ﰡ
في هذه الآية الكريمة توجيهٌ للنبيّ الكريم أن يستمر على تقواه حتى يكونَ قُدوةً للمؤمنين وأن لا يُخدع بالكافرين والمنافقين بل يظل حذِرا منهم ومن مكايدهم.
قراءات :
قرأ أبو عمرو :﴿ بما يعملون خبيرا ﴾، والباقون :﴿ بما تعملون ﴾ بالتاء.
ومن ثم يتوكّل على الله ويفوّض جميع أموره إليه، ﴿ وكفى بالله وَكِيلاً ﴾ يحفظُه ويحرسه ويمنع عنه كلَّ شرّ، وقد فَعل.
الأدعياء مفردها دعي : هو الذي يتبناه الإنسان. وكان ذلك معمولا به في الجاهلية وصدرِ الإسلام ثم حَرُم بهذه الآيات.
السبيل : طريق الحق.
﴿ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ : حتى يطيعَ بأحدِهما ويعصي بالآخر، وكان العرب في الجاهلية يقولون : للرجل الذكيّ قَلْبان، وهذه خرافة.
وما جعل زوجةَ أحدِكم حين يقول لها : أنتِ عليَّ كظهرِ أمّي، أمّاً له حقيقة، فأبطِلوا، وعلى من تفوّه بها كفّارة.
﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ.... ﴾ : حرم الإسلام أن يتخذ الإنسان ولداً أو بنتا ويقول هذا ابني، أرِثه ويرثني.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع :﴿ اللاءِ ﴾ بهمزة مكسورة بدون ياء، والباقون :﴿ اللائي ﴾ بهمزة بعدها ياء.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو :﴿ تَظَّهَّرون ﴾ بفتح التاء وتشديد الظاء والهاء المفتوحتين، وقرأ ابن عامر :﴿ تظّاهرون ﴾ بفتح التاء وتشديد الظاء بعدها ألف، وقرأ عاصم :﴿ تُظاهِرون ﴾ بضم التاء وفتح الظاء بدون تشديد كما هو في المصحف.
مواليكم : أولياؤكم، المولى له عدة معان : المولى الربّ، والمالك، والولي المحب، والصاحب، والجار، والقريب من العصبة كالعم وابن العم ونحو ذلك، والمعتِق والعبد.
وأمرنا أن ندعوهم ( الأدعياء ) لآبائهم، فإذا لم نعلم آباءهم فإنهم إخواننا في الدّين وموالينا وأحبابنا.
ويرفع الله عنا الحرج بما أخطأنا به :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾، ويحذّرنا من أن نتعمد الأعمالَ الممنوعة، ومع هذا فإنه غفور رحيم.
جنود لم تروها : الملائكة.
نزلت هذه الآيات إلى آخر الآية السابعة والعشرين في تفصيل غزوة الأحزاب، أو غزوة الخندق.
كانت غزوة الأحزاب في شوّال سنة خمسٍ من الهجرة، وكانت من أخطرِ الحوادث التي واجهها رسول الله والمسلمون، في تقرير مصير الدعوة الإسلامية. وكانت معركةً حاسمة ومحنة ابتُلي المسلمون فيها ابتلاءً لم يبتلوا بمثله.
أما سببها فهو أنه خرج نفرٌ من بني النضير، ونفر من بني وائل من اليهود، فقدِموا على قريش في مكة. وهناك دعوا قريشاً إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم : إنا سنكون معكم حتى نستأصلَه هو ومن معه. فسرّ ذلك قريشاً، ونشِطوا لما دعوهم إليه. ثم خرج وفد اليهود فجاؤوا غطفان ودعوهم إلى حرب المسلمين. وطافوا في القبائل، حتى تمت لهم اتفاقية عسكرية، كانت قريش وغطفان من أهم أعضائها. فحشدت قريش أربعة آلاف مقاتل، وغطفان ستة آلاف. وأُسندت قيادةُ الجيش إلى أبي سفيان، وتعهد اليهود أن يدفعوا إلى غطفان كل تمرِ نخلِ خيبرَ لسنة واحدة.
ولما سمع رسول الله وأصحابه عن تجمُّع القبائل مع قريش لقتال المسلمين وزحفهم إلى المدينة، تهيأ المسلمون للحرب، وقرروا التحصنّ في المدينة والدفاع عنها، وكان جيش المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل.
وفي هذه الأثناء أشار سلْمان الفارسيّ، رضي الله عنه، بحفر الخندق حول المدينة، وكانت هذه خطةً حربية متّبعة عند الفرس، فأمر الرسول الكريم بحفر الخندق في السهل الواقع شماليّ غرب المدينة، وهو الجانب المكشوف الذي يُخاف منه اقتحام العدو. وقد قسم رسول الله الخندقَ بين أصحابه لكل عشرةٍ أربعين ذراعا، وبلغ طول الخندق خمسة آلاف ذراع ( نحو أربعة كيلومترات )، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، وعرضهُ من تسعة أذرع إلى ما فوقها.
وكان حده الشرقي طرفَ حَرّة واقِم، وحده الغربي وادي بُطْحان حيث طرفُ الحرة الغربية، حرة الوبرة.
وعمل السلمون في حفر الخندق بجدٍّ ونشاط، وكان كلما عَرَضَ لهم مكان صعب فيه صخرة لجأوا إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فيأخذ المِعولَ بيده ويضربها حتى تتفتت، حتى أكملوه وتحصنوا وراءه.
وكان بين المسلمين وبني قريظة من اليهود معاهدةٌ، فحملهم حُييّ بن أخطَب، سيدُ بني النضير، على نقض تلك المعاهدة. فنقضوها، وتأهبوا لقتال المسلمين مع المشركين من قريش والعرب. وعظُم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوبُ الحناجر.
وجاء أبو سفيان يقود ذلك الجيشَ الجرار وأحاطوا بالمدينة. وفوجئوا بالخندق، فوقفوا من ورائه، وقفز أحد أبطالهم وهو عمرو بن عبد ودٍّ العامري بحصانه فاجتاز الخندقَ وطلب المبارزة. فبرز له عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقتله. ثم حصل بعضُ التراشق بالسهام، ودام الحصار نحو شهر، اشتد فيه البلاء. واستأذن بعض المنافقين في الذهاب إلى المدينة وقالوا :﴿ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾، وكان الوقت شتاءً واشتد البرد وهبّت ريح عاتية فقلبت القدور وقوضت الخيام. فقام أبو سفيان وقال : يا معشر قريش، إنكم واللهِ ما صبحتم بدار مقام، وقد أخلفتنا بنو قريظة، وبلغَنا عنهم الذي نَكره، ولَقِينا من شدة الريح ما ترون، فارتحِلوا فإني مرتحِل.
فانطلَقوا، وأصبح الصباح فإذا القوم قد ارتحلوا. وانصرف المسلمون ووضعوا السلام وصدق الله العظيم :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾، ﴿ وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى الله المؤمنين القتال وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً ﴾.
ووضعت الحربُ أوزارها، فلم ترجعْ قريش بعدَها إلى حرب المسلمين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لن تَغزُوكم قريش بعد عامِكم هذا، ولكنّكم تغزونهم » والقصةُ بطولِها في سيرة ابن هشام وفي صحيح مسلم، وابن كثير.
واستُشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة، وقُتل من المشركين أربعة.
بلغت القلوب الحناجر : فزعت فزعاً شديداً كأنها قفزت إلى الحُلُوق من الخوف.
إنها صورة هائلة مرعبة، فقد جاء أبو سفيان بذلك الجيش الكبير وحاصروا المسلمين من كلّ مكان، وبنو قريظة من ورائهم، فَبَلَغ الخوف أقصاه، وبلغت القلوبُ الحناجر خفقاناً واضطرابا، وظنّ بعضهم بالله ظنونا سيئة.
قراءات :
قرأ أبو عمرو ويعقوب وحمزة :﴿ الظنون ﴾ بدون ألف، والباقون :﴿ الظنونا ﴾ بألف بعد النون.
وزُلزلوا زلزالا شديدا : اضطربوا من الفزَع بشكل رهيب من كثرة العدو.
وكان ذلك اختباراً كبيرا وامتحاناً شديدا للمؤمنين.
إلا غرورا : وعداً باطلا قصد به التغرير بنا.
وأخذ المنافقين والذين في قلوبهم مرضٌ من ضعاف المسلمين يقولون : ما وعدَنا الله ورسولُه من النصر وعلوّ الكلمة الا وعداً باطلا !
لا مقام لكم : لا ينبغي لكم الإقامة هنا.
إن بيوتنا عورة : يعني مكشوفة للعدو خالية من الرجال المدافعين عنها.
وقالت طائفة من المنافقين كعبد الله بن أُبيّ وأصحابه : يا أهلَ المدينة، ليس هذا المقام بمقامٍ لكم فارجعوا إلى منازلكم، ﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾ : وهم من بني حارثة.
وما كان استئذانهم إلا جبناً وفِراراً من القتال.
قراءات :
قرأ حفص :﴿ لا مُقام لكم ﴾ بضم الميم بمعنى الإقامة، والباقون :﴿ لا مَقام لكم ﴾ بفتح الميم بمعنى الموضع.
الفتنة : الردة ومقاتلة المؤمنين.
آتوها : اعطوها.
وما تلبّثوا بها : ما أقاموا بالمدينة.
ثم بين الله وَهْنَ الدينِ وضعفه في قلوبهم، فقال :﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً ﴾ :
ولو دخل عليهم الأحزاب من جوانب بيوتهم، ثم طلبوا إليه الارتدادَ عن دِينهم وأن يقاتِلوا المؤمنين، لفعلوا ذلك مسرِعينَ من شدة الخوف.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر :﴿ لأتوها ﴾ من غير مد، والباقون :﴿ لآتوها ﴾ بالمد، يقول الطبري : قرأ بعض المكيين وعامة قراء الكوفة والبصرة ﴿ لآتوها ﴾ بمد الألف، وحفص كوفي، فتكون قراءة المصحف الصحيحة ﴿ لآتوها ﴾ بالمد.
ولقد كانوا عاهدوا الله لا ينهزمون أمام عدوٍّ قط، ﴿ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً ﴾.
وقل لهم : من ذا الذي يحميكم من الله إن أراد بكم رحمة ؟ ﴿ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾.
هلم إلينا : أقبلوا إلينا.
البأس : الشدة والمراد بها هنا الحرب والقتال.
والله يعلمُ المعوقين الذي يثّبطون الناسَ عن القتال ويمنعونهم، والذين يقولون لإخوانهم هلمُّوا إلينا.
﴿ وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ : فلا يَقْرَبون القتالَ إلا زمنا قصيراً ثم يتسلّلون ويهربون إلى مساكنهم.
تدور أعينهم : تدور مقل أعينهم من شدة الخوف مثل الذي يغشى عليه من الموت. سلقوكم : آذوكم بألسنتهم السليطة.
أشحّة على الخير : بخلاء حريصين على مال الغنائم.
فأحبط الله أعمالهم : أبطلها.
ثم ذكر الله بعض معايبهم من البُخل والخوف والفخر الكاذب،
فقال : إنهم بخلاءُ عليكم بالمعونة والإنفاق، فإذا طرأ الخوفُ من الحرب رأيتَهم ينظرون إليك بحالة عجيبة، تدور أعينهم في محاجرها كالذي يقع مغشيّا عليه في حالة الموت.
فإذا ذهب الخوف وأمِنتم، ﴿ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾، طالبين أن يشارِكوكم في الغنيمة.
﴿ أَشِحَّةً عَلَى الخير أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ ﴾ : وهم بخلاء في كل خير، حريصون على الغنائم إذا ظفر بها المؤمنون. إنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء، ﴿ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ﴾.
لا يزال الحديث عن غزوة الأحزاب.
في هذه الآية عتاب من الله للمتخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان لكم في رسول الله قُدوة حسنةٌ أن تتأسُّوا به ولا تتخلّفوا عنه، وتصبروا على الحرب ومعاناة الشدائد، لمن كان يرجو ثواب الله والفوز بالنجاة في اليوم الآخر. وقد قرن الله الرجاء بكثرة ذكر الله.
قراءات :
قرأ عاصم :﴿ أُسوة ﴾ بضم الهمزة، والباقون :﴿ إسوة ﴾ بكسرها وهما لغتان.
من المؤمنين بالله ورسوله رجال وَفَوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر على الشدائد، فمنهم من فَرَغَ من العمل الذي كان نَذَرَه لله وأوجبَه على نفسه، فاستُشهد بعضُهم يوم بدر وبعضهم يوم أحد، وبعضهم في غير ذلك من المواطن المشرفة، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ﴾ الشهادةَ، وما غيَّروا العهدَ الذي عاهدوا ربهم، كما غيره المعوِّقون القائلون لإخوانهم : هلمّ إلينا، والقائلون : إن بيوتَنا عَورة.
انتهت المعركة وانفرجت الغُمة، وردَّ الله الكفار ممتلئةً قلوبُهم بالغيظ خائبين، لم ينالوا خيراً من نصرٍ أو غنيمة. وكفى الله المؤمنين مشقَّة القتال، وكان الله عزيزاً بحَوْله وقوته.
روى الشيخان من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :«لا إله إلا الله وحدَه، صدق عبدَه، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده »
وروى محمد بن اسحاق أنه لما انصرف الأحزاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لن تغزوكم قريشُ بعدَ عامِكم هذا، ولكنكم تغزونهم » وقد تحقق هذا ونصر الله رسولَه والمؤمنين إلى أن فتح عليهم مكة.
من أهل الكتاب : اليهود من بني قريظة.
من صياصيهم : من حصونهم، واحدها صِيصِية وهي كل ما يُمتنع به.
قذف في قلوبهم الرعب : ألقى في قلوبهم الخوف الشديد.
انتهت المعركة مع الأحزاب من قريش وحلفائها وردّهم الله خائبين، لكنّها لم تنتهِ مع اليهود من بني قريظة، الذين نقضوا العهد مع رسول الله والمؤمنين. وكان الرسول لما قَدِم المدينة، كتبَ كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادَعَ فيه اليهودَ وعاهدَهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشَرَطَ لهم واشترط عليهم، وجاء فيه :« إنه من تَبِعنا من يهودَ فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، إن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن قبائلَ يهودَ أئمة مع المؤمنين. لليهود دينُهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم.... وإن بينهم النصرَ على ما حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النُّصحَ والنصيحة، والبِرّ دون الإثم، وإن بينهم النصرَ على من دهم يثرب ».
والعهدُ طويلٌ موجود في سيرة ابن هشام وعدد من المراجع.
ولكن اليهودَ، هم اليهود في كل زمان ومكان، فقد نقضوا العهد واتفقوا مع قريش والأحزابِ على أن يهجُموا على المدينة من خلْفِ المسلمين. ولما علم رسول الله بذلك بعث سعدَ بن مُعاذ وسعدَ بن عبادة، في رجالٍ من الأنصار ليتحققوا الخبر، فوجدوهم على شرّ ما بلَغَهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : من رسولُ الله ؟ لا عهدَ بيننا وبين محمد ولا عقد.
وهكذا حاولوا طعنَ المسلمين من الخلف، ولكنّ الله خيبّهم، إذ أنهم اختلفوا مع قريش وتحصنوا في حصونهم ولم يحاربوا.
فلما انصرف الرسولُ الكريم والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة، أمَرَ الرسول مؤذنا فأذن في الناس : إن من كان سميعاً مطيعاً فلا يصلِّيَنَّ العصرَ الا في بني قريظة.
ونزل رسول الله ببني قريظة فحاصرَهَم خمساً وعشرين ليلة حتى تعبوا وجَهَدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعبَ، ونزلوا على حُكم سعد بن معاذ حَليفِهم. فحكم فيهم أن يُقتل الرجال، وتقسَم الأموال، وتسبى الدراري والنساء، لأنهم لو نَفَّذوا عهدهم مع قريشٍ لقضَوا على المسلمين واستأصلوهم، ولكن الله سلّم ونَصَرَ المسلمين ﴿ وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً ﴾. وقد توفي سعدُ بن معاذ شهيدا من سهم أصابه في ذراعه رضي الله عنه.
أمتعكن : أعطيكن المتعة من مال ولباس بحسب ما أستطيع.
وأسرّحكن : أطلقكن.
سَراحا جميلا : طلاقا من غير ضرر ولا مخاصمة ولا مشاجرة.
بعد أن نصر الله رسوله والمؤمنين وفتح عليهم بني قريظة وأموالهم، طلب نساء النبي أن يوسع عليهن بالنفقة، وقلن له : يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخدم والحشَم، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق ! فأنزل الله تعالى في شأنهن قوله :﴿ يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا... ﴾ الآيات.
فبدأ بعائشة، فقال لها : إني أذكر لك أمراً ما أحبُّ أن تعجَلي حتى تستأمري أبويك. قالت : وما هو ؟ فتلا عليها :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ... ﴾ الآية، قالت عائشة : أفيكَ أَستأمر أبوي ! بل اختارُ الله تعالى ورسولَه. ثم تابعها بقيةُ نسائه. وكنّ تسعاً : سِتّاً من قريش، وهن عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة وزينب بنت جحش الأسدية وثلاثاً من غير قريش وهن : ميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حُيي بن أخطب يهودية الأصل، وجويرية بنت الحارث المصطَلَقية.
ضِعفين : ضعفي عذاب غيرهن من النساء.
يسيرا : هيّنا.
وبعد أن خيّرهن واخترن الله ورسولَه وعَظَهن بقوله تعالى :﴿ يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ﴾.
وفي هذا تهديد شديد، لأنهن لسن كغيرهن من النساء.... والذنبُ من العظيم عظيم، فمن تفعل منهن ذنباً يضاعَف لها العذاب من الله.
قراءات :
قرأ ابن كثير وابن عامر :﴿ نُضَعِّف العذابَ ﴾ بضم النون وتشديد العين المكسورة ونصب العذاب، وقرأ أبو عمرو :﴿ يُضَعَّف ﴾ بضم الياء وتشديد العين المفتوحة على البناء للمفعول و ﴿ العذاب ﴾ مرفوع، وقرأ الباقون :﴿ يُضاعَف لها العذاب ﴾ بألف بعد الضاد للمجهول.
أعتدنا : هيّأنا وأعددنا.
كريما : سالما من الآفات والعيوب.
ومن تطعْ منكنّ يا نساء النبيّ، اللهَ ورسولَه وتخضع لأوامرهما، وتعمل صالح الأعمال، يعطِيها الله أجرها مرتين ( كما هدّد بمضاعفة العذاب )، وزيادةً على مضاعفة الأجر أعدّ الله لكنّ الكرامة في الدنيا والآخرة.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ ومن يقنت منكن.... ويعمل صالحا ﴾ بالياء في الفعلين، وقرأ الباقون :﴿ ومن يقنت.... وتعمل ﴾ بالتاء في الأخير.
فلا تخضعن بالقول : فلا تِجبن أحدا بقول لين مريب.
في قلبه مرض : في قلبه ريبة وفجور.
وقلن قولا معروفا : قولا حسنا لطيفا بعيدا عن الريبة.
ثم بين لهنّ أنهن لسن كغيرِهن من النساء بقوله تعالى :﴿ يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾.
ليس هناك جماعة من النساء تساويكن في الفضل والكرامة، لأنكن أَزواج خاتَم النبييّن، وأمهات المؤمنين، وهذه منزلةٌ عظيمة لم يتشرّف بها أحدٌ من النساء غيركن.
ولذلك نهاهنّ الله عن الهزل في الكلام إذا خاطبهنّ الناس، حتى لا يطمع فيهنَّ منْ في قلبه نِفاق، ثم أمَرَهنّ أن يقُلن قولاً معروفا بعيداً عن الريبة.
التبرج : إظهار الزينة.
الجاهلية الأولى : الجاهلية القديمة التي لا تعرف دينا ولا نظاما.
ليُذهب عنكم الرجس : الإثم والذنب.
وهذا أمرٌ من الله أن يلزمن بيوتَهن، وأن لا يظهِرن زينتهن ومحاسنَهن كما يفعل أهل الجاهلية الأولى. ثم أمرهنّ بأهم أركان الدين، وهو إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإطاعة الله ورسوله.
﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ :
ليُذهب عنكُم كلَّ دَنَس وإثمٍ يا أهلَ بيت النبي الكريم ويجعلكم طاهرين مطهَّرين.
قراءات :
قرأ عاصم ونافع :﴿ وقَرن ﴾ بفتح القاف، والباقون :﴿ وقِرن ﴾ بكسر القاف.
والحكمة : ما ينطق به الرسول من السنة والحديث.
ثم أمرهن بتعلُّم القرآن وتعليمه لغيرِهن، وأن يستوعبن ما يقول الرسولُ الكريم من الحكمة المبثوثة في سُنَّته، لأن الناس سيهرَعون إليهن ليأَخذوا منهنَّ ما سمعنَه منه.
القنوت : الطاعة في سكون.
الصبر : تحمل المشاق والمكاره والعبادات والبعد عن المعاصي.
الخشوع : السكون والطمأنينة.
أعدّ الله لهم مغفرة : هيأ لهم الرحمة والغفران واحسن الجزاء.
ذكر الله تعالى في هذه الآية عشر صفات من صفات المؤمن المخلص الصادِق الإيمان، وهي الإسلام، والإيمان، والقنوت، والصدق، والصبر، والخشوع، والتصدُّق، والصوم، وحفظ الفرْج، وذِكر الله كثيرا.
فهذه الصفات تجعلُ من يتحلّى بها من المؤمنين رجلا مثاليا أو امرأة مثالية. ويلاحَظ أن الله تعالى لم يفرّق بين المرأة والرجل، فالكل سواء في العمل والإيمان والأجر والكرامة وأيّ منزلة أرفعُ من هذه المنزلة للمرأة، فهي تُذكر في الآية بجنب الرجل، مع رفع قيمتها، وترقية النظرة إليها في المجتمع وإعطائها مكانها اللائق في التطهر والعبادة والسلوك القويم في الحياة.
الخيرة : الاختيار.
مبينا : ظاهرا.
ليس الاختيار بيد الإنسان في كل شيء، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمنٍ ولا لمؤمنة فيها وهي ما حَكَمَ اللهُ فيه، فما أمر به فهو المتّبع، وما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فهو الحقّ، ومن يخالفْ ما حكم به الله ورسوله ﴿ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ﴾.
نزلت هذه الآية في زينبَ بنتِ جحش، ابنة عمةِ النبي عليه الصلاة والسلام، فقد خطَبها الرسول الكريم ليزوّجها من زيد بن حارثة مولاه، فلم يقبل أخوها عبدُ الله أن تكون أختُه وهي قرشية هاشمية، تحت عبدٍ اشترته خديجةُ ثم أعتقه الرسول الكريم.
وقد أصر الرسول عليه الصلاة والسلام على تزويجها من زيدٍ لإزالة تلك الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبيّات، ولهدْم تقاليد العرب القديمة.
فلما نزلت هذه الآية أذعَن عبدُ الله وأختُه زينب وقبلت أن تتزوج زيدا. ولم ينجح هذا الزواج. فقد تطاولت زينب على زوجها وجعلت تتكبر عليه، وتعيّره بأنه عبد رقيق، وهي قرشية. وآذتْه بفخرها عليه، واشتكى إلى النّبي ذلك مرارا، وطلب إليه أن يأذَن له بتطليقها فكان النبي يقول له :« أمسِك عليك زوجَك » لكن زيدا لم يُطِقْ معاشرةَ زينب فطلّقها.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة :﴿ أن يكون لهم الخيرة ﴾ بالياء، والباقون :﴿ أن ﴾ تكون بالتاء.
وأنعمتَ عليه : بالعتق والحرية.
الوطر : الحاجة.
وبعد ذلك تزوّجها الرسول الكريم، وهي ابنةُ عمته، ولأنه يريد أن يُبطِل عادة التبنّي الذي كان معمولاً به في الجاهلية. وكل ذلك بأمرٍ من الله كما جاء في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾.
فالذي أنعم الله عليه هو زيد، أنعم عليه بالإسلام، والذي أنعمت يا محمد، عليه هو زيدٌ أيضا، أنعمتَ عليه بالعتق من الرق وجعلته حراً. وتخفي يا محمد، في نفسِك
ما سيُظهره الله من أن زيدا سوف يطلق زينب وإنك ستتزوجها بأمر الله. هل تخاف أن يعيّرك الناس أنك تزوّجت امرأة ابنِك ( وكان يقال له زيد بن محمد ) ؟ إن الله وحده هو الذي يجب أن تخشاه، فإنك أنت القدوة في كل ما أمر الله به، وما ألقى عليك أن تبلّغه للناس، فلتكن أيضا القدوةَ فيما أبطلَ الشارعُ الحكيم من الحقوق المقررة للتبني والادعاء وفي ذلك نزل قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً ﴾.
فرض الله له : قدر الله له.
خلَوا : مضوا.
قَدَرا مقدورا : قضاء مقضيا.
وقد قامت قيامة المبشّرين والمستشرقين لهذا الحادث وكتبوا فيه وأوّلوا وأطلقوا لخيالهم العِنان، وهم يعلمون حقَّ العلم أن الرسول الكريم كان مبشّرا ونذيراً ومعلّماً وداعيا إلى الله بإذنه ومشرعاً يريد أن يهدِم عاداتِ الجاهلية، ولذلك يقول تعالى :﴿ مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ :
ما كان على النبي من إثمٍ في عمل أمره الله به، فلا حرجَ في هذا الأمر، وليس النبي فيه بِدعاً بين الرسل، فهو أمرٌ يمضي وَفقَ سنّة الله التي لا تتبدل في الأنبياء الذي مضوا.
كفى أن يكون الله الرقيبَ المحاسب، فهو وحده يحاسبهم.
قراءات :
قرأ عاصم وحده :﴿ خاتَم ﴾ بفتح التاء، والباقون :﴿ خاتم ﴾ بكسر التاء.
وسبّحوه كلَّ وقت، ولا سيمّا أول النهار وآخره.
ولا يحفل بأذاهم، وأن يتوكل على الله وحده ويفوّض أمره إليه كما أَمَرَه في مطلع السورة،
﴿ وكفى بالله وَكِيلاً ﴾.
من قبل أن تمسّوهن : من قبل أن تدخلوا بهن.
فمتِّعوهن : أعطوهن ما يخرج من نفوسكم من المال لتطيب به نفوسهن.
ثم يبين تشريعاً مهماً لحفظ الأُسرة، وكرامة المرأة وحفظ حقوقها بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ :
في هذه الآية الكريمة أمران :
الأول : إذا عقدتم عقدكم على امرأة ثم لم يحصَل وِفاق وطلقتموها قبل الدخول فليس عليها عِدّة.
الثاني : على المطلّق أن يمّتعِ المطلقةَ بشيء من المال حسب قُدرته حتى يطيبَ خاطرُها وليكون في ذلك بعضُ السلوة لها عما لحِق بها من أذى الطلاق.
﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾.
سبق في سورة البقرة نفس الموضوع في قوله تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ..... ﴾ [ الآية : ٢٣٦ و ٢٣٧ ].
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ من قبل أن تُماسّوهن ﴾ بضم التاء وألف بعدها، الباقون : ﴿ تمسوهن ﴾ بفتح التاء من غير ألف بعدها.
وما ملكت يمينُك : من الإماء التي جاءتك من المغانم.
خالصةً لك : خاصة بك.
حرج : ضيق، مشقة.
في هذه الآية الكريمة يبيّن الله لرسوله الكريمِ ما يحِلّ له من النساء، وما في ذلك من خصوصية لشخصِه الكريم ولأهل بيته.
يا أيها النبي : إنا أحللنا لك أزواجَك اللاّتي أعطيتهن مهورَهن، وأحللنا لك ما ملكتْ يدُك من الجواري، ويجوز لك أن تتزوج من بناتِ عمك، وبناتِ عماتك، وبناتِ خالك وبناتِ خالاتك اللاتي هاجرْن معك.
ويجوز لك أن تتزوّج امرأةً مؤمنة إن وهبتْ نفسَها لك بلا مهر.
وهذه الإباحةُ خالصة لك من دون المؤمنين، أما غيْرك من المؤمنين إن وهبْت امرأةٌ نفسها له فيجوز أن يتزوجها بمهر المثل.
﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ من شروط العقد الشرعي.
لقد أحلَلنا لك ذلك لِكَيلا يكونَ عليك حَرَجٌ في نِكاح من تريدُ من الأصنافِ التي ذُكرتْ، ﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
تؤوي إليك : تسكن معك.
ومن ابتغيتَ ممن عزلتَ : ومن طلبتَ ممن أبعدت من نسائك.
ذلك أدنى أن تقر أعينهن : ذلك أقرب أن تسر نفوسهن.
يخّير الله الرسول الكريم في هذه الآية بأن يدنيَ إليه من يشاءُ من نسائه ويؤخّر منهنّ من يشاء. وإذا أراد أن يطلب واحدةً كان أبعدَها فله الخيارُ في ذلك دون حَرَجٍ أو تضييق عليه. وكلُّ ذلك حتى يكنَّ مسرورات قريراتِ الأعين، ولا يحزنّ بل يرضين بما قَسَم بينهن، ويعلمن أن هذا كلَّه بأمرِ الله وترخيصِه لرسوله الكريم.
روى ابن جرير عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير السابقةُ خاف نساء النبي أن يطلّقهن فقلن : يا رسول الله، لنا من مالك ومن نفسِك ما شئت، ودعنا كما نحنُ، فنزلت هذه الآية، فأرجأ رسول الله خمساً من نسائه وهن : أم حبيبة، وميمونة، وصفية، وجويرية، وسودة، فكان لا يقسم بينهن ما شاء، يعني لم يجعل دورا في المبيت عندَهن منتظَما.
وآوى إليه أربع نساء هن : عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، وكان يقسِم بينّهن على السواء، لكل واحدة ليلة.
﴿ والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ ﴾ من الميل إلى بعضِهن دون بعض مما لا يمكن دفعُه، ﴿ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً ﴾.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم :﴿ ترجئ ﴾ بالهمزة، والباقون :﴿ ترجي ﴾ بدون همزة.
لا يحِل لك النساء بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك، ولا أن تستبدلَ بهن أزواجا غيرهن، مهما كانت الواحدةُ بارعةً في الحسَب والجمال، إلا ما ملكتْ يمينك من الجواري، وكان الله على كل شيء مطّلعا.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وحده :﴿ لا تحل لك النساء ﴾ بالتاء، والباقون :﴿ لا يحل لك النساء ﴾ بالياء.
طَعِمتم : أكلتم.
فانتشروا : اذهبوا وتفرقوا.
ولا مستأنسين لحديث : لا تمكثوا بعد الطعام تتحدثون.
متاعا : أي شيء.
من وراء حجاب : من وراء حاجز.
في هذه الآية إرشادٌ وتعليم للناس كيف يدخلون بيوتَ النبي، وفي أي وقت. وقد كان بعض المنافقين يؤذون الرسولَ عليه الصلاة والسلام بالتردّد على بيوته. وكان بعَضُ أصحابه يطلبون الجلوس، فأرشدَ الله أصحابه إلى تعظيم الرسول، وعيّ الحالاتِ والأوقات التي يُسمح لهم بدخول بيوته، وأدّبهم خير تأديب.
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهن عن أنس رضي الله عنه قال :« لما تزّوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جحش دعا القومَ إلى طعام، فأكلوا ثم جلسوا يتحدّثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قامَ، فلما قام ذهب جماعةٌ وبقي ثلاثةُ نفر، فجاء النبي ليدخلَ فإذا القومُ جلوس. ثم إنهم قاموا، فانطلقتُ فأخبرتُه بذهابهم.... ».
يا أيها الذين آمنوا، لا تدخلوا بيوت النبي إلا إذا أذن لكم، أو دعاكم إلى طعام، فإذا دعيتم إلى طعام فلا تأتوا مبكرين لتنتظروا نضجه، بل ادخلوا عندما يكون قد تم إعداده فقبلَ ذلك يكون أهل البيت في شغل عنكم.
فإذا دعيتم فلبوا الدعوة، وإذا أكلتم الطعام فتفرقوا واخرجوا ولا تطيلوا الجلوس وتمكثوا تتحدثون. فإن ذلك كان يؤذي النبي ويستحي منكم، والله لا يستحي من الحق. وقد سمى بعض المفسرين هذه الآية آية الثقلاء، وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها :« حسبك في الثقلاء أن الله عز وجل لم يحتملهم ».
ثم علّمهم كيف يسألون نساء النبي ويتأدبون معهن، فقال :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾.
وذلك أعظم طهارةً لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان.
ولما ذكر الله تعالى بعض الآداب التي يجب أن يراعوها في بيت رسول الله أكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله ﴾، ولا أن تتزوجوا نساءه من بعده أبدا، احتراما لهن لأنهنّ أمهات المؤمنين.
﴿ إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾ : ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الشديد، وعظيم التهديد على هذا العمل.
وما ملكت أيمانهن من العبيد، وعليهن أن يتقين الله، إن الله كان على كل شيء شهيدا.
يا أيها المؤمنون : ادعوا له بالرحمة، وأظهروا شرفه بكل ما تصل إليه قدرتكم.
وفي الحديث :« سئل رسول الله عن الغِيبة فقال : ذِكرك أخاك بما يكره. قيل : أرأيت إن كان فيه ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه ».
يُدنين : يُسدلِن.
أدنى أن يُعرفن : أقرب أن يميَّزن من الإماء والفتيات.
لم يكن في منازل المدينة مراحيض، فكان النساء يخرجن ليلا لقضاء الحاجة في البساتين وبين النخيل، وكان الإماء والحرائر يخرجن في زِيّ واحد، وكان فسّاق المدينة من المنافقين وغيرهم يتعرضون للإماء، وربما تعرضوا للحرائر، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة إذا خرجن لحاجتهن أن يتسترن بلبس الجلابيب ويسترن أجسامهن ما عدا الوجه والكفين، ﴿ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ﴾. فعلى المسلمة إذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها ولا تبدي شيئاً من مواضع الفتنة.
﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ لما سلف في أيام الجاهلية.
لنغرينك بهم : لنسلطنك عليهم.
ولما كان الذي يحصل من المنافقين وشياطينهم ومن على شاكلتهم حذرّهم الله بقوله :
﴿ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ :
توعّد الله في هذه الآية ثلاثة أصناف من الناس وهم : المنافقون الذين يؤذون الله ورسوله ومن في قلوبهم مرض من فساق المدينة الذين يؤذون المؤمنين باتباع نسائهم، والمرجفون وهم اليهود الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بترويج الإشاعات الكاذبة والتشويش على المؤمنين. وأنهم إذا لم ينتهوا سلّط عليهم الرسولَ وأصحابه فيقاتلونهم ويخرجونهم من المدينة.
ثم بين ما آل إليه أمرهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فقال :﴿ مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً ﴾ :
مستحقين اللعنة والطرد أينما وجدوا أخُذوا وقتّلوا تقتيلا، عقوبةً لهم.
وما يدريك : وما يعرّفك بوقتها.
يسألك الناس عن وقت قيام الساعة، قل لهم : إن علمها عند الله وحده، ولعل وقتها يكون قريبا. وقد كثر في القرآن الحديث عن اقتراب الساعة :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾ سورة القمر ( ١ ) ﴿ وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أو هُوَ أَقْرَبُ ﴾ [ النحل : ٧٧ ]. ﴿ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [ النحل : ١ ] ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ ﴾ [ الشورى : ١٧ ]. وفي هذا كله تهديد للمستعجلين المستهزئين، والمتعنتين الغافلين عنها، وقد أبقى الله علمها عنده حتى يبقى الناسُ على حذر من أمرها، وفي استعداد دائم لمفاجأتها، ذلك لمن أراد الله به الخير.
إن الله طرد الكافرين من رحمته وهيأ لهم نارا شديدة متوقدة.
كبراءنا : علماءنا وزعماءنا.
ثم يتذكرون سادتهم ورؤساءهم، فتنطلق من نفوسهم النقمة عليهم وينادون ربهم بقولهم : ربنا، لقد أطعنا رؤساءنا وكبراءنا فأضلونا السبيلَ وأبعدونا عن الصراط المستقيم.
قراءات :
قرأ ابن عامر ويعقوب :﴿ ساداتنا ﴾ بألف بعد الدال، والباقون :﴿ سادتنا ﴾.
﴿ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً ﴾ : هذه هي الساعة وتلك هي القيامة، وهذا مشهد من مشاهدها.
قراءات :
قرأ عاصم وابن عامر :﴿ لعنا كبيرا ﴾ بالباء، والباقون :﴿ كثيرا ﴾ بالثاء.
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تؤذوا الرسول بقول يكرهه، ولا بفعلٍ لا يحبه، كالذين آذاوا موسى فرمَوه بالغيب كذباً وباطلا، فبرأه الله مما قالوه عنه من الزور، وكان موسى عند الله ذا وجاهة وكرامة.
روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال :« قَسَمَ رسول الله ذات يوم قَسْما، فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فاحمر وجه النبيّ ثم قال رحمة الله على موسى، رُمي بأكثر من هذا فصبر ».
لقد أمر الله المؤمنين في ختام هذه السورة أن يصدُقوا في قولهم ويتقوا الله في عملهم.
أشفقن منها : خفن منها.
حَمَلها الإنسان : كان مستعدا لها.
ظلوما : جهولا، كثير الجهل.
ثم ختم السورة بتعظيم أمر الأمانة، وضخامة تبعتها، وما فيها من تكاليف شاقة وأن السماوات والأرض والجبال أشفقن منها، وأن هذا الإنسان الضعيف حملها وكان مستعداً لها وقام بأعبائها، إنه كان شديد الظلم لنفسه، جهولا بما يطيق حمله، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات وقلة العلم، وقصر العمر.
وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذِّب الله من خانها وأبى الطاعة والانقياد لها، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات، والله كثير المغفرة واسع الرحمة.