تفسير سورة فاطر

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة فاطر وهي مكية

﴿الْحَمد لله فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ قد بَينا معنى الْحَمد، قَوْله: ﴿فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: مبدعهما ومنشئهما بِلَا مِثَال.
(وَقَوله) :﴿جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولى أَجْنِحَة﴾ أَي: ذَوي أَجْنِحَة.
وَقَوله: ﴿مثنى وَثَلَاث وَربَاع﴾ أَي: مثنى مثنى، وَثَلَاث وَثَلَاث، وَربَاع وَربَاع أَي: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاثَة ثَلَاثَة، وَأَرْبَعَة أَرْبَعَة. شعر فِي الْمثنى:
(أحم الله ذَلِك من لِقَاء أحاد أحاد فِي شهرحلال)
قَالَ الضَّحَّاك: مثنى جِبْرِيل، وَثَلَاث مِيكَائِيل، وَربَاع إسْرَافيل، وَمن الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت جِبْرِيل (عَلَيْهِ السَّلَام) وَله سِتّمائَة جنَاح قد سد الْأُفق ". وَرُوِيَ أَنه لما رَآهُ على هَذِه الصُّورَة صعق ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يغْتَسل كل يَوْم فِي نهر ثمَّ ينتقضن فَمَا تقع قَطْرَة إِلَّا خلق الله تَعَالَى مِنْهَا ملكا ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا أَن الله تَعَالَى خلق ملكا فِي
344
﴿وَربَاع يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء إِن الله على كل شَيْء قدير (١) مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (٢) يَا﴾ السَّمَاء شرفه وَرَفعه، وَذَلِكَ فِي الْخَبَر مَا شَاءَ الله من عظمه، فَهُوَ يسبح الله تَعَالَى، فَمَا ينْطق بتسبيحه إِلَّا خلق الله تَعَالَى مِنْهَا ملكا.
وَقَوله: ﴿يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء﴾ أظهر الْأَقَاوِيل: أَن الله تَعَالَى يزِيد فِي خلق الْمَلَائِكَة وأجنحتهم مَا يَشَاء على مَا ذكرنَا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء: هُوَ الملاحة فِي الْعَيْش. وَعَن الزُّهْرِيّ قَالَ: هُوَ حسن الصَّوْت. وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره: أَنه الشّعْر الْجَعْد. وَعَن بعض التفاسير: أَنه زِيَادَة الْعقل والتمييز. وَعَن بَعضهم: هُوَ الْعلم بالصناعات.
وَقَوله: ﴿إِن الله على كل شَيْء قدير﴾ أَي: قَادر.
345
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا﴾ أَي: من رزق وغيث. وَقيل: من عَافِيَة ﴿فَلَا مُمْسك لَهَا﴾ أَي: لَا حَابِس لَهَا.
وَقَوله: ﴿وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده﴾ أَي: مَا يمْنَع فَلَا مُرْسل لَهُ من بعد الله أَي: سوى الله وَقد ثَبت أَن النَّبِي كَانَ يَقُول عقيب صَلَاة الْفَرِيضَة: " لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ على كل شَيْء قدير، اللَّهُمَّ لَا مَانع لما أَعْطَيْت، وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد ".
وَثَبت هَذِه اللَّفْظَة عَنهُ أَنه قَالَهَا فِي الْقيام بَين الرُّكُوع وَالسُّجُود.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ أَي: الْغَالِب فِي ملكة (الْجَحِيم فِي تَدْبِير خلقه).
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّاس اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم﴾ أَي: منَّة الله عَلَيْكُم.
345
﴿أَيهَا النَّاس اذْكروا نعمت الله عَلَيْكُم هَل من خَالق غير الله يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون (٣) وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت رسل من قبلك وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (٤) يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور (٥) إِن الشَّيْطَان لكم عَدو فاتخذوه عدوا إِنَّمَا يَدْعُو حزبه ليكونوا من﴾
وَقَوله: ﴿هَل من خَالق غير الله﴾ اسْتِفْهَام على وَجه التَّقْرِير، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا خَالق غير الله.
وَقَوله: ﴿يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض﴾ أَي: من السَّمَاء الْمَطَر، وَمن الأَرْض النَّبَات.
وَقَوله: ﴿لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون﴾ أَي: تصرفون عَن الْحق.
345
وَقَوله: ﴿وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت رسل من قبلك وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور﴾ أَي: ترد الْأُمُور.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد الله حق﴾ يَعْنِي: وعد الْقِيَامَة حق.
وَقَوله: ﴿فَلَا [تغرنكم] الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ وَفِي الْأَثر: أَن الله تَعَالَى مَا أعطي أحدا شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا اغْتِرَارًا، وَمَا زوى من أحد شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا اختبارا.
وَقَوله: ﴿وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور﴾ أَي: لَا يَغُرنكُمْ الْغرُور، وَهُوَ الشَّيْطَان. قَالَ الْحسن: من الْغرُور أَن تعْمل الْمعْصِيَة، وتتنمى على الله الْمَغْفِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الشَّيْطَان لكم عَدو فاتخذوه عدوا﴾ أَي: عادوه بِطَاعَة الله.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يَدْعُو حزبه﴾ أَي: أَتْبَاعه.
وَقَوله: ﴿ليكونوا من أَصْحَاب السعير﴾ أَي: ليكونوا فِي السعير، والسعير هُوَ النَّار المتوقدة.
345
﴿أَصْحَاب السعير (٦) الَّذين كفرُوا لَهُم عَذَاب شَدِيد وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة وَأجر كريم (٧) أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا فَإِن الله﴾
347
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين كفرُوا لَهُم عَذَاب شَدِيد وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصلحات لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير﴾ أَي: عَظِيم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله﴾ نزلت الْآيَة فِي أبي جهل وَأبي بن خلف وَعتبَة وَشَيْبَة وَالْعَاص بن وَائِل وَالْأسود بن عبد يَغُوث وَعقبَة بن أبي معيط وأشباههم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي أهل الْأَهْوَاء والبدع، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْكفَّار؛ لِأَن عَلَيْهِ أَكثر أهل التَّفْسِير. وَعَن قَتَادَة: أَنه قَالَ: مِنْهُم الْخَوَارِج الَّذين يسْتَحلُّونَ الدِّمَاء وَالْأَمْوَال، قَالَ: وَأما أهل الْكَبَائِر فَلَيْسَ مِنْهُم؛ لأَنهم لَا يسْتَحلُّونَ الْكَبَائِر. وَكَذَلِكَ الْعمَّال الظلمَة، لأَنهم يظْلمُونَ، ويعلمون أَنَّهَا لَيست بحلال لَهُم.
وَقَوله: ﴿فَرَآهُ حسنا﴾ (وَفِي الْآيَة حذف على طريقتين أَحدهمَا: أَن معنى الْآيَة أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا) كمن هداه الله ﴿فَإِن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء﴾ وَالطَّرِيق الثَّانِي، أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا ذهبت نَفسك عَلَيْهِ حسرة، فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات، فَإِن الله يضل من يَشَاء، وَيهْدِي من يَشَاء، وَالْحَسْرَة هُوَ النَّدَم الشَّديد على مَا فَاتَ.
وَقَوله: ﴿إِن الله عليم بِمَا يصنعون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله الَّذِي أرسل الرِّيَاح فتشير سحابا فسقناه إِلَى بلد ميت﴾ أى: لَا ينْبت فِيهَا.
وَقَوله: ﴿فأحيينا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا [كَذَلِك] النشور﴾ أَي: كَذَلِك النشور
347
﴿يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات إِن الله عليم بِمَا يصنعون (٨) وَالله الَّذِي أرسل الرِّيَاح فتثير سحابا فسقناه إِلَى بلد ميت فأحيينا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا كَذَلِك النشور (٩) من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا إِلَيْهِ يصعد﴾ فِي الْآخِرَة. وروى وَكِيع بن عدس عَن أبي رزين الْعقيلِيّ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، كَيفَ يحيي الله الْمَوْتَى؟ قَالَ لَهُ: هَل مَرَرْت قطّ بِأَرْض قحل أَي: يَابِس ثمَّ مَرَرْت بهَا وَهِي تهتز خضرًا قَالَ: نعم. قَالَ: كَذَلِك يحيي الله الْمَوْتَى ".
348
قَوْله تَعَالَى: ﴿من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة﴾ الْعِزَّة: هِيَ المنعة.
وَقَوله: ﴿فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا﴾ قَالَ الْفراء: معنى الْآيَة: من كَانَ يُرِيد أَن يعلم لمن الْعِزَّة، فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا. وَقَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فليتعزز بِطَاعَة الله. قَالَ أهل النَّحْو: هَذَا مثل مَا يَقُول الْإِنْسَان: من كَانَ يُرِيد المَال فَالْمَال لفُلَان أَي: ليطلب المَال عِنْد فلَان، كَذَلِك معنى قَوْله: ﴿من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا﴾ أَي: فليطلب الْعِزَّة من عِنْده. وَقَالَ بعض أهل التَّفْسِير: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يعْبدُونَ الْأَصْنَام، ويتقربون بذلك إِلَى الله تَعَالَى، وَيطْلبُونَ الْعِزّ من عِنْد الْأَصْنَام، قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة ليكونوا لَهُم عزا﴾ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمرهمْ أَن يطلبوا الْعِزّ من الله لَا من الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب﴾ فِي الْكَلم الطّيب أَقْوَال أَحدهَا: أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله. وَالْآخر: أَنه الْقُرْآن، ذكره شهر بن حَوْشَب، وَالثَّالِث: أَنه ذكر الله. وَعَن قَتَادَة
348
﴿الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ وَالَّذين يمكرون السَّيِّئَات لَهُم عَذَاب شَدِيد ومكر﴾ قَالَ: إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب [أَي] : يقبل الله الْكَلم الطّيب. وَعَن (ابْن مَسْعُود) قَالَ: مَا نحدثكم بِحَدِيث إِلَّا أَتَيْنَاكُم تَصْدِيق ذَلِك من كتاب الله تَعَالَى، ثمَّ قَالَ: مَا من عبد يَقُول سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وتبارك الله، إِلَّا قبض عَلَيْهِنَّ (ملك) وضمهن تَحت جنَاحه، ثمَّ يصعد بهَا إِلَى السَّمَاء، ثمَّ [لَا] يمر بِجمع من الْمَلَائِكَة إِلَّا اسْتَغْفرُوا لِقَائِلِهِنَّ حَتَّى يَجِيء بِهن وَجه الرَّحْمَن ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ﴾ وَقيل: الْكَلم الطّيب هُوَ الدُّعَاء من الْعباد.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى كل يَوْم: أَنا الْعَزِيز، فَمن أَرَادَ عز الدَّاريْنِ فليطع الْعَزِيز ".
وَقَوله: ﴿وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا رُوِيَ عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهم أَنهم قَالُوا: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ أَي: الْعَمَل الصَّالح يرفع الْكَلم الطيبِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول قَتَادَة؛ قَالَ: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ أَي: يرفعهُ الله.
وَالْقَوْل الثَّالِث: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ الْكَلم الطّيب. وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ الأول،
349
﴿أُولَئِكَ هُوَ يبور (١٠) وَالله خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ جعلكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره إِلَّا فِي كتاب إِن﴾ وَقد رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: يعرض القَوْل على الْعَمَل، فَإِن وَافقه رفع القَوْل مَعَ الْعَمَل، وَإِن خَالفه كَانَ الْعَمَل أولى بِهِ. وَفِي بعض الْآثَار: أَن العَبْد إِذا قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله بنية صَادِقَة رفع إِلَى الله تَعَالَى وَله دوى كدوى النَّحْل، حَتَّى يلقى بَين يَدَيْهِ فَينْظر الله تَعَالَى [لَهُ] نظرة لَا ييأس بعْدهَا أبدا؛ هَذَا إِذا وَافقه عمله، وَإِن خَالفه وقف قَوْله حَتَّى يَتُوب من عمله. (وَإِن خَالفه وقف).
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين يمكرون السَّيِّئَات﴾ أَي: يعْملُونَ السَّيِّئَات، وَيُقَال: نزلت فِي مكر الْكفَّار برَسُول الله حَتَّى خرج من مَكَّة مُهَاجرا إِلَى الْمَدِينَة على مَا ذكرنَا.
وَقَوله: ﴿لَهُم عَذَاب شَدِيد ومكر أُولَئِكَ هُوَ يبور﴾ أَي: يهْلك وَيبْطل.
350
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله خَلقكُم من تُرَاب﴾ التُّرَاب (جسم) مدقق من جنس الطين.
وَقَوله: ﴿ثمَّ من نُطْفَة﴾ ذكر السّديّ أَن النُّطْفَة إِذا وَقعت فِي الرَّحِم طارت فِي كل عظم وَشعر و (عصب) فَإِذا مَضَت أَرْبَعُونَ يَوْمًا نزلت إِلَى الرَّحِم، وَخلق الله مِنْهَا الْعلقَة.
وَقَوله: ﴿ثمَّ جعلكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أَي: أصنافا. وَفِي تَفْسِير ابْن فَارس: ﴿جعلكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أَي: زوج بَعْضكُم من بعض.
وَقَوله: ﴿وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ أَي: لَا يغيب عَنهُ شَيْء من ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَمَا يعمر من معمر﴾ يَعْنِي: مَا يطول عمر معمر حَتَّى يُدْرِكهُ الْهَرم. وَقَوله: ﴿وَلَا ينقص من عمره﴾ فَيرجع إِلَى الأول، وَالْجَوَاب: أَنه يجوز أَن يذكر على
350
﴿ذَلِك على الله يسير (١١) وَمَا يَسْتَوِي البحران هَذَا عذب فرات سَائِغ شرابه وَهَذَا ملح أجاج وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وَترى الْفلك فِيهِ﴾ هَذَا الْوَجْه، وَيُرَاد بِهِ غير الأول، وَهَذَا كَمَا أَن الرجل يَقُول: عِنْدِي دِرْهَم وَنصفه أَي: نصف دِرْهَم آخر، أوردهُ الزّجاج وَغَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي: ﴿وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره﴾ هُوَ منصرف إِلَى الأول. قَالَ كَعْب الْأَحْبَار حِين حضرا [عمر] الْوَفَاة: وَالله لَو دَعَا عمر ربه أَن يُؤَخر أَجله لأخره، فَقَالُوا لَهُ: إِن الله يَقُول: ﴿فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾. فَقَالَ: هَذَا إِذا حَضَره الْأَجَل، فَأَما قبل ذَلِك فَيجوز أَن يُزَاد وَينْقص، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة. وَذكر بَعضهم: أَن مِثَال هَذَا أَن الله تَعَالَى يكْتب أَن عمر فلَان مائَة سنة إِن أَطَاعَنِي، وعمره خَمْسُونَ أَو سِتُّونَ إِن عَصَانِي، وَهَذَا جَائِز.
وَقَوله: ﴿إِلَّا فِي كتاب﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا وَهُوَ مَكْتُوب فِي كتاب. وَفِي التَّفْسِير أَن الله تَعَالَى يكْتب أجل العَبْد فِي كتاب، ثمَّ يكْتب فِي كتاب (آخر) : قد انْتقصَ من عمره يَوْم، شهر، سنة، إِلَى أَن يسْتَوْفى أَجله. وَذكر بَعضهم أَنه يكْتب تَحت ذَلِك الْكتاب الأول.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك على الله يسير﴾ أَي: هَين.
351
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي البحران هَذَا عذب فرات﴾ أَي: شَدِيد العذوبة.
وَقَوله: ﴿سَائِغ شرابه﴾ أَي: سهل الْمدْخل.
وَقَوله: ﴿وَهَذَا ملح أجاج﴾ أَي: ملح شَدِيد الملوحة. وَفِي الْآيَة بَيَان الْقُدْرَة فِي خلق المَاء العذب والأجاج.
وَقَوله: ﴿وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا﴾ أَي: الْحيتَان.
وَقَوله: ﴿وتستخرجون حلية تلبسونها﴾ الدّرّ والمرجان والجواهر. قَالَ عِكْرِمَة: مَا
351
﴿مواخر لتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (١٢) يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي لأجل مُسَمّى ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك وَالَّذين تدعون من دونه مَا يملكُونَ من قطمير (١٣) إِن تدعوهم لَا يسمعوا دعاءكم وَلَو﴾ قطرت من السَّمَاء قَطْرَة إِلَى الأَرْض إِلَّا أنبتت عشبة، وَمَا قطرت فِي الْبَحْر قَطْرَة إِلَّا صَارَت درة، فَإِن قيل: قد قَالَ: ﴿وتستخرجون حلية تلبسونها﴾ والدر والمرجان والجواهر لَا تخرج من الأجاج، وَإِنَّمَا تخرج من العذب؟ وَقد قَالَ: ﴿وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا وتستخرجون [حلية] ﴾ الْجَواب عَنهُ: يجوز أَن ينْسب إِلَيْهِمَا وَإِن كَانَ يسْتَخْرج من أَحدهمَا، وَمثل هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب كثير.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَن فِي الْبَحْر الأجاج تكون عيُونا عذبة، فتمتزج بالملح، وَتَكون من بَين ذَلِك الْجَوَاهِر.
وَقَوله: ﴿وَترى الْفلك فِيهِ مواخر﴾ قَالَ الْحسن: مواقير أَي: ممتلئة. وَعَن بَعضهم: مُعْتَرضَة تَجِيء وَتذهب. وَقيل: جواري. والمخر: هُوَ الشق، فَكَأَن الْفلك يشق المَاء بصدره، فَذكر مواخر على هَذَا الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ولتبتغوا من فَضله﴾ أَي: لتطلبوا من فَضله، وفضله هُوَ التِّجَارَات فِي الْبَحْر.
وَقَوله: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ أَي: تشكرون نعم الله.
352
قَوْله تَعَالَى: ﴿يولج اللَّيْل فِي النَّهَار﴾ قد بَينا هَذَا من قبل.
وَقَوله: ﴿ [ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل] وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر﴾ قَالَ قَتَادَة: طول الشَّمْس ثَمَانُون فرسخا، وعرضها سِتُّونَ فرسخا. وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: جرم الشَّمْس كسعة الدُّنْيَا (وَزِيَادَة ثلث، وجرم الْقَمَر كسعة الدني) بِلَا زِيَادَة.
وَقَوله: ﴿كل يجْرِي لأجل مُسَمّى﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك وَالَّذين تدعون من دونه﴾ أَي: من الْأَصْنَام.
352
﴿سمعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكم وَيَوْم الْقِيَامَة يكفرون بشرككم وَلَا ينبئك مثل خَبِير (١٤) يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد (١٥) إِن يَشَأْ﴾
وَقَوله: ﴿مَا يملكُونَ من قمطير﴾ قَالَ مُجَاهِد: القطمير: لفافة النواة، وَهُوَ كسحل البصلة، وَعَن بَعضهم: القمطير وسط النواة، وَالْمعْنَى أَنه يملك شَيْئا قَلِيلا وَلَا كثيرا.
353
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن تدعوهم لَا يسمعوا دعاءكم﴾ يَعْنِي: إِن تدعوا الْأَصْنَام لَا يسمعوا دعاءكم.
وَقَوله: ﴿وَلَو سمعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكم﴾ أَي: مَا أجابوكم.
وَقَوله: ﴿وَيَوْم الْقِيَامَة يكفرون بشرككم﴾ أَي: يجحدون بشرككم وموالاتكم إيَّاهُم.
وَقَوله: ﴿وَلَا ينبئك مثل خَبِير﴾ أَي: وَلَا ينبئك بِهَذَا أحد مثلي، والخبير هُوَ الله تَعَالَى، وَالْمعْنَى أَن الَّذِي أَنْبَأَك بِهَذَا خَبِير بالأمور، عَالم بهَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله﴾ أَي: إِلَى فضل الله، وَالْفَقِير هُوَ الْمُحْتَاج.
وَقَوله: ﴿وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد﴾ أَي: الْغَنِيّ عَن خلقه، الْمَحْمُود فِي إحسانه بخلقه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن يَشَأْ يذهبكم﴾ أَي: يهلككم حَتَّى لَا يبْقى مِنْكُم عين تطرف.
وَقَوله: ﴿وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد﴾ أَي: خلق لم يَكُونُوا أنشأهم وابتدأهم.
وَقَوله: ﴿وَمَا ذَلِك على الله بعزيز﴾ أَي: بشديد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى﴾ أَي: لَا يُؤَاخذ أحد بذنب غَيره.
وَقَوله: ﴿وَإِن تدع مثقلة﴾ أَي: مثقلة بِالذنُوبِ ﴿إِلَى حملهَا﴾ أَي: إِن دَعَوْت أحدا أَن يحمل ذنُوبه عَنهُ.
353
﴿يذهبكم وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد (١٦) وَمَا ذَلِك على الله بعزيز (١٧) وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَإِن تدع مثقلة إِلَى حملهَا لَا يحمل مِنْهُ شَيْء وَلَو كَانَ ذَا قربى إِنَّمَا تنذر الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَمن تزكّى فَإِنَّمَا يتزكى لنَفسِهِ وَإِلَى الله الْمصير (١٨) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير (١٩) وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور (٢٠) وَلَا الظل وَلَا﴾
وَقَوله: ﴿لَا يحمل مِنْهُ شَيْء وَلَو كَانَ ذَا قربى﴾ أَي: لَا يجد من يحمل عَنهُ، وَإِن كَانَ الْمَدْعُو قَرِيبا أَبَا أَو أَبنَاء. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن الرجل (يلقِي) يَوْم الْقِيَامَة أَبَاهُ أَو ابْنه، فَيَقُول: احْمِلْ عني بعض ذُنُوبِي، فَيَقُول: لَا أَسْتَطِيع، حسبي مَا عَليّ. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي قَالَ لمن اسْلَمْ من بني مَخْزُوم: ارْجعُوا عَن الْإِسْلَام، وَأَنا أحمل ذنوبكم يَوْم الْقِيَامَة إِن خِفْتُمْ من الذُّنُوب؛ فَانْزِل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا تنذر الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ﴾ قد بَينا الخشية بِالْغَيْبِ.
وَقَوله: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَمن تزكّى فَإِنَّمَا يتزكى لنَفسِهِ﴾ معنى التزكي هَا هُنَا هُوَ الْعَمَل الصَّالح.
وَقَوله: ﴿وَإِلَى الله الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
354
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير﴾ معنى الْأَعْمَى: عَن الْهدى، والبصير بِالْهدى. وَعَن بَعضهم: الْأَعْمَى عَن الْحق، والبصير بِالْحَقِّ.
وَقَوله: ﴿وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور﴾ والظلمات هِيَ الضلالات ﴿وَلَا النُّور﴾ هُوَ الْهِدَايَة وَالْبَيَان من الله تَعَالَى. وَقيل: هَذَا تَمْثِيل الْكفْر وَالْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿وَلَا الظل وَلَا الحرور﴾ أَي: الْجنَّة وَالنَّار. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الحرور يكون بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْس. وَعَن غَيره: السمُوم بِالنَّهَارِ، والحرور بِاللَّيْلِ. وَعَن بَعضهم: الحرور هُوَ الْحر الدَّائِم لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا، قَالَ الشَّاعِر:
354
﴿الحرور (٢١) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات إِن الله يسمع من يَشَاء وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور (٢٢) إِن أَنْت إِلَّا نَذِير (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير (٢٤) وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذب الَّذين من قبلهم جَاءَتْهُم﴾
(وهاجرة يشوي الْوُجُوه حرورها... )
355
وَقَوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات﴾ أَي: الْمُؤْمِنُونَ وَالْكفَّار. وَعَن [ابْن] قُتَيْبَة قَالَ: الْعلمَاء والجهال.
وَقَوله: ﴿إِن الله يسمع من يَشَاء﴾ أَي: من يَشَاء إسماعه.
وَقَوله: ﴿وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور﴾ أَي: لَا تسمع الْكفَّار، وشبههم بالأموات فِي الْقُبُور.
وَقَوله: ﴿إِن أَنْت إِلَّا نَذِير﴾ أَي: مُنْذر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا﴾ أَي مبشرا ومنذرا.
وَقَوله: ﴿وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير﴾ أَي: مُنْذر. وَفِي بعض التفاسير: إِلَّا الْعَرَب لم يكن لَهُم نَبِي سوى النَّبِي. وَفِي بعض الحكايات: أَن بهْلُول الْمَجْنُون لَقِي أَبَا يُوسُف القَاضِي، فَقَالَ لَهُ: إِن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير﴾ وَقَالَ النَّبِي: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها "، فَمَا نَذِير الْكلاب؟ ! فتحير أَبُو يُوسُف؛ فَأخْرج حجرا من كمه وَقَالَ: هَذَا نَذِير الْكلاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذب الَّذين من قبلهم جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب الْمُنِير﴾ أَي: الْكتاب الْوَاضِح، وَذكر الْكتاب بعد الزبر على طَرِيق
355
﴿رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب الْمُنِير (٢٥) ثمَّ أخذت الَّذين كفرُوا فَكيف كَانَ نَكِير (٢٦) ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ ثَمَرَات مُخْتَلفا ألوانها وَمن الْجبَال جدد بيض وحمر مُخْتَلف ألوانها وغرابيب سود (٢٧) وَمن النَّاس وَالدَّوَاب والأنعام مُخْتَلف ألوانه كَذَلِك إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء إِن الله عَزِيز غَفُور﴾ التَّأْكِيد.
356
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ أخذت الَّذين كفرُوا فَكيف كَانَ نَكِير﴾ أَي: إنكاري وتغييري.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء﴾ (قَوْله) :﴿فأخرجنا بِهِ ثَمَرَات مُخْتَلفا ألوانها﴾ أَي: أَبيض وأحمر وأصفر، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَمن الْجبَال جدد﴾ أَي: طرائق (وخطط) ﴿بيض﴾، والجدد: جمع جدة، وَهُوَ الطَّرِيق.
وَقَوله: ( ﴿وحمر﴾ ) أَي: طرائق حمرَة.
قَوْله: ﴿مُخْتَلف ألوانها وغرابيب سود﴾ أَي: سود غرابيب على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، يُقَال: أسود غربيب أَي: شَدِيد السوَاد، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله يكره الشَّيْخ الغربيب " أَي الَّذِي يسود لحيته، والخضاب بالحمرة سنة، أما بِالسَّوَادِ مَكْرُوه. وَمعنى الْآيَة أى: طرائق سود.
وَقَوله: ﴿وَمن النَّاس وَالدَّوَاب والأنعاممختلف ألوانه كَذَلِك﴾ أى: مُخْتَلف ألوان هَذِه الْأَشْيَاء، كَمَا اخْتلفت ألوان مَا سبق ذكره.
356
( ﴿٢٨) إِن الَّذين يَتلون كتاب الله وَأَقَامُوا الصَّلَاة وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة يرجون تِجَارَة لن تبور (٢٩) ليوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله إِنَّه غَفُور شكور (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك من الْكتاب هُوَ الْحق مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ إِن الله بعباده﴾
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء﴾ وَمن الْمَعْرُوف فِي الْآثَار: " رَأس الْعلم خشيَة الله ". وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا: كفى بخشية الله علما، وبالاغترار بِهِ جهلا. وَيُقَال: أول كلمة فِي الزبُور رَأس الْحِكْمَة خشيَة الله. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء أَي: من يعلم ملكي وعزي وسلطاني. وَعَن بَعضهم: إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء الَّذين يعلمُونَ أَن الله على كل شَيْء قدير، وَعَن بعض التَّابِعين قَالَ: من لم يخْش الله فَلَيْسَ بعالم. وَيُقَال: خف الله بِقدر قدرته عَلَيْك، واستح من الله بِقدر قربه مِنْك.
وَقَوله: ﴿إِن الله عَزِيز غَفُور﴾ أَي: عَزِيز فِي ملكه، غَفُور (لذنوب عباده).
357
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين يَتلون كتاب الله وَأَقَامُوا الصَّلَاة وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة يرجون تِجَارَة لن تبور﴾ أَي: لن تهْلك وَلنْ تفْسد، وَالْمرَاد من التِّجَارَة مَا وعده الله من الثَّوَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ليوفيهم أُجُورهم﴾ أَي: ثَوَاب أَعْمَالهم.
وَقَوله: ﴿ويزيدهم من فَضله﴾ هُوَ تَضْعِيف الْحَسَنَات، قَالَ بَعضهم: هُوَ الشَّفَاعَة لمن أحسن إِلَيْهِم، فعلى هَذَا يشفع الْفَقِير للغنى الَّذِي تصدق عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿إِنَّه غَفُور شكور﴾ يُقَال: يغْفر الْكثير من الذُّنُوب، ويشكر الْيَسِير من الطَّاعَات.
357
﴿لخبير بَصِير (٣١) ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات بِإِذن الله ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير (٣٢) جنَّات﴾
358
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك من الْكتاب هُوَ الْحق مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ﴾ أَي: من الْكتب الْمُتَقَدّمَة.
وَقَوله: ﴿إِن الله بعباده لخبير بَصِير﴾ أَي خَبِير بِمَا فِي ضمائرهم، بَصِير [بأفعالهم].
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد من قَوْله: ﴿الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا﴾ هَذِه الْأمة، وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ الْأَنْبِيَاء، وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ بَنو إِسْرَائِيل، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَشْهُور.
وَقَوله: ﴿وأورثنا الْكتاب﴾ المُرَاد من الْكتاب: هُوَ الْقُرْآن.
وَمعنى الْآيَة: أى انْتهى إِلَيْهِم الْأَمر بإنزالنا عَلَيْهِم الْقُرْآن، وبإرسالنا مُحَمَّدًا إِلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ﴾ اخْتلف القَوْل فِي المُرَاد بالظالم، فَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالظالم هُوَ الْكَافِر، ذكره الْكَلْبِيّ وَغَيره. وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ الْمُنَافِق، فعلى هَذَا لَا يدْخل الظَّالِم فِي قَوْله: ﴿جنَّات عدن يدْخلُونَهَا﴾ وَقد رُوِيَ هَذَا القَوْل أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَنه حمل الظَّالِم على الْكَافِر.
وَالْقَوْل الْمَشْهُور أَن الظَّالِم لنَفسِهِ من الْمُؤمنِينَ، وعَلى هَذَا يَسْتَقِيم نسق الْآيَة، وعَلى القَوْل الأول يحمل قَوْله: ﴿الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا﴾ على الاصطفاء فِي الْخلقَة وإرسال الرَّسُول وإنزال الْكتاب، وعَلى القَوْل الثَّانِي يحمل الأصطفاء على الزِّيَادَة الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة من بَين سَائِر الْأُمَم. وَقد روى شهر بن جوشب أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سَابِقنَا سَابق، وَمُقْتَصِدنَا نَاجٍ، وَظَالِمنَا مغْفُور. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: السَّابِق هم الَّذين مضوا على عهد النَّبِي، والمقتصد هم الَّذين اتَّبَعُوهُمْ، والظالم مثلي وَمثلك، تَقول ذَلِك للمخاطب.
358
﴿عدن يدْخلُونَهَا يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فِيهَا حَرِير (٣٣)
وَعَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: السَّابِق هُوَ الَّذِي لَا يُحَاسب أصلا يَوْم الْقِيَامَة، والمقتصد هُوَ الَّذِي يُحَاسب حسابا يَسِيرا وَيدخل الْجنَّة، والظالم هُوَ الَّذِي يُحَاسب حسابا شَدِيدا وَيدخل النَّار ثمَّ ينجو.
وَعَن بَعضهم: أَن الظَّالِم لنَفسِهِ هم أَصْحَاب المشأمة، والمقتصد هم أَصْحَاب الميمنة، وَالسَّابِقُونَ هم المقربون، ذكره السّديّ، فعلى هَذَا الظَّالِم لنَفسِهِ كَافِر. وَعَن بَعضهم: أَن الظَّالِم لنَفسِهِ هم أَصْحَاب الْكَبَائِر، والمقتصد هم أَصْحَاب الصَّغَائِر، وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي لم يرتكب صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة، وَعبر بَعضهم عَن هَذَا؛ قَالَ: المقتصد هم أَصْحَاب التَّوَسُّط فِي الطَّاعَات، فعلى هَذَا من غلبت سيئاته على حَسَنَاته فَهُوَ ظَالِم، وَمن اسْتَوَت سيئاته وحسناته فَهُوَ مقتصد، وَمن غلبت حَسَنَاته على سيئاته فَهُوَ سَابق، وَهَذَا قَول مَعْرُوف مأثور [عَن رَسُول الله].
وَعَن بَعضهم قَالَ: الظَّالِم آدم، والمقتصد إِبْرَاهِيم، وَالسَّابِق هُوَ مُحَمَّد. وَقَالَ بَعضهم: الظَّالِم هُوَ المريد، والمقتصد هُوَ الْمُحب، وَالسَّابِق هُوَ الواله. وَقَالَ بَعضهم: الظَّالِم هُوَ الَّذِي همه نَفسه وَالدُّنْيَا، والمقتصد هُوَ الَّذِي همه الْجنَّة، وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي همه ربه.
وَعَن بَعضهم قَالَ: الظَّالِم هُوَ الْوَاقِف، والمقتصد هُوَ السائر، وَالسَّابِق هُوَ الْوَاصِل. وَفِي الْآيَة كَلَام كثير.
وَقَوله: { [وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق] بالخيرات بِإِذن الله﴾
أَي: بالطاعات: بِعلم الله.
وَقَوله: ﴿ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير﴾ أَي: الْفضل الْعَظِيم.
359
قَوْله تَعَالَى: ﴿جنَّات عدن يدْخلُونَهَا﴾ رُوِيَ عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ
359
﴿وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن إِن رَبنَا لغَفُور شكور (٣٤) الَّذِي أحلنا دَار المقامة من فَضله لَا يمسنا فِيهَا نصب وَلَا يمسنا فِيهَا لغوب (٣٥) وَالَّذين كفرُوا لَهُم﴾ أَنه قَالَ: أَرْجَى آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة؛ لِأَنَّهُ جمع بَين الظَّالِم والمقتصد وَالسَّابِق، ثمَّ قَالَ: ﴿جنَّات عدن يدخلوها﴾ وَعَن بَعضهم قَالَ: إِن الْوَاو فِي قَوْله: ﴿يدْخلُونَهَا﴾ أحب إِلَيّ من كَذَا وَكَذَا. وَعَن كثير من السّلف أَنهم قَالُوا: كل هَؤُلَاءِ من هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب﴾ ظَاهر الْمَعْنى. والأساور: جمع السوار.
وَقَوله: ﴿ولؤلؤ﴾ أَي: من ذهب ولؤلؤ، وَقُرِئَ: " ولؤلؤا " بِالنّصب أَي: يحلونَ لؤلؤا.
وَقَوله: ﴿ولباسهم فِيهَا حَرِير﴾ أَي: الديباج. وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة "، وَقَالَ: " هُوَ لَهُم فِي الدُّنْيَا، وَلنَا فِي الْآخِرَة ".
360
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: حزن النَّار. وَعَن قَتَادَة: حزن الْمَوْت. وَعَن بَعضهم: هم الْمَعيشَة.
وَقَالَ مُجَاهِد: هم الْخبز. وَالْأولَى أَن يحمل على جَمِيع الأحزان، فهم ينجون عَن كلهَا، وَمن الْمَعْرُوف أَن الْحزن: هُوَ حزن أهوال الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿إِن رَبنَا لغَفُور شكور﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذِي أحلنا دَار المقامة من فَضله﴾ قد بَينا معنى المقامة والمقامة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لَا يمسنا فِيهَا نصب وَلَا يمسنا فِيهَا لغوب﴾ أَي: تَعب وإعياء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين كفرُوا لَهُم نَار جَهَنَّم لَا يقْضى عَلَيْهِم فيموتوا﴾ أَي: لَا يقْضِي عَلَيْهِم الْمَوْت فيموتوا.
وَقَوله: ﴿وَلَا يُخَفف عَنْهُم من عَذَابهَا﴾ أَي: من عَذَاب النَّار.
360
﴿نَار جَهَنَّم لَا يقْضى عَلَيْهِم فيموتوا وَلَا يُخَفف عَنْهُم من عَذَابهَا كَذَلِك نجزي كل كفور (٣٦) وهم يصطرخون فِيهَا رَبنَا أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل أَو لم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر وَجَاءَكُم النذير فَذُوقُوا فَمَا للظالمين من نصير (٣٧) ﴾
وَقَوله: ﴿كَذَلِك نجزي كل كفور﴾ أَي: كفور للنعمة.
361
قَوْله تَعَالَى: ﴿وهم يصطرخون فِيهَا﴾ يصطرخون يفتعلون من الصُّرَاخ، وَهُوَ الصياح.
وَقَوله: ﴿رَبنَا أخرجنَا﴾ أَي: يصطرخون وَيَقُولُونَ: ﴿رَبنَا أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل﴾ أَي: نعمل من الصَّالِحَات بدل مَا كُنَّا نعمل من السَّيِّئَات.
وَقَوله: ﴿أَو لم نُعَمِّركُمْ﴾ أَي: يَقُول الله تَعَالَى لَهُم: ﴿أَو لم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر﴾ مَعْنَاهُ: أَو لم نُعَمِّركُمْ الْعُمر الَّذِي يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر. وَاخْتلف القَوْل فِي ذَلِك الْعُمر؛ فالأكثرون على أَنه سِتُّونَ سنة، (وَهَذَا) مَرْوِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقد روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من عمره الله سِتِّينَ سنة فقد أعذر إِلَيْهِ فِي الْعُمر ". وَعَن بَعضهم: أَنه أَرْبَعُونَ سنة. وَعَن بَعضهم: ثَمَانِيَة عشر سنة. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الْبلُوغ. وَعَن بَعضهم: هُوَ سَبْعُونَ سنة؛ لِأَنَّهُ، عِنْد ذَلِك يدْخل فِي الْهَرم.
وَقَوله: ﴿وَجَاءَكُم النذير﴾ أَي: مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الشيب، حكى ذَلِك عَن وهب بن مُنَبّه وَغَيره. وَفِي الْأَثر: مَا من شَعْرَة تبيض إِلَّا قَالَت لأختها: يَا أُخْتِي، استعدي فقد قرب الْمَوْت. وَقَالَ بَعضهم: الشيب (حطام) الْمنية. وَسَماهُ بَعضهم بريد الْمَوْت.
361
﴿إِن الله عَالم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (٣٨) هُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف فِي الأَرْض فَمن كفر فَعَلَيهِ كفره وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم عِنْد رَبهم إِلَّا مقتا وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم إِلَّا خسارا (٣٩) قل أَرَأَيْتُم شركاءكم الَّذين تدعون من دون﴾
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قَوْله: ﴿وَجَاءَكُم النذير﴾ كل مَا ينذر ويخوف بهَا. وَفِي غَرِيب التَّفْسِير: أَنه الْحمى. وَقيل أَيْضا: هُوَ الْعقل.
وَقَوله: ﴿فَذُوقُوا فَمَا للظالمين من نصير﴾ أَي: نَاصِر.
362
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله عَالم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ (الْآيَة) ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف فِي الأَرْض﴾ أَي: يخلف بَعْضكُم بَعْضًا، وكل من تَلا إنْسَانا، وَقَامَ بعده فَهُوَ خَلِيفَته، وَلِهَذَا سمي أَبُو بكر خَليفَة رَسُول الله؛ لِأَنَّهُ قَامَ بِالْأَمر بعده، وَإِلَّا فَعِنْدَ أهل الْعلم أَن الرَّسُول توفّي، وَلم يسْتَخْلف أحدا. وَمن هَذَا قَول عمر رَضِي الله عَنهُ حِين حَضرته الْوَفَاة. وَقيل لَهُ: اسْتخْلف. فَقَالَ: إِن لم أستخلف فَلم يسْتَخْلف رَسُول الله، وَإِن اسْتخْلف فقد أستخلف أَبُو بكر، وَهَذَا قو ل ثَابت عَن عمر.
وَقَوله: ﴿فَمن كفر فَعَلَيهِ كفره﴾ أَي: فَعَلَيهِ وبال كفره.
وَقَوله: ﴿وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم عِنْد رَبهم إِلَّا مقتا﴾ أَي: بغضا. وَقيل: مَا يُوجب لَهُم المقت.
وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم إِلَّا خسارا﴾ أَي: خسرانا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أَرَأَيْتُم شركاءكم الَّذين تدعون من دون الله﴾ أَي: الَّذين جعلتموهم شركائي على زعمكم من الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة.
وَقَوله: ﴿اروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض﴾ أَي: أعلموني.
وَقَوله: ﴿أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات﴾ أَي: شركَة.
362
﴿الله أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات أم آتَيْنَاهُم كتابا فهم على بَيِّنَة مِنْهُ بل إِن يعد الظَّالِمُونَ بَعضهم بَعْضًا إِلَّا غرُورًا (٤٠) إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤١) ﴾
وَقَوله: ﴿أم آتَيْنَاهُم كتابا فهم على بَيِّنَة مِنْهُ﴾ أَي: على دَلَائِل وَاضِحَة مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿بل إِن يعد الظَّالِمُونَ﴾ أَي: مَا يعد الظَّالِمُونَ بَعضهم بَعْضًا إِلَّا غرُورًا، والغرور كل مَا يغر الْإِنْسَان مِمَّا لَا أصل لَهُ.
363
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا﴾ مَعْنَاهُ: لِئَلَّا تَزُولَا، وَقيل: كَرَاهَة أَن تَزُولَا.
وَقَوله: ﴿وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده﴾ أَي: لَا يمسكهما أحد سواهُ، فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: ﴿وَلَئِن زالتا﴾ وَهِي لَا تَزُول؟
وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى قد قَالَ: ﴿تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا﴾ وَالله تَعَالَى يمسكهما عَن هَذِه الْأَشْيَاء. وَفِي بعض الْآثَار: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: يَا رب، كَيفَ أعلم [أَنَّك] لَا تنام؟ فَوضع فِي يَدَيْهِ قَارُورَتَيْنِ على مَا ذكرنَا.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الأَرْض ثَقيلَة متسلفة، وَالسَّمَاء خَفِيفَة مستطيرة، وَقد ألصق الله تَعَالَى أَطْرَاف السَّمَوَات بأطراف الْأَرْضين، فالسماء تمنع الأَرْض بتصعدها عَن التسفل، وَالْأَرْض تمنع السَّمَاء بثقلها عَن الصعُود، حَكَاهُ النقاش، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ فَإِن قيل: مَا معنى ذكر الْحلم هَا هُنَا؟
قُلْنَا: لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء هَمت بِمَا هَمت عُقُوبَة للْكفَّار، فَأَمْسكهَا الله تَعَالَى، وَلم يَدعهَا أَن تَزُول تركا للمعالجة فِي الْعقُوبَة، وَكَانَ ذَلِك حلما مِنْهُ جلّ جَلَاله.
363
﴿وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانكُم لَئِن جَاءَهُم نَذِير لَيَكُونن أهْدى من إِحْدَى الْأُمَم فَلَمَّا جَاءَهُم نَذِير مَا زادهم إِلَّا نفورا (٤٢) استكبارا فِي الأَرْض ومكر السَّيئ وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله فَهَل ينظرُونَ إِلَّا سنت الْأَوَّلين فَلَنْ تَجِد لسنت الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنت الله تحويلا (٤٣) أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين﴾
364
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم﴾ هَذَا فِي مُشْركي مَكَّة، فَإِنَّهُم كَانُوا قَالُوا: لَو جَاءَنَا نَذِير لَكنا أهْدى أَي: أقبل للْكتاب، وألزم لَهُ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَلم يفوا بِمَا قَالُوا حِين جَاءَهُم الرَّسُول، فَأنْزل الله تَعَالَى فِي شَأْنهمْ، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿لَئِن جَاءَهُم نَذِير لَيَكُونن أهْدى من إِحْدَى الْأُمَم﴾ أَي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم نَذِير﴾ أَي: مُحَمَّد ﴿مَا زادهم إِلَّا نفورا﴾ أَي: مَا زادهم الْمَجِيء إِلَّا نفورا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿استكبارا فِي الأَرْض﴾ يَعْنِي: أَنهم ردوا مَا ردوا استكبارا فِي الأَرْض.
وَقَوله: ﴿ومكر السَّيئ﴾ أَي: وَفعل الْمَكْر السَّيئ، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " ومكرا سَيِّئًا ". وَفِي الْمَكْر السَّيئ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الشّرك، وَالْآخر: أَنه الْمَكْر برَسُول الله.
وَقَوله: ﴿وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله﴾ أَي: لَا تنزل عُقُوبَة الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن وبال الْمَكْر رَاجع إِلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿فَهَل ينظرُونَ إِلَّا سنة الْأَوَّلين﴾ (أَي: طَريقَة الْأَوَّلين) فِي الإهلاك ونزول الْعَذَاب لَهُم.
وَقَوله: ﴿فَلَنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَالْمرَاد من التّكْرَار هُوَ التَّأْكِيد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم وَكَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة وَمَا كَانَ الله ليعجزه﴾ أَي: ليفوت عَنهُ.
364
﴿من قبلهم وَكَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة وَمَا كَانَ الله ليعجزه من شَيْء فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض إِنَّه كَانَ عليما قَدِيرًا (٤٤) وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بِمَا كسبوا مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى فَإِذا جَاءَ أَجلهم فَإِن الله كَانَ بعباده بَصيرًا (٤٥) ﴾.
وَقَوله: ﴿من شَيْء فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض إِنَّه كَانَ عليما قَدِيرًا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
365
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بِمَا كسبوا﴾ من القبائح والمعاصي.
وَقَوله: ﴿مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة﴾ أَي: على ظهر الأَرْض بِمَا كسب النَّاس من الذُّنُوب. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: إِن الْجعل تعذب فِي حجرها بذنب ابْن آدم.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى﴾ أَي: إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة.
وَقَوله: ﴿فَإِذا جَاءَ أَجلهم فَإِن الله كَانَ بعباده بَصيرًا﴾ أَي: بَصيرًا بأعمالهم يجازيهم عَلَيْهَا، الْحَسَنَة بِالْحَسَنَة، والسيئة بِالسَّيِّئَةِ.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿يس (١) وَالْقُرْآن الْكَرِيم (٢) إِنَّك لمن الْمُرْسلين (٣) على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾
تَفْسِير سُورَة يس
وَهِي مَكِّيَّة، وروى مقَاتل بن حَيَّان، عَن قَتَادَة، عَن أنس، عَن النَّبِي قَالَ: " إِن لكل شَيْء قلبا، وَإِن قلب الْقُرْآن سُورَة يس، وَمن قَرَأَ سُورَة يس أعطَاهُ الله ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن عشر مَرَّات.
وَالْخَبَر غَرِيب أوردهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه، وَالله أعلم.
Icon