ﰡ
والإخْسَارُ والْخَسَارُ بمعنىً واحد. واطلاقُ لفظ المطلَقِ لا يتناولُ إلاَّ مَن يتفاحشُ منه التطفيفُ، بحيث لو وقعَ ذلك المقدارُ في التفاوُتِ بين الكيلَين العَدلَين لزادَ عليه، وأما الإيفاءُ بين الناس فإنَّهم يجتَهدون في استيفاء حقوقِهم أن يكون ذلك أميلَ إلى الرُّجْحان، كما رُوي :" أنَّ النبيِّ ﷺ قَضَى دَيْنَهُ فَأَرْجَحَ " فَقِيلَ لَهُ فِي ذلِكَ فَقَالَ :" إنَّا كَذلِكَ نَزِنُ ".
وعن رسولِ الله ﷺ أنَّهُ قالَ :" خَمْسٌ بخَمْسٍ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا خَمْسٌ بخَمْسٍ ؟ قَالَ :" مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلاَّ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَمَا حَكَمُوا بغَيْرِ مَا أنْزَلَ اللهُ إلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَمَا ظَهَرَتِ فِيهِم الْفَاحِشَةُ إلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلاَ طَفَّفَوا الْكَيلَ إلاَّ مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُواْ بالسِّنِينِ، وَلاَ مَنَعُواْ الزَّكَاةَ إلاَّ حَبَسَ اللهُ عَنْهُمُ الْقَطْرَ ".
وعن مالكِ بن دينار قالَ :((دَخَلْتُ عَلَى جَارٍ لِي، وَقَدْ نَزَلَ بهِ الْمَوْتُ، فَجَعَلَ يَقُولُ : جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ : مَا تَقُولُ؟! قَالَ : يَا أبَا يَحْيَى كَانَ لِي مِكْيَالاَنِ أكِيلُ بأَحَدِهِمَا وَأكْتَالُ بالآخَرِ، قَالَ : فَقُمْتُ فَجَعَلْتُ أضْرِبُ أحَدَهُمَا بالآخَرِ، فَقَالَ : يَا أبَا يَحْيَى كُلَّمَا ضَرَبْتَ أحَدَهُمَا بالآخَرِ ازْدَادَ عَلَيَّ عِظَماً، قَالَ : فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ذلِكَ)).
وقال عكرمةُ :((اشْهَدُواْ عَلَى كُلِّ كَيَّالٍ وَوَزَّانٍ أنَّهُ فِي النَّار))، قِيلَ : إنَّ ابْنَكَ كَيَّالٌ أوْ وَزَّانٌ، قَالَ :((اشْهَدُوا أنَّهُ فِي النَّار)). وكان ابنُ عمرَ يَمُرُّ بالْبَائِعِ فَيَقُولُ لَهُ :((اتَّقِ اللهَ وَأوْفِ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بالْقِسْطِ ؛ فَإنَّ الْمُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أنَّ الْعَرَقَ لَيَلْجُمُهُمْ إلَى أنْصَافِ آذانِهِمْ)). ومرَّ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى رَجُلٍ يَزِنُ الزَّعْفَرَانَ فَقَالَ :((أقِمِ الْوَزْنَ بالْقِسْطِ، ثُمَّ أرْجِحْ بَعْدَ ذلِكَ مَا شِئْتَ)).
وفي الحديثِ عن رسولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ :" الْمُؤْمِنُ إذا أخْطَأَ خَطِيئَةً كَانَتْ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبهِ، فَإنَّ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ مِنْهَا، وَإنْ لَمْ يَتُبْ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فِي الرَّيْنِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِي كِتَابهِ ﴿ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ ".
وقال قتادةُ :((عِلِّيُّونَ قَائِمَةٌ بالْعَرْشِ الْيُمْنَى))، وقال مقاتلُ :((سَاقُ الْعَرْشِ إلَيْهِ تُرْفَعُ أرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ)). وَقِيْلَ : إنَّ العليِّين جمعُ العِلِّيَّةِ، وهي المرتبةُ العالية مَحْفُوفَةٌ بالجلالةِ. وقال بعضُهم : معناهُ : عُلُوٌّ في عُلُوٍّ مضاعفٍ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ ؛ أي يحضرهُ السَّبعة أملاكٍ الذين ذكرنَاهم.
وقرأ علقمةُ (خَاتَمَهُ مِسْكٌ) أي آخرهُ، ويقال : معناهُ : أنَّهم إذا شَربوا من ذلك الشَّراب انختمَ ذلك بطعمِ المسكِ ورائحته. ويقال : معنى المختومِ ههنا أنَّ ذلك الشرابَ في الآخرةِ هو مختومٌ بالمسكِ بدلَ الطِّين الذي يُختم بمثلهِ الشَّراب في الدُّنيا، فهو مختومٌ بالمسكِ يومَ خَلقهِ الله تعالى لا ينفَكُّ حتى يَدْخُلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، فينفكُّ ذلك لَهم تعظيماً لشرابهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ ؛ أي في مثلِ هذا النعيمِ فليَرغب الرَّاغِبون وليجتهد المجتهدون، لا في النعيمِ الذي هو مكدَّرٌ لسُرعَةِ الفناءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ﴾ ؛ معناهُ : ومِزَاجُ الرَّحيقِ من عَينٍ تنْزلُ عليهم من ساقٍ العرشِ، سُميت بذلك ؛ لأنَّها تُسنَمُ عليهم، فتَنصَبُّ انصِباباً من فوقِهم في منازلهم، ومنهُ سَنَامُ البعيرِ لعُلوِّه من بدنهِ، وذلك الشَّراب إذا كان أعلاَ كان أطيبَ وأهنأَ.
وقوله تعالى :﴿ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾ ؛ يشربُ بها أفاضلُ أهلِ الجنَّة صَرفاً بغيرِ مزاجٍ، ويشربُها سائرُ أهلِ الجنَّة بالمزاجِ، وَقِيْلَ : إنَّ الباءَ في قولهِ ﴿ بِهَا ﴾ زائدةٌ كما في قوله﴿ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾[المؤمنون : ٢٠]. وَقِيْلَ : إنَّ التسنيمَ عينٌ تجري في الهواءِ في أوانِي أهلِ الجنة على مقدار مائها، فإذا امتلأَتْ أُمسِكَ الماءُ حتى لا يقعَ منه قطرةٌ على الأرضِ.
وكانوا يُقولون : انظُروا إلى هؤلاءِ الذين ترَكُوا شهوتِهم في الدُّنيا يطلُبون بذلك نعيمَ الآخرةِ بزَعمِهم، ﴿ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ ﴾ ؛ وكانوا إذا رجَعُوا إلى أهلِهم يرجِعُوا فَاكِهين ؛ أي ناعِمين فرِحين مُعجَبين بما هم فيه لا يُبالون بما فعَلوا بالمؤمنين، ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ ﴾، ويقولون إنَّهم ضالُّون باتِّباعِهم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم.
وذلك أنَّهُ يُفْتَحُ بَيْنَهم وبين الكفَّار بابٌ إلى الجنَّة، فإذا نظرَ الكفَّارُ إلى ذلك الباب أقبَلوا نحوَهُ يُسحَبون في النار، فإذا انتَهوا إلى الباب سُدَّ عنهم، فعند ذلك يضحكُ المؤمنون وهُم على الأرائِك في الدَّرجات، يقول يُطلعهم اللهُ على أهلِ النار الذين كانوا يسخَرون منهم في الدُّنيا، فيرونَهم في النار يَدُورون فيها وإنَّ جَماجِمَهم لتَغلي من حرِّ النار، فيقول المؤمنون :﴿ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ ؛ أي هل جُوزُوا على صنِيعهم واستهزائهم بنا، ويجوزُ أن يكون قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ﴾ من قولِ اللهِ ؛ ومعناهُ : التحقيقُ، ومعنى ثُوِّبَ جُوزيَ.