملة : حال، أي : وتنذر يوم الجمع متفرقين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : كلُّ مَن تبع هواه، وترك لله حدّاً، أو نقض له عهداً ؛ فهو ممن اتخذ الشيطانَ وليّاً، فالله يَعلمه، لا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه، ثم إن شاء عَذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. هـ. فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله : لا تأسَ عليهم إن أدبروا، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله، يُنذر الناس بالقرآن، فمَن تبعه كان من أهل الجنة، ومَن خالفه كان من أهل السعير، وبقي خلفاؤه من بعده، العلماء بالله، الذين يُذكِّرون الناس، ويدلونهم على الله، فمَن صَحِبَهم وتبعهم كان من أهل الجنة ؛ جنة المعارف، أو الزخارف، أو هما، ومَن انحرف عنهم كان من أهل السعير، نار القطيعة أو الهاوية.
قال القشيري : كما أنهم اليومَ فريقان ؛ فريق في درجات الطاعات وحلاوة العبادات أو المشاهدات، وفريق في ظلمات الشِّركِ وعقوبات الجحد، فكذلك غداً، فريقٌ هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء. ﴿ ولو شاء الله ﴾ أي : أراد أن يجمعهم كلهم على الرشاد لم يكن مانع. هـ.
وقوله تعالى :﴿ فاللهُ هو الوليُّ ﴾ تحويش إلى التوجُّه إلى الله، ورفض كل ما سواه، كما قال بعضهم : اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً، فكل مَن والى غيرَ الله تعالى خذله، ومن حُبه أبعده.

﴿ ولو شاء اللهُ لجعلهم ﴾ في الدنيا ﴿ أمة واحدة ﴾ إما مهتدين كلّهم، أو ضالين، ﴿ ولكن يُدْخِلُ مَن يشاء في رحمته ﴾ أي : ويُدخل مَن يشاء في عذابه، يدلّ عليه ما بعده، ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب : اختلاف الداخلين فيهما، فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة، بل جعلهم فريقين، فيسَّر كلاًّ لمَن خُلق له. ﴿ والظالمون ما لهم من وَليٍّ ولا نصير ﴾ ؛ والكافرون ما لهم من شافع ولا دافع.
قال أبو السعود : والذي يقتضيه سياق النظم أن يُراد بقوله :﴿ أمة واحدة ﴾ الاتحاد في الكفر، كما في قوله تعالى :﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. . . ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ] الآية، على أحد الوجهين، بأن يُراد بهم الذين هم في فترة إدريس، أو فترة نوح. ولو شاء لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر، بأن لا يُرسل إليهم رسولاً ليُنذرهم ما ذكر من يوم الجمع، وما فيه من ألوان الأهوال، فيبقوا على ما هم عليه من الكفر، ولكن يُدخل مَن يشاء في رحمته إن شاء ذلك، فيُرسل إلى الكل مَن ينذرهم، فيتأثر بعضهم بالإنذار ؛ فيعرفون الحق ؛ فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعة، ويُدخلهم في رحمته، ولا يتأثر به الآخرون، ويتمادى في غيهم، وهم الظالمون، فيبقون في الدنيا على ما هم عليه، ويصيرون في الآخرة إلى السعير، من غير وليٍّ يلي أمرهم، ولا نصيرٍ يُخلصهم من العذاب. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : كلُّ مَن تبع هواه، وترك لله حدّاً، أو نقض له عهداً ؛ فهو ممن اتخذ الشيطانَ وليّاً، فالله يَعلمه، لا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه، ثم إن شاء عَذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. هـ. فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله : لا تأسَ عليهم إن أدبروا، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله، يُنذر الناس بالقرآن، فمَن تبعه كان من أهل الجنة، ومَن خالفه كان من أهل السعير، وبقي خلفاؤه من بعده، العلماء بالله، الذين يُذكِّرون الناس، ويدلونهم على الله، فمَن صَحِبَهم وتبعهم كان من أهل الجنة ؛ جنة المعارف، أو الزخارف، أو هما، ومَن انحرف عنهم كان من أهل السعير، نار القطيعة أو الهاوية.
قال القشيري : كما أنهم اليومَ فريقان ؛ فريق في درجات الطاعات وحلاوة العبادات أو المشاهدات، وفريق في ظلمات الشِّركِ وعقوبات الجحد، فكذلك غداً، فريقٌ هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء. ﴿ ولو شاء الله ﴾ أي : أراد أن يجمعهم كلهم على الرشاد لم يكن مانع. هـ.
وقوله تعالى :﴿ فاللهُ هو الوليُّ ﴾ تحويش إلى التوجُّه إلى الله، ورفض كل ما سواه، كما قال بعضهم : اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً، فكل مَن والى غيرَ الله تعالى خذله، ومن حُبه أبعده.

﴿ أَم اتخذوا من دونه أولياءَ ﴾، هذه جملة مقررة لِما قبلها، من انتفاء أن يكون للظالمين وَليّ ولا نصير. و " أم " : منقطعة، وما فيها من الإضراب للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها. والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه، أي : ليس المتخَذون أولياء، ولا ينبغي اتخاذ وليّ سواه. وقوله :﴿ فالله هو الوليُّ ﴾ : جواب عن شرط مقدّر، كأنه قيل بعد إبطال ما اتخذوه أولياء من الأصنام : إن أرادوا ولياً في الحقيقة فالله هو الوليّ، لا وليّ سواه. ﴿ وهو يُحيي الموتى ﴾ أي : ومن شأنه إحياء الأموات، ﴿ وهو على كل شيءٍ قديرٌ ﴾ فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً، فليخصُّوه بالاتخاذ، دون مَن لا يقدر على شيء. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : كلُّ مَن تبع هواه، وترك لله حدّاً، أو نقض له عهداً ؛ فهو ممن اتخذ الشيطانَ وليّاً، فالله يَعلمه، لا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه، ثم إن شاء عَذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. هـ. فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله : لا تأسَ عليهم إن أدبروا، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله، يُنذر الناس بالقرآن، فمَن تبعه كان من أهل الجنة، ومَن خالفه كان من أهل السعير، وبقي خلفاؤه من بعده، العلماء بالله، الذين يُذكِّرون الناس، ويدلونهم على الله، فمَن صَحِبَهم وتبعهم كان من أهل الجنة ؛ جنة المعارف، أو الزخارف، أو هما، ومَن انحرف عنهم كان من أهل السعير، نار القطيعة أو الهاوية.
قال القشيري : كما أنهم اليومَ فريقان ؛ فريق في درجات الطاعات وحلاوة العبادات أو المشاهدات، وفريق في ظلمات الشِّركِ وعقوبات الجحد، فكذلك غداً، فريقٌ هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء. ﴿ ولو شاء الله ﴾ أي : أراد أن يجمعهم كلهم على الرشاد لم يكن مانع. هـ.
وقوله تعالى :﴿ فاللهُ هو الوليُّ ﴾ تحويش إلى التوجُّه إلى الله، ورفض كل ما سواه، كما قال بعضهم : اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً، فكل مَن والى غيرَ الله تعالى خذله، ومن حُبه أبعده.

ثم أمر بالرجوع إليه عند الاختلاف، فقال :
﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ * ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ * ﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما اختلفتمْ فيه من شيءٍ فحُكمه إِلى الله ﴾، حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، بدليل قوله :﴿ ذلكم اللهُ ربي ﴾ أي : ما خالفكم الكفار فيه من أهل الكتاب والمشركين، من أمور الدين، واختلفتم أنتم وهم، فحُكم ذلك المختلف فيه راجع إلى الله، ومُفوض إليه، وهو إثابةُ المحقّين فيه، ومعاقبة المبطلين. والمختار العموم، أي : وما اختلفتم فيه أيها الناس من أمور الدين، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع، فحُكم ذلك إلى الله، وقد قال في آية أخرى :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [ النساء : ٥٩ ].
فكل ما اختلف فيه يُردّ إلى كتاب الله، ثم إلى سنّة رسول الله، ثم إلى الإجماع، ثم القياس، فهذه هي قواعد الشريعة، وعليها بُنيت الأحكام، فمَن خرج عنها فهو مبطل، ففي كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من علم الأصول والفروع ما فيه غُنية، فإن لم يوجد نص فالإجماع أو القياس.
وقيل : ما اختلفتم فيه من العلوم، التي لا تتصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا : الله أعلم.
ثم قال :﴿ ذلكم اللهُ ربي ﴾ أي : ذلكم العظيم الشأن ؛ الله مالكي ومدبر أمري، ﴿ عليه توكلتُ ﴾ في جميع أموري، لا على غيره، ﴿ وإِليه أُنيبُ ﴾ ؛ أرجع في كل ما يعرض لي، لا إلى أحد سواه. وحيث كان التوكُّل أمراً واحداً مستمراً، والإنابة متعددة، متجددة بحسب تجدُّد مؤداها، أُوثر في الأول صيغة الماضي، والثاني صيغة المضارع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قوله تعالى :﴿ وما اختلفتم فيه من شيء ﴾ قال القشيري : ويُقال إذا لم تهتدوا إلى شيء وتعرضت منهم الخواطر ؛ فَدَعُوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلِّ شهود تقديره، وانتظروا ما الذي ينبغي لكم أن تفعلوا بحُكم تيسيره. ويقال : إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم، فلا تدرون أبالسعادة جَرَى حُكْمُكم، أو بالشقاوة جرى اسمُكم، فَكِلوا الأمرَ فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله، دون التفكُّر فيما ليس له سبيل إلى عِلْمِه من عواقبكم. هـ.
وقوله :﴿ فاطرُ السماوات والأرض ﴾ أي : شققهما من أسرار الغيب، ومتجلٍّ بهما وسائر الكائنات. جعل لكم في عالم الحكمة من أنفسكم أزواجاً ليقع التناسل، بعضكم من بعض، ومن الأنعام أزواجاً ليقع التناسل فيها ؛ وأما بحر الجبروت فليس كمثله شيء. وقال بعض العارفين : ليت شعري هل معه شيء حتى يشبهه أو لا يشبهه، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. فقوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ أي : ليس معه شيء حتى يشبهه.
وقال الورتجبي عن الواسطي : أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية ؛ لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة، والعبارة منقوضة ؛ لأن الحق لا يُنعت على أقداره ؛ لأن كل ناعت مُشرف على المنعوت، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق. وقال الشبلي : كل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم، فهو مصروف إليكم، ومردود عليكم، محدث مصنوع مثلكم ؛ لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة، أو يدركها وهم، أو يحيط بها علم، كلا، كيف يحيط به علم، وقد اتفق فيه الأضداد، بقوله :﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ [ الحديد : ٣ ] ؟ أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ ؟ كلاّ، قصرت عنه العبارة، وخرست الألسن لقوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾. هـ.

﴿ فاطرُ السماواتِ والأرضِ ﴾ ؛ خالقهما ومظهرهما، وهو خبر ثان لذلكم، أو عن مضمر، ﴿ جعل لكم من أنفسكم ﴾ ؛ من جنسكم ﴿ أزواجاً ﴾ ؛ نساء ﴿ ومن الأنعام أزواجاً ﴾ أي : وجعل للأنعام من جنسها أزواجاً، أو : خلق لكم من الأنعام أصنافاً ؛ ذكوراً وإناثاً، ﴿ يذرؤكم فيه ﴾ أي : يكثّركم فيما ذكر من التدبير البديع، من : الذرء، وهو البث، فجعل الناس والأنعام أزواجاً، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، واختير لفظ " فيه " على " به " ؛ لأنه جَعَل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. والضمير في " يذرؤكم " يرجع إلى المخاطَبين والأنعام، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على غيرهم.
وقال الهروي :﴿ يذرؤكم فيه ﴾ أي : يكثّركم بالتزويج، كأنه قال : يذرؤكم به. ه. وقال ابن عطية : لفظة " ذرأ " تزيد على لفظة " خلق " معنى آخر، ليس في خلق، وهو توالي طبقاته على مرّ الزمان، وقوله :" فيه " الضمير عائد على الجعل. وقال القتبي : الضمير للتزويج. ه.
﴿ ليس كمثله شيءٌ ﴾ أي : ليس مثله شيء في شأن من الشؤون، التي من جملتها هذا التدبير البديع. قيل : إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل ؛ لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة. قال ابن عطية : الكاف مؤكدة للتشبيه، فنفي التشبيه أوكد ما يكون، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو، وزيد مثل عمر، فإذا أردت المبالغة التامة قلت : زيد كمثل عمرو، وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب، وعلى هذا المعنى شواهد كثيرة. ه.
قال النسفي : وقيل : المثل زائد، والتقدير : ليس كهو شيء، كقوله تعالى :﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنتُم بِهِ ﴾ [ البقرة : ١٣٧ ]، وهذا لأن المراد نفي المثليّة، وإذا لم نجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل. ه. والجواب ما تقدّم لابن عطية.
وقيل : الآية جرت على طريق الكناية، كقولهم : مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود، أي : أنت لا تبخل ؛ لأنه إذا نفي البخل عمن هو مثله كان نفيه عنه أولى.
ثم قال تعالى :﴿ وهو السميعُ البصيرُ ﴾ ؛ سميع لجميع المسموعات بلا آذان، بصير بجميع المبصرات بلا أجفان. وذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له، كما لا مثل له، وقدّم تنزيهه عن المماثلة على وصفه بالسمع والبصر ليعلمنا أن سمعه وبصره ليس كسمعنا وبصرنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قوله تعالى :﴿ وما اختلفتم فيه من شيء ﴾ قال القشيري : ويُقال إذا لم تهتدوا إلى شيء وتعرضت منهم الخواطر ؛ فَدَعُوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلِّ شهود تقديره، وانتظروا ما الذي ينبغي لكم أن تفعلوا بحُكم تيسيره. ويقال : إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم، فلا تدرون أبالسعادة جَرَى حُكْمُكم، أو بالشقاوة جرى اسمُكم، فَكِلوا الأمرَ فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله، دون التفكُّر فيما ليس له سبيل إلى عِلْمِه من عواقبكم. هـ.
وقوله :﴿ فاطرُ السماوات والأرض ﴾ أي : شققهما من أسرار الغيب، ومتجلٍّ بهما وسائر الكائنات. جعل لكم في عالم الحكمة من أنفسكم أزواجاً ليقع التناسل، بعضكم من بعض، ومن الأنعام أزواجاً ليقع التناسل فيها ؛ وأما بحر الجبروت فليس كمثله شيء. وقال بعض العارفين : ليت شعري هل معه شيء حتى يشبهه أو لا يشبهه، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. فقوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ أي : ليس معه شيء حتى يشبهه.
وقال الورتجبي عن الواسطي : أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية ؛ لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة، والعبارة منقوضة ؛ لأن الحق لا يُنعت على أقداره ؛ لأن كل ناعت مُشرف على المنعوت، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق. وقال الشبلي : كل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم، فهو مصروف إليكم، ومردود عليكم، محدث مصنوع مثلكم ؛ لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة، أو يدركها وهم، أو يحيط بها علم، كلا، كيف يحيط به علم، وقد اتفق فيه الأضداد، بقوله :﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ [ الحديد : ٣ ] ؟ أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ ؟ كلاّ، قصرت عنه العبارة، وخرست الألسن لقوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾. هـ.

﴿ له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ ﴾ مفاتيح خزائنها، ﴿ يبسطُ الرزقَ لمَن يشاءُ ﴾ أي : يوسعه ﴿ ويَقْدرُ ﴾ أي : يُضيق على ما تقتضيه المناسبة المبنية على الحِكَم البالغة. ﴿ إِنه بكل شيءٍ عليمٌ ﴾ لا يخفى عليه شيء، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته البالغة.
قال ابن عرفة : تضمنت هذه الآية وصفه تعالى بجميع صفات الكمال، فالقدرة في قوله :﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ والوحدانية في قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ والإرادة في قوله :﴿ يبسط الرزق لمَن يشاء ﴾ ؛ لأن تخصيص البعض بالبسط إنما هو بالإرادة. والعلم في قوله :﴿ إنه بكل شيء عليم ﴾، والكلام في قوله :﴿ شرع لكم من الدين ﴾ ؛ لأن المراد به الحكم الشرعي، وهو خطاب الله تعالى المعلّق بأفعال المكلفين، وخطابه كلامه. ه. زاد في الحاشية الفاسية : يعني وكل وصف من هذه الأوصاف يستلزم الحياة، مع أنه قال :﴿ يُحيي الموتى ﴾ والإحياء إنما يكون من الحي. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قوله تعالى :﴿ وما اختلفتم فيه من شيء ﴾ قال القشيري : ويُقال إذا لم تهتدوا إلى شيء وتعرضت منهم الخواطر ؛ فَدَعُوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلِّ شهود تقديره، وانتظروا ما الذي ينبغي لكم أن تفعلوا بحُكم تيسيره. ويقال : إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم، فلا تدرون أبالسعادة جَرَى حُكْمُكم، أو بالشقاوة جرى اسمُكم، فَكِلوا الأمرَ فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله، دون التفكُّر فيما ليس له سبيل إلى عِلْمِه من عواقبكم. هـ.
وقوله :﴿ فاطرُ السماوات والأرض ﴾ أي : شققهما من أسرار الغيب، ومتجلٍّ بهما وسائر الكائنات. جعل لكم في عالم الحكمة من أنفسكم أزواجاً ليقع التناسل، بعضكم من بعض، ومن الأنعام أزواجاً ليقع التناسل فيها ؛ وأما بحر الجبروت فليس كمثله شيء. وقال بعض العارفين : ليت شعري هل معه شيء حتى يشبهه أو لا يشبهه، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. فقوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ أي : ليس معه شيء حتى يشبهه.
وقال الورتجبي عن الواسطي : أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية ؛ لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة، والعبارة منقوضة ؛ لأن الحق لا يُنعت على أقداره ؛ لأن كل ناعت مُشرف على المنعوت، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق. وقال الشبلي : كل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم، فهو مصروف إليكم، ومردود عليكم، محدث مصنوع مثلكم ؛ لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة، أو يدركها وهم، أو يحيط بها علم، كلا، كيف يحيط به علم، وقد اتفق فيه الأضداد، بقوله :﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ [ الحديد : ٣ ] ؟ أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ ؟ كلاّ، قصرت عنه العبارة، وخرست الألسن لقوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾. هـ.

ولما عرف بذاته وصفاته، ذكر شرائعه لعباده، فقال :
﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾ * ﴿ وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ شَرَعَ ﴾ أي : بيَّن وأظهر ﴿ لكم من الدين ما وَصَّى به نوحاً ﴾ ومَن بعده مِن أرباب الشرائع، وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم السلام، وأمَرَهم به أمراً مؤكداً. وفي بيان نسبته إلى المذكورين تنبيه على كونه ديناً قديماً، أجمع عليه الرسل، على أن تخصيصهم بالذكر لِمَا ذكر من علو شأنهم، ولاستمالة قلوب الكفرة إليه ؛ لاتفاق الكل على نبوة جُلهم. قيل : خصّ نوحاً وإبراهيم بالوصية، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالوحي ؛ لأن متعلق الوصية غير الموصي، بل الموصى إليه به، ومتعلق الوحي : الموحى إليه بذاته، ولمَّا كان صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء جعل المُلقى إليه وحياً، ولمَّا كان ما قبله من الأنبياء متبعين له، ومنذِرين بشريعته، أنه سيظهر آخر الزمان نبي اسمه " محمد "، كان ذلك وصية منهم لقومهم على الإيمان به. انظر ابن عرفة.
قلت : والظاهر أنه تفنُّن، وفرار من تكرار لفظ الوحي ؛ إذ الموحى به هو قوله :﴿ أنْ أقيموا الدِّين ﴾ وهو الذي أوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام. وقال أبو السعود : والتعبير عن ذلك عند نسبته صلى الله عليه وسلم ب " الذي " لتفخيم شأنه من تلك الحيثية، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة يعني في صدر السورة من قوله :﴿ كذلك يُوحي إليك. . . ﴾ وفي آخرها من قوله :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ﴾، ولِما في الإيحاء من التصريح برسالته صلى الله عليه وسلم القامع لإنكار الكفرة. والالتفات إلى نون العظمة إظهاراً لكمال الاعتناء بإيحائه، وهو السر في تقديمه على ما قبله مع تقدمه عليه زماناً. وتقديم وصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً أي : فلا ينبغي إنكاره وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين ؛ للتشريف، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام. ه.
ثم فسَّر ما وصاهم به فقال :﴿ أنْ أقيموا الدينَ ﴾ أي : دين الإسلام، الذي هو توحيد الله تعالى، وطاعته، والإيمان بكتبه ورسله، وبيوم الجزاء، وسائر أركان الإيمان. والمراد بإقامته : تعليل أركانه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ، والمواظبة عليه، والتشمير في القيام به. وموضع " أن أقيموا " إما : نصب، بدل من مفعول " شرع "، أو : رفع، خبر جواب عن سؤال مقدَّر، كأن قائلاً قال : وما ذاك ؟ فقال : هو إقامة الدين. ﴿ ولا تتفرقوا فيه ﴾ ؛ ولا تختلفوا في الدين، فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب، والمراد : الاختلاف في الأصول، دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار، كما ينطق به قوله تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [ المائدة : ٤٨ ].
﴿ كَبُرَ على المشركين ﴾ أي : عظم وشقّ عليهم ﴿ ما تدعوهم إِليه ﴾ من التوحيد، ورفض عبادة الأصنام، الذي هو إقامة الدين، ﴿ اللهُ يجتبي ﴾ أي : يجلب ويجمع ﴿ إِليه مَن يشاء ﴾ بالتوفيق والتسديد، ﴿ ويهدي إِليه مَن يُنيبُ ﴾ ؛ يُقبل على طاعته. فالاجتباء يرجع إلى تصديق القلب، والإنابة إلى توفيق الطاعة في الظاهر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الذي شرع الله من الدين لأقوياء عباده، ووصّى به خواص أنبيائه : أن يشاهدوه وحده في الباطن، ويقوموا برسم العبودية في الظاهر، وهذا هو إقامة الدين، الذي يجب الاتفاق عليه، لكن لا ينال هذا إلا بعد موت النفوس، وحط الرؤوس، وبذل الفلوس. ولذلك كَبُرَ على أهل الفَرْق، قال تعالى :﴿ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ﴾، فإذا وفق العبد لفعل ما تقدم، وسلك طريقه ؛ اجتباه ربه لحضرته، بعد أن هداه لسلوك طريقته. قال تعالى ؛ ﴿ الله يجتبي إليه مَن يشاء ويهدي إليه مَن ينيب ﴾ فالاجتباء جذب، والإنابة سلوك، الاجتباء للحقيقة، والإنابة للشريعة والطريقة. وقدّم الاجتباء على الاهتداء اهتماماً بأمره ؛ لأن الجذب عناية يختص به أهل الولاية، والإنابة هداية ينالها كل مَن تمسّك بالشريعة. وحقيقة الجذب : شهود الخلق بلا خلق، وحقيقة السلوك المحض : شهود الخلق بلا حق، وحقيقة الجذب في السلوك : شهود الحق في قوالب الخلق، أو : شهود الخلق في مظهر الحق.
فالناس ثلاثة : مجذوبون فقط، سالكون فقط، مجذبون سالكون، فالأولان لا يصلحان للتربية، والثالث هو الذي يصلح للتربية، وهو الذي يتقدمه السلوك، ثم يختطف إلى الحضرة في مقام الفناء، ثم يرجع إلى السلوك في مقام البقاء. وما وقع من التفرُّق والاختلاف في جانب النبوة، يقع في جانب الولاية، سُنَّة ماضية، فيجب على الداعي إلى الله أن يجهد نفسه في الدعاء إليه، ولا يبالي باختلافهم، كما قال تعالى :﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾.

﴿ وما تَفرقوا ﴾ أي : أهل الكتاب من بعد أنبيائهم ﴿ إِلا مِن بعد ما جاءهم العلمُ ﴾ ؛ إلا بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال، وأمر متوعّد عليه على ألسنة الرسل، ﴿ بغياً بينهم ﴾ حسداً، وطلباً للرئاسة، والاستطالة بغير حق، أو : ما تفرّقوا في الدين الذي دُعوا إليه، وهو الإسلام، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم إلا مِن بعد ما جاءهم العلم بحقيقته ؛ لما يشهدونه في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن من دلائل الحقيّة، حسبما وجدوه في كتبهم، أو : العلم بمبعثه صلى الله عليه وسلم.
﴿ ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك ﴾، وهي العِدَة بتأخير العقوبة ﴿ إِلى أجلٍ مسمى ﴾ هو يوم القيامة ﴿ لقُضي بينهم ﴾ أي : لوقع القضاء بينهم، وأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترنوا. ﴿ وإِن الذين أُورثوا الكتاب مِن بعدهم ﴾ وهم المشركون ﴿ لفي شك منه ﴾ أي : القرآن ﴿ مُريبٍ ﴾ ؛ مُوقع في الريبة. وهو بيان لكيفية كفر المشركين، بعد بيان كيفية كفر أهل الكتاب، أي : وإن المشركين الذي أُوتوا القرآن من بعدهم، أي : من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم، لفي شك من القرآن مريب. والظاهر : أن التفرُّق المذكور هنا إنما هو في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن سياق النظم إنما هو لبيان أحوال هذه الأمة، وإنما ذكر مَن ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم، أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيداً لوجوب إقامته، وتشديداً للزجر عن التفرُّق والاختلاف. فالتعرُّض لبيان تفرُّق أممهم عنه ربما يُوهم الإخلال بذلك المرام. قاله أبو السعود.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الذي شرع الله من الدين لأقوياء عباده، ووصّى به خواص أنبيائه : أن يشاهدوه وحده في الباطن، ويقوموا برسم العبودية في الظاهر، وهذا هو إقامة الدين، الذي يجب الاتفاق عليه، لكن لا ينال هذا إلا بعد موت النفوس، وحط الرؤوس، وبذل الفلوس. ولذلك كَبُرَ على أهل الفَرْق، قال تعالى :﴿ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ﴾، فإذا وفق العبد لفعل ما تقدم، وسلك طريقه ؛ اجتباه ربه لحضرته، بعد أن هداه لسلوك طريقته. قال تعالى ؛ ﴿ الله يجتبي إليه مَن يشاء ويهدي إليه مَن ينيب ﴾ فالاجتباء جذب، والإنابة سلوك، الاجتباء للحقيقة، والإنابة للشريعة والطريقة. وقدّم الاجتباء على الاهتداء اهتماماً بأمره ؛ لأن الجذب عناية يختص به أهل الولاية، والإنابة هداية ينالها كل مَن تمسّك بالشريعة. وحقيقة الجذب : شهود الخلق بلا خلق، وحقيقة السلوك المحض : شهود الخلق بلا حق، وحقيقة الجذب في السلوك : شهود الحق في قوالب الخلق، أو : شهود الخلق في مظهر الحق.
فالناس ثلاثة : مجذوبون فقط، سالكون فقط، مجذبون سالكون، فالأولان لا يصلحان للتربية، والثالث هو الذي يصلح للتربية، وهو الذي يتقدمه السلوك، ثم يختطف إلى الحضرة في مقام الفناء، ثم يرجع إلى السلوك في مقام البقاء. وما وقع من التفرُّق والاختلاف في جانب النبوة، يقع في جانب الولاية، سُنَّة ماضية، فيجب على الداعي إلى الله أن يجهد نفسه في الدعاء إليه، ولا يبالي باختلافهم، كما قال تعالى :﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾.

يقول الحق جلّ جلاله :﴿ فلذلك فادْعُ ﴾ أي : فلأجل ذلك التفرُّق، ولما حدث بسببه من تشعُّب الكفر شعباً، فادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفيّة القيّمة، ﴿ واستقِمْ ﴾ عليها، وعلى الدعوة إليها ﴿ كما أُمرتَ ﴾ ؛ كما أمرك الله. أو : لأجل ما شرع لكم من الدين القويم القديم، الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، فادع الناس كافة إلى إقامته، والعمل بموجبه ؛ فإن كلاًّ من تفرقهم وشكِّهم، سبب للدعوة إليه والأمر بها، أو : فإلى ذلك الدين المشروع فادع، واستقم عليه، وعلى الدعوة إليه، كما أُمرت وأوحي إليك.
﴿ ولا تتبع أهواءهم ﴾ الباطلة، وعقائدهم الزائغة، ﴿ وقل آمنتُ بما أنزلَ اللهُ من كتاب ﴾ أيّ كتاب كان من الكتب المنزلة، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وهم أهل الكتاب، ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ﴾ [ النساء : ١٥١ ]، وفيه تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليف لقلوب أهل الكتابين، وتعريض بهم. ﴿ وأُمرتُ لأعْدِلَ بينكم ﴾ في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ، أو : في تبليغ الشرائع والأحكام، لا أخص بعضاً دون بعض، أو : لأُسوِّي بيني وبينكم، ولا آمركم بما لا أعملُ به، ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه. أو : لا أفرق بين أكابركم وأصاغركم. واللام : إما على حقيقتها، أي : أمرت بذلك لأعدل، أو : زائدة، أي : أمرت أن أعدل بينكم.
﴿ اللهُ ربُّنا وربُّكم ﴾ خالقنا جميعاً، ومتولي أمورنا، كلنا عبيده، ﴿ لنا أعمالنا ﴾ لا يتخطانا ثوابها أو عقابها، ﴿ ولكم أعمالكم ﴾ لا يجاوزكم وبالها إلى غيركم، أو : لنا ديننا التوحيد، ولكم دينكم الشرك. ﴿ لا حُجةَ بيننا وبينكم ﴾ أي : لا خصومة ؛ لأن الحق قد وضح، ولم يبق للمحاجّاة حاجة، ولا للفصاحة محل، سوى المكابرة. ﴿ اللهُ يجمع بيننا ﴾ يوم القيامة ﴿ وإِليه المصيرُ ﴾ ؛ المرجع، فيظهر هناك حالنا وحالكم. وهذه محاججة، لا متاركة، فلا نسخ فيها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا استولت الغفلة على الناس، وتفرّقت القلوب، يجب على أهل البصيرة النافذة أن يتحركوا لوعظ الناس وتذكيرهم، ولا يلتفتون إلى أهوائهم، وما هو مشغوفون به من حظوظهم. قال تعالى :﴿ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم ﴾ فتدعون الناس إلى التوحيد، وإقامة الشرائع، بامتثال الأوامر، واجتناب المناكر، ثم يدسونهم إلى حضرة الحق، إن رأوا منهم مَن هو أهله، فمَن فعل هذا كان قدره عند الله عظيماً، وجاهه كبيراً. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" والذي نفس محمد بيده ؛ إن شئتم لأُقسمنّ لكم : إِنَّ أحب عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده، ويُحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة ".
ومن وظيفته أن يقول : آمنتُ بما أنزل الله من كتاب، وما بعث من نبي ووليّ، وأمُرتُ لأعدل بينكم في الوعظ، والنصيحة، وإمداد المدد، لكن يأخذ كل واحد على قدر صدقه وتعظيمه، ثم يقول :﴿ الله ربنا وربكم ﴾، يخص برحمته مَن يشاء، لنا أعمالنا : ما يليق بنا من عبادة القلوب، ولكم أعمالكم : ما تطيقونه من عبادة الجوارح، لا خصومة بيننا وبينكم ؛ لأن قلوبنا سالمة لكم. الله يجمعُ بيننا وبينكم في الدنيا بجمع متصل، وإليه مصير الكل بالموت والفناء. والذين يُحاجون في الله، أي : يخاصمون في طريق الله، ويقولون : انقطعت التربية، حُجتهم داحضة، وعليهم غضب البُعد، ولهم عذاب الكدّ والتعب.

﴿ والذين يُحاجُّون في الله ﴾ ؛ يُخاصمون في دينه ﴿ من بعد ما اسْتُجيبَ له ﴾ ؛ من بعد ما استجاب له الناس، ودخلوا فيه، ليردّوهم إلى دين الجاهلية، كقوله :﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً. . . ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ]، والتعبير عن ذلك بالاستجابة ؛ باعتبار دعوتهم إليه، أو : من بعد ما استجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأيّده بنصره، كيوم بدر، أو : من بعد ما استجاب له أهل الكتاب، بأن أقرُّوا بنعوته صلى الله عليه وسلم، واستفتحوا به قبل مبعثه. وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خيرٌ منكم، فنزلت :﴿ والذين يُحاجون. . . ﴾ الآية. ﴿ حُجتُهم داحضةٌ ﴾ ؛ باطلة، ﴿ عند ربهم ﴾، وإذا كانت داحضة من حيث كونه ربّاً رؤوفاً فأحرى من حيث كونه قاهراً منتقماً. وسمّاها حُجة، وإن كانت شُبهة ؛ لزعمهم أنها حُجة. ﴿ وعليهم غَضَبٌ ﴾ عظيم، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره ﴿ ولهم عذاب شديدٌ ﴾ لا يُقادر قدره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا استولت الغفلة على الناس، وتفرّقت القلوب، يجب على أهل البصيرة النافذة أن يتحركوا لوعظ الناس وتذكيرهم، ولا يلتفتون إلى أهوائهم، وما هو مشغوفون به من حظوظهم. قال تعالى :﴿ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم ﴾ فتدعون الناس إلى التوحيد، وإقامة الشرائع، بامتثال الأوامر، واجتناب المناكر، ثم يدسونهم إلى حضرة الحق، إن رأوا منهم مَن هو أهله، فمَن فعل هذا كان قدره عند الله عظيماً، وجاهه كبيراً. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" والذي نفس محمد بيده ؛ إن شئتم لأُقسمنّ لكم : إِنَّ أحب عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده، ويُحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة ".
ومن وظيفته أن يقول : آمنتُ بما أنزل الله من كتاب، وما بعث من نبي ووليّ، وأمُرتُ لأعدل بينكم في الوعظ، والنصيحة، وإمداد المدد، لكن يأخذ كل واحد على قدر صدقه وتعظيمه، ثم يقول :﴿ الله ربنا وربكم ﴾، يخص برحمته مَن يشاء، لنا أعمالنا : ما يليق بنا من عبادة القلوب، ولكم أعمالكم : ما تطيقونه من عبادة الجوارح، لا خصومة بيننا وبينكم ؛ لأن قلوبنا سالمة لكم. الله يجمعُ بيننا وبينكم في الدنيا بجمع متصل، وإليه مصير الكل بالموت والفناء. والذين يُحاجون في الله، أي : يخاصمون في طريق الله، ويقولون : انقطعت التربية، حُجتهم داحضة، وعليهم غضب البُعد، ولهم عذاب الكدّ والتعب.

ثم حض على التمسك بكتابه ؛ لأنه جامع لما أنزل الله من كتاب، فقال :
﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ * ﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ * ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ اللهُ الذي أنزل الكتابَ ﴾ ؛ القرآن، أو : جنس الكتاب، ﴿ بالحق ﴾ ؛ ملتبساً بالحق في أحكامه وأخباره، أو : بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام، ﴿ والميزانَ ﴾ ؛ وأنزل العدل والتسوية بين الناس، أي : أنزله في كتبه المنزلة، وأمر به، أو : الشرع الذي يُوزن به الحقوق، ويساوي بين الناس. وقيل : هو عين الميزان، أي : الآلة، أنزله في زمن نوح عليه السلام. ﴿ وما يُدريكَ ﴾ أيَّ شيء يجعلك عالماً ﴿ لعلَّ الساعةَ ﴾ التي أخبر بها الكتاب الناطق بالحق ﴿ قريبٌ ﴾ مجيئها. وضمّن الساعة معنى البعث فذكر الخبر، وقيل : وجه المناسبة في ذكر الساعة مع إنزال الكتاب : أن الساعة يقع فيها الحساب ووضع الموازين بالقسط، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية، والعمل بالشرائع، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم، ووزن أعمالكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الميزان هو العقل ؛ إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع، كالذهب، والإكسير، والفضة، والطيب الرفيع، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة، دون الخشينة، كميزان العطار وشبهه، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة، كميزان الغزالين والحاكة، وبعضها لا يصلح إلا للخشين، كالفحم وشبه، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين، فالأول عقول العارفين، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد، لا يصلح لغيرها، والثاني للعباد، والزهّاد، والعلماء الصالحين، والثالث للمتجمدين من العلماء، والرابع لعامة المؤمنين، والخامس للفجار والكفار، وفيهم نزل :﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها... ﴾ الآية، وما قبله هو قوله :﴿ والذين آمنوا مشفقون منها ﴾.
وقوله تعالى :﴿ اللهُ لطيف بعباده ﴾، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق، مَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره، فمِن لطفه سبحانه بخلقه : أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة. ومِن لطفه سبحانه : تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية ؛ لتحقق بغاية عجزه، وتيقن بوجود لطفه، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب، وملبوس، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه : توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه : حفظ التوحيد في القلوب، واطلاعها على مكاشفة الغيوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه : إيهام العاقبة ؛ لئلا يتكلموا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد : إخفاء أجله عليه ؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه : ستر عيوبهم، ومحو ذنوبهم، حتى وصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، فكشف لهم عن أسرار ذاته، وأنوار صفاته، فشاهدوه جهراً، وعبدوه شكراً.

﴿ يستعجلُ بها الذين لا يؤمنون بها ﴾ استعجال إنكار واستهزاء، ﴿ والذين آمنوا مُشْفِقُون ﴾ ؛ خائفون ﴿ منها ﴾ وجلون ؛ لهولها، ﴿ ويعلمون أنها الحقُّ ﴾ الكائن لا محالة، ﴿ أَلا إِنَّ الذين يُمارون في الساعة ﴾ ؛ يجادلون فيها، من : المرية، أو : المماراة والملاحاة، أو : من : مريت الناقة : إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب ؛ لأن كُلاًّ من المتجادلين يُخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. ﴿ لفي ضلالٍ بعيدٍ ﴾ عن الحق ؛ لأن قيام الساعة أظهر من كل ظاهر، وقد تواترت الشرائع على وقوعها، والعقول تشهد أنه لا بد من دار الجزاء، وإلا كان وجود هذا العالم عبثاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الميزان هو العقل ؛ إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع، كالذهب، والإكسير، والفضة، والطيب الرفيع، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة، دون الخشينة، كميزان العطار وشبهه، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة، كميزان الغزالين والحاكة، وبعضها لا يصلح إلا للخشين، كالفحم وشبه، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين، فالأول عقول العارفين، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد، لا يصلح لغيرها، والثاني للعباد، والزهّاد، والعلماء الصالحين، والثالث للمتجمدين من العلماء، والرابع لعامة المؤمنين، والخامس للفجار والكفار، وفيهم نزل :﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها... ﴾ الآية، وما قبله هو قوله :﴿ والذين آمنوا مشفقون منها ﴾.
وقوله تعالى :﴿ اللهُ لطيف بعباده ﴾، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق، مَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره، فمِن لطفه سبحانه بخلقه : أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة. ومِن لطفه سبحانه : تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية ؛ لتحقق بغاية عجزه، وتيقن بوجود لطفه، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب، وملبوس، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه : توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه : حفظ التوحيد في القلوب، واطلاعها على مكاشفة الغيوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه : إيهام العاقبة ؛ لئلا يتكلموا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد : إخفاء أجله عليه ؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه : ستر عيوبهم، ومحو ذنوبهم، حتى وصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، فكشف لهم عن أسرار ذاته، وأنوار صفاته، فشاهدوه جهراً، وعبدوه شكراً.

﴿ اللهُ لطيف بعباده ﴾ أي : برٌّ بهم في إيصال المنافع ودفع المضار، أوصل لهم من فنون الألطاف ما لا تكاد تناله أيدي الأفكار والظنون. وقيل : هو مَن لطُف بالغوامض علمه، وعظُم عن الجرائم حلمه، أو : مَن ينشر المناقب ويستر المثالب، أو : يعفو عمَّن يهفو، أو : مَن يعطي العبد فوق الكفاية، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة. وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمان الفاسي رضي الله عنه : الظاهر حمل العباد على ما اصطفاه، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق، ومن ذلك : حمايتهم من الدنيا، ومما يطغى من الرزق، وعليه ينزل قوله :﴿ يرزق مَن يشاء ﴾. ه. أي : يرزق على حسب مشيئته، المبنية على الحِكَم البالغة. وفي الحديث :" إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإِنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك١ ".
وأما قوله تعالى :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ﴾ [ هود : ٦ ] فهو وعد لجميع الخلق، وهو مبني على المشيئة المذكورة هنا، فلا منافاة بينهما، خلافاً لابن جزي ؛ لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد، ولا يقضي ظاهر الوعد عليها. انظر الحاشية٢.
﴿ وهو القويُّ ﴾ ؛ الباهر القدرة، الغالب على كل شيء، ﴿ العزيزُ ﴾ المنيع ؛ الذي لا يُغْلَب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الميزان هو العقل ؛ إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع، كالذهب، والإكسير، والفضة، والطيب الرفيع، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة، دون الخشينة، كميزان العطار وشبهه، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة، كميزان الغزالين والحاكة، وبعضها لا يصلح إلا للخشين، كالفحم وشبه، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين، فالأول عقول العارفين، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد، لا يصلح لغيرها، والثاني للعباد، والزهّاد، والعلماء الصالحين، والثالث للمتجمدين من العلماء، والرابع لعامة المؤمنين، والخامس للفجار والكفار، وفيهم نزل :﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها... ﴾ الآية، وما قبله هو قوله :﴿ والذين آمنوا مشفقون منها ﴾.
وقوله تعالى :﴿ اللهُ لطيف بعباده ﴾، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق، مَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره، فمِن لطفه سبحانه بخلقه : أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة. ومِن لطفه سبحانه : تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية ؛ لتحقق بغاية عجزه، وتيقن بوجود لطفه، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب، وملبوس، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه : توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه : حفظ التوحيد في القلوب، واطلاعها على مكاشفة الغيوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه : إيهام العاقبة ؛ لئلا يتكلموا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد : إخفاء أجله عليه ؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه : ستر عيوبهم، ومحو ذنوبهم، حتى وصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، فكشف لهم عن أسرار ذاته، وأنوار صفاته، فشاهدوه جهراً، وعبدوه شكراً.


١ أخرجه البغوي في تفسيره ٧/١٩٤، والسيوطي في الدر المنثور ٥/٧٠٤، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٨/٣١٨، والعجلوني في كشف الخفاء ١٧٣٧..
٢ في هامش النسخة الأساسية ما يلي: "الحق ما قاله ابن جزي، وأن المشيئة متعلقة بالتوسعة المسماة في العرف رزقا أيضا، لا بأصل الرزق، ويدل على ذلك قوله تعالى عقب هذا مباشرة: ﴿من كان يريد حرث الآخرة...﴾ الآية، ولا مجملة فهي بمعنى قوله تعالى: ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له...﴾ فهذا قوله تعالى: ﴿وهو على جمعهم إذا يشاء قدير﴾ فالجمع لا بد منه، والمشيئة متعلقة بوقت الجمع. انتهى..
وقوله تعالى :﴿ يرزق من يشاء ﴾ إما رزق الأرواح، أو رزق الأشباح، وإلى هذا القسمين أشار قوله :
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ مَن كان يُريد حرثَ الآخرةِ ﴾، سُمِّي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة المستقبلة حرثاً، مجازاً ؛ لأن الحرث : إلقاء البذر في الأرض لننظر نتاجه، فأطلقه على العمل، لجامع حصول النتاج، أي : مَن كان يريد بأعماله ثواب الآخرة ﴿ نَزِدْ له في حَرْثِه ﴾ ؛ نضاعف له ثوابه، الواحدة بعشر إلى سبعمائة فما فوقها، أو : نَزِدْ له في توفيقه وإعانته، وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه. ﴿ ومَن كان يريد ﴾ بأعماله ﴿ حَرْثَ الدنيا ﴾ وهو متاعها وطيباتها ﴿ نُؤْتِهِ منها ﴾ أي : شيئاً منها، حسبما قسمناه له، لا ما يريده ويبتغيه، ﴿ وما لهُ في الآخرة من نصيبٍ ﴾ إذا كانت همته مقصورة على الدنيا. ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده، من زكاء أعماله، وفوزه في المآب ؛ لأن ما يُعطى في الآخرة يستحقر أن يُذكر معه غيره من الدنيا.
الإشارة : قد مرّ مِراراً ذم الدنيا وصرف الهمة إليها، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض خطبه :" أيها الناس، أَقبِلوا على ما كلفتموه من صالح آخرتكم، وأَعْرِضوا عما ضُمِنَ لكم من أمر دنياكم، ولا تشغلوا جوارحكم جوارح غذيت بنعمته في التعرُّض لخطأ بمعصيته، واجعلوا شغلكم بالتماس معرفته، واصرفوا هممكم إلى التقرُّب بطاعته، إنه مَن بدأ بنصيبه من الدنيا فاته نصيبُه من الآخرة، ولم يدرك منها ما يريد، ومَن بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد ".
قال الورتجبي : حرث الآخرة : مشاهدته ووصاله وقربه، وهذا للعارفين، وحرث الدنيا : كرامات الظاهر، ومَن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق. ثم قال : عن بعضهم : مَن عَمِل لله محبة له، لا طلباً للجزاء، صغر عنده كل شيء دون الله، فلا يطلب حرث الدنيا، ولا حرث الآخرة، بل يطلب الله من الدنيا والآخرة. ثم قال : حرث الدنيا : قضاء الوطر منها، والجمع منها، والافتخار بها، ومَن كان بهذه الصفة فما له في الآخرة من نصيب. ه. وقال بعض الشعراء في هذا المعنى :
يا مؤثرَ الدنيا على دينه ومشترٍ دنياه بالآخره
بعتَ الذي يبقى بما ينقضي تبّاً لها من صفقة خاسره
ثم ذكر مقابل قوله :﴿ شرع لكم من الدين ﴾، كأنه تعالى لما ذكر أنه شرع ما وصى به، أخذ ينكر ما شرع غيره، فقال :
﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾*﴿ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾*﴿ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ. . . ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدين ﴾، " أم " : منقطعة، أي : بل ألهم شركاء، أو : معادلة لمحذوف، تقديره : أقبلوا ما شرعت لهم من الدين، أم لهم آلهة شرعوا من الدين ﴿ ما لم يأذن به اللهُ ﴾ أي : لم يأمر به، ﴿ ولولا كلمةُ الفصل ﴾ أي : القضاء السابق بتأخير الجزاء، أي : ولولا العِدة بأن الفصل يكون يوم القيامة ﴿ لقُضِيَ بينهم ﴾ ؛ بين الكفار والمؤمنين. أو : لعجلت لهم العقوبة. ﴿ وإِنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليمٌ ﴾ ؛ وإن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة، وإن أخّر عنهم في دار الدنيا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن ابتدع عملاً خارجاً عن الكتاب والسنّة فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فينسحب عليه الوعيد، لقوله صلى الله عليه وسلم :" مَن سنَّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة١ ".
وقوله تعالى :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضاتِ الجنات ﴾ قال القشيري : في الدنيا جنة الوصلة، ولذاذة الطاعة والعبادة، وطيب الأُنْسِ في أوقات الخلوة، وفي الآخرة في روضات الجنات، إن أرادوا دوامَ اللطفِ دامَ لهم، وإن أرادوا تمامَ الكشف كان لهم. هـ.

﴿ ترى الظالمينَ ﴾ ؛ المشركين في الآخرة ﴿ مُشفقينَ ﴾ ؛ خائفين ﴿ مما كسبوا ﴾ ؛ من جزاء كفرهم، ﴿ وهو واقع ﴾ ؛ نازل ﴿ بهم ﴾ لا محالة، أشفقوا أم لم يُشفقوا. ﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجناتِ ﴾ كأنّ روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها، فالروضات : المواضع المونقة النضرة، فهم مستقرون في أطيب بقعها وأنزهها. ﴿ لهم ما يشاؤون عند ربهم ﴾ أي : ما يشتهون من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم، ﴿ ذلك هو الفضلُ الكبير ﴾ الذي لا يُقادر قدره، ولا يبلغ غايته على العمل القليل، فضلاً من الكبير الجليل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن ابتدع عملاً خارجاً عن الكتاب والسنّة فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فينسحب عليه الوعيد، لقوله صلى الله عليه وسلم :" مَن سنَّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة١ ".
وقوله تعالى :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضاتِ الجنات ﴾ قال القشيري : في الدنيا جنة الوصلة، ولذاذة الطاعة والعبادة، وطيب الأُنْسِ في أوقات الخلوة، وفي الآخرة في روضات الجنات، إن أرادوا دوامَ اللطفِ دامَ لهم، وإن أرادوا تمامَ الكشف كان لهم. هـ.

﴿ ذلك الذي يُبَشِّرُ اللهُ ﴾ تعالى، ﴿ عبادَه ﴾ فحذف عائد الموصول. ويقال : بشَّر وبشر، بالتشديد والتخفيف، وقرئ بهما. ثم وصف المبشرين بقوله :﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ دون غيرهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن ابتدع عملاً خارجاً عن الكتاب والسنّة فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فينسحب عليه الوعيد، لقوله صلى الله عليه وسلم :" مَن سنَّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة١ ".
وقوله تعالى :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضاتِ الجنات ﴾ قال القشيري : في الدنيا جنة الوصلة، ولذاذة الطاعة والعبادة، وطيب الأُنْسِ في أوقات الخلوة، وفي الآخرة في روضات الجنات، إن أرادوا دوامَ اللطفِ دامَ لهم، وإن أرادوا تمامَ الكشف كان لهم. هـ.


ولمَّا كان من شأن المبشر بالخير أن يلتمس الأجر، نزّه نبيه عن ذلك، فقال :
﴿. . . قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ لا أسألكم عليه ﴾ ؛ على التبليغ ﴿ أجراً ﴾. رُوي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض : أترون أن محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً ؟ فنزلت. أي : لا أسألكم على التبليغ والبشارة أجراً، أي : نفعاً ﴿ إِلا المودَة في القربى ﴾ ؛ إلا أن تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي : لا أسألكم أجراً قط، ولكن أسألُكم أن تودُّوا قرابتي التي هم قرابتكم، ولا تؤذوهم. ولم يقل : إلا مودّة القربى، أو : المودة للقربى ؛ لأنهم جُعلوا مكاناً للمودة، ومقرّاً لها، مبالغة، كقولك : لي في مال فلان مودة، ولي فيهم حبّ شديد، تريد : أحبهم، وهم مكان حبي ومحله. وليست " في " بصلة للمودة كاللام، إذا قلت : إلا المودة للقربى، وإنما هي متعلقة بمحذوف، تعلُّق الظرف. به والتقدير : إلا المودة ثابتة في القربى، ومتمكنة فيها. والقربى : مصدر، كالزلفى والبشرى، بمعنى القرابة. والمراد : في أهل القربى.
رُوي أنه لما نزلت قيل : يا رسول الله ! مَن أهل قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ قال :" عليّ وفاطمة وابناهما٢ ". وقيل : معناه : إلا أن تودّوني لقرابتي فيكم، ولا تؤذوني، إذ لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قرابة. وقيل : القربى : التقرُّب إلى الله تعالى، أي : إلا أن تحبُّوا الله ورسوله في تقرُّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح.
﴿ ومن يقترفْ ﴾ أي : يكتسب ﴿ حسنةً ﴾ أيّ حسنة كانت، فيتناول مودة ذي القربى تناولاً أولياً. وعن السدي : أنها المرادة، قيل : نزلت في الصدّيق رضي الله عنه ومودته فيهم، والظاهر : العموم، ﴿ نزدْ له فيها حُسْناً ﴾ أي : نضاعفها له في الجنة. ﴿ إِن الله غفور ﴾ لمَن أذنب بِطَوْلِه ﴿ شَكورٌ ﴾ لمَن أطاع بفضله، بتوفية الثواب والزيادة، أو : غفور : قابل التوبة، شكور : حامل عليها.
الإشارة : محبة أهل البيت واجبة على البشر، حرمةً وتعظيماً لسيد البشر، وقد قال :" مَن أَحبهم فبحبي أُحبهم، ومَن أبغضهم فببغضي أبغضهم٣ " فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الإيمان، وعقد من عقوده، لا يتم الإيمان إلا بها، وكذلك محبة أهل بيته. وفي الحديث صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى يحبني، ولا يحبني حتى يحب ذوي قرابتي، أنا حرْب لمَن حاربهم. وسلْم لمَن سالمهم، وعدوٌّ لمَن عاداهم، ألا مَن آذى قرابتي فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله تعالى٤ ". وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام :" إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلُّوا، كتابُ الله تعالى وعترتي٥ "، فانظر كيف قرنهم بالقرآن في كون التمسُّك بهم يمنع الضلال.
وقال صلى الله عليه وسلم :" مَن مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومَن مات على حب آل محمد بدّل الله له زوار قبره ملائكة الرحمة، ألا ومَن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة، ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينية : آيس من رحمة الله٦ ". انظر الثعلبي. زاد بعضهم : ولو عصوا وغيّروا في المذهب ؛ فنكره فعلَهم ونحب ذاتهم. قال الشيخ زروق في نصيحته : وما ينزل بنا من ناحيتهم نعدّه من القضاء النازل. ه.
وفي همزية البوصيري رحمه الله :
آلَ بيتِ النبيِّ إِنَّ فؤادِي ليسَ يُسْلِيهِ عَنكم التَّأسَاء
وقال آخر٧ :
آلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبَّكُمُ فَرْضٌ من الله في القرآنِ أَنْزَلَهُ
يَكْفِيكُمُ من عظيمِ المجدِ أَنَّكُم مَنْ لَم يُصَلِّ عليكم لا صَلاَةَ لَهُ
وقوله تعالى :﴿ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً ﴾، الزيادة في الدنيا بالهداية والتوفيق، وفي الآخرة بتضعيف الثواب وحسن الرفيق. قال القشيري : إذا أتانا بالمجاهدة زدناه بفضلنا تحقيق المشاهدة. ويقال : مَن يقترفْ حسنةَ الوظائف نَزِدْ له حُسْنَ اللطائف. ويقال : الزيادة ما لا يصل إليه العبد بوسيلة، مما لا يدخل تحت طَوْقِ البشر. ه.
٢ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١١/٤٤٤، والسيوطي في الدر المنثور ٥/٧٠١..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٥/٥٤، ٥٧، بلفظ: "الله الله في أصحابي، لا تتخذونهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم..." ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير في هذا الحديث إلى الصحابة رضي الله عنهم. وليس إلى أهل البيت عليهم السلام. والأحاديث في صحبة أهل البيت كثيرة..
٤ أخرجه بنحوه الترمذي في المناقب حديث ٣٨٧٥..
٥ أخرجه الترمذي في المناقب حديث ٣٧٨٦..
٦ أخرجه القرطبي في تفسيره ٧/٦٠٢٢..
٧ البيتان للإمام الشافعي في ديوانه ص ٧٢..
ثم رد على من طعن في الوحي، الذي نفى الأجر على تبليغه، فقال :
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ * ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ * ﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ أم يقولون ﴾ أي : بل أيقولون ﴿ افْتَرى ﴾ محمد ﴿ على اللهِ كذباً ﴾ في دعوة النبوة، أو القرآن ؟ والهمزة للإنكار التوبيخي، كأنه قيل : أيمكن أن ينسبوا مثله عليه الصلاة والسلام للافتراء، لاسيما لعظم الافتراء، وهو الافتراء على الله، فإن الافتراء إنما يُسام به أبعد خلق الله، ومَن هو عرضة للختم والطبع، فالعجب ممن يفوه به في جانب أكرم الخلق على الله.
﴿ فإِن يشإِ يختمْ على قلبك ﴾، هذا استبعاد للافتراء على مثله ؛ لأنه إنما يجترئ على الله مَن كان مختوماً على قلبه، جاهلاً بربه، أمَّا مَن كان على بصيرة ومعرفة بربه، فلا، وكأنه قال : إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك، لتجترئ بالافتراء عليه، لكنه لم يفعل فلم تفتر. أو : فإن يشأ الله عدم صدور القرآن عنك يختم على قلبك، فلم تقدر أن تنطق بحرف واحد منه، وحيث لم يكن كذلك، بل تواتر الوحي عليك حيناً فحيناً ؛ تبين أنه من عند الله تعالى. وهذا أظهر.
وقال مجاهد : إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم، وعلى قولهم : افترى على الله كذباً ؛ لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم. ه.
﴿ ويَمْحُ اللهُ الباطلَ ويُحِقُّ الحقَّ بكلماته ﴾، استئناف مقرر لنفي الافتراء، غير معطوف على " يختم " كما ينبئ عنه إظهار الاسم الجليل، وإنما سقطت الواو كما في بعض المصاحف لاتباع اللفظ، كقوله تعالى :﴿ وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ. . . ﴾ [ الإسراء : ١١ ] مع أنها ثابتة في مصحف نافع. قاله النسفي. أي : ومن شأنه تعالى أن يمحق الباطل، ويثبت الحق بوحيه، أو بقضائه، كقوله تعالى :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ﴾
[ الأنبياء : ١٨ ]، فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه ودمغه. أو : يكون عِدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه، ويثبت الحق الذي هو عليه صلى الله عليه وسلم بالقرآن، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصره عليهم، وقد فعل ذلك، فمحا باطلهم، وأظهر الإسلام. ﴿ إِنه عليم بذاتِ الصدور ﴾ أي : عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك من المحو والإثبات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الورتجبي :﴿ أم يقولون افترى على الله كذباً ﴾ فيه تقديس كلامه، وطهارة نبيه صلى الله عليه وسلم عن الافتراء، وكيف يفتري وهو مصون من طريان الشك والريب والوساوس والهواجس على قلبه ؟ وقال أيضاً : عن الواسطي : إن يشأ الله يختم على قلبك لكن ما يشاء، ويمح الله الباطل بنفسه ونعته، حتى يعلم أنه لا حاجة له إلى أحد من خلقه، ثم يحقق الحق في قلوب أنشأها للحقيقة.
قلت : في الآية تهديد لأهل الدعوى ؛ لأنهم إن داموا على دعواهم الخصوصية بلا خصوصية ؛ ختم الله على قلوبهم بالنفاق، ثم يمحو الله الباطل بأهل الحق والتحقيق، فتُشرق حقائقهم على ما يقابلها من البال فتدمغه بإذن الله وقضائه وكلماته.
وقوله تعالى :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده... ﴾ الخ، لكل مقام توبة، ولكل رجال سيئات، فتَوبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من العيوب، وتوبة خواص الخواص من الغيبة عن شهود علاّم الغيوب. وقوله تعالى :﴿ ويعلم ما تفعلون ﴾ يشير إلى الحلم بعد العلم.
وقوله تعالى :﴿ ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي : في كل ما يتمنون، ﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ النظر إلى وجهه، ويتفاوتون فيه على قدر توجههم، ومعرفتهم في الدنيا. وذكر في القوت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى :﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ قال :" يُشفعهم في إخوانهم، فيدخلهم الجنة١ ". هـ. قال القشيري : ويقال : لمَّا ذكر أن التائبين يقبل توبتهم، ومَنْ لم يَتُبْ يعفو عن زلَّته، والمطيع يدخله الجنة، فلعله خطر ببال أحد : فهذه النار لمَن هي ؟ فقال ﴿ والكافرون لهم عذاب شديد ﴾، ولعله يخطر بالبال أن العصاة لا عذاب لهم، فقال :( شديد ) بدليل الخطاب أنه ليس بشديد هـ.

﴿ وهو الذي يقبل التوبةَ عن عباده ﴾. يقال : قبلت الشيء منه : إذا أخذته منه، وجعلته مبدأ قبولك، وقبلتَه عنه، أي : عزلته وأبنته عنه. والتوبة : الرجوع عن القبيح بالندم، والعزم ألا يعود، ورد المظالم واجب غير شرط.
قال ابن عباس : لما نزل. ﴿ قل لا أسألكم عليه أجراً. . . ﴾ الآية. قال قوم في نفوسهم : ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده، فأخبر جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد اتهموه، وأنزل :﴿ أم يقولون افترى على الله كذباً. . . ﴾ الآية، فقال القوم : يا رسول الله ؛ فإنا نشهد أنك صادق. فنزل :﴿ وهو الذي يقبل التوبة. . . ﴾ ه.
قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد، ومن العقيم الوالد، ومن الظمآن الوارد، فمَن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه، ولو كانت بقاعُ الأرض خطاياه وذنوبه١ ".
واختلف العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها، فقال جابر بن عبد الله : دخل أعرابي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : اللهم إني أستعيذك وأتوب إليك، سريعاً، وكبّر، فلما فرغ من صلاته، قال له عليّ : ما هذا ؟ إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال : يا أمير المؤمنين، وما التوبة ؟ قال : اسم يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة، كما أذبتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وعن السدي : هي صدقُ العزيمة على ترك الذنوب، والإنابة بالقلب إلى علاّم الغيوب. وعن سهل : هي الانتقالُ من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وعن الجنيد : هي الإعراض عما سوى الله.
قال الله تعالى :﴿ ويعفو عن السيئاتِ ﴾ وهو ما دون الشرك، يعفو لمَن يشاء بلا توبة، ﴿ ويعلم ما تفعلون ﴾ كائناً ما كان، من خير أو شر، حسبما تقتضيه مشيئته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الورتجبي :﴿ أم يقولون افترى على الله كذباً ﴾ فيه تقديس كلامه، وطهارة نبيه صلى الله عليه وسلم عن الافتراء، وكيف يفتري وهو مصون من طريان الشك والريب والوساوس والهواجس على قلبه ؟ وقال أيضاً : عن الواسطي : إن يشأ الله يختم على قلبك لكن ما يشاء، ويمح الله الباطل بنفسه ونعته، حتى يعلم أنه لا حاجة له إلى أحد من خلقه، ثم يحقق الحق في قلوب أنشأها للحقيقة.
قلت : في الآية تهديد لأهل الدعوى ؛ لأنهم إن داموا على دعواهم الخصوصية بلا خصوصية ؛ ختم الله على قلوبهم بالنفاق، ثم يمحو الله الباطل بأهل الحق والتحقيق، فتُشرق حقائقهم على ما يقابلها من البال فتدمغه بإذن الله وقضائه وكلماته.
وقوله تعالى :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده... ﴾ الخ، لكل مقام توبة، ولكل رجال سيئات، فتَوبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من العيوب، وتوبة خواص الخواص من الغيبة عن شهود علاّم الغيوب. وقوله تعالى :﴿ ويعلم ما تفعلون ﴾ يشير إلى الحلم بعد العلم.
وقوله تعالى :﴿ ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي : في كل ما يتمنون، ﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ النظر إلى وجهه، ويتفاوتون فيه على قدر توجههم، ومعرفتهم في الدنيا. وذكر في القوت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى :﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ قال :" يُشفعهم في إخوانهم، فيدخلهم الجنة١ ". هـ. قال القشيري : ويقال : لمَّا ذكر أن التائبين يقبل توبتهم، ومَنْ لم يَتُبْ يعفو عن زلَّته، والمطيع يدخله الجنة، فلعله خطر ببال أحد : فهذه النار لمَن هي ؟ فقال ﴿ والكافرون لهم عذاب شديد ﴾، ولعله يخطر بالبال أن العصاة لا عذاب لهم، فقال :( شديد ) بدليل الخطاب أنه ليس بشديد هـ.


١ روى الحديث بلفظ: "الله أفرج بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة..." أخرجه بهذا اللفظ البخاري في الدعوات حديث ٦٣٠٨، ومسلم في التوبة حديث ٣، وأحمد في المسند ٢/٥٣٤..
﴿ ويستجيبُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي : يستجيب لهم فحذف اللام كما في قوله :﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ ﴾ [ المطففين : ٣ ] أي : يجيب دعوتهم، ويثيبهم على طاعتهم، أو : يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها. قيل لإبراهيم بن أدهم : ما لنا ندعو فلا نُجاب ؟ قال :" لأنه دعاكم فلم تُجيبوا ". ﴿ ويَزِيدُهُمْ من فضله ﴾ على ما سألوه، واستحقوه بموجب الوعد. ﴿ والكافرون لهم عذابٌ شديد ﴾ بدل ما للمؤمنين من الفضل العظيم والمزيد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الورتجبي :﴿ أم يقولون افترى على الله كذباً ﴾ فيه تقديس كلامه، وطهارة نبيه صلى الله عليه وسلم عن الافتراء، وكيف يفتري وهو مصون من طريان الشك والريب والوساوس والهواجس على قلبه ؟ وقال أيضاً : عن الواسطي : إن يشأ الله يختم على قلبك لكن ما يشاء، ويمح الله الباطل بنفسه ونعته، حتى يعلم أنه لا حاجة له إلى أحد من خلقه، ثم يحقق الحق في قلوب أنشأها للحقيقة.
قلت : في الآية تهديد لأهل الدعوى ؛ لأنهم إن داموا على دعواهم الخصوصية بلا خصوصية ؛ ختم الله على قلوبهم بالنفاق، ثم يمحو الله الباطل بأهل الحق والتحقيق، فتُشرق حقائقهم على ما يقابلها من البال فتدمغه بإذن الله وقضائه وكلماته.
وقوله تعالى :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده... ﴾ الخ، لكل مقام توبة، ولكل رجال سيئات، فتَوبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من العيوب، وتوبة خواص الخواص من الغيبة عن شهود علاّم الغيوب. وقوله تعالى :﴿ ويعلم ما تفعلون ﴾ يشير إلى الحلم بعد العلم.
وقوله تعالى :﴿ ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي : في كل ما يتمنون، ﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ النظر إلى وجهه، ويتفاوتون فيه على قدر توجههم، ومعرفتهم في الدنيا. وذكر في القوت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى :﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ قال :" يُشفعهم في إخوانهم، فيدخلهم الجنة١ ". هـ. قال القشيري : ويقال : لمَّا ذكر أن التائبين يقبل توبتهم، ومَنْ لم يَتُبْ يعفو عن زلَّته، والمطيع يدخله الجنة، فلعله خطر ببال أحد : فهذه النار لمَن هي ؟ فقال ﴿ والكافرون لهم عذاب شديد ﴾، ولعله يخطر بالبال أن العصاة لا عذاب لهم، فقال :( شديد ) بدليل الخطاب أنه ليس بشديد هـ.

ولما ذكر أن أهل الإيمان يستجيب لهم، ويزيدهم من فضله، يعني في الآخرة، وأما في الدنيا فإنما يعطيهم الكفاف، ذكر حكمة ذلك، فقال :
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ * ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ولو بَسَطَ اللهُ الرزقَ لعباده ﴾ أي : لو أغناهم جميعاً ﴿ لَبَغوا في الأرض ﴾ أي : لتَكَبروا وأفسدوا فيها، بطراً، ولعلا بعضُهم على بعض بالاستعلاء والاستيلاء، لأن الغِنى مبطرة مفسدة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة. وأصل البغي : تجاوز الاقتصاد عما يجزي من حيث الكمية أو الكيفية. ﴿ ولكن يُنَزِّل بِقَدرِ ﴾ أي : بتقدير ﴿ ما يشاء ﴾ أن ينزله، مما تقضيه مشيئته. يقال : قدره وقدّره قدراً وتقديراً ﴿ إِنه بعباده خبير بصير ﴾ ؛ محيط بخفايا أمورهم وجلاياها، فيقدر لكل واحد منهم ما يليق بشأنه، فيُفقر ويُغني، ويُعطى ويَمنع، ويقبض ويبسط، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية، ولو أغناهم جميعاً لَبَغوا في الأرض، ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على مَن يبغي، ومِن البغي بدون البسط، فهو قليل، ولكن البغي مع الفقر أقلّ، ومع البسط أكثر وأغلب، فالحكمة لا تنافي بغي البعض بدفعه بالبعض الآخر، بخلاف بغي الجميع. ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ. . . ﴾ [ الحج : ٤٠ ] الآية.
وقال شفيق بن إبراهيم :﴿ لو بسط الله الرزق لعباده ﴾ أي : لو رزق الله العباد من غير كسب ﴿ لبغوا ﴾ ؛ طغوا وسَعَوا في الأرض بالفساد، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش، رحمة منه. ه. أي : لئلا يتفرّغوا للفساد، ومثله في التنوير. وقال شيخ شيوخنا الفاسي العارف : والظاهر حمل العباد على الخصوص المصْطَفين من المؤمنين، فإنهم يحمون من الطغيان وبسط الرزق ؛ لئلا يبغوا. ه.
وقال قتادة : كان يقال : خير الرزق : ما لا يطغيك، ولا يلهيك، فذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها١ " ه.
رُوي أن أهل الصُّفة تمنوا الغنى، فنزلت. وقيل : نزلت في العرب، كانوا إذا أخصبوا تحاربوا، وإذا جدبوا انتجعوا. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار، ويمنعهم منه فوق الكفاية ؛ لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته، وفي الحديث :" إن الله يحمي عبده المؤمن ـ أي : مما يضره الدنيا وغيرها ـ كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة١ " وفي حديث آخر :" إذا أحبّ الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء٢ ". ورَوى ابن المبارك، عن سعيد بن المسيب قال : جاء رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة ؟ فقال :" هم الخائفون، الخاضعون، المتواضعون، الذاكرون كثيراُ " فقال : يا رسول الله ؛ فهم أول الناس يدخلون الجنة ؟ قال :" لا " قال : فمَن أول الناس دخولاً الجنة ؟ قال :" الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة، فيخرج إليهم ملائكة، فيقولون : ارجعوا إلى الحساب، فيقولون : علام نحاسب ؟ والله ما أفيضت علينا الأموال فنفيض فيها، وما كنا أمراء نعدل ونجور، ولكنا جاءنا أمره فعبدنا حتى أتانا اليقين ". هـ.
قوله :﴿ وهو الذي يُنزل الغيث... ﴾ الآية، كما ينزل غيث المطر على الأرض الميتة، ينزل أمطار الواردات الإلهية على القلوب الميتة، فتحيا بالذكر والمعرفة، بعد أن أيست من الخصوصية.
قال القشيري : بعد كلام : وكذلك العبد إذا ذَبُلَ غُصْنُ وقته، وتكَدَّرَ صَفْو ودّه ؛ وكسفت شمس أُنسِه، وبَعُدَ عن الحضرةِ وساحاتِ القرب عَهْدُه، فربما ينظر إليه الحقُّ نظر رحمة، فينزل على سِرِّه أمطارَ الرحمة، ويعود عودُه طريّاً، ويُنْبِتُ في مشاهد أُنْسِه ورداً جَنِياً، وأنشدوا في المعنى :
إنْ راعني منك الصُدود *** فلعلَّ أيامي تعود
ولعل عهدك باللِّوى *** يحيا فقد تحيا العهود
والغُصن ييبس تارةً *** وتراه مُخْضرّاً يميد
وقوله تعالى :﴿ وهو الوليّ ﴾ قال القشيري في شرح الأسماء : الولي هو المتولي لأحوال عباده، وقيل معناه : المناصر، فأولياء الله أنصار دينه، وأشياع طاعته، والوليّ في صفة العبد : هو مَن يواظب على طاعة ربه. ومن علامات مَن يكون الحق سبحانه وليَّه : أن يصونه ويكفيه في جميع الأحوال، ويؤمنه، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق في دفع شر أو جلب نفع، بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كل نَفَس، فيحقق آماله عند إشارته، ويجعل مآربه عند خطراته. ومن أمارات ولايته لعبده : أن يديم توفيقه، حتى لو أراد سوءاً، أو قصد محظوراً، عصمه من ارتكابه. ثم قال : ومن أمارات ولايته : أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه. هـ. قلت :" جعل مآربه عند خطراته : ليس شرطاً ؛ لأن هذا من باب الكرامة، ولا يشترط ظهورها عند المحققين. ورَوى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن ربه ـ عزّ وجل ـ قال :" مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإني لأغضب لهم، كما يغضب الليث الحَرِد٣ " انظر بقية الحديث في الثعلبي.


١ أخرجه الطبري في تفسيره ٢٥/١٩..
﴿ وهو الذي يُنَزِّل الغيث ﴾ أي : المطر الذي يُغيثهم من الجدب، ولذا خصّ بالنافع منه، فلا يقال للمطر الكثير : غيث، ﴿ من بعد ما قنطوا ﴾ : يئسوا منه. وتقييد تنزيله بذلك، مع نزوله بدونه أيضاً ؛ لمزيد تذكُّر كمال النعمة. ﴿ وينشُرُ رحمتَه ﴾ أي : بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به من الخصب في كل مكان، من السهل، والجبل، والنبات، والحيوان. أو : رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر وغيره. ﴿ وهو الوليُّ ﴾ الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة، ﴿ الحميدُ ﴾ ؛ المستحق للحمد على ذلك، لا غيره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار، ويمنعهم منه فوق الكفاية ؛ لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته، وفي الحديث :" إن الله يحمي عبده المؤمن ـ أي : مما يضره الدنيا وغيرها ـ كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة١ " وفي حديث آخر :" إذا أحبّ الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء٢ ". ورَوى ابن المبارك، عن سعيد بن المسيب قال : جاء رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة ؟ فقال :" هم الخائفون، الخاضعون، المتواضعون، الذاكرون كثيراُ " فقال : يا رسول الله ؛ فهم أول الناس يدخلون الجنة ؟ قال :" لا " قال : فمَن أول الناس دخولاً الجنة ؟ قال :" الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة، فيخرج إليهم ملائكة، فيقولون : ارجعوا إلى الحساب، فيقولون : علام نحاسب ؟ والله ما أفيضت علينا الأموال فنفيض فيها، وما كنا أمراء نعدل ونجور، ولكنا جاءنا أمره فعبدنا حتى أتانا اليقين ". هـ.
قوله :﴿ وهو الذي يُنزل الغيث... ﴾ الآية، كما ينزل غيث المطر على الأرض الميتة، ينزل أمطار الواردات الإلهية على القلوب الميتة، فتحيا بالذكر والمعرفة، بعد أن أيست من الخصوصية.
قال القشيري : بعد كلام : وكذلك العبد إذا ذَبُلَ غُصْنُ وقته، وتكَدَّرَ صَفْو ودّه ؛ وكسفت شمس أُنسِه، وبَعُدَ عن الحضرةِ وساحاتِ القرب عَهْدُه، فربما ينظر إليه الحقُّ نظر رحمة، فينزل على سِرِّه أمطارَ الرحمة، ويعود عودُه طريّاً، ويُنْبِتُ في مشاهد أُنْسِه ورداً جَنِياً، وأنشدوا في المعنى :
إنْ راعني منك الصُدود *** فلعلَّ أيامي تعود
ولعل عهدك باللِّوى *** يحيا فقد تحيا العهود
والغُصن ييبس تارةً *** وتراه مُخْضرّاً يميد
وقوله تعالى :﴿ وهو الوليّ ﴾ قال القشيري في شرح الأسماء : الولي هو المتولي لأحوال عباده، وقيل معناه : المناصر، فأولياء الله أنصار دينه، وأشياع طاعته، والوليّ في صفة العبد : هو مَن يواظب على طاعة ربه. ومن علامات مَن يكون الحق سبحانه وليَّه : أن يصونه ويكفيه في جميع الأحوال، ويؤمنه، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق في دفع شر أو جلب نفع، بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كل نَفَس، فيحقق آماله عند إشارته، ويجعل مآربه عند خطراته. ومن أمارات ولايته لعبده : أن يديم توفيقه، حتى لو أراد سوءاً، أو قصد محظوراً، عصمه من ارتكابه. ثم قال : ومن أمارات ولايته : أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه. هـ. قلت :" جعل مآربه عند خطراته : ليس شرطاً ؛ لأن هذا من باب الكرامة، ولا يشترط ظهورها عند المحققين. ورَوى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن ربه ـ عزّ وجل ـ قال :" مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإني لأغضب لهم، كما يغضب الليث الحَرِد٣ " انظر بقية الحديث في الثعلبي.

ثم ذكر شواهد قدرته، فقال :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ومن آياته ﴾ الدالة على باهر قدرته ووحدانيته ﴿ خلقُ السماواتِ والأرض ﴾ على ما هما عليه من تعاجيب الصنعة، فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه العظيمة، ﴿ وما بثَّ ﴾ أي : فرّق ﴿ فيهما من دابةٍ ﴾ ؛ من حي على الإطلاق، فأطلق الدابة على مطلق الحيوان، ليدخل الملائكة. أو : ما يدب على الأرض، فإن ما يختص أحد الشيئين المجاورين يصح نسبته إليهما، كقوله تعالى :
﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمان : ٢٢ ] وإنما يخرج المرجان من الملح، ولا يبعدُ أن يخلق الله في السماوات حيواناً يمشون مشي الأناسيّ على الأرض، أو : يكون للملائكة مشي مع الطيران، فوصفوا بالدَّبيب لذلك. ﴿ وهو على جَمْعِهم ﴾ أي : حشرهم بعد البعث للحساب ﴿ إِذا يشاء ﴾ أي : في الوقت الذي يشاء ﴿ قديرٌ ﴾ لا يعجزه شيء.
الإشارة : مِن تعرفاته : إظهار السماوات والأرض، وهذه رسوم المعاني، وما بثّ فيهما من دابة، وهذه أشكال توضح أسرار المعاني، فإذا قبضت المعاني محيت الرسول والأشكال. وقوله تعالى :﴿ وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ﴾، قال القشيري : الإشارة في هذا : أنَّ الحقَّ تعالى يغار على أوليائه أن يَسْكنَ بعضُهم بقلبه إلى بعض، فأبداً يُبَدّدُ شملهم، ولا يكاد تتفق الجماعة من أهل القلوب إلا نادراً، وذلك أيضاً مدة يسيرة، كما أنشدوا :
رمى الدهرُ بالفتيان حتى كأنَّهم بأكنافِ أطرافِ السماء نجومُ
وقد يتفضَّل تعالى باجتماعهم في الظاهر، وذلك وقت نظر الحقّ بفضله إلى العالَم، وفي بركات اجتماعهم حياةُ العالَم، وإذ كان قادراً فهو على جمعهم إذا يشاء قدير. ه.
قلت : مما جرت به عادة الله تعالى في أوليائه : أنه لا يجتمع في موضع واحد منهم اثنان فأكثر إلا قام أحدهما بالآخر، ويفقد نظامهما، فلا تكاد تحد أهل النور القوي إلا متباعدي الأوطان، لئلا يطفي نور إحداهما نورَ الآخر، وقد يجتمعون نادراً في وقت مخصوص، وذلك وقت النفحات. كما تقدّم للقشيري.
ثم ذكر سبب نزول المصائب بعباده، فقال :
﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ * ﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما أصابكم من مصيبةٍ ﴾ غمّ، أو ألم، أو مكروه ﴿ بما كسبتْ أيديكم ﴾ أي : بجنايةٍ كسبتموها، عقوبةً لكم. ومَن قرأ بالفاء ؛ ف " ما " شرطية. ومَن قرأ بغيرها فموصلة. وتَعَلقَ بهذه الآية من يقول بالتناسخ، ومعناه عندهم : أن أرواح المتقدمين حين تموت أشباحها تنتقل إلى أشباح أُخر، فإن كانت صالحة انتقلت إلى جسم صالح ؛ وإن كانت خبيثة انتقلت إلى جسم خبيث، وهو باطل وكفر. ووجه التعلُّق : أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألّموا. ويجاب : بأن تألم الأطفال إما زيارة في درجات آبائهم إن عاشوا، أو في درجاتهم إن ماتوا ؛ لأنهم يلحقون بآبائهم في الدرجة، ولا عمل لهم إلا هذا التألُّم. والله أعلم.
والآية مخصوصة بالمكلّفين بدليل السياق وهو قوله :﴿ ويعفو عن كثير ﴾ أي : من الذنوب فلا يُعاقب عليها، أو : عن كثير من الناس، فلا يعاجلُهم بالعقوبة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" واللهُ أكرم من أن يُثَنّي عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه فالله أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه١ " وقال ابن عطاء : مَن لم يعلم أنَّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه، وأن ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وقال محمد بن حامد : العبدُ ملازِمٌ للجنايات في كلّ أوان، وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه ؛ لأن جناية المعصية من وجه، وجناية الطاعة من وجوه، والله يُطهِّر العبد من جناياته بأنواع من المصائب ليخفّف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة.
وعن عليّ كرّم الله وجهه : هذه أرجى آيةٍ للمؤمنين في القرآن ؛ لأنّ الكريمَ إذا عاقب مرةً لا يُعاقِب ثانياً، وإذا عفا لا يعود. ه. وقد تقدّم حديثاً. قال في الحاشية الفاسية : قلت : وإنما يعفو في الدنيا عما يشاء، ويؤخر عقوبة مَن شاء إلى الآخرة، فلا يلزم إبطال وعيد الآخرة. ثم الآية إما خاصة بالحدود، أو بالمجرم المذنب، وأما مَن لا ذنب له فما يُصيبه من البلاء اجتباء، وتخصيص، لا تمحيص. ه.
قلت : لكل مقام ذنب، حسنات الأبرار سيئات المقربين، فالتمحيص جار في كل مقام، وراجع ما تقدم عند قوله :﴿ لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ. . . ﴾ [ التوبة : ١١٧ ] وسيأتي عند قوله :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ. . . ﴾ [ محمد : ١٩ ] ما يبين هذا. والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا كان العبد عند الله في عين العناية أدّبه في الدنيا، ويبقى في حال قربه، وإذا كان عنده في عين الإهمال ؛ أمهل عقوبته إلى دار البقاء، وربما استدرجه بالنعم في حال إساءته، والعياذ بالله من مكره. وإذا علم العبد أن ما يصيبه في هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص ؛ لم يستوحش منها، بل يفرح بها ؛ إذ هي علامة العناية، وإذا كانت على أيدي الناس، لم يقابلهم بالانتصار، بل يعفو ويصفح ؛ لعِلمه أن ذلك زيارة وترقية. وقوله تعالى :﴿ ويعفو عن كثير ﴾ هذا ـ والله أعلم ـ في حق العامة، وأما الخاصة ؛ فيشدد عليهم المحاسبة والتأديب ؛ ليرفع مقامهم، ويُكرم مثواهم.

١ أخرجه أحمد في المسند ١/٨٥ والحاكم في المستدرك ٤/٣٨٨، والسيوطي في الدر المنثور ٥/٧٠٥..
﴿ وما أنتم بمعجزين في الأرض ﴾ أي : ما أنتم بفائتين ما قُضيَ عليكم من المصائب، وإن هجرتم في أقطارها كل مهرب، ﴿ وما لكم من دون الله من وليّ ﴾ متولِّ يحميكم منها ﴿ ولا نصيرٍ ﴾ يدفعها عنكم، أو يدفع عذابه إن حلّ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا كان العبد عند الله في عين العناية أدّبه في الدنيا، ويبقى في حال قربه، وإذا كان عنده في عين الإهمال ؛ أمهل عقوبته إلى دار البقاء، وربما استدرجه بالنعم في حال إساءته، والعياذ بالله من مكره. وإذا علم العبد أن ما يصيبه في هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص ؛ لم يستوحش منها، بل يفرح بها ؛ إذ هي علامة العناية، وإذا كانت على أيدي الناس، لم يقابلهم بالانتصار، بل يعفو ويصفح ؛ لعِلمه أن ذلك زيارة وترقية. وقوله تعالى :﴿ ويعفو عن كثير ﴾ هذا ـ والله أعلم ـ في حق العامة، وأما الخاصة ؛ فيشدد عليهم المحاسبة والتأديب ؛ ليرفع مقامهم، ويُكرم مثواهم.
ثم ذكر برهانا آخر على قدرته تعالى، فقال :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ ﴾ * ﴿ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ * ﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴾ * ﴿ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ومن آياته ﴾ للدلالة على قدرته ووحدانيته ﴿ الجواري ﴾ السفن الجارية ﴿ في البحر كالأعلام ﴾ ؛ كالجبال.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ومن آياته الأفكار الجارية في بحر التوحيد، كالأعلام، أي : أصحابها كالجبال الرواسي، لا يهزهم شيء من الواردات ولا غيرها، إن يشأ يُسكن رياح الواردات عن أسرارهم، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية، مستغرقين في شهود الذات العلية، أو يُوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب، فيغرقن في الزندقة أو الحلول والاتحاد، ويعفُ عن كثير، ويعلم الذين يطعنون في آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.
﴿ إِن يشاء يسكن الرياح ﴾ التي تجريها. وقرئ بالإفراد. ﴿ فيَظْلَلن رواكدَ على ظهره ﴾ ؛ فيبقين ثوابت على ظهر البحر، أي : غير جاريات لا غير متحركات أصلاً، ﴿ إِن في ذلك لآيات ﴾ عظيمة في أنفسها، كثيرة في العدد، دلالة على باهر قدرته ﴿ لكل صَبَّارٍ شكورٍ ﴾ ؛ لكل مَن حبس نفسه عن الهوى، وصرف همته إلى النظر في آلائه، أو : لكل صبّار على بلائه، شكور لنعمائه، أي : لكل مؤمن كامل ؛ فإن الإيمان نصفان : نصف شكر، ونصف صبر ؛ لأن الإنسان لا يخلو من ضر يمسه، أو نفع يناله، فآداب الضر : الصبر، وآداب النفع : الشكر، وأيضاً : راكب السفن ملزوم، إما للمشقة أو السلامة، فالصبر والشكر لا زمان له. ولم يعطف إحدى الصفتين على الأخرى ؛ لأنهما لموصوف واحد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ومن آياته الأفكار الجارية في بحر التوحيد، كالأعلام، أي : أصحابها كالجبال الرواسي، لا يهزهم شيء من الواردات ولا غيرها، إن يشأ يُسكن رياح الواردات عن أسرارهم، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية، مستغرقين في شهود الذات العلية، أو يُوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب، فيغرقن في الزندقة أو الحلول والاتحاد، ويعفُ عن كثير، ويعلم الذين يطعنون في آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.
﴿ أو يُوبِقْهُنَّ ﴾ أي : يهلكهن، عطف على قوله :﴿ يُسكنِ ﴾ أي : إن يشأ يُسكن الريح فيركدن، أو يعصفها فيغرقن بعصفها ﴿ بما كسبوا ﴾ من الذنوب. وإيقاع الإيباق عليهم مع أنه حال أهلهن ؛ للمبالغة والتهويل، ﴿ ويعفُ عن كثيرٍ ﴾ منها، فلا يُجازي عليها، وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق، حيث جُزم جزمَه ؛ لأن المعنى : أو إن يشأ يُهلك ويُنج ناساً، على طريق العفو عنهم. وقرئ :" ويعفو " على الاستئناف.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ومن آياته الأفكار الجارية في بحر التوحيد، كالأعلام، أي : أصحابها كالجبال الرواسي، لا يهزهم شيء من الواردات ولا غيرها، إن يشأ يُسكن رياح الواردات عن أسرارهم، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية، مستغرقين في شهود الذات العلية، أو يُوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب، فيغرقن في الزندقة أو الحلول والاتحاد، ويعفُ عن كثير، ويعلم الذين يطعنون في آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.
﴿ ويَعلَمَ الذين يجادلونَ في آياتنا ﴾ أي : في إبطالها وردها ﴿ ما لهم من محيصٍ ﴾ ؛ من مهرب من العذاب. والجملة معلقة بالنفي، ومن نصب " يعلم " عطفه على عِلة محذوفة، أي : لينتقم منهم وليعلم، كما في قوله :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ ﴾ [ مريم : ٢١ ]. وقيل غير ذلك. ومَن رفعه فعلى الاستئناف. وقرئ بالجزم، عطفاً على :" يعف "، فيكون المعنى : أو إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء آخرين وتحذير قوم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ومن آياته الأفكار الجارية في بحر التوحيد، كالأعلام، أي : أصحابها كالجبال الرواسي، لا يهزهم شيء من الواردات ولا غيرها، إن يشأ يُسكن رياح الواردات عن أسرارهم، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية، مستغرقين في شهود الذات العلية، أو يُوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب، فيغرقن في الزندقة أو الحلول والاتحاد، ويعفُ عن كثير، ويعلم الذين يطعنون في آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.
ثم زهد في الدنيا، لأنها العائقة للأفكار، عن الجري في بحار الأسرار، فقال :
﴿ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾ * ﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ فما أُوتيتم من شيءٍ ﴾ مما ترجون وتتنافسون فيه ﴿ فمتاعُ الحياةِ الدنيا ﴾ أي : فهو متاعها، تتمتعون به مدة حياتكم، ثم يفنى، ﴿ وما عند الله ﴾ من ثواب الآخرة ﴿ خيرٌ ﴾ ذاتاً ؛ لخلوص نفعه، ﴿ وأبقى ﴾ زماناً ؛ لدوام بقائه. ﴿ للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾، و " ما " الأولى ضُمّنت معنى الشرط، فدخلت في جوابها الفاء، بخلاف الثانية. وعن عليّ رضي الله عنه : أن أبا بكر رضي الله عنه تصدَّق بماله كله، فلامه الناس، فنزلت الآية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله :﴿ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح١ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها٢ ". وقال أبو بكر :" لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر : فقوله :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ ؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها "، وقوله :﴿ وإذا ما غَضبوا هم يغفرون ﴾، وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله ﴾ نزلت في عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ ؛ لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بادر إليه، وقوله :﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً... ﴾ [ الزمر : ٩ ] الآية.
ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله :﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله :﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ ؛ فقوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾ ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار :" ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ٣ " وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن :" إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين٤ ". وقوله :﴿ ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله :﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾ إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث :" إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم. وقوله :﴿ ولمَن صبر وغفر ﴾ إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية٥. هـ.
الإشارة : قوله تعالى :﴿ فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا ﴾ أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله :﴿ وما عند الله خيرٌ وأبقى... ﴾ الآية، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. ﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، ﴿ والفواحش ﴾ هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى :﴿ وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾ لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه :" مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى :﴿ وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾.
والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾، ثم قال :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾.
والثالث : قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله :﴿ ولمَن انتصر بعد ظلمه... ﴾ الآية.
والرابع : قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى :﴿ ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري :﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ وهو الظلم، ينتصرون ؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال : قوله :﴿ ولمَن انتصر... ﴾ الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.

ثم قال تعالى :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ أي : الكبائر من هذا الجنس. وقرأ الأخوان :" كبير الإثم ". قال ابن عباس : هو الشرك، ﴿ و ﴾ يجتنبون ﴿ الفواحِشَ ﴾ وهي ما عظم قُبحها، كالزنى ونحوه، ﴿ وإِذا ما غَضِبوا ﴾ من أمر دنياهم ﴿ هم يغفرون ﴾ أي : هم الإخِصَّاء بالغفران في حال الغضب، فيحملون، ويتجاوزون. وفي الحديث :" مَن كظم غيظه في الدنيا ردّ اللهُ عنه غضبَه يوم القيامة١ ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله :﴿ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح١ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها٢ ". وقال أبو بكر :" لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر : فقوله :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ ؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها "، وقوله :﴿ وإذا ما غَضبوا هم يغفرون ﴾، وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله ﴾ نزلت في عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ ؛ لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بادر إليه، وقوله :﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً... ﴾ [ الزمر : ٩ ] الآية.
ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله :﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله :﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ ؛ فقوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾ ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار :" ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ٣ " وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن :" إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين٤ ". وقوله :﴿ ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله :﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾ إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث :" إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم. وقوله :﴿ ولمَن صبر وغفر ﴾ إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية٥. هـ.
الإشارة : قوله تعالى :﴿ فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا ﴾ أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله :﴿ وما عند الله خيرٌ وأبقى... ﴾ الآية، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. ﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، ﴿ والفواحش ﴾ هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى :﴿ وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾ لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه :" مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى :﴿ وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾.
والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾، ثم قال :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾.
والثالث : قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله :﴿ ولمَن انتصر بعد ظلمه... ﴾ الآية.
والرابع : قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى :﴿ ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري :﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ وهو الظلم، ينتصرون ؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال : قوله :﴿ ولمَن انتصر... ﴾ الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.


١ روى الحديث بلفظ: "من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره في أي الحور شاء" أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في الأدب حديث ٤٧٧٧، والترمذي في البر والصلة حديث ٢٠٢١، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٨٦..
﴿ والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة ﴾ ؛ أتقنوا الصلوات الخمس، ﴿ وأمرُهُم شُورى بينهم ﴾ أي : ذو شورى، يعني : لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه. وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمورهم. والشورى : مصدر، كالفتيا، بمعنى التشاور. ﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ ؛ يتصدقون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله :﴿ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح١ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها٢ ". وقال أبو بكر :" لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر : فقوله :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ ؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها "، وقوله :﴿ وإذا ما غَضبوا هم يغفرون ﴾، وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله ﴾ نزلت في عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ ؛ لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بادر إليه، وقوله :﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً... ﴾ [ الزمر : ٩ ] الآية.
ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله :﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله :﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ ؛ فقوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾ ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار :" ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ٣ " وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن :" إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين٤ ". وقوله :﴿ ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله :﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾ إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث :" إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم. وقوله :﴿ ولمَن صبر وغفر ﴾ إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية٥. هـ.
الإشارة : قوله تعالى :﴿ فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا ﴾ أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله :﴿ وما عند الله خيرٌ وأبقى... ﴾ الآية، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. ﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، ﴿ والفواحش ﴾ هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى :﴿ وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾ لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه :" مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى :﴿ وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾.
والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾، ثم قال :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾.
والثالث : قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله :﴿ ولمَن انتصر بعد ظلمه... ﴾ الآية.
والرابع : قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى :﴿ ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري :﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ وهو الظلم، ينتصرون ؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال : قوله :﴿ ولمَن انتصر... ﴾ الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.

﴿ والذين إذا أصابهم البغيُ ﴾ ؛ الظلم ﴿ هم ينتصرون ﴾ ؛ ينتقمون ممن ظلمهم، أي : يقتصرون في الانتصار على ما حُدّ لهم، ولا يعتدون، وكانوا يكرهون أن يذلُّوا أنفسَهم فيجترئ عليهم الفسّاق، فإذا قدروا عفوا، وإنما حُمدوا على الانتصار ؛ لأن من انتصر، وأخذ حقه، ولم يجاوز في ذلك حدّ الله، فلم يسرف في القتل، إن كان وليّ دم، فهو مطيع لله. وقال ابن العربي : قوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي. . . ﴾ الآية ذكر الانتصار في معرض المدح، ثم ذكر العفو في معرض المدح، فاحتمل أن يكونَ أحدهُما رافعاً للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالين، أحَدُهُما : أن يكون الباغي مُعلناً بالفجور وقحاً في الجمهور، ومؤذياً للصغير والكبير، فيكون الانتقامُ منه أفضل، وفي مثله قال إبراهيم النخعي : يُكره للمؤمنين أن يُذِلُّوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفُسّاق. وإما أن تكون الفَلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزل :﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ البقرة : ٢٧٧ ]، ﴿ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ ﴾ [ النور : ٢٢ ] الآية. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله :﴿ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح١ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها٢ ". وقال أبو بكر :" لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر : فقوله :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ ؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها "، وقوله :﴿ وإذا ما غَضبوا هم يغفرون ﴾، وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله ﴾ نزلت في عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ ؛ لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بادر إليه، وقوله :﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً... ﴾ [ الزمر : ٩ ] الآية.
ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله :﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله :﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ ؛ فقوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾ ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار :" ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ٣ " وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن :" إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين٤ ". وقوله :﴿ ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله :﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾ إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث :" إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم. وقوله :﴿ ولمَن صبر وغفر ﴾ إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية٥. هـ.
الإشارة : قوله تعالى :﴿ فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا ﴾ أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله :﴿ وما عند الله خيرٌ وأبقى... ﴾ الآية، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. ﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، ﴿ والفواحش ﴾ هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى :﴿ وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾ لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه :" مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى :﴿ وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾.
والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾، ثم قال :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾.
والثالث : قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله :﴿ ولمَن انتصر بعد ظلمه... ﴾ الآية.
والرابع : قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى :﴿ ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري :﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ وهو الظلم، ينتصرون ؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال : قوله :﴿ ولمَن انتصر... ﴾ الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.

ثم بيّن حدّ الانتصار، فقال :﴿ وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها ﴾ ؛ فالأولى سيئة حقيقة، والثانية مجازاً للمشاكلة، وفي تسميتها سيئة نكتة، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو، ولذلك عقبه بقوله :﴿ فمَن عَفَا وأصلحَ ﴾ بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء ﴿ فأجره على الله ﴾، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها، ﴿ إِنه لا يحب الظالمين ﴾ الذين يبدؤون بالظلم، أو : يتجاوزون حدّ الانتصار. وفي الحديث :" ينادي منادٍ يوم القيامة : مَن كان له أجر على الله فليقم، فلا يقوم إلا مَن عفا١ ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله :﴿ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح١ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها٢ ". وقال أبو بكر :" لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر : فقوله :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ ؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها "، وقوله :﴿ وإذا ما غَضبوا هم يغفرون ﴾، وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله ﴾ نزلت في عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ ؛ لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بادر إليه، وقوله :﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً... ﴾ [ الزمر : ٩ ] الآية.
ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله :﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله :﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ ؛ فقوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾ ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار :" ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ٣ " وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن :" إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين٤ ". وقوله :﴿ ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله :﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾ إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث :" إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم. وقوله :﴿ ولمَن صبر وغفر ﴾ إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية٥. هـ.
الإشارة : قوله تعالى :﴿ فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا ﴾ أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله :﴿ وما عند الله خيرٌ وأبقى... ﴾ الآية، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. ﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، ﴿ والفواحش ﴾ هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى :﴿ وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾ لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه :" مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى :﴿ وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾.
والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾، ثم قال :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾.
والثالث : قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله :﴿ ولمَن انتصر بعد ظلمه... ﴾ الآية.
والرابع : قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى :﴿ ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري :﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ وهو الظلم، ينتصرون ؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال : قوله :﴿ ولمَن انتصر... ﴾ الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.


١ أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧/٥٦١..
﴿ ولمَن انتصرَ بعد ظلمه ﴾ أي : أخذ حقه بعدما ظُلم على إضافة المصدر إلى المفعول ﴿ فأولئك ﴾ جمع الإشارة مراعاة لمعنى " مَن " ﴿ ما عليهم من سبيلٍ ﴾ للمعاقب ولا للمعاتب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله :﴿ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح١ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها٢ ". وقال أبو بكر :" لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر : فقوله :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ ؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها "، وقوله :﴿ وإذا ما غَضبوا هم يغفرون ﴾، وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله ﴾ نزلت في عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ ؛ لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بادر إليه، وقوله :﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً... ﴾ [ الزمر : ٩ ] الآية.
ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله :﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله :﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ ؛ فقوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾ ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار :" ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ٣ " وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن :" إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين٤ ". وقوله :﴿ ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله :﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾ إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث :" إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم. وقوله :﴿ ولمَن صبر وغفر ﴾ إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية٥. هـ.
الإشارة : قوله تعالى :﴿ فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا ﴾ أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله :﴿ وما عند الله خيرٌ وأبقى... ﴾ الآية، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. ﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، ﴿ والفواحش ﴾ هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى :﴿ وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾ لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه :" مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى :﴿ وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾.
والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾، ثم قال :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾.
والثالث : قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله :﴿ ولمَن انتصر بعد ظلمه... ﴾ الآية.
والرابع : قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى :﴿ ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري :﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ وهو الظلم، ينتصرون ؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال : قوله :﴿ ولمَن انتصر... ﴾ الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.

﴿ إِنما السبيل على الذين يظلمون الناسَ ﴾ ؛ يبتدئونهم بالظلم، ﴿ ويبغون في الأرض ﴾ ؛ يتكبّرون فيها، ويعْلون، ويفسدون ﴿ بغير الحق أولئك لهم عذابٌ أليمٌ ﴾ بسبب بغيهم وظلمهم. وفسّر السبيل بالتبعة والحجة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله :﴿ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح١ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها٢ ". وقال أبو بكر :" لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر : فقوله :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ ؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها "، وقوله :﴿ وإذا ما غَضبوا هم يغفرون ﴾، وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله ﴾ نزلت في عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ ؛ لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بادر إليه، وقوله :﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً... ﴾ [ الزمر : ٩ ] الآية.
ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله :﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله :﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ ؛ فقوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾ ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار :" ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ٣ " وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن :" إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين٤ ". وقوله :﴿ ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله :﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾ إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث :" إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم. وقوله :﴿ ولمَن صبر وغفر ﴾ إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية٥. هـ.
الإشارة : قوله تعالى :﴿ فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا ﴾ أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله :﴿ وما عند الله خيرٌ وأبقى... ﴾ الآية، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. ﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، ﴿ والفواحش ﴾ هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى :﴿ وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾ لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه :" مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى :﴿ وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾.
والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾، ثم قال :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾.
والثالث : قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله :﴿ ولمَن انتصر بعد ظلمه... ﴾ الآية.
والرابع : قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى :﴿ ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري :﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ وهو الظلم، ينتصرون ؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال : قوله :﴿ ولمَن انتصر... ﴾ الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.

﴿ ولَمَن صَبَرَ ﴾ على الظلم والأذى، ﴿ وغَفَرَ ﴾ ولم ينتصر، أو : وَلَمَن صبر على البلاء من غير شكوى، وغفر بالتجاوز عن الخصم، ولا يُبقي لنفسه عليه دعوى، بل يُبري خصمه من جهته من كل دعوى في الدنيا، والعقبى، ﴿ إِنَّ ذلك لَمِن عزم الأمور ﴾ أي : إن ذلك الصبر والغفران منه لَمِنْ عزم الأمور، أي : من الأمور التي ندب إليها، وعزم على فعلها، أو : مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه، ولا يترخّص في تركه. وحذف الراجع أي : منه كما حذف في قولهم : السمن مَنْوَانِ بدرهم. وقال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه، فمَن صبر على مكروه أصابه، ولم يجزع، أورثه الله تعالى حال الرضا، وهو أصل الأحوال ؛ ومَن جزع من المصيبات، وشَكى، وكَلَه إلى نفسه، ثم لم تنفعه شكواه. ه. وانظر تحصيل الآية في الإشارة، إن شاء الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله :﴿ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح١ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها٢ ". وقال أبو بكر :" لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر : فقوله :﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ ؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها "، وقوله :﴿ وإذا ما غَضبوا هم يغفرون ﴾، وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله ﴾ نزلت في عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ ؛ لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بادر إليه، وقوله :﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً... ﴾ [ الزمر : ٩ ] الآية.
ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله :﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله :﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ ؛ فقوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾ ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار :" ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ٣ " وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن :" إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين٤ ". وقوله :﴿ ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله :﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾ إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث :" إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم. وقوله :﴿ ولمَن صبر وغفر ﴾ إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية٥. هـ.
الإشارة : قوله تعالى :﴿ فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا ﴾ أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله :﴿ وما عند الله خيرٌ وأبقى... ﴾ الآية، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. ﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، ﴿ والفواحش ﴾ هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى :﴿ وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾ لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه :" مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى :﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى :﴿ وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون ﴾.
والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾، ثم قال :﴿ فمَن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾.
والثالث : قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله :﴿ ولمَن انتصر بعد ظلمه... ﴾ الآية.
والرابع : قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى :﴿ ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري :﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ وهو الظلم، ينتصرون ؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال : قوله :﴿ ولمَن انتصر... ﴾ الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.

ثم ذكر وبال الظلم وعقوبته، فقال :
﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴾ * ﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴾ * ﴿ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ﴾ * ﴿ اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ﴾ * ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ومَن يُضْلِل اللهُ فَما له من وليٍّ من بعده ﴾ أي : فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه، ويمنعه من عذابه. ﴿ وترى الظالمين ﴾ يوم القيامة، وهم الذين أضلّهم الله، ﴿ لَمَّا رَأَوا العذاب ﴾ ؛ حين يرون العذاب، وأتى بصيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع، ﴿ يقولون هل إِلى مَرَدٍّ ﴾ ؛ رجعة إلى الدنيا ﴿ من سبيل ﴾ حتى نُؤمن ونعمل صالحاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من تنكبتْه العناية السابقة، وأدركته الغواية اللاحقة، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير، وليس له من عذاب الله وليّ ولا نصير، فإذا تحققت الحقائق، وطلب الرجوع، لم يجد له سبيلاً، وبَقِيَ في الهوان خاشعاً ذليلاً، فيُعيرهم مَن سبقتْ لهم العناية، من أهل الجد والتشمير، ويقولون : هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، حيث لم يُتعبوها في مرضاة الله، وأهليهم، حيث لم يذكِّروهم الله.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ استجيبوا لربكم ﴾ بالوفاء بعهده، والقيام بحقِّه، والرجوع من مخالفته إلى موافقته، والاستسلام في كل وقت لحُكمِه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوحٌ، وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتة، ويُؤخذ فلتةً. هـ. ويقال لكل واعظ وداع :﴿ فإِن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً... ﴾ الآية.

﴿ وتراهم يُعرضون عليها ﴾ ؛ على النار، يدلّ عليها ذكر العذاب. والخطاب لكل مَن يتأتى منه الرؤية ﴿ خاشعين من الذل ﴾ ؛ متذللين متضائلين مما دهاهم، فالخشوع : خفض البصر وإظهار الذل، ﴿ ينظرون ﴾ إلى النار ﴿ من طَرْفٍ خَفِيٍّ ﴾ ضعيف بمسارقة، كما ترى المصْبُور ينظر إلى السيف عند إرادة قتله. ﴿ وقال الذين آمنوا إِن الخاسرين الذين خسروا أنفسَهم وأهليهم ﴾ بالتعرُّض للعذاب الخالد ﴿ يومَ القيامة ﴾، و " يوم " : متعلق بخسروا. وقول المؤمنين واقع في الدنيا. ويقال، أي : يقولونه يوم القيامة، إذا رأوهم على تلك الصفة :﴿ ألا إِن الظالمين في عذابٍ مقيم ﴾ ؛ دائم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من تنكبتْه العناية السابقة، وأدركته الغواية اللاحقة، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير، وليس له من عذاب الله وليّ ولا نصير، فإذا تحققت الحقائق، وطلب الرجوع، لم يجد له سبيلاً، وبَقِيَ في الهوان خاشعاً ذليلاً، فيُعيرهم مَن سبقتْ لهم العناية، من أهل الجد والتشمير، ويقولون : هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، حيث لم يُتعبوها في مرضاة الله، وأهليهم، حيث لم يذكِّروهم الله.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ استجيبوا لربكم ﴾ بالوفاء بعهده، والقيام بحقِّه، والرجوع من مخالفته إلى موافقته، والاستسلام في كل وقت لحُكمِه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوحٌ، وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتة، ويُؤخذ فلتةً. هـ. ويقال لكل واعظ وداع :﴿ فإِن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً... ﴾ الآية.

﴿ وما كان لهم من أولياء ينصرونهم ﴾ برفع العذاب عنهم ﴿ من دون الله ﴾ حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا، ﴿ ومَن يُضلل اللهُ فما له من سبيلٍ ﴾ إلى النجاة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من تنكبتْه العناية السابقة، وأدركته الغواية اللاحقة، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير، وليس له من عذاب الله وليّ ولا نصير، فإذا تحققت الحقائق، وطلب الرجوع، لم يجد له سبيلاً، وبَقِيَ في الهوان خاشعاً ذليلاً، فيُعيرهم مَن سبقتْ لهم العناية، من أهل الجد والتشمير، ويقولون : هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، حيث لم يُتعبوها في مرضاة الله، وأهليهم، حيث لم يذكِّروهم الله.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ استجيبوا لربكم ﴾ بالوفاء بعهده، والقيام بحقِّه، والرجوع من مخالفته إلى موافقته، والاستسلام في كل وقت لحُكمِه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوحٌ، وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتة، ويُؤخذ فلتةً. هـ. ويقال لكل واعظ وداع :﴿ فإِن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً... ﴾ الآية.

﴿ استجيبوا لربكم ﴾ إلى ما دعاكم إليه على لسان نبيه، ﴿ من قبل أن يأتيَ يومٌ ﴾ أي : يوم القيامة ﴿ لا مردَّ له من اللهِ ﴾ أي : لا يرده الله بعد ما حكم بمجيئه، ف " من " متعلق ب " لا مرد "، أو : ب " يأتي " أي : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده، ﴿ ما لكم من ملجأ يومئذٍ ﴾ أي : مفر تلتجئون إليه، ﴿ وما لكم من نكيرٍ ﴾ أي : وليس لكم إنكار لما اقترفتموه ؛ لأنه مدوَّن في صحائف أعمالكم، وتشهد عليكم جوارحكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من تنكبتْه العناية السابقة، وأدركته الغواية اللاحقة، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير، وليس له من عذاب الله وليّ ولا نصير، فإذا تحققت الحقائق، وطلب الرجوع، لم يجد له سبيلاً، وبَقِيَ في الهوان خاشعاً ذليلاً، فيُعيرهم مَن سبقتْ لهم العناية، من أهل الجد والتشمير، ويقولون : هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، حيث لم يُتعبوها في مرضاة الله، وأهليهم، حيث لم يذكِّروهم الله.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ استجيبوا لربكم ﴾ بالوفاء بعهده، والقيام بحقِّه، والرجوع من مخالفته إلى موافقته، والاستسلام في كل وقت لحُكمِه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوحٌ، وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتة، ويُؤخذ فلتةً. هـ. ويقال لكل واعظ وداع :﴿ فإِن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً... ﴾ الآية.

﴿ فإِنْ أعرضوا ﴾ عن الإيمان ﴿ فما أرسلناك عليهم حفيظاً ﴾ ؛ رقيباً، تحفظ أعمالهم، وتحاسبهم، ﴿ إِنْ عليك إِلا البلاغُ ﴾ ؛ ما عليك إلا تبليغ الرسالة، وقد بلغت، وليس المانع لهم من الإيمان عدم التبليغ، وإنما المانع : الطغيان وبطر النعمة، كما قال تعالى :﴿ وإِنَّا إِذا أَذقنا الإِنسانَ منا رحمةً ﴾ أي : نعمة من الصحة، والغنى، والأمن، ﴿ فرح بها ﴾ وقابلها بالبطر، وتوصّل بها إلى المخالفة والعصيان. وأريد بالإنسان الجنس، لقوله تعالى :﴿ وإِن تُصبهم سيئة ﴾، بلاء، من مرض، وفقر، وخوف، ﴿ بما قدمتْ أيديهمْ فإِنَّ الإِنسانَ كفورٌ ﴾ ؛ بليغ الكفر، ينسى النعمة رأساً، ويذكر البلية، ويستعظمها، بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق.
وأفرد الضمير في ( فرح ) مراعاة للفظ، وجمعه في " تُصبهم " مراعاة للمعنى. وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص الجنس، لغلبتها فيهم. وتصدير الشرطية الأُولى بإذا، مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة ؛ للتنبيه على أن إيصال الرحمة محقق الوجود، كثير الوقوع، وأنه مراد بالذات، كما أن تصدير الثانية بأن، وإسناد الإصابة إلى السيئة، وتعليلها بأعمالهم ؛ للإيذان بندرة وقوعها، وأنها غير مرادة بالذات، " إن رحمتي سبقت غضبي ". ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم. قاله أبو السعود.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من تنكبتْه العناية السابقة، وأدركته الغواية اللاحقة، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير، وليس له من عذاب الله وليّ ولا نصير، فإذا تحققت الحقائق، وطلب الرجوع، لم يجد له سبيلاً، وبَقِيَ في الهوان خاشعاً ذليلاً، فيُعيرهم مَن سبقتْ لهم العناية، من أهل الجد والتشمير، ويقولون : هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، حيث لم يُتعبوها في مرضاة الله، وأهليهم، حيث لم يذكِّروهم الله.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ استجيبوا لربكم ﴾ بالوفاء بعهده، والقيام بحقِّه، والرجوع من مخالفته إلى موافقته، والاستسلام في كل وقت لحُكمِه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوحٌ، وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتة، ويُؤخذ فلتةً. هـ. ويقال لكل واعظ وداع :﴿ فإِن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً... ﴾ الآية.

ثم بين وجه ما تقدم، من أن الأمور كلها بيده، هداية وإضلالا، وإنعاما وابتلاء، فقال :
﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ ﴾ * ﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ لله مُلك السماوات والأرض ﴾ أي : يملك التصرُّف فيهما، وفي كل ما فيهما، كيف يشاء، ومن جملته : أن يقسم النعمة والبلية، حسبما يريده. ﴿ يخلق ما يشاء ﴾ مما يعلمه الخلقُ ومما لا يعلمونه، ﴿ يهَبْ لمَن يشاء إِناثاً ﴾ من الأولاد ﴿ ويهبُ لمن يشاء الذكورَ ﴾ منهم، من غير أن يكون لأحد في ذلك مدخل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يهب لمَن يشاء إناثاً، علوماً وحسنات، ويهب لمَن يشاء الذكور، أذواقاً وواردات، ويجعل مَن يشاء عقيماً، لا علم ولا ذوق، وانظر لطائف المنن. أو تقول : يهب لمَن يشاء إناثاً ؛ مَن ورّث علم الرسوم الظاهر، وأقيمت بعده، ويهب لمَن يشاء الذكور ؛ مَن ورّث علم الأذواق والوجدان، وعمّر رجالاً، أو يزوجهم ؛ مَن ورثهما، ويجعل مَن يشاءُ عقيماً لم يترك وارثاً، لا من الظاهر، ولا من الباطن، وقد يكون كاملاً وهو عقيم، وقد يكون غير كامل وله أولاد كثيرة، لكن الغالب على مَن له أولاد أن يتسع بهم، بخلاف العقيم. والله تعالى أعلم.
﴿ أو يُزوجهم ﴾ أي : يقرن بين الصنفين، ويهبهما جميعاً ﴿ ذكراناً وإِناثاً ﴾، بأن تلد غلاماً ثم جارية، أو تلدهما معاً. ﴿ ويجعلُ مَن يشاءُ عقيماً ﴾ لا نسل له. والعقيم : الذي لا يُولد له، رجل أو امرأة.
وقدّم الإناث أولاً على الذكور ؛ لأن سياقَ الكلام أنه فاعل ما يشاء، لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذِكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمّ، أو : لأن الكلام في البلاء، والعرب تعدهن عظيم البلايا، أو : تطييب القلوب آبائهم، ولمَّا أخَّر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك ذلك بتعريفهم ؛ لأن التعريف تنويه وتشريف، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين ما يستحقه من التقديم والتأخير، فقال :﴿ ذكراناً وإناثاً ﴾. وقيل المراد : أحوال الأنبياء عليهم السلام حيث وهب لشعيب ولوط إناثاً، ولإبراهيم ذكوراً، وللنبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً، وجعل يحيى وعيسى عقيمين. ﴿ إِنه عليم قدير ﴾ مبالغ في العلم والقدرة، فيفعل ما فيه حكمة ومصلحة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يهب لمَن يشاء إناثاً، علوماً وحسنات، ويهب لمَن يشاء الذكور، أذواقاً وواردات، ويجعل مَن يشاء عقيماً، لا علم ولا ذوق، وانظر لطائف المنن. أو تقول : يهب لمَن يشاء إناثاً ؛ مَن ورّث علم الرسوم الظاهر، وأقيمت بعده، ويهب لمَن يشاء الذكور ؛ مَن ورّث علم الأذواق والوجدان، وعمّر رجالاً، أو يزوجهم ؛ مَن ورثهما، ويجعل مَن يشاءُ عقيماً لم يترك وارثاً، لا من الظاهر، ولا من الباطن، وقد يكون كاملاً وهو عقيم، وقد يكون غير كامل وله أولاد كثيرة، لكن الغالب على مَن له أولاد أن يتسع بهم، بخلاف العقيم. والله تعالى أعلم.
ثم قرر عظمة ملكه، فقال :
﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ * ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ * ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما كان لبشرٍ ﴾ أي : ما صحّ لأحد من البشر ﴿ أن يُكلمه اللهُ ﴾ بوجه من الوجوه ﴿ إِلا وَحْياً ﴾ إلهاماً، كقوله عليه الصلاة السلام :" ألقي في رُوعي١ " أو : رؤيا في المنام لقوله صلى الله عليه وسلم :" رؤيا الأنبياء وحي٢ " كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد، وكما أوحي إلى أم موسى، رُوي عن مجاهد :" أَوحى اللهُ الزبورَ إلى داود عليه السلام في صدره ". ﴿ أو من وراءِ حجابٍ ﴾ بأن يسمع كلاماً من الله، من غير رؤية السامع مَن يكلمه، كما سمع موسى عليه السلام من الشجرة، ومن الفضاء في جبل الطور، وليس المراد به حجاب الله تعالى على عبده حساً ؛ إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حساً، وإنما المراد : المنع من رؤية الذات بلا واسطة.
﴿ أو يُرسلَ رسولاً ﴾ أو : بأن يرسل مَلَكاً ﴿ فيُوحيَ ﴾ الملَكُ ﴿ بإِذنه ﴾ ؛ بإذن الله تعالى وتيسيره ﴿ ما يشاءُ ﴾ من الوحي. وهذا هو الذي يجري بينه تعالى وبين أنبيائه في عامة الأوقات. روي : أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله، وتنظر إليه إن كنت نبياً، كما كلمه موسى، ونظر إليه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" لم ينظر موسى إلى الله تعالى " فنزلت. والذي عليه جمهور المحققين أن نبينا عليه الصلاة والسلام رأى ربه ليلة المعراج، وكلّمه مشافهة، وعليه حمل البيضاوي قوله تعالى :﴿ إِلا وحياً ﴾ ؛ لأن الوحي هو : الكلام الخفي، المدرك بسرعة، أعم من أن يكون مشافهة أو غيرها.
قال الطيبي : وإذا حمل الوحي على ما قاله البيضاوي، وأنه المشافهة، المعنى بقوله :
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى ﴾ [ النجم : ١٠ ] اتجه ترتيب الآية، وأنه ذكر أولاً الكلام بلا واسطة، بل مشافهة، وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما كان بغير واسطة، ولكن لا بمشافهة، بل من وراء الغيب، ثم ذكر الكلام بواسطة الإرسال٣. ه. بالمعنى.
﴿ إِنه عَلِيٌّ ﴾ ؛ متعال عن صفات المخلوقين، لا يتأتى جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة، ولا تكون المكافحة إلا بالغيبة عن حس البشرية، ﴿ حيكمٌ ﴾ يُجري أفعاله على سنن الحكمة، فيكلم تارة بواسطة، وأخرى بدونها، مكافحة، أو غيرها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر، أو بلا واسطة، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بقوله :" وهب لنا مشاهدةً تصحبها مكالمة "، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء. وأما مكالمة الحق من النور الأقدس، بلا واسطة، فهو خاص نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمان الفاسي رضي الله عنه : والذي عندي أن التكلم على المكافحة والمشابهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية، ومحوها، والبقاء بصفات الربوبية، وذلك إشارة إلى أنه عليه السلام إنما شُوفَه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة. وكان بالأرض يُكلم بالواسطة، وموسى كُلّم بغير واسطة، ولكن بغير مشافهة، ولذلك كان كلامه بالأرض، ولم يعط الرؤية ؛ لأنها لا تكون في الأرض، أي في أرض البشرية، بل لا بد من الغيبة عنها. وذهب الورتجبي إلى أن الحصْر فيما ذكر في الآية إنما هو لمَن كان في حجاب البشرية، فأما مَن خرج عنها إلى الغيب، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى، ومدّ سمعه بقوة الربوبية، فإنه يُخاطب كفاحاً وعياناً. ونقل مثل ذلك عن الواسطي، فراجع بسطه فيه. والفرق بينه وبين ما ذكرنا : أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة في الآية، وعندنا داخلة في قوله :﴿ إِلا وحياً ﴾ ؛ لأنه أعم من المشافهة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإِنك لَتَهدي إِلى صراط مستقيم ﴾ أي : طريق الوصول والترقي أبداً، فيؤخذ منه : أن وساطته صلى الله عليه وسلم لا تنقطع عن المريد أبداً ؛ لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية، وهي مأخوذة عنه صلى الله عليه وسلم، وكما أن الترقي لا ينقطع ؛ فالأدب الذي هو سلوك طريقته صلى الله عليه وسلم لا ينقطع. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.


١ انظر أحمد في المسند ٣/٥٠..
٢ أخرجه البخاري في الوضوء حديث ١٣٨..
٣ في هامش النسخة الأساسية ما يلي: وعلى كلام البيضاوي يختل نظام القرآن المعجز ببلاغته، إذ معناه: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا كلاما مواجهة أو من وراء حجاب... الخ، وهذا غير معقول صدوره من بلغاء البشر، فضلا عن كلام الله، فأعجب للطيبي وللمؤلف، وكل من أمره على هذا المعنى المختل. هـ..
﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع كما وصفنا ﴿ أوحينا إِليك روحاً من أمرنا ﴾ وهو القرآن، الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان، فحييت الحياة الأبدية. ﴿ ما كنت تدري ﴾ قبل الوحي ﴿ ما الكتابُ ﴾ أيّ شيء هو، ﴿ ولا الإِيمانُ ﴾ بما في تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر، فإنَّ دِرايتَه صلى الله عليه وسلم مما لا ريب فيه قطعاً. قال القشيري : ما كنت تدري قبل هذا ما القرآن ولا الإيمان بتفصيل هذه الشرائع. وقال الشيخ البكري : أي الإيمان على الوجه الأخص، المرتب على تنزلات الآيات، وتلاوة البينات، واستكشاف وجه الحق بأنوار العلم المنزل على قلبه من حضرة ربه. ه.
وقال ابن المنير : الإيمان برسالة نفسه، وهو المنفي عنه قبل الوحي ؛ لأن حقيقة الإيمان : التصديق بالله وبرسوله. ه.
﴿ ولكن جعلناه ﴾ أي : الروح الذي أوحيناه إليك ﴿ نوراً نهدي به مَن نشاء ﴾ هدايته ﴿ من عبادنا ﴾، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به. ﴿ وإِنك لتهدي ﴾ بذلك النور مَن نشاء هدايته، أو : وإنك لتدعو ﴿ إِلى صراط مستقيم ﴾ هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر، أو بلا واسطة، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بقوله :" وهب لنا مشاهدةً تصحبها مكالمة "، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء. وأما مكالمة الحق من النور الأقدس، بلا واسطة، فهو خاص نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمان الفاسي رضي الله عنه : والذي عندي أن التكلم على المكافحة والمشابهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية، ومحوها، والبقاء بصفات الربوبية، وذلك إشارة إلى أنه عليه السلام إنما شُوفَه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة. وكان بالأرض يُكلم بالواسطة، وموسى كُلّم بغير واسطة، ولكن بغير مشافهة، ولذلك كان كلامه بالأرض، ولم يعط الرؤية ؛ لأنها لا تكون في الأرض، أي في أرض البشرية، بل لا بد من الغيبة عنها. وذهب الورتجبي إلى أن الحصْر فيما ذكر في الآية إنما هو لمَن كان في حجاب البشرية، فأما مَن خرج عنها إلى الغيب، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى، ومدّ سمعه بقوة الربوبية، فإنه يُخاطب كفاحاً وعياناً. ونقل مثل ذلك عن الواسطي، فراجع بسطه فيه. والفرق بينه وبين ما ذكرنا : أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة في الآية، وعندنا داخلة في قوله :﴿ إِلا وحياً ﴾ ؛ لأنه أعم من المشافهة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإِنك لَتَهدي إِلى صراط مستقيم ﴾ أي : طريق الوصول والترقي أبداً، فيؤخذ منه : أن وساطته صلى الله عليه وسلم لا تنقطع عن المريد أبداً ؛ لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية، وهي مأخوذة عنه صلى الله عليه وسلم، وكما أن الترقي لا ينقطع ؛ فالأدب الذي هو سلوك طريقته صلى الله عليه وسلم لا ينقطع. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

﴿ صراطِ الله ﴾ ؛ بدل من الأول، وإضافته إلى الاسم الجليل، ثم وصفه بقوله تعالى :﴿ الذي له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ لتفخيم شأنه، وتقرير استقامته، وتأكيد وجوب سلوكه ؛ فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى، خلقاً، وملكاً، وتصرفاً، مما يُوجب ذلك أتم الإيجاب. ﴿ ألا إِلى الله تصير الأمورُ ﴾ أي : الأمور قاطبة راجعة إليه، لا إلى غيره، فيتصرّف فيها على وِفق حكمته ومشيئته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر، أو بلا واسطة، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بقوله :" وهب لنا مشاهدةً تصحبها مكالمة "، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء. وأما مكالمة الحق من النور الأقدس، بلا واسطة، فهو خاص نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمان الفاسي رضي الله عنه : والذي عندي أن التكلم على المكافحة والمشابهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية، ومحوها، والبقاء بصفات الربوبية، وذلك إشارة إلى أنه عليه السلام إنما شُوفَه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة. وكان بالأرض يُكلم بالواسطة، وموسى كُلّم بغير واسطة، ولكن بغير مشافهة، ولذلك كان كلامه بالأرض، ولم يعط الرؤية ؛ لأنها لا تكون في الأرض، أي في أرض البشرية، بل لا بد من الغيبة عنها. وذهب الورتجبي إلى أن الحصْر فيما ذكر في الآية إنما هو لمَن كان في حجاب البشرية، فأما مَن خرج عنها إلى الغيب، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى، ومدّ سمعه بقوة الربوبية، فإنه يُخاطب كفاحاً وعياناً. ونقل مثل ذلك عن الواسطي، فراجع بسطه فيه. والفرق بينه وبين ما ذكرنا : أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة في الآية، وعندنا داخلة في قوله :﴿ إِلا وحياً ﴾ ؛ لأنه أعم من المشافهة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإِنك لَتَهدي إِلى صراط مستقيم ﴾ أي : طريق الوصول والترقي أبداً، فيؤخذ منه : أن وساطته صلى الله عليه وسلم لا تنقطع عن المريد أبداً ؛ لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية، وهي مأخوذة عنه صلى الله عليه وسلم، وكما أن الترقي لا ينقطع ؛ فالأدب الذي هو سلوك طريقته صلى الله عليه وسلم لا ينقطع. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

Icon