ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٨]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨)
. (١) يفرق: بمعنى يقضي أو يقرر.
(٢) حكيم: فيه الحكمة والإحكام.
ابتدأت السورة بحرفي «الحاء والميم» للاسترعاء والتنبيه على ما رجحناه في أمثالهما. وأعقبهما قسم بالكتاب المبين ثم تقريرات ربانية كجواب للقسم أو ما بمثابة ذلك:
١- بأن الله قد أنزل الكتاب في ليلة عظيمة الشأن جرت عادته على قضاء كل أمر خطير محكم من أوامره فيها.
٢- وبأنه قد أراد بإنزال الكتاب إنذار الناس وتنبيههم.
٣- وبأنه قد أرسل رسوله بمهمة الرسالة العظمى رحمة بهم، فهو السميع العليم ربّ السموات والأرض وما بينهما لا إله إلّا هو يحيي ويميت ربّ السامعين وربّ آبائهم الأولين.
٤- وبأن هذه هي الحقيقة الناصعة إذا كان السامعون يريدون المعرفة واليقين.
والآيات في صدد توكيد نسبة القرآن إلى الله، ثم في صدد توكيد صدق رسالة الرسول ﷺ وكونها رحمة للناس، وهكذا جاء مطلع السورة متسقا في أسلوبه وهدفه مع مطالع شقيقاتها الحواميم.
ولقد اختلفت الأقوال في الليلة المذكورة فهناك من قال إنها ليلة القدر «١» واستند في ذلك إلى سورة القدر التي ذكرت أن القرآن أنزل في ليلة القدر، وإلى آية سورة البقرة هذه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [١٨٥] ثم إلى الأحاديث المروية في صدد كون ليلة القدر هي في العشر الأخيرة من رمضان والتي أوردناها في سياق تفسير سورة القدر، وهناك من قال إنها ليلة النصف من شعبان استئناسا من بعض أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه: «ينزل الله جلّ ثناؤه ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لكلّ نفس إلّا إنسانا في قلبه شحناء أو مشركا بالله» ومنها حديث ثان جاء فيه: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى» «٢». ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه: «يقضي الله الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها الموكلين بها» ويعني بذلك الملائكة على ما هو المتبادر «٣». ومنها حديث عن الحسن البصري جاء فيه: أن أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى مثلها في السنة المقبلة تفصل في هذه الليلة. أي ليلة نصف شعبان» «٤». وبعض الذين قالوا إنها ليلة القدر من رمضان رووا أن هذه الليلة هي الليلة التي تفصل فيها الأمور الهامة من سنة إلى سنة من أرزاق وآجال ومصائب «٥» وبذلك وفقوا بين القولين.
وأكثر الأقوال في جانب القول إنها ليلة القدر في رمضان وهو الأصوب
(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.
(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.
(٤) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.
(٥) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.
ولقد أعاد بعض المفسرين «٢» القول في مناسبة هذه الآية بأن الضمير في أَنْزَلْناهُ عائد إلى جميع القرآن حيث أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل على النبي ﷺ منجما كما روي عن ابن عباس. وقد أورد الطبري في سياق هذه الآية رواية نزول صحف إبراهيم في أول رمضان والتوراة في السادس منه، والزبور في السادس عشر، والإنجيل في الثامن عشر، والفرقان في الرابع والعشرين. وقد علقنا على هذا بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة القدر فلا نرى حاجة إلى إعادة أو زيادة.
والوصف الذي وصفت به هذه الليلة التي هي على الأرجح ليلة القدر في أواخر شهر رمضان في الآيات [٣- ٤] من السورة قد يؤيد ما قلناه في سياق تفسير سورة القدر من أن تسمية (ليلة القدر) هي تسمية علمية وأنه كان لهذه الليلة خطورة دينية ما في أذهان السامعين.
هذا، ونقول- تعليقا على ما روي من تقدير الآجال والأرزاق وقضاء الأقضية من سنة إلى سنة في ليلة النصف من شعبان أو في ليلة القدر وما اعتاده المسلمون من الاحتفال بليلة النصف من شعبان وقراءة أدعية خاصة فيها- إن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة الإسناد ولا تظهر حكمة الله فيها، ويجب التحفظ إزاءها.
وإن الاحتفال بليلة النصف من شعبان ليس له أصل ثابت من سنة نبوية ولا صحابية.
(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن. [.....]
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٩ الى ١٦]
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣)
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
. جاءت الآيات معقبة على مطلع السورة: ومع أنه لم يسبق كلام عن أحد فالمتبادر من نص الآيات أن الضمير الغائب عائد إلى الكفار. وقد نددت أولا بالكفار لأنهم يتلقون ما يسمعون من آيات كتاب الله بالشك واللعب والهزء.
وتوعدتهم ثانيا باليوم الذي ينتشر فيه من جانب السماء دخان عظيم يملأ الجو ويغشى الناس ويشعر الكفار يومئذ بما هو واقع عليهم من عذاب الله الأليم فيلجأون إليه لكشفه عنهم ويعلنون بأنهم مؤمنون. وتساءلت ثالثا تساءل المنكر المستنكر عما إذا كان هذا ينفعهم حينئذ وقد جاءهم رسول الله ﷺ بالآيات الواضحة وهم في متسع من الوقت فأعرضوا عنه واستخفوا به ونسبوا إليه الجنون وتعلّم ما يقوله من الغير. ووجهت رابعا الكلام إليهم فالله سيستجيب إليهم هذه المرة ويكشف عنهم العذاب ردحا من الزمن ولكنهم سوف يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا فيه من كفر وعناد وحينئذ تنزل بطشة الله الكبرى فيهم وينتقم منهم.
تعليق على آية فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) وما بعدها وما روي في سياقها
ولقد رويت رواية عن ابن مسعود فيها بيان لمدى ومفهوم هذه الآيات، حيث قال ردا على من قال إن الآيات هي في صدد إنذار الكفار بالعذاب الأخروي ما مفاده: إن هذا ليس من العلم. وإن من العلم أن يقول الإنسان لما لا يعلم لا أعلم. إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله ﷺ دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان أو يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان من الجهد. فجاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا له: استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى لهم فسقوا فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنذرهم الله بالبطشة الكبرى. وكانت يوم بدر.
وقد أورد هذه الرواية معظم المفسرين وإن كان بعضهم أوردها مختلفة بعض الشيء عما أوردها البعض الآخر، ومن ذلك أن أبا سفيان هو الذي جاء إلى النبي ﷺ وقال له: جئت تأمر بصلة الرحم وقد هلك قومك فادع لهم «١». ورواها
ويروي المفسرون «٢» إلى هذه الرواية حديثا عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن أول الآيات: الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر والدخان». فسأله حذيفة: وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) ثم قال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة- يعني الدخان- أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة وأمّا الكافر فتكون منه بمنزلة السكران». حيث يبدو أن هذا الحديث في صدد تفسير الآيات وينقض تفسير ابن مسعود لها وكونها في صدد حادث واقعي حدث في مكة في زمن النبي «٣». ومع أن الطبري ضعف هذا الحديث ورجح صحة تفسير ابن مسعود فإن الطبراني روى حديثا آخر عن النبي ﷺ وصف بأن إسناده جيد جاء فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كلّ مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» «٤». حيث قد يؤيد هذا حديث حذيفة ويفيد أن الدخان هو علامة من علامات آخر الزمان.
(٢) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. وقد أورد المفسرون هذا الحديث بشيء من التغاير مع الاتفاق في الجوهر ومنهم من روى صيغة من صيغة عن حذيفة بن أسيد الغفاري والنص الذي أوردناه من الطبري. ومما ورد في النص الوارد في تفسير ابن كثير عن حذيفة بن أسيد: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى والدجال وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا». وقال ابن كثير عقب هذا: تفرد مسلم بإخراجه في صحيحه. وهناك نصوص أخرى مقتضبة فيها الدخان كعلامة من علامات الساعة أيضا.
(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري أيضا.
(٤) انظر تفسير ابن كثير.
هبك عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن للناس بحمل الطعام إليهم.
والرواية الأولى هي نفس الرواية المروية عن ابن مسعود في صدد آيات سورة الدخان التي نحن في صددها. والرواية الثانية تفيد أن الحادث وقع بعد الهجرة مع أنه لم يرو أحد مدنية آية النحل فضلا عن التشابه في جوهر الروايات المروية في صدد آيات السور الثلاث.
وإلى هذا فهناك أقوال مروية عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ وتابعيهم تفيد أن البطشة الكبرى تعني عذاب الله الأكبر يوم القيامة وليس نصر بدر كما ورد في رواية ابن مسعود «١».
وننبه على أن جمهور المفسرين وفي مقدمتهم شيخهم الطبري في جانب
ومهما يكن من أمر فالآيات كما قلنا جاءت معقبة على ما سبقها لبيان موقف الكفار من القرآن والنبي ﷺ ودعوته وللتنديد بهم وإنذارهم إنذارا قاصما.
على أن في الآيات كما شرحناها ما يفيد إنذارا بعذاب دنيوي بالدخان سوف يقع عليهم واستشعارهم حينئذ بالندم ومسارعتهم إلى إعلان إيمانهم وطلبهم من الله كشفه وبيانا بأن الله قد يكشفه عنهم ولكنهم سوف يعودون إلى غيهم فيستحقون بطشة الله الكبرى.
ولقد حكيت مواقف مماثلة في آيات أخرى منها آيات سورة يونس هذه:
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ
ولعل ما جاء في آيات سورتي (المؤمنون) و (النحل) التي أوردناها آنفا من ذكر لعذاب أو بلاء رباني قد وقع فعلا عليهم هو لتحقيق ما أنذرهم الله من عذاب دنيوي في آيات سورة الدخان. ويلحظ في رواية تفسير آية النحل أنهم كانوا يرون السماء شبه دخان من الجوع مما قد يكون فيه تصديق ذلك. وعلة هذه الرواية أنها تفيد أن عذاب الله وقع عليهم بعد الهجرة وقد يكون ذلك التباسا والله أعلم.
بقي ما ورد في الأحاديث النبوية عن كون الدخان من أشراط الساعة مع آيات أخرى. فإذا صحت فيكون هذا أمرا آخر غير الدخان الذي يوجه الإنذار به إلى الكفار السامعين بسبب مواقفهم الجحودية والذي تذكر الآيات وعد الله بكشفه اختبارا لهم على ما هو المتبادر. ويكون ذكره في سياق هذه الآيات من قبيل ذكر الشيء عند ذكر ما يماثله. ويكون مما شاءت حكمة الله ورسوله الإنذار بحدوثه عند قيام الساعة حينما يأتي الوقت المعين في علم الله تعالى ويوقف عنده مع الإيمان به كما هو الواجب تجاه كل ما أخبر به النبي ﷺ والقرآن من الأمور الغيبية.
تعليق على توالي الإنذار بانتقام الله
ويلحظ أن الإنذار بانتقام الله من كفار العرب قد توالى في هذه السورة وما قبلها حيث يلهم هذا أن الكفار قد أخذوا يشتدون في مناوأتهم وأذاهم.
ونستطرد إلى ذكر مسألة من المسائل التي يثيرها بعض الباحثين من غير المسلمين حيث جعل توالي إنذار القرآن بالانتقام في هاتين السورتين وغيرهما ووصف الله بالغضب وبذي الانتقام وبالقوي وبالشديد العقاب وبالبطش وبالجبار والقهار المتكبر المهيمن إلخ، وبعض الباحثين من غير المسلمين ومن جملتهم
تعليق على تعبير وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
وحكاية قول الكفار عن النبي ﷺ إنه معلّم يقصد بها الإشارة إلى ما كانوا يقولونه عنه أنه يعينه على نظم القرآن قوم آخرون على ما حكته آية سورة الفرقان
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣).
وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الفرقان. أما كلمة مجنون فقد تكررت حكاية صدورها من الكفار مرارا عن النبي ﷺ ومرّ من ذلك أمثلة عديدة في سور القلم والأعراف وسبأ والقمر والصافات والتكوير. وعلقنا عليها بما فيه الكفاية وبخاصة في سورة القمر.
وعلى كل حال ففي التعبيرين دلالة على ما كان يظنه الكفار في النبي ﷺ وعلى بواعث جحودهم وتصاممهم عن دعوته، ولذلك جاءت الآيات بالأسلوب التنديدي والإنذاري الذي جاءت به.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
. (١) فتنّا: ابتلينا وامتحنّا.
(٣) فاعتزلوني: ابتعدوا من طريقي أو دعوني وشأني.
(٤) رهوا: ساكنا أو جافا أو على هيئته التي عبر عليها.
(٥) نعمة: حياة منعمة أو ناعمة.
(٦) اخترناهم على علم: اخترناهم عن بصيرة وعلم بأحوالهم، وقد قال الزمخشري: «واخترناهم على علم بأنهم قد ينحرفون لأجل امتحانهم واختبارهم».
(٧) ما فيه بلاء مبين: ما فيه بلاء واختبار شديدان.
في الآيات إشارة إلى ما كان من رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه وعاقبتهم وعبارتها واضحة. وقد جاءت على أثر حكاية موقف الكفار والتنديد بهم وإنذارهم جريا على الأسلوب القرآني. واحتوت ما احتوته بأسلوب الإشارة والإجمال المتسق مع ما ورد في القصة مسهبا في المناسبات السابقة. وهذا أيضا من أساليب القصص القرآني حسب ما اقتضته حكمة التنزيل واستهدفت- كما يستلهم من أسلوبها القوي النافذ ومن مضمونها- إنذار الكفار وتطمين النبي ﷺ والمؤمنين. فقد أهلك الله فرعون وقومه، وكانوا أشد منهم قوة ولم يمهلهم ولم تبك عليهم سماء ولا أرض وسلبهم ما كان لهم من زروع وجنات وعيون وما كانوا يتمتعون به من حياة ناعمة مترفة. وأورث ذلك لغيرهم ونجّى بني إسرائيل مما كانوا يقاسونه من عذاب فرعون الشديد المسرف المستكبر ثم جعلهم خير العالمين عن علم بأحوالهم اختبارا وامتحانا لهم. وما جاء في الآيات عن رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون متسق مع ما جاء متصلا في السور السابقة. وليس فيها جديد إلّا أمر الله لموسى أن يترك البحر رهوا ليدخله فرعون وقومه على أثرهم. وهذا ليس واردا في سفر الخروج ولكن نعتقد أنه مما كان يرويه اليهود نقلا عن قراطيس كانت في أيديهم مثل سائر النقاط التي وردت في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة من قصص موسى وفرعون. ويلحظ أن الآيات هنا لم تذكر بني إسرائيل كورثة لفرعون وقومه مع أن ذلك ذكر في سورتي الشعراء والأعراف. ومع ذلك فالعبارة كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) لا تنقض ذلك كما هو المتبادر. والعبرة في الآيات هي
تعليق على آية وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢)
وجمهور المفسرين على أن الْعالَمِينَ (٣٢) في جملة وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) تعني أهل زمانهم ولا تعني أهل الأرض في كل زمن «١».
وهذا هو المعقول، لأن الله جعل العرب الذين آمنوا برسالة النبي ﷺ أو كل من آمن برسالة النبي ﷺ إطلاقا خير أمة أخرجت للناس كما جاء في الآية [١١٠] من سورة آل عمران: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ وهذه الآية تعلل هذه الخيرية بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقياسا على ذلك فإن خيرية بني إسرائيل إنما كانت على أهل زمانهم بسبب استجابتهم لدعوة موسى عليه السلام وإيمانهم بالله وحده والتزامهم شرائعه. ولا يتسق مع روح التلقين القرآني ولا مع حكمة الله أن يدوم حكم الخيرية لهم حينما انحرفوا عن عبادة الله إلى عبادة العجل والبعل وانحرفوا عن شرائع الله واقترفوا الفواحش والموبقات وحرفوا كتب الله وكلامه عن مواضعه وافتروا على الله الكذب ونسبوا إليه ما ليس منه في حياة موسى وبعده على ما سجلته عليهم أسفار عديدة من أسفار العهد القديم «٢» وآيات كثيرة
(٢) النصوص كثيرة ومبثوثة في معظم أسفار العهد القديم بحيث يستطيع من يشاء أن يعثر عليها بسهولة وسعة. وسواء منها ما نسب إلى موسى عليه السلام وهي أسفار الخروج والعدد والتثنية واللاويين أو الأحبار أم الأسفار التي دونت بعد موسى عليه السلام كيوشع والقضاة والملوك وأخبار الأيام وأشعيا وأرميا وحزقيال ودانيال وهوشع ويوئيل وعاموس وعوبيديا وميخا وحبقوق وصنفيا وملاخي.
تعليق على جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ
ومع أن المتبادر أن جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ هي من قبيل المجاز والتمثيل والمبالغة في التبكيت والتهكم عليهم وتهوين شأنهم عند الله رغم ما كانوا عليه من قوة وترف وهو ما قاله الزمخشري في الكشاف فإن المفسرين أوردوا أحاديث تبدو لنا غريبة لأنها في صدد بيان كون بكاء السماء والأرض حقيقة وكونهما تبكيان على المؤمنين حين موتهم. من ذلك «٢» حديث رواه أنس بن مالك عن النبي ﷺ جاء فيه: «ما من عبد إلّا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله وكلامه فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا الآية: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم». ومن ذلك حديث عن ابن عبيد الحصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غابت عنه بواكيه إلّا بكت عليه السماء والأرض، ثم
(٢) هذه الأحاديث منقولة عن كتاب تفسير ابن كثير في سياق تفسير الآية، انظر أيضا تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.
وحديث عن مجاهد جاء فيه: «ما مات مؤمن إلّا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا». ومن ذلك حديث عن إبراهيم: «ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلّا على رجلين: يحيى بن زكريا والحسين بن علي حين قتلا»، فسأله السائل: أليس السماء والأرض تبكيان على المؤمن؟ فقال: «ذاك مقامه حين يصعد عمله. ثم قال له:
أتدري ما بكاء السماء؟ قال: لا، قال: تحمرّ وتصير وردة كالدّهان». ومن ذلك حديث عن يزيد بن أبي زياد قال: «لما قتل الحسين بن علي احمرّت آفاق السماء أربعة أشهر واحمرارها بكاؤها». وذكروا أيضا- وهذه عبارة ابن كثير- في مقتل الحسين: «إنّه ما قلب حجر يومئذ إلّا وجد تحته دم عبيط وإن الشمس كسفت والأفق احمرّ وسقطت حجارة».
ولم يرد من هذه الأحاديث في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة إلّا حديث واحد رواه الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ قال: «ما من مؤمن إلّا وله بابان
ويلوح أن هذا الحديث قد استهدف فيما استهدفه تبشير المؤمنين وتطمينهم، ولقد عقب ابن كثير على الروايات الثلاث الأخيرة التي ذكر فيها بكاء السماء واحمرارها وكسوف الشمس وانبثاق الدماء من تحت الحجارة في ظرف مقتل الحسين رضي الله عنه. فقال: «وفي كل ذلك نظر والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر ولا شك أنه عظيم ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه.
وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين ولم يقع شيء مما ذكروه. فقد قتل أبوه وهو أفضل منه بالإجماع وعثمان بن عفان قتل محصورا مظلوما ولم يكن شيء من ذلك وعمر بن الخطاب قتل في المحراب ولم يكن شيء من ذلك. وهذا سيد البشر رسول الله ﷺ مات لم يكن مما ذكروه شيء. ويوم مات إبراهيم ابن النبي ﷺ خسفت الشمس فقال الناس: خسفت لإبراهيم فصلّى بهم رسول الله ﷺ وخطبهم وبيّن لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته. وهذا حقّ.
ونخشى أن يكون للشيعة يد في الأحاديث الأولى لإثبات أن ما اخترعوه في مقتل الحسين له أصل من سنة أقدم، والله أعلم.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩)
. (١) منشرين: من النشور وهو البعث بعد الموت.
وواضح أن في الآيات عودة على بدء في حكاية أقوال ومواقف الكفار والتنديد بهم وإنذارهم، كما أن فيها صورة من صور الجدل واللجاج التي كانت تقع بين النبي ﷺ والكفار، فهي والحالة هذه استمرار للسياق.
وقد يلوح أن اختصاص قوم تبع بالذكر هنا متصل بما كان معلوما عند السامعين من ملك تبابعة اليمن وقوتهم وعظمة شأنهم. ولقد أورد المفسرون «١» في سياق هذه الآيات بيانات غير يسيرة من ذلك معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول فيها المعقول وغير المعقول وفيها الدلالة على كل حال على ما كان مستقرا في أذهان السامعين من ذلك. ولقد سبق تعريف بتبع وقومه في سياق سورة (ق) فلا نرى ضرورة للتكرار. ولقد أورد المفسرون في صدد هذه الآيات بعض الأحاديث عن إسلام تبع فلم نر بأسا في إيرادها إتماما للصورة مع التنبيه على أنها لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. منها حديث رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس وسهل بن سعد الساعدي بطرق مختلفة عن النبي ﷺ قال: «لا تسبّوا تبّعا فإنّه قد أسلم» وحديث رواه أبو حاتم الرقاشي أن عائشة كانت تقول: «لا تسبّوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا».
ولقد عقب الطبري والبغوي على جملة ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ بأنها تعني للاختبار في الدنيا للثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. ومع أن معنى
تعليق على آية فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) [٣٦]
وهذه أول مرة يأتي تحدي الكفار فيها بما حكي عنهم في هذه الآية، فقد حكت آيات عديدة في السور السابقة إنكارهم للبعث بعد موتهم هم وآباؤهم بعد أن يصبحوا رفاتا وعظاما ورميما ويمزقون كل ممزق، فكان القرآن يردّ عليهم مبرهنا بقدرة الله تعالى على إحيائهم ثانية بما هو ماثل أمام أعينهم من مشاهد قدرة الله وعظمته وملكوته، وينبههم إلى أن الذي خلقهم بدءا قادر على خلقهم إعادة، ويضرب لهم الأمثال بالأرض الميتة الخامدة التي يحييها بالمطر. فجاءوا الآن يتحدون النبي ﷺ بطلب البرهنة على ذلك بإحياء آبائهم في الدنيا حتى يروهم ويكلموهم. وقد اقتضت حكمة التنزيل بالردّ عليهم بما كان من إهلاك المجرمين أمثالهم من قوم تبّع ومن قبلهم ممن يعرفون قصصهم وهم أقوى منهم. وأن الذي أنزل في المجرمين السابقين التدمير والعذاب قادر عليهم، وبأن الله سبحانه لا يعقل أن يكون قد خلق السموات والأرض عبثا ولعبا ولا بدّ من أن يكون لذلك حكمة منها بعث الناس ومحاسبتهم على أعمالهم وتوفيتهم الجزاء عليها.
ويتبادر لنا أن الرد الرباني جاء بالأسلوب الذي جاء به ليتسق مع مشيئة الله
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢)
. (١) مولى: بمعنى ولي وحليف ونصير.
الآيات متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وتدعيم، فيوم الفصل والقضاء الأخروي هو موعد الناس جميعا الأولين منهم والآخرين. ولن ينفع فيه ولي وليا وحليف حليفا. ولن ينجو من هوله وشره إلّا من رحمه الله القوي وحده، الناصر وحده، الرحيم وحده، في أي ظرف يستدعي القوة والنصر والرحمة.
وواضح أن الآيات ردّ على الذين تحدوا النبي ﷺ بالإتيان بآبائهم، وقد استهدفت فيما استهدفته إنذارهم وإثارة اليأس فيهم من أي نصير وحليف يوم القيامة لحملهم على الارعواء وتطمين المؤمنين بأنهم سيكونون مظهر رحمة الله تعالى.
ومن المفسرين من قال في تخريج الاستثناء في جملة: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إنها تعني نفع وغناء الشفيع الذي يكون قد نال رحمة الله ورضاءه»
. ومنهم من قال إنها تعني أن النفع والغناء إنما هما رحمة الله وحسب «٢». وقد تبادر
(٢) انظر ابن كثير.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٧]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧)
. (١) شجرة الزقوم: سبق تعريفها.
(٢) المهل: دردي الزيت ورديئه.
(٣) اعتلوه: احملوه بعنف وسوقوه.
(٤) السندس والإستبرق: نوعان من الحرير. والكلمتان معرّبتان عن لغة أعجمية.
جاءت هذه الآيات في أثر الآيات السابقة استمرار للكلام أو تعقيبا وتدعيما لبيان مصير كل من الكافرين والمؤمنين يوم الفصل.
١- فلسوف يكون طعام الكافر الأثيم شجرة الزقوم الكريهة الطعم الذي يشبه طعم عكر الزيت ويغلي في البطون كغلي الماء فوق النار.
٢- وسيأمر الله عز وجل الموكلين بالعذاب بأخذه وسوقه وإلقائه في وسط النار وصب الماء الشديد الحرارة فوق رأسه والاستهزاء به قائلين له هذا مقامك أيها العزيز الكريم أو يا من كنت تزعم لنفسك العزة والكرامة. فذق ثمرة كفرك
٣- وسيكون المتقون في مقام الآمن فيحلون في الجنات والعيون ويلبسون ثياب الحرير ويتكئون على السرر متقابلين ويتمتعون بكل فاكهة ويتزوجون بالحور العين وقد وقاهم الله الموت مرة ثانية وكتب لهم الخلود في هذا النعيم وحماهم من عذاب النار وكل ذلك بفضل الله ورحمته، وهذا هو الفوز العظيم.
ووصف مصير الفريقين قوي رائع من شأنه إثارة الخوف في الكفار وبعث الطمأنينة والغبطة في المؤمنين. وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر بالإضافة إلى الحقيقة الإيمانية المنطوية فيها عن المشهد الأخروي.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
. (١) ارتقب: بمعنى اصبر أو انتظر.
جاءت الآيتان معقبتين على وصف مصيري الكفار والمؤمنين. وخاتمتين للسورة والموقف الجدلي الحجاجي معا، وقد وجه الخطاب فيهما للنبي ﷺ فالله سبحانه إنما جعل القرآن بلسان النبي ﷺ لعلّ السامعين يتعظون به لأنه بلغتهم، وإذا لم يتعظوا فلينتظر النبي ﷺ ولينتظر الكفار معا أمر الله وقضاءه فهو واقع لا ريب فيه.
وفي هذا إنذار للكفار وتطمين للنبي ﷺ استهدف به بثّ الثقة والقوة والأمل في نفسه كما هو المتبادر.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآيات [٤٨- ٥٠] نزلت في أبي جهل الذي قال في مجال الافتخار حينما أنذره النبي ﷺ بآيات سورة العلق [١٥- ١٦] :
أيوعدني محمد والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها. وقد روى ابن كثير عن عكرمة صيغة أخرى من هذه الرواية حين قال النبي ﷺ له: إنّ الله تعالى أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع أنت ولا
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق ذكر شجرة الزقوم ووصفها حديثا عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيّها الناس اتقوا الله حقّ تقاته، فلو أن قطرة من الزّقوم قطرت على الأرض لأمرّت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن تكون طعامه وليس لهم طعام غيره». حيث ينطوي في الحديث توضيح ترهيبي إنذاري نبوي متسق مع الترهيب الإنذاري الذي احتوته الآيات.
وفي الآية الأولى دليل جديد يضاف إلى الأدلة الكثيرة التي نبهنا عليها على أن لغة القرآن كانت مفهومة عند أهل بيئة النبي ﷺ وعصره من العرب بل كانت لغتهم التي هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على السندس والإستبرق
وما قلناه في صدد وسائل النعيم الأخروية في سياق سورة الزخرف وغيرها ينحسب على الوصف الوارد في هذه الآيات. وإن كان من شيء يصحّ أن يزاد فهو أنه لما كان الإستبرق والسندس كلمتين معرّبتين عن الفارسية أو الرومية على اختلاف الأقوال، ولما كانت روح الآيات تلهم أن ما يرمزان إليه من نوع النسيج الحريري كان معروفا وممارسا في بيئة النبي ﷺ وعصره فإنه يسوغ القول إن في ذلك دلالة على ما كان من صلات تجارية وغير تجارية بين أهل بيئة النبي ﷺ وعصره وفي الأقطار المجاورة لجزيرة العرب، وعلى اقتباس العرب لكثير من وسائل الحياة التي كان يتمتع بها أهل تلك الأقطار، وهو ما قامت عليه الأدلة الكثيرة القرآنية وغير القرآنية.