ﰡ
وتسمى سورة المؤمن، وسورة الطول، وهي مكية كلها في قول أكثر القراء، وعن ابن عباس: هي مكية إلا آيتين منها هما إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ والتي بعدها، وهي خمس وثمانون آية.
والسور المبدوءة في القرآن بلفظ حم سبع سور وكلها مكية، وهي عرائس القرآن،
وروى عن أنس قول النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: الحواميم ديباج القرآن.
وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل شيء ثمرة وثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم».
وسورة غافر تدور آياتها حول مناقشة المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد وإثبات البعث والرسالة، ويتطرق الكلام إلى وصف حال المشركين والمجادلين يوم القيامة، ثم ذكر قصة فرعون وهامان وقارون للمشركين، وفي خلال ذلك سيقت آيات تثبت وصف الله بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص.
القرآن ومن جادل فيه ومن آمن به [سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
حم تقرأ هكذا: حاميم بالسكون، وقرأ بعض القراء حاميم، وفي معناها ما مضى في أول سورة البقرة وغيرها من أنها سر بين الله ورسوله الله أعلم به، أو هي سيقت للتحدى، أو هي وغيرها حروف سيقت للاستفتاح والتنبيه لخطر ما بعدها، وقد سئل رسول الله عنها
فقال: «بدء أسماء وفواتح سور»
التَّوْبِ: مصدر تاب، والمراد التوبة ذِي الطَّوْلِ: صاحب النعم والفضل، والطول: الغنى والسعة أيضا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا. تَقَلُّبُهُمْ: تصرفهم وتنقلهم وَالْأَحْزابُ أى: الأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب كعاد وثمود وَهَمَّتْ أى: عزمت لِيَأْخُذُوهُ المراد: ليقتلوه ويعذبوه لِيُدْحِضُوا أى: ليزيلوا به الحق حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وجبت ولزمت كلمة ربك، أى: حكمه وَقِهِمْ: اصرف عنهم.
ثم تعرض لموقف من آمن به وطمأنهم غاية الاطمئنان حيث جعل الملائكة تدعو لهم وتستغفر للمؤمنين.
المعنى:
هذا القرآن الكريم الذي بين يديك يا محمد تنزيله من الله، فأنت صادق فيما تدعيه من أنك رسول الله وأن القرآن من عند الله، هذا القرآن يجب اتباعه، والسير على طريقته لأنه منزل من عند الله الخالق لكل شيء، القادر الذي له ملك السموات والأرض، العزيز الذي لا يغلبه غالب، العليم الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب والشهادة، وهو مع هذا يغفر الذنوب جميعا ويقبل التوبة من عباده لأنه كتب على نفسه الرحمة، وهو مع هذا شديد العقاب لمن عصى وبغى، ولم يرع ذمة ولا عهدا، ولم يرجع نادما تائبا عما فرط منه، وهو صاحب الطول، وواهب الفضل ومجزل العطاء، وصاحب النعم في السراء والضراء، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، ترى أن الله وصف نفسه بصفات الرحمة والفضل، فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه لما كان جديرا بهذه الصفات ولما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة، أما إذا كان واحدا ليس له شريك ولا شبيه، كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة، وكانت هذه الصفات به جديرة.
فلذلك قال هنا: لا إله إلا هو ولا معبود بحق سواه، واعلموا أنه إليه وحده المرجع والمآب فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه. روى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له: تتابع في هذا الشراب وأصبح من أهل المدام، فقال عمر لكاتبه: اكتب إليه: سلام عليك وأنا أحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ.. إلى قوله إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر عمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته صحيفة عمر، جعل يقرؤها ويقول: وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه وذكرني بنعمه فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع نفسه مما هي
هذا هو القرآن الكريم الذي أنزل على النبي الصادق الأمين، والذي أنزله رب العالمين غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذو الطول. لا إله إلا هو إليه المصير، فهل آمن به كل الناس؟ لا: من الناس من كفر بالله وجادل في كتاب الله جدالا بالباطل الذي لا حق فيه، وقال تمويها وتضليلا: إنه سحر أو شعر أو كهانة أو هو أساطير الأولين، وإنما يعلمه بشر، وأمثال هذا كثير مما كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولذا يقول الله هنا: ما يجادل في آيات الله جدالا بالباطل لا بالحق، وإلا فالجدال لإظهار الحق ولتفهم المعنى مطلوب شرعا، ما يجادل بالباطل إلا الذين كفروا، وهؤلاء سنريهم آياتنا، وحسابنا العسير لهم في الدنيا والآخرة، فلا يغررك ما هم فيه من نعمة، ولا يهمنك تمتعهم في الدنيا فهو متاع قليل، مأواهم جهنم وبئس المصير، انظر تر أن العذاب الذي لحقهم سببه أنهم عزموا على إيذاء الرسول وقتله، وجادلوا بالباطل لإزهاق الحق فكانوا بذلك من أصحاب النار.
وهذه سنة الله مع من يكذب رسله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، فقد كذبت قبلهم قوم نوح، وكذبت عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط، هؤلاء تحزبوا ضد أنبيائهم، وتجمعوا للكيد بهم، وعزمت كل أمة منهم لتأخذ رسولها أسيرا فتهلكه وتقتله، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، فعلوا هذا، وما علموا أن الله ينصر رسله ويدافع عنهم وعمن آمن معهم.
وهؤلاء الذين كذبوا رسل الله وهموا أن يأخذوا رسلهم ليقتلوهم، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ويطمسوا معالمه، أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر، فكيف كان عقاب؟! وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أى: كما وجب وثبت حكمه- تعالى- وتحقق هلاك هؤلاء المتحزبين على الأنبياء، وجب وتحقق حكمه- سبحانه وتعالى- بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا من قريش لأنهم أصحاب النار «١» فالسبب واحد والعلة واحدة.
الذين يحملون عرش ربك، ومن حوله حافين به وهم في خدمته، ورهن إشارته، والقائمون بحفظه وتنفيذ أمر ربهم هؤلاء يسبحون حامدين منزهين ربهم عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل، ويؤمنون به إيمانا حقيقيا كاملا بظهر الغيب. ويستغفرون للذين آمنوا قائلين: ربنا وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، وإنما عدل عن هذه العبارة إلى ما في النظم الكريم للمبالغة. ربنا فاغفر للذين تابوا إليك، واتبعوا سبيلك الحق وهو الإسلام، وقهم عذاب الجحيم، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم، وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ليتم سرورهم، ويضاعف ابتهاجهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور ٢١]، وقهم السيئات، واحفظهم من المكروه والآلام كلها يوم القيامة، ومن يتق السيئات يومئذ يقوم الناس لرب العالمين لقد رحمته بدخول الجنة وذلك هو الفوز العظيم.
ومن أهوال يوم القيامة [سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٠ الى ١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
لَمَقْتُ اللَّهِ المقت: أشد أنواع البغض، والمراد به في جانب الله لازمه وهو تعذيبهم والغضب عليهم رَفِيعُ الدَّرَجاتِ: مرتفع الصفات منزه عن مشابهة المخلوقات ذُو الْعَرْشِ: خالقه ومالكه الرُّوحَ المراد به: الوحى، سماه روحا لأنه كالروح في إحيائه الموات من الناس يَوْمَ التَّلاقِ: يوم اجتماع الخلائق للحساب بارِزُونَ: ظاهرون لا سبيل إلى إخفائهم.
وهذا حال من أحوال الكفرة يوم القيامة، وهم في جهنم، بعد ما بين سابقا أنهم أصحاب النار.
المعنى:
إن الذين كفروا بالله ورسوله ينادون من بعيد، وهم في النار يتلظون سعيرها فقال لهم: لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، وذلك أنهم حينما يرون ما كانوا يكفرون به حقا لا شك فيه يمقتون أنفسهم أشد المقت لأنهم وقعوا
هؤلاء الكفار حينما يشتد بهم العذاب، ولا يطيقون الصبر يقولون: ربنا أمتنا اثنتين أى: موتتين، الأولى قبل الحياة، والثانية في الدنيا، وأحييتنا اثنتين، الأولى في الدنيا والثانية يوم القيامة، فاعترفنا بذنوبنا وآثامنا، وبدا لنا سيئات ما عملنا، فارجعنا نعمل صالحا في حياة ثالثة فإنا أدركنا خطأنا وتبين لنا صدق الرسل- عليهم السلام- وأصبحنا موقنين بذلك، فهل إلى خروج من سبيل «٣» ؟ لا.. فإنهم «لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه»، ذلكم العذاب الدائم المستمر الذي هم فيه بسبب أنه إذا دعى الله وحده كفروا باستمرار، وإن يشرك به يؤمنوا على أن له شريكا، وحيث كان الأمر كذلك فالحكم لله العلى الكبير.
هو الذي يريكم أيها الناس آياته الكونية وآياته القرآنية الشاهدة له بالوحدانية والقدرة والاتصاف بكل كمال والتنزه عن كل نقص، وهو الذي ينزل لكم من السماء رزقا، ترى أن الله- سبحانه- جمع في الآية نعمه التي تحيى الأديان والتي تحيى الأبدان، وتقوى الروح والأجسام، ولا يتذكر بهذا، ولا يتعظ إلا من ينيب.
وإذا كان الأمر كذلك فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، هو رفيع الدرجات، عظيم الصفات، رافع درجات المؤمنين، ذو العرش وصاحب الملك وكامل التصرف لا إله إلا هو، يلقى الروح على من يشاء من عباده، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، فهو الذي ينزل الوحى على الأنبياء، لينذروا الناس يوم التلاقي، واجتماع الخلق
(٢) - إذ تدعون إذ ظرف لمقت الأول وإن توسط بينهما الخبر، واللام في لمقت لام الابتداء وقعت بعد ينادون لأنها في معنى يقول لهم.
(٣) - هذا استفهام مراد به التمني لأنهم يعلمون أنهم لا يخرجون.
يا حسرتا على القوم الكافرين!! يقول الله- تعالى- بعد فناء الخلق أجمعين، أى: بعد النفخة الأولى: لمن الملك اليوم؟ فيجيب الله: لله الواحد القهار، فالسائل والمجيب هو الله، أو هو على لسان ملك، أو حال الخلائق ناطقة بذلك.
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب فهو لا يشغله حساب عن حساب.
تخويف الكفار وترويعهم [سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
الْآزِفَةِ المراد: يوم القيامة سميت بذلك لقربها إذ كل ما هو آت قريب، ويقال: أزف الرحيل يأزف أزفا: إذا قرب كاظِمِينَ: ممتلئين غما الْحَناجِرِ: جمع حنجرة وهي الحلقوم حَمِيمٍ: قريب نافع خائِنَةَ الْأَعْيُنِ:
المراد الأعين الخائنة وهي التي تختلس النظر إلى المحرم وتسارقه واقٍ: حافظ يدفع عنهم السوء.
وهذا وصف آخر لأهوال يوم القيامة حتى يرتاع الكفار وتمتلئ قلوبهم روعة ورهبة.
المعنى:
وأنذر الناس وخاصة الذين يجادلون في آيات الله بالباطل، أنذرهم يوم القيامة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «١»، والقيامة وإن بعد زمانها إلا أنها آتية لا شك فيها، وكل آت قريب أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ «٢» إذ «٣» القلوب لدى الحناجر كاظمين، والمراد تخويفهم وترويعهم من ذلك اليوم وقت أن تكون القلوب لدى الحناجر، وهذه العبارة كناية عن شدة الخوف والوجل إلى درجة أن تخلع القلوب من أماكنها حتى تصل إلى الحلقوم فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ «٤» حالة كون أصحاب القلوب كاظمين، أى: مكروبين وساكتين مع امتلائهم غما وحزنا.
ومن هنا فهمنا أن الكفار يوم القيامة يخافون خوفا شديدا يجعل قلوبهم لدى حلقومهم وأنهم من شدة الهم والخوف ساكتون فلا يستطيعون الكلام، ليس للظالمين- وهم أو لهم- حميم يدافع عنهم من صديق أو قريب، وليس لهم شفيع يشفع لهم ويجادل عنهم، وكانوا يعبدون الأصنام على أنها شفعاء عند الله.
(٢) - سورة النجم الآيتان ٥٧، ٥٨.
(٣) - (إذ) بدل من (يوم الآزفة) و (لدى الحناجر) خبر، و (كاظمين) حال من القلوب، على معنى قلوبهم.
(٤) - سورة الواقعة الآيتان ٨٣، ٨٤.
والذين يدعونهم من دونه لا يقضون بشيء، وكيف يقضون، وهم لا يعلمون شيئا، إن الله هو السميع لكل قول، والعليم بكل فعل، وسيجازى على ذلك كله.
نرى أن القرآن ملأ قلوبهم خوفا ورعبا من ذلك اليوم لو كانوا يعقلون، فذرك أنه قريب، وأن القلوب تنخلع فيه لهول ما ترى، وأن المجرمين لا يستطيعون الكلام مع امتلاء قلوبهم غيظا، وليس لهم صديق ولا حميم ولا شفيع يطاع، والحاكم يومئذ عالم بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وهو يقضى بالحق فلا محاباة عنده، وهؤلاء الأصنام لا تنفع عنده بشيء، وهو وحده السميع البصير.
ولما بالغ الحق- تبارك وتعالى- في تخويفهم من يوم القيامة أردفه بإنذارهم وتخويفهم في الدنيا، وبيان ما عمله الله مع من كفر وعذب الرسل السابقين لعلهم يتعظون فقال ما معناه:
أغفلوا ولم يسيروا «١» في الأرض التي هي حولهم وفي طريقهم فينظروا نظرة اعتبار وموعظة ما حل بالأمم السابقة لما كذبت رسلهم كعاد وثمود وغيرهما، وهؤلاء السابقون كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وقد مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وقد أثاروا الأرض وزرعوها، وأصبحت لهم مدن وحضارة، وزراعة وصناعة ولكنهم
ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالآيات البينات والحجج الواضحات فكفروا بها، فأخذهم الله بسيئات أعمالهم، إنه قوى شديد العقاب.
يا أهل الشرك، ويا أصحاب الفسق: احذروا هذا اليوم وخافوه واتعظوا بمن سبقكم، فالعاقل من اتعظ بغيره، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وهذه قصة موسى مع فرعون وملئه، ذكر معها موقف رجل آمن من آل فرعون وكتم إيمانه، وقد تخللها حكم ومواعظ، وعبر وآيات، وإنما يتذكر بهذا وأمثاله أولو الألباب، وهي في جملتها بيان لعاقبة بعض الأمم التي سبقتهم، وكانت أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا.. وتتلخص القصة في:
١- موقف فرعون من دعوة موسى وما رد به عليه قولا وفعلا.
٢- مارد به موسى على تهديد فرعون.
٣- دفاع الرجل المؤمن عن موسى.
٤- تحذير لآل فرعون من عاقبة فعلهم في الدنيا والآخرة وتذكيرهم بما حل بقوم نوح وعاد وثمود.
٥- تذكيرهم بما حصل أيام يوسف- عليه السلام.
٦- إنكار فرعون وجود إله واحد كما يقول موسى بدليل حسى.
٧- وعظ الرجل المؤمن لقومه وبيانه حقيقة الدنيا والآخرة.
٨- نجاة موسى منهم ونهاية أمره وأمرهم.
تلك هي عناصر القصة التي سيقت هنا، وسنذكرها بالتفصيل، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
المفردات:
وَسُلْطانٍ: وحجة قوية ظاهرة وَاسْتَحْيُوا: أبقوهم أحياء ضَلالٍ:
ضياع وخسران ذَرُونِي: اتركوني.
المعنى:
وتالله لقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع التي أهمها اليد والعصا وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أرسلناه بآياتنا وبحجة قوية واضحة على أنه رسول من عند الله، أرسلناه إلى فرعون ملك مصر وهامان وزيره، وقارون وكان صاحب أموال وكنوز،
وقال فرعون في أثناء ذلك: ذروني أقتل موسى وانتهى من أمره، وليدع ربه الذي يدعى أنه رب السموات والأرض ورب المشارق والمغارب وأنه الذي خلق كل شيء ثم هدى، ذروني أقتله وليدع ربه ليخلصه، يريد بذلك إنكار وجود الإله، إنى أخاف أن يبدل دينكم الحق- في اعتقاده- أو أن يظهر في الأرض الفساد إن لم يبدل دينكم.
هذا ما كان من أمر فرعون وآله، أما ما كان من أمر موسى إزاء هذا التهديد فها هو ذا: وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ وقال موسى: إن ربي وربكم الذي خلقنا ورزقنا، ورعانا في بطون الأجنة وفي ظلمات ثلاث، والذي وهب لنا الوجود وعمنا بالخير والبركات أستعيذ به من كل متكبر جبار تعاظم عن الإيمان، وكان لا يؤمن بيوم الحساب، ومن كان كذلك فهو إلى الوحشية أقرب، بل أشد طغيانا وظلما من الحيوان المفترس، ولنا في موسى وهو يستعيذ بالله من كل متكبر طاغ أسوة حسنة والله معنا يحرسنا ويرعانا إن شاء الله.
دفاع الرجل عن موسى [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٣]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)
ظاهِرِينَ: غالبين بَأْسِ اللَّهِ: عذابه التَّنادِ المراد به: يوم القيامة.
وهكذا لا تذهب الدعوة إلى الله سدى بل لا بد من وجود من يدافع ويرد كيد الكائدين لها في مجتمع أعدائها، وقد كان ذلك مع موسى وفرعون، فأوجد الله في قوم فرعون رجلا مؤمنا حقا يكتم إيمانه فلم يعرفه أحد بأنه مؤمن، ويظهر أن الرجل كانت له مكانة في القوم حتى استطاع أن يدلى برأيه هذا.
قال: أتقتلون يا قوم رجلا لأنه يقول: ربي الله الذي خلق كل شيء وهو رب السموات والأرض، وقد جاءكم بالبينات والحجج الواضحات على أنه رسول من عند الله؟! فإن يك كاذبا فعليه وزر كذبه، ولا يضركم شيء فاتركوه وشأنه، ولا تتعرضوا
مسرف كذاب.
المعنى:
وهذه مقالة الرجل الذي امتلأ قلبه بنور الإيمان، وخالط بشاشته برد اليقين فنظر إلى الدنيا نظرة الحكيم العاقل، فقال: يا قومي لكم الملك اليوم- ملك ظاهرى- حالة كونكم ظاهرين لا يعلو عليكم أحد غالبين لا يغلبكم أحد في أرض مصر، يا قوم لا تفسدوا أمركم، ولا تزيلوا عزكم بتعرضكم لهذا الرجل الذي يقول: ربي الله، ولا تتعرضوا لبأس الله، فإنه إن جاءنا لم يمنعه مانع، فمن ينصرنا من بأس الله؟
قال فرعون بعد سماعه لهذا الكلام: ما أريكم إلا ما أرى، ولا أشير عليكم إلا بقتله حتى نستريح، وما أهديكم بهذا الرأى إلا سبيل الرشاد وطريق الصواب.
وقال الذي آمن: يا قوم إنى أخاف عليكم يوما يجعل الولدان شيبا، يا قوم إنى أخاف عليكم من تكذيب موسى والتعرض له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية فقد أخذهم ربكم أخذ عزيز مقتدر، وحل بهم الخسف والإغراق، وما الله بهذا يريد ظلما للعباد، ولكن الناس أنفسهم يظلمون بتكذيبهم الأنبياء، وتعرضهم لهم بالسوء.
هذا الذي أخافه عليكم في الدنيا أما في الآخرة فإنى أخاف عليكم يوم التنادى الذي هو يوم القيامة، وما أكثر النداء فيه!! فيه ينادى أصحاب الجنة أصحاب النار، وفيه ينادى أصحاب النار أصحاب الجنة، وينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم- كما ذكر هذا في سورة الأعراف- وينادى المنادى بالشقوة لأهل الشقاء، وبالسعادة لأهل السعادة وفيه تنادى الملائكة كلا بما يستحقه يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ إنى أخاف عليكم يا قوم يوم التنادى يوم تولون مدبرين هاربين ما لكم من الله من عاصم، وليس لكم من دونه ملجأ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ومن يضلل الله فما له من هاد، ومن يهد الله فما له من مضل، وكل ميسر لما خلق له.
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
المعنى:
يا قوم تنبهوا، واذكروا ما حصل أيام يوسف الذي أرسل لكم، وتالله لقد جاءكم يوسف من قبل موسى بالآيات البينات فما زلتم، أى: أسلافكم في شك مما جاءكم به، ومتى شك الإنسان في الأمر أعرض عنه ولم يبحثه، حتى إذا هلك قلتم: لن يبعث الله من بعده من يدعى الرسالة، مثل هذا الإضلال والخروج عن جادة الصواب يضل الله كل شخص مسرف في العصيان مرتاب في دينه شاك فيما تشهد به الآيات البينات، وهذا بيان لمن هو مسرف مرتاب وهم الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا حجة ولا برهان إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ «١» كبر مقتا عند الله، أى: كبر مقت المجادل في آيات الله وعظم جرمه عند الله، وعند الذين آمنوا!! مثل ذلك الطبع الفظيع يطبع الله على كل قلب متكبر جبار يصدر عنه هذا الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق..
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
المفردات:
صَرْحاً: القصر الضخم الْأَسْبابَ: جمع سبب، وهو الطريق الموصل إلى المطلوب تَبابٍ: خسارة وهلاك.
المعنى:
ولما سمع فرعون قول الرجل المؤمن وخاف أن يذاع خبره ويصل إلى قلوب الناس أراد أن يهدم أساس الدعوة، وينفى وجود الإله بالدليل الحسى ويعلم الناس أن قول موسى: إنى رسول من رب العالمين خطأ باطل، إذ كان رسولا منه فلا بد أن يتصل به شأن كل رسل الملوك، وهذا يكون بالصعود إلى السماء، وهو محال لأن موسى لم يبن بناء مرتفعا وأصلا إليها، ومنشأ ذلك الفهم أن فرعون يفهم أن الله مستقر في السماء، وأن رسله كرسل الملوك.
وإذا كان الصعود إلى السماء محالا فكيف نقول بوجود الله فيها؟ وكيف نسلم بأن موسى رسوله؟ ولهذا قال فرعون: يا هامان ابن لي صرحا، ليظهر للكل أن الصعود إلى السماء محال.. لعلى أبلغ الأسباب والطرق الموصلة إلى السماء. فأطلع إلى إله موسى
وعظ الرجل المؤمن لقومه [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٣٨ الى ٤٦]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
لا جَرَمَ: لا شك. أى ثبت وحق أن ما تدعون إليه.. الآية مَرَدَّنا:
مرجعنا وَحاقَ: أحاط بهم النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها: المراد يصلونها ويحرقون بها «١».
المعنى:
وقال الذي آمن من آل فرعون يعظ قومه: يا قوم اتبعونى فيما أدعوكم إليه أهدكم سبيل الرشاد، سبيل يصل بكم إلى الخير والسداد وفي هذا تعريض بأن سبيل فرعون وآله وما هم عليه سبيل الغي والفساد.
يا قوم: إنما هذه الحياة الدنيا متاع زائل وعرض حائل فلا تكن هي السبب في كفركم وغيكم، واعلموا أن الآخرة هي دار القرار والبقاء والخلود، فاعملوا لها واسعوا في نعيمها، ولا تغرنكم الدنيا الفانية فالآخرة خير وأبقى، يا قوم من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها عدلا من الله، ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرض، يرزقون فيها رزقا رغدا بغير حساب أضعافا مضاعفة، فضلا من الله ورحمة.
ما ليس له حقيقة في الوجود حتى أعلم به فنفى العلم هنا كناية عن نفى المعلوم، وأما أنا فأدعوكم إلى العزيز الغفار الموصوف بكل كمال المنزه عن كل نقص.
لا شك أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، أى: ثبت وحق عدم دعوة الذين تدعونني إليه من الأصنام إلى عبادته أصلا من أن من حق المعبود بالحق أن يدعو عباده إلى عبادته، ويظهر ربوبيته لخلقه، وما تدعونهم أصناما وأحجارا لا نفع لها ولا ضرر لا تسمع ولا تبصر، فليس لها دعوة إلى عبادتها في الدنيا، في الآخرة يتبرءون من عبادتكم لهم واعلموا أن مردنا إلى الله، وأن المسرفين في ارتكاب الذنوب والآثام هم من أصحاب النار.
يا قوم ستذكرون ما أقوله لكم يوم لا تنفع الذكرى، وستندمون يوم لا ينفع الندم، وأما أنا فسأفوض أمرى إلى الله ليعصمني من كل سوء ومكروه إن الله بصير بالعباد، فوقاه الله سيئات ما مكروا، وكفاه شر المستهزئين به المعاندين له، وحاق بآل فرعون العذاب السيئ وأحاط بهم من كل جانب، وما هو العذاب السيئ؟ هو النار يصلونها ويحرقون بلهيبها، ويعرضون عليها صباحا ومساء.
ومن هنا كان القول بعذاب القبر. وصح ما روى عن بعضهم: إن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها، يشهد بذلك ما
روى عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنّ الكافر إذا مات عرضت روحه على الجنّة بالغداة والعشىّ» وخرج البخاري ومسلم حديثا كهذا.
روحه على النّار بالغداة والعشىّ» ثم تلا: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وإنّ المؤمن إذا مات عرضت روحه على الجنّة بالغداة والعشىّ»
وخرج البخاري ومسلم حديثا كهذا.
ويوم القيامة يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد أنواع العذاب، وهذا دليل على أن عرض النار عليهم في الدنيا، وأن عذاب القبر حقيقة واقعة، والله أعلم.
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
يَتَحاجُّونَ: يتخاصمون ويتجادلون تَبَعاً: جمع تابع، كخدم جمع خادم، وقيل: هي نفس التبع مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً: حاملون عنا جزءا من العذاب ضَلالٍ: هلاك وخسران الْأَشْهادُ: جمع شهيد.
المعنى:
واذكر يا محمد لقومك لعلهم يتعظون: وقت خصام الكفار ومجادلة بعضهم لبعض، فيقول الضعفاء الأتباع للذين استكبروا بغير حق وادعوا الرياسة بالباطل والظلم: أيها المتبوعون. إنا كنا لكم تبعا وخدما، وأنتم قدمتمونا إلى الضلال والفساد، ولولاكم ما وقعنا في الإثم والشرك، فهل أنتم متحملون عنا جزءا من عذاب النار؟! قال الذين استكبروا للمستضعفين: إنا كل في جهنم فلو قدرنا على دفع شيء من العذاب لدفعنا عن أنفسنا، إن الله قد حكم بين العباد حكمه العدل، ولكل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم. وكلنا نستحق ما نحن فيه.
ولما يئسوا من دعائهم سادتهم وقادتهم اتجهوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم أن يسألوا ربهم التخفيف، ولو بمقدار يوم من أيام الدنيا، وقالوا لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فرد عليهم الخزنة: ألم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا بالحجج الواضحة التي تحذركم سوء عاقبتكم وغاية ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي؟
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا «١» والمراد بذلك توبيخهم وإلزامهم الحجة. قالوا- أى الذين في النار-: بلى قد جاءتنا من عند ربنا رسله فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء، ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال كبير.
قالت الملائكة: إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم، وما دعاء أمثالكم من الكفار إلا في ضلال وخسران.
ويوم يقوم الأشهاد من الملائكة والنبيين وصالحي المؤمنين، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما شاهدوا، وأما النبيون فالله يقول: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «١» وأما المؤمنون فالله يقول: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «٢» ويوم يقوم الأشهاد وهو يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم. ولهم فيه اللعنة، ولهم سوء الدار، ترى أن القرآن وصف الكفار في هذا اليوم بأنه لا تنفعهم المعذرة، ولهم سوء الدار وبئس المصير!! أما المؤمنون فالله ينصرهم ويؤيدهم ويهديهم ولذلك يقول: ولقد آتينا موسى الهدى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «٣» وجعلنا بنى إسرائيل يأخذون الكتاب، أى: التوراة ويستحقونه استحقاق الميراث حالة كونه مصدر هدى وهداية، ومنبع ذكرى وتذكر، ولكن لأولى الألباب.
وإذا كان الأمر كما ذكر فاصبر يا محمد على أذى المجادلين في آيات الله بغير حق، اصبر على أذاهم فالله ناصرك ومؤيدك، وعاصمك من الناس جميعا، إن وعد الله حق، وعليك أمران، أحدهما أن تتوب إلى ربك وتستغفر من ذنبك، وثانيهما أن تسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار، وهذا أدب للأمة الإسلامية رفيع، وإنما خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم ليعلم أنه طريق لا بد منه، وأدب عال رفيع يجب أن يتحلى به كل مسلم، وانظر إلى هدى القرآن حيث قدم التوبة والمغفرة على العمل، فإنه لا يقبل العمل إلا بعد أن تطهر القلوب من الآثام بالتوبة، والتوبة قد تكون من عمل خلاف الأولى، ولذا لا غرابة أن الله يأمر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) - سورة البقرة آية ١٤٣. [.....]
(٣) - سورة المائدة آية ٤٤.
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
سُلْطانٍ: حجة وبرهان كِبْرٌ: تكبر وتعاظم لا رَيْبَ فِيها:
لا شك ادْعُونِي: اعبدوني داخِرِينَ: صاغرين أذلاء تُؤْفَكُونَ أفك إفكا: كذب، والإفك: الكذب، وأفكه عنه يأكفه أفكا: صرفه وقلبه، وعليه قوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا. قَراراً: مستقرا بِناءً أى: قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب.
وهذا رجوع إلى الأصل الأول الذي بنيت عليه السورة وهو مناقشة المجادلين في آيات الله بالباطل، مع التعرض لإثبات البعث، والكلام على صفات الله ونعمه على الناس.
المعنى:
إن الذين يجادلون في آيات الله ودلائله التي نصبها دالة على الوحدانية وصدق الرسل، بغير سلطان ولا حجة تؤيد كلامهم: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان ما في قلوبهم إلا كبر وتعظم عن الحق والتفكير الحر، فهم قوم يريدون الرياسة والتعاظم لأنفسهم حسدا وبغيا حيث قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف ٣١] لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف ١١] ولذلك يجادلون في آيات الله.
وقيل: إن الآية نزلت في يهود المدينة، وهي مدينة، الحق أن كل جدال في آيات الله من مشركي مكة أو يهود المدينة أو من غيرهم كبر مقته عند الله وعظم جرمه مطلقا، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
إذا كان الأمر كذلك فاستعذ بالله، والجأ إليه من كيد الكائدين، وحسد المشركين، وفيه رمز إلى أن ذلك كان من همزات الشياطين وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «١». إنه هو السميع لكل قول ونية، البصير بكل فعل وعمل، ولو كان من إشارات العيون وخطرات القلوب.
لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس بدءا وإعادة فلا تجادلوا في أمر البعث فإن الله خلق السموات وما فيها، والأرض وما عليها وما في باطنها من عوالم، فلا تظنوا أن الله هذا ليس بقادر على أن يحيى الموتى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.
ولا يستوي الأعمى عن الحق، والبصير به، ولا يستوي المؤمنون الذين عملوا الصالحات، وأحسنوا العمل، ولا المسيئون الذين أساءوا الفهم والتقدير حتى جادلوا في آيات الله كلها وكان تذكرهم قليلا جدّا.
إن الساعة لآتية لا شك فيها، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون لقصور نظرهم، وسوء رأيهم.
وقال ربكم: ادعوني أثبكم ثوابا يتكافأ مع أعمالكم، وفعلكم الطاعات، وترك الذنوب والآثام هو الدعاء، فمن ترك الذنب فقد دعا. وأخلص في الدعاء، ومن يقترف ذنبا فليس بداع إلى الله وإن دعا ألف سنة. وبعضهم فسر الدعاء بالعبادة، ويؤيد هذا قوله تعالى: إن الذين يستكبرون عن عبادتي ودعائي سيدخلون جهنم داخرين أذلاء صاغرين، وحق من يستكبر عن دعاء ربه الذي رباه وخلقه، وصوره فأحسن صوره أن يدخل جهنم صاغرا ذليلا، ومهينا حقيرا.
يا سبحان الله!! لو خلقت الدنيا بلا ليل أو خلقت بلا نهار كيف الحال.. ؟ وكيف نعيش؟
يا رب: هذا الليل المظلم وهذا النهار المبصر ينشآن من حركة واسعة، ونظام دقيق محكم فأنت يا رب الواحد القهار الذي لا يعجزه شيء في السموات والأرض، إن الله لذو فضل على العالمين. ولكن أكثر الناس لا يشكرون، ومن كان هذا شأنه أنجادل في قدرته على البعث، ونقول: من يحيى العظام وهي رميم؟
ذلك الله- جل جلاله- خالق كل شيء، فاطر السموات والأرض واهب الوجود لا إله إلا هو، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره من الأحجار والأوثان؟!! وهذا كالنتيجة لما تقدم.
مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا أساس له ولا سند من عقل أو منطق سليم يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون.
الله الذي جعل لكم الأرض قرارا: مستقرا أو مكانا، وجعل السماء كالبناء، وهذا بيان فضله- تعالى- المتعلق بالمكان بعد بيان فضله في الزمان، ثم تعرض لفضله المتعلق بالإنسان فقال: صوركم فأحسن صوركم، ورزقكم من الطبيات الطاهرات، ذلكم الله ربكم فتبارك الله، وتزايد فضله. وتكامل خيره، وهو رب العالمين، أى: مالكهم ومربيهم، هو الحي حياة ذاتية، لا إله إلا هو، ولا معبود بحق في الوجود سواه. إذا كان الأمر كذلك فادعوه واعبدوه مخلصين له الطاعة صادقين في النية.
ولما كان موصوفا بصفات الجلال والعزة، ومنعوتا بالإنعام الكامل على خلقه استحق لذاته أن يقال: الحمد لله رب العالمين.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
المفردات:
أُسْلِمَ: أنقاد لرب العالمين أَجَلًا مُسَمًّى: وقتا محدودا ينتهى عند الموت.
المعنى:
لما أورد تلك الأدلة التي تثبت لله كمال القدرة والوحدانية، وقال: ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين. الحمد لله رب العالمين، أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول المشركين: إنى نهيت نهيا عامّا بالبراهين القاطعة من الآيات القرآنية، أو البراهين العقلية، نهيت أن أعبد الذين تدعونهم من دون الله، نهيت حين جاءني البينات ودلائل التوحيد كلها من عند ربي، وأمرت كذلك أن أسلم لرب العالمين.
ولعلكم بعد هذه الآيات الكونية الناطقة بوحدانية الله تعالى، وأنه الخالق القادر السميع البصير وأنه الإله ولا إله غيره، ولعلكم بعد هذا تعقلون دلائل التوحيد فتوحدوه.
هو الذي يحيى، وهو الذي يميت، وهو الذي إذا أراد شيئا حصل بمقتضى إرادته بسرعة كأنه قال له: كن فيكون، وهذا تمثيل لتأثير قدرة الله في المقدورات التي يريدها وتصوير لسرعة حصولها من غير أن يكون أمر ولا مأمور.
المجادلون وجزاؤهم وصبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على إيذائهم [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)
يُصْرَفُونَ: يبعدون الْأَغْلالُ: جمع غل وهو القيد الذي يوضع في العنق يُسْحَبُونَ السحب: الجر بعنف يُسْجَرُونَ: سجر التنور ملأها بالوقود، والمراد أنهم يحرقون ظاهرا وباطنا ضَلُّوا عَنَّا يقال: ضل الماء في اللبن، أى:
خفى، والمراد أنهم صاروا بحيث لا نجدهم تَمْرَحُونَ المرح: فرح بعدوان كالبطر والأشر.
اعلم أنه- تعالى- عاد إلى ذم المجادلين في آيات الله مبينا عظيم جرمهم في التكذيب، وجزاءهم على ذلك، فليس فيه تكرار، إذ ما سبق كان لبيان منشأ الجدال وسببه، وهذا تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الفاسدة مع بيان نهاية جدالهم..
انظر إلى هؤلاء المجادلين في آيات الله الواضحة، الموجبة للإيمان والإقرار بالوحدانية والبعث، الزاجرة عن الجدال والتكذيب، انظر إليهم كيف يصرفون عنها؟! هؤلاء المجادلون هم الذين كذبوا بالكتاب المنزل من عند الله، وبكل ما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون عاقبة فعلهم ونهاية تكذيبهم عند مشاهدتهم العقوبة المعدة لهم ولأمثالهم، فسوف يعلمون يوم القيامة وقت «١» أن تكون الأغلال والسلاسل في أعناقهم، والمعنى أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل ثم يسحبون بها في الحميم، أى: في الماء المغلى بنار جهنم، ثم هم في النار فهي محيطة بهم من كل جانب تحرقهم ظاهرا وباطنا نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [سورة الهمزة الآيتان ٦، ٧].
ثم قالوا: بل لم نكن ندعوا شيئا، أى: كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع من دون الله؟! قالوا: ضلوا عنا، وغابوا عن عيوننا فلا نراهم، ولا نستشفع بهم وما أروع التعبير بقوله: ضلوا عنا! ثم قالوا: بل لم نكن ندعوا شيئا، أى: كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع فتبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا، ويصح أن نفهم: أنهم كذبوا وأنكروا أنهم عبدوا غير الله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «٢». مثل ذلك الإضلال يضل الله الكافرين عن طريق الجنة، ويضلهم عن الصراط المستقيم.
ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بسبب أنكم كنتم تفرحون بالمعاصي وارتكاب الآثام وإيذاء الرسل الكرام، وتمرحون مرح بطر وأشر.
ادخلوا أبواب جهنم فإن لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، ادخلوها خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ «٣».
(٢) - سورة الأنعام آية ٢٣.
(٣) - سورة غافر آية ٥٦.
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك خبرهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، ومنهم من لم نقصص عليك خبرهم مما لا يعلمهم إلا ربك. وجميعا كذبوا وأوذوا في سبيل الله وصبروا.
وما كان لرسول أن يأتى بآية من عنده بل الآيات من الله يرسلها تبعا للمصلحة وهو أعلم بها، لا كما يريدون فهو أعلم بخلقة، لكل أجل كتاب فإذا جاء أمر الله وقضاؤه قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون الذين يجادلون في آيات الله، ويقترحون المعجزات وهم لا يعلمون شيئا، وما دفعهم إلى ذلك إلا تعنتهم وكبرهم وسوء فهمهم..
بعض آيات الله ونعمه علينا [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
المفردات:
الْأَنْعامَ: هي الإبل والبقر والغنم الشامل للمعز حاجَةً: أمرا مهما يشغل بالكم.
المعنى:
الله- عز وجل- الذي جعل لكم الأنعام، وخلقها لأجلكم ولمصلحتكم لتركبوا بعضها، ومنها تأكلون، ولكم فيها منافع غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والجلود وغير ذلك، ولتبلغوا عليها حاجة تشغل بالكم وهي نقل الأثقال والأحمال من بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وعليها وعلى الفلك، أى: السفينة تحملون، فقد حملنا ربنا في البر على الإبل وفي البحر على السفن، وقد علمنا الله كيف نسخر الطبيعة فحملنا الريح والحديد والماء وغيرها.
وهكذا يريكم الله آياته الكونية التي تدل على باهر عظمته، وعظيم قدرته جل شأنه.
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه الواحد
فأى آية من آياته الباهرة تنكرون؟ وبأى آية من آياته تعجبون؟ فكيف تنكرون البعث وتعدونه عظيما؟ من يحيى العظام وهي رميم، عجبا لكم؟! أنتم أشد خلقا في البدء والإعادة أم السماء بناها رفع سمكها فسواها؟! تركيب هذه الآية قد حير جهابذة العلماء قديما حيث قالوا: كان الظاهر أن يؤتى باللام في الجميع أو تترك في الجميع فيقال (مثلا) لتركبوا: ولتأكلوا، ولتنتفعوا، ولتبلغوا.. الآية.
وقد أجاب بعضهم على هذا السؤال بأن المراد بالأنعام الإبل خاصة، وركوبها وبلوغ الحاجة بها من أتم الأغراض لأن جل منافعها الركوب والحمل عليها ولذا قال:
لتركبوا. وتبلغوا، وأما الأكل والانتفاع بالأوبار والشعر فغرض بسيط، والله أعلم بأسرار كتابه.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
هذا ختام للسورة رائع، محور الكلام فيها مع المشركين المجادلين في آيات الله المتكبرين على رسله غرورا منهم بدنياهم وأموالهم وأولادهم فكان هذا تهديدا ببيان من هم أشد منهم وأكثر أموالا وأولادا.
المعنى:
أعجزوا فلم يسيروا في أطراف الأرض فينظروا بعين الاعتبار كيف كان عاقبة الذين من قبلهم «١» ؟! عجبا لهؤلاء المتكبرين من قريش المغرورين بأموالهم وأولادهم، ودنياهم البسيطة بالنسبة لغيرهم، أقعدوا فلم يسيروا حتى يروا آثار من تقدمهم من الأمم صاحبة الصولة
أفلم يروا إلى ما بين أيديهم من آثارهم التي تدل على مبلغ ما كان عندهم من الجاه وعلى نهاية عصيانهم وتكبرهم على أنبيائهم؟
فما أغنى عنهم كسبهم وجاههم، ولم ينفعهم ما لهم ولا أولادهم، فلما جاءتهم رسلهم بالآيات والمعجزات الواضحات فرحوا بما عندهم من العلم الدنيوي يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا «١»، وقيل: فرحوا بما عندهم من الخرافات والشبهات الواهية، وقالوا: نحن أولو علم وحضارة فلا حاجة بنا إلى دين أو رسالة، عجبا لهؤلاء وأتباعهم!! وربك لقد رأينا وسمعنا عن بعض الجهلة بأمور دينهم الذين تربوا في أحضان (اللادينية) يقولون: لا حاجة بنا إلى شريعة الغاب بعد أن عرفنا أحدث القوانين وأدق النظم!! يا ويلهم فرحوا بما عندهم من علم، الجهالة خير منه، وحاق بهم ونزل ما كانوا به يستهزئون من العذاب.
وقيل: إن هذا وصف للأنبياء لما كذبوا من أممهم فرحوا بما عندهم من العلم الذي ينبئهم بأن العاقبة لهم وأن الهلاك للمكذبين المجادلين.
فلما رأى هؤلاء المكذبون بأسنا في الدنيا، قالوا: آمنا بالله ربنا، آمنا به وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، آمنوا ساعة العذاب، فلم ينفعهم إيمانهم، وتلك سنة الله مع الناس جميعا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [سورة النساء آية ١٨].
وخسر هنالك الكافرون، وضل أولئك المبطلون الكافرون، وتلك سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا.
فاحذروا يا أهل مكة، احذروا ثم احذروا..