مكية وآياتها ٩٩
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
مكية
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢)قوله عز وجل: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ: قال مجاهد وقتادة:
الْكِتابِ: في الآية: ما نزل من الكُتُب قَبْل القرآن «١»، ويحتمل أنْ يراد ب الْكِتابِ القرآن: ثم تُعْطَفُ الصفَةُ عليه، و «رُبَّمَا» : للتقليلِ، وقد تجيء شاذَّةً «٢» للتكثير.
وقال قوم: إِن هذه مِنْ ذلك، وأنكر الزَّجَّاج أنْ تجيءَ «رُبَّ» للتكثيرِ، واختلف المتأوِّلون في الوَقْت الذي يَوَدُّ فيه الكفَّار أنْ يكونوا مسلمين، فقالَتْ فرقة: هو عند معاينة المَوْتِ، حَكَى ذلك الضَّحَّاك «٣»، وقالَتْ فرقة: هو عند معايَنَةِ أهْوَالِ يومِ القيَامَة، وقال ابنُ عبَّاس وغيره: هو عِنْدَ دخولهم النَّار، ومعرفَتِهِم، بدخولِ المؤمنين الجَنَّة «٤»، وروي فيه حديث من طريق أبي موسى.
(٢) رب: فيها قولان، أحدهما: أنها حرف جرّ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطّراوة أنها اسم، ومعناها التقليل على المشهور. وقيل: تفيد التكثير. وقيل: تفيد التكثير في مواضع الافتخار، وفيها لغات كثيرة أشهرها: «رب» بالضم والتشديد والتخفيف، و «ربّ» بالفتح والتشديد والتخفيف، و «رب» و «رب» بالضم، والفتح مع السكون فيهما، وتتصل تاء التأنيث بكل ذلك. وبالتاء قرأ طلحة بن مصرف، وزيد بن علي «ربّتما» وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإسكان، والفتح ك «ثمّت»، و «لات» فتكثر الألفاظ، ولها أحكام كثيرة، منها لزوم تصديرها، ومنها تنكير مجرورها.
ينظر: «الدر المصون» (٤/ ٢٨٥).
(٣) أخرجه الطبري (٧/ ٤٩١) برقم: (٢١٠٢١).
(٤) أخرجه الطبري (٧/ ٤٩١) برقم: (٢١٠٢٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٥٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٥٤٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢١٧٢)، وعزاه لابن المبارك في «الزهد»، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث».
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣ الى ٥]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)وقوله سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا... الآية: وعيدٌ وتهديدٌ، وما فيه من المهادنة منسوخٌ بآية السيْف، وروى ابنُ المُبارَك في «رقائقه»، قال: أخبرنا الأوزاعيُّ عن عُرْوَةَ بن رُوَيْمٍ، قال: قال رسول الله/ صلّى الله عليه وسلّم: «شِرَارُ أُمَّتِي الَّذِينَ وُلِدُوا في النَّعِيم، وغُذُوا به، هِمَّتُهُمْ أَلْوَانُ الطَّعَامِ، وَأَلْوَانُ الثِّيَابِ، يَتَشَدَّقُونَ بِالْكَلاَمِ». انتهى «١».
وقوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ: وعيدٌ ثانٍ، وحكى الطبريُّ «٢» عن بعض العلماء أنه قال: الأولُ في الدنيا، والثَّاني في الآخرة، فكيف تَطِيبُ حياةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الوعِيدَيْنِ.
وقوله: وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ: أي: يشغلهم أملهم في الدنيا، والتزيُّد منها.
قال عبدُ الحَقِّ في «العَاقِبة» : اعلم رحمك اللَّه أنَّ تقصير الأمل مَعَ حُبِّ الدنيا متعذر، وانتظار المَوْتِ مع الإِكباب عَلَيْها غَيْرُ مُتَيَسِّر، ثم قال: واعلم أنَّ كثرة الاشتغال بالدنْيَا والمَيْلَ بالكلِّية إِليها، وَلَذَّةَ أمانيِّها تمنَعُ مرارةَ ذكْرِ المَوْت أَنْ تَرِدَ على القلْب، وأنْ تَلِجَ فيه لأن القَلْبَ إِذا امتلأ بشَيْءٍ، لم يكُنْ لشيءٍ آخر فيه مَدْخَلٌ، فإِذا أَرَادَ صاحبُ هذا القَلْبِ سَمَاعَ الحِكْمَة، والانتفاع بالموعظة، لم يكُنْ لهُ بُدٌّ من تفريقه، لِيَجِدَ الذَكْرُ فيه منزلاً، وتُلْفِيَ الموعظةُ فيه محلاًّ قابلاً، قال ابن السَّماك رحمه اللَّه: إِن الموتَى لَمْ يبْكُوا من الموت لكنهم بَكَوْا مِنْ حَسْرة الفوت، فَاتَتْهُمْ واللَّهِ، دَارٌ لَمْ يتزوَّدوا منها ودخلوا داراً لم يتزوَّدوا لها. انتهى. وإِنما حصل لهم الفَوْتُ بسبب استغراقهم في الدنيا، وطولِ الأمل المُلْهِي عن المعادِ، ألهمنا اللَّه رُشْدَنَا بمَنِّه.
وقوله سبحانه: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ... الآية: أي: فلا تستبطئَنَّ هلاكَهُم، فليس مِنْ قريةٍ مُهْلَكَةٍ إِلا بأَجَلٍ، وكتابٍ معلوم محدود.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ الى ٩]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ... الآية: القائلون هذه المقالة هم كفّار قريش، و «لو ما» بمعنى: لولا، فتكون تحضيضاً كما هي في هذه الآية، وفي البخاريّ:
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٧/ ٤٩٢).
وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ: قال مجاهدٌ: المعنى: بالرسالةِ والعذاب «١»، والظاهرُ أنَّ معناه كما ينبغي ويَحِقُّ من الوحْيِ والمنافعِ التي أراها اللَّه لعباده، لا على اقتراح كافرٍ، ثم ذكَر عادَتَهُ سبحانَهُ في الأُمَمِ من أنَّه لم يأتهم بآيَةِ اقتراح، إِلا ومعها العَذَابُ في إِثِرها إِن لم يُؤْمِنوا، والنَّظِرَة: التأخير.
وقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ: رَدٌّ على المستَخفِّين في قولهم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، وقوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ: قال مجاهدٌ وغيره: الضميرُ في «له» عائدٌ على القرآن «٢»، المعنى: وإِنا له لحافِظُونَ من أن يبدّل أو يغيّر.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٠ الى ١٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ الآية: تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
أيْ: لا يضقْ صدْرُكَ، يا محمَّد، بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، وغير ذلك، و «الشيعة» : الفرقة التابعة لرأْسٍ مَّا.
ت: قال الفرَّاء فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ إِنَّه من إِضافة الموصوفِ إِلى صفته ك حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: ٩٥]، و «جَانِبِ الغَرْبِيِّ» [القصص: ٤٤]، وتأوَّله البصريُّون على حذف الموصوفِ، أي: شيع الأمم الأولين. انتهى من ص.
وقوله سبحانه: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ: يحتمل أنْ يكون الضَّميرُ في نَسْلُكُهُ يعودُ على الذكْر المحفوظِ المتقدِّم، وهو القرآن، ويكون الضميرُ في «به» عائداً عليه أيضاً، ويحتمل أن يعود الضميران معاً على الاستهزاء والشرك ونحوه، والباء في «به» : باء السبب، أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويحتملُ أنْ يكون الضمير في نَسْلُكُهُ عائداً على الاستهزاء والشركِ، والضمير في «به» عائداً على القرآن، والمعنى، في ذلك كلِّه، ينظر بعضه إلى بعض،
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ٣٥٢).
وقوله: لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عمومٌ، معناه الخصوصُ فيمن حُتِمَ عليه، وقوله: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ: أي: على هذه الوتيرَةِ، وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ، أي: على قريشٍ وكفَرَةِ العَصْر، والضميرُ في قوله: فَظَلُّوا عائدٌ عليهم، وهو تأويلِ الحسن، ويَعْرُجُونَ:
معناه يَصْعَدُون، ويحتملُ أنْ يعود على الملائكةِ، أي: ولو رأوا الملائكة يَصْعَدُون ويتصرَّفون في بابٍ مفتوحٍ في السماء لما آمنوا، وهذا تأويلُ ابنِ عبَّاسٍ «١»، وقرأ السبْعَةُ سِوَى ابن كثيرٍ: «سُكِّرَتْ» - بضم السِّين وشدِّ الكاف-، وقرأ ابن كثير «٢» بتخفيف الكافِ، تقول العربُ: سَكِرَتِ الرِّيحُ تَسْكَرُ سُكُوراً، إِذا ركَدَتْ، ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولاً، وسَكِرَ الرجُلُ من الشَّرابِ، إِذا تغيَّرت حاله وركَدَ، ولم ينفذ لما كان بسبيله أنْ ينفذ فيه، وتقول العرب: سَكَرْتُ البَثْقَ «٣» في مجاري المَاءِ سكراً إِذا طَمَسْتَهُ وَصَرَفْتَ الماء عنه، فلم يَنْفذ لوجْهه.
قال ع «٤» : فهذه اللفظةِ «سُكِّرَتْ» - بشدِّ الكافِ- إِن كانَتْ من سُكْرِ الشراب، أوْ من سُكُور الريحِ، فهي فعلٌ عُدِّيَ بالتضعيفِ، وإِن كانَتْ من سكرِ مجاري الماءِ، فتضعيفُها للمبالغة، لا للتعدِّي، لأن المخفَّف من فعله متعدٍّ، ومعنى هذه المقالةِ منهم:
أي: غُيِّرَتْ أبصارنا عما كانَتْ عليه، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الأشياء: كما كانت تفعل.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢١]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)
(٢) ينظر: «السبعة» (٣٦٦)، و «الحجة» (٥/ ٤٣)، و «إعراب القراءات» (١/ ٣٤٣)، و «معاني القراءات» (٢/ ٦٨)، و «العنوان» (١١٦)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٤٠٦)، و «شرح شعلة» (٤٥٣)، و «حجة القراءات» (٣٨١- ٣٨٢)، و «إتحاف» (٢/ ١٧٤).
(٣) البثق: موضع انبثاق الماء من نهر ونحوه.
ينظر: «لسان العرب» (٢٠٨)، و «المعجم الوسيط» (٣٨).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٣٥٣).
إِنَّهُ مِنَ الأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، فَيَزِيدُ الشَّيَاطِينُ فِي ذَلِكَ، وَيُلْقُونَ إِلَى الكَهَنَةِ، فَيَزِيدُونَ مَعَ الكَلِمَةِ مِائَةً وَنَحْوَ هَذَا... » الحديث «١» : و «إلّا» : بمعنى: «لكِنْ»، ويظهر أن الاستثناء من الحِفْظِ: وقال محمَّد بن يحيى عن أبيه: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فإِنها لم تُحْفَظْ منه.
وقوله: / مَوْزُونٍ: قال الجمهور: معناه: مقدَّر محرَّر بقصدٍ وإِرادةٍ، فالوزن على هذا: مستعارٌ.
وقال ابنُ زَيْد: المراد ما يُوزَنُ حقيقةً كالذهب والفضة وغير ذلك مما يوزن «٢»، والمعايش: جمع مَعِيشَة، وقوله: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ: يحتمل أن يكون عطْفاً على مَعايِشَ كأن اللَّه تعالى عدَّد النعم في المعايِشِ، وهي ما يؤكل ويُلْبَسُ، ثم عدَّد النعم في الحيوانِ والعَبِيدِ وغيرِ ذلك ممَّا ينتفعُ به النَّاسُ، وليس علَيْهم رِزْقُهُمْ.
وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ.
قال ابن جُرَيْج: هو المطر خاصَّة «٣».
قال ع «٤» : وينبغي أنْ يكون أعمَّ من هذا في كثيرٍ من المخلوقات.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
وقوله سبحانه: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ: أيْ: ذاتَ لقح يقال: لقحت الناقة والشجَرُ، فهي لاقحةٌ، إِذا حَمَلَتْ، فالوجْهُ في الرِّيحِ مُلْقِحَةٌ، لا لاقحة، قال الداوديّ:
(٢) أخرجه الطبري (٧/ ٥٠٤) برقم: (٢١٠٨٨)، والبغوي ذكره (٣/ ٤٧)، وابن عطية (٣/ ٣٥٥)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٥٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٧٧)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري (٧/ ٥٠٤) برقم: (٢١٠٩٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٥٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٧٨)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٣٥٥).
وقوله جلَّت عظمته: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ... الآيات: هذه الآياتُ مع الآيات التي قبلها تضمَّنت العِبْرَةَ والدلالةَ على قدرة اللَّه تعالى، وما يُوجِبُ توحيدَهُ وعبادَتَهُ، المعنى: وإِنا لَنَحْنُ نحيي من نشاء بإِخراجه من العَدَمِ إِلى وجودِ الحياةِ، ونميتُ بإِزالة الحياةِ عَمَّن كان حَيًّا، وَنَحْنُ الْوارِثُونَ، أي: لا يبقَى شيْءٌ سوانا، وكلُّ شيءٍ هالكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ، لا ربَّ غيره.
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ: أي: من لَدُنْ آدم إِلى يوم القيامة، قالَ ابن العربي في «أحكامه» : رَوَى الترمذيُّ وغيره في سبب نُزُولِ هذه الآية، عن ابن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ امرأة تصلِّي خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عبَّاس: وَلاَ، واللَّهِ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، قال: فَكَانَ بعْضُ المسلمين، إِذا صَلَّوْا تقدَّموا، وبعضُهم يستأَخر، فإِذا سجدوا نَظَرُوا إِليها مِنْ تَحْت أيديهم، فأنزل اللَّه الآيَةَ «١»، ثم قال ابنُ العربيِّ:
في شَرْحِ المراد بهذه الآية خمسة أقوال:
أحدها: هذا.
القول الثاني: المتقدِّمين في الخَلْق إِلى اليوم، والمتأخِّرين الذين لم يخلقوا بَعْد، بيانٌ أن اللَّه يَعْلَمُ الموجُودَ والمَعْدُومَ، قاله قتادة وجماعة «٢».
الثَّالثُ: مَنْ مات، ومَنْ بقي قاله ابن عبّاس أيضا «٣».
(٢) أخرجه الطبري (٧/ ٥٠٧) برقم: (٢١١١٦) بنحوه، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٥٤٩).
(٣) أخرجه الطبري (٧/ ٥٠٨) برقم: (٢١١٢١)، وذكره البغوي (٤٨١٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٨١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....]
الخامس: قال الحَسَنُ: معناه: المتقدِّمين في الطاعة، والمستأخرين في المعصية «٢».
انتهى.
ت: والحديثُ المتقدِّم، إِنْ صحَّ، فلا بد من تأويله، فإِن الصحابة ينزَّهُونَ عن فعْلِ ما ذُكِرَ فيه، فيؤوَّل بأنَّ ذلك صَدَرَ من بعضِ المنافقين، أوْ بعضِ الأعراب الذين قَرُبَ عهدهم بالإِسلام، ولم يَرْسَخِ الإِيمان في قلوبهم، وأما ابنُ عبَّاس، فإِنه كان يومَئِذٍ/ صغيراً بلا شك، هذا إِن كانت الآيةُ مدنيَّةً، فإِن كانت مكيَّةً، فهو يومئذٍ في سِنِّ الطفوليَّة، وبالجملة فالظاهرُ ضَعْفُ هذا الحديثِ من وجوه. انتهى، وباقي الآية بيّن.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٣٣]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ: يعني: آدم، قال ابن عباس: خُلِقَ من ثلاثَةٍ: مِنْ طينٍ لازبٍ، وهو اللازقُ الجَيِّد، ومِنْ صلصالٍ، وهو الأرضُ الطَّيِّبَةُ يقع عليها الماءُ، ثم ينحسرُ فيتشقَّقُ وتصيرُ مثْلَ الخزف، ومِنْ حَمإٍ مسنون، وهو الطينُ فيه الحماة «٣»، وال مَسْنُونٍ: قال مَعمرٌ: هو المُنْتِنُ «٤»، وهو مِنْ أَسِنَ الماءُ إِذا تَغَيَّر، وَرُدَّ من جهة التصريف، وقيل غير هذا، وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَىَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التُّرَابِ: الطَّيِّبِ وَالخَبِيثِ، وَالأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ» «٥».
وقوله: وَالْجَانَّ: يراد به: جنسُ الشياطينِ، وسئل وهبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عنهم، فقال هم
(٢) أخرجه الطبري (٧/ ٥٠٩) برقم: (٢١١٣٢)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٥٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٨١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري (٧/ ٥١١) برقم: (٢١١٤٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٥٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٨٢)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة».
(٤) أخرجه الطبري (٧/ ٥١١) برقم: (٢١١٦٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٥٩).
(٥) تقدم تخريجه من سورة البقرة.
قال ع «٢» : والمراد بهذه الخِلْقة إِبليسُ أَبو الجِنِّ، وقوله: مِنْ قَبْلُ لأَن إِبليس خلق قبل آدم بمدّة، والسَّمُومِ في كلام العرب: إِفراطُ الحَرِّ حتى يقتلَ: مِنْ نارٍ، أو شمسٍ، أو ريحٍ، وأمَّا إِضافة «النار» إِلى «السموم» في هذه الآية، فيحتملُ أنْ تكون النار أنواعاً، ويكون السمومُ أمراً يختصُّ بنوعٍ منها، فتصحُّ الإِضافة حينئذٍ، وإِن لم يكن هذا، فيخرج هذا على قولهم: «مَسْجِدُ الجَامِعِ، ودَارُ الآخِرَةِ» على حذف مضافٍ.
قوله عزَّ وجلَّ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ:
أخبر اللَّه سبحانه الملائكَةَ بعُجْبٍ عندهم، وذلك أنهم كانوا مَخْلُوقين منْ نُورٍ، فهي مخلوقاتٌ لِطَافٌ، فأخبرهم سبحانَه أنه يَخْلُقُ جسْماً حيًّا ذا بَشَرَةٍ، وأنه يخلقه من صلصالٍ، والبَشَرة هي وَجْهُ الجِلْد في الأَشْهَرِ من القَوْل، وقوله: مِنْ رُوحِي: إِضافة خَلْقٍ ومِلْكٍ إِلى خالقٍ ومَالكٍ، وقولُ إِبليس: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ... الآية:
ليس إِباءَتَهُ نفْسَ كفره عنْدَ الحُذَّاق لأَن إِباءَتَهُ إِنما هي معصيةٌ فقَطْ، وإِنما كفره بمقتضى قولِهِ، وتعليلِهِ، إِذ يقتضي أَنَّ اللَّه خَلَقَ خَلْقاً مَفضولاً، وكلَّفَ خَلْقاً أفضلَ منه أَنْ يَذِلَّ له، فكأنه قال: وهذا جَوْرٌ، وقد تقدَّم تفسير أكثر هذه المعاني.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
وقوله عز وجل: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ... الآية: قوله: بِما أَغْوَيْتَنِي: قال أبو عُبَيْدة وغيره: أَقْسَمَ بالإغواء «٣».
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٣٥٩).
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٣٦٢).
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
وقوله سبحانه: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ: المعنى: هذا أمر إِلَيَّ يصيرُ والعربُ تقول: طريقُكَ في هذا/ الأمْرِ علَى فلانٍ، أي: إِليه يصيرُ النظر في أمْرِكَ، والآيةُ تتضمَّن وعيداً، وظاهرُ قوله: عِبادِي: الخصوصُ في أهْل الإِيمانِ والتقوَى، فيكون الاستثناء منقطعاً، وإِن أخذْنا العِبَادَ عموماً، كان الاستثناء متصلاً، ويكون الأقلُّ في القَدْر من حيثُ لا قَدْرَ للكفار والنظَرُ الأولُ أحسنُ، وإِنما الغَرَضُ ألاَّ يَقع في الاستثناء الأَكْثَرُ من الأقل، وإِن كان الفقهاءُ قَدْ جَوَّزُوهُ.
وقوله: لَمَوْعِدُهُمْ: أي: موضعُ اجتماعهم، عافانا اللَّهُ من عذابه بمَنِّه، وعامَلَنَا بمَحْضِ جوده وكرمه.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ... الآية:
السلام هنا: يحتمل أن يكونَ السَّلامة، ويحتمل أن يكون التحيّة، والغل:
الحقد، قال الداوديّ: عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ... الآية، قال: «إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ الصِّرَاطِ، حُبِسُوا عَلَى صِرَاطٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بِمَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ في دُخُولِ الجَنَّةِ، وَاللَّهِ، لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنْ منزله في الدّنيا» «٢». انتهى.
وال سُرُرٍ: جمع سرير، ومُتَقابِلِينَ: الظاهر أن معناه: في الوجوه، إِذ الأسرَّة متقابلة، فهي أحسن في الرتبة.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧/ ٥٢١) رقم: (٢١٢٠٨) من حديث أبي سعيد الخدري، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٨٨)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في «منهاجه» :«ومن الآيات اللطيفة الجامعةِ بَيْنَ الرجاءِ والخَوْفِ قولُهُ تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، ثم قال في عَقِبَهُ: وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ لئِلاَّ يستولي عَلَيْكَ الرجاءِ بِمَرَّة، وقوله تعالى: شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: ٣]، ثم قال في عقبه: ذِي الطَّوْلِ [غافر: ٣]، لَئِلاَّ يستولي عَلَيْكَ الخوف، وأَعْجَبُ من ذلك قَولُهُ تعالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: ٣٠]، ثم قال في عقبه: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمران: ٣٠]، وأعجَبُ منه قولُهُ تعالَى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [ق: ٣٣]، فعلَّق الخشية باسم الرحمن، دون اسْمِ الجَبَّار أو المنتقِمِ أو المتكبِّر ونحوه، ليكون تخويفاً في تأمينٍ، وتحريكاً في تسكينٍ كما تقولُ: «أَما تخشى الوالدةَ الرحيمة، أمَا تخشى الوالِدَ الشَّفِيقَ»، والمراد من ذلك أنْ يكونَ الطَّريقُ عدلاً، فلا تذهب إِلى أَمْنٍ وقنوطٍ جعلنا اللَّه وإِيَّاكم من المتدبِّرين لهذا الذكْرِ الحكيمِ، العامِلِينَ بما فيه، إنه الجواد الكريم انتهى.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
وقوله سبحانه: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ... الآية: هذا ابتداءُ قصصٍ بعدَ انصرام الغرضِ الأول، و «الضيف» : مصدرٌ وصف به، فهو للواحدِ والاثنين والجمعِ، والمذكَر والمؤنَّث بلفظٍ واحدٍ، وقوله: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، أي: فزعون، وَإِنما وَجِلَ منهم لما قَدَّم إِليهم العجْلَ الحنيذ، فلم يرهم يأكُلُون، وكانَتْ عندهم العلامة المُؤَمِّنة أكْلَ الطعام وكذلك هو في غابِرِ الدهْرِ أمْنَةً للنازلِ، والمنزولِ به.
وقوله: أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ، أي: في حالةٍ قد مسَّني فيها الكِبَر، وقول إِبراهيم عليه السلام: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ: / تقرير على جهة التعجُّب والاستبعاد، لكبرهما، أو على جهةَ الاحتقار وقلَّة المبالاة بالمَسَرَّات الدنيويَّة، لمضيِّ العمر، واستيلاء الكبر، وقولهم:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٥]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١)
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
وقوله سبحانه: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ: لفظةُ الخَطْب إِنما تستعمل في الأمور الشِّدَاد، وقولهم: إِلَّا آلَ لُوطٍ: استثناء منقطعٌ، و «الآلُ» : القومُ الذي يَؤولُ أمرهم إِلى المضافِ إليه كذا قال سيبويه وهذا نصّ في أن لفظة «آل» ليست لفظة «أهْل» كما قال النّحّاس، وإِلَّا امْرَأَتَهُ: استثناءٌ متصلٌ، والاستثناء بعد الاستثناء يردُّ المستثنى الثاني في حكم الأمر الأول، والْغابِرِينَ هنا: أي: الباقين في العذابِ، و «وغَبَر» : من الأضدادِ، يقال في الماضِي وفي الباقي، وقولُ الرسُل للوط: بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ، أي: بما وَعَدَكَ اللَّه من تعذيبهم الذي كانوا يَشْكُونَ فيه، و «الْقَطْعُ» : الجُزْءُ من الليل.
وقوله سبحانه: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ، أي: كن خلفهم، وفي ساقتهم، حتى لا يبقَى منهم أحد، وَلا يَلْتَفِتْ: مأخوذٌ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد:
المعنى: لا ينظر أحد وراءه، «١» ونُهُوا عن النظر مَخَافَةَ العُلْقَةِ، وتعلُّقِ النفْسِ بِمَنْ خلف، وقيل: لَئِلاَّ تنفطر قلوبُهُمْ من معايَنَة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٦ الى ٧٧]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
وقوله سبحانه: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ، أي: أمضيناه وحتمنا به، ثم أدخل في
بالأضياف طَمَعاً منهم في الفاحِشَةِ، وقولهم: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ: روي أنهم كانوا تقدَّموا إِليه في ألاَّ يضيفَ أحداً، والعَمْر والعُمْر- بفتح العين وضمِّها- واحدٌ، وهما مدة الحياة، ولا يستعملُ في القَسَم إِلا بالفتحِ، وفي هذه الآية شرف لنبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأن اللَّه عزَّ وجلَّ أقسَمَ بحياته، ولم يفعلْ ذلك مع بَشَرٍ سواه قاله ابن عباس «١».
ت: وقال: ص: اللام في لَعَمْرُكَ للابتداءِ، والكافُ خطابٌ لِلُوطٍ عليه السلام، والتقديرُ: قالتِ الملائكةُ له: لَعَمْرُكَ، واقتصر على هذا.
وما ذَكَرَهُ ع «٢» : هو الذي عَوَّل عليهِ عِيَاضٌ وغيره.
وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : قال المفسِّرون بأجمعهم: أقْسَمَ اللَّهُ في هذه الآية بحياة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولا أدْرِي ما أخرجَهم عن ذكْر لُوطٍ إِلى ذكْرِ محمَّد عليه السلام، وما المانعُ أنْ يُقْسِمَ اللَّه بحياةِ لوطٍ، ويبلغ به من التشريفِ ما شاءَ، وكلُّ ما يُعْطِي اللَّه لِلُوطٍ مِنْ فضلٍ، ويؤتيه مِنْ شَرَفٍ، فلنبيِّنا محمَّد عليه السلام، ضعفاه لأنه أكرمُ على اللَّه منه، وإِذا أقسم اللَّه بحياةِ لوطٍ، فحياة نبينا محمَّد عليه السلام أرْفع، ولا يخرج من كلامٍ إِلى كلامٍ آخر غيره، لم يجْرِ له ذكْرٌ لغير ضرورة. انتهى.
ت: وما ذكَرَه الجمهورُ أحْسَنُ لأن الخطاب خطابُ مواجهةٍ ولأنه تفسير صحابيٍّ، وهو مقدّم على غيره.
ويَعْمَهُونَ: معناه: يتردّدون/ في حيرتهم، ومُشْرِقِينَ: معناه: قد دَخَلوا في الإِشراق، وهو سطوعُ ضوء الشمس وظهوره قاله ابن «٣» زيد، وهذه الصَّيْحةُ هي صيحة الوجْبَة، وليستْ كصيحةِ ثمود، وأهلكوا بعد الفَجْرِ مُصْبحين، واستوفاهم الهَلاَكُ مُشْرِقين، وباقي قصص الآية تقدّم تفسير.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٣٦٩). [.....]
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٣٧٠).
تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً | عَلَيْهِ وَقْلْتُ المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ «٣» |
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٨٤]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)
وقوله سبحانه: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ: الْأَيْكَةِ:
الغَيْضة والشجَرُ الملتفُّ المُخْضَرُّ، قال الشاعر: [الطويل]
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةُ أَيْكَةٍ | إِذا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ «٥» |
(٢) ذكر السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٩٢)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة».
(٣) ينظر: «البحر المحيط» (٥/ ٤٤٤)، والقرطبي (١٠/ ٤٣)، و «الدر المصون» (٤/ ٣٠٥)، و «روح المعاني» (١٤/ ٧٤).
(٤) أخرجه الطبري (٧/ ٥٢٩) برقم: (٢١٢٥٦)، وذكره البغوي (٣/ ٥٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٧٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٥٥٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٩٣)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٥) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (٣/ ٣٧١).
وقوله: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ: الضميرُ في «إنهما» : يحتملُ أنْ يعود على مدينةِ قومِ لوطٍ، ومدينة أصحابِ الأيْكَة، ويحتملُ أنْ يعود على لُوطٍ وشُعَيْبٍ عليهما السلام، أي:
أنهما على طريقٍ من اللَّه وشَرْعٍ مبينٍ، و «الإِمامُ»، في كلام العرب: الشيء الذي يهتدى به، ويؤتَمُّ به فقد يكون الطريقَ، وقد يكون الكتابَ، وقد يكونُ الرَّجُلَ المقتدَى به، ونَحْوَ هذا، ومَنْ رأى عودَ الضميرِ على المدينتين، قال: «الإِمام» : الطريقُ، وقيل على ذلك الكتاب الذي سبق فيه إهلاكهما، وأَصْحابُ الْحِجْرِ: هم ثمود، وقد تقدَّم قصصهم، و «الحِجْر» : مدينتهم، وهي ما بين المدينةِ وتَبُوك، وقال: الْمُرْسَلِينَ من حيث يلزم من تكذيبِ رسولٍ واحدٍ تكذيبَ الجميع، إِذِ القولُ في المعتَقَدَاتِ واحدٌ.
وقوله: يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ: «النحت» : النَّقْر بالمعاوِلِ، و «آمنين» :
قيل: معناه: من انهدامها، وقيل: مِنْ حوادِثِ الدنيا، وقيل: من الموتِ لاغترارهم بطول الأعمار، وأصحُّ ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب/ الآخرة، فكانوا لا يعملون بحسبها.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، أي: لم تخلق عبثاً ولا سدًى، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، أي: فلا تهتمَّ يا محمَّد بأعمال الكَفَرة فإِن اللَّه لهم بالمِرْصاد، وقوله عَزَّ وجلَّ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي: ذهب ابنُ مسعودٍ وغيره إِلى أن السبْعَ المثانِيَ هنا هي السبعُ الطِّوال: «البقرةُ»، و «آل عمران»، و «النساء»، و «المائدة»، و «الأنعام»، و «المص»، و «الأنفال» مع «براءة» «٣»، وذهب جماعةٌ من الصحابة ومن بعدهم
(٢) الظّلّة: سحابة أنشأها الله تعالى كان فيها عذاب مدين قيل: أصابهم ذلك اليوم حرّ عظيم إلى أن كادوا يهلكون، فأرسل الله ظلة كثيفة، أي: سحابة متراكمة، فهرعوا إليها يستجيرون بها من الحر، فلما تكاملوا تحتها أطبقت عليهم بعذابها، فلم ير يوم مثله.
ينظر: «عمدة الحفاظ» (٣/ ١٠).
(٣) أخرجه الطبري (٧/ ٥٣٣) برقم: (٢١٢٨١) بنحوه وذكره ابن عطية (٣/ ٣٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٥٥٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٩٦)، وعزاه لابن جرير.
ت: وهذا هو الصحيحُ، وقد تقدَّم بيان ذلك أوّل الكتاب.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٨ الى ٩١]
لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
وقوله سبحانه: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ: حكى الطبريُّ عن سفيانَ بْنِ عُيَيْنة أَنه قال: هذه الآيةُ آمرة بالاستغناء بكتابِ اللَّهِ عَنْ جميع زينَةِ الدنْيَا «٢».
قال ع «٣» : فكأنه قال: آتَينَاك عظيماً خطيراً، فلا تَنظر إِلى غيْرِ ذلك من أمورِ الدنيا وزينَتِها التي مَتَّعْنا بها أنواعاً من هؤلاءِ الكَفَرَةِ ومن هذا المعنَى: قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«مَنْ أُوتِيَ القُرْآنَ، فَرَأَى أَنَّ أَحَداً أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ، فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيراً وَصَغَّرَ عظيماً».
ت: وفي «صحيح مسلم» عن أبي سعيد قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: «لا وَاللَّهِ، مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِلاَّ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا... » الحديث، وفي رواية: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا»، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بَرَكَاتُ الأَرْضِ... » الحديث، وفي روايةٍ: «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا... »
الحديثَ، انتهى. والأحاديثُ في هذه البابِ أكثرُ من أنْ يحصيها كتابٌ، قال الغَزَّالِيُّ في «المنهاج» : وإِذا أنعم اللَّهُ عَلَيْكَ بنعمةَ الدِّينِ، فإِيَّاكَ أَنْ تَلتفتَ إِلى الدنيا وحُطَامها، فإِن ذلك منك لا يكُونُ إِلاَّ بضَرْبٍ من التهاوُنِ بما أولاكَ مَوْلاَكَ مِنْ نعمِ الدارَيْنِ أَمَا تَسمعُ قولَهُ تعالَى لسيِّد المرسلين: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ... الآية، تقديره: إِن من أوتي القرآن العظيمَ حُقَّ له ألاَّ ينظر إِلى الدنيا الحقيرةِ نظرةً باستحلاء، فضلاً عن أنْ يكون له فيها رغبةٌ، فليلتزم الشكْرَ على ذلك، فإِنه الكرامة التي حَرَصَ عليها الخليلُ لأَبيهِ، والمصطفى عليه السلام لعمِّه، فلم يفعلْ، وأما حطامُ الدنيا، فإِن اللَّه سبحانه يصبُّه على كلّ كافر وفرعون وملحد وزنديق
(٢) ذكره الطبري (٧/ ٥٤٢)، وذكره البغوي (٥٨١٣) بنحوه، وابن عطية (٣/ ٣٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٥٥٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٩٨)، وعزاه لابن المنذر.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٣٧٤).
وقال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «١» : قوله تعالى: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ: المعنى: أعطيناكَ الآخِرَةَ، فلا تنظُرْ إِلى الدنيا، وقد أعطيناك العلْم، فلا تتشاغلْ/ بالشهواتِ، وقد مَنَحْنَاكَ لَذَّةَ القَلْب، فلا تنظر إِلى لذة البَدَن، وقد أعطينَاكَ القرآن، فاستغن به، فمَنِ استغنى به، لا يطمَحُ بنظره إِلى زخارف الدنيا، وعنده مَعَارِفُ المولَى، حَيِيَ بالباقِي، وفَنِيَ عن الفاني. انتهى.
وقوله سبحانه: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ.
قال ع «٢» : والذي أقولُ به في هذا: أنّ المعنَى: وقل أنا نذيرٌ، كما قال قبلك رُسُلنا، ونزَّلنا عليهم كما أنزلنا عليك، واختلف في الْمُقْتَسِمِينَ، مَنْ هُمْ؟ فقال ابن عباس، وابن جُبَيْر: «المقتسمون» : هم أهْلُ الكتابِ الذينَ فَرَّقوا دينهم، وجَعَلُوا كتابَ اللَّهِ أعضاءً، آمنوا ببعضٍ، وكَفَروا ببعض وقال نحْوَه مجاهدٌ «٣»، وقالت فرقةٌ: «المقتسمون» :
هم كفَّار قريشٍ جعلوا القرآن سِحْراً وشِعْراً وَكَهَانة، وجعلوه أعضاءً بهذا التقسيم، وقالت فرقة: «عِضِينَ» : جمعُ عضةَ، وهي اسم للسحْرِ خاصَّة بلغةِ قريشٍ وقالَه عكرمة «٤».
ت: وقال الواحديُّ: كما أنزلنا عذاباً على المقتسمين الذينَ اقتسموا طُرُقَ مكَّة يصُدُّون الناسَ عن الإيمان. انتهى من «مختصره».
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٢ الى ٩٩]
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٣٧٤). [.....]
(٣) أخرجه الطبري (٧/ ٥٤٣) برقم: (٢١٣٦٨)، وبرقم: (٢١٣٧٢)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٧٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٥٥٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٩٨)، وعزاه للبخاري، وسعيد بن منصور، والحاكم، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(٤) أخرجه الطبري (٧/ ٥٤٧) برقم: (٢١٣٩٢)، وبرقم: (٢١٣٧٢)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٧٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٥٥٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ١٩٨)، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن جرير.
وقوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: من آيات المهادَنَةِ التي نَسَخَتْها آية السَّيْف «٢» قاله ابن عباس، ثم أعلمه اللَّه تعالَى بأنه قد كَفَاه المُسْتهزئين به مِنْ كُفَّار مَكَّة ببوائِقَ أصابَتْهم من اللَّه تعالى.
قال ابن إسحاق وغيره: وهُمُ الذين قُذِفُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ كأبِي جَهْل وغيره. انتهى.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ: آية تأنيس للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والْيَقِينُ هنا: الموتُ قاله ابن «٣» عمر وجماعةٌ، قال الداوديّ: وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ المَالَ، وأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، واعبد رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِين «٤». انتهى، وباقي الآية بيِّن، وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.
(٢) أخرجه الطبري (٧/ ٥٥٠) برقم: (٢١٤١٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٣٧٥).
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٣٧٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٠٣)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير.
(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٠٣)، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم في «التاريخ»، وابن مردويه، والديلمي.