ﰡ
ومعنى هذه الآية : " أن بأس الله تعالى إذا جاء تشتد داعية المعذب الجاني لطلب المعاذير والحجج ليندفع عنه العذاب. فالله تعالى يقول : ما كانت طلباتهم للمعاذير إلا اعترافهم بالجنايات ". وهو عكس طلب العذر، فالأخبار بذلك أشد في الوعيد وأبلغ في الزجر عن الكفر.
وقوله تعالى في هذه الآية يشبهه قول القائل :
وقد شهدت قيس فما كان نصرها*** قتيبة إلا عضها بالأباهم.
كما تقول : " ما كان نصره لرفيقه إلا أن سلمه يقتل، وما كان عذره إلا أن اعترف بأنه لا عذر له ". ويكون المستثنى منه في المعنى أحوال طلب العذر واستدعائه، أي لم يثبت دعاؤهم في حالة من الأحوال التي يقبلها إلا في حالة واحدة وهي بطلانه وتبدله بضده، والبطلان والتبدل بالضد هو حالة من أحوال الدعاء فما دعاؤهم إلا في حالة بطلانه وتبدله بضده وهو الاعتراف بأنهم كانوا ظالمين.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم " ٤ وهو معنى هذه الآية. وهذا الإعذار يقع في زمن إتيان العذاب ورؤيته إلى أن تزهق به نفوسهم، نسأل الله تعالى العافية.
ويحتمل هاهنا أن تكون " دعواهم " في موضع نصب خبر كان، أو في موضع رفع اسمها، وهو مقصور لا يظهر فيه الإعراب، بل يحكم عليه بأحد هذين الأمرين في موضعه. ( الاستغناء : ١٩١- ١٩٢ )
٢ - سورة آل عمران: ١٤٧..
٣ - سورة الأنعام: ٢٣..
٤ - خرج هذا الحديث أبو داود في سننه الباب ١٧ من كتاب الملاحم. وأحمد في مسنده: ٤/٢٦٠. والسيوطي في الجامع الكبير: ١/٧٣٣..
٦٠٢- ذمه على ترك المأمور به، وذلك يقتضي الوجوب، لأن الذم لا يكون إلا في ترك واجب أو فعل محرم. ( تنقيح الفصول المطبوع مع الذخيرة : ١/٧٩ )
* ﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ :
٦٠٣- اتفق الناس فيما علمت على تكفير إبليس بقضيته مع آدم عليه السلام، وليس مدرك الكفر فيها الامتناع من السجود، وإلا لكان من أمر بالسجود فامتنع منه كافرا، وليس الأمر كذلك، ولا كان كفره لكونه حسد آدم على منزلته عند الله تعالى، وإلا لكان كل حاسد كافرا، ولا كان كفره لعصيانه وفسوقه من حيث هو عصيان وفسوق وإلا لكان كل عاص وفاسق كافرا. وقد أشكل ذلك على جماعة من الفقهاء. وينبغي أن تعلم أن إبليس إنما كفر بنسبة الله تعالى إلى الجور والتصرف الذي ليس بمرضي، ظهر ذلك من فحوى قوله :﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾. ومراده : أن إلزام العظيم الجليل بالسجود للحقير من التصرف الرديء والجور والظلم، فهذا وجه كفره. وقد أجمع المسلمون على أن من نسب الله تعالى لذلك فقد كفر لأنه من الجرأة العظيمة. ( الفروق : ٤/١٣٤- ١٣٥ )
هذا معنى الكلام الذي قصده إبليس.
وأما ما يتعلق بصناعة النحو، فطريق البصريين في هذا ومثله أن يقرروا فيه مضافا محذوفا منصوبا على المفعول من أجله، تقديره هاهنا : " إلا كراهة أن تكونا ملكين "، فكراهة مضاف محذوف منصوب على المفعول من أجله، حذف وأقيم المضاف إليه مقامه يعرب كإعرابه، ويكون مفعولا من أجله.
وطريق الكوفيين : يقدرون حرف الجر، تقديره في هذه الآية : " إلا لئلا تكونا ملكين ".
وقول البصريين أرجح لأن فيه حذفا واحدا، وهو الاسم المضاف، وفي تقدير الكوفيين حذفين : حرف الجر و " لا " النافية، وتقليل الحذف أولى. ولأن تصرف العرب في الأسماء في حذف المضاف أكثر من تصرفهم في الحروف بالحذف. والإضافة إلى الأعم الأكثر أرجح وأغلب على الظن. ( الاستغناء : ٥٠٠- ٥٠١ )
٦٠٦- قيل : اللباس في الصلاة والطواف. ( الذخيرة : ٢/١٠١ )
٦٠٧- قال صاحب الجلاب : الاختيار لمن صلى في جماعة أن يلبس أكمل اللباس، والإمام أولى بذلك، ويرتدي ولا يعري منكبيه، ولا بأس بالمئزر والعمامة، ويكره السروال العمامة، فإن كان عليه سيف أو قوس جعل شيئا من اللباس. " ١ والأصل في ذلك قوله تعالى :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾ والعبد يناجي ربه فيستحب أن يتجمل له، ولما كان الإمام ينبغي أن يكون أفضل القوم دينا، فينبغي أن يكون أفضلهم زيا. ( نفسه : ٢/١١٣ )
والجواب : أن المراد بالنظر في هذه الآية الانتظار، وتقدير الكلام : " ما ينتظرون إلا تأويله. "
فإن قلت : إنهم لا يؤمنون بيوم القيامة، فكيف ينتظرون ما فيه ؟
قلت : لما كانوا موصوفين بحال من ينتظر لأنهم مستقبلون ذلك، وهو واقع بهم جزما سماهم منتظرين لشبههم بالمنتظرين.
والتأويل هاهنا المراد به المؤول، لأن التفسير والتعبير عن المفسَّر به بلفظ التفسير من باب التعبير بالمصدر عن المفعول، فهو من باب قول العرب : " ضرب الأمير ونسج اليمن "، أي : " مضروب الأمير ومنسوج اليمن "، وهو من مجاز الملازمة لأن المفعول يلزم المصدر في الوجود لا في النطق. ومن هذا الباب قوله تعالى :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾١، أي : " موعودها "، وهو كثير.
والمستثنى منه : المفاعيل، وهل : نافية، بمعنى : " ما ينتظرون شيئا من الأشياء إلا تأويله ".
وقال قتادة٢ : التأويل في هذا الموضع : المآل والعاقبة، لأنه مشتق من المآل.
وقال ابن عباس : تأويله : مآله يوم القيامة. وقال السدي : بل في الدنيا، وهي وقعة بدر وغيرها، ويوم القيامة أيضا.
وقال الخطابي٣ : أولت الشيء : رددته إلى أوله. فهذا اشتقاق آخر. وقيل : أولت : طلبت أولى الوجوه والمعنى. فهو على هذا من أولوية. ( الاستغناء : ١٩٢ إلى ١٩٤ )
٢ - هو قتادة بن دعامة، أبو الخطاب السدوسي البصري، مفسر حافظ، (ت: ١١٨ هج). ن: تذكرة الحفاظ: ١/١١٥. الأعلام: ٥/١٨٩..
٣ - هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، أبو سليمان. فقيه محدث. (ت: ٣٨٨ هج). من مصنفاته: "معالم السنن" و"بيان إعجاز القرآن" و"غريب الحديث" وغيرها. ن: إنباه الرواة: ١/٢٢٥. الأعلام: ٢/٢٧٣..
٦١٣- قوله تعالى :﴿ والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ﴾ المراد : ضعف الإنبات. ( نفسه : ٤/١٠٤ )
٦١٤- إن العموم يستفاد من لفظ " من ". ولو قال : " ما لكم إله " لم يحصل العموم، وهي في هذا الضرب مفيدة للعموم. ( العقد : ٢/٣٢. شرح التنقيح )
٦١٦- شعر بكذا : إذا فهمه، ومنه قوله تعالى :﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أي : لا يفهمون. ( شرح التنقيح : ١٦ )
٦١٨- أي : من قومه. ( الذخيرة : ٤/١٣٠ )
٦١٩- الاختيار هو الإرادة الكائنة بين شيئين فصاعدا، ومنه قوله تعالى :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا ﴾ أي : " أرادهم دون غيرهم مضافا إلى اعتقاد رجحان المختار "، وهو جائز على الله تعالى، قال الله تعالى :﴿ ولقد اخترناهم على علم على العالمين ﴾١. ( الأمنية في إدراك النية المطبوع مع كتاب " الإمام القرافي وأثره... " : ٤٩٢ )
* قوله تعالى :﴿ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ﴾ :
٦٢٠- استثناء مفرغ لتوسطه بين المتبدإ وخبره.
وفيه أسئلة وهي : أن الضمير في قوله :﴿ هي ﴾ على أي شيء يعود، مع أنه لم يتقدم قبله ظاهر يعود عليه ؟ وما وجه هذا الحصر لهذا الضمير في الفتنة ؟ ولم سميت فتنة ؟ وما المحسن لهذا الخطاب مع الله تعالى ؟ وكيف تكون الفتنة سبب الإضلال لقوله تعالى :﴿ تضل بها من تشاء ﴾ ؟ وهل قوله تعالى :﴿ وتهدي ﴾ معناه بالفتنة، أو هو كلام مستأنف ؟ وما المستثنى منه ؟
والجواب :
أما الضمير فتقدمه أمران : طلب الرؤية وعبادة العجل، وكلامهما صالح أن يعود عليه الضمير باعتبار كونه فعله، أي الفعلة التي هي عبادة العجل أو طلب الرؤية. وقد ورد عن المفسرين القولان، والضمير قد يعود على المصادر وإن لم تذكر إلا أفعالها. بل الضمائر تعود على المعلوم من السياق وإن لم يتقدم له ذكر، بل وإن لم يدل السياق عليه، كقوله تعلى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾٢، ولم يتقدم للقرآن ذكر، بل لما كان معلوما من حيث الجملة صح إضماره، وذكر ضميره.
وأما وجه الحصر لهذا الضمير، فلأنه لا أحد يقدر على امتحان العباد حقيقة إلا الله تعالى، وأما غيره من خلقه فإنما يختبر ويمتحن بقضاء الله وقدره وقدرته الخالقة لذلك الفعل الممتحن به. فالفعل لله تعالى، والمشيئة له، وكل كشيء يحدث في الوجود فإنما هو منسوب بطريق الإيجاد والاختراع له سبحانه وتعالى. فيكون معنى الكلام : " إن هذه الفعلة ليست فتنة لأحد على التحقيق، بل ليست فتنة على التحقيق إلا لك ومنك ". فهذا وجه الحصر.
وأما إذا حملنا الفتنة على ما هو أعم من الخلق الحقيقي بحيث يندرج في الكسب العادي اندرج فيه فعل السامري وغيره، وبطل الحصر. فالفتنة حصر فيها الضمير وحصرت لله تعالى، فهاهنا حصران. وأصل الكلام : " إن هي إلا فتنة "، ثم أضيفت الفتنة إليه سبحانه وتعالى بطريق الحصر أيضا، أي هذه الفتنة مخصوصة بك.
وأما تسميتها فتنة فلأن الفتنة لها معان، أحدها : الاختبار، قال الله تعالى :﴿ وفتناك فتونا ﴾٣، أي : اختبرناك. وقال تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾٤، أي : اختبارا.
وعرض عبادة العجل على بني إسرائيل وخلق الله تعالى فيه الخوار مثل الحيوان٥ فتنة يختبر بها القلوب والعقول والعزائم، فيزيغ الضعيف ويثبت القوي، فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من يحيى عن بينة.
وأما المحسن لهذا الخطاب فلأنه صدر من موسى عليه السلام في معرض طلب الغفران والمسامحة، وطلب اللطف من بني إسرائيل، ولذلك قال عليه السلام :﴿ تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾. ولما كان الطالب لمسامحة الجاني يبذل جهده في ذلك كان من بذل الجهد للجاني الإشارة إلى بعض عذره، فإن ذلك في مجاري العادات أقرب لحصول مسامحته ومن عذرها ولأن الأمور كلها بقضاء الله تعالى وقدره، وأنه الخالق لها والمجريها على عباده فذكر هذا التوحيد، وإن لم ينتهض عذرا في سقوط الذنب ونفي التكليف قد ينتهض وسيلة لحصول العفو عن الجاني وكذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى.. ٦ ". وذكر في الحديث أن موسى عليه السلام عاتب آدم عليه السلام على أكل الشجرة، فقال له آدم عليه السلام : " أتلومني على أمر قد قدر علي من قبل أن أخلق ؟ " فجعل من أسباب مسامحة موسى له وترك اللوم ملاحظة القضاء في ظاهر اللفظ. مع أن الحديث عند العلماء محمول على أنه إنما قصد صرفه عن اللوم بعد التوبة، وأن بعد التوبة لا يليق التعنيف، إلا أن الموطنين قد اشتركا في العذر عذرا في تقريب العفو وترك اللوم، فهذا هو المحسن لهذا الخطاب مع الله تعالى.
فإن قلت : فهل لأحدنا أن يقتدي بموسى عليه السلام في إطلاق هذه العبارة في هذا المعرض أم لا يحسن ذلك لما يفهم من خشونة القول ؟
قلت : لا يلحق به عليه السلام لوجهين :
أحدهما : أن العوائد قد تحدث في الألفاظ خشونة وبعدا عن الأدب بعد أن لم يكن كذلك، تحدث حسنا وعذوبة في الألفاظ لم يكن لها قبل ذلك، ومن اطلع على أشعار القدماء من الجاهلية وغيرها ومخاطبات ملوكهم، وغير ذلك من تصرفاتهم في ألفاظهم وجد أشياء كثيرة كانت حسنة عندهم، وهي اليوم مستهجنة جدا.
وكذلك عندنا ألفاظ نحن نستحسنها كانت الأوائل لا يعرجون عليها من مخاطبات الملوك ومن المكاتبات والتحيات والنعوت والمعاملات، وأشياء غير واحدة، وهذا وما بالعهد من قدم قول المتنبي في ديوانه :
وإن يكن العلق النفيس ***...
فصرح بهذه اللفظة في سياق المدح، لأن العلق الذي يعلق بالقلب لجميل صفاته، فاستعمله على حال زمانه، وهو اليوم عندنا متهجن من المذام والسب، بل يوجب حد القذف على قائله عند مالك رحمه الله، باعتبار ما تجدد فيه لا باعتبار ما كان في زمان مالك رحمه الله تعالى، وذلك كثير لا يحصى عددا لمن كان مطلعا على أحوال الناس.
فكذلك هذه اللفظة هي في عرفنا خشنة بعيدة عن الأدب، فيمتنع استعمالها لذلك، ولم يدلنا دليل على أنها كانت في زمان موسى كذلك، أعني معناها، وإلا فاللفظ العربي هذا بعينه لم ينطق به موسى عليه السلام، بل هذا اللفظ العربي مترجم عن اللفظ العبراني، فلم يتعين المنع في حقه عليه السلام، وإن تعين في حقنا أصلا والبتة.
وثانيهما : أن الخواص من الأنبياء والأولياء كما أنهم يناقشوا أكثر من غيرهم، فإنه يحسن منهم ما لا يحسن من غيرهم. والعوائد دالة على ذلك في خواص الملوك والأكابر، فيغفر لهم ما لا يغفر لغيرهم، يمنعون مما أطلق لغيرهم، فكذلك هاهنا لا يلزم من حسن هذا الإطلاق من موسى عليه السلام لعلو قدره، وعلو منزلته عند ربه، ومعرفته بمكانته أن يحسن ذلك من آحاد المؤمنين مع بعده، فإن الفرق ظاهر فلا نطلق نحن هذه العبارة.
وأما كون هذه الفتنة سببا للضلال فلأنها سبب عادي كذلك. فإن قلت : عبادة العجل هي نفس الضلال، والشيء لا يكون سببا لنفسه.
قلت : ليس المراد نفس العابدة، لكن ما صدر في الوجود من الأوصاف في العجل الباعثة على عبادته.
وأما قوله عليه السلام لله تعالى :﴿ وتهدي من تشاء ﴾ فالظاهر من القول ومن المعنى أنه منقطع عما قبله، وأنه كلام مستقل بنفسه، وليس المراد أن الله تعالى يضل بعبادة العجل ويهدي بها، بل يضل من يشاء بهذه الفتنة، ويهدي من يشاء بسبب آخر. فإن عبادة الله تعالى جارية أن مثل عبادة العجل لا تكون سببا للهداية، بل من اهتدى لعدم عبادته إنما هي بأمور أخرى صارفة عن العبادة من ألطاف الحق ونور العقل والدلائل الدالة على نقص العجل وعدم صلاحيته للعبادة.
وأما المستثنى منه، فهو أفراد الفاعلين الذي يمكن أن يتوهم أنهم يفتنون الخلق على جهة الحقيقة، فيكون التقدير : " لا يفتن الناس أحد على التحقيق إلا الله تعالى " فيكون المستثنى منه أفراد الفاعلين للفتنة على التحقيق. ( الذخيرة : ٢/٢١٦ )
٢ - سورة القدر: ١..
٣ - سورة طه: ٤١..
٤ - سورة الأنبياء: ٣٥..
٥ - فيه إشارة إلى قوله تعالى عن السامري: ﴿فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار﴾. طه: ٨٦..
٦ - الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب القدر، الباب: ١١. ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، الباب: ١٤. وأحمد في مسنده: ٢/٣١٤..
٦٢٤- لما قال الله تعالى للملائكة١ :﴿ ألست بربكم ﴾ قالوا : بلى. سألهم تعالى عن عدم الربوبية أحق هو ؟ فقالوا : بلى، أي : النفي، والذي دل عليه ليس في السؤال ليس واقعا، بل الحق أنك رب حق، فلو قيل في جواب هذا السؤال : نعم، لكان تقريرا للنفي، فيكون كفرا. ( العقد المنظوم : ٢/١٢ )
٦٢٥- قيل : الفطرة : الإيمان طوعا وكرها لأنه تعالى لما قال للذرية يوم البذر :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ فأهل السعادة قالوها عن علم، وأهل الشقاء، قالوها عن إكراه وجهل. يؤيده قوله تعالى :﴿ وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ﴾٢. ( الذخيرة : ١٣/٣٣٠ )
٢ - سورة آل عمران: ٨٣..
والأسئلة المهمة فيه : كيف يصح أنه عليه السلام محصور في صفتي البشارة والنذارة، لأن ذلك يقتضي أن لا صفة أخرى له من الشجاعة والسخاوة وغير ذلك من صفات الكمال التي لا يحصى عددها، وهذا الحصر يقتضي سلب جميع ذلك ماعدا هاتين الصفتين لأن " إلا " بعد النفي للحصر ؟ ولم خصص البشارة والنذارة بالمؤمنين مع أنه عليه السلام بشير ونذير للثقلين، يبشر كل واحد منهم إن أطاع وينذره إن عصى، فإن الوعد والوعيد لا يتعلقان إلا بالمعدوم المستقبل، والمستقبل لا يتعين فيه مؤمن ولا كافر، بل يعم الخلق أجمعين ؟ ولم قال :﴿ يؤمنون ﴾ وما قال : " آمنوا " ولا " للمؤمنين " بصيغة اسم الفاعل ؟ ولم ذكر القوم وترك النساء ؟ وما استثنى منه في هذه الآية ؟
والجواب :
إن الحصر قد يكون مطلقا فينفي عن المحصور ما عدا تلك الصفة المحصورة فيها، وقد يكون بحسب بعض الاعتبارات، فلا يلزم نفي غير تلك الصفة كقوله صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي.. ١ " فحصر نفسه في البشرية باعتبار الاطلاع على بواطن الخصوم، أي : لا صفة بهذا الاعتبار إلا البشرية الصرفة، وأما ما عداها من الصفات فلا مدخل لها هاهنا.
كذلك هذه الآية، معناها : حصره عليه السلام في البشارة والنذارة باعتبار سلب القدرة على الهداية، أي : لا أقدر على خلق الهدى في قلب أحد ولا أصرفه عما قدر له، إنما وصفي في العالم فليس من صفاتي، إنما ذلك إلى الله تعالى. فالحصر ثابت له صلى الله عليه وسلم بهذا الاعتبار، وما عدا هاتين الصفتين مما هو متعلق بهداية الخلق فهو راجع إلى الله تعالى لا له صلى الله عليه وسلم، فثبت الحصر بهذا الاعتبار لا مطلقا في نفس الأمر.
وأما الحصر الثاني المستفاد من إضافة هاتين الصفتين للمؤمنين فبناء على قاعدة وهي أن العرب تنفي الشيء لنفي ثمرته، كما تنفيه لنفي ذاته. والبشارة والنذارة لما انتفت آثارهما باعتبار المؤمنين صارا بمنزلة المنفيين، فإن ثمرة الوعد والبشارة الرغبة في سبب المبشر به، وثمرة النذارة الانحياز عن سبب المتوعد عليه، وغير المؤمنين لا يفعلون ذلك، فكأنهم لم يبشروا ولم ينذروا، فقضى على البشارة والنذارة باعتبارهم، فانحصرتا حينئذ في المؤمنين بالمنطوق، وصار المفهوم دالا على عدمهما في حق غير المؤمنين. ويأتي الحصر بهذا الطريق على هذا التقدير.
وأما أنه وردت الآية ﴿ يؤمنون ﴾ بصيغة الفعل المضارع دون الماضي واسم الفاعل، فهو إشارة على الاستعداد للإيمان، لأن الفعل المضارع يستعمل للحالة المستمرة، كقولهم : " فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع ". وقالت خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لن يخزيك أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق " ٢.
أي : هذا شأنك في الماضي والحال والمستقبل، والاستعداد هو هذا.
فالآية معناها : لقوم مستعدين للإيمان، وشأنهم ذلك في الأزمنة الثلاث. فهؤلاء الذين يفيد فيهم البشارة والنذارة، ومن لا استعداد له لا يفيد فيهم ذلك، فتنتفي البشارة والنذارة باعتبار المستعد لنفي ثمرتها، ولو قال : آمنوا، أو : المؤمنين، لم يشعر بالحالة المستمرة كالمضارع، فلذلك عدل عنها.
وأما ترك النساء وذكر القوم، فلأن القوم هم الرجال، لأنهم يقومون بالمصالح ولذلك سموا قوما، ومن عداهم تبع لهم في الخير والشر من النساء والصبيان، فلذلك لا يكاد يوجد في القرآن إلا ذكر القوم، لأن القاعدة اللغوية أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث في حكم غلب المذكر على المؤنث، وهاهنا كذلك وقع التغليب لشرف المذكور.
وأما المستثنى والمستثنى منه فهو الصفات والأحوال، أي : لا أوجد موصوفا بصفة ولا في حالة من الأحوال- باعتبار وقوع الإيمان في الوجود- إلا في هاتين الصفتين : البشارة والنذارة، وما عداهما من خلق الإيمان في الصدر وإلجاء الخلق بالقضاء والقدر إلى الإيمان، إنما ذلك وغيره مفوض إلى الله تعالى. ( نفسه : ١٩٩ إلى ٢٠٢ )
٢ - أخرجه البخاري في صحيحه الباب: ٣، من كتاب بدء الوحي، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان، ح: ٢٥٢. وأحمد في مسنده: ٣/١٣٩..
٦٣٠- كل شيء يكذبه العرف وجب ألا يؤمر به. ( الفروق : ٤/٧٤ والذخيرة : ١١/١٢ )