تفسير سورة الرّوم

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الروم من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
قوله جل ذكره :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
بسم الله اسم عزيز شفيع المذنبين جوده، بلاء المتهمين قصوده، ضياء الموحدين عهوده. وسلوة المحزونين ذكره، وحرفة الممتحنين شكره.
اسم عزيز رداؤه كبرياؤه، وجبار سناؤه بهاؤه، وبهاؤه علاؤه.
العابدون حسبهم عطاؤه، والواجدون حسبهم بقاؤه.

الإشارة في " الألف " إلى أنه ألِفَ صُحْبتنَا مَنْ عَرف عظمتنا. وأنّه أَلف بلاءنا مَنْ عَرَفَ كبرياءنا.
والإشارة في " اللام " إلى أنه لزمَ بابنا مَنْ ذاق محابّنا، ولزمَ بساطنَا مَنْ شهد جمالنَا.
والإشارة في " الميم " إلى أَنه مُكِّنَ منْ قُرْبنَا مَنْ قام على خدمتنا، ومات على وفائنا مَنْ تحقق بولائنا.
قوله ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ : سُرَّ المسلمون بظفر الروم على العجم - وإن كان الكفر يجمعهم - إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء، فشكر الله لهم، وأنزل فيهم الآية. . فكيف بمن يكون سروره لدين الله، وحُزنُه واهتمامه لدين الله ؟.
قوله جلّ ذكره :﴿ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾.
﴿ قَبْلُ ﴾ إذا أُطْلق انتظم الأزل، " وبَعْدُ " إذا أطلق دلّ على الأبد ؛ فالمعنى الأمر الأزلي لله، والأمر الأبدي للّهِ لأنَّ الرَّبِّ الأزلي والسَّيِّدَ الأبدي اللَّهُ.
لله الأمرُ يومَ العرفان، ولله الأمرُ يومَ الغفران.
لله الأمرُ حين القسمة ولا حين، ولله الأمرُ عند النعمة وليس أي معين.
ويقال : لي الأمرُ ﴿ مِن قََبْلُ ﴾ وقد علمتُ ما تفعلون، فلا يمنعنى أحدٌ من تحقيق عرفانكم، ولي الأمر ﴿ مِّن بَعْدِ ﴾ وقد رأيتُ ما فعلتم، فلا يمنعنى أحدٌ من غفرانكم. وقيل :﴿ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ ﴾ بتحقيق ودِّكم، والله الامر من بعد بحفظ عهدكم :
إني _على جفواتها_ وبربِّها وبكلِّ مُتصل بها مُتوسلِ
﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ :
اليومَ إرجافُ السرور وإنما يومَ اللِّقاء حقيقةُ الإرجاف
اليومَ ترحٌ وغداً فرح، اليوم عَبرة وغداً حَبرة، اليوم أسف وغداً لطف، اليوم بكاء وغداً لقاء.
قوله جل ذكره :﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
الكريمُ لا يُخلفُ وعده لاسيما والصدقُ نعته.
يقول المؤمنون : مِنا يومَ الميثاق وعدٌ بالطاعة، ومنه ذلك اليومَ وعدٌ بالجنة، فإن وَقع في وعدنا تقصيرٌ لا يقع في وعده قُصورٌ.
قوله جل ذكره :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾.
استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا، وانهماكهم في تعليق القلب بها. . مَنَعَهم عن العلم بالآخرة. وقيمةُ كلِّ امرئ عِلمه بالله ؛ ففي الأثر عن عليِّ -رضي الله عنه- أنه قال ؛ أهل الدنيا عَلَى غفلةٍ من الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة كذلك بوجودها في غفلة عن الله.
قوله جل ذكره :﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾.
إنَّ مَنْ نَظَرَ حقَّ النظر، ووَضَعَ النظر موضعَه أثمر له العلم واجباً، فإذا استبصر بنور اليقين أحكامَ الغائبات، وعَلِمَ موعوده الصادق في المستأنف - نجا عن كَدِّ التردد والتجويز فسبيلُ مَنْ صحا عقلُه ألا يجنحَ إلى التقصير فيما به كمال سكونه.
قوله جل ذكره :﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.
سَيْرُ النفوسِ في أقطار الأرض ومناكبها لأداء العبادات، وسَيْرُ القلوبِ بِجَولاَنِ الفِكْرِ في جميع المخلوقات، وغايته الظَّفَرُ بحقائق العلوم التي توجِبُ ثلج الصدر -ثم تلك العلوم على درجات. وسير الأرواح في ميادين الغيب بنعت حرق سرادقات الملكوت، وقصاراه الوصولُ إلى محلِّ الشهود واستيلاء سلطان الحقيقة. وسير الأشرار بالترقي عن الحِدْثان بأَسْرِها، والتحقق أولاً بالصفات، ثم بالخمود بالكلية عمَّا سِوى الحقِّ.
قوله جل ذكره :﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾.
مَنْ زَرَعَ الشوكَ لم يحصُدْ الوَرْدَ، ومَنْ استنبت الحشيشَ لم يقطف الثمار، ومَنْ سَلَكَ طريق الغي لم يَحْلُلْ بساحة الرشد.
قوله جل ذكره :﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
يبدأ الخلق على ما يشاء، ثم يعيده إذا ما شاء على ما يشاء.
قوله جل ذكره :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ﴾.
شهودِهم ما جحدوه في الدنيا عياناً، ثم ما ينضاف إلى ذلك من اليأس بعد ما يعرفون قطعاً هو الذي يفتت أكبادهم، وبه تتمُّ محنتُهم.
قوله جل ذكره :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴾.
تغلب العداوةُ مِنْ بعضٍ على بعضٍ.
قوله جل ذكره :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾.
فريقٌ منهم أهل الوصلة، وفريق هم أهل الفرقة. فريق للجنة والمِنَّة. وفريقٌ للعذاب والمحنة. فريقٌ في السعير. وفريقٌ في السرور. فريقٌ في الثواب. وفريقٌ في العذاب. فريقٌ في الفراقِ. وفريقٌ في التلاقي.
قوله جل ذكره :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ﴾.
فهم في رياضٍ وغياضٍ.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾.
فهم في بوارٍ وهلاك.
قوله جل ذكره :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾
مَنْ كان صباحُه لله بُورِكَ له في يومه، ومن كان مساؤه بالله بورك له في ليله :
وإنَّ صَبَاحً نلتقي في مسائه صَبَاحٌ على قلبِ الغريبِ حبيبُ
شتّان بين عبدٍ صباحُه مُفْتَتَحٌ بعبادته ومساؤه مُخْتَتَمٌ بطاعته، وبين عبدٍ صباحه مفتتح بمشاهدته ورواحة مفتتح بعزيز قربته !
ويقال الآية تتضمن الأَمر بتسبيحه في هذه الأوقات، والآية تتضمن الصلوات الخمس، وإرادةَ الحقِّ من أوليائه بأَنْ يجددوا العهدَ في اليوم والليلة خمْسَ مراتٍ ؛ فتقف على بساط المناجاة، وتستدرك ما فاتك فيما بين الصلاتين من طوارق الزلات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:قوله جل ذكره :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾
مَنْ كان صباحُه لله بُورِكَ له في يومه، ومن كان مساؤه بالله بورك له في ليله :
وإنَّ صَبَاحً نلتقي في مسائه صَبَاحٌ على قلبِ الغريبِ حبيبُ
شتّان بين عبدٍ صباحُه مُفْتَتَحٌ بعبادته ومساؤه مُخْتَتَمٌ بطاعته، وبين عبدٍ صباحه مفتتح بمشاهدته ورواحة مفتتح بعزيز قربته !
ويقال الآية تتضمن الأَمر بتسبيحه في هذه الأوقات، والآية تتضمن الصلوات الخمس، وإرادةَ الحقِّ من أوليائه بأَنْ يجددوا العهدَ في اليوم والليلة خمْسَ مراتٍ ؛ فتقف على بساط المناجاة، وتستدرك ما فاتك فيما بين الصلاتين من طوارق الزلات.

قوله جل ذكره :﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾.
﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ : الطيرَ من البيض، والحيوان من النُّطفةِ.
﴿ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ : البيض من الطير، والنطفة من الحيوان.
والمؤمنَ من الكافِرَ والكافِرَ من المؤمن.
ويُظْهِرُ أوقاتاً من بين أوقات ؛ كالقبض من بين أوقات البسط، والبسط من بين أوقات القبض.
﴿ وَيُحْي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتَهَا ﴾ : يحييها بالمطر، ويأتي بالربيع بعد وحشة الشتاء ؛ كذلك يوم النشور يحيي الخلْقَ بعد الموت.
قوله جل ذكره :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾.
خَلَقَ آدمَ من التراب، ثم من آدم الذُّرِّيَة. فذَكَّرَهم نِسْبَتَهم لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم.
ويقال الأصل تُرْبة ولكن العِبْرَة بالتربية لا بالتربة، القيمةُ لما مِنْه لا لأعيان المخلوقات. اصطفى واختار الكعبة فهي أفضل من الجنة ؛ الجنة جواهر ويواقيت، والبيت حجر ! ولكن البيت مختارُه وهذا المختار حجر ! واختار الإنسانَ، وهذا المختار مَدَرٌ ! والغنىُّ غنىٌّ لِذَاتِه، غنىٌّ عن كلِّ غيرٍ من رَسْم وأثر.
قوله جل ذكره :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
رَدَّ المِثْلَ إلى المِثْل، ورَبَطَ الشكلَ بالشكلِ، وجعل سكونَ البعضِ إلى البعض، ولكنَّ ذلك للأشباح والصُوَر، أمَّا الأرواح فصُحْبَتُها للأشباح كرهٌ لا طوعٌ. وأمَّا الأسرار فمُعْتَقَةٌ لا تساكن الأطلال ولا تتدنس بالأعلال.
قوه جل ذكره :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾.
خَلَقَ السماواتِ في علوِّها والأرضَ في دنوِّها ؛ هذه بنجومها وكواكبها، وهذه بأقطارها ومناكبها. وهذه بشمسها وقمرها، وهذه بمائها ومَدَرِها.
ومن آياته اختلافُ لغات أهل الأرض، واختلافُ تسبيحات الملائكة الذين هم سكان السماء. وإنَّ اختصاصَ كلِّ شيء منها بُحكم -شاهدُ عَدلٍ، ودليلُ صِدقٍ على أنها تناجى أفكار المتيقظين، وتنادي على أنفسها. . أنها جميعها من تقدير العزيز العليم.
قوله جل ذكره :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾.
غَلَبُه النومِ بغيرِ اختيارِ صاحبه ثم انتباهُه مِنْ غير اكتسابٍ له بِوُسْعِه يدلُّ على موته وبَعْثِهِ بعد ذلك وقتَ نشوره. ثم في حال منامه يرى ما يسرُّه وما يضرُّه، وعلى أوصافٍ كثيرة أمره. . كذلك الميت في قبره. اللَّهُ أعلمُ كيف حاله في أمره، وما يلقاه من خيره وشرّه، ونفعه وضرّه ؟
قوله جل ذكره :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.
يُلْقِي في القلوب من الرجاءِ والتوقع في الأمور، ثم يختلف بهم الحال ؛ فمِنْ عبدٍ يحصلُ مقصودُه. ومِنْ آخر لا يتفق مرادُه.
والأحوال اللطيفة كالبروق، وقالوا : إنها لوائح ثم لوامع ثم طوالع ثم شوارق ثم متوع النهار، فاللوائح في أوائل العلوم، واللوامع من حيث الفهوم، والطوالع من حيث المعارف، والشوارق من حيث التوحيد.
قوله جل ذكره :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾.
يُفْنِي هذه الأدوار، ويُغَيِّر هذه الأطوار، ويبدِّل أحوالا غير هذه الأَحوال ؛ إماتةٌ ثم إحياءٌ، وإعادةٌ وقبلها إبداءٌ وقبرٌ ثم نَشْر، ومعاتبةٌ في القبر ثم محاسبةٌ بعد النَّشْرِ.
قوله جل ذكره :﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾.
له ذلك مِلْكاً، ومنه تلك الأشياء بَدْءاً، وبه إيجاداً، وإليه رجوعاً.
قوله جل ذكره :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
أي في ظنَّكم وتقديركم.
وفي الحقيقة السهولةُ والوعورةُ على الحقِّ لا تجوز.
﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى ﴾ : له الصفةُ العليا في الوجود بحقِّ القِدَم، وفي الجود بنعت الكَرَم، وفي القدرة بوصف الشمول، وفي النصرة بوصف الكمال، وفي العلم بعموم التعلُّق، وفي الحكم بوجوب التحقق، وفي المشيئة بوصف البلوغ، وفي القضية بحكم النفوذ، وفى الجبروت بعين العزِّ والجلال، وفي الملكوت بنعت المجد والجمال.
قوله جل ذكره :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.
أي إذا كان لكم مماليك لا تَرْضَوْن بالمساواة بينكم وبينهم، وأنتم متشاكلون بكلِّ وجه -إلا أنكم بحكم الشرع مالكوهم- فَمَا تقولون في الذي لم يَزَلْ، ولا يزال كما لم يزل ؟
هل يجوز أن يُقَدَّر َ في وصفه أن يُسَاوِيَه عبيدُه ؟وهل يجوز أن يكون مملوكُه شريكَه ؟ تعالى اللَّهُ عن ذلك علواً كبيراً !
قوله جل ذكره :﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾.
أشدُّ الظلمِ متابعةُ الهوى، لأنه قريبٌ من الشِّرْكِ، قال تعالى :﴿ أَفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ]. فَمَنْ اتَّبَعَ هواه خالف رضا مولاه ؛ فهو بوضعه الشيءَ غيرَ موضعه صار ظالماً، كما أَنَّ العاصيَ بوضعه المعصيةَ موضعَ الطاعةِ ظالمٌ. . كذلك هذا بمتابعة هواه بَدَلاً عن موافقة ومتابعة رضا مولاه صار في الظلم متمادياً.
قوله جل ذكره :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
أخْلِصْ قَصْدَك إلى الله، واحفَظْ عهدك مع الله، وأَفرِدْ عملَكَ في سكناتِك وحركاتِك وجميع تصرفاتِك لله.
﴿ حَنِيفاً ﴾ : أي مستقيماً في دينه، مائلاً إليه، مُعْرَضاً عن غيره، والزَمْ ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ أي أثْبَتَهُم عليها قبل أن يُوجَدَ منهم فِعْلٌ ولا كَسْب، ولا شِرْكٌ ولا كُفْر، وكما ليس منهم إيمان وإحسان فليس منهم كفران ولا عصيان. فاعرف بهذه الجملة، ثم افعل ما أُمِرْتَ به، واحذر ما نُهِيتَ عنه.
فعلى هذا التأويل فإن معنى قوله :﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ أي اعْرَفْ واعْلَمْ أن فطرة الله التي فطر الناس عليها : تَجَرُّدُهم عن أفعالهم، ثم اتصافهم بما يكسبون - وإن كان هذا أيضاً بتقدير الله.
وعلى هذا تكون ﴿ فِطْرَتَ ﴾ الله منصوبة بإضمار اعْلَمْ - كما قلنا.
سبحانه فَطَرَ كلَّ أحدٍ على ما عَلِمَ أنه يكون في السعادة أو الشقاوة، ولا تبديلَ لحُكْمه، ولا تحويلَ لما عليه فَطَرَه. فمَنْ عَلِمَ أنه يكون سعيداً أراد سعادته وأخبر عن سعادته، وخَلَقَه في حُكمه سعيداً. ومَنْ عَلِمَ شقاوته أراد أن يكون شقياً وأخبر عن شقاوته وخَلَقَه في حكمه شقياً. . ولا تبديل لحُكمه، هذا هو الدين المستقيم والحقُّ الصحيح.
قوله جل ذكره :﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.
أي راجعين إلى الله بالكلية من غير أن تبقى بقية، متصفين بوفاته، منحرفين بكل وجهٍ عن خلافه، مُتَّقين صغيرَ الإثم وكبيره، قليلَه وكثيره، مُؤثرين يسيرَ وفاقه وعسيره، مقيمين الصلاة بأركَانها وسننها وآدابها جهراً، متحققين بمراعاة فضائلها سِراً.
قوله جل ذكره :﴿ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾.
أقاموا في دنياهم في خمار الغفلة، وعناد الجهل والفترة ؛ فركنوا إلى ظنونهم، واستوطنوا مركب أوهامهم، وتموَّلوا منْ كيس غيرهم، وظنوا أنهم على شيء. فإذا انكشف ضبابُ وقتهم، وانقشع سحابُ جحدهم. . انقلب فرحُهم تراحاً، واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة، ولم يعرِّجوا إلاَّ في أوطان الجهالة.
قوله جل ذكره :﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾.
إذا أظلتهم المحنةُ ونَالتهم الفتنةُ ؛ وَمَسَّتْهُم البليَّةُ رجعوا إلى الله بأجْمعهم مستعينين، وبلطفه مستجيرين، وعن محنتهم مستكشفين.
فإذا جاد عليهم بكشف ما نالهم، ونظر إليهم باللطف فيما أصابهم :﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾ لا كلُّهم - بل فريقٌ منهم بربهم يشركون ؛ يعودون إلى عاداتهم المذمومة في الكفران، ويقابلون إحسانه بالنسيان، هؤلاء ليس لهم عهدٌ ولا وفاء. ولا في مودتهم صفاء.
قوله جل ذكره :﴿ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُون ﴾.
أي عن قريبٍ سيحدث بهم مثلما أصابهم، ثم إنهم يعودون إلى التضرع. ويأخذون فيما كانوا عليه بدءاً من التخشع، فإذا أشكاهم وعافاهم رجعوا إلى رأس خطاياهم.
قوله جل ذكره :﴿ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾.
بَين أنهم بَنوا على غير أصلٍ طريقَهم، واتبعوا فيما ابتدعوه أهواءهم، وعلى غير شَرعٍ من الله أو حجةٍ أو بيانٍ أَسَّسُوا مذاهبَهم.
تستميلهم طوارقُ أحوالهم ؛ وإن كانت نعمة فإلى فرح، وإن كانت شدة فإلى قنوطِ وَتَرح. . وليس وصفُ الأكابر كذلك ؛ قال تعالى :﴿ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَاكُمْ ﴾ [ الحديد : ٢٣ ].
قوله جل ذكره :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
الإشارة فيها إلى أن العبدَ لا يُعلِّقُ قلبه إلا بالله ؛ لأنّ ما يسوءهم ليس زواله إِلا بالله، وما يسرُّهم ليس وجودُه إِلا من الله، فالبسطُ الذي يسرّهم ويؤنسهم منه وجوده، والقبض الذي يسوءهم ويوحشهم منه حصولُه، فالواجبُ لزوم عَقْوَةِ الأسرار، وقطعُ الأفكار عن الأغيار.
قوله جل ذكره :﴿ فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
القرابةُ على قسمين : قرابةُ النسب وقرابة الدِّين، وقرابةُ الدين أَمسُّ، وبالمواساة أحقُّ وإذا كان الرجلُ مشتغلاً بالعبادة، غيرَ متفرِّغ لطلب المعيشة فالذين لهم إيمانٌ بحاله، وإشرافٌ على وقته يجب عليهم القيام بشأنه بقَدر ما يمكنهم، مما يكون له عونٌ على الطاعة وفراغ القلب من كل علة ؛ فاشتغال الرجل بمراعاة القلب يجعل حقَّه آكدَ، وتَفَقُّدَه أوْجَبَ.
﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ﴾ : المريدُ هو الذي يُؤْثِرُ حقَّ الله على حظِّ نَفْسِه ؛ فإيثارُ المريد وَجه اللَّهِ أتمُّ من مراعاته حال نفسه، فهِمَّتُه في الإحسان إلى ذوي القربى والمساكين تتقدم على نَظَرِه لِنَفْسِه وعياله وما يهمه من خاصته.
قوله جل ذكره :﴿ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾.
إيتاء الزكاة بأن تريد بها وجهَ الله، وألا تستخدم الفقير لما تَبَرُّه به من رافقه، بل أفضل الصدقة على ذي رَحمٍ كاشح حتى يكون إعطاؤُه لله مجرداً عن كل نصيبٍ لَكَ فيه، فهؤلاء هم الذين يضاعِفُ أَجْرَهم : قَهرُهم لأنفسهم حيث يخالفونها، وفوزهُم بالعِوَض مِنْ قَبَلَ الله.
ثم الزكاة هي التطهير، وتطهيرُ المالِ معلومٌ ببيان الشريعة في كيفية إخراج الزكاة، وأصناف المال وأوصافه.
وزكاة البَدَنِ وزكاةُ القلبِ وزكاةُ السِّرِّ. . كلُّ ذلك يجب القيام به.
قوله جل ذكره :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
﴿ ثُمَّ ﴾ حرفٌ يقتضى التراخي ؛ وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس من ضرورة خَلْقِه إياك أن يرزقك ؛ كنتَ في ضعف أحوالك ابتداءَ ما خَلَقَكَ، فأثبتك وأحياك من غير حاجةٍ لك إلى رزقٍ ؛ فإلى أن خرجتَ من بَطْنِ أُمّك : إمَّا أن كان يُغْنِيكَ عن الرزق وأنت جنينٌ في بطن الأم ولم يكن لك أكلٌ ولا شُرْبٌ، وإمَّا أن كان يعطيك ما يكفيك من الرزق - إنْ حَقَّ ما قالوا : إن الجنينَ يتَغَذَّى بدم الطمث. وإذا أخرجك من بطن أمك رَزَقَكَ على الوجه المعهود في الوقت المعلوم، فَيَسَّرَ لكَ أسبابَ الأكل والشرب من لَبنِ الأم، ثم من فنون الطعام، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات، وأرزاق للسان من الأذكار وغير ذلك مما جرى ذكره.
﴿ ثُمَّ يَمِيتُكُمْ ﴾ بسقوط شهواتكم، ويميتكم عن شواهدكم.
﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ بحياة قلوبكم ثم يحييكم بربِّكم.
ويقال : من الأرزاق ما هو وجود الأرفاق ومنها ما هو شهود الرزاق.
ويقال : لا مُكْنَةُ لك في تبديل خَلْقِكَ، وكذلك لا قدرةَ لَكَ على تَعَسُّر رزقِك، فالمُوَسَّعُ عليه رزقُه -بِفَضْلِه سبحانه. . لا بمناقِب نَفْسه، والمُقَتّرُ عليه رزقُه بحُكْمِه سبحانه. . لا بمعايب نَفْسِه.
﴿ هَلْ مِن شُرِكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيءٍ ﴾ ؛ هل من شركائكم الذين أثبتموهم أي من الأصنام أو توهمتموهمٌّ من جملة الأنام. . مَنْ يفعل شيئاً من ذلك ؟ ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ﴾ تنزيهاُ له وتقديساً.
قوله جل ذكره :﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.
الإشارة من البرّ إلى النَّفْسِ، ومن البحر إلى القلب.
وفسادُ البرّ بأَكْل الحرام وارتكاب المحظورات، وفسادُ البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة مثل سوء العزم والحسد والحقد وإرادة الشَّر والفِسْقِ. . وغير ذلك. وعَقْدُ الإصرارِ على المخالفاتِ من أعظمِ فسادِ القلب، كما أَنَّ العَزْمَ على الخيرات قبل فِعْلها من أعظم الخيرات.
ومن جملة الفساد التأويلاتُ بغير حقِّ، والانحطاطُ إلى الرُّخَصِ في غير قيامٍ بِجَدٍ، والإغراق في الدعاوَى من غير استحياءٍ من الله تعالى.
﴿ لِيُذِقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ : بعض الذي عملوا من سقوط تعظيم الشرع من القلب، وعدم التأسُّف على ما فاته من الحقِّ.
قوله جل ذكره :﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ﴾.
﴿ يَسِيُرواْ ﴾ بالاعتبار، واطلبوا الحقَّ بنعت الأفكار.
﴿ فَانظُرواْ ﴾ كيف كانت حال مَنْ تقدَّمكم من الأشكال والأمثال، وقيسوا عليها حُكْمَكُم في جميع الأحوال. ﴿ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ﴾ كانوا أكثرَهم عدداً، ولكن كانوا في التحقيق أَقلَّهم وزناً وقَدْراً.
قوله جل ذكره :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾.
أَخْلِص قَصْدَك وصِدْقَ عَزْمَكَ للدين القيِّم بالموافقة والاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع. فَمنْ لم يتأدب بِمَنْ هو إمامُ وقته ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خُسْرَانُه أَتَمَّ من رِبْحِه، ونقصانُه أَعَمُ من نَفْعه.
قوله جل ذكره :﴿ مِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
يرسل رياحَ الرجاءِ على قلوب العِباد فتكنس عن قلوبهم غبارَ الخوف وغُثَاء اليأس، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق فتحملهم إلى بِساط الجُهْدِ، وتكرمهم بقوى النشاط. ويرسل رياحَ البسطِ على أرواح الأولياء فيطهرها من وحشة القبض، وينشر فيها إرادة الوصال. ويرسل رياحَ التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء فيطهرها من آثار العناء، ويبشرها بدوام الوصال. . فذلك ارتياحٌ به ولكن بعد اجتياحٍ عنك.
قوله جل ذكره :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
أرسلنا من قبلك رسلاً إلى عبادنا، فَمَنْ قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق، ومَنْ عارضَهم بالجحود أذقناهم عذابَ الخلود، فانتقمنا من الذين أجرموا، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا، وشَوَّشْنا عليهم ما أَمَّلوا، ونقضنا عليهم ما استطابوا وتَنَعَّموا، وأخذنا بخناقهم فحاق بهم ما مكروا.
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ﴾ بتوطئتهم بأعقاب أعدائهم، ولم يلبثوا إلا يسيراً حتى رقيناهم فوق رقابهم، وخرَّبنا أوطانَ أعدائهم، وهدَّمنا بنيانهم، وأخمدنا نيرانَهم، وعَطَّلْنا عنهم ديارهم، ومَحَوْنا بقَهْرِ التدمير آثارَهم، فظَلَّتْ شموسهُم كاسفة، ومكيدةُ قَهْرِنا لهم بأجمعهم خاسفة.
قوله جل ذكره :﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾.
يرسل رياح عَطْفِه وجُودِه مبشراتٍ بوَصْلِه وجوده، ثم يُمطِر جودَ غيبِه على أسرارهم بلُطْفِه، ويطوي بساطَ الحشمة عن ساحات قُرْبِه، ويضرب قبابَ الهيبة بمشاهد كَشْفِه، وينشر عليهم أزهارَ أُنْسِه، ثم يتجلَّى لهم بحقائق قُدْسِه، ويسقيهم بيده شرابَ حُبِّه، وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم -لا بهِم- ولكنْ بِنَفْسه، فالعبارات عن ذلك خُرْسٌ، والإشارات دونها طُمْسٌ.
قوله جل ذكره :﴿ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
يحيي الأرضَ بأزهارها وأنوارها عند مجيء الأمطار لِيُخْرِجَ زَرْعَها وثمارَها، ويحيي النفوس بعد نَفْرَتِها، ويوفقها للخيرات بعد فترتها، فتعمر أوطانُ الرِّفاق بصادق إقدامهم، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم، ويحيي القلوبَ بعد غفلتها بأنوار المحاضرات، فتعود إلى استدامة الذكر بحُسْنِ المراعاة، ويهتدي بأنوار أهلها أهلُ العسر من أصحاب الإرادات، ويحيي الأرواح بعد حَجْبَتِها - بأنوار المشاهدات، فتطلع شموسُها عن بُرْجِ السعادة، ويتصل بمشامٌ أسرار الكافة نسيمُ ما يفيض عليهم من الزيادات، فلا يبقى صاحبَ نَفَسٍ إلا حَظِيَ منه بنصيب، ويُحْيي الأسرارَ، وقد تكون لها وَقْفَةٌ في بعض الحالات - فتنتفي بالكلية آثارُ الغيرية، ولا يَبْقى في الدار ديَّار ولا من سكانها آثار ؛ فسَطَواتُ الحقائق لا تثبت لها ذَرَّةٌ من صفات الخلائق، هنالك الولاية لله. . سقط الماء والقطرة، وطاحت الرسوم والجملة.
قوله جل ذكره :﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ﴾.
إذا انسدَّت البصيرةُ عن الإدراك دام العمى على عموم الأوقات. . كذلك مَنْ حَقَّتْ عليهم الشقاوةُ جَرَّته إلى نفسها - وإنْ تَبَوَّأَ الجنةَ منزلاً.
قوله جل ذكره :﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾.
مَنْ فَقَدَ الحياةَ الأصلية لم يَعِشْ بالرُّقَى والتمائم، وإذا كان في السريرة طَرَشٌ عن سماع الحقيقة فَسَمْعُ الظاهر لا يفيده آكَدُ الحُجَّة. وكما لا يُسْمَعُ الصُّمَّ الدعاءَ فكذلك لا يمكنه أن يهدي العُمْىَ عن ضلالتهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٢:قوله جل ذكره :﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾.
مَنْ فَقَدَ الحياةَ الأصلية لم يَعِشْ بالرُّقَى والتمائم، وإذا كان في السريرة طَرَشٌ عن سماع الحقيقة فَسَمْعُ الظاهر لا يفيده آكَدُ الحُجَّة. وكما لا يُسْمَعُ الصُّمَّ الدعاءَ فكذلك لا يمكنه أن يهدي العُمْىَ عن ضلالتهم.

قوله جل ذكره :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾.
أظهرهم على ضعف الصغر والطفولية ثم بعده قوة الشباب ثم ضعف الشيب ثم :
آخر الأمر ما ترى *** القبر واللحد والثرى
كذلك في ابتداء أمرهم يظهرهم على وصف ضعف البداية في نعت التردد والحيرة في الطلب، ثم بعد قوة الوصل في ضعف التوحيد.
ويقال أولاً ضعف العقل لأنه بشرط البرهان وتأمله، ثم قوة البيان في حال العرفان، لأنه بسطوة الوجود ثم بعده ضعف الخمود، لأنه الخمود يتلو الوجود ولا يبقى معه أثر.
ويقال ﴿ خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ﴾ : أي حال ضعف من حيث الحاجة ثم بعده قوة الوجود ثم بعده ضعف المسكنة، قال صلى الله عليه وسلم :" أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين ".
قوله جل ذكره :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴾.
إنما كان ذلك لأحد أمرين : إمَّا لأنهم كانوا أمواتاً. . والميت لا إحساسَ له، أو لأنهم عَدُّواً ما لقوا من عذاب القبر بالإضافة إلى ما يَرَوْن ذلك اليوم يسيراً. وإن أهل التحقيق يخبرونهم عن طول لُبْثِهم تحت الأرض. وإن ذلك الذي يقولونه من جملة ما كانوا يظهرون من جَحْدهم على موجب جهلهم، ثم لا يُسْمَعُ عذْرُهم، ولا يُدْفَعُ ضُرَّهم.
وأخبر بعد هذا في آخر السورة عن إصرارهم وانهماكهم في غيِّهم، وأن ذلك نصيبهم من القسمة إلى آخر أعمارهم.
ثم خَتَمَ السورة بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام باصطباره على مقاساة مسارهم ومضارهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ﴾
Icon