ﰡ
فضل السورة:
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرؤها في صلاة المغرب.
بيان الفرق بين الكفار والمؤمنين
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)الإعراب:
الَّذِينَ كَفَرُوا.. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ مبتدأ وخبر، وكذلك: وَالَّذِينَ آمَنُوا.. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. وَأَصْلَحَ بالَهُمْ البال: الحال والشأن: لا يثنى ولا يجمع.
ذلِكَ بِأَنَّ مبتدأ وخبر أيضا.
البلاغة:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ..
بينهما مقابلة. وبين كَفَرُوا وآمَنُوا طباق.
وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ بعد قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا ذكر خاص بعد عام تعظيما
أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أَصْلَحَ بالَهُمْ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ سجع رصين غير متكلف.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة وأهل الكتاب وأمثالهم، أي امتنعوا عن الدخول في الإسلام وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ منعوا الناس من الدخول في الإسلام، وهذا عام في جميع من كفر وصد.
أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أبطلها وأحبطها بالكفر، فلا ثواب لها في الآخرة، ويجزون بها في الدنيا فضلا من اللَّه تعالى، وذلك كصلة الأرحام، وفك الأسارى، وحفظ الجواز.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من المهاجرين والأنصار وأهل الكتاب وغيرهم وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ أي آمنوا بالقرآن المنزل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتخصيصه بعد العموم تعظيم له واعتناء بشأنه. وقرئ: نزّل بالبناء للمعلوم، وأنزل بالبناء للمعلوم والمجهول، ونزل بالتخفيف وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي والقرآن هو الحق الثابت الذي لا شك فيه من اللَّه كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ سترها بالإيمان وعملهم الصالح، والسيئات: الذنوب وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالهم وشأنهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد. والبال: لا يثنى ولا يجمع.
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من الإضلال والتكفير والإصلاح بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ أي بسبب اتباع الكفار الباطل من الأمر والشيطان. وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي بسبب اتباع المؤمنين الحق وهو القرآن ومحمد كَذلِكَ مثل ذلك البيان وضرب المثل يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي يبين أحوال الفريقين، فالكافر يحبط عمله، والمؤمن يغفر زلله، والأول مثل لخيبته، والثاني مثل لفوزه.
سبب النزول: نزول الآية (١) :
الَّذِينَ كَفَرُوا: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ قال: هم أهل مكة نزلت فيهم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال: هم الأنصار.
التفسير والبيان:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي الذين جحدوا توحيد اللَّه وآياته، وعبدوا غيره، وصدوا غيرهم عن دين الإسلام، بنهيهم عن الدخول فيه، وهم كفار قريش، أبطل اللَّه ثواب أعمالهم وأحبطها وجعلها ضائعة، ولم يجعل لها ثوابا ولا جزاء في الآخرة.
فكل ما يسمونه مكارم الأخلاق، كصلة الرحم، وفك الأسارى، وقرى الأضياف، وعمارة المسجد الحرام بالسّقاية والخدمة للحجاج، وإجارة المستجير، لا يقبل مع الكفر والصدّ.
ونظير الآية: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
وبعد بيان حال الكفار وجزائهم، بيّن حال المؤمنين وجزاءهم، فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي والذين صدقوا بالله، وأطاعوه، واتبعوا أمره ونهيه، وانقادوا لشرع اللَّه ظاهرا وباطنا، وعملوا بما يرضيه من صالح الأعمال، وصدقوا بالقرآن الذي أنزل على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فآمنوا أنه حق وآمنوا بأنه كلام اللَّه، والقرآن هو الحق الثابت الذي لا شك فيه أنه من اللَّه، محا عنهم ذنوبهم التي عملوها في الماضي، وغفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح، وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة، فعصمهم عن المعاصي، وأرشدهم إلى أعمال الخير في
وقوله: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلّى اللَّه عليه وسلّم. وقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ جملة معترضة حسنة.
ثم بيّن اللَّه تعالى سبب إضلال الكافرين وإصلاح وإسعاد المؤمنين، فقال:
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي إن ذلك الجزاء المتقدم للفريقين بسبب اتباع الكافرين الباطل، من الشرك بالله، والعمل بمعاصيه واختياره على الحق، وبسبب اتباع المؤمنين الحق الذي أمر اللَّه باتباعه من التوحيد والإيمان وعمل الطاعات.
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي مثل ذلك البيان الرائع، يبين اللَّه للناس أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة، ويظهر مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن جزاء أهل مكة الذين كفروا بتوحيد اللَّه، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين اللَّه، وهو الإسلام، بنهيهم عن الدخول فيه، هو إبطال ثمرة أعمالهم في كفرهم، بما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق، فلم يبق لهم عمل، ولم يوجد، وأدى ذلك بالتالي إلى أنه لم يمتنع الإهلاك عنهم، ولا صرفهم عن التوفيق لسبل السعادة.
والمراد بالإضلال: إبطال العمل وأثره بحيث لا يجده ولا يجد من يثيبه عليها.
وهذا متفق مع منهج القرآن، كلما ذكر الإيمان والعمل الصالح، رتب عليهما المغفرة والأجر، كما قال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الحج ٢٢/ ٥٠] وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٧].
٣- دل قوله تعالى: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ على أن الإيمان بالقرآن المنزل من عند اللَّه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلّى اللَّه عليه وسلّم. وهذا في مقابلة قوله تعالى في حق الكافر: وَصَدُّوا أي صدوا عن اتباع محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو حث على اتباعه.
٤- إن القرآن الكريم هو الحق النازل من الرب عز وجل، وفي الآية دليل على أن دين محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يرد عليه النسخ أبدا.
٥- الفرق بين جزاءي الفريقين: أن إضلال الكفار وإبطال أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وهو اتباع إله غير اللَّه، واتباع الشيطان والشرك، وأن تكفير
أي إن ذلك الإضلال والهدى المتقدم بسبب اتباع الباطل من الكافرين، واتباع الحق من المؤمنين، فالكافر اتبع الباطل، والمؤمن اتبع الحق.
٦- إن مثل هذا البيان الذي بيّن، يبين اللَّه للناس أمر الحسنات وأمر السيئات وأحوال الفريقين. فقوله كَذلِكَ أي مثل هذا البيان وضرب المثل، على معنى أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم. وضرب المثل في الآية: هو أن اللَّه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين.
أحكام القتال والأسرى والقتلى في سبيل اللَّه ونصرة الإسلام
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٤ الى ٩]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
الإعراب:
فَضَرْبَ الرِّقابِ منصوب على أنه مصدر، تقديره: فاضربوا ضرب الرقاب، فحذف الفعل.
حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها، ذلِكَ ذلِكَ: في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره الأمر ذلك.
فَتَعْساً لَهُمْ منصوب على المصدر، تقديره: تعسهم تعسا أو تعسوا تعسا، ويقال أيضا:
أتعسهم إتعاسا. والجملة خبر المبتدأ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا. وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطف على تعسوا تعسا.
البلاغة:
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً بينهما طباق.
تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها استعارة تبعية، شبه ترك القتال بوضع آلته، واشتق من الوضع تَضَعَ بمعنى تنتهي وتترك.
وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ مجاز مرسل، أطلق الجزء وهو الأقدام وأراد الكل، أي يثبتكم، وعبر بها لأنها أداة الثبات، وهو مثل فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى ٤٢/ ٣٠].
أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ.. سجع غير متكلف.
المفردات اللغوية:
لَقِيتُمُ من اللقاء وهو الحرب فَضَرْبَ الرِّقابِ أي فاضربوا الرقاب ضربا، أي اقتلوهم، وعبر بضرب الرقاب مجازا عن القتل، لأن الغالب في القتل أن يكون بضرب الرقبة، ولتصوير القتل بأشنع صورة للإرهاب أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي فأسروهم، والوثاق كالرباط: ما يوثق به الأسير من الحبل أو القيد وغيره، وشدة: إحكام ربطه حتى لا يفلت ويهرب.
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون عليهم منا، أو يفدون فداء، والمن: إطلاق سراح الأسير من غير مقابل أو فدية، والفداء أو المفاداة: إطلاق الأسير في مقابلة مال أو غيره كمبادلة الأسرى حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها مجاز عن انتهاء الحرب، أي حتى تنقضي الحرب أو تنتهي، ولم يبق إلا مسلم أو مسالم، والأوزار: الأثقال من السلاح والكراع (الخيول) وغيرها من أدوات القتال الثقيلة والمعدات الحربية ذلِكَ أي الأمر ذلك، أو افعلوا بهم ذلك مما ذكر وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي لانتقم منهم بغير قتال كالخسف والغرق والرجفة وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي ولكن أمركم بالقتال ليختبر المؤمنين بالكافرين، بأن يجاهدوهم، فيستوجبوا الثواب
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي استشهدوا، وقرئ: قاتلوا، أي جاهدوا فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يحبطها ويضيعها سَيَهْدِيهِمْ سيهدي من بقي حيا إلى الثواب أو سيثبت هدايتهم، أو سيهديهم في الدنيا والآخرة إلى ما ينفعهم وَيُصْلِحُ بالَهُمْ حالهم وشأنهم في الدنيا والآخرة.
ويلاحظ أن الهداية وإصلاح البال لمن لم يقتل، وأدرجوا في قوله: قُتِلُوا بطريق التغليب عَرَّفَها لَهُمْ بيّنها لهم وأعلمها بحيث يعلم كل أحد منزله ويهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق.
إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ تنصروا دين اللَّه ورسوله يَنْصُرْكُمْ على عدوكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ يثبتكم في أثناء القتال والمجاهدة مع الكفار فَتَعْساً لَهُمْ هلاكا لهم وخيبة من اللَّه ذلِكَ أي التعس وإضلال الأعمال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بسبب كراهيتهم ما أنزل اللَّه من القرآن المشتمل على التكاليف فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أبطلها.
سبب النزول: نزول الآية (٤) :
وَالَّذِينَ قُتِلُوا:
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الشّعب، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذ: اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون: اللَّه أعلى وأجل، فقال المشركون: إن لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قولوا: اللَّه مولانا، ولا مولى لكم.
المناسبة:
بعد قسمة الناس إلى فريقين: فريق الكافرين الذين يتبعون الباطل وهم حزب الشيطان، وفريق المؤمنين الذين يتبعون الحق وهم حزب الرحمن، ذكر اللَّه تعالى حكم القتال عند التحزب، وأرشد المؤمنين إلى قواعد الحرب مع المشركين أثناء المعركة وبعد انتهائها.
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ أي فإذا واجهتم الكفار في القتال، فاحصدوهم حصدا بالسيوف، واضربوا الرقاب ضربا. وهذا أمر بجهاد الكفار، وهم من لم يكن لهم عهد مع المسلمين، من المشركين وأهل الكتاب، عند وجود مسوغات القتال وتوافر العدوان، وهو قتال لا شفقة فيه ولا هوادة، وإنما يجب إعمال السلاح فيهم، حسبما تقتضي طبيعة الحرب، كما قال تعالى:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة ٢/ ١٩٣].
هذا هو الحكم الأول في أثناء المعركة، أما بعد انتهاء المعركة فقال اللَّه تعالى:
حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ، فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وغلبتموهم، وأصبحوا بلا قوة كالرجل المثخن بالجراح، فضعفوا واستكانوا وصاروا أسرى في أيديكم، وانتهت الحرب بإثخانهم وقهرهم، فأسروهم وأحكموا القيد عليهم لئلا يفلتوا ويهربوا.
وبعد الأسر أنتم مخيرون بين أمرين: إما المنّ عليهم بإطلاق سراحهم بلا مقابل أو بغير عوض، وإما الفداء بمبادلتهم بالأسرى المسلمين أو بدفع الفداء وهو المال الذي يفدي به الأسير نفسه من الأسر.
وذلك حتى لا يكون حرب مع الكفار ولا قتال، بأن يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة، أي إن غاية هذه الأوامر إنهاء الحرب والقتال. وهذا في الحقيقة حث على السلم المستتب، ليعيش الناس في سلام وأمان، ويتم تبادل الأفكار، وتنتشر دعوة الإسلام بالحكمة والإقناع، والحجة والبرهان، والموعظة الحسنة، فليس انتشار الإسلام بالسيف كما يتصور بعض
وصريح الآية يوجب القتل فقط قبل الإثخان، والتخيير بعد الأسر بين المن والفداء. وجاءت السنة مبينة جواز القتل بعد الأسر للمصلحة، كما جاء فيها إباحة الاسترقاق جريا على العادة السائدة في الماضي ومعاملة بالمثل. والظاهر أن الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن اللَّه تعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ، ليأخذوا منهم الفداء.
ثم بيّن اللَّه تعالى الحكمة في شرع القتال، فقال:
ذلِكَ، وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي ذلك هو الحكم في قتال الكفار، واللَّه قادر على الانتصار من أعدائه بالانتقام منهم، وإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب كالخسف والرجفة والغرق، دون قتال منكم أيها المؤمنون، ولكن اللَّه أمركم بحربهم ليختبر بعضكم ببعض، فيعلم المجاهدين في سبيله، والصابرين على ابتلائه، ويجزل ثوابهم، ويعذب الكفار بأيديهم، أو يحملهم الخوف على الإيمان بالله تعالى قبل نزول العذاب بهم، ومشاهدة قتل أمثالهم، فالحكمة من القتال: هي امتحان الناس واختبار صبرهم على المكاره: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران ٣/ ١٤٢].
ثم ذكر اللَّه تعالى ثواب الشهداء المجاهدين في سبيله قائلا:
١- وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ أي إن المقتولين في سبيل اللَّه لا يضيع اللَّه سبحانه أجرهم، ولن يجعل أعمالهم ضائعة كما تضيع أعمال الكفار.
أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلّة الإيمان، ويزوّج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصّع بالدر والياقوت، الياقوتة خير من الدنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفّع في سبعين إنسانا من أقاربه».
وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما، وعن أبي قتادة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يغفر للشهيد كل شيء إلّا الدّين».
٢- سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ أي سيوفقهم اللَّه تعالى للعمل بما يحبه ويرضاه، ويرشدهم إلى طريق الجنة، ويصلح حالهم وأمرهم وشأنهم في الآخرة، أي تحفظ أعمالهم وتخلد لهم، ويدخلهم روضات الجنات يحبرون فيها، وقد عرّفهم بها، وأعلمهم وبيّنها لهم من غير استدلال، حتى إن أهلها يهتدون إلى بيوتهم ومساكنهم من غير مرشد ولا دليل.
جاء في الحديث الصحيح عند البخاري: «والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا».
وقال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم اللَّه لهم منها، لا يخطئون، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدا.
والتكرار بين سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ لأن الأول سبب النعيم، والثاني نفس النعيم.
والناس في الجنة درجات بحسب أعمالهم، كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام ٦/ ١٣٢].
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ أي يا أهل الإيمان بالله والقرآن والإسلام إن تنصروا دين اللَّه ينصركم على أعدائكم، ويثبّت أقدامكم عند القتال في مواطن الحرب، حتى تتحقق الغلبة والعزة والتفوق لكم، وتكون كلمة اللَّه هي العليا.
وتأكيدا لذلك وتقوية لقلوبهم ذكر اللَّه تعالى جزاء الكافرين بعد بيان جزاء المجاهدين، فقال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي وللكافرين بالله وبرسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الخيبة والخزي والشقاء، وقد أبطل اللَّه أعمالهم وأحبطها، فلا ثواب لهم ولا خير يرتجى منها في الآخرة. وقوله: فَتَعْساً لَهُمْ مقابل تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ولرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ثم ذكر اللَّه تعالى سبب الخيبة وإبطال الأعمال، وسبب بقائهم على الكفر والضلال قائلا:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أي ذلك التعس.
وإضلال الأعمال بسبب كراهيتهم ما أنزل اللَّه في قرآنه على نبيّه المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم من التكاليف، فهم لا يريدونه ولا يحبونه، فأبطل اللَّه ثواب أعمالهم بذلك السبب.
والمراد بالأعمال: أعمال الخير حال الكفر، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- إباحة القتل الشديد في أثناء القتال، لأن ذلك من طبيعة الحرب، تحقيقا للنصر والغلبة، ودحرا للعدو وإنزال الهزيمة الساحقة بجيشه. وقد
وهذه الآية متفقة مع آية الأنفال: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [٦٧] غير أن آية الأنفال لم يذكر فيها ما يكون بعد الإثخان، والآية التي هنا فيها بيان تقرير مصير الأسرى وتخيير الإمام فيهم بين أحد أمرين: المنّ أو الفداء.
أما قتل الأسير لضرورة أو مصلحة حربية معينة في حالات خاصة وكذا استرقاقه، فمأخوذ من السّنة النّبوية، فيصير الإمام مخيّرا في الأسرى بين أربعة أمور: القتل، والاسترقاق، والمنّ، والفداء.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: «بعث النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، قال: أطلقوا ثمامة.
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال:
أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه، واللَّه ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، واللَّه ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ، واللَّه ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشّره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمره أن يعتمر، فلما قدم
وهذا دليل من السّنة على جواز المنّ على الأسير.
وهناك دليل آخر من السّنة على جواز الفداء، قال عمران بن حصين: أسر أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين، من أصحاب النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ففداه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.
وأما دليل جواز قتل الأسير: فقال أبو بكر الجصاص: اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير، لا نعلم بينهم خلافا فيه، وقد تواترت الأخبار عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في قتله الأسير، منها قتله عقبة بن أبي معيط، والنّضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر، وقتل- أي النّبي- يوم أحد أبا عزّة الشاعر بعد ما أسر، وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بالقتل، وسبي الذّرّيّة، ومنّ على الزبير بن باطا من بينهم.
وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله. وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح وآخرين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة. ومنّ على أهل مكة ولم يغنم أموالهم «١».
وأما دليل جواز استرقاق الأسرى الذي كان معاملة بالمثل مع صنيع الأمم الأخرى بعد الحرب: فهو أن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم استرق بعض العرب كهوازن وبنى المصطلق وقبائل من العرب «٢»، وسبى أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما
(٢) نيل الأوطار: ٨/ ٢ وما بعدها. [.....]
وأما الاستدلال بالآية: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ على جواز قتل الأسير فغير سديد، لأن الآية واضحة في القتل قبل الأسر، وأما بعد الإثخان وهو الإضعاف، فإن المحارب يقع في الأسر، وحكم ذلك مختلف عما قبل الأسر.
وقد فهم بعضهم من الآية جواز الاسترقاق، وذلك من الأمر بشدّ الوثاق، ويبقى بعده حالان، هما: المنّ والفداء.
قال ابن عباس في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ: ذلك يوم بدر، والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم، أنزل اللَّه تعالى بعد هذا في الأسارى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ، وَإِمَّا فِداءً فجعل اللَّه النّبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار: إن شاؤوا قتلوهم، وإن شاؤوا استعبدوهم، وإن شاؤوا فادوهم «١». أي يفعل الإمام ما يراه مصلحة حربية.
٢- هل الآية: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً محكمة أو منسوخة؟ قال أبو حنيفة عملا بقول السّدّي: هي منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٦] فلا يفادى الأسير بالمال، ولا يباع السبي لأهل الحرب، فيرجعون حربا علينا، ولا يفادون بأسرى المسلمين، ولا يمنّ على الأسرى، حتى لا يعودوا حربا على المسلمين. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يفادى أسرى المؤمنين بأسرى المشركين، وهو قول الثوري والأوزاعي.
وأجاز الجمهور المنّ والفداء بأسرى المسلمين وبالمال للآية: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً فقد أجازت الآية الفداء مطلقا من غير تقييد، وفادى النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرى بدر بالمال،
وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين قال: أسرت ثقيف
وروي أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين.
قال ابن العربي والقرطبي: والتحقيق الصحيح أن الآية محكمة في الأمر بالقتال «١». وهذا مذهب جمهور العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم. ولا يلجأ إلى القول بالنسخ إلا عند تعذر التوفيق والجمع بين الأدلة المتعارضة، وهنا يمكن التوفيق بحمل آيات القتال على حالة الحرب ونقض العهد ومقتضيات المعركة، فلا بدّ حينئذ من القتل لإعلاء كلمة اللَّه تعالى وإظهار عزّة الإسلام وإعلاء هيبة المسلمين، فإن تحقق المطلوب تخيّر المسلمون بعد انتهاء الحرب واستقرار السلم بين المنّ والفداء. أما القتل بعد الأسر فهو ضرورة ولا تكون إلا لمصلحة حربية واضحة يراها الإمام.
قال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، لقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال ٨/ ٦٧]. فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما يراه من قتل أو غيره «٢». وهذا مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة.
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ٢٢٨
٣- الجهاد طريق للامتحان والاختبار، ليعرف الصادق الصابر، والمضحي المجاهد في سبيل اللَّه، وإن كان اللَّه منزّها عن الاستعانة بأحد، وقادرا على البطش بالأعداء وإهلاكهم بوسائل مختلفة غير القتال، أو تسليط الملائكة أو أضعف خلقه، فالله يمتحن المؤمنين بالكافرين، هل يجاهدون في سبيله حقّ الجهاد أم لا؟ ويبتلي الكافرين بالمؤمنين، هل يذعنون للحقّ أم لا؟ إلزاما للحجة. ومعنى الابتلاء من اللَّه سبحانه كما تقدم مرارا أنه مجاز، أي يعاملهم معاملة المختبر أو ليظهر الأمر لغيره من الملائكة أو الثقلين.
٤- القتلى في سبيل اللَّه أو الشهداء لا تضيع أعمالهم، ويهديهم ربّهم إلى إدراك السعادة في الدنيا والآخرة وإلى الثواب ويثبتهم على الهداية، ويرشدهم إلى طريق الجنة من غير بحث ولا حيرة ولا توقف بعد خروجهم من قبورهم، ويصلح حالهم وشأنهم ومعاشهم في مستقبل الأمر في العقبى والمعاد أو في الدنيا، ويدخلهم الجنة التي بيّنها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وطيّبها لهم بأنواع الملاذّ.
٥- النصر مشروط بنصرة دين اللَّه تعالى وتطبيق شرعه والتزام أوامره واجتناب نواهيه، لذا كرر اللَّه تعالى هذا المعنى في آيات كثيرة قائلا: إن تنصروا دين اللَّه ينصركم على الكفار، ويثبّت قلوبكم بالأمن والنصر والمعونة في موطن الحرب.
وبه يتبيّن الفرق بين موتى الكافرين في قوله تعالى: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ وبين موتى المسلمين وقتلاهم حيث قال تعالى في حقهم: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ.
النظر في آثار الأمم السابقة والتأمل في أحوال المؤمنين والكافرين
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٠ الى ١٤]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
الإعراب:
فَيَنْظُرُوا إما مجزوم بالعطف بالفاء على يَسِيرُوا أو في موضع نصب على جواب الاستفهام بالفاء بتقدير «أن».
مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ أَخْرَجَتْكَ: أي أخرجك أهلها، ولهذا قال:
البلاغة:
وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها من وضع الظاهر موضع المضمر.
الَّتِي أَخْرَجَتْكَ مجاز مرسل أي أخرجك أهلها، والإخراج باعتبار التسبب. وكذا قوله مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل أطلق المحل وأريد الحالّ.
المفردات اللغوية:
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أهلك أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وهو أبلغ من قوله: دمرهم اللَّه، فهذا يدلّ على الإهلاك مطلقا، والأول: إهلاك ما يختص به الإنسان من نفسه وماله وولده وغيره.
وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أمثال تلك العاقبة أو العقوبة، لأن التدمير يدلّ عليها. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أي نصر المؤمنين وقهر الكافرين بسبب ولاية اللَّه. مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ولي وناصر المؤمنين، أي ناصر المؤمنين على أعدائهم. وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ لا ناصر لهم يدفع العذاب عنهم. ويأتي المولى بمعنى المالك كما في قوله تعالى: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يونس ١٠/ ٣٠] أي إلى مالك أمورهم والمتصرف في شؤونهم.
يَتَمَتَّعُونَ ينتفعون بمتاع الدنيا. وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم، ولا يلتفتون إلى العاقبة أو الآخرة. مَثْوىً منزل ومقام ومصير. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي وكم من أهل قرية. مِنْ قَرْيَتِكَ أي مكة أي من أهل مكة، حذف المضاف وأجريت أحكامه على المضاف إليه، وقوله مِنْ قَرْيَتِكَ روعي فيه لفظ قرية. أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب، روعي فيه معنى قَرْيَةٍ الأولى. فَلا ناصِرَ لَهُمْ من إهلاكنا.
بَيِّنَةٍ حجة وبرهان، وتشمل القرآن والحجج العقلية. سُوءُ عَمَلِهِ كالشرك والمعاصي. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في عبادة الأوثان، فلا شبهة دليل لهم في ذلك، فضلا عن وجود حجة لديهم. والجواب عن قوله: أَفَمَنْ كانَ وكَمَنْ زُيِّنَ هو لا مماثلة بين المؤمنين وكفار مكة.
نزول الآية (١١) :
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى:
قال قتادة: نزلت يوم أحد والنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الشّعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قولوا: اللَّه مولانا، ولا مولى لكم»
وقد تقدّم ذلك.
نزول الآية (١٣) :
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ:
أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلقاء الغار، نظر إلى مكة، فقال: أنت أحبّ بلاد اللَّه إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك، لم أخرج منك، فأنزل اللَّه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ الآية. وذكره الثعلبي أيضا عن قتادة وابن عباس، وهو حديث صحيح.
المناسبة:
بعد أن أبان اللَّه تعالى مصير الكافرين والمؤمنين، ونعى على الأولين، وأثنى على الآخرين تنبيها على وجوب الإيمان، حضّ على النظر في آثار الأمم المتقدّمة، والتأمل في أحوال المؤمنين والكافرين، للعبرة والعظة، وإدراك أن اللَّه ناصر المؤمنين وخاذل الكافرين، ومنعم على أهل الإيمان والصلاح بالجنة، بسبب تبيّنهم الحق، ومعاقب الكفار بالنار، بسبب اتباعهم أهواءهم في عبادة الأوثان.
التفسير والبيان:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها؟ أي أفلم يمش هؤلاء المشركون بالله تعالى
ولهؤلاء الكافرين المكذبين ولجميع الأمم الكافرة أمثال عاقبة من قبلهم من الكفرة. وقد عوقب كفار قريش في الدنيا بالهزيمة المنكرة في بدر وفتح مكة، ولهم عقاب أشدّ في نار جهنم في الآخرة.
وسبب العقاب ما قال تعالى:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ أي ذلك التدمير والاستئصال للكافرين، ونجاة المؤمنين بسبب أن اللَّه ناصر عباده الذين آمنوا بالله تعالى وأطاعوا رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأن الكافرين الجاحدين بالله تعالى والمكذبين رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لا ناصر لهم يدفع عنهم العذاب، فوقعت العقوبة بهم.
ولما بيّن اللَّه تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا، بيّن حالهم في الآخرة، فقال:
١- إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي إن اللَّه ينعم يوم القيامة على عباده الذين آمنوا بالله وصدقوا به وعملوا صالح الأعمال، فقاموا بالفرائض واجتنبوا المعاصي، بدخول الجنات (البساتين) التي تجري الأنهار من تحت قصورها، تكريما لهم.
٢- وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي والذين جحدوا بوجود اللَّه وتوحيده وكذبوا رسوله ينتفعون بمتاع الدنيا، ويأكلون منها كأكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لا همّ لهم إلا بطونهم
ثبت في الحديث الصحيح عند أحمد والشيخين والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر: «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء».
ونار جهنم يوم جزائهم مسكن ومنزل لهم يستقرون فيه.
والخلاصة: أن اللَّه يدخل المؤمن الجنة، والكافر النار في عالم الآخرة.
ثم هدّد اللَّه تعالى مشركي مكة وأوعدهم بقوله:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ، أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ أي وكثير من أهل المدن والأمم السالفة ذات القوة والنفوذ كانوا أشدّ بأسا وقوة من أهل مكة الذين أخرجوك منها، فأهلكناهم، ولم يجدوا لهم ناصرا ولا معينا يدفع عنهم العذاب، فبالأولى من هو أضعف منهم، وهم قريش.
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو سيّد وخاتم الأنبياء. فإذا أهلك اللَّه عزّ وجلّ عتاة الأمم الذين كذبوا الرّسل، فسيفعل الأمر نفسه بأمثالهم، وإن امتنع إيقاع عذاب الاستئصال في الدنيا بسبب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم نبي الرحمة، فإن العذاب لهم كائن لا محالة في الآخرة.
ثم أبان اللَّه تعالى سبب التفرقة في جزاء الفريقين، فقال على طريق الإنكار:
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي أفمن كان على بصيرة ويقين من أمر دينه وبما جبل عليه من الفطرة السليمة بتوحيد اللَّه، كمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، وهو عبادة الأوثان، والإشراك بالله، واقتراف المعاصي، واتبعوا أهواءهم في عبادتها، وانهمكوا في أنواع الضلالات، بلا شبهة توجب الشّك، فضلا عن حجة صحيحة. والمعنى لا يستوي الفريقان.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- هدّد الحق تعالى بحال الأقدمين، ودعا كفار قريش والناس قاطبة إلى النظر بقلوبهم في مصير الكافرين المكذبين، كيف أهلكهم واستأصلهم، وأعلن صراحة أن للكافرين في كل عصر وجيل أمثال هذه الفعلة، يعني التدمير، أو أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة، إن لم يؤمنوا.
٢- ذلك الإهلاك والهوان بسبب أن اللَّه تعالى ناصر المؤمنين، وأما الكافرون الذين اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضرّ، وتركوا اللَّه تعالى، فلا ناصر لهم ولا معين يمنع عنهم العذاب.
٣- إن جزاء الفريقين مختلف، فالله تعالى يدخل المؤمنين الذين عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، وأما الكافرون فإنهم يتمتعون في الدنيا كأنهم أنعام، ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عما في المستقبل، ونار جهنم في الآخرة منزلهم ومقامهم ومسكنهم الذي لا يفارقونه.
قال الرازي: كثيرا ما يقتصر اللَّه على ذكر الأنهار في وصف الجنة، لأن الأنهار يتبعها الأشجار، والأشجار تتبعها الثمار، والماء سبب حياة العالم، والنار سبب الإعدام، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرّر بها «١».
٤- خصّ اللَّه تعالى أهل مكة بتهديد ووعيد آخر، فلما لم ينتفعوا بالمثل العام بقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ذكر لهم مثلا آخر، وهو أن كثيرا من الأقوام الغابرة كانوا أشدّ قوة منهم، فأهلكهم اللَّه تعالى، ولا ناصر لهم.
٥- لا يستوي عقلا في الدنيا وواقعا وعدلا في الآخرة أهل الإيمان الذين هم على بصيرة وثبات ويقين وهم محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته، وعبّاد الأصنام كأبي جهل وسائر الكفار الذين حسّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم، واتبعوا ما اشتهوا، فالفريق الأول ناجون والثاني هالكون.
صفة نعيم الجنة وعذاب النار
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
الإعراب:
مَثَلُ الْجَنَّةِ مبتدأ، وخبره: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ أو فِيها أَنْهارٌ وكأن قائلا قال:
وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار، ويجوز أن يكون فِيها أَنْهارٌ في موضع الحال، أي مستقرة فيها أنهار، كما يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي فيها أنهار.
مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَذَّةٍ: تأنيث «لذّ» وهو اللذيذ، أو وصف بمصدر، مثل
وَمَغْفِرَةٌ مبتدأ، وخبره محذوف أي لهم مغفرة، أو عطف على لفظ المحذوف في قوله:
وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي لهم أصناف.
كَمَنْ هُوَ خالِدٌ خبر مبتدأ مقدر، أي أمن هو في هذا النعيم؟
البلاغة:
فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ.. وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ.. وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ إطناب بتكرار لفظ أَنْهارٌ، تشويقا لنعيم الجنة.
المفردات اللغوية:
مَثَلُ الْجَنَّةِ صفة الجنة العجيبة الشأن. وهو على حذف حرف الاستفهام، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار وهو قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ.. ؟ والتقدير: أمثل الجنة وأصحابها كمثل جزاء من هو خالد في النار؟ أو كمثل من هو خالد؟ فهو كلام في صورة الإثبات، ومعنى النفي والإنكار. وفائدة التعرية عن حروف الاستفهام زيادة تصوير مكابرة من يسوّي بين الفريقين. أو فيما قصصنا عليك صفة الجنة العجيبة.
آسِنٍ متغيّر الطعم والرائحة لطول مكثه، وفعله: أسن الماء بالفتح يأسن ويأسن كضرب ونصر، أو أسن بالكسر مثل علم، وقرئ بالمدّ والقصر كضارب وحذر، أي ماء الجنة غير متغيّر الطعم والريح، بخلاف ماء الدنيا، يتغيّر بعارض. وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بخلاف لبن الدنيا، لخروجه من الضرع. وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي تلذذ خالص ليس معه ذهاب عقل ولا سكر ولا صداع، بخلاف خمر الدنيا، فإنها كريهة عند الشرب، ولَذَّةٍ:
تأنيث لذّ، أي لذيذ. وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى منقّى خال من الشمع والقذى وفضلات النحل وغيرها، بخلاف عسل الدنيا فإنه بخروجه من بطون النحل يخالطه الشمع وغيره، والتوصيف بهذه الأوصاف يقتضي غزارتها واستمرارها.
وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي لهم فيها أصناف من الثمار. وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي لهم مغفرة، أي فالله راض عنهم، مع إحسانه إليهم بما ذكر، بخلاف الإنسان قد يكون مع إحسانه ساخطا. وَسُقُوا ماءً حَمِيماً ماء حارا شديد الغليان، مكان أشربة أهل الجنة. فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ أي مصارينهم من فرط الحرارة، جمع معىّ.
بعد بيان الفرق بين المؤمنين والكافرين في الاهتداء والضلال، بيّن اللَّه تعالى الفرق بينهما في الجزاء والمرجع والمآل، فذكر ما للمؤمنين من أنواع النعيم في الجنة، وما للكافرين من الخلود في النار وشرب الماء شديد الحرارة الذي يقطّع الأمعاء.
والكلام متصل أيضا بما قال عزّ وجلّ قبل: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ فهناك بيان الجزاء، وهنا وصف تلك الجنات المعدة للمتقين.
التفسير والبيان:
ذكر اللَّه تعالى في هذه الآية نوعين من الجزاء لكل من الفريقين: جزاء مادي وجزاء معنوي، أما نوعا جزاء المؤمنين فهما المشروب والمطعوم، والمغفرة والرضوان، وأما نوعا جزاء الكافرين فهما المشروب الحار، والخلود في النار. ولما قدّم في الذكر في الآية السابقة المتبصر صاحب البيّنة على من اتّبع هواه، قدّم في هذه الآية حال الأول في المآل على حال الآخر.
ومعنى الآية: إن نعت الجنة أو وصفها العجيب الشأن التي وعد اللَّه بها عباده المتقين الذين اتّقوا عقابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه هو ما تسمعون. ثم ابتدأ بمشروب أهل الجنة:
- فيها أنهار جارية من ماء غير متغير الطعم والريح واللون لطول المكث، بل إنه ماء عذب فرات متدفق نقي غير مصحوب برواسب أو طحالب، من شربه لا يظمأ أبدا. وقد ابتدأ بالماء، لأنه أعم نفعا للناس من بقية المشروبات. روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: «أنهار الجنة تفجر من جبل من مسك».
ورد في حديث مرفوع: «لم يخرج من ضروع الماشية»
وثنّى باللبن، لأنه ضروري للناس كلهم، وهو غذاء كامل ومطعوم شهي.
- وفيها أنهار من خمر لذيذة الطعم، طيبة الشرب، ليست كريهة الطعم والرائحة أو مرّة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة: لا فِيها غَوْلٌ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصّافات ٣٧/ ٤٧]، لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة ٥٦/ ١٩]، أي ليس فيها ضرر ولا مادة مسكرة تزيل العقل، ولا يصيب شاربها صداع، ولا يذهب عقله، وإنما هي لذيذة للشاربين: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصّافات ٣٧/ ٤٦].
ورد في حديث مرفوع: «لم يعصرها الرجال بأقدامهم».
وذكرت في المرتبة الثالثة، لأنها ليست ضرورية، وإنما فيها متعة ذوقية، فهي لذيذة الطعم، طيبة الشرب، لا يتكرهها الشاربون، وتناولها للذة بعد حصول الري والمطعوم.
- وفيها أنهار من عسل في غاية الصفاء، وحسن اللون والطعم والريح، لم يخالطه شيء من الشمع والقذى والعكر والكدر،
ثبت في حديث مرفوع: «لم يخرج من بطون النحل».
وذكر في المرتبة الرابعة، لأنه ليس ضروريا وإنما جمع بين مختلف الطعوم والإحساسات الذوقية المرغوبة، ولا شكّ أن الحلو أطيب الطعوم، والعسل أرقاها، وفيه فوائد كثيرة للجسد: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل ١٦/ ٦٩]، ففيه الشفاء في الدنيا بعد المشروب والمطعوم، وفيه الخير في الآخرة.
وإنما ذكر اللَّه تعالى هذه الأجناس الأربعة من الأنهار، لأنها جمعت بين الضرورة (الماء) والحاجة (اللبن) والمتعة (الخمر غير المسكرة) والعلاج النافع (العسل).
ثم ذكر اللَّه تعالى المأكول الممتع وهو الثمار والفواكه اليانعة، فللمتقين في الجنّة مختلف أنواع الثمار وأصناف الفاكهة ذات الألوان البديعة، والروائح الذكية، والطعوم الشهية، كقوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان ٤٤/ ٥٥]، وقوله سبحانه: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن ٥٥/ ٥٢]. ولما كان الأكل في الجنة للذة لا للحاجة ذكر الثمار ولم يذكر اللحم والخبز.
وبعد بيان الجزاء المادي من المشروب والمأكول ذكر تعالى الجزاء المعنوي وهو ظفر أهل الجنة مع ذلك كله بمغفرة اللَّه ورضوانه وتجاوزه عن سيئاتهم وذنوبهم كرما وحلما وفضلا ورحمة، والمغفرة تكون قبل دخول الجنة، فقوله:
وَمَغْفِرَةٌ معطوف على قوله: لَهُمْ كأنه قال تعالى: لهم الثمرات فيها، ولهم المغفرة قبل دخولها.
ثم قارن اللَّه تعالى ما وعد به المتقين من النعيم بما أوعد به الكافرين من الجحيم، فأبان: أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة وبيّنا ما هم فيه من نعيم وخلود، كمن هو خالد في النار؟ لا شكّ أنه لا يستوي من هو في الدرجات كمن هو في الدركات، وليس أهل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كأهل النار التي فيها الحميم في العذاب الأليم، كما قال تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد ٤٧/ ١٢].
فالخلود صفة مشتركة بين أهل الجنة وأهل النار، ولكن شتّان ما بين النوعين، الأولون خالدون في النعيم المقيم، والآخرون خالدون في العذاب الأليم.
فقه الحياة أو الأحكام:
قارن اللَّه تعالى بين نوعين من جزاء المؤمنين المتقين، والكافرين الظالمين، وهي مقارنة تستوجب التأمل، وتبيّن مدى الفرق الشاسع بين المرغب فيه والمرهب منه.
فمشروب المتقين من أنهار أربعة: الماء واللبن والخمر اللذيذة غير المسكرة والعسل، ومأكولهم مختلف أصناف الثمار، وأما شراب أهل النار فهو الماء الشديد الحرارة أو الغليان الذي يقطّع الأمعاء، إذا دنا منهم شوى وجوههم، وسقطت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطّع أمعاءهم وأخرجها من أدبارهم. وليس هو ماء حميم فحسب، لأن مجرد الحرارة لا يقطع، بل هو ماء حميم مخصوص يقطع.
ولأهل الجنة مع ذلك كله المغفرة من ربّهم لذنوبهم، ورضوان اللَّه عليهم، ولأهل النار السخط والغضب الإلهي، والهزء والسخرية، والتوبيخ والتقريع.
والكل في خلود دائم، أهل الجنة خالدون ماكثون فيها على الدوام يرفلون بالنعيم الدائم، وأهل النار خالدون مقيمون فيها أبدا، يتلظون بحر السعير الملتهب المستمر.
قال ابن كيسان: مثل هذه الجنة فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزّقّوم. ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمثل أهل النار في العذاب المقيم، أي أمثل هؤلاء كهؤلاء؟! وقال الفراء: أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار؟! جعلنا اللَّه من أهل الجنان، وأعاذنا من حرّ النيران.
- ١- حال المنافقين والمهتدين عند استماع آيات العقيدة
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٦ الى ١٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
الإعراب:
آنِفاً ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا، أو حال من ضمير: قالَ.
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ذِكْراهُمْ: مبتدأ مؤخر، وفَأَنَّى لَهُمْ: خبره، والمعنى: فأنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة. وتاء جاءَتْهُمْ للساعة. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن ذكراهم يرتفع بالظرف وهو فَأَنَّى لَهُمْ.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أَنْ تَأْتِيَهُمْ: بدل اشتمال من السَّاعَةَ، أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم الساعة فجأة.
البلاغة:
أَهْواءَهُمْ تَقْواهُمْ ذِكْراهُمْ سجع رصين غير متكلف، له جرس وإيقاع قوي على السامع.
وَمِنْهُمْ أي من الكفار فئة المنافقين. مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ في خطبة الجمعة وغيرها، وهم المنافقون، كانوا يحضرون مجلس الرسول ويسمعون كلامه، فإذا خرجوا قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي لعلماء الصحابة كابن مسعود وابن عباس، استهزاء وسخرية. ماذا قالَ آنِفاً أي ما الذي قال في هذه الساعة؟ استهزاء واستعلاما، فقوله: آنفا، أي الساعة التي قبل الوقت الذي أنت فيه، وقرئ بالمدّ والقصر، مأخوذ من أنف الشيء: وهو ما تقدم منه، فهو اسم فاعل لائتنف.
أو هو مأخوذ من استأنف الشيء: إذا ابتدأه، أي ماذا قال في أول وقت يقرب منا. طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ختم عليها بالكفر. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في النّفاق.
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا وهم المؤمنون. زادَهُمْ هُدىً زادهم اللَّه بالتوفيق والإلهام. وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ بيّن لهم ما يتّقون به ربّهم، وألهمهم ما يتقون به النّار. فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أي ما ينتظرون وهم أهل مكة غير مجيء القيامة؟ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم فجأة. أَشْراطُها علاماتها، منها بعثة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وانشقاق القمر، وظهور الدخان. فَأَنَّى لَهُمْ فكيف لهم. إِذا جاءَتْهُمْ الساعة. ذِكْراهُمْ تذكرهم، أي لا ينفعهم حينئذ تذكرهم.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين، فدم واثبت يا محمد على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، وتكميل النفس بإصلاح أحوالها، وبما ينفع في القيامة، واطلب المغفرة لأجل ذنبك، وهذا الأمر مع عصمته صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الذنوب للتعليم واستنان أمته به، وقد فعل ذلك،
فقال فيما رواه الطبراني عن أبي هريرة: «إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم مائة مرة»
أو أن أقل الذنب: ترك الأولى.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي واستغفر أيضا لأهل الإيمان بالدعاء لهم وتحريضهم على موجبات المغفرة. وفي إعادة الجار وهو اللام، وحذف المضاف وهو «ذنوب» إشعار بفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم. مُتَقَلَّبَكُمْ تصرفكم وتقلبكم لأشغالكم في الدنيا. وَمَثْواكُمْ إما سكونكم ومأواكم إلى مضاجعكم في الليل، وإما مأواكم في الجنة أو النار، أي هو عالم بجميع أحوالكم في الدنيا والآخرة، لا يخفى عليه شيء منها، فاحذروه والخطاب للمؤمنين وغيرهم:
سبب النزول: نزول الآية (١٦) :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون إلى النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيستمع المؤمنون منهم ما يقول
وروى مقاتل: أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد اللَّه بن مسعود، استهزاء: ماذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل.
المناسبة:
بعد بيان حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة، ذكر اللَّه تعالى حال المنافقين، وأنهم من الكفار، وأنهم جهلة لا يفهمون كلام النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عند الاستماع إليه، وإنما يستمعون ولا ينتفعون، لتهاونهم واستهزائهم، على عكس حال المؤمن المهتدي، فإنه يستمع ويفهم، ويعمل بما يعلم. ثم هدد تعالى أولئك المنافقين وأمرهم بأن يتّعظوا ويعتبروا ويتذكروا قبل مجيء الساعة. ثم أمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالثبات على ما هو عليه من صحة الاعتقاد والاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات.
التفسير والبيان:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ، قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: ماذا قالَ آنِفاً؟ أي ومن هؤلاء الكفار الخالدين في النار: منافقون يستمعون كلام النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتلاوته في خطبه ومجالسه، فلا يفهمون منه شيئا لعدم وعيهم وإدراكهم وإيمانهم، فإذا خرجوا من عنده قالوا لعلماء الصحابة الواعين لما سمعوا، وسألوهم على طريقة الاستهزاء والاستخفاف والسخرية: ماذا قال النّبي في الساعة القريبة من هذه؟ والمعنى: أنّا لم نلتفت إلى قوله، ولم نكترث بما يتكلم به، ولم نفهم ما يقول، ولم ندر ما نفع ذلك.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي أولئك المنافقون هم الذين ختم اللَّه على قلوبهم بسبب نفاقهم، فلم يؤمنوا ولم يهتدوا إلى الحق، ولا اتجهت قلوبهم إلى شيء من الخير، واتبعوا شهواتهم وأهواء نفوسهم في الكفر والعناد، أي إنهم تركوا اتباع الحق إما بسبب عدم الفهم، أو بسبب عدم الاستماع للاستفادة، واتبعوا ضدّه، فليس لديهم فهم صحيح ولا قصد حسن ثم قابلهم اللَّه تعالى بالمؤمنين المهتدين، فقال:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أي والذين قصدوا الهداية إلى طريق الخير، وفقهم اللَّه تعالى، وشرح صدورهم، فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به، وثبّتهم على الهدى، وزادهم هدى بالتوفيق، وألهمهم رشدهم، وأعانهم على التقوى، بالتوفيق للعمل الذي يرضاه.
ثم هددهم اللَّه تعالى بمجيء القيامة، فقال:
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ أي فهل ينتظر المنافقون والكافرون إلا مجيء القيامة التي تأتيهم فجأة وهم غافلون عنها، وقد حدثت أماراتها وعلاماتها، ومنها بعثة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالوسطى والسبابة».
ومن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة (القيامة) حيث لا ينفعهم ذلك، كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟ [الفجر ٨٩/ ٣٣] أي لا ينفعهم تذكرهم وإيمانهم حينئذ.
والمراد بالآية أن أدلة الإيمان بالله تعالى وصدق رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وبالبعث كثيرة
ثم أمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالثبات على ما هو عليه والاستغفار، فقال:
فَاعْلَمْ «١» أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ أي إذا علمت أيها النّبي حال الفريقين: المؤمن والكافر، من السعادة والشقاوة ومجيء علامات القيامة وأشراطها فاثبت واستمر على ما أنت عليه من التوحيد ومراقبة النفس، واعلم أنه لا إله غير اللَّه ولا ربّ سواه، وأن البعث حقّ آت لا ريب فيه، واستغفر مما قد يصدر منك مما هو خلاف الأولى، واستغفر أيضا لذنوب أتباعك وأمتك، بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة عما فرط من ذنوبهم. واللَّه يعلم أعمالكم وتصرفكم في أشغالكم نهارا، ومستقركم ليلا، وقيل: أو مأواكم في الدار الآخرة، قال ابن كثير: والأول أولى وأظهر، وفي هذا ترغيب بالعمل وترهيب من المخالفة.
وذلك كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام ٦/ ٦٠]، وقوله سبحانه: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود ١١/ ٦].
وكان من دعاء النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عملا بالأمر الإلهي بالاستغفار والدعاء:
ما ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدّي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي».
وثبت في الصحيح كذلك أنه قال: «يا أيها الناس، توبوا إلى ربّكم، فإني أستغفر اللَّه، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».
وروى أبو يعلى عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «عليكم بلا إله إلا اللَّه والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال: إنما هلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا اللَّه والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون».
وفي الأثر المروي: «قال إبليس: وعزّتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال اللَّه عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني».
وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم، فتلا هذه الآية:
فَاعْلَمْ.. وذلك أنه أمر بالعمل بعد العلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- المنافقون كعبد اللَّه بن أبيّ بن سلول، ورفاعة بن التابوت، وزيد بن الصليب، والحارث بن عمرو، ومالك بن دخشم قوم انتهازيون نفعيون، كانوا يحضرون الخطبة النّبوية يوم الجمعة، فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه، وهم أيضا قوم جهلة لإقفار قلوبهم من الإيمان، وخلو عقولهم من الوعي والإدراك، فكانوا يحضرون عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر.
٣- من منهج القرآن: الموازنة والمقارنة بين الأضداد ليتبيّن الفرق، فكثيرا ما يقابل بين المؤمنين والكافرين كما في الآيات المتقدمة، أو بين المؤمنين والفجار، وهنا قابل بين المؤمنين المهتدين والمنافقين، فالمنافقون طبع اللَّه على قلوبهم بكفرهم واتبعوا أهواءهم في الكفر، والمؤمنون زادهم اللَّه هدى، فعلموا ما سمعوا وعملوا بما علموا، وآتاهم تقواهم، أي ألهمهم التقوى، ووفقهم للعمل الذي فرض عليهم.
٤- إذا كانت البراهين على وجود اللَّه وتصديق نبيّه والإيمان بالبعث قد اتّضحت، والكافرون والمنافقون لم يؤمنوا، فلا يتوقع منهم الإيمان إلا عند قيام الساعة التي ستأتيهم فجأة، وظهرت علاماتها وأماراتها، ومنها بعثة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وانشقاق القمر والدخان، وكثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام، وقلة الكرام وكثرة اللئام.
ولكن حين مجيء الساعة لا ينفعهم التذكر والإيمان، إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الإيمان.
٥- لا يفيد المؤمن إلا الثبات على توحيد اللَّه، والاعتقاد بأن لا إله إلا اللَّه لها الفوقية والتقدم على كل شيء، والاشتغال بالاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات، وهذا دليل التآخي والمحبة والرغبة في الخير والسعادة لأهل الإيمان جميعا، ودليل على وجوب استغفار الإنسان لجميع المسلمين.
وقد أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالدوام والاستمرار على عقيدة التوحيد والإخلاص، وبالاستغفار لذنبه ولذنوب المؤمنين والمؤمنات، لأنه القدوة المثلى والأسوة
تركهم ما هو الأولى بمنزلتهم العالية عند اللَّه تعالى. وتقديم الأمر بالتوحيد على الاستغفار دليل على تقديم العلم على العمل، وعلى أن أول الواجبات العلم والنظر قبل القول والإقرار، وفي الآية ما يدلّ على التواضع وهضم النفس، لأن اللَّه تعالى أمر رسوله اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالاستغفار لذنبه وذنوب من على دينه.
٦- لا يخفى على اللَّه تعالى شيء من حركات بني آدم وسكناتهم، بل وجميع خلقه، فهو سبحانه عالم بجميع ذلك جملة وتفصيلا، فيعلم متقلبهم وتصرفهم في النهار، ومستقرهم بالليل، ومثواهم في الدنيا والآخرة. وعلى هذا يكون حمل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ على العموم لكل ما ذكر أولى وأحرى كما اختار القرطبي رحمه اللَّه تعالى.
والعلم بأن اللَّه رقيب على كل شيء يستدعي الطاعة والعمل الصالح، ويوجب الرهبة من العصيان والمخالفة، وهو معنى التقوى التي يوفق اللَّه إليها عباده المؤمنين.
- ٢- حال المنافقين والمؤمنين عند نزول الآيات العملية
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوانُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣)
فَأَوْلى لَهُمْ مبتدأ وخبر، أي فويل لهم. فأولى: اسم للتهديد والوعيد، كأنه قال:
الوعيد لهم، وهو ممنوع من الصرف، لأنه على وزن أفعل معرفة.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ: جملة شرطية، وقعت اعتراضا بين اسم «عسى» وخبرها، وتقديره: فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض، وتقطعوا أرحامكم إن توليتم.
البلاغة:
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ مجاز عقلي، لأنه نسب العزم إلى الأمر، وهو لأهله، مثل «نهاره صائم».
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ التفات من الغيبة إلى الخطاب، ليكون أبلغ في التوبيخ وآكد في التقريع. وفيه ما يسمى في البلاغة في غير القرآن بتجاهل العارف أي سلوك طريقة الاستخبار.
المفردات اللغوية:
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌللحث أو الحض على حصول ما بعدها، والمراد: يقول المؤمنون: هلا نزلت سورة في أمر الجهاد مُحْكَمَةٌ مبينة واضحة لا شبهة ولا احتمال فيها لمعنى آخر. وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي الأمر به. مَرَضٌ ضعف في الدين وشك ونفاق. نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي نظر المغمى عليه خوفا من الموت، أو المحتضر الذي لا يحرك بصره، والمراد أن المنافقين يخافون من القتال ويكرهونه. فَأَوْلى لَهُمْ أي فالويل والهلاك لهم، مأخوذ من الولي أي القرب، ومعناه: الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه، أو يؤول إليه أمرهم. قال ابن جزي في التسهيل لعلوم التنزيل: وهي كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم، كقوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة ٧٥/ ٣٤].
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ استئناف كلام جديد، أي الطاعة والقول المعروف خير لهم، أي أحسن وأمثل، قال الرازي: لا يقال: طاعة نكرة لا تصلح للابتداء، لأنا نقول: هي موصوفة، يدل عليه قوله: وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فإنه موصوف، فكأنه تعالى قال: طاعة مخلصة وقول معروف خير «١». وقيل: ذلك حكاية قولهم لقراءة أبي «يقولون طاعة وقول معروف».
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ بكسر السين وفتحها، أي لعلكم، أو فهل يتوقع منكم إلا الإفساد إن أعرضتم عن الإيمان والقتال. وكلمة «عسى» تدل على توقع حصول ما بعدها. وبما أن التوقع من اللَّه غير متصور لأن اللَّه عز وعلا عالم بما كان وبما يكون، فتفيد هنا التحقق، أي لعلكم إن أعرضتم وتوليتم عن دين اللَّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالإغارة والنهب والسلب وقطع الأرحام، ومقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات. أو إن توليتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم.
أُولئِكَ أي المفسدون. الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم اللَّه من رحمته لإفسادهم وقطعهم الأرحام. فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق. وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ جعلها كالعمياء عن طريق الهدى، فلا يهتدون سبيله.
المناسبة:
بعد بيان حال الكافر والمنافق والمهتدي عند استماع آيات العقيدة أو الآيات العلمية من التوحيد والحشر والبعث وغيرها من أصول الاعتقاد في الإسلام، بيّن تعالى حالهم عند نزول الآيات العملية، كآيات الجهاد والصلاة والزكاة ونحوها، فأوضح أن المؤمن كان ينتظر نزولها، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول: هلا أمرنا بشيء من العبادة، ليتقرب إلى ربه ويحظى برضاه، وأن المنافق كان إذا نزل شيء من التكاليف البدنية أو المالية شقّ عليه، ليعلم تباين الفريقين في العلم والعمل، حيث لا يفهم المنافق العلم ولا يريد العلم، والمؤمن يعلم ويجب العمل.
لذا كافأ اللَّه المؤمنين بالرضا والمحبة والجنة، وجوزي المنافقون باللعنة والطرد من الرحمة والخير.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَأَوْلى لَهُمْ أي يتمنى المؤمنون المخلصون شرعية الجهاد، فيسألون ربهم عز وجل قائلين: هلا أنزلت سورة يأمرنا فيها ربنا بقتال الكفار، حرصا على ثواب الجهاد، ونيل درجات المجاهدين، فإذا أنزلت سورة بيّنة واضحة في الأمر به، وذكر فيها أن الجهاد فرض على المسلمين، فرحوا بها، وشق على المنافقين، ورأيت الذين في قلوبهم شك ومرض ونفاق وهم المنافقون، ينظرون إليك نظر المحتضر الذي شخص بصره عند الموت، جبنا عن القتال، وخوفا من لقاء الكفار، فالويل والموت والهلاك أولى لهم أي قاربهم ما يهلكهم، واللام في «لهم» مزيدة، أو فالأولى والأجدر بهم أن يسمعوا ويطيعوا في الحالة الراهنة، أو العقاب أحق وأولى بهم.
وهذا على المعنى الأول تهديد لهم ووعيد بقرب هلاكهم، وقوله:
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ تصوير رائع لحالة الجبن والفزع والخوف في نفوسهم من لقاء الأعداء. وفي الآية افتضاح أمر المنافقين عند الأمر بالقتال، أما قبل القتال فكانوا يترددون إلى الفئتين: فئة المؤمنين وفئة الكافرين.
ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ، أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء ٤/ ٧٧].
وبعد هذا التهديد والوعيد، قال اللَّه تعالى مشجعا لهم:
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ، فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي فإذا جدّ الحال، وفرض القتال، فلو صدقوا في ذلك القول وفي القتال، وأطاعوا اللَّه تعالى، وأخلصوا له النية، لكان إظهار الإيمان والطاعة خيرا لهم من المعصية والمخالفة.
ثم وبّخهم اللَّه تعالى، وردّ على شبهتهم في أن القتل إفساد وأن العرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا، فقال:
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أي فلعلكم إن توليتم عن الطاعة والجهاد، وأعرضتم عن القتال وتنفيذ أحكامه، أو فهل يتوقع منكم إن توليتم أمر الأمة أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، فتسفكوا الدماء، وتفسدوا في الأرض بالبغي والظلم والنهب والسلب والمعاصي، وتقطعوا أرحامكم بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر مفاسد الجاهلية. قال قتادة وغيره: معنى الآية: فلعلكم أو يخاف عليكم إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض ولسفك الدماء.
قال أبو حيان: والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال، وهو الذي سبقت الآيات فيه، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر اللَّه تعالى في القتال، هل ينتظر منكم إلا أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم، ويدل على ذلك: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فالآيات كلها في المنافقين. وهذا التوقع الذي في «عسى» ليس منسوبا إليه تعالى، لأنه عالم بما كان وما يكون، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين كأنه يقول لهم: لنا علم، من حيث ضياعهم، هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا «١».
لذا حكم اللَّه عليهم باللعنة، فقال:
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أي أولئك الظالمون وسفاكو الدماء بغير حق هم الذين أبعدهم اللَّه من رحمته وطردهم عنها، فأصمهم في الدنيا عن استماع الحق، وأعمى أبصارهم عن رؤية الحق والنظر في أدلة الكون الدالة على عدالة نظام اللَّه تعالى وشرعه في عباده من تحريم الدماء والأموال بغير حق. وإنما لم يقل: «أصم آذانهم» لأن السمع لا يتفاوت بوجود الأذن وعدمها، ولذلك يسمع مقطوع الأذن، أما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه، فذكر الأبصار، ولم يذكر الأذن.
وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، وأمر بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: وخلق اللَّه تعالى الخلق، فلما فرغ منه، قامت الرحم، فأخذت بحقوي «١» الرحمن عز وجل، فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك» قال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ.
١- المؤمنون المخلصون مشتاقون للوحي، حريصون على الجهاد وثوابه، والمنافقون هدامون لكيان الأمة، جبناء في القتال خوفا وهلعا، ميّالون في السر إلى الكفار، نافرون من التكاليف الشرعية، وخصوصا فرض الجهاد.
٢- هدد اللَّه المنافقين وأوعدهم وحذرهم بقوله: فَأَوْلى لَهُمْ أي الويل والهلاك لهم، والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه، أو أحق وأجدر بهم طاعة اللَّه تعالى وقول معروف.
ثم رغبهم في إصلاح أمرهم، ودعاهم إلى الطاعة، وأبان لهم أن الطاعة المخلصة والقول المعروف أمثل لهم وأحسن وخير من المخالفة والعصيان ودعاية السوء.
٣- أكد تعالى دعوتهم إلى الطاعة وتحذيرهم من المخالفة، فأبان أنه إن جد الأمر وفرض القتال كرهوه «١»، أو فإذا عزم أصحاب الأمر، فلو صدقوا اللَّه في الإيمان والجهاد، لكان خيرا لهم من المعصية والمخالفة.
٤- إن سلوك المنافقين إن تولوا أمر الأمة أو إن أعرضوا عن كتاب اللَّه تعالى ودينه واتباع رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أمر معروف، وهو العودة إلى مفاسد الجاهلية من الإفساد في الأرض بسفك الدماء الحرام، والبغي والظلم، والنهب والسلب، وتقطيع الأرحام.
٥- لا يستحق أولئك المنافقون إن استمروا على نفاقهم إلا الطرد والإبعاد من رحمة اللَّه، وإلقاء الصمم في الآذان عن سماع الحق، والعمى في الأبصار والقلوب عن إدراك الخير، فكل من سار على نهجهم، حقّت عليه اللعنة، وسلبه اللَّه الانتفاع بسمعه وبصره، حتى لا ينقاد للحق، وإن سمعه، فكأنه كالبهيمة التي لا تعقل.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٤ الى ٣١]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)
الإعراب:
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ: خبر إِنَّ إما قوله تعالى: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وإما مقدر تقديره: معذبون.
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ.. فَكَيْفَ: في موضع رفع، خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالهم، فحذف المبتدأ للعلم به. وجملة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ.. جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الْمَلائِكَةُ. وفاء فَكَيْفَ: فاء التفريع لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ استفهام توبيخي.
أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها استعارة تصريحية، شبه قلوبهم بالأبواب المقفلة، فهي لا تنفتح لوعظ واعظ.
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ كناية عن الكفر بعد الإيمان.
المفردات اللغوية:
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتفهمونه ويتصفحونه ليروا ما فيه من المواعظ والزواجر، حتى لا يقتحموا المعاصي ويقعوا في الموبقات أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها أي بل على قلوب لهم مغاليقها التي لا تفتح، فلا يفهمونه. وتنكير قُلُوبٍ لأن المراد: قلوب بعض منهم، وإضافة الأقفال لها للدلالة على أقفال مناسبة لها، مختصة بها، ليست من جنس الأقفال المعهودة. والأقفال جمع قفل.
وهو استفهام توبيخي، وأَمْ: منقطعة بمعنى «بل» والهمزة للتقرير.
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر سَوَّلَ لَهُمْ زيّن لهم خطاياهم وسهل لهم وَأَمْلى لَهُمْ مدّ لهم في الآمال والأماني الباطلة ووعدهم بطول الأجل، والضمير للشيطان، أي المملي والمضل هو الشيطان، بإرادته تعالى.
ذلك الإضلال بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي قال المنافقون للمشركين أو لليهود، أو قال اليهود الذين كفروا بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما تبين لهم نعته للمنافقين سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ في بعض أموركم، كالقعود عن الجهاد والمعاونة على عداوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي إنهم قالوا ذلك سرا، فأظهره اللَّه تعالى الذي يعلم السر وأخفى، والإسرار: مصدر وهو السر، وقرئ بفتح الهمزة: أسرارهم جمع سر.
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ أي فكيف حالهم، أو فكيف يعملون ويحتالون حينئذ؟
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ تصوير لتوفيهم، أي يتوفونهم وهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، وفي هذا تخويف وتهديد، إذ يتعرضون عند التوفي إلى أهوال وفظائع تشبه ما يجبنون عن القتال له ويخافون منه.
ذلِكَ التوفي الموصوف بالحالة المذكورة بِأَنَّهُمُ بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر وكتمان نعت الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وعصيان الأمر وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ كرهوا العمل بما يرضيه من الإيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أبطلها.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ لنختبرنكم بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة أي نعاملكم معاملة المختبر بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ علم ظهور وانكشاف، أما العلم الحقيقي فهو متوفر بالنسبة لله وَالصَّابِرِينَ في الجهاد وغيره من المشاق وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ نظهر حسن أعمالكم وقبحها، وطاعتكم وعصيانكم في الجهاد وغيره، أو أخباركم عن الإيمان وموالاة المؤمنين صدقا وكذبا.
المناسبة:
بعد بيان حال إعراض المنافقين عن الخير واستماع القرآن، أمرهم تعالى بتدبر القرآن، ونهاهم عن الإعراض عنه كيلا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات، ثم أخبر أنهم رجعوا وارتدوا إلى الكفر بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام بالدلائل الواضحة، أو نعت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة بالمعجزات الباهرة، وأوضح سبب ردتهم وهو قولهم ليهود بني قريظة والنضير: سنطيعكم في بعض الأمور والأحوال.
ثم ذكر تعالى ما يلاقونه من أهوال عند قبض أرواحهم بسبب اتباع أهوائهم وإسخاط ربهم، وأردفه ببيان قدرة اللَّه على كشف أحوالهم وافتصاح أمرهم، وأعلن صراحة لهم أن الدنيا دار اختبار بالأوامر والنواهي كالجهاد وغيره، ليعلم المجاهد الصادق في إيمانه، الصابر على مشاقّ التكاليف، وليختبر أعمالهم الحسنة والسيئة، وأخبارهم التي يشيعونها، فيجازيهم بما عملوا.
التفسير والبيان:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها أي أفلا يتفهم هؤلاء المنافقون وغيرهم القرآن ويتصفحونه، فيعملون بما اشتمل عليه من المواعظ
والآية توبيخ لهم، وأمر بتدبر القرآن وتفهمه، ونهي عن الإعراض عنه.
وقد وردت محققه لمعنى الآية المتقدمة، فإنه تعالى قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو عن الخير وغير ذلك من الأمور الحسنة، فَأَصَمَّهُمْ لا يسمعون حقيقة الكلام، وأعماهم لا يتبعون طريق الإسلام، فهم كما حكى القرآن بين أمرين: إما ألا يتدبرون القرآن، لأن اللَّه أبعدهم عن الخير، وإما أن يتدبروا لكن لا يدخل معانيه في قلوبهم، لكونها مقفلة.
ثم أبان اللَّه تعالى منشأ ذلك مشيرا إلى أهل الكتاب الذين تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وبعثته وارتدوا، أو مشيرا إلى كل من ظهرت له الدلائل وسمعها ولم يؤمن، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ، وَأَمْلى لَهُمْ أي إن الذين فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر، من بعد ما ظهر لهم الهدى بما جاءهم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة، زين لهم الشيطان خطاياهم، وسهّل لهم الوقوع فيها، وحسّن لهم الكفر، وخدعهم وغرهم بالأماني والآمال، ووعدهم بطول العمر ومدّ الأجل.
وهذا الكلام: قيل: إنه في أهل الكتاب، قال قتادة: نزلت في قوم من اليهود، وكانوا عرفوا أمر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من التوراة، وتبين لهم بهذا الوجه، فلما باشروا أمره، حسدوه، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى.
وقيل: إنه في المنافقين، قال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا، ثم ماتت قلوبهم.
ثم بيّن اللَّه تعالى بعض مظاهر ضلالهم، فقال:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي ذلك الارتداد والكفر بعد الإيمان بسبب أن هؤلاء المنافقين وغيرهم من اليهود الذين ارتدوا على أدبارهم قالوا للذين أبغضوا ما نزّل اللَّه في قرآنه، وهم المشركون أو اليهود: يهود بني قريظة والنضير من يهود المدينة: سنطيعكم في بعض الأمور، كعداوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومخالفة ما جاء به، والقعود عن الجهاد معه، أي إنهم مالئوهم وتآمروا معهم سرا أأو في الباطن، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون.
لذا كشفهم اللَّه وأبان أنه يعلم ما يسرون وما يخفون وما يعلنون، كقوله تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ [النساء ٤/ ٨١].
ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الحشر ٥٩/ ١١].
ثم ذكر اللَّه تعالى سوء حالهم وما يتعرضون له من أهوال حين توفيهم، فقال:
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ؟ أي فكيف حالهم وكيف يعملون ويصنعون إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم، واستخرجتها بالعنف والقهر وضرب وجوههم وظهورهم، وذلك بكيفية يكرهونها وحال يخافونها في الدنيا، ويجبنون عن القتال من أجلها، كما قال سبحانه:
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ..
[الأنفال ٨/ ٥٠] وقال عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ،
- أي بالضرب- أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام ٦/ ٩٣]. ومعنى الكلام التخويف والتهديد، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر.
وسبب هذه الأهوال ما قال تعالى:
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ، وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أي ذلك التوفي على الصفة المذكورة بسبب اتباعهم ما يسخط اللَّه من الكفر والمعاصي، وتآمرهم مع أعداء اللَّه على معاداة ومحاربة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، وكراهيتهم ما يرضي اللَّه من الإيمان الحق والتوحيد والطاعة، فأبطل اللَّه أعمالهم الخيرية بهذا السبب، ومنها ما قد عملوا من الخير قبل الردة، كالصدقة وعون البائس الفقير وإغاثة الملهوف، لأنهم فعلوه أثناء الشرك والكفر وأمر الشيطان، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
ثم وبخ اللَّه تعالى المنافقين وهددهم على قصر نظرهم وعداوتهم للمؤمنين، فقال:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أي أيعتقد هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق وحقد وعداوة للمؤمنين أن اللَّه لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين ويبرز أحقادهم وعداواتهم؟! لا تظنوا هذا، فالله عالم الغيب والشهادة، يعلم السر وأخفى، فيوضح أمرهم ويجليه ويفضح شأنهم كما فعل في سورة براءة التي تسمى الفاضحة.
ثم أكد تعالى هذا المعنى بقوله:
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ أي ولو نشاء يا محمد لأعلمناك أشخاصهم، وعرّفناك أعيانهم معرفة
وواللَّه لتعرفنهم يا محمد في فحوى الكلام ومقصده ومغزاه، وهو تعريضهم بأمرك وأمر المسلمين، ومخاطبتهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بألفاظ ظاهرها الحسن، وباطنها القبح. قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم منافق إلا عرفه. وعن أنس أنه ما خفي على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، ولقد كنا في بعض الغزوات، وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس، فناموا ذات ليلة، وأصبحوا، وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب: هذا منافق.
واللَّه لا تخفى عليه خافية، ويعلم جميع أعمالهم، فيجازيهم عليها من خير أو شر. وهذا وعد ووعيد، وبشارة وإنذار.
ثم أعلن اللَّه تعالى منهج الحياة الدنيوية بالنسبة للتكاليف الشرعية، فقال:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي ونعاملنكم معاملة المختبر، ومنها الجهاد في سبيل اللَّه، حتى نعلم علم ظهور وانكشاف، فالله يعلم الحقائق كلها قبل وجودها، وإنما التكليف يظهر المجاهدين بحق في سبيل اللَّه، الذين امتثلوا الأمر بالجهاد، ويظهر الذين صبروا على دينه ومشاق ما كلّف به، ويظهر أخبار الناس ويكشفها امتحانا لهم، ليظهر للناس من أطاع ما أمره اللَّه به، ومن عصى ولم يمتثل. ولهذا يقول ابن عباس رضي اللَّه عنهما في مثل هذا: إلا لنعلم، أي لنرى.
وقال علي رضي اللَّه عنه: حَتَّى نَعْلَمَ: حتى نرى.
وقال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلينا، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا.
دلت الآيات على ما يأتي:
١- يجب على المسلمين وغير المسلمين تدبر القرآن وتفهمه للتعرف على أحكامه ومراميه وغاياته، وليعلم ما أعد اللَّه للذين تولوا عن الإسلام، فإن لم يفعلوا أقفل اللَّه عز وجل قلوبهم بأقفال الكفر والعناد، فهم لا يعقلون.
وهذا رد على مذهب القدرية والإمامية الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه.
٢- إن كل من ظهرت له الدلائل على صحة عقيدة الإسلام وشريعته وسمعها، ولم يؤمن بها، فهو ممن زين له الشيطان سوء عمله وخطاياه، سواء كان من أهل الكتاب الذين تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وبعثته، وارتدوا، أو من غير أهل الكتاب.
٣- لقد تآمر المنافقون واليهود على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين، في الباطن والسر، وعادوهم، وتواطؤوا مع المشركين الذين كرهوا ما نزّل اللَّه في كتابه على توهين قوة المسلمين، ولكن اللَّه تعالى مطّلع على سرهم، وكاشف أمرهم، فأخبر اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك.
٤- يتعرض الكفار والمنافقون لأهوال شديدة عند الوفاة، فتنتزع الملائكة أرواحهم بعنف وشدة، وتضرب وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد.
٥- إن سبب تلك الأهوال في الدنيا هو اتباعهم ما أسخط اللَّه بإضمار الكفر إن كانوا منافقين، أو بكتمان ما في التوراة من نعت محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكراهيتهم ما يرضي اللَّه وهو الإيمان، مما يؤدي إلى إحباط أعمالهم التي عملوها من صدقة وصلة رحم وغير ذلك.
٧- إن في قدرة اللَّه تعالى أن يعرّف نبيه بأعيان المنافقين، وقد عرّفه إياهم بأوصافهم لا بأسمائهم في سورة براءة، ويمكن معرفتهم بسهوله فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، فإن فحوى الكلام ومعناه ينبئ عن حقيقة الحال، واللَّه يعلم أعمال عباده، فلا يخفى عليه شيء منها. ومن أمثلة تعريفهم في سورة براءة قوله تعالى: فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة ٩/ ٨٣] وقوله سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة ٩/ ٨٤].
وثبت في السنة تعيين جماعة من المنافقين، روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: «خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبة، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال:
إن فيكم منافقين، فمن سميت فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان، حتى سمى ستة وثلاثين رجلا، ثم قال: إن فيكم منافقين، فاتقوا اللَّه، قال: فمرّ عمر رضي اللَّه عنه برجل ممن سمّى مقنّع قد كان يعرفه، فقال مالك؟ فحدثه بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: بعدا لك سائر الدهر».
٨- إن ميدان الحياة ميدان اختبار وتجربة لينكشف الناس بعضهم لبعض، فيتعبدهم اللَّه بالشرائع، وطن علم سبحانه سلفا عواقب الأمور، من أجل رؤية المجاهدين في سبيل اللَّه والصابرين على مشاق التكاليف، وتمييزهم عن غيرهم، واختبار أخبارهم وإظهارها للملأ، فبالجهاد يعلم الصادق في إيمانه أو قوله:
آمنت، من الكاذب الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
الإعراب:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ: خبر إِنَّ قوله تعالى: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ودخلت الفاء في الخبر، لأن اسم إِنَّ: الَّذِينَ، فشابه الشرط، لأنه مبهم، ولم يؤثر دخول إِنَّ بخلاف ما لو دخلت «ليت ولعل وكأن» فإنه لا يجوز فيه دخول الفاء في الخبر مع ليت ولعل وكأن، لأن إِنَّ للتأكيد، وتأكيد الشيء لا يغير معناه، بخلاف «ليت ولعل وكأن»، فإنها غيرت معنى الابتداء، لإدخال معنى التمني والترجي والتشبيه.
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ حذف منه واو لام الفعل.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريق الحق، قيل: إنهم المشركون كفار قريش وهم المطعمون يوم بدر، والراجح أنهم أهل الكتاب يهود بني قريظة وبني النضير، لأن اللَّه ذكر المشركين في أول السورة، ثم ذكر المنافقين وَشَاقُّوا الرَّسُولَ خالفوه، بأن صاروا في شق وجانب، وهو في شق وجانب آخر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى وهو معنى سبيل اللَّه أي طريق الحق، وهذا يؤيد أن الآية في أهل الكتاب، تبين لهم في كتبهم صدق محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بكفرهم وصدهم عن سبيل اللَّه، وهو تهديد معناه: هم يظنون أن ذلك الشقاق مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، والواقع أنه مع اللَّه تعالى، فإن محمدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما عليه إلا البلاغ، فإن ضروا ضروا الرسل، واللَّه منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أي يبطل
وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ لا تبطلوا ثواب أعمالكم بما أبطل به هؤلاء، كالكفر والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها، قال البيضاوي: وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر.
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريق الحق والهدى ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ هذا عام في كل من مات على كفره، وإن صح نزوله في أصحاب القليب (البئر غير المطوية) يوم بدر.
فَلا تَهِنُوا لا تضعفوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ بكسر السين وفتحها، أي إلى الصلح خورا وتذللا مع الكفار إذا لقيتموهم، وقرئ: ولا تدّعوا: من ادّعى بمعنى دعا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الأغلبون القاهرون وَاللَّهُ مَعَكُمْ بالعون والنصر، أي ناصركم وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ لن يضيع ثواب أعمالكم ولن ينقصها، يقال: وتره حقّه، أي نقصه، ومنه
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه النسائي عن نوفل بن معاوية: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله»
أي ذهب بهما، وأصبح فردا.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٢) :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا.. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ قال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر.
نزول الآية (٣٣) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ خطاب للمؤمنين بلزوم الطاعة في أوامر اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في سنته. أخرج ابن أبي حاتم ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا اللَّه» ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت: أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فخافوا أن يبطل الذنب العمل.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا.. فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ نزلت في أصحاب القليب أي قليب بدر، حيث ألقي قتلة المشركين في بئر.
المناسبة:
بعد بيان حال المشركين في أول السورة، ثم حال المنافقين، ذكر اللَّه تعالى حال جماعة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة والنّضير، كفروا وصدوا عن سبيل اللَّه، فهددهم اللَّه، لأنهم تركوا الحق بعد معرفته. ثم ذكر قصة بعض الصحابة وهم بنو سعد الذين أسلموا، وامتنوا بإسلامهم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنهاهم اللَّه عن ذلك. ثم أبان تعالى حكم من ماتوا كفارا، وهو أنه لن يغفر اللَّه لهم، وأنه خاذلهم في الدنيا والآخرة، فلا داعي لإظهار الضعف والتذلل أمامهم، والمؤمنون في قوة وغلبة وتفوق.
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى، لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أي إن الذين جحدوا توحيد اللَّه، وصدوا الناس عن دينه وطريق الحق بأن منعوهم عن الإسلام واتباع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخالفوا الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وعادوه من بعد أن ظهر لهم الحق، وعرفوا أن محمدا رسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من عند اللَّه بالمعجزات الواضحة والأدلة القاطعة، لن يضروا اللَّه شيئا بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر، لأن العباد لن يبلغوا ضرّ ربهم فيضرونه، فهو منزّه عن ضرر الغير مهما كان، وإنما يضرون أنفسهم ويخسرونها يوم المعاد، وسيبطل اللَّه ثواب أعمالهم، لكفرهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله أطيعوا اللَّه تعالى وأطيعوا رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، بامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما، ولا تبطلوا حسناتكم بالردة أو بالمعاصي الكبائر، وبالرياء والسمعة، والمن والأذى. أما الإبطال بالردة فدليله الآية التي بعدها:
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
وأما الإبطال بالكبائر فقد ذكر في سبب النزول عن أبي العالية قال: كان أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا اللَّه» ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، حتى نزلت الآية، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم.
وقال قتادة رحمه اللَّه: رحم اللَّه عبدا لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء.
وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: لا تبطلوها بالرياء والسمعة، أو بالشك والنفاق.
وروى محمد بن نصر المروزي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: «كنا معشر أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول، حتى نزلت أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات، والفواحش، حتى نزل قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش، ونرجو لمن لم يصبها».
ثم أبان اللَّه تعالى أن أعمال المكلف إذا بطلت، فإن فضل اللَّه باق، يغفر له إن شاء، ما لم يمت على الكفر، فقال:
ونظير الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨]. ولا تسامح أكثر من هذا، فإن اللَّه غفور رحيم لمن مات وهو مؤمن، ولا مغفرة ولا رحمة بالموت على الكفر.
ثم بيّن سبحانه ألا حرمة للكافر في الدنيا والآخرة، وأمر بقتال الكفار، فقال:
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، وَاللَّهُ مَعَكُمْ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي فلا تضعفوا عن القتال أيها المؤمنون، ولا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة ابتداء منكم، وإظهارا للعجز والضعف، فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف، ولا مانع من قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، أما في حال كونكم أنتم الأعلون: الغالبون القاهرون المستولون على أعدائكم، فلا تبدؤوهم بطلب الصلح، واللَّه معكم بالنصر والمعونة عليهم، ولن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم.
وقوله وَاللَّهُ مَعَكُمْ فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء.
فأما إذا كان الكفار في حال قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين صدّه كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح وإنهاء الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى ذلك.
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن شؤم الكفر باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم ومحاولة صد الناس عن الإسلام وشرعه ومعاداة الرسول بعد العلم أنه نبي بالحجج والآيات مرده إلى الكفار أنفسهم، وسيبطل اللَّه في الآخرة ثواب ما عملوه، واللَّه منزه عن أن يتضرر بكفر كافر أو فسق فاسق.
٢- المؤمنون مأمورون على الدوام بلزوم الطاعة في أوامر اللَّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، منهيون عن إبطال حسناتهم بالمعاصي الكبائر، أو بالرياء والسمعة، أو بالمن والأذى، أو بترك طاعة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وفي هذا إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الإيمان.
٣- يدل ظاهر نهي المؤمنين عن إبطال أعمالهم على أن من شرع بنافلة، ثم أراد تركها ليس له ذلك، وللعلماء آراء في الموضوع:
فذهب الشافعي إلى أنه يجوز ترك ما شرع فيه من أعمال التطوع، لأن المتطوع أمير نفسه، وإلزامه إياه مخرج عن وصف التطوع: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة ٩/ ٩١] والمراد بالآية إبطال ثواب العمل المفروض، فإن اللَّه نهى الرجل عن إحباط ثوابه، فأما ما كان نفلا فلا، لأنه ليس واجبا عليه. فإن قيل: اللفظ عام، فالجواب أن العام يجوز تخصيصه، لأن النفل تطوع، والتطوع يقتصي تخييرا.
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز ترك ما بدئ به من تطوع، كصلاة نافلة وصوم تطوع، لأن المتطوع أمير نفسه قبل أن يشرع، أما إذا شرع فقد
٤- إن الوفاة على الكفر توجب الخلود في النار، وباب التوبة والمغفرة مفتوح طوال الحياة، فمن مات مصرا على جحوده توحيد اللَّه عوقب بجهنم.
٥- لا تجوز الدعوة إلى السلم والمصالحة أو المهادنة تذللا وإظهارا للضعف، ما دام المسلمون أقوياء، وإن حدثت الغلبة من الأعداء في الظاهر في بعض الأحوال، فإن اللَّه ناصر المؤمنين، ولن ينتقصهم شيئا من أعمالهم.
فإذا عجز المسلمون لضعفهم عن مقاومة الأعداء، جازت مهادنة الكفار عند الضرورة.
وكذلك إذا رأى الإمام مصلحة في المهادنة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في صلح الحديبية مع المشركين مدة عشر سنين.
أما إن طلب المشركون الصلح بحسن نية من غير خداع، فلا بأس بإجابتهم، لقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال ٨/ ٦١].
وعلى هذا تكون كل من الآيتين: فَلا تَهِنُوا وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ محكمة غير منسوخ إحداهما بالأخرى كما قال بعضهم، فهما نزلتا في وقتين مختلفي الحال، فالأولى في حال قوة المسلمين، والثانية حال طلب الأعداء الصلح.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
الإعراب:
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا.. يَسْئَلْكُمُوها: فعل يتعدى إلى مفعولين، فالأول «كمو» والثاني: «ها» وفَيُحْفِكُمْ مجزوم بالعطف على يَسْئَلْكُمُوها وتَبْخَلُوا مجزوم، لأنه جواب الشرط، ويُخْرِجْ مجزوم بالعطف على تَبْخَلُوا.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها: للتنبيه، وأَنْتُمْ: مبتدأ، وهؤُلاءِ: موصول بمعنى الذين: خبر، وصلته: تُدْعَوْنَ أي أنتم الذين تدعون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفهم، فقال: تدعون لتنفقوا..
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا معطوف على: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا.
ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ يجوز العطف على جواب الشرط بالواو والفاء وثم بالجزم كما هنا، وبالرفع مثل: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران: ٣/ ١١١].
البلاغة:
الْغَنِيُّ والْفُقَراءُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الاشتغال فيها لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا ثبات لها، واللعب: كل ما لا منفعة فيه في المستقبل، ولا يشغل عن مهامّ الأمور، فإن شغل عنها فهو اللهو، ومنه آلات الملاهي،
فَيُحْفِكُمْ يبالغ في الطلب، من الإحفاء والإلحاف: بلوغ الغاية في كل شيء، يقال:
ألحف بالمسألة وأحفى وألح بمعنى واحد، وَيُخْرِجْ البخل أَضْغانَكُمْ أحقادكم أي عداوتكم لدين الإسلام ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم يا مخاطبون، هؤلاء الموصوفون. لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ما فرض عليكم من الزكاة ونفقة الجهاد وغيرها يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ يقال: بخل عليه وعنه وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عن نفقتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلى اللَّه وَإِنْ تَتَوَلَّوْا تعرضوا عن طاعته يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يقم مقامكم قوما آخرين أو يجعل بدلكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولي عن طاعته وعن الإيمان، بل مطيعين له تعالى.
المناسبة:
بعد أن أمر اللَّه تعالى بالجهاد، ونهى عن الضعف والخور في مواصلة الكفاح وطلب الموادعة والمصالحة مع الأعداء، حث على الجهاد بالنفس والمال والإنفاق في سبيل اللَّه، بتحقير الدنيا في أعين المؤمنين، والترغيب في الإيمان والتقوى، لتعود فائدتها عليهم، وهدد تعالى في ختام السورة بأنه إن أعرضتم عن الإيمان والجهاد والتقوى، يجعل بدلا عنكم قوما آخرين هم أفضل منكم لإقامة دينه، ونصرة دعوته.
التفسير والبيان:
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي احرصوا أيها المؤمنون على جهاد الأعداء، واسترخصوا الحياة الدنيوية واطلبوا الآخرة، فإنما حاصل الدنيا لعب ولهو، أي باطل وغرور، لا ثبات له ولا اعتداد به إلا ما كان منها لله عز وجل، بسلوك سبيله وطلب رضاه وعبادته وطاعته. وفي هذا تحقير لأمر الدنيا وتهوين لشأنها. واللعب: كل ما لا ضرورة فيه في الحال ولا منفعة في المآل، ولم يشغل عن غيره، فإن شغل عن غيره فهو لهو، ومنه آلات الملاهي، لأنها مشغلة عن غيرها.
ثم أعاد اللَّه تعالى الوعد بالثواب وتأكيده والترغيب في الآخرة قائلا:
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي إن تؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان، وتتقوا ربّكم حق التقوى بأداء فرائضه واجتناب نواهيه، يؤتكم ثواب أعمالكم وطاعاتكم في الآخرة، ولا يأمركم بإخراج جميع أموالكم في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج القليل منها، والمعنى: أن اللَّه غني عنكم، لا يطلب منكم شيئا، وإنما فرض عليكم صدقات الأموال، مواساة لإخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم.
ثم بيّن اللَّه تعالى سبب الحرض على الدنيا، فقال:
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي إن يطلب ربكم أموالكم كلها، فيجهدكم ويلح في الطلب عليكم، تشحوا وتبخلوا، وتمتنعوا من الامتثال، ويظهر عندئذ أحقادكم.
قال قتادة: قد علم اللَّه تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان. وهذا كما ذكر ابن كثير حق وصدق، فإن المال محبوب إلى النفس، ولا يصرف إلا فيما.
هو أحب إلى الشخص منه.
ثم أبان تعالى ما سلف وأكده بقوله:
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي أنتم أيها المؤمنون المخاطبون مدعوون للإنفاق في سبيل اللَّه، أي في الجهاد والزكاة وفي طريق الخير.
واللَّه هو صاحب الغنى المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه دائما، لذا قال: وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ أي أنتم أيها العباد الفقراء بالذات إلى اللَّه، وإلى ما عنده من الخير والرحمة، فهو سبحانه لا يأمر بالإنفاق لحاجته، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب.
ثم أبان اللَّه تعالى سنته في الاستبدال بقوم قوما آخرين أفضل منهم إن أعرضوا عن حمل الأمانة، فقال محذرا ومذكرا ومهددا:
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ أي إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى وعن طاعة اللَّه واتباع شرعه، يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم، أي يكونون سامعين مطيعين لله ولأوامره، وليسوا أمثالكم في التولي عن الإيمان والتقوى، وفي البخل بالإنفاق في سبيل اللَّه.
روى ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق والبيهقي والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلا هذه الآية: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قالوا: يا رسول اللَّه، من هؤلاء الذين إن تولينا، استبدل بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه، ثم قال: «هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس»
لكن تكلم به بعض الأئمة رحمهم اللَّه، كما قال ابن كثير، وقال الترمذي: حديث غريب في إسناده مقال.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الدنيا دار لعب ولهو ومشاغل وشهوات، فالسعيد من استخدمها للآخرة، ولم ينس نصيبه منها بقدر الحاجة، فمن آمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، واتقى ربه بفعل الفرائض وترك النواهي، ظفر بالثواب العظيم في الآخرة دار الخلد.
٢- المال محبوب الإنسان طبعا، لذا لم يأمر اللَّه لطفا منه ورحمة بإنفاق جميعه في سبيله، كالزكاة والجهاد ووجوه الخير، بل أمر بإخراج البعض من الربح الذي هو من فضل اللَّه وعطائه، لا من رأس المال، ليرجع ثوابه إلى المنفق نفسه، فكانت النسبة تتراوح بين ربع العشر ونصف العشر والعشر فقط، لذا قال تعالى: لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إنما يسألكم أمواله، أي الأرباح التي ييسرها لكم، لأنه المالك لها، وهو المنعم بإعطائها. وقال: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ أي يلح عليكم تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي يخرج البخل أحقادكم.
٣- أكد تعالى لطفه بعباده في التكاليف المالية، فذكر أنه طلب منهم اليسير من أموالهم، فبخلوا، فكيف لو طلب منهم الكل؟!.
٤- من بخل بتقديم شيء من ماله في سبيل اللَّه كالجهاد وطرق الخير، فإنما يبخل على نفسه، فيمنعها الأجر والثواب.
٥- اللَّه هو الغني عن عباده وعن كل ما سواه، فليس بمحتاج إلى أموالهم، ولكن العباد أنفسهم هم الفقراء إلى اللَّه عز وجل، لتحصيل الثواب والفضل
٦- أنذر اللَّه تعالى عباده وحذرهم من إهمال حمل المسؤولية والقيام بأعباء التكاليف، فهم إن أعرضوا عن الإيمان والجهاد والتقوى، استبدل قوما غيرهم يكونون أطوع لله منهم، ثم يكونون أفضل وأمثل وأحسن منهم، وتلك هي سنة اللَّه في خلقه، وليسوا أمثال المستبدل بهم في البخل بالإنفاق في سبيل اللَّه، كما قال الطبري. والأولى العموم، أي لا يكونوا أمثالكم في الوصف، ولا في الجنس، كما ذكر الرازي. وقال الزمخشري: أي يخلق قوما على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما، كقوله تعالى: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر ٣٥/ ١٦].
وقد اختلف المفسرون في تعيين أولئك القوم الجدد، فقيل: هم الملائكة، أو الأنصار، أو التابعون، أو أهل اليمن، أو كندة والنخع، أو العجم، أو فارس والروم. والأولى تفويض ذلك إلى علم اللَّه تعالى.
والخطاب لقريش أو لأهل المدينة، والأولى جعل الخطاب متجددا بتجدد الأجيال والأمم، سواء من كان عند نزول الوحي أم بعد ذلك.
حكي عن أبي موسى الأشعري: أنه لما نزلت هذه الآية، فرح بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال: «هي أحب إلي من الدنيا».
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتحمدنيّة، وهي تسع وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة الفتح لافتتاحها ببشرى الفتح المبين: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً...
أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عبد اللَّه بن مغفّل قال: قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح- أي فتح مكة- في مسيره سورة الفتح على راحلته، فرجّع فيها
، قال معاوية بن قرّة: لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا، لحكيت قراءته.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه:
١- إن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال، وقد ورد في الحديث: أنها نزلت مبينة لما يفعل به وبالمؤمنين، بعد إبهامه في قوله تعالى في سورة الأحقاف: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [٩]. وجاء في سورة محمد تعليم المؤمنين كيفية القتال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ.. [٤] ثم ذكر هنا بيان الثمرة اليانعة لتلك الكيفية وهو النصر والفتح.
٢- في كلتا السورتين (محمد والفتح) بيان أوصاف المؤمنين والمشركين والمنافقين.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة كسابقتها مدنية، نزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن صلح الحديبية، بعد الانصراف من الحديبية. والسور المدنية كما هو معروف تحدثت عن المنافقين الذين ظهروا في المدينة، وعنيت بشؤون التشريع في الجهاد والعبادات والمعاملات.
بدأت السورة الكريمة ببشارة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالفتح الأعظم وانتشار الإسلام بعد فتح مكة الذي كان صلح الحديبية بين الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وبين المشركين سنة ست من الهجرة بداية طيبة له.
ثم أخبرت بوعد اللَّه المنجز لا محالة للمؤمنين ووعيده للكافرين والمنافقين، وأبانت مهام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشهادة على أمته وعلى الخلق يوم القيامة والتبشير والإنذار، من أجل الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم ونصرته.
وأردفت ذلك بأمرين متميزين: أولهما- الإشادة بأهل بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية، وبيان أن بيعتهم في الحقيقة لله، وتسجيل رضوان اللَّه تعالى عليهم، ووعدهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...
والثاني- ذم المنافقين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبية، وكانوا من أعراب المدينة.
وأبانت إعفاء أصحاب الأعذار (الأعمى والأعرج والمريض) من فريضة
وذكّرت بفضل اللَّه تعالى على المؤمنين في إبرام الصلح والكف عن القتال بينهم وبين أهل مكة كفار قريش الذين كفروا وصدوا المؤمنين عن المسجد الحرام، وتأثرهم بحمية الجاهلية من الأنفة والكبر والعصبية، ورفضهم كتابة البسملة في مقدمة الصلح، وكتابة «محمد رسول اللَّه»، وتثبيت المؤمنين على كلمة التقوى وهي طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وقبول شروط الصلح، بالرغم من إجحاف بنوده في الظاهر بحقوق المسلمين.
وتحدثت بعدئذ عن البشرى بتحقق رؤيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التي رآها في المدينة المنورة أنهم يدخلون المسجد الحرام (مكة) آمنين مطمئنين، وتم ذلك بالفعل في العام المقبل حيث دخل المؤمنون مكة معتمرين: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ...
وختمت السورة بأمور ثلاثة: هي إرسال محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ووصف النبي والمؤمنين بالرحمة فيما بينهم والشدة على الكفار الأعداء، ووعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم.
فضلها:
نزلت هذه السورة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد عودته من الحديبية،
روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ».
وفي رواية: «لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض»
وفي رواية مسلم عن أنس «.. أحب إلي من الدنيا جميعها».
كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد رأى في المنام وهو في المدينة المنورة أنه دخل مكة، وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحا عظيما.
فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة معتمرا (زائرا البيت الحرام) لا يريد حربا، ومعه ألف وخمس مائة (١٥٠٠) من المهاجرين والأنصار ومسلمي الأعراب، وساق معه الهدي «١»، وأحرم بالعمرة من «ذي الحليفة» وخرج معه من نسائه أم سلمة رضي اللَّه عنها.
ولم يكن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحبه غير سلاح المسافر: السيوف في القرب، فبعث عينا له من خزاعة، يخبره عن قريش، فلما أصبح قريبا من «عسفان» - موضع بين مكة والمدينة- على مرحلتين من مكة، أتاه عينه بشر بن سفيان الكعبي قائلا: يا رسول اللَّه، هذه قريش علمت بمسيرك، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل (النوق ذات اللبن والأولاد) أي عازمين قاصدين طول الإقامة، وقد نزلوا بذي طوى، يحلفون بالله، لا تدخلها عليهم أبدا، وقد جمعوا لك الأحابيش (جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة) وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت.
فأرسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حينئذ عثمان بن عفان إلى قريش يبلّغهم قصد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنه لا يريد إلا العمرة، فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن عثمان قد قتل، فدعا المسلمين إلى البيعة، واجتمعوا تحت الشجرة- شجرة الرضوان، فبايعوه على القتال وألا يفروا، وتسمى بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان، قال سلمة بن الأكوع رضي
وقد أنزل اللَّه في هذه البيعة قوله سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.. [الفتح ٤٨/ ١٨]. وكان هذا الصلح هو الفتح، وبعد رجوعه إلى المدينة فتح اللَّه عليه خيبر، فقسمها على أهل الحديبية لم يشركهم أحد غيرهم، وكانوا ألفا وخمس مائة، منهم ثلاث مائة فارس. وهذا قول سعيد بن المسيب، والمشهور أنهم كانوا أربع عشرة مائة.
ولما علمت قريش بهذا أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مقبلا قال: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، وقال: اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب علي بن أبي طالب، وبدأ الاتفاق على بنود المعاهدة، بعد أن رفض سهيل كتابة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم»، وكتب «باسمك اللهم» ورفض أيضا وصف محمد بالرسالة، فكتب: «محمد بن عبد اللَّه».
وتم الصلح على أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، دون قتال ولا اعتداء، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه، رده عليهم، ومن جاء قريشا من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يردوه عليه، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فسارعت خزاعة، فدخلت في عقد محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وحالفته، وتواثبت بنو بكر، فدخلوا في عهد قريش وعقدهم.
وعلى المسلمين الرجوع عن مكة هذا العام، وإذا كان العام القادم خرجت
وقد اعترض بعض كبار المسلمين مثل عمر بن الخطاب على الصلح، لعدم تكافؤ شروطه، وإجحافه بالمسلمين، ولكنه كان في الحقيقة نصرا كبيرا، لأن قريشا اعترفوا بمكانة المسلمين، وتمت الهدنة التي استراح فيها المسلمون عن الحروب والمعارك التي شغلتهم وأضعفتهم، وتمكن المسلمون من القيام بدعوة الإسلام في ظل الأمن والسلام، ودخل في الإسلام كثير من العرب.
فكان ذلك فتحا مبينا، أو تمهيدا لفتح مكة، قال الزهري: «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه..» فقد كان عدد المسلمين وقت الصلح ألفا وخمس مائة أو أربع مائة، ثم صاروا عام فتح مكة بعد الصلح بسنتين عشرة آلاف، منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وقال ابن مسعود وجابر والبراء رضي اللَّه عنهم: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وبعد أن نحر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هديه حيث أحصر ورجع، وبعد انصرافه نزل عليه ليلا وهو في الطريق بين مكة والمدينة هذه السورة.
روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه يقول: لما أقبلنا من الحديبية عرّسنا «١» فنمنا، فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت، فاستيقظنا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نائم، فقلنا: أيقظوه، فاستيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فقال: «افعلوا ما كنتم تفعلون، وكذلك يفعل من نام أو نسي»
أي قضاء الصلاة، قال: وفقدنا ناقة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فطلبناها، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها، فركبها، فبينا نحن نسير، إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه، فلما سرّي عنه أخبرنا أنه أنزل عليه:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.