تفسير سورة الحجر

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ الۤرَ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرُ الر، ومعنَى ﴿ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي هذه آياتُ الكتاب الذي وعدتُ إنزالَهُ عليكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ﴾ أي مبَيِّنٌ للحلالِ والحرام، مميِّزٌ بين الحقِّ والباطلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾؛ أي ربَّما يأتِي على الكفارِ يوم يتمَنَّون أن لو كانوا مُسلمين، وذلكَ في الآخرةِ إذا صارَ المسلمون إلى الجنَّة والكفارُ إلى النارِ. قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى إذا أدْخَلَ أهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأهْلَ النَّارِ النَّارَ، أُحْبسَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الصِّرَاطِ، فَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لَهُمْ: نَحْنُ حُبسْنَا بكُفْرِنَا وَنِفَاقِنَا، فَمَا نَفَعَكُمْ إيْمَانُكُمْ بِمُحَمَّدٍ؟ فَعِنْدَ ذلِكَ يَصِيحُونَ صَيْحَةً لَمَّا عَيَّرَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَيَسْمَعُهَا أهْلُ الْجَنَّةِ، فَيَقُومُونَ إلى آدَمَ ثُمَّ إلى إبْرَاهِيمَ، ثُمَّ إلى مُوسَى، ثُمَّ إلى عِيسَى يَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ لَهُمْ، فَيُحِيلُونَهُمْ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَشْفَعُ لَهُمْ، وَذلِكَ هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، فَيُدْخِلُهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ، فَإذا نَظَرَ الْمُنَافِقُونَ إلَيْهِمْ تَمَنَّواْ أنْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ ﴾؛ أي اترُكهم يا مُحَمَّد يأكُلوا في الدُّنيا كالأنعامِ، ويتلذذُوا قَليلاً، ويُشغِلْهم الأملُ الطويل عن طاعةِ الله.
﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾، فسيعلمون ماذا ينْزلُ بهم من العذاب، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" إنَّ أخْوَفَ مَا أخَافُ عَلَى أُمَّتِي شَيْئَينِ: طُولَ الأَمَلِ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى، فَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ، وَأمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾؛ أي أجلٌ ينتَهون إليه لا يُهلِكُهم اللهُ حتى ينتهون إليه، لا يهلِكُ أُمَّة قبل أجلِها الذي كتبَ لها، ولا تؤخَّرُ عن أجلِها طرفةَ عينٍ، فلا يفترُ هؤلاء الكفار بتأخيرِ وقت إهلاكهم، فإنه إذا جاءَ الوقتُ الذي كتبَ الله هلاكَهم فيه، لم يتأخَّروا عنه كما لا يتقدمون عليه. وفي هذا بيانُ أنه لا يموتُ أحدٌ ولا يقتلُ إلاّ لأَجَلهِ الذي جعلَهُ الله له، ولا يعترضُ على هذا بقولِ مَن قالَ: يجبُ أن لا يكون القاتلُ ظالماً للمقتولِ؛ لأنه لو لم يقتلْهُ كان يموتُ في ذلك الوقتِ! قُلنا: كان يموتُ من غير ألَمِ القتلِ، فكان القاتلُ بإيصالِ ذلك الألَمِ إليه ظَالماً له.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾؛ أي قالَ الكفارُ مِن أهلِ مكَّة وهم: عبدُالله بن أُمَية المخزومي وأصحابهُ؛ قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا أيُّها الذي نزلَ عليه الذِّكرُ في دعواهُ وفي زعمهِ إنَّكَ لَمجنون في دعواكَ أنه نَزَلَ عليكَ هذا. فإنَّهم كانوا لا يُقِرُّونَ بأن القرآنَ أُنزِلَ عليه، وقولهُ تعالى: ﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ ﴾؛ أي هَلاَّ تأتِينَا بالملائكةِ من السَّماء يشهَدُون أنَّكَ رسولُ اللهِ.
﴿ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾؛ فيما تدَّعي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ ﴾؛ جوابٌ من اللهِ لَهم يقولُ: ما تَتنَزَّلُ الملائكةُ من السَّماء إلا بالرِّسالةِ والعقاب والموتِ، كلُّ ذلك حقٌّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ ﴾؛ أي وما كانوا إذاً مؤَجَّلين إذا نزلت عليهم الملائكةُ، بل يُستَأصَلُونَ بالعذاب حينئذٍ، إلا مَن يكون له المعلومُ من حالهِ أنه يؤمنُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾؛ الذي جعلنَاهُ مُعجِزاً لا يقدرُ على الإتيان بمثلهِ، فهو محفوظٌ من الزِّيادة والنقصان، ويقال: هو محفوظٌ من كَيْدِ المشركين بالإبطال.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ أي ولقد أرسَلنا رسُلاً من قبلِكَ في الأُمَم الأوَّلين، والشِّيَعُ: جمعُ شِيعَةٍ، والشِّيعَةُ: الأمَّةُ والفِرقَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ في إنكار التوحيد والبعثِ، كما يفعلُ بكَ قومُكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾؛ بأن تُسمِعَهم ويُفهِمَهم ثم لا يؤمنون بهِ. وَقِيْلَ: معناهُ: كذلك نسلكُ الاستهزاءَ في قلوب الْمُجرِمين حتى يَمتَنِعُوا عنه. والسَّلْكُ: إدخالُ الشيءِ في الشيء. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ بعذاب الاستئصالِ عندَ مُعاندَتِهم في التكذيب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ﴾؛ أي لو فَتحنا على هؤلاءِ الكفار بَاباً من السَّماء ينظُرون إليه، فظَلُّوا يصعَدُون إليه وينْزِلُونَ عنه، لَم يؤمنوا وقالُوا: (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) أي غُطِّيَتْ أبصارُنا وأُغْشِيَتْ عن حقيقةِ الرُّؤية.
﴿ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴾؛ نحن قومٌ قد سُحِرْنَا، وتُخَيَّلُ لنا هذه الأشياءُ على خلافِ حقَائِقها، كما قالوا حين انشقَّ القمرُ وعاينوهُ: هَذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. ومَن قرأ (سُكِرَتْ) بالتخفيفِ فهو من السُّكْرِ، وقراءةُ التشديدِ؛ لتكثير الفعلِ والمبالغة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً ﴾؛ وهي منازلُ الشَّمسِ والقمر والكواكب التِّسعة، وهي اثنَا عشرَ بُرجاً: أوَّلُها الْحَمَلُ والثورُ إلى آخرها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾؛ أي زيَّنا السماءَ بالكواكب للناظِرين إليها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾؛ أي حَفِظْنَا السماءَ أن يدخُلَ فيها شيطانُ يمكنه الاستماعُ إلى كلامِ الملائكة. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لاَ تُحْجَبُ عَنِ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا، وَكَانُواْ يَقْعُدُونَ فِي السَّمَاءِ مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَيَسْتَمِعُونَ إلى مَا هُوَ كَائِنٌ فِي الأَرْضِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، فَيَنْزِلُونَ بهِ عَلَى كَهَنَتِهِمْ، فَيَتَكَلَّمُ بهِ الْكَهَنَةُ لِلنَّاسِ، حَتَّى بُعِثَ عِيسَى عليه السلام فَمُنِعُواْ مِنْ ثَلاَثِ سَمَاوَاتٍ، وَكَانُوا يَصْعَدُونَ إلَى أرْبَعِ سَمَاوَاتٍ إلَى أنْ بَعَثَ اللهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَمُنِعُواْ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَحُرِسَتِ السَّمَاءُ بالنُّجُومِ وَالْمَلاَئِكَةِ، فَمَا مِنْهُمْ أحَدٌ يُرِيدُ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ إلاَّ رُمِيَ بشِهَابٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُمُ مَنْ يَخْبَلُ). فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴾؛ أي نجمٌ مُضِيءٌ حارٌّ يتوقدُ لا يخطؤهُ، والشِّهَابُ: هو الكوكبُ الْمُنْقَضُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ﴾؛ أي بسَطنَاها.
﴿ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾؛ أي جِبَالاً ثوابتَ أوتاداً لها.
﴿ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا ﴾؛ أي في الجبالِ.
{ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ)؛ من كلِّ ما يوزَنُ مثل الذهب والفضة والحديد والصُّفرِ والنُّحاس والرصاصِ. ويجوز أن يكون المعنى: وأنبَتْنَا في الأرضِ من كلِّ شيءٍ من النباتِ والثمار مقدورٍ مقسومٍ لا يجاوِزُ ما قَدَّرَهُ اللهُ على ما تقتضيه الحكمةُ. وأما تخصيصُ الموزون فلأنَّ ما يُكَالُ من الحبوب يعاقبهُ الوزن أيضاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ﴾ أي جعلنَا لكم في الأرضِ معايشَ مما تأكُلون وتشرَبُون وتلبَسون، وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴾؛ أي وجَعلنا لِمَن لستُمْ له برَازِقِينَ معايشَ من الدواب وغيرِها، وجاءت (مَنْ) لغيرِ الناس كقوله تعالى﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ ﴾[النور: ٤٥] الآيةُ. وَقِيْلَ: المعنى: وجعَلنا لكم مَن لستُم له برَازِقين، كأنه قال: جعلنا لكم فيها معايشَ، وجعلنا لكُم العبيدَ والدوابَّ، وكفيناكُم مُؤْنَةَ أرزَاقِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ﴾؛ أي ما مِن شيءٍ تحتاجون إليه من النَّباتِ والثمار والأمطار، إلاّ ومفاتيحَهُ إلَينا وهو في مَقدُورِنا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾؛ أي ما نُنَزِّلُ الرزقَ والمطرَ إلا بمقدارٍ معلوم تقتضِي الحكمةُ إنزالَهُ، ويعلمُ الْخُزَّانُ مقاديرَهُ، كما رُوي في الخبرِ:" مَعَ كُلِّ قَطْرَةٍ مَلَكٌ يَضَعُهَا فِي مَوْضِعِهَا، إلاَّ يَوْمَ الطُّوفَانِ فَإنَّهُ طَغَى الْمَاءُ يَوْمَئِذٍ عَلَى خُزَّانِهِ، فَلَمْ يَحْفَظُواْ مَا خَرَجَ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ﴾؛ أي ذاتَ لُقَاحٍ تأتِي بالسَّحاب وتَلْقَحُ الشَّجرَ، فالريحُ هي الْمُلَقَّحَةُ للسَّحاب؛ أي الْمُحَمِّلَةُ للسحاب المطرَ، قال ابنُ مسعود: (يَبْعَثُ اللهُ الرِّيحَ فَتَلْقَحُ السَّحَابَ، ثُمَّ تَمُرُّ بهِ فَيُدِرُّ كَمَا تُدِرُّ النَّعْجَةُ، ثُمَّ يُمْطِرُ)، وعنهُ أيضاً قال: (خَلَقَ اللهُ الْمَاءَ فِي الرِّيحِ فَتُفْرِغُهُ الرِّيحُ فِي السَّحَاب ثُمَّ تَمُرُّ بهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ﴾؛ يعني المطرَ.
﴿ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾؛ أي لستُم لذلك الماءِ بخَازنِينَ ولا مفاتيحهُ بأيدِيكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ ﴾؛ أي نُحيي بالبعثِ في الآخرة، ونُميتُ في الدنيا ونحن الوارثونَ لِمَا في السَّماوات والأرضِ بعدَ موتِ أهلها، ومعنى الإرْثِ: الخلائقُ كلُّهم يَموتُونَ ولا يبقَى إلا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وما يبقَى للحيِّ بعد الميْت يُسمَّى مِيرَاثاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾ أي علِمْنَا الأوَّلين منكم وعلِمْنا الآخِرين، وَقِيْلَ: ولقد علِمْنا السَّابقين منكم إلى الطاعةِ، ولقد علمنا المتأخِّرين عن الطاعةِ. وعن ابنِ عبَّاس قال: (كَانَتِ امْرَأةٌ حَسْنَاءُ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ النِّسَاءِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَقَدَّمُ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ لِئَلاَّ يَرَاهَا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ فِي آخِرِ الصَّفِّ، فَإذا رَكَعَ تَقُولُ هَكَذا، وَنَظَرَ مِنْ تَحْتِ إبْطِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ﴾؛ أي يجمَعُهم للجزاءِ والحساب.
﴿ إِنَّهُ حَكِيمٌ ﴾؛ في أفعالهِ.
﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ بما يستحقُّه كلُّ واحدٍ منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾؛ يعني آدمَ، والصَّلْصَالُ: هو الطِّينُ اليابسُ الذي لَم تُصِبْهُ نارٌ، فإذا ضَربَتْهُ صَلَّ؛ أيْ صَوَّتَ، وإذا مَسَّهُ النارُ فهو فَخَّارٌ. والْحَمَأُ: جَمْعُ الْحَمَأَةِ، وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ إلَى السَّوَادِ. والْمَسْنُونُ: مُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ إلَى النَّتَنِ من قوله﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾[البقرة: ٢٥٩].
وهو الذي أتت عليه السُّنون. وذلك أن أدمَ كان في الأصلِ تُراباً ثم عُجِنَ ذلك الترابُ بالماءِ فصارَ طِيناً، ثم صارَ حَمَأً مَسْنُوناً ثم صُوِّرَ، وتُرِكَ مصَوَّراً حتى يَبسَ فصارَ صَلْصَالاً، فمكثَ أربعين سنةً ثم صارَ بَشَراً، لَحماً ودماً وعظماً، ثم نُفِخَ فيه الروحُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ﴾؛ قِيْلَ: إن الْجَانَّ أبو الجنِّ وهو إبليسُ، فمَن أسلَمَ من ولدهِ فهو جِنِّيٌّ، ومَن كفرَ فهو شيطانٌ، وقوله تعالى: ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل آدمَ، وقال الكلبيُّ: (الْجِنُّ وَلَدُ الْجِنِّ وَلَيْسَ هُوَ بإبْلِيسَ، إنَّمَا إبْلِيسُ أبُو الشَّيَاطِينِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ﴾ أي مِن نارٍ حارَّة، قال ابنُ مسعود: (سَمُومُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنَ السَّمُومِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْجَانُّ)، ويقالُ: السُّمُومُ نارٌ صافية لا دخانَ لها، ومِن هذا سُمِّيت الريحُ المحرقة الحارَّة سَموماً. وأما الْمَارجُ الذي ذكرَهُ الله تعالى في قولهِ﴿ وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾[الرحمن: ١٥] فمعنى الْمَارجِ ما اختلطَ من لَهَب النار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ﴾؛ أي جمعتُ خَلقَهُ باليدَين والرجلين والعينَين وسائرِ الأعضاء.
﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾؛ وأدخلتُ فيه روحاً فصارَ بشراً بعدَ ما كان طِيناً يابساً.
﴿ فَقَعُواْ لَهُ ﴾؛ على وجُوهِكم.
﴿ سَاجِدِينَ ﴾؛ أي خاضعين له بالتحيَّة.
﴿ فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾؛ لآدمَ سجودَ تحيَّة له، وعبادةً للهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ أَجْمَعُونَ ﴾ يدلُّ على اجتماعِهم في السُّجود في حالةٍ واحدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ ﴾؛ أي امتنعَ من السُّجود لآدمَ.
﴿ قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ ﴾؛ أي كيفَ ينبغي أن أسجُدَ له، وأنا أشرفُ منه أصلاً وهو.
﴿ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾، من طينٍ يتصَلصَلُ مجوَّف محتاجٌ إلى الطعامِ والشراب، وهو من حَمَأ، والْحَمَأُ ظلمةٌ وسواد، والْمَسْنُونُ من الحمأ مُنْتِنٌ.
﴿ قَالَ ﴾؛ اللهُ تعالى: ﴿ فَٱخْرُجْ مِنْهَا ﴾؛ أي من الجنَّة، وَقِيْلَ: من الأرضِ، فأَلْحَقَهُ بجُزُر البحارِ.
﴿ فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾؛ أي مطرودٌ من الرحمةِ، مُبْعَدٌ من الخير.
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ ﴾؛ مع هذا.
﴿ ٱللَّعْنَةَ ﴾؛ لَعْنَةَ اللهِ ولعنةَ الخلائقِ.
﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ ﴾ يومِ الجزاء وهو يومُ القيامةِ، وهو أوَّلُ من عصَى اللهَ من أهل السَّماوات والأرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾؛ أي أجِّلنِي إلى يوم يبعَثُ الخلائقُ، أرادَ الخبيثُ أن لا يذوقَ الموتَ.
﴿ قَالَ ﴾؛ اللهُ تعالى: ﴿ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ ﴾ أي وقتِ النَّفخَةِ الأُولى حين يُصعَقُ مَن في السماواتِ ومن في الأرض، وبين النفخة الأُولى والثانية أربعون سنةً. وهذا لم يكن إجابةً من اللهِ لإبليس إلى ما سألَ، لأنه لم يكن أجلهُ ما دون آخرِ التكليف ثم أجَّله إليه، ولكن كان في علمِ الله أنه لم يسأَلْ لكان أجلهُ يمتَدُّ إلى آخرِ التكليف، فيكون هذا جوابَ إهانةٍ لا جواب له. فلما لم يعطَ الخبيثُ ما سألَ من النَّظْرَةِ ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾؛ أي خَيَّبْتَنِي من جنَّتك ورحمتك.
﴿ لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ ﴾؛ لبَنِي آدمَ.
﴿ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾؛ من الشهوات واللذاتِ حتى يختارُوها على ما عندَكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾؛ من قرأ بكسرِ اللام فمعناه: الذين أخلَصُوا الطاعةَ لكَ، ومَن نصبَها فمعناهُ: الذين أخلَصتَهم لنفسِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾؛ أي افعَلْ ما شِئْتَ، فإن طريقكَ عليَّ لا تَفوتُني، وهذا تَهديدٌ لإبليسَ، وَقِيْلَ: معناهُ: علَيَّ مَمَرُّ مَنْ أطاعكَ وعلَيَّ مَمَرُّ من عصَاكَ، كما قال:﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾[الفجر: ١٤]، وَقِيْلَ: معناهُ: إن هذا دينٌ مستقيم عليَّ بيانهُ والهداية إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾؛ أي لا تقدرُ أن تحمِلَهم على المعصيةِ وتُكرِهَهم عليها.
﴿ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ ﴾، ولكن مَن يتَّبعُكَ فإنما يتَّبعُكَ باختيارهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾؛ أي لموعِدُ إبليس ومَن تَبعَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ﴾؛ بعضُها أسفلَ من بعضٍ، وكلُّ طَبَقٍ منها أشدُّ حرّاً مِن الذي فوقَهُ سبعين ضِعْفاً، والبابُ الأوَّلُ أهونُ حرّاً، ولو أن رجُلاً بالمشرقِ فكُشِفَ عنها بالمغرب لخرجَ دماغهُ من مِنْخَرَيهِ من شدَّة حرِّها. والطبقُ الأول: جهنَّم، فيه أهلُ القِبلَةِ مِن أهلِ الكبائر إذا ماتوا غيرَ تائبين. الثانِي: لَظَّى، وفيه النَّصارَى. والثالثُ: الْحُطَمَةُ، وفيه اليهودُ. الرابعُ: السَّعِيرُ، وفيه الْمَجُوسُ. الخامسُ: سَقَرُ؛ وفيه المشركين وأهلِ الأهواء المختلفة، السادسُ: الْجَحِيمُ، وفيه الصَّابئُونَ والزنادقةُ، السابعُ: الْهَاويَةُ، وفيه المنافقونَ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾؛ أي المتَّقين للمعاصي بالإيمان والطَّاعة في بساتينَ وأنْهارٍ ظاهرةٍ تنبعُ مثلَ الفَوَّارَاتِ، وتجرِي بلا أُخدودٍ، يقالُ لهم يومَ القيامة: ﴿ ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ ﴾؛ ادخلُوا الجنةَ بسلامٍ؛ أي سلامٍ من الآفَاتِ، وَقِيْلَ: بتحيَّة من اللهِ.
﴿ آمِنِينَ ﴾، من كلِّ ما تكرَهُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾؛ أي نزَعنا ما في صدور أهل الجنَّة من أسباب العداوةِ من الحقد والحسَدِ والتباغُض.
﴿ إِخْوَٰناً ﴾؛ أي حتى يصِيروا بمنْزِلة الإخوان.
﴿ عَلَىٰ سُرُرٍ ﴾؛ من ذهبٍ.
﴿ مُّتَقَـٰبِلِينَ ﴾؛ في الزيادةِ تسيرُ بهم سُرُوُهم في الجِنَانِ، بعضُها إلى بعضٍ، والسُّرُرُ جمع سَرِيرٍ. وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قالَ: (إنِّي لأَرْجُو أنْ أكُونَ أنَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذينَ قَالَ اللهُ ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ ﴾ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ﴾؛ أي لا يُتعِبُون أنفُسَهم في طلب العيش.
﴿ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾؛ ولا يخافون الإخراجَ منها أبداً، شبابٌ لا يَهرَمُون؛ أصحاءٌ لا يَسقَمُونَ؛ أحياءٌ لا يَموتون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ﴾؛ أي أخْبرْ عِبادي أنِّي أنا الغفورُ لذنوب مَن تابَ، الرحيمُ لِمَن ماتَ على التوبةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ ﴾؛ لِمَن استحقَّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾؛ أي أخبرهُم عن أضيافِ إبراهيمَ وهم الملائكةُ، إلاّ أنه قالَ (عن ضَيْفِ) لأن الضيفَ مصدرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾؛ أي قالَ لهم إبراهيم حين لم يَطعَمُوا من طَعَامِهِ: إنَّا منكم فَزِعُونَ، والوَجَلُ: هو الفزعُ.
﴿ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ ﴾؛ أي لا تَخَفْ.
﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾؛ بمولودٍ إذا وُلد كان غُلاماً، وإذا بَلَغَ كان عَليماً.
﴿ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي ﴾؛ بالولدِ.
﴿ عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ ﴾؛ بالشَّيب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾؛ قالَ هذا على جهة التعجُّب. وَقِيْلَ: أراد فتُبشِّرون بهذا من عندِ الله، أو من تلقاءِ أنفُسِكم. ﴿ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي بأمرِ الله، فإنَّ أمرَ اللهِ لا يكون إلا حقّاً.
﴿ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ ﴾؛ من رحمةِ الله، ثم ﴿ قَالَ ﴾؛ لَهم: كيف أقنطُ من رحمةِ الله.
﴿ وَمَن يَقْنَطُ ﴾؛ منها.
﴿ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ ﴾؛ أي ما شأْنُكم أيُّها المرسَلون؛ لأنَّهم رسُل اللهِ.
﴿ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ ﴾؛ أي لهلاكِ.
﴿ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾؛ وهم قومُ لوطٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ ﴾؛ أي إلاّ خاصَّةَ الذين آمَنوا به.
﴿ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾؛ من الهلاكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ ﴾؛ استثناءٌ من الهاءِ والميمِ، وكانت امرأتهُ منافقةً واسمها وَاعِلَة، فقُدِّرَ عليها الهلاكُ، والغابرُون هم الباقون في موضعِ العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ ﴾؛ أي لما جاءَ الملائكةُ آلَ لوطٍ.
﴿ قَالَ ﴾؛ لهم لوطُ: ﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾؛ وإنما قالَ لهم ذلك؛ لأنَّهم جاؤهُ على هيئةٍ وجَمال لم يكن قد شاهدَ مِثلَهم في الجمالِ، وكان يعلمُ طلبَ قومه لأمثالهم، فخافَ عليهم منهُم فقالَ: إنَّكم قومٌ أُنْكِرُ مجيئَكم إلَيَّ في هذه الديار.
﴿ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾؛ أي بالعذاب الذي يكونُ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ بأمرٍ من اللهِ.
﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾؛ في ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ ﴾؛ أي ببَعضِ من اللَّيلِ عند السَّحَر.
﴿ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ﴾؛ أي كُن فيمَن يسيرُ خلفَهم؛ كي لا ينالَهم العذابُ، وقوله تعالى: ﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ﴾ أي لا يتخلِفْ في موضعِ الهلاك، وَقِيْلَ: لا يلتفِتْ إلى شيءٍ يخلِّفهُ؛ أي لا يعرِجْ على شيءٍ.
﴿ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ﴾ بالمضيِّ إليه وهو صفد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ ﴾؛ أي وأوحَينا إليه ذلك الأمرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ ﴾؛ في موضعِ نصبٍ بدل مِن قوله (ذلِكَ الأَمْرَ)، وَقِيْلَ: في موضع خفضٍ؛ لأن المعنى بأنَّ دابرَ هؤلاءِ مقطوعٌ، وقَطْعُ الدَّابرِ هو الإتيان على آخرِهم بالهلاكِ حتى لا يبقَى منهم أحدٌ. وقولهُ تعالى: ﴿ مُّصْبِحِينَ ﴾؛ أي مُستَأصَلون عندَ الصَّباح، ولا يبقَى لهم نسلٌ ولا عَقِبٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾؛ أي أهلُ مدينة قومِ لوط وهي سَدُوم، يبَشِّرُ بعضُهم بعضاً بأضيافِ لوط لعمَلِهم الخبيثِ، فإنَّهم كانوا يُجَاهِرُونَ بهذه الفاحشةِ، وقال لَهم لوطُ: ﴿ قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ في الحرامِ.
﴿ وَلاَ تُخْزُونِ ﴾؛ ولا تُذِلُّون في أمرِي.
﴿ قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي عن ضيافةِ الغُرباء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي ﴾؛ أُزَوِّجُكُموهُنَّ.
﴿ إِن كُنْتُمْ ﴾؛ لا بدَّ.
﴿ فَاعِلِينَ ﴾؛ مثلَ هذا الفعلِ، وذلك أنه لم يَجِدْ ما يتَّقِي به أضيافَهُ أبلغَ من عَرضِ بناته عليهم للتزويجِ، وافتداءِ ضَيفهِ ببناتهِ في الشَّفاعة، وقد كان عَلِمَ أنَّهم لا يرغبون في التزويجِ. وَقِيْلَ: أرادَ بقولهِ ﴿ بَنَاتِي ﴾ بناتِ قَومِي؛ لأن نساءَ أُمَّة كلِّ نبيٍّ بمنْزِلةِ بناتهِ في نفقته عليهنَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾؛ هذا قسَمٌ بحياةِ نبيِّنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ولم يُقسِمْ بحياة أحَدٍ غيرهِ، تقديرهُ: لعَمرُكَ قَسَمِي، إلاَّ أنه حُذفَ الخبرَ، وجوابهُ: إنَّهم لَفِي غَفَلَتِهم يتحيَّرون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ﴾؛ أي وقتَ الإشراقِ، وذلك أنَّ الملائكةَ قلَعُوا مَدائِنَهم وقتَ الصُّبح، فرفَعُوها إلى قريبٍ من السَّماء، ثم قلَبُوها عند طلوعِ الشمس، وصاحَ بهم جبريلُ حينئذٍ.
﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾، وقد تقدَّم تفسيرُ باقي الآيةِ في سُورة هودٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾؛ أي في إهلاكِ قومِ لوط لآياتٍ للمتفرِّسِين، والمتوسِّمُون هم النُّظَّارُ المثبتون في نَظَرِهم حتى يعرفوا حقيقةَ السِّمَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾؛ أي إنَّ قَريَاتِ قومِ لوط لبطَريقٍ واضحٍ ولا يندرسُ ولا يخفَى على طريقِ قُومِكَ إلى الشَّام، والمعنى أن الاعتبارَ بها ممكنٌ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي لدلالةً للمؤمنين الذين يصدِّقون بذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ﴾؛ أي وقد كان أصحابُ الأيْكَةِ وهو قومُ شُعَيبٍ لَظَالمين بكُفرِهم، والأيْكَةُ: الشَّجرُ الملتف الكبيرُ، وكان شُعيب بُعِثَ إلى قَومَين، إلى أهلِ مدينَ كانوا يطفِّفون الكيلَ والوزنَ فأُهلِكوا بالصَّيحة، وبُعث إلى أصحاب الأيكةِ فأُهلِكُوا بالظُّلَّّةِ. ويقالُ: إن مَديَنَ والأيكة واحدٌ، كانت الأيكةُ عند مِديَن، فخرَجُوا من مديَن إليها يطلبون الرُّوح عندَها، فأخذهم عذابُ يوم الظُّلةِ، واضطرمَ المكانُ عليهم نَاراً فهَلَكوا عن آخرِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾؛ أي بالعذاب.
﴿ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي إن قريَات لُوطٍ ومواضعِ شُعيب لعلَى طريقٍ مُبين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾؛ أي ولقد كذبَ قومُ صالحٍ ومَن تقدَّم من المرسَلين، والْحِجْرُ ديارُ ثَمُودٍ، وإنما سُمُّوا أصحابَ الحجرِ؛ لأن الحجرَ اسمٌ لوادٍ كانوا يسكُنون عندَهُ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا ﴾؛ يريدُ الناقةَ.
﴿ فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ﴾؛ أي يَنقُبُونَ بيوتَهم في الجبالِ آمِنِينَ من الموتِ لطُولِ أعمارِهم، وَقِيْلَ: من الحرِّ وسقُوطِ السَّقفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ﴾؛ أي وقتَ الصُّبح صاحَ بهم جبريلُ فهلَكوا.
﴿ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ ﴾؛ من عذاب الله.
﴿ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾؛ من الأموالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي للحقِّ وإظهارِ الحق لم نخلُقْهما عَبَثاً.
﴿ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ ﴾؛ يعني القيامةَ لِمُجازَاةِ الناسِ كلِّهم.
﴿ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ ﴾؛ أي أعرِضْ عن مُجازَاةِ المشركين وعن مجاوبَتِهم، فإنَّ مجاوبةَ السَّفيه سَفَهٌ، قال مجاهدُ: (هَذا مَنْسُوخٌ بآيَةِ الْقِتَالِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ أي الخالقُ للإنسان، العالِمُ بتدبيرِ خَلقِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ ﴾؛ أي أكرَمناكَ يا مُحَمَّدُ بسبعٍ من الْمَثَانِي، قِيْلَ: هي السبعُ الطِّوالُ، وهي السورُ السبع من أوَّلِ البقرةِ إلى الأنفالِ والتوبةِ، وهما جميعاً سورةٌ واحدة، وسُميت هذه السورةُ مَثَانِيَ؛ لأنَّهُ ثَنَّى فيها الأقاصيصَ، والأمر والنهيَ، والوعيد، والْمُحكَمَ، والمتشابهَ. وقال ابنُ عبَّاس: (السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَاب) هكذا رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال:" مَا أنْزَلَ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالزَّبُورِ مِثْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَاب، وَإنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي ". وإنما سُمِّيت هذه السورةُ مَثَانِيَ؛ لأنَّها تُثْنَى في كلِّ صلاةٍ. وإنما خَصَّ هذه السورةَ من جُملةِ القرآن تَعظيماً لها؛ لأن كمالَ الصلاةِ متعلَّقٌ بها، كما خصَّ جبريلَ وميكائيل من جُملة الملائكةِ تَعظيماً لهما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ ﴾؛ أي وآتَيناكَ القرآنَ العظيمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ ﴾؛ أي لا تَنْظُرَنَّ بعَينِ الرَّغبةِ إلى ما أعطَينا من الأموالِ رجَالاً من بني قُريظة والنَّضير وغيرِهم من قُريش، فإنَّ ما نُعطيكَ من النبوَّةِ والقرآن أعظمُ مما أعطَيناهم من الأموالِ.
﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾؛ بما أنعَمْنا عليهم من ما لَم نُنعِمُ به عليكَ. ويقالُ: لا تحزَنْ على هلاكِهم إن لَم يُؤمِنوا، وهذا القولُ أقربُ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا يجوزُ أن يَحْسِدَ أحداً بما أنعمَ اللهُ به عليهِ من نَعيمِ الدُّنيا، وإنما كان يحزنُ على إصرارِهم على الكُفرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي تواضَعْ، وألِنْ جناحَكَ للمؤمِنين؛ لكي يتَّبعْكَ الناسُ على دِينِكَ، ولا ينفِرُوا من عندِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ ﴾؛ أي الْمُعَلِّمُ بموضعِ المخافة، الْمُبينُ لكم بلُغةٍ تصدِّقونَها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ ﴾؛ قال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: وَأنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ كَمَا أنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى). سَمَّاهم مُقتَسِمينَ؛ لأنَّهم اقتَسَموا كُتُبَ اللهِ تعالى، فآمَنُوا ببعضِها وكَفَرُوا ببعضِها، وهمُ.
﴿ ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ ﴾؛ أي فرَّقوهُ فآمَنُوا ببعضهِ وهو ما وافقَ دينَهم، وكفَرُوا ببعضهِ وهو ما خالفَ دينهم. وقال بعضُهم: رهطٌ من أهلِ مكَّة، قال مقاتلُ: (سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلاً بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ ابْنُ الْمُغِيرَةِ أيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَاقْتَسَمُواْ الأعْقَابَ، وَقَعَدُواْ عَلَى طَرِيقِهَا، فَإذا جَاءَ الْحُجَّاجُ قَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: لاَ تَغْتَرُّوا بهَذا الْخَارجِ مِنَّا الْمُدَّعِي النُّبُوَّةَ فَإنَّهُ مَجْنُونٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى عَلَى طَرِيقٍ أُخْرَى: إنَّهُ كَاهِنٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: شَاعِرٌ، وَالْوَلِيدُ قَاعِدٌ عَلَى بَاب الْمَسْجِدِ نَصَّبُوهُ حَكَماً، فَإذا سُئِلَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَدَقَ أُوْلَئِكَ يَعْنِي الْمُقْتَسِمِينَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ ﴾ هم هؤلاءِ المقتَسِمين جَزَّءُوا القرآنَ، فقالَ بعضُهم: سحرٌ، وقال بعضهم: كَذِبٌ، وقال بعضُهم: شِعرٌ، وقال بعضُهم: أساطيرُ الأوَّلين، وقال بعضُهم: مُفترَى. ومعنى التَّعْضِيَة: التفريقُ، يقالُ: عَضَيْتُ الشيءَ إذا فرَّقتَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾؛ أي في الآخرةِ.
﴿ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ مِن تفريقِ القرآن، وصَرفِهم الناسَ عن دينِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم. وعن أنسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي هذهِ الآية قالَ:" فَوَرَبكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ قَوْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ "وَقَالَ عبدُالله: (وَالَّذِي لاَ إلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْكُمْ أحَدٌ إلاَّ وَيَسْأَلُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَاذا عَمِلْتَ؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذا أجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ). واعترضت الْمُلْحِدَةُ على هذه الآيةِ، وعلى قولهِ تعالى﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾[الرحمن: ٣٩] وحكَمُوا عليهم بالتناقُضِ!والجوابُ: إنه لا يقالُ لهم هل عملتم كذا؛ لأنه أعلَمُ بذلكَ منهم، ولكن نقولُ لَهم: لِمَ عملتم كذا، وقال قطربُ: (السُّؤَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: سُؤَالُ اسْتِعْلاَمٍ وَاسْتِخْبَارٍ، وَسُؤَالُ تَقْرِيرٍ وَتَوْبيخٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾[الرحمن: ٣٩] يَعْنِي لاَ يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ؛ لأنَّهُ عَالِمٌ قَبْلَ أنْ يَخْلِقَهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ سُؤَالُ تَقْرِيرٍ وَتَقْرِيعٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾؛ أي أظهِرْ أمرَكَ بمكَّة واترُكهم حتى يجيءَ أمرُ الله بقتالهم، وكان صلى الله عليه وسلم مُستَخفياً بمكَّة قبلَ نزولِ هذه الآيةِ، لا يظهرُ شيئاً مما أنزلَ الله عليه، فلما نزلت هذه الآيةُ أظهرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمرَهُ وأعلنه بمكَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾؛ بكَ.
﴿ ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ وهم خمسةُ نَفَرٍ أهلكَهم اللهُ في يومٍ واحد، منهم العاصُ بن وائلٍ، نزلَ شِعباً من ذلكَ الشِّعاب، فلمَّا وضعَ قدمَهُ على الأرضِ قال: لُدِغْتُ، فطلَبُوا فلم يجدوا شيئاً، فانتفَخَت رجلهُ حتى صارَت مثل عنُقِ البعيرِ فماتَ مكانَهُ. ومنهم الحارثُ بن قيسٍ أكلَ حُوتاً مالحاً فأصابَهُ عطشٌ شديد فلم يزل يشربُ حتى انقدَّ مكانه فماتَ. ومنهم الأسودُ بن عبدِالمطلب بن الحارث، قعدَ إلى أصل شجرةٍ، فجعلَ جبريل يضربُ رأسَهُ على الشَّجرة حتى ماتَ، وكان يستغيثُ بغُلامهِ، فقال غلامهُ: لا أرَى أحداً صنعَ بكَ شيئاً غيرَ نفسِكَ. ومنهم الأسودُ بن عبدِ يَغوث خرجَ من أهلهِ فأصابه السَّمُومُ فاسودَّ حتى صارَ حَبَناً، واتَى أهلَهُ فلم يعرفوهُ فأغلقوا دونه البابَ حتى ماتَ. ومنهم الوليدُ بن المغيرةِ خرجَ يتبَختَرُ في مِشْيَتِهِ حتى وقفَ على رجُلٍ يعملُ السِّهامَ، فتعلَّقَ سهمٌ بثوبهِ فجعل رداءَهُ على كَتِفِهِ فأصابَ السهمُ أكحلَهُ فقطعه، ثم لَم ينقطعْ عنه الدمُ حتى ماتَ، فذلك قوله ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ أي بكَ وبالقرآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾؛ أي ولقَدْ نعلمُ يا مُحَمَّد أنَّكَ يضيقُ صدرُك بما يقولون من التكذيب بأنَّكَ شاعرٌ وساحر وكاهن، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾؛ أي فَصَلْ بأمرِ ربكَ، واحمدْهُ بالثَّناءِ عليه.
﴿ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ ﴾؛ أي مِنَ العابدين لله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ ﴾؛ أي استقِمْ على عبادةِ ربكَ وطاعتهِ حتى يأتيكَ الموتُ، سَمَّاهُ يَقيناً؛ لأنه مُوقِنٌ به. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:" مَا أوْحِيَ إلَيَّ أنْ أجْمَعَ الْمَالَ وَأكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوْحِيَ إلَيَّ أنْ أُسَبحَ بحَمْدِ رَبي وَأكُونَ مِنَ السَّاجِدِين "، وقال الضحَّاكُ: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ أيْ قُلْ سُبْحَانَ اللهِ وَبحَمْدِهِ.
﴿ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ ﴾ أيِ الْمُصَلِّينَ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم إذا حَزَّ بهِ أمْرٌ فَزِعَ إلَى الصَّلاَةِ). وعن أُبَي بن كعبٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْحِجْرِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بعَدَدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَبعَدَدِ الْمُسْتَهْزِئِينَ برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ".
Icon