ﰡ
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)
الإعراب:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ.. أن مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي أنه.
البلاغة:
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أي أقسم بهذا البلد، وزيادة لا لتأكيد الكلام وتأكيد القسم، تقول: لا واللَّه ما قلت كذا، أي واللَّه. وهذا مستفيض في لغة العرب.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ بينهما جناس اشتقاق، فكل من الوالد والولد مشتق من الولاد.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ استفهام إنكاري للتوبيخ، وكذا قوله: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ.
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
لا أُقْسِمُ أي أقسم. بِهذَا الْبَلَدِ مكة. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي وأنت يا محمد حلال وحالّ مقيم فيه، أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وحال كون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مقيم فيه، إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. وهذه الجملة وما بعدها اعتراض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله بعدئذ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي وأقسم بكل والد كآدم أو إبراهيم وغيرهما، وبكل مولود من أي شيء آخر، والمراد: أن اللَّه أقسم ببلد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان. فِي كَبَدٍ أي خلقناه مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد، والتعب والنصب، والإنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقه ومنتهاها الموت وما بعده، وهو تسلية وتثبيت للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مما كان يكابده من قريش، وبعث له على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته.
أَيَحْسَبُ أيظن الإنسان. أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أي أنه يغتر بقوته، ويعتقد ألا أحد ينتقم منه ولكن اللَّه قادر عليه، كأبي الأشد بن كلدة، فإنه كان يبسط تحت قدمه أديم عكاظي، ويجذبه عشرة، فينقطع، ولا تزلّ قدماه. يَقُولُ: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي وأنه يقول: أنفقت مالا كثيرا. من تلبد الشيء: إذا اجتمع، على عداوة محمد، أو سمعة ومفاخرة.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فيما أنفقه، فيعلم قدره، واللَّه عالم بقدره، وأنه ليس مما يتكثر به، ومجازيه على فعله السيء.
سبب النزول:
نزول الآية (٥) :
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ: روي أن هذه الآية: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ نزلت في أبي الأشدّ بن كلدة الجمحي، الذي كان مغترا بقوته البدنية. قال ابن عباس: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا، وهو في ذلك كاذب.
نزول الآية (٦) :
يَقُولُ أَهْلَكْتُ..:
قال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمره أن يكفّر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد.
وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه.
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي أقسم بالبلد الحرام وهو مكة، تنبيها على كرامة أم القرى وشرفها عند اللَّه تعالى لأن فيها بيته الحرام قبلة المسلمين، وهي بلد إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وفيها مناسك الحج. وقوله: لا أُقْسِمُ قسم مؤكد وليس نفيا للقسم، كقول العرب: لا واللَّه لا فعلت كذا، ولا واللَّه ما كان كذا، ولا واللَّه لأفعلن كذا.
أقسم بهذا البلد في حال كون الساكن فيها حلالا مقيما بها وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وكل من دخله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧] تشريفا لك، وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا، ولا شك أن الأمكنة تشرف بأهلها. والحل: الحلال.
ورد في الحديث المتفق على صحته: «إن هذا البلد حرّمه اللَّه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».
والمراد أن مكة عظيمة القدر في كل حال، حتى في حال اعتقاد الكفار أنك حلال لا حرمة لك، فلا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك. وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم.
وأقسم بكل والد ومولود من الإنسان والحيوان، تنبيها على عظم آية التناسل والتوالد، ودلالتها على قدرة اللَّه وحكمته وعلمه.
ثم ذكر المقسم عليه، فقال:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي لقد خلقنا الإنسان مغمورا بالتعب والنصب، وفي مكابدة المشاقّ والشدائد، فهو لا يزال في تلك المكابدة بدءا من
وفيه تثبيت لرسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم، وحمله على احتمال مكائد أهل مكة، وصبره على المشاق والمتاعب، فذلك لا يخلو منه إنسان، وفيه لوم لهم على عداوته.
ثم وبخ الإنسان على الاغترار بقوته، فقال:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ أي أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه، ولا ينتقم منه أحد، فإن اللَّه هو القادر على كل شيء.
ثم لام الإنسان على الإنفاق مراءاة، فقال:
يَقُولُ: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي أنفقت مالا كثيرا مجتمعا بعضه على بعض. والمراد أن الإنسان يقول في يوم القيامة: أنفقت مالا كثيرا فيما كان يسميه أهل الجاهلية مكارم، ويدعونه معالي ومفاخر.
ثم عابه على جهله، فقال:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟ أي أيظن الإنسان والمدعي النفقة في سبيل الخير أن اللَّه سبحانه لم يطلع عليه، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه، وأين أنفقه؟
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أقسم اللَّه تعالى بالبلد الحرام- مكة أم القرى، وبالوالد والمولود كآدم وذريته، وكل أب وولده، وما يتوالده الحيوان، على أنه خلق الإنسان مغمورا في شدة وعناء من مكابدة الدنيا.
والقسم بالوالد والولد ونسلهم لأنهم أعجب ما خلق اللَّه تعالى على وجه الأرض لما فيهم من التّبيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدّعاة إلى اللَّه تعالى.
٢- وبخ اللَّه تعالى الإنسان على بعض الأفكار والاعتقادات والتصورات، كظنه ألا قدرة لأحد عليه، وإنفاقه المال الكثير مراءاة، أو مضايقة من أداء الواجبات المالية الخيرية، وجهله بأن اللَّه عالم به مطلع على جميع أقواله وأفعاله، وسائله عن ماله من أين كسبه، وفي أي شيء أنفقه؟
إن اللَّه قادر على كل شيء من الإنسان والحيوان والجماد والنبات، عالم بقصد كل إنسان حين ينفق ما ينفق رياء وافتخارا وحبا للانتساب إلى المعالي والمكارم، أو معاداة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويرى كل أحد فيما يعمل ويجني ويكتسب وينفق.
مبدأ الاختيار وطريق النجاة في الآخرة
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ٨ الى ٢٠]
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢)
فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧)
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي لم يقتحم، و (لا) في الماضي مثل (لم) في المستقبل، كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة ٧٥/ ٣١] أي لم يصدق ولم يصلّ، وكقول الشاعر أبي خراش الهذلي:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا | وأي عبد لك لا ألمّا |
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً مَا الْعَقَبَةُ:
تقديره: ما اقتحام العقبة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وفَكُّ رَقَبَةٍ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: اقتحامها فك رقبة. أَوْ إِطْعامٌ: عطف عليه، ويَتِيماً: مفعول إِطْعامٌ وهو مصدر (أطعم) أي أن أطعم يتيما.
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اسم كان: ضمير مستتر تقديره هو، أي ثم كان مقتحمها من الذين آمنوا. وإنما قال ثُمَّ وإن كان الإيمان مقدما في الرتبة عن العمل لأن ثُمَّ إذا عطفت جملة على جملة لا تفيد الترتيب، بخلاف ما إذا عطفت مفردا على مفرد، فهي ليست هنا للتراخي في الزمان إذ شرط الأعمال الحسنة الإيمان، وإنما التراخي في الذكر والبيان.
البلاغة:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ؟ استفهام تقريري للتذكير بالنعم، أي جعلنا له، وفيه مراعاة الفواصل.
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ الاستفهام للتهويل والتعظيم. والْعَقَبَةُ: استعارة تبعية لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل: وهو ما صعب منه، أي أن العقبة: الطريق الوعر في الجبل، أستعير للأعمال الصالحة ذات المشقة.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ استعارة، استعار النجدين لطريقي الخير والشر أو السعادة والشقاوة، وأصل النجد: الطريق المرتفع.
مَقْرَبَةٍ ومَتْرَبَةٍ جناس ناقص لتغير بعض الحروف.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ بينهما مقابلة.
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما، أي جعلنا له. وَلِساناً يترجم به عما يريد ضميره.
وَشَفَتَيْنِ يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ بينا له طريقي الخير والشر أو السعادة والشقاوة، وأصل النجد: المكان المرتفع.
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فهلا اجتازها أو دخلها بسرعة وشدة، والعقبة: الطريق الصعب في الجبل.
والمراد: مجاهدة النفس لفعل الخير وترك الشر.
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ وما أعلمك ما اقتحام العقبة؟ والجملة اعتراضية لتعظيم شأنها أي لم تدر صعوبتها وثوابها. فَكُّ رَقَبَةٍ إعتاقها من الرق، أو المعاونة عليه. ذِي مَسْغَبَةٍ مجاعة. ذا مَقْرَبَةٍ قرابة في النسب. ذا مَتْرَبَةٍ ذا فقر، يقال: ترب فلان: إذا افتقر، أي أصبحت يده ملصقة بالتراب لفقره، والمراد: هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب، لا بيوت لهم. وإنما ذكر الإعتاق والإطعام لما فيهما من مجاهدة النفس.
ثُمَّ عطف على اقْتَحَمَ وثُمَّ للترتيب الذكري لا الزماني، والمعنى: وكان وقت الاقتحام مؤمنا. وَتَواصَوْا أوصى ونصح بعضهم بعضا. بِالصَّبْرِ على الطاعة، وعن المعصية. بِالْمَرْحَمَةِ الرحمة على الناس. أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات. أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اليمين، وأصحاب طريق النجاة والسعادة. الْمَشْأَمَةِ الشمال، أصحاب طريق الشقاء.
مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة عليهم.
المناسبة:
بعد توبيخ الإنسان وذمه على طبائع غريبة وعجيبة، أقام اللَّه تعالى الدليل على كمال قدرته بخلق الأعين واللسان والشفتين والعقل المميز بين الخير والشر، ومنحه الخيار للإنسان ليثبت ذاتيته، ويتحرر من عبودية أهوائه وشهواته، وليعرف البشر أنه تعالى مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل.
ثم بيّن اللَّه تعالى أنه كان على الإنسان بعدئذ أن يشكر هذه النعم، ويختار طريق الخير والسعادة، فيبادر إلى الإيمان والعمل الصالح، ومنه إعتاق أو تحرير الرقاب، وإطعام الأيتام الأقارب والمساكين المحتاجين، والتواصي بالرحمة على الناس، وأدى اختيار الإنسان بالتالي إلى أن يكون من أحد الفريقين:
التفسير والبيان:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ أي ألم أمنحك أيها الإنسان الجاهل المغرور بقوتك، المرائي بعملك بإنفاق المال طلبا للشهرة والسمعة، أمنحك العينين اللتين تبصر بهما، واللسان الذي تنطق به، والشفتين اللتين تستر بهما ثغرك، وتستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالا لوجهك وفمك، والمراد أنني أنا اللَّه الذي منحتك القدرة على البصر والنطق أو الكلام.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي ألم نبين لك ونعرفك طريق الخير والشر، فأودعنا في فطرتك السليمة أداة التمييز بينهما، وجعلنا لك من العقل والفكر ما تستطيع به إدراك محاسن الخير، ومفاسد الشر وأبعاد كل منهما. وعبّر عن هذين الطريقين بالنجدين: وهما الطريقان المرتفعان، للدلالة على صعوبتهما وعورتهما، واحتياجهما إلى مجاهدة النفس لعبورهما بشدة وسرعة.
لذا أردفه ببيان وجوب اختيار الأفضل وشكر تلك النعم، فقال تعالى:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي فهلا نشط واخترق الموانع المانعة من طاعة اللَّه، من تسويل النفس واتباع الهوى والشيطان، وهلا جاهد نفسه لاجتياز الطريق الصعب، وأي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ استفهام للتفخيم والتعظيم.
ثم أرشد إلى طريق اقتحامها فقال:
فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي إن اقتحام العقبة ودخولها يكون بإعتاق الرقبة من العبودية، وتخليصها من إسار الرق، أو المعاونة عليه، أو إطعام في يوم المجاعة الذي يعز
فمن حرر الرقبة أو أطعم اليتيم أو المسكين في يوم المجاعة، كان طائعا للَّه، نافعا عباده، فهو من أصحاب اليمين. وهذا مثل ضربه اللَّه تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان.
قال الصاوي على الجلالين: إنما قيّد الإطعام بيوم المجاعة لأن إخراج المال فيه أشد على النفس. وقد يستدل بقوله: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ للشافعي:
أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، وأنه قد يكون بحيث يملك شيئا، وإلا وقع قوله: ذا مَتْرَبَةٍ تكرارا. وقد استدل أبو حنيفة بتقديم العتق على أنه أفضل من الصدقة، وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة إنقاذ النفس من الهلاك فإن الغذاء قوام البدن، وأما الفك فهو تخليص من القيد في الأغلب.
أخرج أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة، فهي فكاكه من النار».
وأخرج أحمد أيضا عن البراء بن عازب قال: «جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه، علّمني عملا يدخلني الجنة، فقال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النّسمة وفكّ الرّقبة، فقال: يا رسول اللَّه، أو ليستا بواحدة؟ قال: لا، إن عتق النسمة:
أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرقبة: أن تعين في عتقها».
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي عن سلمان بن عامر قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان:
صدقة وصلة».
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي قام
المتواصين بالصبر على أذى، وعلى الرحمة بهم، كما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الثابت: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» «١»
وفي الحديث الآخر: «من لا يرحم الناس لا يرحمه اللَّه» «٢».
والصبر يكون أيضا على طاعة اللَّه، وعن المعاصي، وعلى المصائب والبلايا.
والرحمة على عباد اللَّه ترقق القلب، ومن كان رقيق القلب، عطف على اليتيم والمسكين، واستكثر من فعل الخير بالصدقة.
ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء هؤلاء مبشرا بهم، فقال:
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي أولئك المتصفون بهذه الصفات هم من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الجنة، كما قال تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ؟ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة ٥٦/ ٢٧- ٣٤].
ثم ذكر أضداد هؤلاء للمقارنة والعبرة، فقال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ، عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي والذين جحدوا بآياتنا التنزيلية والآيات الكونية الدالة على قدرتنا، هم أصحاب الشمال، وعليهم نار مطبقة مغلقة، وأصحاب الشمال هم أهل النار المشؤومة كما قال تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ.. [الواقعة ٥٦/ ٤١- ٤٤].
(٢) أخرجه الشيخان والترمذي عن جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه.
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- جيء بآيات أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ للتذكير بنعم اللَّه تعالى على الإنسان من البصر والنطق والجمال والعقل والفكر المميز بين الحق والباطل وبيان طريقي الخير والشر، وللدلالة على كمال قدرة اللَّه تعالى، ولبيان مبدأ اختيار الإنسان للإيمان والكفر أو السعادة والشقاوة أو الخير والشر، كما قال تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ، إِمَّا شاكِراً، وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر ٧٦/ ٣].
٢- إن هذه النعم تقتضي الشكر عليها والاستعداد للنجاة في الآخرة، بالإيمان والعمل الصالح الشامل للتواصي بالصبر على التكاليف الشرعية، بطاعة اللَّه وعن معصيته وعلى البلايا والمحن، والتواصي بالمرحمة على الخلق أي التعاطف والتراحم، وتحرير الرقاب (العبيد) وإطعام اليتامى والأرامل والمساكين.
وإخراج المال في وقت القحط والضرورة والجوع أثقل على النفس، وأوجب للأجر، لذا قال: ذِي مَسْغَبَةٍ كقوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة ٢/ ١٧٧] وقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً [الدهر ٧٦/ ٨].
والإيمان شرط قبول هذه الأعمال الخيرية، وإنما أخر للترقية من الأدنى إلى الأعلى، والترتيب ذكري، لا زماني.
وهؤلاء أصحاب اليمين أهل الجنة، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم.
ويلاحظ أنه ذكر في باب الكمال أمرين: فك الرقبة والإطعام، والإيمان، وفي باب التكميل شيئين: التواصي بالصبر على الوظائف الدينية، والتواصي
٣- ذكر اللَّه تعالى للمقابلة والمقارنة والعظة أصحاب الشمال بعد أصحاب اليمين، والفريق الأول هم الذين كفروا بالقرآن، وهم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم، ومصيرهم إلى النار التي تطبق وتغلق أبوابها عليهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمسمكيّة، وهي خمس عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الشمس لافتتاحها بالقسم الإلهي بالشمس المنيرة المضيئة لآفاق النهار.
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين:
١- ختم اللَّه سبحانه سورة البلد بتعريف أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، ثم أوضح المراد من الفريقين في سورة الشمس بعمل كل منهما حيث قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها.
٢- أبان اللَّه تعالى في آخر آيات السورة السابقة مصير أو مآل الكفار في الآخرة وهو النار، وذكر تعالى في أواخر هذه السورة عقاب بعض الكفار في الدنيا، وهو الهلاك، فاختتمت السابقة بشيء من أحوال الكفار في الآخرة، واختتمت هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة الكلام عن موضوعين مهمين هما:
١- الإقسام بالمخلوقات الكونية العظيمة في العالم العلوي والسفلي وآلة التفكر