وقد تلقى المؤمنون هذه الأوامر فكان الرجل يصلي الليل كله مخافة ألا يصيب ما أمر الله به من القيام. وكان إحصاء الليل شاقا عليهم، إذ لم يكن عندهم ساعات يضبطون بها أوقاتهم، فانتفخت أقدامهم من طول القيام. فخفّف الله عنهم ذلك وأمرهم بما تيسّر من صلاة الليل. ثم خفّّف ذلك كله وأمرهم بالصلوات الخمس، لأن المسلمين منهم المريض والمسافر وغير ذلك. فالصلاة المفروضة كافية للأمة مع إيتاء الزكاة وإدامة استغفار الله والصدقة ﴿ فاقرأوا ما تيسّر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ﴾.
ﰡ
هذه الآية والآياتُ التي بعدها من أولِ ما نزلَ من الوحي على الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد روي في الأحاديث الصحيحة أنه لما جاءه جبريلُ وهو في غار حِراء في أول الوحي خافه الرسول، وظنّ أن به هو مسّاً من الجنّ، فرجع من غار حِراء مرتعِدا يرجُف فؤادُه، فقال لأهله : زمِّلوني زملوني، لقد خشيتُ على نفسي. وأخبر خديجةَ الخبر. فنزلت هذه الآياتُ :
﴿ يا أيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً ﴾.
يا أيها المتلفّف بثيابه.
أو زِدْ عليه بقدْرِ ما تستطيع، واقرأ القرآن ببيانٍ ووضوحٍ وترتيب.... وهذا قبل أن تُفرضَ الصلواتُ الخمس.
ثم أخبره تعالى بأنه سيُلقي عليه قرآناً عظيماً فيه تكاليفُ شاقة على المكلَّفين، فاستعدَّ لهذا الأمر يا محمد.
أشدّ وطأ : أكثر مشقة.
وأقومُ قيلا : أثبتُ قراءة وأصوب، لحضور القلب وهدوء الأصوات.
ثم بيّن له بوضوحٍ أن الصلاةَ بالليل والنهوضَ للعبادة شديدُ الوطأة، ولكنّه أقْوَمُ وأثبتُ لقراءة القرآن، لِحضورِ القلب، ولأن الليلَ تهدأ فيه الأصواتُ وتنقطعُ الحركة، فيكون الذهنُ أجْمَعَ، والنفسُ أصفَى للتدبُّر والتأمل في أسرار القرآن الكريم.
قراءات :
قرأ ابن عامر وأبو عمرو : وطاء بكسر الواو وفتح الطاء وبعدها ألف. والفعل واطأ يواطئ مواطأة ووطاء. وقرأ الباقون : وطئا بفتح الواو وسكون الطاء. والفعل وطئ وطئا.
إن لك في النهارِ وقتاً طويلاً تَصْرِفه في العملِ والاشتغال بأمور الرسالة، ففرّغ نفسَك في اللّيل لعبادةِ ربّك.
ثم انتقلَ بعد ذلك إلى أمرِ الرسول الكريم بتبليغ الدعوةِ والانقطاِع لذلك وتفويضِ أموره كلّها إليه :
﴿ واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ً ﴾
استعنْ على تبليغ دعوتك بذِكر الله، وانقطعْ إليه في عبادَتِك وأمورك جميعها.
ثم بين له أنه ليس هناك إلا اللهُ وحدَه، فاتجهْ إليه بالعبادة، هو مالكُ هذا الكون العجيب الكبير، ﴿ فاتخذه وَكِيلاً ﴾ وفوِّض أمورك إليه، واستمدَّ القوةَ والعون منه لتحملَ العِبء الثقيلَ الذي ألقي عليك.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب : رب المشرق، بكسر الباء. والباقون : رب المشرق برفع الباء.
بعد أن بيّن اللهُ لعبادِه كيف تكون العبادةُ وكان ذلك في أوائل الدعوة، أدَّب الرسولَ الكريم بآدابٍ رفيعة يعامِل بها المكذّبين.
اصبر أيها الرسولُ، على أذى سفهاء قومك، ولا تكترثْ بما يتقوّلون عليك مثل قولهم :« ساحر أو شاعرٌ أو مجنون » أو غيرِ ذلك من الأباطيل. ابتعدْ عنهم، ولا تتعرّضْ لهم بأذى وخالفْهم في الأفعال، مع المداراة والحِلْم والصبر.
مهِّلهم وأمهلهم : اتركهم برفق وتأنّ ولا تهتم بشأنهم.
ثم أمر رسولَه أن يترك أمرَ المشركين إليه، أولئك الذين أبطرتْهم النعمةُ، فالله هو الكفيلُ بمجازاتهم وسوف لا يكون ذلك طويلا.
ثم ذكر أنه سيعذّبهم بالأَنكالِ والقيودِ الشديدة والنارِ المستعرة.
ولا يخرج.
وبالطعام الذي لا يُستساغ بل ينشبُ في الحَلْق، وبالعذابِ الأليم.
مَهيلا : ينهال ويتحرك من الرياح ولا يثبت.
متى يكون هذا ؟ سيكون :
﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً ﴾.
ذلك يومً القيامة، يومَ تُزلزَلُ الأرضُ وتصير الجبال مفتتة كالرمال التي تنهالُ ولا تثبُتُ على حال ثم تُنْسَفُ نسفاً، فلا يبقى منها شيء.
إنا أرسلْنا إليكم يا أهلَ مكة والعربَ والعالمَ اجمعَ محمداً يشهدُ عليكم يومَ القيامة، كما أرسلنا إلى فرعونَ موسَى يدعوه إلى الحق.
فعصَى فرعونُ الرسولَ الذي أرسلناه إليه، فأخذناه أخذاً شديداً، حيث أهلكناه
ومن معه بالغَرق. فاحذَروا أن تكذّبوا رسولكم، فيصيبكم مثلُ ما أصابه.
﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً ﴾
إن كفرتم وأصرَرْتُم على جُحودكم فكيف تَتّقون عذابَ ذلك اليوم الذي يَشِيبُ لِهولِهِ الأطفال.
وتنشقُّ السماء ! ووعدُ الله واقعٌ لا محالة، و اللهُ لا يُخلِفُ وعْدَه.
يقدّر الليل والنهار : يقدر طول الليل والنهار وقصَرهما ويعلم مقاديرهما وأجزاءهما وساعاتهما.
فتاب عليكم : فخفّفَ عنكم بأن تصلّوا ما تستطيعون وما تطيقون.
فاقرأوا ما تيسّر من القرآن : فصلّوا ما يمكنكم وما يتيسر لكم من صلاة الليل.
ثم تُختم السورةُ بهذه الآية الطويلة وفيها تخفيفٌ ورحمةٌ للمؤمنين. ويقول معظم المفسّرين إن هذه الآية نزلت بعدَ عامٍ من نزول سورة المزمل.
إن ربك يا محمد، يعلمُ أنك تقوم أقل من ثلث الليل أحيانا، وتقوم نصفه وثلثه في بعض الأحيان، وأن طائفة من أصحابك كذلك تقوم من الليل كما تقوم أنت، والله يقدّر طول الليل والنهار، وهو يعلم أنكم لا تستطيعون إحصاء أجزاء الليل والنهار ( لأنه لم يكن عندهم ساعات يضبطون فيها الأوقات ). فخفف الله عليكم للأعذار التي تحيط بكم من مرض أو سفر أو جهاد للعدو، ولذلك صلّوا
ما تستطيعون من صلاة الليل، وواظبوا على الصلاة وأداء الزكاة. وتصدقوا في سبيل الخير، على الفقراء والمساكين والأعمال العامة.
﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله ﴾.
أي شيء تفعلوه من وجوهِ البرّ والخير والإحسان تلقَوا ثوابَهُ عندَ الله بأضعاف ما قدّمتموه.... فاستغفِروا الله من فعلِ السيّئات والتقصيرِ في الحسناتِ، إن الله غفور رحيم دائماً وأبدا.
وقوله تعالى :﴿ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله ﴾ دليلٌ من دلائل النبوة، لأن الآية مكية، والجهادُ لم يُفرض إلا بعدَ الهجرة.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو : ونصفه وثلثه بالجر، والباقون : ونصفه وثلثه بالنصب. والحمد لله أولا وآخرا.