تفسير سورة الرعد

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سورة الرعد. بسم الله الرحمن الرحيم هذه السورة مكية قاله سعيد بن جبير، وقال قتادة هي مدنية غير قوله ﴿ ولو أن قرآنا سيرت ﴾ الآية ١حكاه الزهراوي، وحكى المهدوي عن قتادة أن السورة مكية إلا قوله تعالى ﴿ ولا يزال الذين كفروا ﴾ ٢. قال القاضي أبو محمد وقال النقاش هي مكية غير آيتين قوله ﴿ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم ﴾. وقوله ﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾ ٣ والظاهر عندي أن المدني فيها كثير وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني. وقيل : السورة مدنية حكاه منذر بن سعيد البلوطي وحكاه مكي بن أبي طالب٤.
١ من الآية (٣١) من السورة..
٢ هي نفس الآية (٣١)، ولعل من يقول بهذا ـ وهو قتادة ـ يعتبرهما آيتين بخلاف ما في رسم المصحف اليوم..
٣ من الآية (٤٣) وهي آخر آية في السورة..
٤ الذي في الأصول "بكر بن أبي طالب"، والتصويب عن تفسير "البحر المحيط"..

بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سورة الرّعد
بسم الله الرحمن الرحيم، هذه السورة مكية- قاله سعيد بن جبير- وقال قتادة: هي مدنية غير قوله:
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ... [الرعد: ٣١] الآية- حكاه الزهراوي- وحكى المهدوي عن قتادة: أن السورة مكية إلا قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا... [الرعد: ٣١].
قال القاضي أبو محمد: وقال النقاش: هي مكية غير آيتين: قوله: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ [الرعد: ٣١]. وقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: ٤٣] والظاهر- عندي- أن المدني فيها كثير، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني.
وقيل السورة مدنية- حكاه منذر بن سعيد البلوطي وحكاه مكي بن أبي طالب.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)
تقدم القول في فواتح السور وذكر التأويلات في ذلك إلا أن الذي يخص هذا الموضع من ذلك هو ما قال ابن عباس رضي الله عنه: إن هذه الحروف هي من قوله: «أنا الله أعلم وأرى». ومن قال: إن حروف أوائل السور هي مثال لحروف المعجم- قال: الإشارة هنا ب تِلْكَ هي إلى حروف المعجم، ويصح- على هذا- أن يكون الْكِتابِ يراد به القرآن، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل. والمر- على هذا- ابتداء، وتِلْكَ ابتداء ثان- وآياتُ خبر الثاني، والجملة خبر الأول- وعلى قول ابن عباس في المر يكون تِلْكَ ابتداء وآياتُ بدل منه، ويصح في الْكِتابِ التأويلان اللذان تقدما.
وقوله: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ الَّذِي رفع بالابتداء والْحَقُّ خبره- هذا على تأويل من يرى المر حروف المعجم، وتِلْكَ آياتُ ابتداء وخبر. وعلى قول ابن عباس يكون الَّذِي عطفا على تِلْكَ والْحَقُّ خبر تِلْكَ. وإذا أريد ب الْكِتابِ القرآن فالمراد ب الَّذِي أُنْزِلَ جميع الشريعة: ما تضمنه القرآن منها وما لم يتضمنه. ويصح في الَّذِي أن يكون في موضع
290
خفض عطفا على الكتاب، فإن أردت مع ذلك ب الْكِتابِ القرآن، كانت «الواو» عطف صفة على صفة لشيء واحد، كما تقول: جاءني الظريف والعاقل، وأنت تريد شخصا واحدا، ومن ذلك قول الشاعر:
[المتقارب]
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وإن أردت مع ذلك ب الْكِتابِ التوراة والإنجيل، فذلك بيّن، فإن تأولت مع ذلك المر حروف المعجم- رفعت قوله: الْحَقُّ على إضمار مبتدأ تقديره: هو الحق، وإن تأولتها كما قال ابن عباس ف الْحَقُّ خبر تِلْكَ ومن رفع الْحَقُّ بإضمار ابتداء وقف على قوله: مِنْ رَبِّكَ وباقي الآية ظاهر بين إن شاء الله.
وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها الآية، لما تضمن قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ توبيخ الكفرة، عقب ذلك بذكر الله الذي ينبغي أن يوقن به، ويذكر الأدلة الداعية إلى الإيمان به.
والضمير في قوله: تَرَوْنَها قالت فرقة: هو عائد على السَّماواتِ، ف تَرَوْنَها- على هذا- في موضع الحال، وقال جمهور الناس: لا عمد للسماوات البتة، وقالت فرقة: الضمير عائد على العمد، ف تَرَوْنَها- على هذا- صفة للعمد، وقالت هذه الفرقة: للسماوات عمد غير مرئية- قاله مجاهد وقتادة- وقال ابن عباس: وما يدريك أنها بعمد لا ترى؟ وحكى بعضهم: أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض، والسماء عليها كالقبة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، والحق أن لا «عمد» جملة، إذ العمد يحتاج إلى العمد ويتسلسل الأمر، فلا بد من وقوفه على القدرة، وهذا هو الظاهر من قوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج: ٦٥] ونحو هذا من الآيات، وقال إياس بن معاوية: السماء مقببة على الأرض مثل القبة.
وفي مصحف أبيّ: «ترونه» بتذكير الضمير، و «العمد» : اسم جمع عمود، والباب في جمعه:
«عمد» - بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل، وشهاب وشهب وغيره، ومن هذه الكلمة قول النابغة:
[البسيط]
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفّاح والعمد
وقال الطبري: «العمد» - بفتح العين- جمع عمود، كما جمع الأديم أدما.
قال القاضي أبو محمد: وليس كما قال، وفي كتاب سيبويه: إن الأدم اسم جمع، وكذلك نص اللغويون على العمد، ولكن أبا عبيدة ذكر الأمر غير متيقن فاتبعه الطبري.
وقرأ يحيى بن وثاب «بغير عمد» بضم العين والميم.
وقوله: ثُمَّ هي- هنا- لعطف الجمل لا للترتيب، لأن الاستواء على العرش قبل «رفع
291
السماوات»، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: كان الله ولم يكن شيء قبله. وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض.
وقد تقدم القول في كلام الناس في «الاستواء»، واختصاره: أن أبا المعالي رجح أنه اسْتَوى بقهره وغلبته، وقال القاضي ابن الطيب وغيره: اسْتَوى - في هذا الموضع- بمعنى استولى، والاستيلاء قد يكون دون قهر. فهذا فرق ما بين القولين، وقال سفيان: فعل فعلا سماه استواء. وقال الفراء:
اسْتَوى - في هذا الموضع- كما تقول العرب: فعل زيد كذا ثم استوى إلي يكلمني، بمعنى أقبل وقصد. وحكي لي عن أبي الفضل بن النحوي أنه قال: الْعَرْشِ- في هذا الموضع- مصدر عرش، مكانه أراد جميع المخلوقات، وذكر أبو منصور عن الخليل: أن العرش: الملك، وهذا يؤيد منزع أبي الفضل بن النحوي إذ قال: العرش مصدر، وهذا خلاف ما مشى عليه الناس من أن العرش هو أعظم المخلوقات وهو الشخص الذي كان على الماء والذي بين يديه الكرسي وأيضا فينبغي النظر على أبي الفضل في معنى الاستواء قريبا مما هو على قول الجميع. وفي البخاري عن مجاهد أنه قال: المعنى: علا على العرش.
قال القاضي أبو محمد: وكذلك هي عبارة الطبري، والنظر الصحيح يدفع هذه العبارة.
وقوله: وَسَخَّرَ تنبيه على القدرة، والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب- وكذلك قال: كُلٌّ يَجْرِي أي كل ما هو في معنى الشمس والقمر من التسخير، وكُلٌّ لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة، و «الأجل المسمى» هو انقضاء الدنيا وفساد هذه البنية، وقيل: يريد بقوله: لِأَجَلٍ مُسَمًّى الحدود التي لا تتحداها هذه المخلوقات أن تجري على رسوم معلومة.
وقوله: يُدَبِّرُ بمعنى: يبرم- وينفذ- وعبر بالتدبير تقريبا لأفهام الناس، إذ التدبير إنما هو النظر في أدبار الأمور وعواقبها، وذلك من صفة البشر، والْأَمْرَ عام في جميع الأمور وما ينقضي في كل أوان في السماوات والأرضين وقال مجاهد: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ معناه: يقضيه وحده.
وقرأ الجمهور: «يفصل» وقرأ الحسن بنون العظمة، ورواها الخفاف وعبد الوهاب عن أبي عمرو وهبيرة عن حفص، قال المهدوي: ولم يختلف في يُدَبِّرُ، وقال أبو عمرو الداني: إن الحسن قرأ «نفصل» و «ندبر» بالنون فيهما، والنظر يقتضي أن قوله: يُفَصِّلُ ليس على حد قوله: يُدَبِّرُ من تعديد الآيات بل لما تعددت الآيات وفي جملتها يدبر الأمر، أخبر أنه يفصلها لعل الكفرة يوقنون بالبعث، والْآياتِ هنا إشارة إلى ما ذكر في الآية وبعدها.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣ الى ٤]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
292
لما فرغت الآيات من ذكر السماوات ذكرت آيات الأرض.
وقوله: مَدَّ الْأَرْضَ يقتضي أنها بسيطة لا كرة- وهذا هو ظاهر الشريعة وقد تترتب لفظة المد والبسط مع التكوير والله أعلم. و «الرواسي» الجبال الثابتة، يقال: رسا يرسو، إذا ثبت، ومنه قول الشاعر:
[الطويل]
به خالدات ما يرمن وهامد وأشعث أرسته الوليدة بالفهر
و «الزوج» - في هذه الآية- الصنف والنوع، وليس بالزوج المعروف بالمتلازمين الفردين من الحيوان وغيره، ومنه قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس: ٣٦] ومثل هذه الآية: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: ٧].
وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة فموجود منها نوعان، فإن اتفق أن يوجد في ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم «يغشي» بسكون الغين وتخفيف الشين، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم- في رواية أبي بكر- بفتح الغين وتشديد الشين، وكفى ذكر الواحد ذكر الآخر، وباقي الآية بين.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن الأزواج التي يراد بها الأنواع والأصناف والأجناس إنما سميت بذلك من حيث هي اثنان، اثنان، ويقال: إن في كل ثمرة ذكر وأنثى، وأشار إلى ذلك الفراء عند المهدوي، وحكى عنه غيره ما يقتضي أن المعنى ثم في قوله: الثَّمَراتِ ثم ابتدأ أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى زوجين.
وقوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ... الآية، «القطع» : جمع قطعة وهي الأجزاء، وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب.
وقرأ الجمهور «وجنات» بالرفع، عطفا على قِطَعٌ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «وجنات» بالنصب بإضمار فعل، وقيل: هو عطف على رَواسِيَ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص- عن عاصم- «وزرع ونخيل صنوان وغير» بالرفع في الكل- عطفا على قِطَعٌ- وقرأ الباقون: «وزرع» بالخفض في الكل- عطفا على أَعْنابٍ وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع.
و «الجنة» حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر: [زهير بن أبي سلمى] [البسيط]
293
كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا
أي نخيل جنة، إذ لا توصف بالسحق إلا النخل، ومن خفض «الزرع» ف «الجنات» من مجموع ذلك لا من الزرع وحده، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطتها شجرات.
وصِنْوانٌ جمع صنو، وهو الفرع يكون مع الآخر في أصل واحد، وربما كان أكثر من فرعين، قال البراء بن عازب: الصنوان: المجتمع، «وغير الصنوان» : المتفرق فردا فردا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العم صنو الأب». وروي أن عمر بن الخطاب أسرع إليه العباس في ملاحاة فجاء إلى النبي ﷺ فقال: أردت يا رسول الله أن أقول يا رسول الله لعباس، فذكرت مكانك منه فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحمك الله يا عمر العم صنو الأب». وفي كتاب الزكاة من صحيح مسلم أنه قال: «يا عمر أما شعرت أن العم صنو الأب» وجمع الصنو صنوان، وهو جمع مكسر، قال أبو علي:
وكسرة الصاد في الواحد ليست التي في الجمع، وهو جار مجرى فلك. وتقول: صنو وصنوان في الجمع بتنوين النون وإعرابه.
وقرأ عاصم- في رواية القواس عن حفص- «صنوان» بضم الصاد قال أبو علي: هو مثل ذئب وذؤبان.
قال القاضي أبو محمد: وهي قراءة ابن مصرف وأبي عبد الرحمن السلمي، وهي لغة تميم وقيس، وكسر الصاد هي لغة أهل الحجاز، وقرأ الحسن وقتادة «صنوان» بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع ونظير هذه اللفظة: قنو وقنوان، وإنما نص على «الصنوان» في هذه الآية لأنها بمثابة التجاوز في القطع، تظهر فيه غرابة اختلاف الأكل.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر وأهل مكة: «تسقى» بالتاء، وأمال حمزة والكسائي القاف. وقرأ عاصم وابن عامر «يسقى» بالياء، على معنى يسقى ما ذكر. وقرأ الجمهور «نفضل» بالنون وقرأ حمزة والكسائي «ويفضل» بالياء، وقرأ ابن محيصن: «يسقى بماء واحد، ويفضل» بالياء فيهما، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو حيوة «ويفضّل» بالياء وفتح الضاد «بعضها» بالرفع، قال أبو حاتم: وجدته كذلك في نقط يحيى بن يعمر في مصحفه- وهو أول من نقط المصاحف.
والْأُكُلِ اسم ما يؤكل، بضم الهمزة، والأكل المصدر.
وقرأت فرقة «في الأكل» بضم الهمزة والكاف، وقد تقدم هذا في البقرة وحكى الطبري عن غير واحد- ابن عباس وغيره- قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي واحدة سبخة، وأخرى عذبة، ونحو هذا من القول، وقال قتادة المعنى: قرى متجاوزات.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وجه من العبرة كأنه قال: وفي الأرض قطع مختلفات بتخصيص الله لها بمعان، فهي «تسقى بماء واحد»، ولكن تختلف فيما تخرجه والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو أنها من تربة واحدة ونوع واحد، وموضع العبرة في هذا أبين لأنها مع اتفاقها في التربة والماء، تفضل
294
القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- حين سئل عن هذه الآية- فقال: «الدقل والفارسي والحلو والحامض». وعلى المعنى الأول قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم: كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها فصارت قطعا متجاورة فينزل عليها ماء واحد من السماء- فتخرج هذه زهرة وثمرة، وتخرج هذه سبخة وملحا وخبثا، فكذلك الناس: خلقوا من آدم فنزلت عليهم من السماء تذكرة- فرقت قلوب وخشعت، وقست قلوب ولهت وجفت: قال الحسن: فو الله ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: ٨٢].
والتفضيل في الأكل الأذواق والألوان والملمس وغير ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٥ الى ٧]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)
هذه آية توبيخ للكفرة أي «وإن تعجب» يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق- فهم أهل لذلك، وعجب وغريب ومزر بهم «قولهم» : أنعود بعد كوننا «ترابا» - خلقا جديدا- ويحتمل اللفظ منزعا آخر أي وإن كنت تريد عجبا فلهم، فإن من أعجب العجب «قولهم».
واختلف القراء في قراءة قوله: أَإِذا كُنَّا تُراباً فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «أئذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد» جميعا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد. وقرأ نافع «أئذا كنا» مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المد، وقرأ «إنا لفي خلق جديد» مكسورة على الخبر، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول عن الثاني، غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة «أئذا كنا ترابا أإنا» بهمزتين فيهما. وقرأ ابن عامر «إذا كنا» مكسورة الألف من غير استفهام «ءائنا» يهمز ثم يمد ثم يهمز، فمن قرأ بالاستفهامين فذلك للتأكيد والتحفي والاهتبال بهذا التقدير، ومن استفهم في الأول فقط فإنما القصد بالاستفهام الموضع الثاني، و «إذا» ظرف له، و «إذا» في موضع نصب بفعل مضمر، تقديره: أنبعث أو نحشر إذا. ومن استفهم في الثاني فقط فهو بين، - ولا حول ولا قوة إلا بالله-.
والإشارة ب أُولئِكَ إلى القوم القائلين: أَإِذا كُنَّا تُراباً وتلك المقالة إنما هي تقرير مصمم على الجحد والإنكار للبعث، فلذلك حكم عليهم بالكفر.
295
وقوله: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ يحتمل معنيين:
أحدهما: الحقيقة وأنه أخبر عن كون الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ في الآخرة فهي كقوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غافر: ٧١].
ويحتمل أن يكون مجازا وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان، فهي إذن تجري مجرى الطبع والختم على القلوب، وهي كقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ، فَهُمْ مُقْمَحُونَ [يس: ٨] وباقي الآية بين.
وقال بعض الناس الْأَغْلالُ- هنا- عبارة عن الأعمال، أي أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال.
قال القاضي أبو محمد: وتحرير هذا هو في التأويل الثاني الذي ذكرناه.
وقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ.. الآية، هذه آية تبين تخطيئهم في أن يتمنوا المصائب، ويطلبوا سقوط كسف من السماء أو حجارة تمطر عليهم ونحو هذا مع خلو ذلك في الأمم ونزوله بأناس كثير ولو كان ذلك لم ينزل قط لكانوا أعذر، والْمَثُلاتُ جمع مثلة، كسمرة وسمرات، وصدقة وصدقات.
وقرأ الجمهور «المثلات» بفتح الميم وضم الثاء، وقرأ مجاهد «المثلات» بفتح الميم والثاء، وذلك جمع مثلة، أي الأخذة الفذة بالعقوبة، وقرأ عيسى بن عمر «المثلات» بضم الميم والتاء، ورويت عن أبي عمرو وقرأ يحيى بن وثاب بضم الميم وسكون الثاء، وهاتان جمع مثلة، وقرأ طلحة بن مصرف «المثلات» بفتح الميم وسكون الثاء.
ثم رجّى عز وجل بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قال الطبري: معناه في الآخرة، وقال قوم: المعنى: إذا تابوا، و «شديد العقاب» إذا كفروا.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من معنى «المغفرة» هنا إنما هو ستره في الدنيا وإمهاله للكفرة، ألا ترى التيسير في لفظ مَغْفِرَةٍ، وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة كما في قوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: ٨٢] ونمط الآية يعطي هذا، ألا ترى حكمه عليهم بالنار، ثم قال: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم، فأخبر بسيرته في الأمم وأنه يمهل مع ظلم الكفر، ولم يرد في الشرع أن الله تعالى يغفر ظلم العباد.
ثم خوف بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ قال ابن المسيب: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله ومغفرته لما تمنى أحد عيشا، ولولا عقابه لا تكل كل أحد». وقال ابن عباس: ليس في القرآن أرجى من هذه الآية.
والْمَثُلاتُ هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلا يتمثل به، ومنه التمثيل بالقتلى، ومنه المثلة بالعبيد.
296
وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، هذه آية غض من اقتراحاتهم المتشططة التي لم يجر الله به عادة إلا للأمم التي حتم بعذابها واستئصالها، و «الآية» هنا يراد بها الأشياء التي سمتها قريش كالملك والكنز وغير ذلك، ثم أخبره الله تعالى بأنه مُنْذِرٌ وهذا الخبر قصد هو بلفظه، والناس أجمعون بمعناه.
واختلف المتأولون في قوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فقال عكرمة وأبو الضحى: المراد بالهادي محمد عليه السلام، وهادٍ عطف على مُنْذِرٌ كأنه قال: إنما أنت مُنْذِرٌ وهادٍ لكل قوم. فيكون هذا المعنى يجري مع قوله عليه السلام: بعثت للأسود والأحمر. وهادٍ- على هذا- في هذه الآية بمعنى داع إلى طريق الهدى. وقال مجاهد وابن زيد: المعنى: إنما أنت «منذر» ولكل أمة سلفت «هاد» أي نبي يدعوهم.
قال القاضي أبو محمد: والمقصد: فليس أمرك يا محمد ببدع ولا منكر، وهذا يشبه غرض الآية.
وقالت فرقة: «الهادي» في هذه الآية الله عز وجل، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير، وهادٍ- على هذا- معناه مخترع للرشاد.
قال القاضي أبو محمد: والألفاظ تطلق بهذا المعنى، ويعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع.
وقالت فرقة «الهادي» : علي بن أبي طالب، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم- من طريق ابن عباس- أنه قرأ هذه الآية وعلي حاضر، فأومأ بيده إلى منكب علي وقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي.
قال القاضي أبو محمد: والذي يشبهه- إن صح هذا- أن النبي ﷺ إنما جعل عليا رضي الله عنه مثالا من علماء الأمة وهداتها إلى الدين، كأنه قال: أنت يا علي وصنفك، فيدخل في هذا أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة، ثم كذلك من كل عصر، فيكون المعنى- على هذا- إنما أنت يا محمد ولكل قوم في القديم والحديث رعاة وهداة إلى الخير.
قال القاضي أبو محمد: والقولان الأولان أرجح ما تأول في الآية.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٨ الى ١٠]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)
لما تقدم تعجب الكفار واستبعادهم البعث من القبور- قص في هذه الآيات المثل المنبهة على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث:
297
فمن ذلك هذه الواحدة من الخمس التي هي من مفاتيح الغيب، وهي أن الله تعالى انفرد بمعرفة ما تحمل به الإناث، من الأجنة من كل نوع من الحيوان وهذه البدأة تبين أنه لا تتعذر على القادر عليها الإعادة.
وما في قوله: ما تَحْمِلُ يصح أن تكون بمعنى الذي، مفعولة يَعْلَمُ ويصح أن تكون مصدرية، مفعولة أيضا ب يَعْلَمُ، ويصح أن تكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء، والخبر:
تَحْمِلُ وفي هذا الوجه ضعف.
وفي مصحف أبي بن كعب: «ما تحمل كل أنثى وما تضع».
وقوله: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ معناه: ما تنقص، وذلك أنه من معنى قوله: وَغِيضَ الْماءُ [هود: ٤٤] وهو بمعنى النضوب فهي- هاهنا- بمعنى زوال شيء عن الرحم وذهابه، فلما قابله قوله: وَما تَزْدادُ فسر بمعنى النقصان: ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان: فقال مجاهد «غيض الرحم» أن يهرق دما على الحمل، وإذا كان ذلك ضعف الولد في البطن وشحب، فإذا أكملت الحامل تسعة أشهر لم تضع وبقي الولد في بطنها زيادة من الزمن يكمل فيها من جسمه وصحته ما نقص بمهراقة الدم، فهذا هو معنى قوله: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم الدم على الحمل.
وذهب بعض الناس إلى أن غيضه هو نضوب الدم فيه وامتساكه بعد عادة إرساله بالحيض، فيكون قوله: وَما تَزْدادُ- بعد ذلك- جاريا مجرى تَغِيضُ على غير مقابلة، بل غيض الرحم هو بمعنى الزيادة فيه.
وقال الضحاك: غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة تاما في خلقه.
وقال قتادة: الغيض: السقط، والزيادة: البقاء بعد تسعة أشهر.
وقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ لفظ عام في كل ما يدخله التقدير، والْغَيْبِ: ما غاب عن الإدراكات، والشَّهادَةِ: ما شوهد من الأمور، ووضع المصادر موضع الأشياء التي كل واحد منها لا بد أن يتصف بإحدى الحالتين.
وقوله: الْكَبِيرُ صفة تعظيم على الإطلاق، و «المتعالي» من العلو.
واختلفت القراءة في الوقف على «المتعال» : فأثبت ابن كثير وأبو عمرو- في بعض ما روي عنه- الياء في الوصل والوقف، ولم يثبتها الباقون في وصل ولا وقف. وإثباتها هو الوجه والباب. واستسهل سيبويه حذفها في الفواصل- كهذه الآية- قياسا على القوافي في الشعر، ويقبح حذفها في غير فاصلة ولا شعر، ولكن وجهه أنه لما كان التنوين يعاقب الألف واللام أبدا، وكانت هذه الياء تحذف مع التنوين، حسن أن تحذف مع معاقبه.
قال القاضي أبو محمد: ويتصل بهذه الآية فقه يحسن ذكره: فمن ذلك اختلاف الفقهاء في الدم
298
الذي تراه الحامل، فذهب مالك رحمه الله وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وجماعة، إلى أنه حيض.
وقالت فرقة عظيمة: ليس بحيض، ولو كان حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض وهو إجماع. وروي عن مالك- في كتاب محمد- ما يقتضي أنه ليس بحيض، ومن ذلك أن الأمة مجمعة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وذلك منتزع من قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: ١٥] مع قوله تعالى:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: ٢٣٣].
وهذه الستة أشهر هي بالأهلة- كسائر أشهر الشريعة- ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك- وأظنه في كتاب ابن حارث- أنه إن نقص من الأشهر الستة ثلاثة أيام، فإن الولد يلحق لعلة نقص الشهور وزيادتها واختلف في أكثر الحمل فقيل تسعة أشهر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقالت عائشة وجماعة من العلماء أكثره حولان، وقالت فرقة: ثلاثة أعوام وفي المدونة: أربعة أعوام وخمسة أعوام. وقال ابن شهاب وغيره: سبعة أعوام، ويروى أن ابن عجلان ولدت امرأته لسبعة أعوام، وروي أن الضحاك بن مزاحم بقي حولين- قال: وولدت وقد نبتت ثناياي، وروي أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر.
وقوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ الآية: سَواءٌ مصدر وهو يطلب بعده شيئين يتماثلان. ورفعه على خبر الابتداء الذي هو «من» والمصدر لا يكون خبرا إلا بإضمار كما قالت الخنساء: [البسيط] :
..................... فإنما هي إقبال وإدبار أي ذات إقبال وإدبار. فقالت فرقة هنا: المعنى: ذو سواء، وقال الزجاج كثر استعمال سواء في كلام العرب حتى جرى مجرى اسم الفاعل فلا يحتاج إلى إضمار.
قال القاضي أبو محمد: هو عندي كعدل وزور وضيف.
وقالت فرقة: المعنى: مستو منكم، فلا يحتاج إلى إضمار.
قال القاضي أبو محمد: وضعف هذا سيبويه بأنه ابتداء بنكرة.
ومعنى هذه الآية: معتدل منكم في إحاطة الله تعالى وعلمه من أسر قوله فهمس به في نفسه، وَمَنْ جَهَرَ بِهِ فأسمع، لا يخفى على الله تعالى شيء.
وقوله تعالى: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ معناه: من هو بالليل في غاية الاختفاء، ومن هو متصرف بالنهار ذاهب لوجهه، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما. وذهب ابن عباس ومجاهد إلى معنى مقتضاه: أن «المستخفي والسارب» هو رجل واحد مريب بالليل، ويظهر بالنهار البراءة في التصرف مع الناس.
قال القاضي أبو محمد: فهذا قسم واحد جعل الليل نهار راحته، والمعنى: هذا والذي أمره كله
299
واحد بريء من الريب سواء في اطلاع الله تعالى على الكل، ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار مَنْ ولا يأتي حذفها إلا في الشعر و «السارب» - في اللغة- المتصرف كيف شاء، ومن ذلك قول الشاعر:
[الأخنس بن شهاب الثعلبي] [الطويل]
أرى كل قوم كاربوا قيد محلهم ونحن حللنا قيده فهو سارب
أي متصرف غير مدفوع عن جهة، وهذا رجل يفتخر بعزة قومه، ومن ذلك قول الآخر: [قيس بن الخطيم] [الكامل]
إني سربت وكنت غير سروب وتقرب الأحلام غير قريب
وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف: فالذي يسر طرف، والذي يجهر طرف مضاد للأول، والثالث: متوسط متلون: يعصي بالليل مستخفيا، ويظهر البراءة بالنهار. والْقَوْلَ في الآية يطرد معناه في الأعمال.
وقال قطرب- فيما حكى الزجاج- مُسْتَخْفٍ معناه: الظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته.
قال القاضي أبو محمد: قال امرؤ القيس: [الطويل]
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلّب
قال: وسارِبٌ معناه: متوار في سرب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول- وإن كان تعلقه باللغة بينا- فضعيف، لأن اقتران الليل ب «المستخفي»، والنهار ب «السارب» - يرد على هذا القول.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١١ الى ١٣]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
اختلف المتأولون في عود الضمير من لَهُ: فقالت فرقة: هو عائد على اسم الله عز وجل المتقدم ذكره، و «المعقبات» - على هذا الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم، والحفظة لهم أيضا- قاله الحسن، وروى فيه عثمان بن عفان حديثا عن النبي ﷺ وهو قول مجاهد والنخعي- والضمير على هذا في قوله: يَدَيْهِ وما بعده من الضمائر عائد على العبد المذكور في قوله: مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ
300
[الرعد: ١٠] ومِنْ أَمْرِ اللَّهِ يحتمل أن يكون صفة ل مُعَقِّباتٌ ويحتمل أن يكون المعنى: يحفظونه من كل ما جرى القدر باندفاعه، فإذا جاء المقدور الواقع أسلم المرء إليه.
وقال ابن عباس أيضا: الضمير في لَهُ عائد على المذكور في قوله مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ [الرعد: ١٠] وكذلك باقي الضمائر التي في الآية، قالوا: ومُعَقِّباتٌ- على هذا- حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قالوا: والآية- على هذا- في الرؤساء الكافرين، واختار هذا القول الطبري، وهو قول عكرمة وجماعة، قال عكرمة: هي المواكب خلفه وأمامه.
قال القاضي أبو محمد: ويصح على التأويل الأول الذي قبل هذا أن يكون الضمير في لَهُ للعبد المؤمن على معنى جعل الله له.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل عندي أقوى، لأن غرض الآية إنما هو التنبيه على قدرة الله تعالى، فذكر استواء مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ [الرعد: ١٠] ومن هو سارِبٌ [الرعد: ١٠] وأن لَهُ مُعَقِّباتٌ من الله تحفظه في كل حال، ثم ذكر أن الله تعالى لا يغير هذه الحالة من الحفظ للعبد حتى يغير ما بنفسه.
قال القاضي أبو محمد: وعلى كلا التأويلين ليست الضمائر لمعين من البشر.
وقال عبد الرحمن بن زيد: الآية في النبي عليه السلام، ونزلت في حفظ الله له من أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل في القصة التي ستأتي بعد هذا في ذكر الصواعق.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية وإن كانت بألفاظها تنطبق على معنى القصة فيضعف القول: إن النبي ﷺ لم يتقدم له ذكر فيعود الضمير في لَهُ عليه.
و «المعقبات» : الجماعات التي يعقب بعضها بعضا، فعلى التأويل الأول هي الملائكة، وينظر هذا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة المغرب والصبح»، وعلى التأويل الثاني: هي الحرس والوزعة الذين للملوك.
ومُعَقِّباتٌ جمع معقبة وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى، والتعقيب- بالجملة- أن تكون حال تعقبها حال أخرى من نوعها، وقد تكون من غير النوع، ومنه معاقبة الركوب ومعاقبة الجاني ومعقب عقبة القدر والمعاقبة في الأزواج، ومنه قول سلامة بن جندل: [البسيط]
وكرّنا الخيل في آثارهم رجعا كسر السنابك من بدء وتعقيب
وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر: «له معاقيب» قال أبو الفتح: هو تكسير معقب.
قال القاضي أبو محمد: بسكون العين وكسر القاف كمطعم ومطاعيم، ومقدم ومقاديم.
وهي قراءة أبي البرهسم- فكأن معقبا جمع على معاقبة ثم جعلت الياء في معاقيب عوضا من الهاء المحذوفة في معاقبة، والمعقبة ليست جمع معقب- كما ذكر ذلك الطبري وشبه ذلك برجل ورجال
301
ورجالات، وليس الأمر كما ذكر لأن تلك كجمل وجمال وجمالات، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضاربة وضاربات.
وفي قراءة أبيّ بن كعب «من بين يديه ورقيب من خلفه»، وقرأ ابن عباس: «ورقباء من خلفه»، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ: «معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله».
وقوله: يَحْفَظُونَهُ يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون بمعنى يحرسونه، ويذبون عنه: فالضمير محمول ليحفظ.
والمعنى الثاني أن يكون بمعنى حفظ الأقوال وتحصيلها، ففي اللفظة حينئذ حذف مضاف تقديره:
يحفظون أعماله، ويكون هذا حينئذ من باب وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] وهذا قول ابن جريج.
وقوله: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ من جعل يَحْفَظُونَهُ بمعنى يحرسونه كان معنى قوله: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يراد به «المعقبات»، فيكون في الآية تقديم وتأخير، أي «له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه» قال أبو الفتح: ف مِنْ أَمْرِ اللَّهِ في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع وهي «المعقبات».
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل هذا التأويل في قوله: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مع التأويل الأول في يَحْفَظُونَهُ.
ومن تأول الضمير في لَهُ عائد على العبد، وجعل «المعقبات» الحرس، وجعل الآية في رؤساء الكافرين- جعل قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بمعنى يحفظونه بزعمه من قدر الله، ويدفعونه في ظنه، عنه، وذلك لجهالته بالله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: وبهذا التأويل جعلها المتأول في الكافرين. قال أبو الفتح: ف مِنْ أَمْرِ اللَّهِ على هذا في موضع نصب، كقولك حفظت زيدا من الأسد، فمن الأسد معمول لحفظت وقال قتادة: معنى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ: بأمر الله، أي يحفظونه مما أمر الله، وهذا تحكم في التأويل، وقال قوم: المعنى الحفظ من أمر الله، وقد تقدم نحو هذا.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وعكرمة وجعفر بن محمد: «يحفظونه بأمر الله».
ثم أخبر تعالى أنه لا يغير ما بقوم- بأن يعذبهم ويمتحنهم معاقبا- حتى يقع منهم تكسب للمعاصي وتغيير ما أمروا به من طاعة.
وهذا موضع تأمل لأنه يداخل هذا الخبر ما قررت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة، ومنه قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم- وقد قيل له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ - قال: نعم إذا كثر الخبث. إلى أشياء كثيرة من هذا.
فقوله تعالى في هذه الآية: لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا معناه حتى يقع تغيير إما منهم وإما من
302
الناظر إليهم أو ممن هو منهم بسبب، كما غير الله تعالى بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة.
فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، وثم أيضا مصائب يريد الله بها أجر المصاب فتلك ليست تغييرا.
ثم أخبر تعالى أنه إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ولا حفظ منه، وهذا جرى في طريقة التنبيه على قدرة الله تعالى وإحاطته، والسوء والخير بمنزلة واحدة في أنهما إذا أرادهما الله بعبد لم يردا، لكنه خص السوء بالذكر ليكون في الآية تخويف، واختلف القراء في- وال- فأماله بعضهم ولم يمله بعضهم، والوالي الذي يلي أمر الإنسان كالولي هما من الولاية كعليم وعالم من العلم.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الآية، هذه آية تنبيه على القدرة، والْبَرْقَ روي فيه عن النبي ﷺ أنه مخراق بيد ملك يزجر به السحاب، وهذا أصح ما روي فيه، وروي عن بعض العلماء أنه قال: البرق: اصطكاك الأجرام، وهذا عندي مردود، وقال أبو الجلد: البرق- في هذه الآية- الماء، وذكره مكي عن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا القول: أنه لما كان داعية الماء، وكان خوف المسافرين من الماء وطمع المقيمين فيه عبر- في هذا القول- عنه بالماء.
وقوله: خَوْفاً وَطَمَعاً- من رأى ذلك في الماء فهو على ما تقدم، والظاهر أن الخوف إنما هو من صواعق البرق- والطمع في المطر الذي يكون معه، وهو قول الحسن، والسَّحابَ جمع سحابة، ولذلك جمع الصفة- والثِّقالَ معناه: بحمل الماء، وبذلك فسر قتادة ومجاهد، والعرب تصفها بذلك، ومنه قول قيس بن الخطيم: [المتقارب].
فما روضة من رياض القطا... كأن المصابيح حواذنها
بأحسن منها ولا مزنة... دلوح تكشف أدجانها
والدلوح: المثقلة. والرَّعْدُ ملك يزجر السَّحابَ بصوته، وصوته- هذا المسموع- تسبيح- والرَّعْدُ اسم الملك: وقيل: «الرعد» اسم صوت الملك وروي عن النبي ﷺ أنه كان إذا سمع «الرعد» قال: «اللهم لا تهلكنا بغضبك ولا تقتلنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره: أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان من سبحت له وروي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ كان إذا سمع «الرعد» قال: «سبحان من سبح الرعد بحمده». وقال ابن أبي زكرياء: من قال- إذا سمع الرعد- سبحان الله وبحمده، لم تصبه صاعقة.
وقيل في الرعد أيضا إنه ريح تختنق بين السحاب- روي ذلك عن ابن عباس في غير ما ديوان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي فيه نظر، لأنها نزعات الطبيعيين وغيرهم.
وروي أيضا عن ابن عباس: أن الملك إذا غضب وزجر السحاب اصطدمت من خوفه فيكون البرق، وتحتكّ فتكون الصواعق.
وقوله: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ الآية- قيل: إنه أدخلها في التنبيه على القدرة بغير سبب ساق ذلك.
303
وقال ابن جريج: كان سبب نزولها قصة أربد أخي لبيد بن ربيعة لأمّه وعامر بن الطفيل، وكان من أمرهما- فيما روي- أنهما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى أن يجعل الأمر بعده إلى عامر بن الطفيل ويدخلا في دينه- فأبى، فقال عامر: فتكون أنت على أهل الوبر، وأنا على أهل المدر- فأبى، فقال له عامر: فماذا تعطيني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطيك أعنة الخيل، فإنك رجل فارس فقال له عامر: والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا حتى آخذك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأبى الله ذلك وابنا قيلة فخرجا من عنده، فقال أحدهما لصاحبه: لو قتلناه ما انتطح فيه عنزان، فتآمر في الرجوع لذلك، فقال عامر لأربد: أنا أشغله لك بالحديث واضربه أنت بالسيف فجعل عامر يحدثه وأربد لا يصنع شيئا فلما انصرفا قال له عامر: والله يا أربد لا خفتك أبدا ولقد كنت أخافك قبل هذا، فقال له أربد: والله لقد أردت إخراج السيف فما قدرت على ذلك، ولقد كنت أراك بيني وبينه أفأضربك؟ فمضيا للحشد على النبي ﷺ فأصابت أربد صاعقة فقتلته، ففي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخوه:
أخشى على أربد الحتوف ولا... أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق... بالفارس يوم الكريهة النجد
فنزلت الآية في ذلك.
وروي عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن جبارا من جبابرة العرب بعث إليه النبي ﷺ ليسلم فقال: أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أو من ذهب؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه.
وقال مجاهد: إن بعض اليهود جاء إلى النبي ﷺ يناظره، فبينما هو كذلك إذ نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت الآية فيه.
وقوله: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ يجوز أن تكون إشارة إلى جدال اليهودي المذكور، وتكون الواو واو حال أو إلى جدال الجبار المذكور. ويجوز- إن كانت الآية على غير سبب- أن يكون قوله: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ إشارة إلى جميع الكفرة من العرب وغيرهم، الذين جلبت لهم هذه التنبيهات.
والْمِحالِ: القوة والإهلاك، ومنه قول الأعشى: [الخفيف]
فرع نبع يهتز في غصن المجد... عظيم الندى شديد المحال
ومنه قول عبد المطلب:
لا يغلبن صليبهم... ومحالهم عدوا محالك
وقرأ الأعرج والضحاك «المحال» بفتح الميم بمعنى المحالة، وهي الحيلة، ومنه قول العرب في مثل: المرء يعجز لا المحالة، وهذا كالاستدراج والمكر ونحوه وهذه استعارات في ذكر الله تعالى، والميم إذا كسرت أصلية، وإذا فتحت زائدة، ويقال: محل الرجل بالرجل إذا مكر به وأخذه بسعاية شديدة.
قوله عز وجل:
304

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٤ الى ١٦]

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
الضمير في لَهُ عائد على اسم الله عز وجل، وقال ابن عباس: دَعْوَةُ الْحَقِّ: لا إله إلا الله.
قال القاضي أبو محمد: وما كان من الشريعة في معناها.
وقال علي بن أبي طالب: دَعْوَةُ الْحَقِّ: التوحيد. ويصح أن يكون معناها له دعوة العباد بالحق، ودعاء غيره من الأوثان باطل.
وقوله: وَالَّذِينَ يراد به ما عبد من دون الله، والضمير في يَدْعُونَ لكفار قريش وغيرهم من العرب..
وروى اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء: «تدعون من دونه» بالتاء من فوق، ويَسْتَجِيبُونَ بمعنى يجيبون، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وداع دعا:
يا من يجيب إلى النّدا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
ومعنى الكلام: والذين يدعوهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون بشيء. ثم مثل تعالى مثالا لإجابتهم بالذي يبسط كَفَّيْهِ نحو الماء ويشير إليه بالإقبال إلى فيه، فلا يبلغ فمه أبدا، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع. وقوله: هُوَ يراد به الماء، وهو البالغ، والضمير في «بالغه» للفم، ويصح أن يكون هُوَ يريد به الفم وهو البالغ أيضا، والضمير في «بالغه» للماء، لأن الفم لا يبلغ الماء أبدا على تلك الحال.
ثم أخبر تعالى عن دُعاءُ الْكافِرِينَ أنه في انتلاف وضَلالٍ لا يفيد فيه شيئا ولا يغنيه.
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ الآية، يحتمل ظاهر هذه الألفاظ: أنه جرى في طريق التنبيه على قدرة الله، وتسخر الأشياء له فقط، ويحتمل أن يكون في ذلك طعن على كفار قريش وحاضري محمد عليه السلام، أي إن كنتم أنتم لا توقنون ولا تسجدون، فإن جميع مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لهم سجود لله تعالى: وإلى هذا الاحتمال نحا الطبري.
قال القاضي أبو محمد: ومَنْ تقع على الملائكة عموما، وسجودهم طوع بلا خلاف، وأما أهل الأرض فالمؤمنون منهم داخلون في مَنْ وسجودهم طوع، وأما سجود الكفرة فهو الكره، وذلك على نحوين من هذا المعنى:
فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة فالمراد من الكفرة من يضمه السيف إلى الإسلام- كما قال
305
قتادة- فيسجد كرها، إما نفاقا، وإما أن يكون الكره أول حاله فتستمر عليه الصفة، وإن صح إيمانه بعد.
وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل- على حسب ما هو في اللغة كقول الشاعر:
ترى الأكم فيه سجدا للحوافر فيدخل الكفار أجمعون في مَنْ لأنه ليس من كافر إلا وتلحقه من التذلل والاستكانة بقدرة الله أنواع أكثر من أن تحصى بحسب رزاياه واعتباراته.
وقال النحاس والزجاج: إن الكره يكون في سجود عصاة المؤمنين وأهل الكسل منهم.
قال القاضي أبو محمد: وإن كان اللفظ يقتضي هذا فهو قلق من جهة المعنى المقصود بالآية.
وقوله: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ، إخبار عن أن الظلال لها سجود لله تعالى بالبكر والعشيات.
قال الطبري: وهذا كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ [النحل: ٤٨] قال: وذلك هو فيئه بالعشي وقال مجاهد: ظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره. وقال ابن عباس: يسجد ظل الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله، وحكى الزجاج أن بعض الناس قال: «الظلال» هنا يراد به الأشخاص- وضعفه أبو إسحاق.
والْآصالِ جمع أصيل. وقرأ أبو مجلز: «والإيصال» قال أبو الفتح: هو مصدر أصلنا أي دخلنا في الأصيل، كأصبحنا وأمسينا.
وروي أن الكافر إذا سجد لصنمه فإن ظله يسجد لله تعالى حينئذ.
وقوله: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ الآية، جاء السؤال والجواب في هذه الآية من ناحية واحدة، إذ كان السؤال والتقرير على أمر واضح لا مدافعة لأحد فيه ملزم للحجة، فكان السبق إلى الجواب أفصح في الاحتجاج وأسرع في قطعهم من انتظار الجواب منهم، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقع البدار إليه، وقال مكي: جهلوا الجواب وطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل، فلما تقيد من هذا كله أن الله تعالى هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقع التوبيخ على اتخاذهم مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ متصفين بأنهم لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها، وهذه غاية العجز، وفي ضمن هذا الكلام: وتركتموه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، ولفظة: مِنْ دُونِهِ تقتضي ذلك.
ثم مثل الكفار والمؤمنين بعد هذا بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «تستوي الظلمات» بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «يستوي» بالياء، فالتأنيث حسن لأنه مؤنث لم يفصل بينه وبين عامله شيء.
والتذكير شائع لأنه تأنيث غير حقيقي، والفعل مقدم.
وشبهت هذه الآية الكافر ب الْأَعْمى. والكفر ب الظُّلُماتُ وشبهت المؤمن ب الْبَصِيرُ والإيمان ب النُّورُ: ثم وقفهم بعد: هل رأوا خلقا لغير الله فحملهم ذلك واشتباهه بما خلق الله على أن جعلوا إلها غير الله؟ ثم أمر محمدا عليه السلام بالإفصاح بصفات الله تعالى في أنه خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهذا
306
عموم في اللفظ يراد به الخصوص في كل ما هو خلق الله تعالى. قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما من الأصوليين: ويخرج عن ذلك صفات ذاته- لا رب غيره- والقرآن، ووصف نفسه ب الْواحِدُ الْقَهَّارُ من حيث لا موجود إلا به، وهو في وجوده مستغن عن الموجودات لا إله إلا هو العلي العظيم.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٧]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧)
صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله، وإقامة الحجة على الكفرة به، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالا للحق والباطل، والإيمان والكفر، والشك في الشرع واليقين به.
وقوله: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يريد به المطر، و «الأودية» ما بين الجبال من الانخفاض والخنادق، وقوله: بِقَدَرِها يحتمل أن يريد بما قدر لها من الماء، ويحتمل أن يريد بقدر ما تحتمله على قدر صغرها وكبرها.
وقرأ جمهور الناس: «بقدرها» بفتح الدال، وقرأ الأشهب العقيلي: «بقدرها» بسكون الدال.
و «الزبد» ما يحمله السيل من غثاء ونحوه وما يرمي به ضفتيه من الحباب الملتبك، ومنه قول حسان بن ثابت:
ما البحر حين تهبّ الريح شامية فيغطئل ويرمي العبر بالزبد
و «الرابي» : المنتفخ الذي قد ربا، ومنه الربوة.
وقوله: وَمِمَّا خبر ابتداء، والابتداء قوله: زَبَدٌ، ومِثْلَهُ نعت ل زَبَدٌ.
والمعنى: ومن الأشياء التي تُوقِدُونَ عليها ابتغاء الحلي وهي الذهب والفضة، ابتغاء الاستمتاع بما في المرافق، وهي الحديد والرصاص والنحاس ونحوها من الأشياء التي تُوقِدُونَ عليها، فأخبر تعالى أن من هذه إذا أحمي عليها يكون زَبَدٌ مماثل للزبد الذي يحمله السيل، ثم ضرب تعالى ذلك مثالا ل الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي أن الماء الذي تشربه الأرض من السيل فيقع النفع به هو «كالحق» - والزَّبَدُ الذي يجمد وينفش ويذهب هو كالباطل، وكذلك ما يخلص من الذهب والفضة والحديد ونحوها هو كالحق، وما يذهب في الدخان هو كالباطل.
وقوله: فِي النَّارِ متعلق بمحذوف تقديره: كائنا أو ثابتا- كذا قال مكي وغيره- ومنعوا أن يتعلق بقوله: يُوقِدُونَ لأنهم زعموا: ليس يوقد على شيء إلا وهو فِي النَّارِ وتعليق حرف الجر ب يُوقِدُونَ يتضمن تخصيص حال من حال أخرى. وذهب أبو علي الفارسي إلى تعلقها ب يُوقِدُونَ
وقال: قد يوقد على شيء وليس في النار كقوله تعالى: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ [القصص: ٣٨] فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه وليس في النار لكن يصيبه لهبها.
وقوله: جُفاءً مصدر من قولهم: أجفأت القدر إذا غلت حتى خرج زبدها وذهب.
وقرأ رؤبة: «جفالا» من قولهم: جفلت الريح السحاب، إذا حملته وفرقته. قال أبو حاتم: لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن.
وقوله: ما يَنْفَعُ النَّاسَ يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم- في رواية أبي بكر، وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحسن: «توقدون» بالتاء، أي أنتم أيها الموقدون، وهي صفة لجميع أنواع الناس، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن محيصن ومجاهد وطلحة ويحيى وأهل الكوفة: «يوقدون» بالياء، على الإشارة إلى الناس، وجُفاءً مصدر في موضع الحال.
قال القاضي أبو محمد: وروي عن ابن عباس أنه قال: قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يريد به الشرع والدين. وقوله: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ: يريد به القلوب، أي أخذ النبيل بحظه. والبليد بحظه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا يصح- والله أعلم- عن ابن عباس، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق، ولا وجه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب لغير علة تدعو إلى ذلك، والله الموفق للصواب برحمته، وإن صح هذا القول عن ابن عباس فإنما قصد أن قوله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ معناه: الْحَقَّ الذي يتقرر في القلوب المهدية، وَالْباطِلَ: الذي يعتريها أيضا من وساوس وشبه حين تنظر في كتاب الله عز وجل.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٨ الى ٢١]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١)
الذين اسْتَجابُوا: هم المؤمنون الذين دعاهم الله عز وجل على لسان رسوله فأجابوه إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه، والْحُسْنى: هي الجنة وكل ما يختص به المؤمنون من نعم الله عز وجل، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا هم: الكفرة، وسُوءُ الْحِسابِ هو: التقصي على المحاسب وأن لا يقع في حسابه من التجاوز شيء- قاله شهر بن حوشب وإبراهيم النخعي، وقاله فرقد السبخي وغيره- و «المأوى» : حيث يأوي الإنسان ويسكن والْمِهادُ: ما يفترش ويلبس بالجلوس والرقاد. وقوله: أَفَمَنْ يَعْلَمُ استفهام
بمعنى التقرير، والمعنى: أسواء من هداه الله فعلم صدق نبوتك وآمن بك، ومن لم يهتد ولا رزق بصيرة فبقي على كفره، فمثل عز وجل ذلك بالعمى.
وروي أن هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام، وقيل: في عمار بن ياسر وأبي جهل بن هشام، وهي بعد هذا مثال في جميع العالم.
وأَنَّما في هذه الآية حاصرة، أي إِنَّما يَتَذَكَّرُ فيؤمن ويراقب الله من له لب وتحصيل.
ثم أخذ تعالى في وصف هؤلاء الذين يسرهم للإيمان فقال: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وقوله:
بِعَهْدِ اللَّهِ: اسم للجنس، أي بجميع عهود الله وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي.
وقوله: وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ يحتمل أن يريد به جنس المواثيق أي إذا اعتقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه. قال قتادة: وتقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بعض وعشرين آية ويحتمل أن يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه الله على عباده وقت مسحه على ظهر أبيهم آدم عليه السلام.
ووصل ما أمر الله به أن يوصل: ظاهره في القرابات وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. وسُوءَ الْحِسابِ هو أن يتقصى ولا تقع فيه مسامحة ولا تغمد.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
«الصبر لوجه الله» يدخل في الرزايا والأسقام والعبادات وعن الشهوات ونحو ذلك.
وابْتِغاءَ نصب على المصدر أو على المفعول لأجله، و «الوجه» في هذه الآية ظاهره الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة، وهذا كما تقول: خرج الجيش لوجه كذا، وهذا أظهر ما فيه مع احتمال غيره و «إقامة الصلاة» هي الإتيان بها على كمالها، والصَّلاةَ هنا هي المفروضة وقوله:
وَأَنْفَقُوا يريد به مواساة المحتاج، و «السر» هو فيما أنفق تطوعا، و «العلانية» فيما أنفق من الزكاة المفروضة، لأن التطوع كله الأفضل فيه التكتم.
وقوله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي ويدفعون من رأوا منه مكروها بالتي هي أحسن، وقيل:
يدفعون بقول: لا إله إلا الله، شركهم وقيل: يدفعون بالسلام غوائل الناس.
قال القاضي أبو محمد: وبالجملة فإنهم لا يكافئون الشر بالشر، وهذا بخلاف خلق الجاهلية، وروي أن هذه الآية نزلت في الأنصار ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات.
وقوله: عُقْبَى الدَّارِ يحتمل أن يكون عُقْبَى دار الدنيا، ثم فسر العقبى بقوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ إذ العقبى تعم حالة الخير وحالة الشر، ويحتمل أن يريد عُقْبَى دار الآخرة لدار الدنيا، أي العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم.
وقرأ الجمهور: «جنات عدن» وقرأ النخعي: «جنة عدن يدخلونها» بضم الياء وفتح الخاء.
وجَنَّاتُ بدل من عُقْبَى وتفسير لها. وعَدْنٍ هي مدينة الجنة ووسطها، ومنها جنات الإقامة. من عدن في المكان إذا أقام فيه طويلا ومنه المعادن، وجَنَّاتُ عَدْنٍ يقال: هي مسكن الأنبياء والشهداء والعلماء فقط- قاله عبد الله بن عمرو بن العاصي- ويروى: أن لها خمسة آلاف باب.
وقوله: وَمَنْ صَلَحَ أي من عمل صالحا وآمن- قاله مجاهد وغيره- ويحتمل: أي من صلح لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه.
وحكى الطبري في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها. والمعنى: يقولون:
سلام عليكم، فحذف- يقولون- تخفيفا وإيجازا، لدلالة ظاهر الكلام عليه، والمعنى: هذا بما صبرتم، والقول في عُقْبَى الدَّارِ على ما تقدم من المعنيين.
وقرأ الجمهور «فنعم» بكسر النون وسكون العين، وقرأ يحيى بن وثاب «فنعم» بفتح النون وكسر العين.
وقالت فرقة: معنى عُقْبَى الدَّارِ أي أن أعقبوا الجنة من جهنم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل مبني على حديث ورد، وهو: أن كل رجل في الجنة فقد كان له مقعد معروف في النار، فصرفه الله عنه إلى النعيم، فيعرض عليه ويقال له: هذا كان مقعدك فبدلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
هذه صفة حالة مضادة للمتقدمة. وقال ابن جريج في قوله وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إنه روي: إذا لم تمش إلى قريبك برجلك ولم تواسه بمالك فقد قطعته. وقال مصعب بن سعد: سألت أبي عن قوله تعالى: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
310
[الكهف: ١٠٣- ١٠٤] هم الحرورية؟ قال: لا ولكن الحرورية: هم الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وأولئك هم الفاسقون، فكان سعد بن أبي وقاص يجعل فيهم الآيتين.
و «اللعنة» : الإبعاد من رحمة الله ومن الخير جملة. وسُوءُ الدَّارِ ضد عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: ٢٣] والأظهر في الدَّارِ هنا أنها دار الآخرة، ويحتمل أنها الدنيا على ضعف.
وقوله: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ الآية، لما أخبر عمن تقدمت صفته بأن لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أنحى بعد ذلك على أغنيائهم، وحقر شأنهم وشأن أموالهم، المعنى: أن هذا كله بمشيئة الله، يهب الكافر المال ليهلكه به، ويقدر على المؤمن ليعظم بذلك أجره وذخره.
وقوله: وَيَقْدِرُ أي من التقدير، فهو مناقض يبسط. ثم استجهلهم في قوله: وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وهي بالإضافة إلى الآخرة متاع ذاهب مضمحل يستمتع به قليلا ثم يفنى. و «المتاع» : ما يتمتع به مما لا يبقى وقال الشاعر: [الوافر]
تمتّع يا مشعث إن شيئا... سبقت به الممات هو المتاع
وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ الآية، هذا رد على مقترحي الآيات من كفار قريش، كسقوط السماء عليهم كسفا ونحو ذلك من قولهم: سيّر عنا الأخشبين واجعل لنا البطاح محارث ومغترسا كالأردن، وأحي لنا قصيّا وأسلافنا، فلما لم يكن ذلك- بحسب أن آيات الاقتراح لم تجر عادة الأنبياء بالإتيان بها إلا إذا أراد الله تعذيب قوم- قالوا هذه المقالة، فرد الله عليهم قُلْ... أي أن نزول الآية لا تكون معه ضرورة إيمانكم ولا هداكم، وإنما الأمر بيد الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إلى طاعته والإيمان به مَنْ أَنابَ إلى الطاعة وآمن بالآيات الدالة.
ويحتمل أن يعود الضمير في إِلَيْهِ على القرآن الكريم، ويحتمل أن يعود على محمد عليه السلام. والَّذِينَ بدل من مِنْ في قوله: مَنْ أَنابَ و «طمأنينة القلوب» هي الاستكانة والسرور بذكر الله والسكون به كمالا به. ورضى بالثواب عليه وجودة اليقين.
ثم استفتح عز وجل الإخبار بأن طمأنينة القلوب بذكر الله تعالى.. وفي هذا الإخبار حض وترغيب في الإيمان، والمعنى: أن بهذا تقع الطمأنينة لا بالآيات المقترحة، بل ربما كفر بعدها، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم.
والَّذِينَ الثاني ابتداء وخبره: طُوبى لَهُمْ ويصح أن يكون الَّذِينَ بدلا من الأول.
وطُوبى ابتداء ولَهُمْ خبره. وطُوبى اسم، يدل على ذلك كونه ابتداء. وهي فعلى من الطيب في قول بعضهم، وذهب سيبويه بها مذهب الدعاء وقال: هي في موضع رفع، ويدل على ذلك رفع وَحُسْنُ. وقال ثعلب: طُوبى مصدر. وقرىء «وحسن» بالنصب ف طُوبى على هذا مصدر كما قالوا: سقيا لك، ونظيره من المصادر الرجعى والعقبى. قال ابن سيده: والطوبى جمع طيبة عن كراع.
311
ونظيره كوسى في جمع كيسة وضوفى في جمع ضيفة.
قال القاضي أبو محمد: والذي قرأ: «وحسن» بالنصب هو يحيى بن يعمر وابن أبي عبلة واختلف في معنى طُوبى فقيل: خير لهم، وقال عكرمة: معناه نعم ما لهم، وقال الضحاك: معناه: غبطة لهم.
وقال ابن عباس: طُوبى: اسم الجنة بالحبشية، وقال سعيد بن مسجوع: اسم الجنة طُوبى بالهندية، وقيل طُوبى: اسم شجرة في الجنة- وبهذا تواترت الأحاديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى شجرة في الجنة، يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرؤوا إن شئتم» :
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة: ٣٠] وحكى الطبري عن أبي هريرة وعن مغيث بن سميّ وعتبة بن عبد يرفعه أخبارا مقتضاها: أن هذه الشجرة ليس دار في الجنة إلا وفيها من أغصانها، وأنها تثمر بثياب أهل الجنة، وأنه يخرج منها الخيل بسروجها ولجمها ونحو هذا مما لم يثبت سنده.
و «المآب» : المرجع من آب يؤوب. ويقال في طُوبى طيبى.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
الكاف في كَذلِكَ متعلقة بالمعنى الذي في قوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ [الرعد: ٢٧] أي كما أنفذ الله هذا كَذلِكَ أرسلتك- هذا قول- والذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي، لا بالآيات المقترحة. فكذلك أيضا فعلنا في هذه الأمة: أَرْسَلْناكَ إليها بوحي، لا بآيات مقترحة، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
وقوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قال قتادة وابن جريج: نزلت حين عاهدهم رسول الله عام الحديبية، فكتب الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال قائلهم: نحن لا نعرف الرحمن ولا نقرأ اسمه.
قال القاضي أبو محمد: والذي أقول في هذا: أن «الرحمن» يراد به الله تعالى وذاته، ونسب إليهم الكفر به على الإطلاق، وقصة الحديبية وقصة أمية بن خلف مع عبد الرحمن بن عوف، إنما هي إباية الاسم فقط، وهروب عن هذه العبارة التي لم يعرفوها إلا من قبل محمد عليه السلام.
ثم أمر الله تعالى نبيه بالتصريح بالدين والإفصاح بالدعوة في قوله: قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ
312
تَوَكَّلْتُ
و «المتاب» : المرجع كالمآب، لأن التوبة الرجوع.
ويحتمل قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً الآية، أن يكون متعلقا بقوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ فيكون معنى الآية الإخبار عنهم أنهم لا يؤمنون ولو نزل «قرآن تسير به الجبال وتقطع به الأرض» - هذا تأويل الفراء وفرقة من المتألين- وقالت فرقة: بل جواب لَوْ محذوف، تقديره: ولو أن قرآنا يكون صفته كذا لما آمنوا بوجه، وقال أهل هذا التأويل- ابن عباس ومجاهد وغيرهما- إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أزح عنا وسير جبلي مكة فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلانا وفلانا- فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله، وقالت فرقة: جواب لَوْ محذوف، ولكن ليس في هذا المعنى، بل تقديره: لكان هذا القرآن الذي يصنع هذا به، وتتضمن الآية- على هذا- تعظيم القرآن، وهذا قول حسن يحرز فصاحة الآية.
وقوله: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً يعضد التأويل الأخير ويترتب مع الآخرين.
وقوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا الآية، يَيْأَسِ معناه: يعلم، وهي لغة هوازن- قاله القاسم بن معن- وقال ابن الكلبي: هي لغة هبيل حي من النخع، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي:
[الطويل]
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً الآية- على التأويلين في المحذوف المقدر- قال في هذه الآية: أفلم ييئس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة، علما منهم أَنْ لَوْ يَشاءُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً.
وقرأ ابن كثير وابن محيصن «يأيس» وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وابن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد «أفلم يتبين».
ثم أخبر تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله ﷺ وغزواته.
وفي قراءة ابن مسعود ومجاهد: «ولا يزال الذين ظلموا» ثم قال: أَوْ تَحُلُّ أنت يا محمد قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ هذا تأويل فرقة منهم الطبري وعزاه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة- وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى أَوْ تَحُلُّ القارعة قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ.
وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير: «أو يحل» بالياء «قريبا من ديارهم» بالجمع.
و «وعد الله» - على قول ابن عباس وقوم- فتح مكة، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة، وأن حال الكفرة هكذا هي أبدا. و «وعد الله» : قيام الساعة، و «القارعة» : الرزية التي تقرع قلب صاحبها بفظاعتها كالقتل والأسر ونهب المال وكشف الحريم ونحوه.
وقوله: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ الآية، هذه آية تأنيس للنبي عليه السلام، أي لا يضيق صدرك يا محمد
313
بما ترى من قومك وتلقى منهم، فليس ذلك ببدع ولا نكير، قد تقدم هذا في الأمم و «أمليت لهم» أي مددت المدة وأطلت، والإملاء: الإمهال على جهة الاستدراج، وهو من الملاوة من الزمن، ومنه: تمليت حسن العيش. وقوله: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ تقرير وتعجيب، في ضمنه وعيد للكفار المعاصرين لمحمد عليه السلام.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
هذه الآية راجعة بالمعنى إلى قوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ، قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الرعد: ٣٠] والمعنى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر؟ - هذا تأويل- ويظهر أن القول مرتبط بقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ كأن المعنى: أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك أهل أن ينتقم ويعاقب أم لا؟.
و «الأنفس» من مخلوقاته وهو قائم على الكل أي محيط به لتقرب الموعظة من حس السامع. ثم خص من أحوال الأنفس حال كسبها ليتفكر الإنسان عند نظر الآية في أعماله وكسبه.
وقوله: قُلْ سَمُّوهُمْ أي سموا من له صفات يستحق بها الألوهية ثم أضرب القول وقرر: هل تعلمون الله بِما لا يَعْلَمُ؟.
وقرأ الحسن: «هل تنبئونه» بإسكان النون وتخفيف الباء وأَمْ هي بمعنى: بل، وألف الاستفهام- هذا مذهب سيبويه- وهي كقولهم: إنها لإبل أم شاء.
ثم قررهم بعد، هل يريدون تجويز ذلك بظاهر من الأمر، لأن ظاهر الأمر له إلباس ما وموضع من الاحتمال، وما لم يكن إلا بظاهر القول فقط فلا شبهة له.
وقرأ الجمهور «زين» على بناء الفعل للمفعول «مكرهم» بالرفع، وقرأ مجاهد «زين» على بنائه للفاعل «مكرهم» بالنصب، أي زين الله، ومَكْرُهُمْ: لفظ يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل مناقضة الشرع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «وصدوا» بضم الصاد، وهذا على تعدي الفعل وقرأ الباقون هنا، وفي «صم» المؤمن- بفتحها، وذلك يحتمل أن يكون «صدوا» أنفسهم أو «صدوا» غيرهم، وقرأ يحيى بن وثاب: «وصدوا» بكسر الصاد.
وقوله: لَهُمْ عَذابٌ
الآية، آية وعيد أي لهم عذاب في دنياهم بالقتل والأسر والجدوب والبلايا في أجسامهم وغير ذلك مما يمتحنهم الله، ثم لهم في الآخرة عذاب أَشَقُ
من هذا كله، وهو الاحتراق بالنار، وأَشَقُ
أصعب من المشقة، و «الواقي» : الساتر على جهة الحماية من الوقاية.
وقوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الآية، قال قوم: مَثَلُ معناه، صفة، وهذا من قولك: مثلت الشيء، إذا وصفته لأحد وقربت عليه فهم أمره، وليس بضرب مثل لها، وهو كقوله: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم: ٢٧] أي الوصف الأعلى. ويظهر أن المعنى الذي يتحصل في النفس مثالا للجنة هو جري الأنهار وأن أكلها دائم.
وراجعه عند سيبويه فقدر قبل، تقديره: فيما يتلى عليكم أو ينص عليكم مثل الجنة. وراجعه عند الفراء قوله: تَجْرِي أي صفة الجنة أنها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ونحو هذا موجود في كلام العرب، وتأول عليه قوم: أن مَثَلُ مقحم وأن التقدير: الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا قلق.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود «أمثال الجنة».
وقد تقدم غير مرة معنى قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقوله: أُكُلُها معناه: ما يؤكل فيها.
و «العقبى» والعاقبة والعاقب: حال تتلو أخرى قبلها. وباقي الآية بين.
وقيل: التقدير في صدر الآية، مثل الجنة جنة تجري- قاله الزجاج- فتكون الآية على هذا ضرب مثل لجنة النعيم في الآخرة.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
اختلف المتأولون فيمن عنى بقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فقال ابن زيد: عنى به من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وشبهه.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى: مدحهم بأنهم لشدة إيمانهم يسرون بجميع ما يرد على النبي عليه السلام من زيادات الشرع.
315
وقال قتادة: عنى به جميع المؤمنين، والْكِتابَ هو القرآن، وبِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يراد به، جميع الشرع. وقالت فرقة: المراد ب الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اليهود والنصارى، وذلك أنهم لهم فرح بما ينزل على النبي ﷺ من تصديق شرائعهم وذكر أوائلهم.
قال القاضي أبو محمد: ويضعف هذا التأويل بأن همهم به أكثر من فرحهم، ويضعف أيضا بأن اليهود والنصارى ينكرون بعضه. وقد فرق الله في هذه الآية بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب.
والْأَحْزابِ قال مجاهد: هم اليهود والنصارى والمجوس، وقالت فرقة: هم أحزاب الجاهلية من العرب. وأمره الله تعالى أن يطرح اختلافهم ويصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله وترك الإشراك، والدعاء إليه، واعتقاد «المآب» إليه وهو الرجوع عند البعث يوم القيامة.
وقوله: وَكَذلِكَ المعنى: كما يسرنا هؤلاء للفرح، وهؤلاء لإنكار البعض، كذلك أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا، ويحتمل المعنى: والمؤمنون آتيناهموه يفرحون به لفهمهم به وسرعة تلقيهم.
ثم عدد النعمة بقوله: «كذلك جعلناه» أي سهلنا عليهم في ذلك وتفضلنا.
وحُكْماً نصب على الحال، و «الحكم» هو ما تضمنه القرآن من المعاني، وجعله عَرَبِيًّا لما كانت العبارة عنه بالعربية.
ثم خاطب النبي عليه السلام محذرا من اتباع أهواء هذه الفرق الضالة، والخطاب لمحمد عليه السلام، وهو بالمعنى يتناول المؤمنين إلى يوم القيامة.
ووقف ابن كثير وحده على «واقي» و «هادي» و «والي» بالياء. قال أبو علي: والجمهور يقفون بغير ياء، وهو الوجه. وباقي الآية بين.
وقوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ الآية. في صدر هذه الآية تأنيس للنبي ﷺ ورد على المقترحين من قريش بالملائكة المتعجبين من بعثة الله بشرا رسولا. فالمعنى: أن بعثك يا محمد ليس ببدع فقد تقدم هذا في الأمم. ثم جاء قوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ الآية، لفظه لفظ النهي والزجر، والمقصود به إنما هو النفي المحض، لكنه نفي تأكد بهذه العبارة، ومتى كانت هذه العبارة عن أمر واقع تحت قدرة المنهي فهي زجر، ومتى لم يقع ذلك تحت قدرته فهو نفي محض مؤكد، وبِإِذْنِ اللَّهِ معناه:
إلا أن يأذن الله في ذلك.
وقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ لفظ عام في جميع الأشياء التي لها آجال، وذلك أنه ليس كائن منها إلا وله أجل في بدئه أو في خاتمته. وكل أجل مكتوب محصور، فأخبر تعالى عن كتبه الآجال التي للأشياء عامة، وقال الضحاك والفراء: المعنى: لكل كتاب أجل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا العكس غير لازم ولا وجه له، إذ المعنى تام في ترتيب القرآن، بل يمكن هدم قولهما بأن الأشياء التي كتبها الله تعالى أزلية باقية كتنعيم أهل الجنة وغيره يوجد كتابها لا أجل له.
316
وقوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «ويثبّت» بشد الباء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ويثبت» بتخفيفها.
وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ، والذي يتخلص به مشكلها: أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل، وهي التي ثبتت في أُمُّ الْكِتابِ وسبق بها القضاء، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها- ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبت ما ثبت. وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم.
وقالت فرقة- منها الحسن- هي في آجال بني آدم، وذلك أن الله تعالى في ليلة القدر، وقيل: - في ليلة نصف شعبان- يكتب آجال الموتى فيمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الموتى. وقال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عاما في جميع الأشياء، فمن ذلك أن يكون معنى الآية أن الله تعالى يغير الأمور على أحوالها، أعني ما من شأنه أن يغير- على ما قدمناه- فيمحوه من تلك الحالة ويثبته في التي نقله إليها. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود أنهما كانا يقولان في دعائهما: اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة انجزع منها. أي اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك وكتب علينا ذنوب وشقاوة بها فامحها عنا بالمغفرة، وفي لفظ عمر في بعض الروايات بعض من هذا، ولم يكن دعاؤهما البتة في تبديل سابق القضاء ولا يتأول عليهما ذلك.
وقيل: إن هذه الآية نزلت لأن قريشا لما سمعت قول الله تعالى: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قال: ليس لمحمد في هذا الأمر قدرة ولا حظ، فنزلت يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ أي ربما أذن الله من ذلك فيما تكرهون بعد أن لم يكن يأذن.
وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: معنى الآية «يمحو الله ما يشاء ويثبت» من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنه لا محو فيها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو ما أحلناه أولا في الآية.
وحكي عن فرقة أنها قالت: «يمحو الله ما يشاء ويثبت» من كتاب حاشى أمر الكتاب الذي عنده الذي لا يغير منه شيئا. وقالت فرقة معناه: يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد، ونحو هذه الأقوال التي هي سهلة المعارضة.
317
وأسند الطبري عن إبراهيم النخعي أن كعبا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وما هي؟ قال: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. وذكر أبو المعالي في التلخيص: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قال هذه المقالة المذكورة عن كعب.
قال القاضي أبو محمد: وذلك عندي لا يصح عن علي.
واختلفت أيضا عبارة المفسرين في تفسير أُمُّ الْكِتابِ فقال ابن عباس: هو الذكر، وقال كعب:
هو علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون.
قال القاضي أبو محمد: وأصوب ما يفسر به أُمُّ الْكِتابِ أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق القضاء فيها بما هو كائن وسبق ألا تبدل، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت- قال نحوه قتادة- وقالت فرقة: معنى أُمُّ الْكِتابِ الحلال والحرام- وهذا قول الحسن بن أبي الحسن.
قوله عز وجل:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
إِنْ شرط دخلت عليها ما مؤكدة، وهي قبل الفعل فصارت في ذلك بمنزلة اللام المؤكدة في القسم التي تكون قبل الفعل في قولك: والله لنخرجن، فلذلك يحسن أن تدخل النون الثقيلة في قولك:
نُرِيَنَّكَ لحلولها هنا محل اللام هنالك، ولو لم تدخل ما لما جاز ذلك إلا في الشعر، وخص «البعض» بالذكر إذ مفهوم أن الأعمار تقصر عن إدراك جميع ما تأتي به الأقدار مما توعد به الكفار. وكذلك أعطي الوجود، ألا ترى أن أكثر الفتوح إنما كان بعد النبي عليه السلام وأَ وَعاطفة. وقوله: فَإِنَّما جواب الشرط.
ومعنى الآية: إن نبقك يا محمد لترى أو نتوفينك، فعلى كلا الوجهين إنما يلزمك البلاغ فقط.
وقوله: نَعِدُهُمْ محتمل أن يريد به المضار التي توعد بها الكفار، فأطلق فيها لفظة الوعد لما كانت تلك المضار معلومة مصرحا بها، ويحتمل أن يريد الوعد لمحمد في إهلاك الكفر، ثم أضاف الوعد إليهم لما كان في شأنهم.
318
والضمير في قوله: يَرَوْا عائد على كفار قريش وهم المتقدم ضميرهم في قوله: نَعِدُهُمْ.
وقوله: نَأْتِي معناه بالقدرة والأمر، كما قال الله تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النحل: ٢٦] والْأَرْضَ يريد به اسم الجنس، وقيل: يريد أرض الكفار المذكورين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب الاختلاف في قوله: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها.
وقرأ الجمهور: «ننقصها» وقرأ الضحاك «ننقصها».
وقوله: مِنْ أَطْرافِها من قال: إنها أرض الكفار المذكورين- قال: معناه: ألم يروا أنا نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك فننقصها بما يدخل في دينك من القبائل، والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمنهم أن نمكنك منهم أيضا، كما فعلنا بمجاوريهم- قاله ابن عباس والضحاك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب الاختلاف في قوله: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها القول لا يتأتى إلا بأن نقدر نزول هذه الآية بالمدينة، ومن قال: إن الْأَرْضَ اسم جنس جعل الانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة- هذا قول ابن عباس أيضا ومجاهد.
وقالت فرقة: الانتقاص هو بموت البشر وهلاك الثمرات ونقص البركة، قاله ابن عباس أيضا والشعبي وعكرمة وقتادة. وقالت فرقة: الانتقاص هو بموت العلماء والأخيار- قال ذلك ابن عباس أيضا ومجاهد- وكل ما ذكر يدخل في لفظ الآية.
و «الطرف» من كل شيء خياره، ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلوم أودية في أي واد أخذت منها حسرت فخذوا من كل شيء طرفا. يعني خيارا.
وجملة معنى هذه الآية: الموعظة وضرب المثل، أي ألم يروا فيقع منهم اتعاظ. وأليق ما يقصد لفظ الآية هو تنقص الأرض بالفتوح على محمد.
وقوله: لا مُعَقِّبَ أي لا راد ولا مناقض يتعقب أحكامه، أي ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا؟
وسرعة حساب الله واجبة لأنها بالإحاطة ليست بعدد.
والْمَكْرُ: ما يتمرس بالإنسان ويسعى عليه- علم بذلك أو لم يعلم- فوصف الله تعالى الأمم التي سعت على أنبيائها- كما فعلت قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم- ب الْمَكْرُ.
وقوله: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أي العقوبات التي أحلها بهم. وسماها «مكرا» على عرف تسمية المعاقبة باسم الذنب، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: ١٥] ونحو هذا.
وفي قوله تعالى: يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ تنبيه وتحذير في طي إخبار ثم توعدهم تعالى بقوله:
«وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار».
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «الكافر» بالإفراد، وهو اسم الجنس، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «الكفار»، وقرأ عبد الله بن مسعود «الكافرون»، وقرأ أبي بن كعب: «الذين كفروا». وتقدم القول في عُقْبَى الدَّارِ قبل هذا.
319
وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، المعنى: ويكذبك يا محمد هؤلاء الكفرة ويقولون:
لست مرسلا من الله وإنما أنت مدع، قل لهم: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
وبِاللَّهِ في موضع رفع، التقدير: كفى الله. و «شهيد» بمعنى: شاهد، وقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ قيل: يريد اليهود والنصارى الذين عندهم الكتب الناطقة برفض الأصنام وتوحيد الله تعالى، وقال قتادة: يريد من آمن منهم كعبد الله بن سلام وتميم الداري وسلمان الفارسي، الذين يشهدون بتصديق محمد، وقال مجاهد: يريد عبد الله بن سلام خاصة، قال هو: فيّ نزلت وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان الأخيران لا يستقيمان إلا أن تكون الآية مدنية، والجمهور على أنها مكية- قاله سعيد بن جبير، وقال: لا يصح أن تكون الآية في ابن سلام لكونها مكية وكان يقرأ:
«ومن عنده علم الكتاب».
وقيل: يريد جنيا معروفا، حكاه النقاش، وهو قول شاذ ضعيف. وقيل: يريد الله تعالى، كأنه استشهد بالله تعالى، ثم ذكره بهذه الألفاظ التي تتضمن صفة تعظيم. ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف، وذلك لا يجوز وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض. ويحتمل أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: أعدل وأمضى قولا، ونحو هذا مما يدل عليه لفظ شَهِيداً ويراد بذلك الله تعالى.
وقرأ علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والحكم وغيرهم «ومن عنده علم الكتاب» بكسر الميم من «من» وخفض الدال، قال أبو الفتح: ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ علي بن أبي طالب أيضا والحسن وابن السميفع «ومن عنده علم الكتاب» بكسر الميم من «من» وضم العين من «علم» على أنه مفعول لم يسم فاعله، ورفع الكتاب، وهذه القراءات يراد فيها الله تعالى، لا يحتمل لفظها غير ذلك. والله المعين برحمته.
320
Icon