تفسير سورة المؤمنون

نظم الدرر
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

﴿قد﴾ وهي نقيضة لما تثبت المتوقع وتقرب الماضي من الحال ولما تنفيه ﴿أفلح﴾ أي فاز وظفر الآن بكل ما يريد، ونال البقاء الدائم في الخير ﴿المؤمنون*﴾ وعبر بالاسم إشارة إلى أن من أقر بالإيمان وعمل بما أمر به في آخر التي قبلها، استحق الوصف الثابت لأنه اتقى وأنفق مما رزق فأفلح ﴿ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ [الحشر: ٩] ؛ ثم قيدهم بما يلزم من الصدق في الإيمان فقال: ﴿الذين هم﴾ أي بضمائرهم وظواهرهم ﴿في صلاتهم﴾ أضيفت إليهم ترغيباً لهم في
105
حفظها، لأنها بينهم وبين الله تعالى، وهو غني عنها، فهم المنتفعون بها ﴿خاشعون*﴾ أي أذلاء ساكنون متواضعون مطمئنون قاصرون بواطنَهم وظواهرهم على ما هم فيه؛ قال الرازي: خائفون خوفاً يملأ القلب حرمة، والأخلاق تهذيباً، والأطراف تأديباً، أي خشية أن ترد عليهم صلاتهم، ومن ذلك خفض البصر إلى موضع السجود، قال الرازي: فالعبد إذا دخل في الصلاة رفع الحجاب، وإذا التفت أرخى، قال: وهو خوف ممزوج بتيقظ واستكانة، ثم قد يكون في المعاملة إيثاراً ومجاملة وإنصافاً ومعدله، وفي الخدمة حضوراً واستكانة. وفي السر تعظيماً وحياء وحرمة، والخشوع في الصلاة بجمع الهمة لها، والإعراض عما سواها، وذلك بحضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء، وإذا كان هذا حالهم في الصلاة التي هي أقرب القربات. فهم به فيما سواها أولى. قال ابن كثير: والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين «وجعلت قرة عيني في الصلاة» رواه أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه «يا بلال! أرحنا بالصلاة» - رواه أحمد عن رجل من أسلم رضي الله عنه.
106
ولما كان كل من الصلاة والخشوع صاداً عن اللغو، أتبعه قوله: ﴿والذين هم﴾ بضمائرهم التي تبعها ظواهرهم ﴿عن اللغو﴾ أي ما لا يعنيهم، وهو كل ما يستحق أن يسقط ويلغى ﴿معرضون*﴾ أي تاركون عمداً، فصاروا جامعين فعل ما يعني وترك ما لا يعني.
ولما جمع بين قاعدتي بناء التكاليف: فعل الخشوع وترك اللغو، وكان الإنسان محل العجز ومركز التقصير، فهو لا يكاد يخلو عما لا يعنيه، وكان المال مكفراً لما قصد من الإيمان فضلاً عما ذكر منها على سبيل اللغو، فكان مكفراً للغو في غير اليمين من باب الأولى ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها﴾ [التوبة: ١٠٣] أتبعه قوله: ﴿والذين هم﴾ وأثبت اللام تقوية لاسم الفاعل فقال: ﴿للزكاة﴾ أي التزكية، وهي إخراج الزكاة، أو لأداء الزكاة التي هي أعظم مصدق للإيمان ﴿فاعلون*﴾ ليجمعوا في طهارة الدين بين القلب والقالب والمال؛ قال ابن كثير: هذه مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب، وأن أصل الزكاة كان واجباً بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام
﴿وآتوا حقه يوم حصاده﴾ [
107
الأنعام: ١٤١].
ولما أشار إلى أن بذل المال على وجهه طهرة، وأن حبسه عن ذلك تلفة، أتبعه الإيماء إلى أن بذل الفرج في غير وجهه نجاسة، وحفظه طهرة. فقال: ﴿والذين هم لفروجهم﴾ في الجماع وما داناه بالظاهر والباطن ﴿حافظون*﴾ أي دائماً لا يتبعونها شهوتها، بل هم قائمون عليها يذلونها ويضبطونها، وذكرها بعد اللغو الداعي إليها وبذل المال الذي هو من أعظم أسبابها عظيم المناسبة؛ ثم استثنى من ذلك فقال: ﴿إلا على أزواجهم﴾ اللاتي ملكوا أبضاعهن بعقد النكاح، ولعلو الذكر عبر ب «على» ﴿أو ما ملكت أيمانهم﴾ رقابة من السراري، وعبر ب «ما» لقربهن مما لا يعقل لنقصهن عن الحرائر الناقصات عن الذكور ﴿فإنهم غير ملومين*﴾ أي على بذل الفرج في ذلك إذا كان على وجهه.
108
ولما كان من لم يكتف بالحلال مكلفاً نفسه طلب ما يضره، سبب عن ذلك قوله معبراً بما يفهم العلاج: ﴿فمن ابتغى﴾ أي تطلب متعدياً ﴿وراء ذلك﴾ العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنى أو لواط أو استمناء يد أو بهيمة أو غيرها ﴿فأولئك﴾ البعيدون من الفلاح ﴿هم العادون﴾ أي المبالغون في تعدي الحدود، لما يورث ذلك من اختلاط الأنساب، وانتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وإيقاد الشر بين العباد.
108
ولما كان ذلك من الأمانات العظيمة، أتبعه عمومها فقال: ﴿والذين هم لأماناتهم﴾ أي في الفروج وغيرها، سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام وغيرهما، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق، أو بينهم وبين خلق كالوادئع والبضائع، فعلى العبد الوفاء بجميعها - قاله الرازي. ولما كان العهد أعظم أمانة، تلاها به تنبيهاً على عظمه فقال: ﴿وعهدهم راعون*﴾ أي الحافظون بالقيام والرعاية والإصلاح.
ولما كانت الصلاة أجلّ ما عهد فيه من أمر الدين وآكد، وهي من الأمور الخفية التي وقع الائتمان عليها، لما خفف الله فيها على هذه الأمة بإيساع زمانها ومكانها، قال: ﴿والذين هم على صلواتهم﴾ التي وصفوا بالخشوع فيها ﴿يحافظون*﴾ أي يجددون تعهدها بغاية جدهم، لا يتركون شيئاً من مفروضاتها ولا مسنوناتها، ويجتهدون في كمالاتها، وحّدت في قراءة حمزة والكسائي للجنس، وجمعت عند الجماعة إشارة إلى أعدادها وأنواعها، ولا يخفى ما في افتتاح هذه الأوصاف واختتامها بالصلاة من التعظيم لها، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة».
ولما ذكر مجموع هذه الأوصاف العظيمة، فخم جزاءهم فقال: ﴿أولئك﴾ أي البالغون من الإحسان أعلى مكان ﴿هم﴾ خاصة
109
﴿الوارثون*﴾ أي المستحقون لهذا الوصف المشعر ببقائهم بعد أعدائهم فيرثون دار الله لقربهم منه واختصاصهم به بعد إرثهم أرض الدنيا التي قارعوا عليها على قتلهم وضعفهم أعداءَنا الكفار على كثرتهم وقوتهم، فكانت العاقبة فيها لهم كما كتبنا في الزبور ﴿إن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ ﴿لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم﴾ [إبراهيم: ١٣، ١٤] ﴿الذين يرثون الفردوس﴾ التي هي أعلى الجنة، وهي في الأصل البستان العظيم الواسع، يجمع محاسن النبات والأشجار من العنب وما ضاهاه من كل ما يكون في البساتين والأودية التي تجمع ضروباً من النبت: فيحوزون منها بعد البعث ما أعد الله لهم فيها من المنازل وما كان أعد للكفار لو آمنوا أو لم يخرجوا بخروج أبويهم من الجنة ﴿هم﴾ خاصة ﴿فيها﴾ أي لا في غيرها ﴿خالدون*﴾ وهذه الآيات أجمع ما ذكر في وصف المؤمنين، روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في التفسير من جامعه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان إذا نزل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة
110
ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، ثم قال: لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ ﴿قد أفلح المؤمنون﴾ حتى ختم العشر»
- ورواه النسائي في الصلاة وقال: منكر لا يُعرَف أحد رواه غير يونس بن سليم ويونس لا نعرفه، وعزى أبو حيان آخر الحديث للحاكم في المستدرك.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: فصل في افتتاحها ما أجمل في قوله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير﴾ [الحج: ٧٧] وأعلم بما ينبغي للراكع والساجد التزامه من الخشوع، ولالتحام الكلامين ما ورد الأول أمراً والثاني مدحه وتعريفاً بما به كمال الحال، وكأنه لما أمر المؤمنين، وأطمع بالفلاح جزاء لامتثاله، كان مظنة لسؤاله عن تفصيل ما أمر به من العبادة وفعل الخير الذي به يكمل فلاحه فقيل له: المفلح من التزم كذا وكذا، وذكر سبعة أضرب من العبادة هي أصول لما وراءها ومستتبعة سائر التكاليف، وقد بسط حكم كل عبادة منها وما يتعلق بها في الكتاب والسنة؛ ولما كانت المحافظة على الصلاة منافرة إتيان المأثم جملة {إن الصلاة
111
تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: ٤٥] لذلك ما ختمت بها هذه العبادات بعد التنبيه على محل الصلاة من هذه العبادة بذكر الخشوع فيها أولاً، واتبعت هذه الضروب السبعة بذكر أطوار سبعة يتقلب فيها الإنسان قبل خروجه إلى الدنيا فقال تعالى ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين﴾ - إلى قوله: ﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ وكأن قد قيل له: إنما كمل خلقك وخروجك إلى الدنيا بعد هذه التقلبات السبعة. وإنما تتخلص من دنياك بالتزام هذه العبادات السبع، وقد وقع عقب هذه الايات قوله تعالى ﴿ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق﴾ ولعل ذلك مما يقرر هذا الاعتبار ووارد لمناسبته - والله أعلم، وكما أن صدر هذه السورة مفسر لما أجمل في الآيات قبلها فكذا الآيات بعد مفصلة لمجمل ما تقدم في قوله تعالى ﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة﴾ [الحج: ٥] وهذا كاف في التحام السورتين والله سبحانه المستعان - انتهى.
ولما ذكر سبحانه الجنة المتضمن ذكرها للبعث، استدل على القدرة عليه بابتداء الخلق للإنسان، ثم لما هو أكبر منه من الأكوان، وما فيهما من المنافع، فلما ثبت ذلك شرع يهدد من استكبر عنه بإهلاك الماضين، وابتدأ بقصة نوح عليه الصلاة والسلام لأنه أول، ولأن نجاته كانت في الفلك المختوم به الآية التي قبله، وفي ذلك تذكير بنعمة النجاة
112
فيه لأن الكل من نسله، فلما ثبت بالتهديد بإهلاك الماضين القدرة التامة بالاختيار، خوف العرب مثل ذلك العذاب، فلما تم زاجر الإنذار بالنقم شرع في الاستعطاف إلى الشكر بالنعم، بتمييز الإنسان على سائر الحيوان ونحو ذلك، ثم عاد إلى دلائل القدرة على البعث بالوحدانية والتنزه عن الشريك والولد - إلى آخرها، ثم ذكر في أول التي بعدها على ما ذكر هنا من صون الفروج، فذكر حكم من لم يصن فرجه وأتبعه ما يناسبه من توابعه.
ولما كان التقدير: فلقد حكمنا ببعث جميع العباد بعد الممات، فريقاً منهم إلى النعيم، وفريقاً إلى الجحيم، فإنا قادرون على الإعادة وإن تمزقتم وصرتم تراباً فإنه تراب له أصل في الحياة، كما قدرنا على البداءة فلقد خلقنا أباكم آدم من تراب الأرض قبل أن يكون للتراب أصل في الحياة، عطف عليه قوله، دلالة على هذا المقدر واستدلالاً على البعث مظهراً له في مقام العظمة، مؤكداً إقامة لهم بإنكارهم للبعث مقام المنكرين: ﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ أي هذا النوع الذي تشاهدونه آنساً بنفسه مسروراً بفعله وحسه ﴿من سلالة﴾
113
أي شيء قليل، بما تدل عليه الصيغة كالقلامة والقمامة، انتزعناه واستخلصناه برفق، فكان على نهاية الاعتدال، وهي طينة آدم عليه الصلاة السلام، سلّها - بما له من اللطف - ﴿من طين*﴾ أي جنس طين الأرض، روى الإمام أحمد وأبو داود والترميذي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله خلق آدم عن قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك».
ولما ذكر سبحانه أصل الآدمي الأول الذي هو الطين الذي شرفه به لجمعه الطهورين، وعبر فيه بالخلق لما فيه من الخلط، لأن الخلق - كما مر عن الحرالي في أول البقرة: تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة، مع أنه ليس مما يجري على حكمة التسبيب التي نعهدها أن يكون من الطين إنسان، أتبعه سبحانه أصله الثاني الذي هو أطهر الطهورين: الماء الذي منه كل شيء حي، معبراً عنه بالجعل لأنه كما مر أيضاً إظهار أمر سبب وتصيير، وما هو من الطين
114
مما يتسبب عنه من الماء ويستجلب منه وهو بسيط لا خلط فيه فلا تخليق له، وعبر بأداة التراخي لأن جعل الطين ماء مستبعد جداً فقال: ﴿ثم جعلناه﴾ أي الطين أو هذا النوع المسلول من المخلوق من الطين بتطوير أفراده ببديع الصنع ولطيف الوضع ﴿نطفة﴾ اي ماء دافقاً لا أثر للطين فيه ﴿في قرار﴾ أي من الصلب والترائب ثم الرحم، مصدر جعل اسماً للموضع ﴿مكين*﴾ أي مانع من الأشياء المفسدة.
115
ولما كان تصيير الماء دماً أمراً بالغاً خارجاً عن التسبيب، وكانت النطفة التي هي مبدأ الآدمي تفسد تارة وتأخذ في التكون أخرى، عبر بالخلق لما يخلطها به مما تكتسبه من الرحم عند التحمير وقرنه بأداة التراخي فقال: ﴿ثم﴾ أي بعد تراخ في الزمان وعلو في الرتبة والعظمة ﴿خلقنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿النطفة﴾ أي البيضاء جداً ﴿علقة﴾ حمراء دماً عبيطاً شديد الحمرة جامداً غليظاً.
115
ولما كان ما بعد العلقة من الأطوار المتصاعدة مسبباً كل واحد منه عما قبله بتقدير العزيز العليم الذي اختص به من غير تراخ، وليس تسببه من العادة التي يقدر عليها غيره سبحانه، عبر بالفاء والخلق فقال: ﴿فخلقنا العلقة مضغة﴾ أي قطعة لحم صغيرة لا شكل فيها ولا تخطيط ﴿فخلقنا المضغة﴾ بتصفيتها وتصليبها بما سببنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة ﴿عظاماً﴾ من رأس ورجلين وما بينهما ﴿فكسونا﴾ بما لنا من قدرة الاختراع، تلك ﴿العظام لحماً﴾ بما ولدنا منها ترجيعاً لحالها قبل كونها عظماً، فسترنا تلك العظام وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب.
ولما كان التصوير ونفخ الروح من الجلالة بمكان أيّ مكان، أشار إليه بقوله: ﴿ثم أنشأناه﴾ أي هذا المحدث عنه بعظمتنا ﴿خلقاً آخر﴾ أي عظيماً جليلاً متحركاً ناطقاً خصيماً مبيناً بعيداً من الطين جداً؛ قال الرازي: وأصل النون والشين والهمزة يدل على ارتفاع شيء وسموه.
ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سبباً لتعظيم الخالق: ﴿فتبارك﴾ أي ثبت ثباتاً لم يثبته شيء، بأن حاز جميع صفات الكمال، وتنزه عن كل شائبة نقص، فكان قادراً على كل شيء، ولو داناه
116
شيء من عجز لم يكن تام الثبات، ولذلك قال: ﴿الله﴾ فعبر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى؛ وأشار إلى جمال الإنسان بقوله: ﴿أحسن الخالقين*﴾ أي المقدرين، أي قدر هذا الخلق العجيب هذا التقدير، ثم طوره في أطواره ما بين طفل رضيع، ومحتلم شديد، وشاب نشيط، وكهل عظيم، وشيخ هرم - إلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير.
ولما كانت إماتة ما صار هكذا - بعد القوة العظيمة والإدراك التام - من الغرائب، وكان وجودها فيه وتكرارها عليه في كل وقت قد صيرها أمراً مألوفاً، وشيئاً ظاهراً مكشوفاً، وكان عتو الإنسان على خالقه وتمرده ومخالفته لأمره نسياناً لهذا المألوف كالإنكار له، أشار إلى ذلك بقوله تعالى مسبباً مبالغاً في التأكيد: ﴿ثم إنكم﴾ ولما كان من الممكن ليس له من ذاته إلا العدم، نزع الجار فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد في العمر في آجال متفاوتة ﴿لميتون*﴾ وأشار بهذا النعت إلى أن الموت أمر ثابت للإنسان حيّ في حال حياته لازم له، بل ليس لممكن من ذاته إلا العدم.
ولما تقرر بذلك القدرة على البعث تقرراً لا يشك فيه عاقل،
117
قال نافياً ما يوهمه إعراء الظرف من الجار: ﴿ثم إنكم﴾ وعين البعث الأكبر التام، الذي هو محط الثواب والعقاب، لأن من أقر بما هو دونه من الحياة في القبر وغيرها، فقال: ﴿يوم القيامة﴾ أي الذي يجمع فيه جميع الخلائق ﴿تبعثون*﴾ فنقصه عن تأكيد الموت تنبيهاً على ظهوره، ولم يخله عن التأكيد لكونه على خلاف العادة، وليس في ذكر هذا نفي للحياة في القبر عند السؤال.
118
ولما بين لهم أن فكرهم فيهم يكفيهم، ولاعتقاد البعث يعنيهم، أتبعه دليلاً آخر بالتذكير بخلق ما هو أكبر منهم، وبتدبيرهم بخلقه وخلق ما فيه من المنافع لاستبقائهم، فقال: ﴿ولقد خلقنا قوقكم﴾ في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك ﴿سبع﴾ ولإرادة التعظيم أضاف إلى جمع كثرة فقال: ﴿طرائق﴾ أي سماوات لا تتغير عن حالتها التي دبرناها عليها إلى أن نريد، وبعضها فوق بعض متطابقة، وكل واحدة منها على طريقة تخصها، وفيها طرق لكواكبها؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي: سميت طرائق لأنها مطارقة بعضها في أثر بعض - انتهى. وهذا من قولهم: فلان على طريقة - أي حالة - واحدة، وهذا مطراق هذا، أي تلوه ونظيره، وريش طراق - إذا كان بعضه فوق بعض. وقال ابن القطاع:
118
وأطرق جناح الطائر - أي مبنياً للمجهول: ألبس الريش الأعلى الأسفل. وقال أبو عبيد الهروي: وأطرق جناح الطير - إذا وقعت ريشة على التي تحتها فألبستها، وفي ريشه طرق - إذا ركب بعضه بعضاً. وقال الصغاني في مجمع البحرين: والطرق أيضاً بالتحريك في الريش أن يكون بعضها فوق بعض، وقال ابن الأثير في النهاية: طارق النعل - إذا صيرها طاقاً فوق طاق وركب بعضها على بعض، وفي القاموس: والطراق - ككتاب: كل خصفة يخصف بها النعل وتكون حذوها سواء وأن يقور جلد على مقدار الترس فيلزق بالترس، وقال القزاز: يقال: ترس مُطرَق - إذا جعل له ذلك، وقال الصغاني في المجمع: والمجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة - أي المخصوفة بعضها على بعض، ويقال: أطرقت بالجلد والعصب، أي ألبست، وقال أبو عبيد: طارق النعل - إذا صير خصفاً فوق خصف، وقال في الخصف: هو إطباق طاق على طاق، وأصل الخصف: الضم والجمع، وقال القزاز: وطارقت بين النعلين والثوبين: جعلت أحدهما فوق الآخر - انتهى. وأصل الطرق الضرب، ومع كون السماوات مطارقة بعضها فوق بعض فهي طرق للملائكة يتنزلون فيها بأوامره سبحانه وتعالى.
119
ولما كان إهمال الشيء بعد إيجاده غفلة عنه، وكان البعث إحداث تدبير لم يكن كما أن الموت كذلك، بين أن مثل تلك الأفعال الشريفة عادته سبحانه إظهاراً للقدرة وتنزهاً عن العجز والغفلة فقال: ﴿وما كنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿عن الخلق﴾ أي الذي خلقناه وفرغنا من إيجاده وعن إحداث ما لم يكن، بقدرتنا التامة وعلمنا الشامل ﴿غافلين*﴾ بل دبرناه تدبيراً محكماً ربطناه بأسباب تنشأ عنها مسببات يكون بها صلاحه، وجعلنا في كل سماء ما ينبغي أن يكون فيها من المنافع، وفي كل أرض كذلك، وحفظناه من الفساد إلى الوقت الذي نريد فيه طيّ هذا العالم وإبراز غيره، ونحن مع ذلك كل يوم في شأن، وإظهار برهان، نعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، إذا شئنا أنفذنا السبب فنشأ عنه المسبب، وإذا شئنا منعناه مما هيىء له، فلا يكون شيء من ذلك إلا بخلق جديد، فكيف يظن بنا أنا نترك الخلق بعد موتهم سدى، مع أن فيهم المطيع الذي لم نوفه ثوابه، والعاصي الذي لم ننزل به عقابه، أم كيف لا نقدر على إعادتهم إلى ما كانوا عليه بعد ما قدرنا على إبداعهم ولم يكونوا شيئاً.
ولما ساق سبحانه هذين الدليلين على القدرة على البعث، أتبعهما بما هو من جنسهما ومشاكل للأول منهما، وهو مع ذلك دليل على ختام الثاني من أنه من أجلّ النعم التي يجب شكرها، فقال: ﴿وأنزلنا﴾
120
أي بعظمتنا ﴿من السماء﴾ أي من جهتها ﴿ماء بقدر﴾ لعله - والله أعلم - بقدر ما يسقي الزروع والأشجار، ويحيي البراري والقفار، وما تحتاج إليه البحار، مما تصب فيها الأنهار، إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار، ولو كان دون ذلك لأدى إلى جفاف النبات والأشجار ﴿فأسكنّاه﴾ بعظمتنا ﴿في الأرض﴾ بعضه على ظهرها وبعضه في بطنها، ولم نعمها بالذي على ظهرها ولم نغور ما في بطنها ليعم نفعه وليسهل الوصول إليه ﴿وإنا﴾ على ما لنا من العظمة ﴿على ذهاب به﴾ أي على إذهابه بأنواع الإذهاب بكل طريق بالإفساد والرفع والتغوير وغير ذلك، مع إذهاب البركة التي تكون لمن كنا معه ﴿لقادرون*﴾ قدرة هي في نهاية العظمة، فإياكم والتعرض لما يسخطنا.
ولما ذكر إنزاله، سبب عنه الدليل القرب على البعث فقال: ﴿فأنشأنا﴾ أي فأخرجنا وأحيينا ﴿لكم﴾ خاصة، لا لنا ﴿به﴾ أي بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي ﴿جنات﴾ أي بساتين تجن - أي تستر - داخلها بما فيها ﴿من نخيل وأعناب﴾ صرح بهذين الصنفين لشرفهما، ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار، سمي الأول باسم
121
شجرته لكثرة ما فيهما من المنافع المقصودة بخلاف الثاني فإنه المقصود من شجرته؛ وأشار إلى غيرهما بقوله: ﴿لكم﴾ أي خاصة ﴿فيها﴾ أي الجنات ﴿فواكه كثيرة﴾ ولكم فيها غير ذلك.
ولما كان التقدير: منها - وهي طرية - تتفكهون، عطف عليه قوله: ﴿ومنها﴾ أي بعد اليبس والعصر ﴿تأكلون*﴾ أي يتجدد لكم الأكل بالادخار، ولعله قدم الظرف تعظيماً للامتنان بها.
122
ولما ذكر سبحانه ما إذا عصر كان ماء لا ينفع للاصطباح، أتبعه ما إذا عصر كان دهناً يعم الاصطباح والاصطباغ، وفصله عنه لأنه أدل على القدرة فقال: ﴿وشجرة﴾ أي وأنشأنا به شجرة، أي زيتونة ﴿تخرج من طور﴾.
ولما كان السياق للإمداد بالنعم، ناسبه المد فقال: ﴿سيناء﴾ قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: وهو طور سينين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون. وقال صاحب القاموس: والطور: الجبل، وجبل
122
قرب أيلة يضاف إلى سيناء وسينين، وجبل بالشام، وقيل: هو المضاف إلى سيناء، وجبل بالقدس عن يمين المسجد، وآخر عن قبليه، به قبر هارون عليه السلام، مجبل برأس العين، - وآخر مطلّ على طبرية - انتهى. وهو اسم مركب من الاسمين، وقيل: بل هو مضاف إلى سيناء، ومعنى سيناء الحسن، وقيل: المبارك، وقيل: هو حجارة معروفة، وقيل شجر، ولعله خصه من بين الأطوار لقربه من المخاطبين أولاً بهذا القرآن، وهم العرب، ولغرابة نبت الزيتون به لأنه في بلاد الحر والزيتون من نبات الأرض الباردة، ولتمحضه لأن يكون نبته مما أنزل من السماء من الماء لعلوه جداً، وبعد من أن يدعي أن ما فيه من النداوة من الماء من البحر لأن الإمام أبا العباس أحمد ابن القاص من قدماء أصحاب الشافعي حكى في كتابه أدلة القبلة أنه يصعد إلى أعلاه في ستة آلاف مرقاة وستمائة وست وستين مرقاة، قال: وهي مثل الدرج من الصخر، فإذا انتهى إلى مقدار النصف من الطريق يصير إلى مستواه من الأرض فيها أشجار وماء عذب، في هذا الموضع كنيسة على اسم إيليا النبي عليه السلام، وفيه مغار، ويقال: إن إيليا عليه السلام لما هرب من إزقيل الملك اختفى فيه؛ ثم يصعد من هذا الموضع في الدرج حتى ينتهي إلى قلة الجبل،
123
وفي قلبه كنيسة بنيت على اسم موسى عليه السلام بأساطين رخام، أبوابها من الصفر والحديد، وسقفها من خشب الصنوبر، وأعلى سقوفها أطباق رصاص قد أحكمت بغاية الإحكام، وليس فيها إلا رجل راهب يصلي ويدخن ويسرج قناديلها، ولا يمكن أحداً أن ينام فيها البتة، وقد اتخذ هذا الراهب لنفسه خارجاً من الكنيسة بيتاً صغيراً يأوي فيه، وهذه الكنيسة بنيت في المكان الذي كلم الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام، وحواليه - أي حوالي الجبل - من أسفله ستة آلاف ما بين دير وصومعة للرهبان والمتعبدين، كان يحمل إليهم خراج مصر في أيام ملك الروم للنفقة على الديارات وغيرها، وليس اليوم بها إلا مقدار سبعين راهباً يأوون في الدير الذي داخل الحصن، وفي أكثرها يأوي أعراب بني رمادة، وعلى الجبل مائة صومعة، وأشجار هذا الجبل اللوز والسرو، وإذا هبطت من الطور أشرفت على عقبة تهبط منها فتسير خطوات فتنتهي إلى دير النصراني: حُصين عليه سور من حجارة منحوتة ذات شرف عليه بابان من حديد، وفي جوف هذا الدير عين ماء عذب، وعلى هذه العين درابزين من نحاس لئلا يسقط في العين أحد، وقد هيىء براتج رصاص يجري فيها الماء إلى كروم لهم حول الدير، ويقال: إن هذا الدير هو الموضع الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار في الشجرة العليق، وقبلة من بها دبر الكعبة، وفيه
124
يقول القائل:
عجب الطور من ثباتك موسى حين ناجاك بالكلام الجليل
والطور من جملة كور مصر، منه إلى بلد قلزم على البر مسيرة أربعة أيام، ومنه إلى فسطاط مصر مسيرة سبعة أيام - انتهى كلام ابن القاص، وسألت أنا من له خبرة بالجبل المذكور: هل به أشجار الزيتون؟ فأخبرني أنه لم ير به شيئاً منها، وإنما رآها فيما حوله في قرار الأرض، وهي كثيرة وزيتونها مع كبره أطيب من غيره، فإن كان ذلك كذلك فهو أغرب مما لو كانت به، لأنه لعلوه أبرد مما سفل من الأرض، فهو بها أولى، وظهر لي - والله أعلم - أن حكمة تقدير الله تعالى أن يكون عدد الدرج ما ذكر موافقة زمان الإيجاد الأول لمكان الإبقاء الأول، وذلك أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام وهو الإيجاد الأول، وكلم موسى عليه الصلاة والسلام، وكتب له الألواح في هذا الجبل، ثم أتم له التوراة وهي أعظم الكتب بعد القرآن، وبالكتب السماوية والشرائع الربانية انتظام البقاء الأول، كما سلف في الفاتحة والأنعام والكهف.
ولما ذكر سبحانه إنشاء هذه الشجرة بهذا الجبل البعيد عن مياه البحار لعلوه وصلابته أو بما حوله من الأرض الحارة، ذكر تميزها عن
125
عامة الأشجار بوجه آخر عجيب فقال: ﴿تنبت﴾ أي بالماء الذي لا دهن فيه أصلاً، نباتاً على قراءة الجمهور، أو إنباتاً على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وورش عن يعقوب بضم الفوقانية، ملتبساً ثمره ﴿بالدهن﴾ وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به، وكأنه عرّفه لأنه أجلّ الأدهان وأكملها.
ولما كان المأكول منها الدهن والزيتون قبل العصر، عطف إشعاراً بالتمكن فقال: ﴿وصبغ﴾ أي وتنبت بشيء يصبغ - أي يلون - الخبز إذا غمس فيه أو أكل به ﴿للآكلين*﴾ وكأنه نكره لأن في الإدام ما هو أشرف منه وألذ وإن كانت بركته مشهورة؛ روى الإمام أحمد عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة»
وللترمذي وابن ماجه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره كما نقله ابن كثير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من
126
شجرة مباركة» وقال أبو حيان: وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع.
ولما دل سبحانه وتعالى على قدرته بما أحيا بالماء حياة قاصرة عن الروح، أتبعه ما أفاض عليه به حياة كاملة فقال: ﴿وإن لكم في الأنعام﴾ وهي الإبل والبقر والغنم ﴿لعبرة﴾ تعبرون بها من ظاهر أمرها إلى باطنه مما له سبحانه فيها من القدرة التامة على البعث وغيره؛ ثم استأنف تفصيل ما فيها من العبرة قائلاً: ﴿نسقيكم﴾ ولما كان الأنعام مفرداً لكونه اسم جمع، ولم يذكر ما يسقى منه، أنث الضمير بحسب المعنى وعلم أن المراد ما يكون منه اللبن خاصة وهو الإناث، فهو استخدام لأنه لو أريد جميع ما يقع عليه الاسم لذكر الضمير، فلذلك قال: ﴿مما في بطونها﴾ أي نجعله لكم شراباً نافعاً للبدن موافقاً للشهوة تلتذون به مع خروجه من بين الفرث والدم كما مضى في النحل ﴿ولكم فيها﴾ أي في جماعة الأنعام، وقدم الجار تعظيماً لمنافعها حتى كأن غيرها عدم
127
﴿منافع كثيرة﴾ باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها، وبأولادها وأصوفها وأوبارها، وغير ذلك من آثارها.
ولما كان التقدير: تصرفونها في تلك المنافع، عطف عليه مقدماً للجار تعظيماً لمأكولها فقال: ﴿ومنها تأكلون*﴾ بسهولة من غير امتناع ما عن شيء من ذلك، ولو شاء لمنعها من ذلك وسلطها عليكم، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج، أو جعله قذراً لا يؤكل، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها له.
ولما كانت المفاوتة بين الحيوانات في القوى وسهولة الانقياد دالة على كمال القدرة، وكان الحمل للنفس والمتاع عليها وعلى غيرها من الحيوان من أجلّ المنافع بحيث لولا هو تعطلت أكثر المصالح، ذكره فيها مذكراً بغيرها في البر تلويحاً، وذاكراً لمحامل البحر تصريحاً، فقال مقدماً للجار عداً لحمل غيرها بالنسبة إلى حملها لعظيم وقعه عدماً: ﴿وعليها﴾ أي الأنعام الصالحة للحمل من الإبل والبقر في البر ﴿وعلى الفلك﴾ في البحر. ولما كان من المعلوم من تذليلها على كبرها وقوتها وامتناع غيرها على صغره وضعفه أنه لا فاعل لذلك
128
إلا الله مع أن الممتن به نفس الحمل لا بالنظر إلى شيء آخر، بني للمفعول قوله: ﴿تحملون*﴾ بإنعامه عليكم بذلك، ولو شاء لمنعه، فتذكروا عظيم قدرته وكمال صنعته، وعظموه حق تعظيمه، واشكروه على ما أولاكم من تلك النعم، وأخلصوا له الدين، لتفلحوا فتكونوا من الوارثين.
ولما كان التقدير: فلقد حملنا نوحاً ومن أردنا ممن آمن به من أولاده وأهله وغيرهم على الفلك، وأغرقنا من عانده من أهل الأرض قاطبة بقدرتنا، ونصرناه عليهم بعد ضعفه عنهم بأيدينا وقوتنا، وجعلناه وذريته هم الوارثين، وكنتم ذرية في أصلابهم، وكثرناهم حتى ملأنا منهم الأرض، دلالة على ما قدمنا من تفردنا كما أجرينا عادة هذا الكتاب الكريم بذكر عظيم البطش بعد أدلة التوحيد، وأتبعناه بعده الرسل الذين سمعتم بهم، وعرفتم بعض أخبارهم، يا من أنكر الآن رسالة البشر لإنكار رسالة هذا النبي الكريم! عطف عليه يهدد بإهلاك الماضين، للرجوع عن الكفر، ويذكر بنعمة النجاة للإقبال على الشكر، ويسلي هذا النبي الكريم ومن معه من المؤمنين لمن كذب قبله من النبيين وأوذي من أتباعهم، ويدل على أنه يفضل من عباده من يشاء بالرسالة، كما فضل طينة الإنسان على سائر الطين، وعلى أن الفلاح بالإرث والحياة الطيبة في الدارين مخصوص بالمؤمنين كما ذكر أول السورة، فذكر نوحاً
129
لأن قصته أشهر القصص، ولأن قومه كانوا ملء الأرض، ولم تغن عنهم كثرتهم ولا نفعتهم قوتهم، ولأنه الأب الثاني بعد الأب الأول المشار إليه بالطين، ولأن نجاته ونجاة المؤمنين معه كانت بالفلك المختوم به الآية قبله، فقال: ﴿ولقد أرسلنا﴾ إشارة بصيغة العظمة إلى زيادة التسلية بأنه «آتاه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» وقام هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك حق القيام ﴿نوحاً﴾ أي وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما السلام ﴿إلى قومه﴾ وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة ﴿فقال﴾ أي فتسبب عن ذلك أن قال: ﴿يا قوم﴾ ترفقاً بهم ﴿اعبدوا الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، وحده، لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال؛ واستأنف على سبيل التعليل قوله: ﴿ما لكم﴾ وأغْرق في النفي بما هو حق العبادة فقال: ﴿من إله﴾ أي معبود بحق ﴿غيره﴾ فلا تعبدوا سواه.
ولما كانت أدلة الوحدانية والعظمة بإعطاء الثواب وإحلال العقاب في غاية الظهور لا تحتاج إلى كبير تأمل، تسبب عن ذلك إنكاره لأمنهم من مكره، والخوف من ضره، فقال: ﴿أفلا تتقون*﴾ أي تخافون ما ينبغي الخوف منه فتجعلوا لكم وقاية من عذابه فتعملوا
130
بما تقتضيه التقوى من إفراده بالعبادة خوفاً من ضركم ورجاء لنفعكم ﴿فقال﴾ أي فتسبب عن ذلك أن كذبوه فقال: ﴿الملأ﴾ أي الأشراف الذين تملأ رؤيتهم الصدور عظمة. ولما كان أهل الإيمان كلهم إذ ذاك قبيلة واحدة لاجتماعهم في لسان واحد قدم قوله: ﴿الذين كفروا﴾ أي بالله لأن التسلية ببيان التكذيب أتم، والصلة هنا قصيرة لا يحصل بها لبس ولا ضعف في النظم بخلاف ما يأتي، وكأن أفخاذهم كانت متمايزة فزاد في الشناعة عليهم بأن عرف أنهم من أقرب الناس إليه بقوله: ﴿من قومه ما هذا﴾ أي نوح عليه الصلاة والسلام ﴿إلا بشر مثلكم﴾ أي فلا يعلم ما لا تعلمون، فأنكروا أن يكون بعض البشر نبياً، ولم ينكروا أن يكون بعض الطين إنساناً، وبعض الماء علقة، وبعض العلقة مضغة - إلى آخره، فكأنه قيل: فما حمله على ذلك؟ فقالوا: ﴿يريد أن يتفضل﴾ أي يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا ﴿عليكم﴾ لتكونوا أتباعاً له، ولا خصوصية له به دونكم.
ولما كان التقدير: فلم يرسله الله كما ادعى، عطف عليه قولهم: ﴿ولو شاء الله﴾ أي الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره ﴿لأنزل﴾ لذلك ﴿ملائكة﴾ وما علموا أن القادر على تفضيل بعض الجواهر بجعلها ملائكة قادر على تفضيل ما شاء ومن شاء بما
131
يشاء من الملائكة وغيرها.
ولما كان هذا متضمناً لإنكار رسالة البشر، صرحوا به في قولهم كذباً وبهتاناً كما كذب فرعون وآله حين قالوا مثل هذا القول وكذبهم المؤمن برسالة يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿ما سمعنا بهذا﴾ أي بإرسال نبي من البشر يمنع أن يعبد غير الله بقصد التقريب إليه، فجعلوا الإله حجراً، وأحالوا كون النبي بشراً ﴿في آبائنا الأولين*﴾ ولا سمعنا بما دعا إليه من التوحيد.
132
ولما نفوا عنه الرسالة وحصروا أمره في قصد السيادة، وكانت سيادته لهم بمثل هذا عندهم من المحال، قالوا: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هو إلا رجل به جنة﴾ أي جنون في قصده التفضل بما يروث بغضه وهضمه ولا نعرف له وجهاً مخصصاً به، فلا نطيع له فيه ابداً ﴿فتربصوا به﴾ أي فتسبب عن الحكم بجنونه أنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على مجنون ﴿حتى﴾ أي إلى ﴿حين*﴾ لعله يفيق أو يموت، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: ﴿قال﴾ عندما أيس من فلاحهم: ﴿رب انصرني﴾ أي أعني عليهم ﴿بما كذبون*﴾ أي بسبب تكذيبهم لي، فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل ﴿فأوحينا﴾
132
أي فتسبب عن دعائه أنا أوحينا ﴿إليه أن اصنع الفلك﴾ أي السفينة.
ولما كان يخاف من أذاهم له في عمله بالإفساد وغيره قال: ﴿بأعيننا﴾ أي إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم وأنت تعرف قدرتنا عليهم فثق بحفظنا ولا تخف شيئاً من أمرهم. ولما كان لا يعلم تلك الصنعة، قال: ﴿ووحينا﴾ ثم حقق له هلاكهم وقربه بقوله: ﴿فإذا جاء أمرنا﴾ أي بالهلاك عقب فراغك منه ﴿وفار التنور﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجه الأرض. وفي القاموس: التنور: الكانون يخبز فيه، ووجه الأرض، وكل مفجر ماء، وجبل قرب المصيصة - انتهى. والأليق بهذا الأمر صرفه إلى ما يخبز فيه ليكون آية في آية ﴿فاسلك﴾ أي فادخل ﴿فيها﴾ أي السفينة ﴿من كل زوجين﴾ من الحيوان ﴿اثنين﴾ ذكراً وأنثى ﴿وأهلك﴾ من أولادك وغيرهم ﴿إلا من سبق عليه﴾ لا له ﴿القول منهم﴾ بالهلاك لقطع ما بينك وبينه من الوصلة بالكفر.
ولما كان التقدير: فلا تحمله معك ولا تعطف عليه لظلمه، عطف عليه قوله: ﴿ولا تخاطبني﴾ أي بالسؤال في النجاة ﴿في الذين ظلموا﴾ عامة؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنهم مغرقون*﴾ أي قد ختم القضاء عليهم، ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل.
133
ولما قدم ذلك، لأن درء المفاسد - بالنهي عما لا يرضي - أولى من جلب المصالح، أتبعه الأمر بالشكر فقال: ﴿فإذا استويت﴾ أي اعتقلت ﴿أنت ومن معك﴾ أي من البشر وغيرهم ﴿على الفلك﴾ ففرغت من امتثال الأمر بالحمل ﴿فقل﴾ لأن علمك بالله ليس كعلم غيرك فالحمد منك أتم، وإذا قلت اتبعك من معك، فإنك قدوتهم وهم في غاية الطاعة لك، ولهذا أفرد في الجزاء بعد العموم في الشرط ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال في الإيجاد والإعدام ﴿لله﴾ أي الذي لا كفوء له لأنه المختص بصفات المجد ﴿الذي نجّانا﴾ بحملنا فيه ﴿من القوم﴾ الأشداء الأعتياء ﴿الظالمين*﴾ الذين حالهم - لوضعهم الأشياء في غير مواضعها - حال من يمشي في الظلام، فلك الحمد بعد إفنائهم كما كان لك الحمد في حال إبدائهم وإبقائهم، والحمد في هذه السورة المفتتحة بأعظم شعيرة بها الإبقاء الأول، وهي الصلاة الموصوفة بالخشوع كالحمد في سورة الإيجاد الأول: الأنعام بقوله تعالى
﴿فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين﴾ [الأنعام: ٤٥].
ولما أشار له بهذا القول إلى السلامة بالحمل، أتبعه الإشارة إلى الوعد بإسكان الأرض فقال: ﴿وقل رب أنزلني﴾ في الفلك ثم في الأرض وفي كل منزل تنزلني به وتورثني إياه ﴿منزلاً﴾ موضع نزول، أو إنزالاً ﴿مباركاً﴾ أي أهلاً لأن يثبت فيه أو به. ولما كان
134
الثناء أعظم مهيج على إجابة الدعاء، وكان التقدير، فأنت خير الحاملين، عطف عليه قوله: ﴿وأنت خير المنزلين*﴾ لأنك تكفي نزيلك كل ملم، وتعطيه كل مراد.
135
ولما كانت هذه القصة من أغرب القصص، حث على تدبرها بقوله: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي ذكر من أمر نوح وقومه وكذا ما هو مهاد له ﴿لآيات﴾ أي علامات دالات على صدق الأنبياء في أن المؤمنين هم المفلحون، وأنهم الوارثون للأرض بعد الظالمين وإن عظمت شوكتهم، واشتدت صولتهم ﴿وإن﴾ أي وإنا بما لنا من العظمة ﴿كنا﴾ بما لنا من الوصف الثابت الدال على تمام القدرة ﴿لمبتلين*﴾ أي فاعلين فعل المختبر لعبادنا بإرسال الرسل ليظهر في عالم الشهادة الصالحُ منهم من غيره، ثم نبتلي الصالحين منهم بما يزيد حسناتهم، وينقص سيئاتهم، ويعلي درجاتهم، ثم نجعل لهم العاقبة فنبلي بهم الظالمين بما يوجب دمارهم، ويخرب ديارهم، ويمحو آثارهم، هذه عادتنا المستمرة إلى أن نرث الأرض ومن عليها فيكون البلاء المبين.
ولما بين سبحانه وتعالى تكذيبهم وما عذبهم به، وكان القياس موجباً لأن من يأتي يعدهم يخشى مثل مصرعهم، فيسلك غير سبيلهم،
135
ويقول غير قيلهم، بين أنه لم تنفعهم العبرة، فارتكبوا مثل أحوالهم، وزادوا على أقوالهم وأفعالهم، لإرادة ذلك من الفاعل المختار، الواحد القهار، وأيضاً فإنه لما كان المقصود - مع التهديد والدلالة على القدرة والاختيار - الدلالة على تخصيص المؤمنين بالفلاح والبقاء بعد الأعداء، وكان إهلاك المترفين أدل على ذلك، اقتصر على ذكرهم وأبهمهم ليصح تنزيل قصتهم على كل من ادعى فيهم الإتراف من الكفرة، ويترجح إرادة عاد لما أعطوا مع ذلك من قوة الأبدان وعظم الأجسام، وبذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما، وإرادة ثمود لما في الشعراء والقمر مما يشابه بعض قولهم هنا، وللتعبير عن عذابهم بالصيحة ولموافقتهم لقوم نوح في تعليل ردهم بكونه بشراً، وطوى الإخبار عمن بعدهم بغير التكذيب والإهلاك لعدم الحاجة إلى ذكر شيء غيره، فقال: ﴿ثم أنشأنا﴾ أي أحدثنا وأحيينا وربينا بما لنا من العظمة. ولما لم يستغرقوا زمان البعد، أتى بالجار فقال: ﴿من بعدهم قرناً﴾ أي أمة وجيلاً. ولما كان ربما ظن ظان أنهم فرقة من المهلكين نجوا من عذاب سائرهم كما يكون في حروب سائر الملوك، عبر عن
136
إنجائهم بإنشائهم، حقق أنهم أحدثوا بعدهم فقال: ﴿آخرين فأرسلنا﴾ أي فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أن أرسلنا.
ولما كان المقصود الإبلاغ في التسلية، عدي الفعل ب «في» دلالة على أنه عمهم بالإبلاغ كما يعم المظروف الظرف، حتر لم يدع واحداً منهم إلا أبلغ في أمره فقال: ﴿فيهم رسولاً منهم﴾ فكان القياس يقتضي مبادرتهم لاتباعه لعلمهم بما حل بمن قبلهم لأجل التكذيب، ولمعرفتهم غاية المعرفة لكون النبي منهم، بما جعلناه عليه المحاسن، وما زيناه به من الفضائل، ولأن عزه عزهم، ولدعائه لهم إلى ما لا يخفى حسنه على عاقل، ولا يأباه منصف؛ ثم بين ما أرسل به بقوله: ﴿أن اعبدوا الله﴾ أي وحده لأنه لا مكافىء له، ولذا حفظ اسمه فكان لا سمي له؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿ما لكم﴾ ودل على الاستغراق بقوله: ﴿من إله غيره﴾.
ولما كانت المثلات قد دخلت من قبلهم في المكذبين، وأناخت صروفها بالظالمين، فتسبب عن عملهم بذلك إنكار قلة مبالاتهم في عدم تحرزهم من مثل مصارعهم، قال: ﴿أفلا تتقون*﴾ أي تجعلون
137
لكم وقاية مما ينبغي الخوف منه فتجعلوا وقاية تحول بينكم وبين سخط الله.
138
ولما كان التقدير: فلم يؤمنوا ولم يتقوا دأب قوم نوح، عطف عليه قوله: ﴿وقال الملأ﴾ أي الأشراف الذين تملأ رؤيتهم الصدور، فكأن ما اقترن بالواو أعظم في التسلية مما خلا منها على تقدير سؤال لدلالة هذا على ما عطف عليه. ولما كانت القبائل قد تفرغت بتفرق الألسن، قدم قوله: ﴿من قومه﴾ اهتماماً وتخصيصاً للإبلاغ في التسلية ولأنه لو أخر لكان بعد تمام الصلة وهي طويلة؛ ثم بين الملأ بقوله: ﴿الذين كفروا﴾ أي غطوا ما يعرفون من أدلة التوحيد والانتقام من المشركين ﴿وكذبوا بلقاء الآخرة﴾ لتكذيبهم بالبعث.
ولما كان من لازم الشرف الترف، صرح به إشارة إلى أنه - لظن كونه سعادة في الدنيا - قاطع في الغالب عن سعادة الآخرة، لكونه حاملاً على الأشر والبطر والتكبر حتى على المنعم، فقال: ﴿وأترفناهم﴾ أي والحال أنا - بما لنا وعلى ما لنا من العظمة - نعمناهم ﴿في الحياة الدنيا﴾ أي الدانية الدنيئة، بالأموال والأولاد وكثرة السرور، يخاطبون أتباعهم: ﴿ما هذا﴾ أشاروا إليه تحقيراً له عند المخاطبين ﴿إلا بشر مثلكم﴾ أي في الخلق والحال؛ ثم
138
وصفوه بما يوهم المساواة في كل وصف فقالوا: ﴿يأكل مما تأكلون منه﴾ من طعام الدنيا ﴿ويشرب مما تشربون*﴾ أي منه من شرابها فكيف يكون رسولاً دونكم!
ولما كان التقدير: فلئن اتبعتموه إنكم لضالون، عطف عليه: ﴿ولئن أطعتم بشراً مثلكم﴾ في جميع ما ترون ﴿إنكم إذاً﴾ أي إذا أطعتموه ﴿لخاسرون*﴾ أي مغبونون لكونكم فضلتم مثلكم عليكم بما يدعيه مما نحن له منكرون؛ ثم بينوا إنكارهم بقولهم: ﴿أيعدكم أنكم إذا متم﴾ ففارقت أرواحكم أجسادكم ﴿وكنتم﴾ أي وكانت أجسادكم ﴿تراباً﴾ باستيلاء التراب على ما دون عظامها ﴿وعظاماً﴾ مجردة؛ ثم بين الموعود به بعد أن حرك النفوس إليه، وبعث بما قدمه أتم بعث عليه، فقال مبدلاً من ﴿أنكم﴾ الأولى إيضاحاً للمعنى: ﴿أنكم مخرجون*﴾ أي من تلك الحالة التي صرتم إليها، فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام؛ ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعادهم ذلك فقالوا: ﴿هيهات هيهات﴾ أي بعد بعد جداً بحيث صار ممتنعاً، ولم يرفع ما بعده به بل قطع عنه تفخيماً له، فكان كأنه قيل: لأيّ شيء هذا الاستبعاد؟ فقيل: ﴿لما توعدون*﴾.
139
ولما كانوا بهذا التأكيد في التبعيد كأنهم قالوا: إنا لا نبعث أصلاً، اتصل به: ﴿إن هي﴾ أي الحالة التي لا يمكن لنا سواها ﴿إلا حياتنا الدنيا﴾
139
أي التي هي أقرب الأشياء إلينا وهي ما نحن فيها، ثم فسروها بقولهم: ﴿نموت ونحيا﴾ أي يموت منا من هو موجود، وينشأ آخرون بعدهم ﴿وما نحن بمبعوثين*﴾ بعد الموت، فكأنه قيل: فما هذا الكلام الذي يقوله؟ فقيل: كذب؛ ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هو إلا﴾ وألهبوه على ترك مثل ما خاطبهم به بقولهم: ﴿رجل افترى﴾ أي تعمد ﴿على الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿كذباً﴾ والرجل لا ينبغي له مثل ذلك، أو هو واحد وحده، أي لا يلتفت إليه ﴿وما نحن له بمؤمنين*﴾ أي بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة؛ ثم استأنف قوله: ﴿قال رب﴾ أي أيها المحسن إليّ بإرسالي إليهم وغيره من أنواع التربية ﴿انصرني﴾ عليهم أي أوقع لي النصر ﴿بما كذبون*﴾ فأجابه ربه بأن ﴿قال عما قليل﴾ أي من الزمن. وأكد قلته بزيادة «ما» ﴿ليصبحن نادمين*﴾ على تخلفهم عن اتباعك.
140
ولما تسبب عن دعائه أن تعقب هلاكهم، وعد الله له بذلك، قال تعالى: ﴿فأخذتهم الصيحة﴾ أي التي كأنها لقوتها لا صحية إلا هي،
140
ويمكن أن تكون على بابها فتكون صيحة جبرئيل عليه الصلاة والسلام ويكون القوم ثمود، ويمكن أنت تكون مجازاً عن العذاب الهائل ﴿بالحق﴾ أي بالأمر الثابت من العذاب الذي أوجب لهم الذي لا تمكن مدافعته لهم ولا لأحد غير الله، ولا يكون كذلك إلا وهو عدل ﴿فجعلناهم﴾ بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة، بسبب الصيحة ﴿غثاء﴾ كأنهم أعجاز نخل خاوية، جاثمين أمواتاً يطرحون كما يطرح الغثاء، وهو ما يحمله السيل من نبات ونحوه فيسود ويبلى فيصير بحيث لا ينتفع به، ونجينا رسولهم ومن معه من المؤمنين، فخاب الكافرون، وأفلح المؤمنون، وكانوا هم الوارثين للأرض من بعدهم.
ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سبباً لهوانهم، عبر عنه بقوله: ﴿فبعداً﴾ أي هلاكاً وطرداً. ولما كان كأنه قيل: لمن؟ قيل: لهم! ولكنه أظهر الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف تحذيراً لكل من تلبس به فقال: ﴿للقوم﴾ أي الأقوياء الذي لا عذر لهم في التخلف عن اتباع الرسل والمدافعة عنهم ﴿الظالمين*﴾ الذين وضعوا قوتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم.
ولما كانت عادة المكذبين أن يقولوا تكذيباً: هذا تعريض لنا بالهلاك، فصرِّح ولا تدع جهداً في إحلاله بنا والتعجيل به
141
إلينا، فإنا لا ندع ما نحن عليه لشيء، وكان العرب أيضاً قد ادعوا أن العادة بموتهم وإنشاء من بعدهم شيئاً فشيئاً لا تنخرم، قال تعالى رادعاً لهم: ﴿ثم أنشأنا﴾ أي بعظمتنا التي لا يضرها تقديم ولا تأخير، وأثبت الجار لما تقدم فقال: ﴿من بعدهم﴾ أي من بعد من قدمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده ﴿قروناً آخرين﴾ ثم أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي حده له بقوله: ﴿ما تسبق﴾ ولعله عبر بالمضارع إشارة إلى أنه ما كان شيء من ذلك ولا يكون، وأشار إلى الاستغراق بقوله: ﴿من أمة أجلها﴾ أي الذي قدرناه لهلاكها ﴿وما يستأخرون*﴾ عنه، وكلهم أسفرت عاقبته عن خيبة المكذبين وإفلاح المصدقين، وجعلهم بعدهم الوارثين، وعكس هذا الترتيب في غيرها من الآيات فقدم الاستئخار لنه فرض هناك مجيء الأجل فلا يكون حينئذ نظر إلا إلى التأخير.
ولما كان قد أملى لكل قوم حتى طال عليهم الزمن، فلما لم يهدهم عقولهم لما نصب لهم من الأدلة، وأسبغ عليهم من النعم، وأحل بالمكذبين قبلهم من النقم، أرسل فيهم رسولاً، دل على ذلك بأداة التراخي فقال: ﴿ثم أرسلنا﴾ أي بعد إنشاء كل قرن منهم وطول إمهالنا له،
142
ومن هنا يعلم أن بين كل رسولين فترة، وأضاف الرسل إليه لأنه في مقام العظمة وزيادة في التسلية فقال: ﴿رسلنا تترا﴾ أي واحداً بعد واحد؛ قال الرازي: من وتر القوس لاتصاله.
وقال البغوي: واترت الخبر: اتبعت بعضه بعضاً وبين الخبرين هنيهة. وقال الأصبهاني: والأصل: وترى، فقلبت الواو تاء كما قلبوها في التقوى. فجاء كل رسول إلى أمته قائلاً: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ قيل: ﴿كلما جاء أمة﴾ ولما كان في بيان التكذيب، اضاف الرسول إليهم، ذماً لهم لأن يخصوا بالكرامة فيأبوها ولقصد التسلية أيضاً فقال: ﴿رسولها﴾ أي بما أمرناه به من التوحيد.
ولما كان الأكثر من كل أمة مكذباً، أسند الفعل إلى الكل فقال: ﴿كذبوه﴾ أي كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك ﴿فأتبعنا﴾ القرون بسبب تكذيبهم ﴿بعضهم بعضاً﴾ في الإهلاك، فكنا نهلك الأمة كلها في آن واحد، بعضهم بالصيحة، وبعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بغير ذلك، فدل أخذنا لهم على غير العادة - من إهلاكنا لهم
143
جميعاً وإنجاء الرسل ومن صدقهم والمخالفة بينهم في نوع العذاب - أنا نحن الفاعلون بهم ذلك باختيارنا لا الدهر، وأنا ما فعلنا ذلك إلا بسبب التكذيب.
ولما كانوا قد ذهبوا لم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم، جعلوا إياها، فقال: ﴿وجعلناهم أحاديث﴾ أي أخباراً يسمر بها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل:
ولا شيء يدوم فكن حديثاً جميل الذكر فالدنيا حديث
ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم فقال: ﴿فبعداً لقوم﴾ أي أقوياء على ما يطلب منهم ﴿لا يؤمنون*﴾ أي لا يتجدد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة، لأنه لا مزاج لهم معتدل.
144
ولما كان آل فرعون قد أنكروا الإيمان لبشر مثلهم كما قال من تقدم ذكره من قوم نوح والقرن الذي بعدهم، وكانوا أترف أهل زمانهم، وأعظمهم قوة، وأكثرهم عدة، وكانوا يستعبدون بني إسرائيل، وكان قد نقل إلينا من الآيات التي أظهر رسولهم ما لم ينقل إلينا مثله لمن تقدمه، صرح سبحانه بهم، وكأن الرسالة إليهم كانت بعد فترة طويلة، فدل عليها بحرف التراخي فقال: ﴿ثم أرسلنا﴾ أي بما لنا
144
من العظمة ﴿موسى﴾ وزاد في التسلية بقوله: ﴿وأخاه هارون﴾ أي عاضداً له وبياناً لأن إهلاك فرعون وآله جميعاً مع أنجاء الرسولين معاً ومن آمن بهما لإرادة الواحد القهار لإفلاح المؤمنين وخيبة الكافرين ﴿بآياتنا﴾ أي المعجزات، بعظمتنا لمن يباريها ﴿وسلطان مبين*﴾ أي حجة ملزمة عظيمة واضحة، وهي حراسته وهو وحده، وأعلاه على كل من ناواه وهم مع قوتهم ملء الأرض وعجزهم عن كل ما يرومونه من كيده، وهذه وإن كانت من جملة الآيات لكنها أعظمها، وهي وحدها كافية في إيجاب التصديق ﴿إلى فرعون وملئه﴾ أي وقومه.
ولما كان الأطراف لا يخالفون الأشراف، عدهم عدماً، ومن الواضح أن التقدير: أن اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره، وأشار بقوله: ﴿فاستكبروا﴾ إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوا إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت وطلبوا أن لا يكونوا تحت أمر من دعاهم، وأشار بالكون إلى فساد جبلتهم فقال: ﴿وكانوا قوماً﴾ أي أقوياء ﴿عالين*﴾ على جميع من يناويهم من أمثالهم.
145
ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال: ﴿فقالوا أنؤمن﴾ أي بالله مصدقين ﴿لبشرين﴾ ولما كان «مثل» و «غير» قد يوصف بهما المذكر والمؤنث والمثنى والجمع دون تغيير، ولم تدع حاجة إلى التثنية قال: ﴿مثلنا﴾ أي في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يعتري البشر كما قال من تقدمهم ﴿وقومهما﴾ أي والحال أن قومهما ﴿لنا عابدون*﴾ أي في غاية الذل والانقياد كالعبيد فنحن أعلى منهما بهذا، ويا ليت شعري ما لهم لما جعلوا هذا شبهة لم يجعلوا عجزهم عن إهلاك الرسل وعما يأتون به من المعجزات فرقاناً وما جوابهم عن أن من الناس الجاهل الذي لا يهتدي لشيء والعالم الذي يفوق الوصف من فاوت بينهما؟ وإذا جاز التفاوت بينهما في ذلك فلم لا يجوز في غيره؟. ولما تسبب عن هذا الإنكار التكذيب، فتسبب عنه الهلاك، قال: ﴿فكذبوهما﴾ أي فرعون وملؤه موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ﴿فكانوا﴾ أي فرعون وآله، ونبه بصيغة المفعول على عظيم القدرة فقال: ﴿من المهلكين*﴾ بإغراقنا لهم على تكذيبهم إشارة إلى أنهم لم يهلكوا بأنفسهم من غير مهلك مختار بدليل إغراقهم كلهم بما كان سبب إنجاء بني إسرائيل كلهم ولم تغن عنهم قوتهم في أنفسهم ثم قوتهم على خصوص بني إسرائيل
146
باستعبادهم إياهم، ولا ضر بني إسرائيل ضعفهم عن دفاعهم، ولا ذلهم لهم وصغارهم في أيديهم.
147
ولما كان ضلال قومهما الذين استنقذناهم من عبودية فرعون وقومه أعجب، وكان السامع متشوفاً إلى ما كان من أمرهم بعد نصرهم، ذكر ذلك مبتدئاً له بحرف التوقع مشيراً إلى حالهم في ضلالهم تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿ولقد آتينا﴾ أي بعظمتنا ﴿موسى الكتاب﴾ أي الناظم لمصالح البقاء الأول بل والثاني.
ولما كان كتابهم لم ينزل إلا بعد هلاك فرعون كما هو واضح لمن تأمل أشتات قصتهم في القرآن، وكان حال هلاك القبط معرفاً أن الكتاب لبني إسرائيل، اكتفى بضميرهم فقال: ﴿لعلهم﴾ اي قوم موسى وهارون عليهما السلام ﴿يهتدون*﴾ أي ليكون حالهم عند من لا يعلم العواقب حال من ترجى هدايته، فأفهم جعلهم في ذلك في مقام الترجي أن فيهم من لم يهتد؛ قال ابن كثير: وبعد أن أنزل التوراة لم تهلك أمة بعامة بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين - انتهى. ولا يبعد على هذا أن يكون الضمير في ﴿لعلهم﴾ للقرون الحادثة المدلول عليها بقوله ﴿قروناً﴾ وربما أرشد إلى ذلك قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد
147
ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} [القصص: ٤٣] وقد ختم الهلاك العام بالإغراق كما فتح به، والنبيان اللذان وقع ذلك لهما دعا كل منهما على من عصاه، وكلاهما مثله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بدر في الشدة على العصاة بعمر رضي الله عنه الذي أطاعه النيل وأطاع جيشه الدجلة.
ولما كان من ذكر كلهم قد ردوا من جاءهم لإشعارهم استبعادهم لأن يكون الرسل بشراً، وكان بنو إسرائيل الذين أعزهم الله ونصرهم على عدوهم وأوضح لهم الطريق بالكتاب قد اتخذوا عيسى - مع كونه بشراً - إلهاً، اتبع ذلك ذكره تعجيباً من حال المكذبين في هذا الصعود بعد ذلك نزول في أمر من أرسلوا إليهم، وجرت على أيديهم الآيات لهدايتهم، فقال: ﴿وجعلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿ابن مريم﴾ نسبه إليها تحقيقاً لكونه لا أب له، وكونه بشراً محمولاً في البطن مولوداً لا يصلح لرتبة الإلهية؛ وزاد في حقيق ذلك بقوله: ﴿وأمه﴾ وقال: ﴿آية﴾ إشارة إلى ظهور الخوارق على أيديهما حتى كأنهما نفس الآية، فلا يرى منها شيء إلا وهو آية، ولو قال: آيتين، لكان ربما ظن أنه يراد حقيقة هذا العدد، ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكملت به آية القدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى
148
كآدم عليه السلام، ومن ذكر بلا أنثى كحواء عليها السلام، ومن أنثى بلا ذكر كعيسى عليه السلام، ومن الزوجين كبقية الناس، والمراد أن بني إسرائيل - مع الكتاب الذي هو آية مسموعة والنبي الذي هو آية مرئية - لم يهتد أكثرهم.
ولما كان أهل الغلو في عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام ربما تشبثوا من هذه العبارة بشيء، حقق بشريتهما واحتياجهما المنافي لرتبة الإلهية فقال: ﴿وآويناهما﴾ أي بعظمتنا لما قصد ملوك البلاد الشامية إهلاكهما ﴿إلى ربوة﴾ أي مكان عال من الأرض، وأحسن ما يكون النبات في الأماكن المرتفعة، والظاهر أن المراد بها عين شمس في بلاد مصر؛ قال ابن كثير: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ليس الربى إلا بمصر والماء حين يرسل تكون الربى عليها القرى، ولولا الربى غرقت القرى، وروي عن وهب بن منبه نحو هذا - انتهى. ﴿ذات قرار﴾ أي منبسط صالح لأن يستقر فيه لما فيه من المرافق ﴿ومعين﴾ أي ماء ظاهر للعين، ونافع كالماعون، فرع اشتق من أصلين، ولم يقدر من خالفه من الملوك وغيرهم على كثرتهم وقوتهم على قتله لا في حال صغره، ولا في حال كبره، كما مضى نقله عن
149
الإنجيل وصدقة عليه القرآن، مع كونه مظنة لتناهي الضعف بكونه، من أنثى فقط ولا ناصر له إلا الله، ومع ذلك فأنجح الله أمره وأمر من اتبعه، وخيب به الكافرين، ورفعه إليه ليؤيد به هذا الدين في آخر الزمان، ويكون للمؤمنين حينئذ فلاح لم يتقدمه مثله، وكان ذلك من إحسان خالقه ونعمته عليه.
ذكر شيء من دلائل كونه آية من الإنجيل:
قال يوحنا أحد المترجمين للإنجيل وأغلب السياق لمتى فإني خلطت كلام المترجمين الأربعة: ولما قرب عيد المظال قال إخوة يسوع أي الاثني عشر تلميذاً - له: تحول من ههنا إلى يهوذا ليرى تلاميذك الأعمال التي تعمل لأنه ليس أحد يعمل شيئاً سراً فيجب أن يكون علانية إذ كنت تعمل هذه الأشياء فأظهر نفسك للعالم، فقال لهم يسوع: أما وقتي فلم يبلغ، وأما وقتكم فإنه مستعد في كل حين، لم يقدر العالم أن يبغضكم وهم يبغضونني لأني أشهد عليهم أن أعمالهم شريرة، اصعدوا أنتم إلى هذا العيد، فإني لا أصعد الآن، ثم قال: ولما انتصف أيام العيد صعد يسوع إلى الهيكل فبدأ يعلم، وكان اليهود
150
ويتعجبون ويقولون: كيف يحسن هذا الكتاب ولم يعلمه أحد، فقال: تعليمي ليس هو لي، بل للذي أرسلني، فمن أحب أن يعمل مرضاته فهو يعرف تعليمي هو من الله أو من عندي؟ من يتكلم من عنده إنما يطلب المجد لنفسه، وأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم، أليس موسى أعطاكم الناموس وليس فيكم أحد يعمل بالناموس، ثم قال: وفي اليوم العظيم الذي هو آخر العيد كان يسوع قائماً ينادي: كل من يؤمن بي كما قالت الكتب تجري من بطنه أنهار ماء الحياة، وإن الجمع الكثير سمعوا كلامه فقالوا: هذا نبي حقاً، وآخرون قالوا: هذا هو المسيح، وآخرون قالوا: ألعل المسيح من الجليل يأتي؟ أليس قد قال الكتاب: إنه من نسل داود، من بيت لحم قرية داود خاصة يأتي المسيح، فوقع بين الجموع خوف من أجله، قال متى: حينئذ جاء إلى يسوع من يروشليم كتبة وفريسيون قائلين: لماذا تلاميذك يتعدون وصية المشيخة إذ لا يغسلون أيديهم عند أكلهم؛ وقال مرقس: ثم اجتمع إليه الفريسيون وبعض الذين جاؤوا من يروشليم فنظروا إلى تلاميذه يأكلون الطعام بغير غسل أيديهم، لأن الفريسيين
151
وكل اليهود لا يأكلون إلا بغسل أيديهم تمسكاً بتعليم شيوخهم والذين يشترونه من الأسواق إن لم يغسلوه لا يأكلونه، وأشياء أخر كثيرة تمسكوا بها من غسل كؤوس وأواني ومصاغ وأسرة، وسأله الكتبة والفريسيون: لم تلاميذك لا يسيرون على ما وصّت به المشيخة قال متى: فأجابهم وقال: لماذا أنتم تتعدون وصية الله من أجل سننكم، ألم يقل الله: أكرم أباك وأمك، والذي يقول كلاماً رديئاً في أبيه وأمه يستأصل بالموت، وأنتم تقولون: من قال لأبيه أو لأمه.
إن القربان شيء ينتفع به، فلا يكرم أباه وأمه، فأبطلتم كلام الله من تلقاء روايتكم؛ قال مرقس: وتفعلون كثيراً مثل هذا - انتهى. يا مراؤون حسناً يثني وقال مرقس: نعماً يثني عليكم أشعيا قائلاً: إن هذا لاشعب قرب مني ويكرمني بشفتيه،
152
وقلبه بعيد عني، يعبدونني باطلاً ويعلّمون تعليم وصايا الناس. ودعا الجمع وقال لهم: اسمعوا وافهموا، ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، لكن الذي يخرج من الفم ينجس الإنسان، حينئذ جاء إليه تلاميذه وقالوا: اعلم أن الفريسيين لما سمعوا الكلام شكوا، فأجابهم وقال: كل غرس لا يغرسه أبي السماوي يقلع، دعوهم فإنهم عميان يقودهم عميان، أجابه بطرس وقال: فسر لنا المثل! فقال: حتى أنتم لا تفهمون؟ أما تعلمون أن كل ما يدخل إلى الفم يصل إلى البطن وينطرد إلى المخرج، فأما الذي يخرج من الفم فهو يخرج من القلب، هذا الذي ينجس الإنسان، لأنه يخرج من القلب الفكر الشرير: القتل الزنى الفسق السرقة وشهادة الزور التجديف، هذا هو الذي ينجس الأنسان، وأما الأكل بغير غسل الأيدي وفليس ينجس الإنسان، وقال مرقس: إن كل ما كان خارجاً يدخل إلى فم الإنسان لا يقدر أن ينجسه لأنه لا يصل إلى القلب، بل إلى الجوف ويذهب إلى خارج، والذي يخرج من الإنسان هو الذي ينجس الإنسان، لأنه من داخل تخرج أفكار السوء: فجور الزنى قتل سرقة
153
شره شر غش فسق عين شريرة تجديف تعاظم جهل، هذا كله شر من داخل يخرج وينجس الإنسان انتهى. وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا: الأب - كما تقدم غير مرة.
ولما بين أن عيسى عليه السلام على منهاج إخوانه من الرسل في الأكل والعبادة، وجميع الأحوال، زاد في تحقيق ذلك بياناً لمن ضل بأن اعتقد فيه ما لا يليق به، فقال مخاطباً لجميعهم بعد إهلاك من عاندهم من قومهم على وجه يشمل ما قبل ذلك رداً لمن جعله موجباً لإنكار الرسالة، وتبكيتاً لمن ابتدع الرهبانية من أمة عيسى عليه السلام، إعلاماً بأن كل رسول قيل له معنى هذا الكلام فعمل به، فكانوا كأنهم نودوا به في وقت واحد، فعبر بالجمع ليكون أفخم له فيكون أدعى لقبوله: ﴿يا أيها الرسل﴾ من عيسى وغيره ﴿كلوا﴾ أنتم ومن نجيناه معكم بعد إهلاك المكذبين.
ولما علو عن رتبة الناس، فلم يكونوا أرضيين، لم يقل ﴿مما في الأرض﴾ [البقرة: ١٦٨] وعن رتبة الذين آمنوا، لم يقل ﴿من طيبات ما رزقناكم﴾ [البقرة: ١٧٢] ليكنوا عابدين نظراً إلى النعمة أو حذراً من النقمة، كما مضى بيانه في سورة البقرة، بل قال: ﴿من الطيبات﴾ أي الكاملة التي مننت عليكم بخلقها لكم وإحلالها وإزالة الشبه عنها وجعلها شهية للطبع، نافعة
154
للبدن، منعشة للروح، وذلك ما كان حلاًّ غير مستقذر لقوله تعالى ﴿يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث﴾ [الأعراف: ١٥٧]. ودل سبحانه على أن الحلال عون على الطاعة بقوله: ﴿واعملوا صالحاً﴾ أي سراً وجهراً غير خائفين من أحد، فقد أهلكت عدوكم وأورثتكم أرضكم، ولم يقيد عملكم بشكر ولا غيره، إشارة إلى أنه لوجهه ليس غير، فإنهم دائماً في مقام الشهود، في حضرة المعبود، والغنى عن كل سوى حتى عن الغنى، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله: ﴿إني بما﴾ أي بكل شيء ﴿تعملون عليم*﴾ أي بالغ العلم.
ولما كان هذا تعليلاً لما سبقه من الأمر، عطف على لفظه قوله: ﴿وإن﴾ بالكسر في قراءة الكوفيين، وعلى معناه لما كان يستحقه لو أبرزت لام العلة من الفتح في قراءة غيرهم ﴿هذه﴾ أي دعوتكم أيها الأنبياء المذكورين إجمالاً وتفصيلاً وملتكم المجتمعة على التوحيد أو الجماعة التي أنجيتها معكم من المؤمنين ﴿أمتكم﴾ أي مقصدكم الذي ينبغي أن لا توجهوا هممكم إلى غيره أو جماعة أتباعكم حال كونها ﴿أمة واحدة﴾ لا شتات فيها أصلاً، فما دامت متوحدة فهي مرضية ﴿وأنا ربكم﴾ أي المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي، فمن وحدني نجا، ومن كثر الأرباب هلك.
155
ولما كان الخطاب في هذه السورة كلها للخلص من الأنبياء ومن تبعهم من المؤمنين، قال: ﴿فاتقون*﴾ أي اجعلوا بينكم وبين غضبي وقاية من جمع عبادي بالدعاء إلى وحدانيتي بلا فرقة أصلاً، بخلاف سورة الأنبياء المصدرة بالناس فإن مطلق العبارة أولى بدعوتها.
156
ولما كان من المعلوم قطعاً أن التقدير: فاتقى الأنبياء الله الذي أرسلهم وتجشموا حمل ما أرسلهم به من عظيم الثقل، فدعوا العباد إليه وأرادوا جمعهم عليه، عطف عليه بفاء السبب قوله معبراً بفعل التقطع لأنه يفيد التفرق: ﴿فتقطعوا﴾ أي الأمم، وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم لأن الآية التي قبلها قد صرحت بأن الأنبياء ومن نجا معهم أمة واحدة لا اختلاف بينها، فعلم قطعاً أن الضمير للأمم ومن نشأ بعدهم، ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحداً أهم، فقدم قوله: ﴿أمرهم﴾ أي في الدين بعد أن كان مجتمعاً متصلاً ﴿بينهم﴾ فكانوا شيعاً، وهو معنى ﴿زبراً﴾ أي قطعاً، كل قطعة منها في غاية القوة والاجتماع والثبات على ما صارت إليه من الهوى والضلال، بكل شيعة طريقة في الضلال عن الطريق الأمم، والمقصد المستقيم،
156
وكتاب زبروه في أهويتهم ولم يرحموا أنفسهم بما دعتهم إليه الهداة من الاجتماع والألفة فأهلكوها بالبغضاء والفرقة، وهو منصوب بأنه مفعول ثان لتقطع على ما مضى تخريجه في الأنبياء، وقد ظهر كما ترى ظهوراً بيناً أن هذه إشارة إلى الناجين من أمة كل نبي بعد إهلاك أعدائهم، أي إن هذه الجماعة الذين أنجيتهم معكم أمتكم، حال كونهم أمة واحدة متفقين في الدين، لا خلاف بينهم، وكما أن جماعتكم واحدة فأنا ربكم لا رب لكم غيري فاتقون ولا يخالف أحد منكم أمري ولا تختلفوا وتفترقوا لئلا أعذب العاصي منكم كما عذبت أعداءكم.
ولما كان هذا مما لا يرضاه عاقل، أجيب من كأنه قال: هل رضوا بذلك مع انكشاف ضرره؟ بقوله: ﴿كل حزب﴾ أي فرقة ﴿بما لديهم﴾ أي من ضلال وهدى ﴿فرحون*﴾ أي مسرورون فضلاً عن أنهم راضون غير معرج الضال منهم على ما جاءت به الرسل من الهدى، ولا على الاعتبار بما اتفق لأممهم بسبب تكذيبهم من الردى.
ولما أنتج هذا أن الضلال وإن وضح لا يكشفه إلا ذو الجلال،
157
سبب عنه سبحانه قوله تسلية لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿فذرهم﴾ أي اتركهم على شر حالاتهم ﴿في غمرتهم﴾ أي الضلاله التي غرقوا فيها ﴿حتى حين*﴾ أي إلى وقت ضربناه لهم من قبل أن نخلقهم ونحن عالمون بكل ما يصدر منهم على أنه وقت يسير.
ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أن حالهم - في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد - حال الموعود لا المتوعد، أنكر ذلك عليهم تنبيهاً لمن سبقت له السعادة، وكتبت له الحسنى وزيادة، فقال: ﴿أيحسبون﴾ أي لضعف عقولهم ﴿أنما﴾ أي الذين ﴿نمدهم﴾ على عظمتنا ﴿به﴾ أي نجعله مدداً لهم ﴿من مال﴾ نيسره لهم ﴿وبنين*﴾ نمتعهم بهم، ثم أخبر عن «أن» بدليل قراءة السلمي بالياء التحتية فقال: ﴿نسارع لهم﴾ أي به بإدرارنا له عليهم في سرعة من يباري آخر ﴿في الخيرات﴾ التي لا خيرات إلا هي لأنها محمودة العاقبة، ليس كذلك بل هو وبال عليهم لأنه استدراج إلى الهلاك لأنهم غير عاملين بما يرضي الرحمن ﴿بل﴾ هم يسارعون في أسباب الشرور، ولا يكون عن السبب إلا مسببه، ولكنهم كالبهائم ﴿لا يشعرون*﴾ أنهم في غاية البعد عن الخيرات
{سنستدرجهم من
158
حيث لا يعلمون} [القلم: ٤٤].
ولما ذكر أهل الافتراق، أتبعهم أهل النفاق، فكان كأنه قيل: فمن الذي يكون له الخيرات؟ فأجيب بأنه الخائف من الله، فقيل معبراً بما يناسب أول السورة من الأوصاف، بادئاً بالخشية لأنها الحاملة على تجديد الإيمان: ﴿إن الذين هم﴾ أي ببواطنهم ﴿من خشية ربهم﴾ أي الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم ﴿مشفقون*﴾ أي دائمو الحذر ﴿والذين هم بآيات ربهم﴾ المسموعة والمرئية، لا ما كان من جهة غيره ﴿يؤمنون*﴾ لا يزال إيمانهم بها يتجدد شكراً لإحسانه إليهم.
ولما كان المؤمن قد يعرض له ما تقدم في إيمانه من شرك جلي أو خفي، قال: ﴿والذين هم بربهم﴾ أي الذي لا محسن إليهم غيره وحده ﴿لا يشركون*﴾ أي شيئاً من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في إحسانه إليهم أحد.
159
ولما أثبت لهم الإيمان الخالص، نفى عنهم العجب بقوله: ﴿والذين يؤتون ما آتوا﴾ أي يعطون ما أعطوا من الطاعات، وكذا قراءة يحيى بن الحارث وغيره: يأتون ما أتوا، أي يفعلون
159
ما فعلوا من أعمال البر لتتفق القراءتان في الإخبار عنهم بالسبق؛ ثم ذكر حالهم فقال: ﴿وقلوبهم وجلة﴾ أي شديدة الخوف، قد ولج في دواخلها وجال في كل جزء منها لأنهم عالمون بأنهم لا يقدرون الله حق قدره وإن اجتهدوا، ثم علل ذلك بقوله: ﴿أنهم إلى ربهم﴾ أي الذي طال إحسانه إليهم ﴿راجعون*﴾ بالبعث فيحاسبهم على النقير والقطمير، ويجزيهم بكل قليل وكثير وهو النافذ البصير، قال الحسن البصري: إن المؤمن حمع إيماناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً. ثم أثبت لهم ما أفهم أن ضده لأضدادهم فقال: ﴿أولئك﴾ أي خاصة ﴿يسارعون﴾ أي يسبقون سبق من يساجل آخر ﴿في الخيرات﴾ فأفهم ذلك ضد ما ذكر لأضدادهم بقوله: ﴿وهم لها﴾ أي إليها خاصة، أي إلى ثمراتها، ولكنه عبر باللام إشارة إلى زيادة القرب منها والوصول إليها مع الأمن لجعل الخيرات ظرفاً للمسارعة من أخذها على حقيقتها للتعدية ﴿سابقون*﴾ لجميع الناس، لأنا نحن نسارع لهم في المسببات أعظم من مسارعتهم في الأسباب، ويجوز أن يكون ﴿سابقون﴾ بمعنى: عالين، من وادي «سبقت رحمتي غضبي»
160
أي أنهم مطيقون لها ومعانون عليها ﴿ولا﴾ أي والحال أنا لا نكلفهم ولكنه عم فقال: ﴿نكلف نفساً﴾ أي كافرة ومؤمنة ﴿إلا وسعها﴾ فلا يقدر عاص على أن يقول: كنت غير قادر على الطاعة، ولا يظن بنا مؤمن أنا نؤاخذه بالزلة والهفوة، فإن أحداً لا يستطيع أن يقدرنا حق قدرنا لأن مبنى المخلوق على العجز.
ولما كانت الأعمال إذا تكاثرت وامتد زمنها تعسر أو تعذر حصرها إلا بالكتابة عامل العباد سبحانه بما يعرفون مع غناه عن ذلك فقال: ﴿ولدينا﴾ أي عندنا على وجه هو أغرب الغريب ﴿كتاب﴾ وعبر عن كونه سبباً للعلم بقوله: ﴿ينطق﴾ بما كتب فيه من أعمال العباد من خير وشر صغير وكبير ﴿بالحق﴾ أي الثابت الذي يطابقه الواقع، قد كتب فيه أعمالهم من قبل خلقهم، لا زيادة فيها ولا نقص، تعرض الحفظة كل يوم عليه ما كتبوه مما شاهدوه بتحقيق القدر له فيجدونه محرراً بمقاديره وأوقاته وجميع أحواله قيزدادون به إيماناً، ومن حقيته أنه لا يستطاع إنكار شيء منه.
ولما أفهم ذلك نفي الظلم، صرح به فقال: ﴿وهم﴾ أي الخلق
161
كلهم ﴿لا يظلمون*﴾ من ظالم ما بزيادة ولا نقص في عمل ولا جزاء.
ولما كان التقدير: ولكنهم بذلك لا يعلمون، قال: ﴿بل قلوبهم﴾ أي الكفرة من الخلق؛ ويجوز أن يكون هذا الإضراب بدلاً من قوله ﴿بل لا يشعرون﴾ ﴿في غمرة﴾ أي جهالة قد أغرقتها ﴿من هذا﴾ أي الذي أخبرنا به من الكتاب الحفيظ فهم به كافرون ﴿ولهم أعمال﴾ وأثبت الجار إشارة إلى أنه لا عمل لهم يستغرق الدون فقال: ﴿من دون ذلك﴾ أي مبتدئة من أدنى رتبة التكذيب من سائر المعاصي لأجل تكذيبهم بالكتاب المستلزم لتكذيبهم بالبعث المستلزم لعدم الخوف المستلزم للإقدام على كل معضلة ﴿هم لها﴾ أي دائماً ﴿عاملون*﴾ لا شيء يكفهم إلا عجزهم عنها.
ولما كانوا كالبهائم لا يخافون من المهلكة إلا عند المشاهدة، غيَّى عملهم للخبائث بالأخذ فقال: ﴿حتى إذا أخذنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿مترفيهم﴾ الذين هم الرؤساء القادة ﴿بالعذاب﴾ فبركت عليهم كلاكله، وأناخت بهم أعجازه وأوائله ﴿إذا هم﴾ كلهم المترف ومن تبعه من باب الأولى ﴿يجئرون*﴾ أي يصرخون ذلاًّ وانكساراً وجزعاً من غير مراعاة لنخوة، لا استكباراً، وأصل الجأر رفع الصوت
162
بالتضرع - قاله البغوي، فكأنه قيل: فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم؟ فقيل: لا بل يقال لهم بلسان الحال أو القال: ﴿لا تجئروا اليوم﴾ بعد تلك الهمم، فإن الرجل من لا يفعل شيئاً عبثاً، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنكم منا﴾ أي خاصة ﴿لا تنصرون*﴾ أي بوجه من الوجوه، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصراً، فلا فائدة لجؤاره إلا إظهار الجزع؛ ثم علل عدم نصره لهم بقوله: ﴿قد كانت آياتي﴾.
ولما كانت عظمتها التي استحقت بها الإضافة إليه تكفي في الحث على الإيمان بمجرد سماعها، بنى للمفعول قوله: ﴿تتلى عليكم﴾ أي وهي أجلى الأشياء، من أوليائي وهم الهداة النصحاء ﴿فكنتم﴾ أي كوناً هو كالجبلة ﴿على أعقابكم﴾ عند تلاوتها ﴿تنكصون*﴾ أي ترجعون القهقرى إما حساً أو معنى، والماشي كذلك لا ينظر ما وراءه، ومضارعه فيه مع الكسر الضم ولم يقرأ به ولو شاذاً، دلالة على أنه رجوع كبر وبطر فهو بالهوينا، ولو قرىء بالضم لدل على القوة فأفهم النفرة والهرب، قال في القاموس: نكص على عقبيه ينكص وينكص: رجع عما كان عليه من خير، وفي الشر قليل، وعن الأمر نكصاً ونكوصاً ونكاصاً.
163
أو على ما ذكرت دلالة على ما تقديره: حال كونكم ﴿مستكبرين به﴾ أي بذلك النكوص، لا شيء غير الاستكبار من هرب أو غيره، ذوي سمر في أمرها بالقول الهجر، وهو الفاحش، ولعله إنما قال: ﴿سامراً﴾ بلفظ المفرد لأن كلاًّ منهم يتحدث في أمر الآيات مجتمعاً مع غيره ومنفرداً مع نفسه حديثاً كثيراً كحديث المسامر الذي من شأنه أن لا يمل؛ وقال: ﴿تهجرون*﴾ أي تعرضون عنها وتقولون فيها القول الفاحش، فأسنده إلى الجمع لأن بعضهم كان يستمعها، ولم يكن يفحش القول فيها، أو تعجيباً من أن يجتمع جمع على مثل ذلك لأن الجمع جدير بأن يوجد فيه من يبصر الحق فيأمر به.
164
ولما كانت الآيات - لما فيها من البلاغة المعجزة، والحكم المعجبة داعية إلى تقبلها بعد تأملها، وكانوا يعرضون عنها ويفحشون في وصفتها تارة بالسحر وأخرى بالشعر، وكرة بالكهانة ومرة بغيرها، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم فقال معرضاً عنهم إيذاناً بالغضب مسنداً إلى الجمع الذي هو أولى بإلقاء السمع: ﴿أفلم يدبروا القول﴾ أي المتلو عليهم بأن ينظروا في أدباره وعواقبه ولو لم يبلغوا في نظرهم
164
الغاية بما أشار إليه الإدغام، ليعلموا أنه موجب للإقبال والوصال، والوصف بأحسن المقال، لعله عبر بالقول إشارة إلى أن من لم يتقبله ليس بأهل لفهم شيء من القول بل هو في عداد البهائم ﴿أم جاءهم﴾ في هذا القول من الأوامر بالتوحيد الآتي بها الرسول الذي هو من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وما ترتب على ذلك من الأوامر التي لا يجهل حسم فعلها عاقل، والنواهي التي - كما يشهد بقبح إتيانها العالم - يقطع بها الجاهل، وبالرسالة برسول من البشر ﴿ما لم يأت آباءهم الأولين*﴾ الذين بعد إسماعيل وقبله.
ولما كان الرجل الكامل من عرف الرجال بالحق، بدأ بما أشار إليه ثم أعقبه بمن يعرف الشيء للألف به، ثم بمن يعرف الحق بالرجال فقال: ﴿أم لم يعرفوا رسولهم﴾ أي الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله، ويعرفوا نسبه وصدقه وأمانته، وما فاتهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه - إذا حقت الحقائق - نقيصة يذكرونها، ولا صمة يتخيلونها، كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فهم﴾ أي فتسبب عن جهلهم به أنهم ﴿له﴾ أي نفسه أو للقول الذي أتى به ﴿منكرون*﴾ فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به، فلم يحرز
165
شيئاً من رتبتي الناس، لا رتبة العلماء الناقدين، ولا رتبة الجهال المتقلدين، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبعنادهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل ثم يكذبونه.
ولما فرغ بما قد يجر إلى الطعن في القول أو القائل، أشار إلى العناد في أمر القائل والقول والرسول بقوله: ﴿أم يقولون﴾ أي بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن ﴿به﴾ أي برسولهم ﴿جنة﴾ أي فلا يوثق به لأنه قد يخلط فيأتي بما فيه مطعن وإن خفي وجه الطعن فيه في الحال.
ولما كانت هذه الأقسام منتفية ولا سيما الأخير المستلزم عادة للتخليط المستلزم للباطل، فإنهم أعرف الناس بهذا الرسول الكريم وأنه أكملهم خلقاً، وأشرفهم خلقاً، وأطهرهم شيماً، وأعظمهم همماً، وأرجحهم عقلاً، وأمتنهم رأياً وأرضاهم قولاً، وأصوبهم فعلاً، اضرب عنها وقال: ﴿بل﴾ أي لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى، وإنما فعلوا ذلك لأن هذا الرسول الكريم ﴿جاءهم بالحق﴾ الذي لا تخليط فيه بوجه، ولا شيء أثبت منه ولا أبين مما فيه من التوحيد والأحكام، ولقد أوضح ذلك تحديهم بهذا الكتاب فعجزوا فهو بحيث لا يجهله منصف ﴿وأكثرهم﴾ أي والحال أن أكثرهم ﴿للحق كارهون*﴾ متابعة
166
للأهواء الرديئة والشهوات البهيمية عناداً، وبعضهم، يتركونه جهلاً وتقليداً أو خوفاً من أن يقال: صبأ، وبعضهم يتبعه توفيقاً من الله وتأييداً.
ولما كان ربما قيل: ما له ما كان بحسب أهوائهم فكانوا يتبعونه ويستريح ويستريحون من هذه المخالفات، التي جرت إلى المشاحنات، فأوجبت أعظم المقاطعات، قال مبيناً فساد ذلك، ولعله حال من فاعل كاره، فإن جزاءه خبري مسوغ لكونه حالاً كما ذكره الشيخ سعد الدين في بحث المسند، أو هو معطوف على ما تقديره: فلو تركوا الكره لأحبوه ولو أحبوه لاتبعوه ولو اتبعوه لانصلحوا وأصلحوا ﴿ولو اتبع الحق﴾ أي في الأصول والفروع والأحوال والأقوال ﴿أهواءهم﴾ أي شهواتهم التي تهوي بهم لكونها أهواء - بما أشار إليه الافتعال ﴿لفسدت السماوات﴾ على علوها وإحكامها ﴿والأرض﴾ على كثافتها وانتظامها ﴿ومن فيهن﴾ على كثرتهم وانتشارهم وقوتهم، بسبب ادعائهم تعدد الآلهة، ولو كان ذلك حقاً لأدى ببرهان التمانع إلى الفساد، وبسبب اختلاف أهوائهم واضطرابها المفضي إلى النزاع كما ترى من الفساد عند اتباع بعض الأغراض في بعض الأزمان إلى أن يصلحها الحق بحكمته، ويقمعها بهيبته وسطوته، ولكنا لم نتبع الحق
167
أهواءهم ﴿بل أتيناهم﴾ بعظمتنا ﴿بذكرهم﴾ وهو الكتاب الذي في غاية الحكمة، ففيه صلاح العلم وتمام انتظامه، فإذا تأمله الجاهل صده عن جهله فسعد في أقواله وأفعاله، وبان له الخير في سائر أحواله، وإذا تدبره العالم عرج به إلى نهاية كماله، فحينئذ يأتي السؤال عمن أنزله، فتخضع الرقاب، وعمن أنزل عليه فيعظم في الصدور، وعن قومه فتجلهم النفوس، وتنكس لمهابتهم الرؤوس، فيكون لهم أعظم ذكر وأعلى شرف.
ولما جعلوا ما يوجب الإقبال سبباً للإدبار، قال معجباً منهم: ﴿فهم عن ذكرهم﴾ أي الذي هو شرفهم ﴿معرضون*﴾ لا يفوتنا بإعراضهم مراد، ولا يلحقنا به ضرر، إنما ضرره عائد إليهم، وراجع في كل حال عليهم.
ولما أبطل تعالى وجوه طعنهم في المرسل به والمرسل من جهة جهلهم مرة، ومن جهة ادعائهم البطلان أخرى، نبههم على وجه آخر هم أعرف الناس ببطلانه ليثبت المدعى من الصحة إذا انتفت وجوه المطاعن فقال منكراً: ﴿أم تسألهم﴾ أي على ما جئتهم به ﴿خرجاً﴾ قال
168
البغوي: أجراً وجعلاً، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم: والخرج والخراج شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم، والخراج غلة العبد والأمة، وقال الزجاج: الخراج: الفيء، والخرج: الضريبة والجزية، وقال الأصبهاني: سئل أبو عمرو بن العلاء فقال: الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه، والخرج ما تبرعت به من غير وجوب.
ولما كان الإنكار معناه النفي، حسن موقع فاء السبب في قوله: ﴿فخراج﴾ أي أم تسألهم ذلك ليكون سؤالك سبباً لاتهامك وعدم سؤالك، بسبب أن خراج ﴿ربك﴾ الذي لم تقصد غيره قط ولم تخل عن بابه وقتاً ما ﴿خير﴾ من خراجهم، لأن خراجه غير مقطوع ولا ممنوع عن أحد من عباده المسيئين فكيف بالمحسنين! وكأنه سماه خراجاً إشارة إلى أنه أوجب رزق كل أحد على نفسه بوعد لا خلف فيه ﴿وهو خير الرازقين*﴾ فإنه يعلم ما يصلح كل مرزوق وما يفسده، فيعطيه على حسب ما يعلم منه ولا يحوجه إلى سؤال.
169
ولما كانت عظمة الملك مقتضية لتقبل ما أتى به والتشرف به على أيّ حال كان، نبه على أنه حق يكسب قبوله الشرف لو لم يكن من عند الملك فكيف إذا كان من عنده، فكيف إذا كان ملك الملوك ومالك الملك فكيف إذا كان الآتي به خالصة العباد وأشرف
169
الخلق، كما قام عليه الدليل بنفي هذه المطاعن كلها، فقال عاطفاً على ﴿آتيناهم﴾ :﴿وإنك﴾ أي مع انتفاء هذه المطاعن كلها ﴿لتدعوهم﴾ أي بهذا الذكر مع ما قدمنا من الوجوه الداعية إلى اتباعك بانتفاء جميع المطاعن عنك وعما جئت به ﴿إلى صراط مستقيم*﴾ لا عوج فيه ولا طعن أصلاً كما تشهد به العقول الصحيحة، فمن سلكه أوصله إلى الغرض فحاز كل شرف، والحال أنهم، ولكنه عبر بالوصف الحامل لهم على العمى فقال: ﴿وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ فلذلك لا يخشون القصاص فيها ﴿على الصراط﴾ أي الذي لا صراط غيره لأنه لا موصل إلى القصد غيره ﴿لناكبون*﴾ أي عادلون متنحون مائلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج أصلاً، بل خبط عشواء لأنه يجوز أن يراد مطلق الصراط وأن يراد النكرة الموصوفة بالاستقامة.
ولما وصفوا بالميل، وكان ربما قال قائل: إن جؤارهم المذكور آنفاً سلوك في الصراط، بين أنه لا اعتداد به لعروضه فقال: ﴿ولو رحمناهم﴾ أي عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى ﴿وكشفنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿ما بهم من ضر﴾ وهو الذي عرض جؤارهم بسببه ﴿لَلَجّوا﴾ أي تمادوا تمادياً عظيماً
170
﴿في ظغيانهم﴾ الذي كانوا عليه قبل الجؤار وهو إفراطهم في منابذة الحق والاستقامة ﴿يعمهون*﴾ أي يفعلون من التحير والتردد فعل من لا بصيرة له في السير المنحرف عن القصد، والجائر عن الاستقامة، قال ابن كثير: فهذا من باب علمه بما لا يكون لو كان كيف كان يكون، قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما فيه «لو» فهو مما لا يكون أبداً. ثم أتبع هذا الدليل تأييداً له ما يدل على أنهم لا يسلكون الصراط إلا اضطراراً فقال: ﴿ولقد أخذناهم﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿بالعذاب﴾ أي بمطلقه كإظهار حزب الله عليهم في بدر وغيرها ﴿فما استكانوا﴾ أي خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم ﴿لربهم﴾ المحسن إليهم عقب المحنة، وحقيقته ما طلبوا أن يكونوا له ليكرموا مقام العبودية من الذل والخضوع والانقياد لأوامره تاركين حظوظ أنفسهم، والحاصل أنه لما ضربهم بالعذاب كان من حقهم أن يكونوا له لا لشركائهم، فما عملوا بمقتضى ذلك إيجاداً ولا طلباً ﴿وما يتضرعون*﴾ أي يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة، بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو إلا إذا التقت حلقتا البطان، ولم يبق لهم نوع
171
اختيار، بدليل ما أرشد إليه حرف الغاية من أن التقدير: بل استمروا على عتوهم ﴿حتى إذا فتحنا﴾ أي بما لنا من العظمة، ودل على أنه فتح عذاب فقال: ﴿عليهم باباً﴾ من الأبواب التي نقهر بها من شئنا بحيث يعلوه أمرها ولا يستطيع دفعها ﴿ذا عذاب شديد﴾ يعني القتل والأسر يوم بدر - قاله ابن عباس رضي الله عنهما، أو القحط الذي سلطه عليهم إجابة لدعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:
«اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» ﴿إذا هم فيه﴾ أي ذلك الباب مظروفون لا يقدرون منه على نوع خلاص ﴿مبلسون*﴾ أي متحيرون ساكنون على ما في أنفسهم آئسون لا يقدرون أن ينطقوا بكلمة، داخلون في الإبلاس وهو عدم الخير، متأهلون لسكنى «بولس» وهو سجن جهنم، لعدم جعلهم التضرع وصفاً لهم لازماً غير عارض، والخوف من الله شعاراً دائماً غير مفارق، استحضاراً لقدرته واستكباراً لعظمته؛ ثم التفت إلى خطابهم، استعطافاً بعتابهم، لأنه عند التذكير بعذابهم أقرب إلى إيابهم، فقال: ﴿وهو﴾ أي ما استكانوا لربهم والحال أنه هو لا غيره ﴿الذي أنشأ لكم﴾ يا من يكذب بالآخرة، على غير مثال سبق ﴿السمع والأبصار﴾ ولعله جمعها لأن التفاوت فيها
172
أكثر من التفاوت في السمع ﴿والأفئدة﴾ التي هي مراكز العقول، فكنتم بها أعلى من بقية الحيوانات، جمع فؤاد، وهو القلب لتوقده وتحرقه، من التفؤد وهو التحرق، وعبر به هنا لأن السياق للاتعاظ والاعتبار، وجمعه جمع القلة إشارة إلى عزة من هو بهذه الصفة، ولعله جمع الأبصار كذلك لاحتمالها للبصيرة.
ولما صور لهم هذا النعم، وهي بحيث لا يشك غافل في أنه لا مثل لها، وأنه لو تصور أن يعطي شيئاً منها آدمي لم يقدر على مكافأته، حسن تبكيتهم في كفر المنعم بها فقال: ﴿قليلاً ما تشكرون*﴾ لمن أولاكم هذه النعم التي لا مثل لها، ولا يقدر غيره على شيء منها، مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد، فكنتم بذلك أنزل من الحيوانات العجم صماً بكماً عمياً.
173
ولما ذكرهم بهذه النعم التي هي دالة على خلقهم، صرح به في قوله: ﴿وهو﴾ أي وحده ﴿الذي ذرأكم﴾ أي خلقكم وبثكم ﴿في الأرض﴾ ولما ذكرهم بإبدائهم المتضمن للقدرة على إعادتهم مع ما فيها من الحكمة وفي تركها من الإخلال بها، صرح بها فقال: ﴿وإليه﴾ أي وحده ﴿تحشرون*﴾ يوم النشور.
173
ولما تضمن ذلك إحياءهم وإماتتهم، صرح به على وجه عام فقال: ﴿وهو﴾ أي وحده ﴿الذي﴾ من شأنه أنه ﴿يحيي ويميت﴾ فلا مانع له من البعث ولا غيره مما يريده. ولما كانت حقيقة البعث إيجاد الشيء كما هو بعد إعدامه، ذكرهم بأمر طالما لا بسوه وعالجوه ومارسوه فقال: ﴿وله﴾ أي وحده، لا لغيره ﴿اختلاف الليل والنهار﴾ أي التصرف فيهما على هذا الوجه، يوجد كلاًّ منهما بعد أن أعدمه كما كان سواء، فدل تعاقبهما على تغيرهما، وتغيرهما بذلك وبالزيادة والنقص على أن لهما مغيراً لا يتغير وأنه لا فعل لهما وإنما الفعل له وحده، وأنه قادر على إعادة المعدوم كما قدر على ابتدائه بما دل على قدرته وبهذا الدليل الشهودي للحامدين، ولذلك ختمه بقوله منكراً تسبيبَ ذلك لعدم عقلهم: ﴿أفلا تعقلون*﴾ أي يكون لكم عقول لتعرفوا ذلك فتعملوا بما تقتضيه من اعتقاد البعث الذي يوجب سلوك الصراط.
ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري النفي، حسن بعده كل الحسن قوله: ﴿بل﴾ وعدل إلى أسلوب الغيبة للإيذان بالغضب بقوله: ﴿قالوا﴾ أي هؤلاء العرب ﴿مثل ما قال الأولون*﴾ من قوم نوح ومن بعده؛ ثم استأنف قوله: ﴿قالوا﴾ أي منكرين للبعث متعجبين
174
من أمره: ﴿أإذا متنا وكنا﴾ أي بالبلى بعد الموت ﴿تراباً وعظاماً﴾ نخرة، ثم أكدوا الإنكار بقولهم: ﴿أإنا لمبعوثون*﴾ أي من باعث ما.
ولما كان محط العناية في هذه السورة الخلق والإيجاد، والتهديد لأهل العناد، حكى عنهم أنهم قالوا: ﴿لقد وعدنا﴾ مقدماً قولهم: ﴿نحن وآباؤنا﴾ على قولهم: ﴿هذا﴾ أي البعث ﴿من قبل﴾ بخلاف النمل، فإن محط العناية فيها الإيمان بالآخرة فلذلك قدم قوله «هذا»، والمراد وعد آبائهم على ألسنة من أتاهم من الرسل غير أن الإخبار بشموله جعله وعداً للكل على حد سواء، ثم استأنفوا قولهم: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هذا إلا أساطير الأولين*﴾ أي كذب لا حقيقة له، لأن ذلك معنى الإنكار المؤكد.
ولما أنكروا البعث هذا الإنكار المؤكد، ونفوه هذا النفي المحتم، أمره أن يقررهم بأشياء هم بها مقرون، ولها عارفون، يلزمهم من تسليمها الإقرار بالبعث قطعاً، فقال: ﴿قل﴾ أي مجيباً لإنكارهم
175
البعث ملزماً لهم: ﴿لمن الأرض﴾ أي على سعتها وكثرة عجائبها ﴿ومن فيها﴾ على كثرتهم واختلافهم ﴿إن كنتم﴾ أي بما هو كالجبلة لكم ﴿تعلمون*﴾ أي أهلاً للعلم، وكأنه تنبيه لهم على أنهم أنكروا شيئاً لا ينكره عاقل.
ولما كانوا مقرين بذلك، أخبر عن جوابهم قبل جوابهم، ليكون من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بقوله استئنافاً: ﴿سيقولون﴾ أي قطعاً: ذلك كله ﴿لله﴾ أي المختص بصفات الكمال. ولما كان ذلك دالاً على الوحدانية والتفرد بتمام القدرة من وجهين: كون ذلك كله له، وكونه يخبر عن عدوه بشيء فلا يمكنه التخلف عنه، قال: ﴿قل﴾ أي لهم إذا قالوا لك ذلك منكراً عليهم تسبيبه لعدم تذكرهم ولو على أدنى الوجوه بما أشار إليه الإدغام: ﴿أفلا تذكرون*﴾ أي بذلك المركوز في طباعكم المقطوع به عندكم، ما غفلتم عنه من تمام قدرته وباهر عظمته، فتصدقوا ما أخبر به من البعث الذي هو دون ذلك، وتعلموا أنه لا يصلح شيء منها - وهو ملكه - أن يكون شريكاً له
176
ولا ولداً، وتعلموا أنه لا يصح في الحكمة أصلاً أنه يترك البعث لأن أقلكم لا يرضى بترك حساب عبيده والعدل بينهم.
ولما ذكرهم بالعالم السفلي لقربه، تلاه بالعلوي لأنه أعظم فقال على ذلك المنوال مرقياً لهم إليه: ﴿قل من رب﴾ أي خالق ومدبر ﴿السماوات السبع﴾ كما تشاهدون من حركاتها وسير نجومها ﴿ورب العرش العظيم *﴾ الذي أنتم به معترفون ﴿سيقولون لله﴾ أي الذي له كل شيء هو رب ذلك - على قراءة البصريين، والتقدير لغيرهما: ذلك كله لله، لأن معنى من رب الشيء: لمن الشيء، فتفيد اللام الملك صريحاً مع إفادة الرب التدبير.
ولما تأكد الأمر وزاد الوضوح، حسن التهديد على التمادي فقال: ﴿قل﴾ منكراً عليهم عدم تسبيبه لهم التقوى: ﴿أفلا تتقون*﴾ أي تجعلون بينكم وبين حلول السخط من هذا الواسع الملك التام القدرة وقاية بالمتاب من إنكار شيء يسير بالنسبة إلى هذا الملك العظيم هين عليه.
177
ولما قررهم بالعالمين: العلوي والسفلي، أمره بأن يقررهم بما هو أعم منهما وأعظم، فقال: ﴿قل من بيده﴾ أي خاصة ﴿ملكوت كل شيء﴾ أي من العالمين وغيرهما، والملكوت
177
الملك البليغ الذي لا نقص فيه بوجه؛ قال ابن كثير: كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحداً لا يخفر في جواره وليس لمن دونه أن يجيرعليه لئلا يفتات عليه. ولو أجار ما أفاد، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وهو يجير﴾ أي يمنع ويغيث من يشاء فيكون في حرزه، لا يقدر أحد على الدنو من ساحتة ﴿ولا يجار عليه﴾ أي ولا يمكن أحداً أبداً أن يجير جواراً يكون مستعلياً عليه بأن يكون على غير مراده، بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق، ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب، فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه، ولا ولد يصانعه أو يضارعه؛ وقال ابن كثير: وهو السيد المعظم الذي لا أعظم منه الذي له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولما كان هذا برهاناً مع أنه ظاهر لا يخفى على أحد، قد يمجمج فيه من له غرض في اللدد، ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله: ﴿إن كنتم﴾ أي كوناً راسخاً ﴿تعلمون*﴾ أي في عداد من يعلم، ولذلك استأنف قوله: ﴿سيقولون لله﴾ أي الذي بيده ذلك، خاصاً به، والتقدير لغير البصريين: ذلك كله لله،
178
لأن اليد أدل شيء على الملك.
ولما كان جوابهم بذلك يقتضي إنكار توقفهم في الإقرار بالبعث، استأنف قوله: ﴿قل﴾ منكراً عليهم تسبيب ذلك لهم ادعاء أنه سحر، أو صرف عن الحق كما يصرف المسحور ﴿فأنّى تسحرون*﴾ أي فكيف بعد إقراركم بهذا كله تدعون أن الوعيد بالبعث سحر في قولكم: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون، ومن أين صار لكم هذا الاعتقاد وقد أقررتم بما يلزم منه شمول العلم وتمام القدرة؟ ومن أين تتخيلون الحق باطلاً، أو كيف تفعلون فعل المسحور بما تأتون به من التخطيط في الأقوال والأفعال، وتخدعون وتصرفون عن كل ما دعا إليه؟
ولما كان الإنكار بمعنى النفي، حسن قوله: ﴿بل﴾ أي ليس الأمر كما يقولون، لم نأتهم بسحر بل، أو يكون المعنى: ليس هو أساطير، بل ﴿أتيناهم﴾ فيه على عظمتنا ﴿بالحق﴾ أي الكامل الذي لا حق بعده، كما دلت عليه «ال» فكل ما أخبر به من التوحيد والبعث وغيرهما فهو حق ﴿وإنهم لكاذبون*﴾ في قولهم: إنه سحر لا حقيقة له، وفي كل ما ادعوه من الولد والشريك وغيرهما مما بين القرآن فساده
179
كما لزمهم بما أقروا به في جواب هذه الأسئلة الثلاثة.
ولما كان من أعظم كذبهم ما أشار إليه قوله تعالى ﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولداً﴾ [مريم: ٨٨] قال: ﴿ما اتخذ الله﴾ أي الذي لا كفوء له، وأعرق في النفي بقوله: ﴿من ولد﴾ لا من الملائكة ولا من غيرهم، لما قام من الأدلة على غناه، وأنه لا مجانس له، ولما لزمهم بإقرارهم أنه يجير ولا يجار عليه، وأن له السماوات والأرض ومن فيهما.
ولما كان الولد أخص من مطلق الشريك قال: ﴿وما كان﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿معه﴾ فأفاد بفعل الكون نفي الصحة لينتفي الوجود بطريق الأولى ﴿من إله﴾ وزاد «من» لتأكيد النفي؛ ولما لزمهم الكذب في دعوى الإلهية بولد أو غيره من إقرارهم هذا، أقام عليه دليلاً عقلياً ليتطابق الإلزامي والعقلي فقال: ﴿إذاً﴾ أي إذ لو كان معه إله آخر ﴿لذهب كل إله بما خلق﴾ بالتصرف فيه وحده ليتميز ما له مما لغيره ﴿ولعلا بعضهم﴾ أي بعض الآلهة ﴿على بعض﴾ إذا تخالفت أوامرهم، فلم يرض أحد منهم أن يضاف ما خلقه إلى غيره، ولا أن يمضي فيه أمر على غير مراده، كما هو مقتضى العادة، فلا يكون المغلوب إلهاً لعجزه، ولا يكون مجيراً غير مجار
180
عليه، بيده وحده ملكوت كل شيء، وفي ذلك إشارة إلى أنه لو لم يكن ذلك الاختلاف لأمكن أن يكون، فكان إمكانه كافياً في إبطال الشركة لما يلزم ذلك من إمكان العجز المنافي للإلهية، كما بين في الأنبياء.
ولما طابق الدليل الإلزام على نفي الشريك، نزه نفسه الشريفة بما هو نتيجة ذلك بقوله: ﴿سبحان الله﴾ أي المتصف بجميع صفات الكمال، المنزه عن كل شائبة نقص ﴿عما يصفون*﴾ من كل ما لا يليق بجنابه المقدس من الشريك والولد وغيره؛ ثم أقام دليلاً آخر على كماله بوصفه بقوله: ﴿عالم الغيب﴾ ولما كان العلم بذلك لا يستلزم علم الشهادة كما للنائم قال: ﴿والشهادة﴾ ولا عالم بذلك غيره.
ولما كان من الواضح الجلي أنه لا مدعي لذلك، ومن ادعاه غيره بأن كذبه لا محالة، وأن من تم علمه تمت قدرته، فاتضح تفرده كما بين في طه، تسبب عنه قوله: ﴿فتعالى﴾ أي علا العالم المشار إليه علواً عظيماً ﴿عما يشركون*﴾ فإنه لا علم لشيء منه فلا قدرة ولا
181
صلاحية لرتبة الإلهية.
182
ولما أقام الدليل على كذبهم بالأدلة على عظمته، وتعاليه عن كل ما يقول الظالمون، وبين لهم الأمر غاية البيان بعد أن هددهم بمثل قوله وما يشعرون ﴿حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب﴾ ونحوه من مثل ما أنزله بالماضين، وأحله بالمكذبين، وكان من المعلوم أنه ليس بعد الإعذار إلا إيقاع القضاء وإنزال البلاء، وكان من الممكن أن يعم سبحانه الظالم وغيره بعذابه لأنه لا يسأل عما يفعل، أمره أن يتعوذ من ذلك إظهاراً لعظمة الربوبية ذل العبودية فقالك ﴿قل رب﴾ أي أيها المحسن إليّ، وأكد إظهاراً لعظمة المدعو به وإعلاماً بما للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مزيد الشفقة على أمته مؤمنهم وكافرهم ﴿إما تريني﴾ أي إن كان ولا بد من أن تريني قبل موتي ﴿ما يوعدون*﴾ ثم نبهه على الزيادة في الضراعة بتكرير النداء بصفة الإحسان تعبداً وتخشعاً، وتذللاً وتخضعاً، إشارة إلى أن الله سبحانه له أن يفعل ما يشاء، فينبغي لأقرب خلقه إليه أن يكون على غاية الحذر منه فقال: ﴿رب فلا تجعلني﴾ بإحسانك إليّ وفضلك عليّ فيهم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف تعميماً للدعوة وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: ﴿في القوم الظالمين*﴾ أي الذين أعمالهم أعمال من يمشي في الظلام، فهي في غير مواضعها، فضلاً عن أن أكون منهم فإنه
182
يوشك أن يخصهم العذاب ويعم من جاورهم لوخامة الظلم وسوء عاقبته.
ولما أرشد التعبير بأداة الشك إلى أن التقدير: فإنا على العفو عنهم وعلى الإملاء لهم لقادرون، عطف عليه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب المتضمن للطعن في القدرة وهم المقصودون بالتهديد: ﴿وإنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿على أن نريك﴾ أي قبل موتك ﴿ما نعدهم﴾ من العذاب ﴿لقادرون*﴾ ولما لاح من هذا أن أخذهم وتأخيرهم في الإمكان على حد سواء، وكانوا يقولون ويفعلون ما لا صبر عليه إلا بمعونة من الله، كان كأنه قال: فماذا أفعل فيما تعلم من أمرهم؟ فقال آمراً له بمداواته: ﴿ادفع﴾ وفخم الأمر بالموصول لما فيه من الإيهام المشوق للبيان ثم بأفعل التفضيل فقال: ﴿بالتي هي أحسن﴾ أي من الأقوال والأفعال بالصفح والمداراة ﴿السيئة﴾ ثم خفف عنه ما يجد من ثقلها بقوله: ﴿نحن أعلم﴾ أي من كل عالم ﴿بما يصفون*﴾ في حقك وحقنا، فلو شئنا منعناهم منه أو عاجلناهم بالعذاب وليس أحد بأغير منا فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
ولما كان الصبر عليه لا يطاق إلا به سبحانه، أمره بالدعاء بذلك فقال: ﴿وقل رب﴾ أيها المحسن إليّ ﴿أعوذ بك﴾ أي ألتجىء إليك
183
﴿من همزات الشياطين*﴾ أي أن يصلوا إليّ بوساوسهم التي هي كالنخس بالمهماز في الإقحام في السيئات البعد عن مطلق الحسنات، فكيف بالأحسن منها كما سلطتهم على الكافرين تؤزهم إلى القبائح أزاً ﴿وأعوذ بك رب﴾ أي أيها المربي لي ﴿أن يحضرون*﴾ أي ولو لم تصل إليّ وساوسهم فإن حضورهم هلكة، وبعدهم بركة، لأنهم مطبوعون على الفساد لا ينفكون عنه.
ولما كان أضر أوقات حضورهم ساعة الموت، وحالة الفوت، فإنه وقت كشف الغطاء، عما كتب من القضاء، وآن اللقاء، وتحتم السفول أو الارتقاء، عقب ذلك بذكره تنبيهاً على بذل الجهد في الدعاء والتضرع للعصمة فيه فقال معلقاً بقوله تعالى: ﴿بل لا يشعرون﴾ أو بمبلسون، منبهاً بحرف الغاية على أنه سبحانه يمد في أزمانهم استدراجاً لهم: ﴿حتى﴾ أو يكون التقدير كما يرشد إليه السياق: فلا أكون من الكافرين المطيعين للشياطين حتى ﴿إذا جاء﴾ وقدم المفعول ليذهب الوهم في فاعله كل مذهب فقال: ﴿أحدهم الموت﴾ فكشف له الغطاء، وظهر له الحق، ولاحت له بوارق العذاب، ولم يبق في شيء من ذلك ارتياب ﴿قال﴾ مخاطباً لملائكة العذاب على عادة جهله ووقوفه مع المحسوس
184
دأب البهائم: ﴿رب ارجعون*﴾ أي إلى الدنيا دار العمل؛ ويجوز أن يكون الجمع لله تعالى وللملائكة، أو للتعظيم على عادة في مخاطبات الأكابر لا سيما الملوك، أو لقصد تكرير الفعل للتأكيد.
ولما كان في تلك الحالة على القطع من اليأس من النجاة لليأس من العمل لفوات داره مع وصوله إلى حد الغرغرة قال: ﴿لعلي أعمل﴾ أي لأكون على رجاء من أن أعمل ﴿صالحاً فيما تركت﴾ من الإيمان وتوابعه؛ قال البغوي: قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع ليعمل بطاعة الله، فرحم الله امرأً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب. وقال ابن كثير: كان العلاء بن زياد يقول: لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله عز وجل.
ولما كان القضاء قد قطع بأنه لا يرجع، ولو رجع لم يعمل قال ردعاً له ورداً لكلامه: ﴿كلا﴾ أي لا يكون شيء من ذلك، فكأنه
185
قيل: فما حكم ما قال؟ فقال معرضاً عنه إيذاناً بالغضب: ﴿إنها كلمة﴾ أي مقالته ﴿رب ارجعون﴾ - إلى آخره، كلمة ﴿هو قائلها﴾ وقد عرف من الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها.
ولما كان التقدير: فهو لا يجاب إليها، عطف عليه قوله، جامعاً معه كل من ماثله لأن عجز الجمع يلزم منه عجز الواحد: ﴿ومن ورائهم﴾ أي من خلفهم ومن أمامهم محيط بهم ﴿برزخ﴾ أي حاجز بين ما هو فيه وبين الدنيا والقيامة مستمر لا يقدر أحد على رفعه ﴿إلى يوم يبعثون*﴾ أي تجدد بعثهم بأيسر أمر وأخفه وأهونه.
186
ولما غيَّى ذلك بالبعث فتشوفت النفس إلى ما يكون بعده، وكان قد تقدم أن الناس - بعد أن كانوا أمة واحدة في الاجتماع على ربهم - تقطعوا قطعاً، وتحزبوا أحزاباً، وتعاضدوا بحكم ذلك وتناصروا، قال نافياً لذلك: ﴿فإذا نفخ﴾ أي بأسهل أمر النفخة الثانية وهي نفخة النشور، أو الثالثة للصعق ﴿في الصور﴾ فقاموا من القبور
186
أو من الصعق ﴿فلا أنساب﴾ وهي أعظم الأسباب ﴿بينهم﴾ يذكرونها يتفاخرون بها ﴿يومئذ﴾ لما دهمهم من الأمر وشغلهم من البأس ولحقهم من الدهش ورعبهم من الهول وعلموا من عدم نفعها إلا ما أذن الله فيه، بل يفر الإنسان من أقرب الناس إليه، وإنما أنسابهم الأعمال الصالحة ﴿ولا يتساءلون*﴾ أي في التناصر لأنه انكشف لهم أن لا حكم إلا الله وأنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً، فتسبب عن ذلك أنه لا نصرة إلا بالأعمال رحم الله بالتيسير لها ثم رحم بقبولها، فلذلك قال: ﴿فمن ثقلت موازينه﴾ أي بالأعمال المقبولة، ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزاناً يعرف أنه لا يصلح له غيره، وذلك أدل على القدرة ﴿فأولئك﴾ أي خاصة، ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد الدلالة على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد ﴿هم المفلحون*﴾ لأنهم المؤمنون الموصوفون ﴿ومن خفت موازينه﴾ لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان ﴿فأولئك﴾ خاصة ﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال؛ ثم علل ذلك أو بينه بقوله: ﴿في جهنم خالدون*﴾ وهي دار لا ينفك أسيرها، ولا ينطفىء سعيرها؛
187
ثم استأنف قوله: ﴿تلفح﴾ أي تغشى بشديد حرها وسمومها ووهجها ﴿وجوههم النار﴾ فتحرقها فما ظنك بغيرها ﴿وهم فيها كالحون*﴾ أي متقلصو الشفاه عن الأسنان مع عبوسة الوجوه وتجعدها وتقطبها شغل من هو ممتلىء الباطن كراهية لما دهمه من شدة المعاناة وعظيم المقاساة في دار التجهم، كما ترى الرؤس المشوية، ولا يناقض نفي التساؤل هنا إثباته في غيره لأنه في غير تناصر بل في التلاوم والتعاتب والتخاصم على أن المقامات في ذلك اليوم طويلة وكثيرة، فالمقالات والأحوال لأجل ذلك متباينة وكثيرة، وسيأتي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سورة الصافات نحو ذلك.
188
ولما جرت العادة بأن المعذب بالفعل يضم إليه القيل، أجيب من قد يسأل عن ذلك بقوله: ﴿ألم﴾ أي يقال لهم في تأنيبهم وتوبيخهم: ألم ﴿تكن آياتي﴾ التي انتهى عظمها إلى أعلى المراتب بإضافتها إليّ. ولما كان مجرد ذكرها كافياً في الإيمان، نبه على ذلك بالبناء للمفعول: ﴿تتلى عليكم﴾ أي تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئاً فشيئاً. ولما كانت سبباً للإيمان فجعلوها سبباً للكفران، قال: ﴿فكنتم﴾ أي كوناً أنتم عريقون فيه ﴿بها تكذبون*﴾ وقدم الظرف
188
للإعلام بمبالغتهم في التكذيب؛ ثم استأنف جوابهم بقوله: ﴿قالوا ربنا﴾ أيها المسبغ علينا نعمه ﴿غلبت علينا شقوتنا﴾ أي أهواؤنا التي قادتنا إلى سوء الأعمال اليت كانت سبباً ظاهراً للشقاوة.
ولما كان التقدير: فكنا معها كالمأسورين، تؤزنا إليها الشياطين أزاً، عطف عليه قوله ﴿وكنا﴾ أي بما جبلنا عليه ﴿قوماً ضالين*﴾ في ذلك عن الهدى، أقوياء في موجبات الشقوة، فكان سبباً للضلال عن طريق السعادة.
ولما تضمن هذا الإقرار الاعتذار، وكان ذلك ربما سوغ الخلاص، وصلوا به قولهم: ﴿ربنا﴾ يا من عودنا بالإحسان ﴿أخرجنا منها﴾ أي النار تفضلاً منك على عادة فضلك، وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك ﴿فإن عدنا﴾ إلى مثل تلك الضلالات ﴿فإنا ظالمون*﴾ فاستؤنف جوابهم بأن ﴿قال﴾ لهم كما يقال للكلب: ﴿اخسئوا﴾ أي انزجروا زجر الكلب وانطردوا عن مخاطبتي ساكتين سكوت هوان ﴿فيها﴾ أي النار ﴿ولا تكلمون*﴾ أصلاً، فإنكم لستم أهلاً لمخاطبتي، لأنكم لم تزالوا متصفين بالظلم، ومنه سؤالكم هذا المفهم لأن اتصافكم به لا يكون إلا على تقدير عودكم بعد إخراجكم.
ولما كانت الشماتة أسر السرور للشامت وأخزى الخزي للمشموت به،
189
علل ذلك بقوله: ﴿إنه كان﴾ أي كوناً ثابتاً ﴿فريق﴾ أي ناس استضعفتموهم فهان عليكم فراقهم لكم وفراقكم لهم وظننتم أنكم تفرقون شملهم ﴿من عبادي﴾ أي الذين هم أهل للإضافة إلى جنابي لخلوصهم عن الأهواء ﴿يقولون﴾ مع الاستمرار: ﴿ربنا﴾ أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق ﴿آمنا﴾ أي أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل لوجوب ذلك علينا لأمرك لنا به.
ولما كان عظم المقام موجباً لتقصير العابد، وكان الاعتراف بالتقصير جابراً له قالوا: ﴿فاغفر لنا﴾ أي استر بسبب إيماننا عيوبنا التي كان تقصيرنا بها ﴿وارحمنا﴾ أي افعل بنا فعل الراحم من الخير الذي هو على صورة الحنو والشفقة والعطف.
ولما كان التقدير: فأنت خير الغافرين، فإنك إذا سترت ذنباً أنسيته لكل أحد حتى للحفظة، عطف عليه قوله: ﴿وأنت خير الراحمين*﴾ لأنك تخلص مَنْ رحمته من كل شقاء وهوان، بإخلاص الإيمان، والخلاص من كل كفران.
ولما تسبب عن إيمان هؤلاء زيادة كفران أولئك قال:
190
﴿فاتخذتموهم سخرياً﴾ أي موضعاً للهزء والتلهي والخدمة لكم، قال الشهاب السمين في إعرابه: والسخرة - بالضم: الاستخدام، وسخريا - بالضم منها والسخر بدون هاء - الهزء والمكسور منه يعني على القراءتين وفي النسبة دلالة على زيادة قوة في الفعل كالخصوصية والعبودية ﴿حتى أنسوكم﴾ أي لأنهم كانوا السبب في ذلك بتشاغلكم بالاستهزاء بهم واستبعادهم ﴿ذكري﴾ أي أن تذكروني فتخافوني بإقبالكم بكليتكم على ذلك منهم.
ولما كان التقدير: فتركتموه فلم تراقبوني في أوليائي، عطف عليه قوله: ﴿وكنتم﴾ أي بأخلاق هي كالجبلة ﴿منهم﴾ أي خاصة ﴿تضحكون*﴾ كأنهم لما صرفوا قواهم إلى الاستهزاء بهم عد ضحكهم من غيرهم عدماً.
191
ولما تشوفت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم، قال: ﴿إني جزيتهم﴾ أي مقابلة على عملهم ﴿اليوم بما صبروا﴾ أي على عبادتي، ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم كما كما شغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم، فوزَهم دونكم، وهو معنى قوله: ﴿أنهم هم﴾ أي خاصة ﴿الفائزون*﴾ أي
191
الناجون الظافرون بالخير بعد الإشراف على الهلكة، وغير العبارة لإفادة الاختصاص والوضوح والرسوخ، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف.
ولما كان الفائز - وهو الظافر - من لم يحصل له بؤس في ذلك الأمر الذي فاز به، وكان قد أشار سبحانه بحرف الغاية وما شاكله إلى أنه مد لأهل الشقاء في الدنيا في الأعمار والأرزاق حتى استهانوا بعبادة السعداء، فكان ربما قيل: إن أعداءهم فازوا بالاستهزاء بهم والرفعة عليهم في حال الدنيا، وكان سبحانه قد أسلف ما يرد ذلك من الإخبار بأنه خلدهم في النار وأعرض عنهم وزجرهم عن كلامه، وكان أنعم أهل الدنيا إذا غمس في النار غمسة ثم سئل عن نعيمه قال: ما رأيت نعيماً قط، فكان ذلك محزاً لتقريع الأشقياء بسبب تضيع أيامهم وتنديمهم عليها. تشوف السامع إلى أنه هل يسألهم عن تنعيمه لهم في الدنيا الذي كان جديراً منهم بالشكر فقابلوه بالكفر والاستهزاء بأوليائه؟ فأجاب تشوفه ذلك مجهلاً لهم ومندماً ومنبهاً على الجواب أن فوزهم في الدنيا - لقلته التي هي أحقر من قطرة في جنب بحر - عدم، بقوله: ﴿قال﴾ تأسيفاً على ما أضاعوا من عبادة يسيرة تؤرثهم سعادة لا انقضاء لها
192
وارتكبوا من لذة قليلة أعقبتهم بؤساً لا آخر له - هذا على قراءة الجماعة، وبين سبحانه بقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي أن القول بواسطة بعض عباده الذين أقامهم لتعذيبهم إعراضاً عنهم تحقيقاً لما أشار إليه ﴿ولا تكلمون﴾ فقال: ﴿قل﴾ أي يا من أقمناه للانتقام ممن أردنا أي لهؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا على ما يرون من قصر مدتها ولعبها بأهلها فكفروا بنا واستهزؤوا بعبادنا: ﴿كم لبثتم في الأرض﴾ على تلك الحال التي كنتم تعدونها فوزاً ﴿عدد سنين*﴾ أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون، ولعله عبر بما منه الإسنات الذي معناه القحط إشارة إلى أن أيام الدنيا ضيقة حرجة وإن كان فيها سعة، ولا سيما للكفرة بكفرهم وخبثهم ومكرهم الذي جرهم إلى أضيق الضيق وأسوأ العيش ﴿قالوا﴾ استقصاراً له في جنب ما رأوا من العذاب واستنقاذاً لأنفسهم ظناً أن مدة لبثهم في النار تكون بمقدار مكثهم في الدنيا: ﴿لبثنا يوماً﴾ ولعلهم ذكروا العامل تلذذاً بطول الخطاب، أو تصريحاً بالمراد دفعاً للبس والارتياب، ثم زادوا في التقليل فقالوا: ﴿أو بعض يوم﴾.
ولما كان المكرة في الدنيا إذا أرادوا تمشية كذبهم قالوا لمن
193
أخبروه فتوقف في خبرهم: سل فلاناً، إيثاقاً بإخبارهم، وستراً لعوارهم، جروا على ذلك تمادياً منهم في الجهل بالعليم القدير في قولهم: ﴿فاسأل﴾ أي لتعلم صدق خبرنا أو بسبب ترددنا في العلم بحقيقة الحال لتحرير حقيقة المدة ﴿العادين*﴾ ويحتمل أيضاً قصد الترقيق عليهم بالإشارة إلى أن ما هم فيه من العذاب شاغل لهم عن أن يتصوروا شيئاً حاضراً محسوساً، فضلاً عن أن يكون ماضياً، فضلاً عن أن يكون فكرياً، فكيف إن كان حساباً.
194
ولما كان ذلك على تقدير تسليمه لا ينفعهم لأن الجزاء بالعذاب على عزمهم على التمادي في العناد على مرّ الآباد، المصدق منهم بالانهماك في الفساد، أجابهم إلى قصدهم في عدهم بعبارة صالحة صادقة على مدة لبثهم طال أو قصر، بقوله على طريق الاستئناف لمن تشوف إلى معرفة جوابهم: ﴿قال﴾ أي الله على قراءة الجماعة، وبينت قراءة حمزة والكسائي أن إسناد القول إليه سبحانه مجاز عن قول بعض عباده العظماء فقال على طريق الأول: ﴿قل﴾ أي لهؤلاء الذين وقع الإعراض عنهم ﴿إن﴾ أي ما ﴿لبثتم﴾ أي في الدنيا
194
﴿إلا قليلاً﴾ أي هو من القلة بحيث لا يسمى بل هو عدم ﴿لو أنكم كنتم﴾ أي كوناً هو كالجبلة ﴿تعلمون*﴾ أي في عداد من يعلم في ذلك الوقت، لما آثرثم الفاني على الباقي، ولأقبلتم على ما ينفعكم، وتركتم الخلاعة التي لا يرضاها عاقل، ولا يكون على تقدير الرضا بفعلها إلا بعد الفراغ من المهم، ولكنكم كنتم في عداد البهائم، وفي ذلك تنبيه للمؤمنين الذين هم الوارثون على الشكر على ما منحهم من السرور بإهلاك أعدائهم وإيراثهم أرضهم وديارهم، مع إعزازهم والبركة في أعمارهم، بعد إراحتهم منهم في الدنيا، ثم بإدامة سعادتهم في الآخرة وشقاوة أعدائهم.
ولما كان حالهم في ظنهم أن لا بعث، حتى اشتغلوا بالفرح، والبطر والمرح، والاستهزاء بأهل الله، حال من يظن العبث على الله الملك الحق المبين، سبب عن ذلك عطفاً على قوله ﴿فاتخذتموهم سخرياً﴾ إنكاره عليهم في قوله: ﴿أفحسبتم﴾ ويجوز أن يكون معطوفاً على مقدر نحو: أحسبتم أنا نهملكم فلا ننصف مظلومكم من ظالمكم، فحسبتم ﴿أنما خلقناكم﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿عبثاً﴾ أي عابثين أو للعبث منا أو منكم، لا لحكمة إظهار العدل والفضل، حتى اشغلتم بظلم أنفسكم وغيركم؛ قال أبو حيان: والعبث:
195
اللب الخالي عن فائدة. ﴿وأنكم﴾ أي وحسبتم أنكم ﴿إلينا﴾ أي خاصة ﴿لا ترجعون*﴾ بوجه من الوجوه لإظهار القدرة والعظمة في الفصل، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو يعلى الموصلي في الجزء الرابع والعشرين من مسنده والبغوي في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رقى رجلاً مصاباً بهذه الآية إلى آخر السورة في أذنيه فبرأ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده! لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال» وفي سندهما ابن لهيعة. قال ابن كثير: وروى أبو نعيم عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث عن أبيه رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا ﴿أفحسبتم﴾ - الآية، قال: فقرأناها فغنمنا وسلمنا.
ولما كان التقدير: ليس الأمر كما حسبتم، علل ذلك بقوله: ﴿فتعالى الله﴾ أي علا الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن العبث؛ ثم وصفه بما ينافي العبث فقال: ﴿الملك﴾ أي المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة، وحفظاً ورعاية.
ولما كان بعض ملوك الدنيا قد يفعل ما ينافي شيم الملوك من العبث بما فيه من الباطل، أتبع ذلك بصفة تنزهه عنه فقال: ﴿الحق﴾.
196
أي الذي لا تطرق للباطل إليه في شيء من ذاته ولا صفاته، فلا زوال له ولا لملكه فأنّى يأتيه العبث.
ولما كان الحق من حيث هو قد يكون له ثان. نفى ذلك في حقه تعالى بقوله: ﴿لا إله إلا هو﴾ فلا يوجد له نظير أصلاً في ذات ولا صفة، ومن يكون كذلك يكون حائزاً لجميع أوصاف الكمال، وخلال الجلال والجمال، متعالياً عن سمات النقص، والعبث من أدنى صفات النقص، لخلوه عن الحكمة التي هي أساس الكمال؛ ثم زاد في التعيين والتأكيد للتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره فقال: ﴿رب العرش﴾ أي السرير المحيط بجميع الكائنات، العالي عليها علواً لا يدانيه شيء؛ ثم وصف العرش لأنه في سياق الحكم بالعدل والتنزه عن العبث بخلاف سياق براءة والنمل فإنه للقهر والجبروت بقوله: ﴿الكريم*﴾ أي الذي تنزل منه الخيرات الحاصلة للعباد، مع شرف جوهره، وعلى رتبته، ومدحه أبلغ مدح لصاحبه، والكريم من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها وتنزه عن كل دناءة؛ قال القزاز: وأصل الكرم في اللغة الفضل والرفعة. ولما كان التقدير: فمن دعا الله وحده فأولئك هم المفلحون الوارثون في الدارين، عطف عليه قوله: ﴿ومن يدع مع الله﴾ أي الملك الذي كفوء له لإحاطته بجميع صفات
197
الكمال ﴿إلهاً﴾ ولما كانوا لتعنتهم ينسبون الداعي له سبحانه باسمين أو أكثر إلى الشرك، قيد بقوله: ﴿آخر﴾ ثم أيقظ من سنة الغفلة، ونبه على الاجتهاد والنظر في أيام المهلة، بقول لا أعدل منه ولا أنصف فقال: ﴿لا برهان له﴾ ولما كان المراد ما يسمى برهاناً ولو على أدنى الوجوه الكافية، عبر بالباء سلوكاً لغاية الإنصاف دون «على» المفهمة للاستعلاء بغاية البيان فقال: ﴿به﴾ أي بسبب دعائه فإنه إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد، بل وجد البراهين كلها قائمة على نفي ذلك، داعية إلى الفلاح باعتقاد التوحيد والصلاح، هذا المراد، لا أنه يجوز أن يقوم على شيء غيره برهان ﴿فإنما حسابه﴾ أي جزاؤه الذي لا تمكن زيادته ولا نقصه ﴿عند ربه﴾ الذي رباه، ولم يربه أحد سواه، وغمره بالإحسان، ولم يحسن إليه أحد غيره، الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته منه نفسه، فلا يخفى عليه شيء من أمره.
ولما أفهم كون حسابه عند هذا المحسن أحد أمرين: إما الصفح بدوام الإحسان، وإما الخسران بسبب الكفران، قال على طريق الجواب لمن يسأل عن ذلك: ﴿إنه لا يفلح﴾ ووضع ﴿الكافرون*﴾ موضع ضميره تنبيهاً على كفره وتعميماً للحكم، فصار أول السورة
198
وآخرها مفهماً لأن الفلاح مختص به المؤمنون.
ولما كان الأمر كذلك، أمر سبحانه نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاجتهاد في إنقاذ عباده حتى بالدعاء لله في إصلاحهم ليكون الختم بالرحمة للمؤمنين، كما كان الافتتاح بفلاحهم، فقال عاطفاً على قوله ﴿ادفع بالتي هي أحسن﴾ فإنه لا إحسان أحسن من الغفران، أو على معنى ﴿قال كم لبثتم﴾ الذي بينته قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي بالأمر: ﴿وقل﴾، أو يكون التقدير: فأخلص العبادة له ﴿وقل﴾ لأجل أن أحداً لا يقدره حق قدره: ﴿رب﴾ أيها المحسن إليّ ﴿اغفر وارحم﴾ أي أكثر من تعليق هاتين الصفتين في أمتي لتكثرها، فإن في ذلك شرفاً لي ولهم، فأنت خير الغافرين ﴿وأنت خير الرّاحمين*﴾ فَمنْ رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة، فكان من المؤمنين، فكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن، وخيبة كل كافر، نسأل الله تعالى أن يكون لنا أرحم راحم وخير غافر، إنه المتولي للسرائر، والمرجو لإصلاح الضمائر - آمين.
199
مقصودها مدلول اسمها المودع قلبها المراد منه أنه تعالى شامل العلم، اللازم منه تمام القدرة، اللازم منه إثبات الأمور على غاية الحكمة، اللازم منه تأكيد الشرف للنبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، اللازم منه شرف من اختاره لصحبته على منازل قربهم منه واختصاصهم به، اللازم منه غاية النزاهة والشرف والطهارة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي مات النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وهو عنها راض، وماتت هي رضي الله عنها صالحة محسنة، وهذا هو المقصود بالذات ولكن إثباته محتاج إلى تلك المقدمات) بسم الله (الذي تمت كلمته فبهرت قدرته) الرحمن (الذي ظهرت الحقائق كلها بشمول رحمته) الرحيم (الذي شرف من اختاره بخدمته.
لما تقدم في التي قبلها تحريم الزنى والحث على الصيانة، وختم تلك الآية بذكر الجنة المتضمن للبعث، استدل عليه وذكر ما يتبعه من تهديد وعمل إلى أن فرغت السورة وأخبر في آخرها بتبكيت
200
المعاندين يوم الندم بقوله)) ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون () [المؤمنون: ١٠٥] وبقوله)) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً () [المؤمنون: ١١٥] كل ذلك رحمة منه لخلقه ليرجع منهم من قضى بسعادته، ثم ختم بقوله)) وأنت خير الراحمين () [المؤمنون: ١١٨] فابتدأ سبحانه هذه السورة بأنه منَّ على المخاطبين ببيان ما خلقوا له من الأحكام لنهم لم يخلقوا سدى، بل لتكاليف تعبدهم بها ترفع التنازع وتحسم مادة الشر، فتوجب الرحمة والعطف بسلامة الصدر بما فيهم من الجنسية، فقال مخبراً عن مبتدإ تقديره: هذه
201
Icon