تفسير سورة المعارج

القطان
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

سأل: طلب. ليس له دافع: لا يستطيع أحد رده. المعارج: الدرجات، والمصاعد. واحدها معرج بكسر الميم ومعرج بفتحها، ومعراج. الروح: جبريل. المُهل: المعدن المذاب كالفضة والحديد وغير ذلك، وعكر الزيت. العهن: الصوف. حميم: قريب، صديق. الفصيلة: العشيرة. لظى: جهنم. الشَّوى: واحدها شواة، جلدة الرأس. جمعَ فأوعى: جمع المال وخبأه في وعاء، وبَخِل به ولم يصرف منه في وجوه الخير.
كان زعماءُ قريش كثيراً ما يسألون الرسولَ الكريم عن موضوع القيامة، ويقولون إنّ محمداً يخوّفُنا بالعذاب، فما هذا العذاب؟ ومتى يكون؟ وكان النضرُ بن الحارث ومعه كثيرون يقولون، منكرين ومستهزئين: متى هذا الوعد؟ وينكرون البعثَ والجزاءَ أشدَّ الإنكار. فردّ الله عليهم بهذه السورة الكريمة.
إن العذابَ الذي طلبه السائلون واقعٌ بهم لا محالة، لن يستطيع أحدٌ ردَّه، وسيأتيهم من الله تعالى خالقِ السموات وما فيها من مسالك، والذي يعصَدُ جبريل والملائكة اليه في يومٍ طويلٍ شاقّ على الكافرين مقدارُه خمسون الف سنة من ايامنا هذه. ويجوز ان يكون أطول، فليس المرادُ من ذِكر الخمسين تحديدَ العدد، بل بيان شدةِ ذلك اليوم وعظم هوله. فاصبرْ يا محمدُ على استهزائهم واستعجالهم العذابَ ﴿صَبْراً جَمِيلاً﴾.
ثم بين الله تعالى ان هذا اليومَ آتٍ لا شكّ فيه فقال:
﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾.
إن الكفار الجاحدين يرون يوم القيامة مستحيلاً لا يَقَع، ونراه واقعاً قريباً غير متعذَّر على قدرتنا، فَلْيحذروه.
ثم ذكر وقتَ حدوث ذلك اليوم وشيئاً من أهواله فقال:
﴿يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل﴾
إنه يوم شديدُ الهول تذوب فيه السماءُ كالمعادن المنصهرة ويصيرُ لونُها مثل عَكْرِ الزيت أما الجبال فتغدو مثل الصوف المنفوش تتطاير في أرجاء الكون. وفي ذلك الهول الشديد يصير كل انسان مشغولاً بنفسه، لا يسألُ عن أقاربه ولا أصدقائه.... وإنهم لَيرون بعضهم البعض لكنه لا يسال أحدٌ عن احد، ويتمنى الكافر لو يفدي نفسَه من عذاب يوم القيامة ببنيه، وزوجته، وأخيه وعشيرته التي ينتمي اليها، بل وبجميع من في الأرض، علّه ينجو من العذاب.. ﴿كَلاَّ﴾ لا يمكن ان ينجيه شيء، ولا يُقبل منه فداءٌ ولو جاء بأهل الأرض جميعا. بل إن مصيرَهُم الى لظى جهنّم الشديدةِ الحرارة حتى تنزعَ جلدةَ الرأس عنه.
﴿تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى وَجَمَعَ فأوعى﴾
انها تنادي أولئك المجرمين الذين تولَّوا عن الدعوة في الدنيا، وأعرضوا عن الحق، وجمعوا المالَ وكدّسوه في خزائنهم، ولم يؤدوا حقّ الله فيه.
فهل هناك اكبر من هذا التهديد والوعيد لمن بَخِلَ بماله، وأعرضَ عن الله ورسوله.... فاعتبِروا يا أولي الألباب.
قراءات:
قرأ الجمهور: سأل سائل بالهمزة. وقرأ نافع وابن عامر: سال بغير همزة. وقرأ الجمهور: تعرج بالتاء. وقرأ الكسائي: يعرج بالياء. وقرأ الجمهور: ولا يسأل بفتح الياء. وقرأ ابن كثير: ولا يسأل بضم الياء مبنيّاً للمجهول. وقرأ حفص وحده: نزاعة بالنصب. والباقون: نزاعة بالرفع.
خلق هلوعا: ضجورا سريع الحزن اذا اصابه مكروه، واذا أصابه الخير فهو منّاع له. حق معلوم: نصيب معيَّن للسائل من الفقراء، وللمحروم الذي لا يسال الناس. مشفقون: خائفون. حافظون: يحفظون انفسهم عن الحرام. راعون: لا يخلّون بشيء من حقوقها.
في هذه الآيات الكريمة يبيّن اللهُ تعالى حقيقة النفس البشرية عندما يمسُّها شرّ أو خير، ويبين حقيقةَ الجاحدين المانعين للخير، الذين يَضْجَرون بسرعة اذا مسّهم الشر، ويمنعون أداءَ حقِّ المال اذا أصابهم خير. ثم قال:
﴿إِلاَّ المصلين الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ....﴾
ان هؤلاء المتّصفين بهذه الصفات الطيبة، وهي إقامةُ الصلاة والمداومة عليها، والّذين يجعلون في أموالهم نصيباً معيّنا للفقراء والمساكين، ويصدِّقون بيوم القيامة، ويخافون عذابَ ربّهم، ويتحلَّون بالعفة فلا يَقْربون إلا نساءَهم او جواريَهم - فإنهم غيرُ مَلُومين.
﴿فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون﴾
فالذين لا يتعفّفون، ويَجْرون وراءَ شهواتِهم في الحرام أولئك هم المعتدون الذين تجاوزوا أوامرَ الله ورسوله.
﴿والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾
والّذين يؤدّون الأماناتِ ويحافِظون على العهود ويؤدّون شهاداتِهم بصِدق، ويحافظون على صلاتهم ﴿أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾، هؤلاء الذين يتحلَّون بهذه الصفات الرفيعة - لهم الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قَلْبِ بشر.
قراءات:
قرأ حفص: شهاداتهم بالجمع. وقرأ الباقون: شهادتهم بالإفراد. وقرأ ابن كثير: لأمانتهم بالافراد. والباقون: لأماناتهم بالجمع.
قبلك: بكسر القاف وفتح الباء، نحوك جهتك، في الجهة التي تليك. مهطعين: مسرعين، والفعل أهطع: يأتي بمعنى نظر في ذلٍّ وخشوع، وبمعنى أسرع. عِزين: جماعات مفردها عِزَة بكسر العين وفتح الزاي. بمسبوقين: بمغلوبين. الأجداث: القبور، واحدها جَدَث بفتح الجيم والدال. النصُب: كل ما نصب للعبادة من دون الله، كالأصنام وما شابهها. يوفضون: يسرعون. خاشعة أبصارهم: أبصارهم ذليلة. ترهَقُهم: تغشاهم.
ما بالُ هؤلاء الّذين كذّبوا برسالتك مسرِعينَ إليك، يجلِسُون حوالَيْك جماعاتٍ جماعات، ليسمعوا ما تتلوه عليهم من آياتِ الله، ثم يردّدونها فيما بينَهم ساخرين!! ولا يعون ما تُلقيه عليهم من رحمة الله وهدْيه! ومثله قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩].
ثم بين مآلهم وأنهم لا يدخلون الجنةَ أبداً فقال:
﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾.
أيطمعَ هؤلاء في ان يدخلوا الجنةَ، وقد كذّبوك ايُّها الرسول ولم يؤمنوا برسالتك، وهم معرِضون عن سماع الحق!! كلا: لا مطمعَ لهم في ذلك ولا نصيب. وكيف يطمعون في دخولِ الجنة، وهم يكذّبون بالبعث والجزاء؟ وقد خلقناهم من ماء مهين.
ثم أوعدهم بأنهم إن لم يؤمنوا ويرجعوا عن كفرهم - أهلكَهم واستبدلَ بهم قوماً غيرهم خيراً منهم فقال:
﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب إِنَّا لَقَادِرُونَ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾.
لقد أقسَم الله تعالى بربِّ المشارقِ والمغارب (وهي مشارقُ الشمس ومغاربها) وببقية النجوم والكواكب، فهي تُشرق كل يومٍ من مكان، وتغرب كذلك (فمشارقُ الشمس متعدّدة وكذلك مغاربها) إنه لَقادر على ان يُهلكَهم ويأتي بخلْقٍ خيرٍ منهم، وما هو بعاجز عن هذا التبديل.
ثم سلّى جلّ جلالُه رسولَه الكريم عما يقولون ويسخرون بأنهم سيلاقون يومهم الذي وعدَهم الله، وهناك سيلقون جزاءهم. في ذلك اليوم يَخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي كأنهم يهرولون الى النُصُب التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولكنّ حالَهم مختلفٌ، فإنهم يأتون وأبصارُهم خاشعة أذلاَّء تعلو وجوهَهكم الكآبة والحزن.
﴿ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾
ذلك اليوم هو يوم القيامة وما فيه من أهوال عظام هو موعدُهم، وفيه ينالون جزاءَهم، وبئس المصير.
قراءات:
قرأ حفص وابن عامر: نُصُب بضم النون والصاد. وقرأ الباقون: نَصَب بفتح النون والصاد، وهما لغتان. او ان النصب بضم النون والصاد جمع نصب بفتح النون وسكون الصاد. والله اعلم.
Icon