ﰡ
مكية، سبع وسبعون آية، ثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة، ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وستون حرفا
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ أي تعالى الله الذي نزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم في ذاته وصفاته وأفعاله، فتعالت ذاته عن جواز التغيّر والفناء. وعن مشابهة شيء من الممكنات وتعالت صفاته عن حدوث، وتعالت أفعاله عن عبث.
ومن جملة أفعاله تنزيل القرآن المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية والإتيان بعنوان العبد إعلام بكون سيدنا محمد في أقصى مراتب العبودية، لِيَكُونَ أي ذلك العبد أو الذي نزل الفرقان لِلْعالَمِينَ أي المكلفين من الثقلين نَذِيراً (١) أي مخوفا من عذاب الله بالقرآن الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بدل من الموصول الأول أو خبر مبتدأ محذوف وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً عطف على الصلة. وهذا رد على النصارى واليهود وبعض مشركي العرب الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ أي في ملك السموات والأرض فهو المنفرد بالإلهية. وهذا معطوف على الصلة أيضا وهو رد على الثنوية وعباد الأصنام والنجوم، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) أي أحدث كل موجود إحداثا جاريا على طريق التقدير بحسب ما اقتضته إرادته وهيّأه لما أراد به مما يصلح له مثاله أنه تعالى خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المستوي الذي تراه فيقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في باب الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة، فقدره لأمر ما، ومصلحة ما موافقا لما قدر غير متأخر عنه. وَاتَّخَذُوا أي المنذرون من كفار مكة كأبي جهل وأصحابه مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أي جعلوا لأنفسهم متجاوزين الله غيره آلهة لا يقدرون على خلق شيء أصلا، وَهُمْ يُخْلَقُونَ كسائر المخلوقات وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا يقدرون لأنفسهم على دفع ضرر ما وعلى جلب نفع ما فمن لا ينفع نفسه لا ينفع غيره، وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) أي ولا يقدرون على اماتة الأحياء واحياء الموتى، وبعثهم، فالا له يجب أن يكون
قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث فهو الذي قال هذا القول وأعانه عليه عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر، وهؤلاء كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرءون التوراة، ويحدثون أحاديث منها في مكة، فلما أسلموا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتعهدهم، فزعم النضر أنهم يلقون اليه صلّى الله عليه وسلّم أخبار الأمم الماضية، وهو صلّى الله عليه وسلّم يعبر عنها بعبارات من عنده، فهذا معنى اعانتهم له فمن أجل ذلك قال النضر ما قال، فرد الله تعالى ذلك بقوله تعالى فَقَدْ جاؤُ أي قائلو هذه المقالة ظُلْماً عظيما حيث جعلوا الحق البحت إفكا مفترى من قبل البشر وَزُوراً (٤) أي كذبا كبيرا حيث نسبوا إليه صلّى الله عليه وسلّم ما هو بريء منه.
وَقالُوا أي النضر وأصحابه: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها أي هذا القرآن ما سطره المتقدمون من الخرافات انتسخها محمد بن عداس ويسار وجبر، أي أمرهم بكتابتها له وقراءتها عليه لأنه أمي فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) أي فتلك الأساطير تقرأ على محمد بعد طلبه منهم كتابتها غدوة وعشيا ليحفظها من أفواههم من ذلك المكتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة. وهذا على قول جمهور المفسرين فإن قوله: تُمْلى ألخ من كلام القوم الكافرين.
وقال الضحاك: معنى قولهم ذلك: وما يملى على محمد بكرة يقرأه عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة خلافا للحسن حيث قال: إن ذلك من محض كلام الله تعالى ذكره جوابا عن قولهم كأنه تعالى قال: إن هذه الآيات تلقى عليه صلّى الله عليه وسلّم بالوحي مني حالا بعد حال، فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين، قُلْ لهم ردا عليهم: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ليس ذلك القرآن مما يفتعل بإعانة قوم وكتابتهم من الأحاديث الملفقة، بل هو أمر سماوي أنزله الله الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء فيعلم ما تسرونه من كيدكم لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق، وما تقولونه زور، ويعلم براءة رسوله مما تتهمونه به وهو مجازيكم على ما علم منكم وما علم منه. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) أي إنما أنزل القرآن لأجل الإنذار فوجب أن يكون غير مستعجل في العقوبة. وهذا تنبيه على أنهم استحقوا بمكايدتهم هذه أن يصب الله عليهم العذاب صبا، ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفورا رحيما فيمهلهم ولا يعجل عليهم العذاب. وَقالُوا أي أبو جهل وأصحابه، والنضر وأصحابه، وأمية ابن خلف وأصحابه:
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي سبب حصل لهذا الذي يدّعي الرسالة حال كونه يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما نفعله، فمن أين له
وقرأ الأعمش وقتادة «يكون» بالياء التحتية، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل» بالنون.
وَقالَ الظَّالِمُونَ أي المشركون أبو جهل، والنضر، وأمية وأصحابهم للمؤمنين: إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون أيها المؤمنون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (٨) أي مختل النظر والعقل انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي انظر يا أفضل الخلق كيف اشتغل القوم بضرب هذه التي لا فائدة فيها من الأقوال العجيبة الخارجة عن العقول، فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٩) أي فأرادوا القدح في نبوتك، فضلوا عن طريق المحاجة، فلم يجدوا سبيلا إلى القدح في نبوتك وفي معجزاتك، وضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه. تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ أي تكاثر خير من الذي إن شاء جَعَلَ لَكَ في الدنيا شيئا خَيْراً لك مِنْ ذلِكَ الذي قالوه جَنَّاتٍ أي بساتين كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) أي بيوتا مشيدة رفيعة في الدنيا، فقوله تعالى: جَنَّاتٍ بدل من خير.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر برفع «يجعل» على أنه معطوف على جواب الشرط، لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع، أو مستأنف بوعد ما يكون له صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة. وقرأ الباقون بإدغام لام «يجعل» في لام «لك» إما بتقدير الجزم على أنه معطوف على محل جواب الشرط وهو جزم، أو بتقدير الرفع، وإنما سكن اللام لأجل الإدغام، فعلى الرفع حسن الوقف على «الأنهار» فإن المعنى: وسيجعل لك قصورا في الآخرة وعلى الجزم لا يحسن الوقوف على «الأنهار» فإن المعنى: إن شاء يجعل لك قصورا في الدنيا.
روي عن طاوس عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس وجبريل عليه السلام عنده قال جبريل عليه السلام: هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحدا قبلك ولا يعطيها أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئا، وبين أن يجمعها لك في الآخرة فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بل يجمعها جميعا في الآخرة» «١» فنزل قوله تعالى:
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ الآية.
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ. وهذا جواب ثالث كأنه تعالى قال: ليس ما تعلقوا به شبهة علمية في نفس المسألة لأنهم لا يعتقدون فيك كذبا بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بوجود
وقرأه ابن كثير بسكون الياء مُقَرَّنِينَ في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم دَعَوْا هُنالِكَ أي في ذلك المكان ثُبُوراً (١٣) بأن يقولوا: يا ثبور هذا زمانك ويتمنوا موتا.
وقال الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهيب والأعلون يخفضهم الداخلون، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال ابن عمر: إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح.
وتقول لهم: خزنة جهنم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أي لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) فإن ما أنتم فيه من العذاب مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن لغاية شدته وطول مدته قُلْ لهم تحسيرا على ما فاتهم: أَذلِكَ السعير التي هيئت لمن كذب بوجود القيامة خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ التي لا ينقطع نعيمها الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي التي وعدها من يجتنبون الكفر. وهذا يحسن في مقام التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فأبى واستكبر، فضربه ضربا وجيعا وقال له على سبيل التوبيخ، هذا أحب إليك أم ذاك كانَتْ أي تلك الجنة لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) أي مسكنا فما وعد الله به فهو كائن لا بد من وقوعه، فكأنه قد كان، ولأنه كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمان متطاولة: أن الجنة جزاؤهم ومستقرهم. لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ فكل فريق منهم مشتغل بما فيه من اللذات فلا يلتفتون إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية، وفي هذا تنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة. خالِدِينَ حال من الهاء في «لهم» فإن من شرط نعيم الجنة أن يكون دائما إذ لو انقطع لكان مخلوطا بنوع من الغم كنعيم الدنيا، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق» فقيل: وما هو يا رسول الله؟ فقال: «سرور يوم»
كانَ أي ما يشاءونه عَلى رَبِّكَ يا أفضل الخلق وَعْداً مَسْؤُلًا (١٦) أي موعودا مطلوبا لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، فإن المكلفين سألوه بلسان الحال، لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته تعالى كان ذلك قائما مقام السؤال وما في «على» من معنى الوجوب لاستحالة الخلف في وعده تعالى، فإن تعلق إرادته تعالى بالوعود متقدم على الوعد الموجب للإنجاز، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ.
وقرأ ابن كثير وحفص بالياء. والباقون بالنون وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غيره، أي ويوم القيامة يحشر الله العابدين لغير الله ومعبوديهم فَيَقُولُ. قرأ ابن عامر بالنون.
والباقون بالياء كأن يخلق في الأصنام الحياة فينطقها أو كأن جوابها بلسان الحال كما ذكره بعضهم
وقرئ شاذة بالياء، أي كذبوكم بقولهم: سُبْحانَكَ الآية. فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً. وقرأ حفص بالتاء على الخطاب، أي فما تستطيعون أيها الكفار صرف الأصنام والملائكة عن شهادتهم عليكم ولا نصر أنفسكم في إضافة الصدق إلى أنفسكم ولا تستطيعون دفع العذاب عنكم ولا منعه عنكم بأنفسكم ولا بغيركم. وقرأ الباقون بالياء على الغيبة أي فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب ويحتالوا لكم، ولا أن ينصروكم بوجه من الوجوه.
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) أي ومن يكفر منكم يا معشر المؤمنين، أو ومن يستمر منكم يا معشر الكفار على ما أنتم عليه من الكفر والعناد نذقه عذابا كبيرا في الدنيا والآخرة والعامة. قرءوا «نذقه» بنون العظمة. وقرئ بالياء والضمير عائد لله تعالى أو للظلم المفهوم من الفعل على سبيل المجاز بإسناد إذاقة العذاب إلى السبب وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ و «إن» مكسورة باتفاق العشرة و «اللام» لام
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي لا يؤملون وعدنا على الطاعة من الثواب فلا يخافون العقاب لكفرهم بالبعث. وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ إلخ.
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي هلا أنزلوا علينا بطريق الرسالة أَوْ نَرى رَبَّنا فيخربنا بصدق محمد في رسالته. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي أنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه.
وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) أي تجاوزوا الحد في الظلم حتى اجترءوا على هذا القول العظيم الشنيع.
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ منصوب بعامل دل عليه «لا بشرى» أي يبغون البشرى يوم يرون ملائكة العذاب قائلين: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي الكافرين في كل الأوقات فإنهم يشافهون في أول الأمر بما يدل على نهاية اليأس والخيبة، فذلك هو النهاية في الإيلام وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) أي يقول الكافرون الذين طلبوا نزول الملائكة إذا رأوا الملائكة وفزعوا منهم عند الموت: ويوم القيامة حجرا محجورا وهي كلمة كانوا يقولونها عند لقاء العدو ونزول شدة، ويضعونها موضع الاستعاذة. والمعنى: نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعا. وقيل: يقول الحفظة للكفار، إذا خرجوا من قبورهم: حجرا محجورا. ومعناه جعل الله الغفران والجنة والبشرى حراما عليكم.
وقال الكلبي: إن الملائكة على باب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين:
حجرا محجورا. وقرأ الضحاك والحسن وأبو رجاء على ضمها. وقرئ بفتحها. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أي وقصدنا إلى أعمالهم التي ظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أي أبطلناه وجعلناه مثل الهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه في عدم إمكان الانتفاع به بالكلية والهباء شبه غباريرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هم المؤمنون يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤) أي موضع استراحة نصف النهار في الحر وقد أشارت الآية إلى أن كلا من أهل الجنة وأهل النار قد استقروا في وقت القيلولة. وإن كان استقرار المؤمنين في راحة، واستقرار الكافرين في عذاب فيكون الحساب لجميع الخلائق قد انقضى في هذا الوقت، لأن القائلة تكون في نصف النهار، والحساب يكون من أوله.
والمراد من ذلك: بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع، كما أن موضع القيلولة يكون
قال ابن عباس: والمراد بالظالم: عقبة بن أبي معيط بن أمية، بن عبد شمس كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما يدعو إليه جيرانه من أهل مكة، ويكثر مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويعجبه حديثه، فصنع طعاما ودعا الرسول، فلما قرب إليه الطعام قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين» فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فأكل صلّى الله عليه وسلّم من طعامه.
وكان أبي بن خلف الجمحي صديقه فعاتبه، فقال له: يا عقبة قد ملت إلى دين محمد! فقال عقبة: والله ما ملت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن شهدت له، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له، فطعم فقال: أبيّ لا أرضى عنك أبدا حتى تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فأتاه فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل عقبة ذلك، فعاد بزاقه على وجهه فحرقه، فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» «١» فنزل قوله تعالى:
وقال الشعبي: كان عقبة خليل أمية فأسلم عقبة وقال أمية، وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا فارتد، فأنزل الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ وعلم من ذلك أن المراد بفلان أبي أو أمية وَكانَ الشَّيْطانُ أي إبليس لِلْإِنْسانِ أي الكافر خَذُولًا (٢٩) أي مبالغا في ترك النصرة بعد المعاونة، وكان يعد الإنسان في الدنيا بأنه ينفعه في الآخرة وهذا من كلام الله تعالى، فإن آخر كلام الظالم بعد إذ جاءني، فالوقف عليه تام وَقالَ الرَّسُولُ محمد صلّى الله عليه وسلّم شكاية لله مما صنع قومه وفي هذا تخويف لقومه، لأن الأنبياء إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم، عجل الله لهم العذاب. وهذا عطف على قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا. يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) أي متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يتأثروا بتخويفه وفي هذا تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم فإنه
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من تعلّم القرآن وعلّق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب، عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه»
«١».
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مجرمي قومهم فاصبر كما صبروا، وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) أي كفاك مبلغك إلى الكمال ومالك أمرك هاديا لك إلى مصالح الدين والدنيا وناصرا لك على جميع من يعاديك. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة كأبي جعل وأصحابه لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي هلا أنزل القرآن كله جملة واحدة، كالكتب الثلاثة: التوراة والإنجيل والزبور كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي مثل ذلك التنزيل المفرّق نزلناه لنقوي بذلك فؤادك، فإن فيه تيسير الحفظ، وفهم المعاني. وهذا كلام الله ذكره جوابا لهم وردا لهذه الشبهة وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (٣٢) معطوف على الفعل المقدر الذي تعلق به كذلك، أي كذلك أنزلناه وآتينا بعضه بعد بعض على تؤدة وتمهل في ثلاث وعشرين سنة وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي ولا يأتي المشركون إياك يا أشرف الخلق بسؤال عجيب، يريدون به القدح في نبوتك إلا جئناك بالجواب الحق الذي يدفع قولهم، وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) بيانا وبأقوى حجة الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يحشرون يوم القيامة كائنين على وجوههم يسبحون
(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٧: ٣١٩)، وأحمد في (م ٥/ ص ١٥٣).
فقال الكلبي: أمطر الله عليهم السماء أربعين يوما وأخرج ماء الأرض أيضا في تلك الأربعين فصارت الأرض بحرا واحدا وَجَعَلْناهُمْ أي وجعلنا إغراقهم لِلنَّاسِ آيَةً أي
عبرة لمن سمع قصتهم لكيلا يقتدوا بهم، وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي قوم نوح ومن سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عَذاباً أَلِيماً (٣٧) هو عذاب الآخرة، وَعاداً عطف على المفعول الأول «لجعلنا»، وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ، وهي بئر غير مطوية، ولهم وجوه.
أحدها: هم قوم يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا فكذبوه، فبينما هم حول البئر خسف الله بهم وبديارهم.
وثانيها: أن الرس قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود، فبعث إليهم نبي فقتلوه، فهلكوا.
ثالثها: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم بطير عظيم فيها من كل لون سمي بالعنقاء فتخطف صبيانهم، وعروسا فدعا عليها حنظلة فأصابتهم الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة عليه السلام فأهلكوا.
ورابعها: أن الرس بئر في أنطاكية كذبوا حبيبا النجار وقتلوه، فدسوه في البئر.
وخامسها: عن علي رضي الله عنه أنهم كانوا قوما يعبدون شجر الصنوبر وإنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوها في الأرض بينهم.
وسادسها: هم قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له: الرس من بلاد المشرق فبعث الله إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب، فكذبوه، فلبث فيهم، فشكا إلى الله تعالى منهم فحفروا بئرا ورسوه فيها، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة، فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد، وأظلتهم سحابة سوداء، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص. وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) أي أقواما كثيرا بين الطوائف المذكورة وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي كل قرن بينا له القصص العجيبة الزاجرة عن الكفر والمعاصي بواسطة الرسل وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) أي كل
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أي إذا رآك يا أشرف الخلق كفار مكة قصروا معاملتهم معك على اتخاذهم إياك هزوا فقوله: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ جواب «إذا»، واختصت «إذا» بكون جوابها لا يحتاج إلى الفاء إذا كان منفيا بما أو إن أو لا بخلاف غيرها من أدوات الشرط. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١).
وهذا محكي لقول مضمر هو حال من فاعل «يتخذونك» أي إذا رأوك يستهزئون بك قائلين: أبعث الله هذا رسولا إلينا، وهذا على سبيل الاستهزاء. والمعنى: أهذا الذي يزعم أنه بعثه الله رسولا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها.
ويروى أن هذا من قول أبي جهل و «إن» مخففة من «إن» الثقيلة، وضمير الشأن محذوف أي إن الشأن كاد هذا الرجل ليصرفنا من عبادة آلهتنا صرفا كليا لولا أن ثبتنا عليها، وهذا اعتراف منهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإقامة الحجج وإظهار المعجزات إلى حيث قاربوا أن يتركوا دينهم، لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم. وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يستحقه كفرهم وعنادهم عيانا في الآخرة مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٢) أي من أخطأ حجة فهذا وعيد شديد لهم على الإعراض عن الاستدلال والنظر أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣). وهذا أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالتعجب من شناعة حالهم، أي أرأيت يا أشرف الخلق الذي جعل معبوده ما يهواه وهو النضر وأصحابه أفأنت تكون عليه حفيظا تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك.
وقال سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الصنم، فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات سماع تفكّر، أو يفهمون ما فيها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن، وهذا انتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه صلّى الله عليه وسلّم لهم ممن يسمع أو يعقل ف «أم» بمعنى بل والهمزة التي للاستفهام الإنكاري وإنما ذكر الأكثر لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم، وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل
وقرأ ابن كثير «الريح» بالإفراد وقرأ «نشرا» نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين أي
وهذا إما راجع ل «الأناسي»، وذلك لأن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأنهار ومنابع المياه فهم في غنية في شرب الماء عن المطر، وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وإما راجع إلى «ونسقيه»، وذلك لأن الحيوان يحتاج إلى الماء حالا بعد حال ما دام حيا وهو مخالف للنبات الذي
يكفيه من الماء قدر معين حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان أقرب إلى الضرر. وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ أي وبالله لقد أجرينا المطر في البلاد المختلفة والأوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة حتى انتفعوا بالزرعات، وأنواع المعاش به، كما روي مرفوعا عن ابن مسعود قال: «ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، ورزق معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله تعالى ذلك إلى غيرهم فما زيد لبعض نقص من غيرهم، وإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار». لِيَذَّكَّرُوا.
وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال وضم الكاف، أي ليذكروا نعمة الله به ويقوموا بشكره.
والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين، أي ليعتبروا بالصرف إليهم وعنهم فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (٥٠) أي جحودا للنعمة من حيث لا يتفكرون فيها، ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه. وقيل: المعنى: وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر بين الناس المتقدمين والمتأخرين في القرآن، وسائر الكتب المنزلة على الرسل ليستدلوا به على الصانع، فأبى أكثر الناس إلا كفور النعمة القرآن والكتب، ولنعمة المطر حيث أسندوها لغير خالقها،
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) أي نبيا ينذر أهلها فيخف عليكم أعباء الرسالة، ولكنا قصرنا الأمر عليكم وفضلناك على سائر الرسل فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي فلا توافقهم فيما يأمرونك وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) أي جاهدهم بسبب كونك نذيرا كافة القرى جهادا جامعا لك مجاهدة، أو وجاهدهم ملابسا بترك طاعتهم بل بالشدة لا بالمداراة جهارا كبيرا، وذلك بتلاوة ما في القرآن من الزواجر والنواذر وتذكير أحوال الأمم المكذبة، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما في مجاريهما متلاصقين هذا عَذْبٌ أي سائغ فُراتٌ أي بالغ في العذوبة حتى يصير إلى
وقرأ حمزة والكسائي بالياء أي أنسجد لما يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو هل هو مسيلمة الكذاب أو غيره أو كان الضمير راجعا لسيدنا محمد على أن بعضهم قال لبعض: أنسجد لأمر محمد إيانا بالسجود من غير معرفتنا للمسجود له. وَزادَهُمْ أي الأمر بسجود الرحمن نُفُوراً (٦٠) أي تباعدا عن الإيمان
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي منازل الكواكب السبعة السيارة المنظومة في قول بعضهم:
زحل شرى مريخه من شمسه | فتزاهرت لعطارد الأقمار |
حمل الثور جوزة السرطان | ورعى الليث سنبل الميزان |
ورمى عقرب بقوس لجدي | نوح الدلو بركة الحيتان |
وَجَعَلَ فِيها أي البروج سِراجاً وهو الشمس.
وقرأ حمزة والكسائي «سرجا» بضم السين والراء وهي الشمس والكواكب الكبار، وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) أي مضيئا بالليل. وقرأ الحسن والأعمش و «قمرا» وهي جمع قمراء، لأن الليالي تكون قمراء بالقمر وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي يعتقبان يأتي أحدهما بعد الآخر لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ. قرأ حمزة بسكون الذال وضم الكاف. والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين. وعن أبي بن كعب: ليتذكر أي لينظر الناظر في اختلافهما، فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال من صانع رحيم للعباد، أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) أي ليشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف في النهار. وقال عمر بن الخطاب، وابن عباس، والحسن، معنى الآية: من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار. ومن فاته بالنهار أدركه بالليل وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي هينين أي إن مشى عباد الله المقبولين في لين وسكينة وتواضع لا يضربون بأقدامهم، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء. وعن زيد بن أسلم قال: التمست
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً
(٦٤) أي يحيون الليل بالصلاة، و «سجدا» خبر «يبيتون». وَالَّذِينَ يَقُولُونَ في دعائهم: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) أي هلاكا لازما أي فإنهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون من عذاب الله إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وهذا يمكن أن يكون من كلام الله تعالى فهو مستأنف، وأن يكون حكاية لقولهم تعليل بسوء حالها في نفسها عقب تعليل بسوء حال عذابها. والمعنى: أن جهنم بئست جهنم هي حال كونها مستقرا للعصاة من أهل الإيمان فإنهم غير مقيمين فيها وحال كونها مقاما للكافرين فإنهم يخلدون ويقال: إن جهنم أحزنت داخليها من جهة موضع استقرار، ومن جهة موضع إقامة. وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا أي لم يجاوزوا حد الكرام وَلَمْ يَقْتُرُوا أي ولم يضيفوا تضييق الشحيح وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) أي وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار وسطا.
وقرأ نافع وابن عامر «يقتروا» بضم التحتية وكسر الفوقية، وابن كثير وأبو عمرو بفتح التحتية وكسر الفوقية، والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية فالقراءات السبعية ثلاثة والقاف على كل ساكنة. وقرئ «قواما» بكسر القاف، أي ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص.
وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد.
وروي أن رجلا صنع طعاما في أملاك، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «حق فأجيبوا».
ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال: «خلق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد». ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال: «رياء ولا خير فيه»
. وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ أي لا يعبدون مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. والمقصود من هذا تنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالردة وبالقتل قودا، وبالزنا بعد الإحصان، فالمقتضى لحرمة القتل قائم أبدا وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله تعالى: حَرَّمَ اللَّهُ إشارة إلى المقتضى وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ إشارة إلى المعارض وَلا يَزْنُونَ.
وعن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟ قال:
«أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت: ثم أيّ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت: ثم أيّ قال: أن «تزني بحليلة جارك» «١». فأنزل الله تعالى هذه الآية تصديقا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم
. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
وقال الحسن: الأثام اسم من أسماء جهنم. وقال مجاهد: الأثام واد في جهنم.
وقرأ ابن مسعود أياما أي شدائد، لأنه يقال لليوم الصعيب يوم ذو أيام يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعف بتشديد العين وإسقاط الألف وَيَخْلُدْ فِيهِ أي في ذلك العذاب مُهاناً (٦٩) أي مقرونا بالإذلال كما أن الثواب مقرون بالتعظيم.
وقرأ ابن عامر وشعبة «يضاعف» و «يخلد» كلاهما بالرفع على الاستئناف، أو على الحال. وقرأ حفص مع ابن كثير «فيه» بصلة الهاء بالياء إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي يغفر الله لهم تلك السيئات، ويكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاص مطيع، ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة. وقد
قال صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن»
«١». وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠).
روى البخاري عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك، فلما نزل صدرها قال أهل مكة: قد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش فأنزل الله الا من تاب إلى رحيما
وَمَنْ تابَ عن المعاصي بتركها والندم عليها، وَعَمِلَ صالِحاً يتدارك به ما فرط، ولو كان نيته وعمله كلاهما ضعيفا فَإِنَّهُ يَتُوبُ أي يرجع إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١) أي رجوعا مرضيا عند الله أي ومن تاب عن المعاصي إلى الطاعة، فإن التوبة منه في الحقيقة توبة إلى الله أي فإنه قد أتى بتوبة مرضية لله مكفرة للذنوب، محصلة للثواب،
وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليتمنين أقوام لو أنهم أكثروا من السيئات». قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات»
«٢». وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي لا يحضرون مواضع الكذب، فإن حضور مجامع الفساق مشاركة لهم في تلك المعصية ولأن النظر دليل الرضا بها أو لا يشهدون بالكذب.
وقال محمد بن الحنفية: الزور الغناء وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي بأهل اللغو على سبيل الاتفاق من غير قصد مَرُّوا كِراماً (٧٢) أي مكرمين أنفسهم عن مثل حال اللغو، وهو كل ما يجب أن يترك وإكرامهم لأنفسهم لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) أي والذين إذا وعظوا بالآيات المشتملة على
(٢) رواه السيوطي في جمع الجوامع (٤٧٠٠)، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٥٨١)، والسيوطي في الدر المنثور (٥: ٣٤٤)، والقرطبي في التفسير (١٣: ٨٧).
قرأ حمزة والكسائي وشعبة «يلقون» بفتح الياء وسكون اللام أي يجدون في الغرفة إكرام الله تعالى لهم بالهدايا وسلامه عليهم بالقول. والباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف أي يجعلهم الله تعالى في الغرفة لاقين ذلك. خالِدِينَ فِيها أي في الغرفة، لا يموتون ولا يخرجون حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦)، أي حسنت الغرفة من
حيث موضع الاستقرار وموضع الإقامة هي. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ أي أيّ اعتداد يعتد بكم لولا عبادتكم له تعالى فإنكم وسائر البهائم سواء أو لا يبالي بكم ربكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته، فإن مبالاة الله بشأن عباده حيث خلق السموات والأرض وما بينهما إنما هو ليعرفوا حق المنعم ويطيعوه فيما كلفهم به فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بما أخبرتكم به فَسَوْفَ يَكُونُ أي جزاء التكذيب لِزاماً (٧٧) أي ملازما لكم وهو عقاب الآخرة.