تفسير سورة التحريم

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
قوله جل ذكره :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
" بسم الله ". اسم عزيز يمهل من عصاه، فإذا رجع وناداه. . . أجابه ولباه فإن لم يتوسل بصدق قدمه في ابتداء أمره ثم تنصل بصدق ندمه في آخر عمره أوسعه غفرا، وقبل منه عذرا، وأكمل له ذخرا، وأجزل له برا.

قوله جل ذكره :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
جاء في القصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّم على نفسه مارية القبطية، وفي الحال حَلَفَ ألاَّ يطأَها شهراً مراعاةً لقلب حفصة حيث رأت النبي صلى الله عليه وسلم معها في يومها.
وقيل : حَرَّمَ على نَفْسِه شرْبَ العسل لمَّا قالت له زوجاته، إِنَّا نشم منك ريح المغافير !
- والمغافير صمغ في البادية كريه الرائحة، ويقال : بقلة كريهة الرائحة. . . فعاتَبَه اللَّهُ على ذلك.
وهي صغيرةٌ منه على مذهب مَنْ جَوَّزَ الصغائر عليه، وتَرْكٌ للأُوْلَى على مذهب مَنْ لم يجوِّز.
وقيل : إنه طَلَّقَ حفصة طلقةً واحدة، فأمره الله بمراجعتها، وقال له جبريل : إنها صوَّامَةٌ قوَّامَة.
وقيل : لم يطلقها ولكن هَمَّ بتطليقها فَمَنَعه اللَّهُ عن ذلك.
وقيل : لمَّا رأته حفصة مع مارية في يومها قال لها : إنِّي مُسِرٌّ إليك سِرّاً فلا تخبري أحداً : إنَّ هذا الأمر يكون بعدي لأبي بكر ولأبيك.
ولكن حفصة ذكرت هذا لعائشة، وأوحى الله له بذلك، فسأل النبيُّ حفصة : لِمَ أخبرتِ عائشة بما قلت ؟
فقالت له : ومَنْ أخبرك بذلك ؟ قال أخبرني الله، وعَرَّفَ حفصةَ بعضَ ما قالت، ولم يصرِّحْ لها بجميع ما قالت، قال تعالى :﴿ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ﴾، فعاتبها على بعضٍ وأعرْضَ عن بعض - على عادة الكِرام.
ويقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا نزلت هذه الآية كان كثيراً ما يقول :" اللهم إني أعوذ بك من كل قاطعِ يقطعني عنك ".
وظاهرُ هذا الخطاب عتاب على أنَّه مراعاةً لقلب امرأته حَرَّمَ على نفسه ما أحلَّ اللَّهُ له.
والإشارةُ فيه : وجوبُ تقديم حقِّ الله - سبحانه - على كل شيء في كل وقت.
قوله جل ذكره :﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.
أنزل الله ذلك عنايةً بأمره عليه السلام، وتجاوزاً عنه. وقيل : إنه كَفَّرَ بعتق رقبة، وعاوَدَ مارية.
واللَّهُ - سبحانه - أجرى سُنَّتَه بأنه إذا ساكَن عَبْدٌ بقلبه إلى أحدٍ شَوَّشَ على خواصِّه محلَّ مساكنته غَيْرَةً على قلبه إلى أَنْ يُعَاوَدَ رَبَّه، ثم يكفيه ذلك - ولكن بعد تطويل مدةٍ، وأنشدوا في معناه :
إذا عُلِّقَت روحي حبيباً تعلَّقت به غَيرُ الأيام كل تَسْلَبَنِّيَهُ
وقد ألقى الله في قلبِ رسوله صلى الله عليه وسلم تناسياً بينه وبين زوجاته فاعتزلهن، وما كان من حديث طلاق حفصة، وما عاد إلى قلب أبيها، وحديث الكفاية، وإمساكه عن وطء مارية تسعاً وعشرين ليلة. . كل ذلك غَيْرَةً من الحق عليه، وإرادتُه - سبحانه - تشويشُ قلوبهم حتى يكون رجوعُهم كلُّهم إلى الله تعالى بقلوبهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ظَهِيرٌ ﴾.
عاتبهما على السير من خَطَراتِ القلب، ثم قال :﴿ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ. . . . ﴾.
﴿ وَصَالحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ مَنْ لم يكن منهم في قلبه نفاق، مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وجاء : أن عمر بن الخطاب لما سَمِعَ شيئاً من ذلك قال لرسول الله :
لو أمرتني لأضربنَّ عُنُقَها !
والعتاب في الآية مع عائشة وحفصة رضي الله عنهما إذ تكلمتا في أمر مارية.
ثم قال تعالى زيادةً في العتاب وبيان القصة :
﴿ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلًَّقَكُنَّ أن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خِيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾.
قوله جلّ ذكره :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُوُدهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ ﴾.
أي : فَقَّهوهم، وأَدِّبوهم، وادعوهم إلى طاعة الله، وامنعوهم عن استحقاق العقوبة بإرشادهم وتعليمهم.
ودلَّت الآيةُ : على وجوبِ الأمرِ بالمعروف في الدَّين للأقرب فالأقرب.
وقيل : أظْهِرُا من أنفسكم العبادات ليتعلَّموا منكم، ويعتادوا كعادتكم.
ويقال : دلُّوهم على السُّنَّةِ والجماعة.
ويقال : عَلِّموهم الأخلاقَ الحِسان.
ويقال : مُرُوهم بقبول النصيحة.
﴿ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارةُ ﴾ : الوقود : الحطب.
ويقال : أمر الناس يصلح بحجرة أو مَدَرَة، فإن أصل الإنسان مدرة، ولو أنه أقام حَجَرَةٌ مقامَ مَدَرة فلا غروَ من فَضْلِ الله.
اللهمَّ فأَلْقِ فيها بَدَلنا حَجَراً وخلِّصْنا منها.
قوله جلّ ذكره :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
إذا فاتَ الوقتُ استفحل الأمرُ، وانغلق البابُ، وسقطت الحِيَلُ. . . . فالواجبُ البِدارُ والفرارُ لتصل إلى رَوْحِ القَرار.
قوله جلّ ذكره :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ ﴾.
التوبةُ النصوحُ : هي التي لا يَعقُبها نَقْصٌ.
ويقال : هي التي لا تراها من نَفْسِك، ولا ترى نجاتَكَ بها، وإنما تراها بربِّك.
ويقال : هي أنْ تجدَ المرارةَ في قلبك عند ذكر الزَّلَّة كما كُنْتَ تجد الراحة لنفسِك عند فِعْلِها.
قوله جلّ ذكره :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيِهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
لا يُخزِي اللَّهُ النبيَّ بِتَرْكِ شفاعته، والذين آمنوا معه بافتضاحِهم بعد ما قَبِلَ فيهم شفاعته.
﴿ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أََيْدِيِهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ﴾ عبَّر بذلك عن أنَّ الإيمانَ من جميع جهاتهم.
ويقال : بأَيمانهم كتابُ نجاتهم : أراد نور توحيدهم ونور معرفتهم ونور إيمانهم، وما يخصُّهم اللَّهُ به من الأنوارِ في ذلك اليوم.
﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْممْ لَنَا نُورَنَا ﴾ : يستديمون التضرُّعَ والابتهالَ في السؤال.
قوله جلّ ذكره :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ والمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ﴾.
أمَرَه بالمُلايَنَةِ في وقت الدعوة، وقال :﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] ثم لمَّا أصرُّوا - بعد بيان الحُجَّةِ - قال :﴿ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ : لأن هذا في حالِ إصرارهم، وزوالِ أعذارهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾.
لمَّا سَبَقَتْ لهما الفُرْقةُ يومَ القِسْمة لم تنفعْهما القربةُ يومَ العقوبةُ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكمَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
قالوا : صغرت هِمَّتُها حيث طلبت بيتاً في الجنة، وكان من حقِّها أنْ تطلب الكثير. . . ولا كما تَوهمَّوا : فإنها قالت :﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ ﴾ فطلبَتْ جوارَ القربة، ولَبيْتٌ في الجِوار أفضلُ من ألف قصرٍ في غير الجوار. ومن المعلوم أنَّ العِنديَّةَ هنا عِنديَّةُ القربة والكرامة. . ولكنه على كل حال بيت له مزية على غيره، وله خصوصية. وفي معناه أنشدوا :
إني لأحْسُد جارَكم لجواركم طُوبى لِمَن أضحى لدارِكَ جارا
يا ليت جارَك باعني من داره شِبْراً لأُعطيه بِشِبْر دارا
قوله جل ذكره :﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾.
خَتَم السورة بِذكْرها بعد ما ذكر امرأةُ فرعون، وهما من جملة النساء، ولمَّا كثُر في هذه السورة ذكْرُ النساء أراد الله سبحانه أَلاَّ يُخْلَى السورة من ذكرها تخصيصاً لقدْرِها.
Icon