مدنية، وآياتها ست وسبعون ومائة
ﰡ
﴿ خلقكم من نفس واحدة ﴾هي آدم عليه السلام. وذلك من أظهر الأدلة على كمال القدرة، وأقوى الدواعي إلى اتقاء موجبات نقمته، وإلى مراعاة حقوق الأخوة فيما بينكم. وخلق من آدم زوجه حواء كما قال تعالى :﴿ وجعل منها زوجها ليسكن إليها ﴾.
﴿ والأرحام ﴾واتقوا الأرحام أن تقطعوها فلا تصلوها بالبر والإحسان. جمع رحم، وهي القرابة، مشتقة من الرحمة، لأن القرابة من شأنهم أن يتراحموا، وبعطف بعضهم على بعض.
﴿ رقيبا ﴾حافظا يحصى كل شيء، من رقبه إذا حفظه. أو مطلعا، ومنه : المرقب للمكان العالي الذي يشرف منه الرقيب ليطلع على ما دونه. وإذ كان الله رقيبا وجب أن يخاف ويتقى.
﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ﴾مما يجب تقوى الله تعالى فيه : اليتامى والنساء والصغار. أي اتركوا أموال اليتامى التي في تصرفكم سالمة غير متعرضين له بسوء، حتى تؤدوها إليهم حين بلوغهم الرشد كاملة.
﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ﴾لا تأكلوها مع أموالكم، أي لا تسووا بينهما في الانتفاع، وهذا حلال وذاك حرام. والمراد : تحريم التصرف فيها بسائر التصرفات الضارة باليتامى. وخص الأكل بالذكر لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.
﴿ حوبا كبيرا ﴾إثما عظيما. اسم مصدر من حاب يحوب حوبا، إذا اكتسب إثما. ويطلق الحوب على الهلاك والبلاء
﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا.. ﴾كانت اليتيمة في الجاهلية تكون في حجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ويريد التزوج بها دون أن يعدل في صداقها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يعدلوا فيهن بإكمال الصداق رعاية ليتمهن. وأمروا أن ينكحوا من غيرهن ما حل لهم، ومالا تحرج منه من النساء.
والمعنى : وإن خفتم أيها الأولياء الجور والظلم في نكاح اليتامى اللاتي في ولاتكم فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء. وقد علم الله تعالى أن مصلحة الرجال والنساء- بل مصلحة المسلمين- قد تستدعي تعدد الزوجات، بل قد توجبه في بعض الحالات. وعلم أن التعدد المطلق مظنة الجور والفساد، فأباح التعدد وحدد غايته بأربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن. وقيد الإباحة بالعدل بينهن فيما يستطيع الإنسان العدل فيه بحسب طاقته البشرية، فإن عجز عنه لم يبح التعدد. وقوله :﴿ مثنى ﴾أي اثنتين اثنتين، و﴿ ثلاث ﴾أي ثلاثا ثلاثا، و﴿ رباع ﴾أي أربعا أربعا. وهو كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال، وهو ألف.
درهم : درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، فيصيب كل واحد ما أراد من العدد بعد قصره على أربعة، وعدم جواز الزيادة عليه. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم غيلان الثقفي حين أسلم وأسلم نسوته- وكن عشرا-أن يختار أربعا منهن ويفارق سائرهن.
﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا ﴾أي فإن علمتم أنكم لا تعدلون بين الأكثر من الواحدة في القسم والنفقة وحقوق الزوجية بحسب طاقتكم، كما علمتم في حق اليتامى أنكم لا تعدلون، فالزموا زوجة واحدة. ومفهومه : إباحة الزيادة على الواحدة إذ أمن الجور فيما ذكر.
﴿ ذلك أدنى ألا تعولوا ﴾أي اختيار الواحدة والتسري أقرب من ألا تميلوا الميل المحظور المقابل للعدل. و العول في الأصل : الميل المحسوس. يقال : عال الميزان عولا إذا مال. ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور، ومنه : عال الحاكم إذا جار. وقيل :( ألا تعولوا )أي لا تكثر عيالكم. يقال : عال يعول، إذا كثر عياله.
﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ﴾أعطوهن مهورهن عطية عن طيبة نفس منكم، والخطاب للأزواج. والصدقات : جمع صدقة-بفتح فضم، وهي كالصداق-، ما يعطى للزوجة من المهر، ويسمى أجرا وفريضة. والنحلة في الأصل : العطية على سبيل التبرع. يقال : نحله كذا نحلة ونحلا، إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا مقابلة عوض.
﴿ هنيئا مريئا ﴾أي أكلا سائغا حميد المغبة، والمراد أنه حلال خالص من الشوائب. يقال : هنئ الطعام وهنؤ هناءة، وهنأني الطعام وهنأ لي يهنئني ويهنئوني، صار هنيئا أي سائغا. ومرأ الطعام-مثلثة الراء- مراءة فهو مرىء، هنئ حميد المغبة.
﴿ ولا تؤتوا السفهاء ﴾نهى الأولياء عن إيتاء السفهاء من اليتامى أموالهم التي جعلها الله مناط تعيشهم، خشية إساءة التصرف فيها لخفة أحلامهم. وأضيفت الأموال إلى الأولياء للتنبيه إلى أن أموال اليتامى كأنها عين أموالهم، مبالغة في حملهم على وجوب المحافظة عليها.
﴿ وابتلوا اليتامى ﴾خطاب للأولياء. أي اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأموال، وحسن التصرف فيها، وجربوهم بما يليق بأحوالهم. وزاد بعض الأئمة : تعرف صلاحهم في دينهم.
﴿ ولا تأكلوها إسرافا ﴾لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم، بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا : ننفقها كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا. والإسراف : التبذير، ضد القصد. والبدار : المبادرة والمسارعة إلى الشيء. و( يكبر ) مضارع كبر، من باب تعب، يستعمل في السن.
﴿ وكفى بالله حسيبا ﴾شهيدا عليكم في كل ما تعملونه. أو محاسبا لكم، فلا تخالفوا ما أمرتم به. يقال : حسبه يحسبه حسبا، إذا عده، وهو حال أو تمييز. وفاعل ( كفى ) : الاسم الجليل، والباء زائدة.
﴿ للرجال نصيب مما ترك ﴾أوجب الله تعالى للذكور من الأولاد، وللإناث منهم : نصيبا مما تركه الوالدان و الأقربون من المال، قليلا أو كثيرا، وقد بينه الله فيما يأتي من الآيات. وكانوا لا يورثون النساء والصغار. ﴿ نصيبا مفروضا ﴾أي واجبا. أو مقتطعا محدودا.
﴿ فارزقوهم منه ﴾أي ارضخوا من مال المتوفى للقرابة غير الوارثين، ولليتامى والمساكين الأجانب منه قبل قسمته. وهو أمر ندب واستحباب، تطييبا لقلوبهم وتصدقا عليهم.
﴿ وليخش الذين لو تركوا ﴾أمر الله الذين يخافون على ذريتهم الضعفاء العيلة والضيعة من بعدهم، وألا يحسن إليهم من يليهم –أن يخشوه ويتقوه فيمن يتولون أمرهم من اليتامى، ويقولوا لهم قولا جميلا، هاديا لهم إلى محاسن الآداب والأفعال، وإلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، كما يقولون ذلك لأولادهم. يقال : سد يسد سدادا وسدودا، أصاب في قوله وفعله، فهو سديد، وأمر سديد وأسد : قاصد.
﴿ وسيصلون سعيرا ﴾سيدخلون نارا هادئة جزاءا أكلهم أموال اليتامى ظلما. يقول : صليت الرجل نارا، إذا أدخلته فيها وجعلته يصلاها. وصليت اللحم وغيره- من باب رمى-إذا شويته. والسعير : الجمر المشتعل، من سعرت النار-كمنع-و أسعرتها وسعرتها، إذا أوقدتها وألهبتها.
﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ في هذه الآية والتي بعدها وآية١٧٦ من هذه السورة بيان الفرائض. أي يفرض الله عليكم في شأن أولادكم ما بينه لكم. ﴿ فإن كن نساء فوق اثنتين ﴾وكذلك ميراث الاثنتين، كما قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنتي سعد بن الربيع. ﴿ فلأمه الثلث ﴾أي والباقي للأب تعصيبا. فإذا كان معها أحد الزوجين كان للأم ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة، وثلثاه للأب. ﴿ فلامه السدس ﴾والباقي للأب. ولا ميراث للإخوة لحجبهم بالأب.
﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين ﴾أي أن هذه الفرائض إنما تقسم بعد قضاء الدين وإخراج وصية الميت من الثلث. وقدمت الوصية على الدين في التلاوة مع تأخرها في الحكم لإظهار كمال العناية بتنفيذها، لكونها مظنة التفريط في الأداء. ﴿ فريضة ﴾أي فرض ذلك فرضا من الله العليم الحكيم فيما فرض وقدر.
﴿ وإن كان رجل يورث كلالة ﴾تطلق الكلالة على الميت الذي لم يخلف ولدا ولا والدا، وعلى الوارث الذي ليس بولد ولا والد للميت. والأول قول على وابن مسعود، لأنه مات عن ذهاب طرفيه فكل عمود نسبه، من الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء والضعف. والثاني قول سعيد بن جبير، لأن هؤلاء الوارثين يتكللون الميت من جوانبه، وليسوا في عمود نسبه، كالإكليل يحيط بالرأس ووسط الرأس منه خال، من تكلله الشيء إذا أحاط به. و﴿ رجل ﴾اسم كان، وجملة﴿ يورث ﴾خبرها، و﴿ كلالة ﴾حال من الضمير في ﴿ يورث ﴾أي وإن كان رجل موروثا حال كونه كلالة، على المعنى الأول. أو حال كونه ذا كلالة، أي ذا وارث هو كلالة، على المعنى الثاني، و﴿ امرأة ﴾عطف على﴿ رجل ﴾.
﴿ وله أخ أو أخت ﴾أي لأم، باتفاق. ويؤيده قراءة سعد بن أبي وقاص :﴿ وله أخ أو أخت من أم ﴾.
﴿ تلك حدود الله ﴾إشارة إلى الأحكام التي تقدمت في شأن اليتامى والوصايا والمواريث. وسميت حدودا لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتخطوها إلى غيرها.
﴿ مهين ﴾مذل، من الهوان وهو الذل.
﴿ واللاتي يأتين الفاحشة ﴾والنساء اللاتي يفعلن الفاحشة وهي الزنى. وأصل الفاحشة : ما عظم قبحه حتى بلغ الغاية في جنسه من الأقوال والأفعال. والمراد بالنساء : الزوجات : عند الجمهور.
﴿ أو يجعل الله لهن سبيلا ﴾أي مخرجا من هذه العقوبة، وقد جعله الله تعالى بما شرعه من الحد، فالزانى البكر : يجلد. والزانى الثيب : يرجم. وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك الأسلمي والغامدية، وكانا محصنين.
﴿ واللذان يأتيانها منكم ﴾أي والزانى والزانية من رجالكم ونسائكم، اللذان يأتيان هذه الفاحشة، فآذوهما بالتغيير والتوبيخ أو بهما، وبالضرب بالنعال والمراد بهما : البكران اللذان لم يحصنا. وقيل : المراد بالنساء في الآية الأولى جنس النساء، وبقوله :﴿ واللذان ﴾في الآية الثانية الرجلان يفعلان اللواط، وهو رواية عن مجاهد. والحكم منسوخ بالحد المفروض. وذهب أبو مسلم الأصفهاني : إلى أن الآية الأولى في السحاقات اللاتي يستمتع بعضهن ببعض، وحدهن الحبس. والثانية في اللائطين، وحدهما الإيذاء. وأما حكم الزنى ففي سورة النور، وزيفه الآلوسي، واختاره بعض المفسرين.
﴿ إنما التوبة على الله... ﴾أي إنما التوبة المقبولة عند الله : هي توبة الذين يعملون السيئات جهالة
وسفها. ﴿ ثم يتوبون ﴾إلى الله تعالى منها وهم في فسحة من العمر قبل وقت الاحتضار والغرغرة، ولا توبة تقبل منهم إذا تابوا في هذا الوقت، لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار. وكذلك لا تقبل توبة الذين يموتون على الكفر، فلا ينفعهم الندم ولا يقبل منهم الفداء ولو بملء الأرض.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:﴿ إنما التوبة على الله... ﴾أي إنما التوبة المقبولة عند الله : هي توبة الذين يعملون السيئات جهالة
وسفها. ﴿ ثم يتوبون ﴾إلى الله تعالى منها وهم في فسحة من العمر قبل وقت الاحتضار والغرغرة، ولا توبة تقبل منهم إذا تابوا في هذا الوقت، لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار. وكذلك لا تقبل توبة الذين يموتون على الكفر، فلا ينفعهم الندم ولا يقبل منهم الفداء ولو بملء الأرض.
﴿ لا يحل لكم أن ترثوا النساء ﴾أي تأخذوهن على سبيل الإرث، كما يؤخذ المال الموروث بعد موت أزواجهن مكرهين لهن على ذلك، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية. و﴿ كرها ﴾-بالفتح والضم-بمعنى واحد. والخطاب لأقارب الميت. ﴿ ولا تعضلوهن ﴾نهى للأزواج عن إمساك النساء من غير حاجة لهم إليهن، مضارة ومضايقة لحملهن على الاختلاع بمهورهن، من العضل، وهو التضييق والمنع. يقال : عضلت الدجاجة ببيضها، والمرأة بولدها : إذا تعسر خروجهما.
﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾استثناء متصل من أعم العلل. أي لا تعضلوهن لعلة من العلل، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أخلاقهن، وكاشفة عن أحوالهن، وهي النشوز وسوء الخلق، وإبذاء الزوج وأهله بالبذّاء وفحش القول ونحوه، فلكم العذر في طلب الخلع منهن، وأخذ ما آتيتموهن من المهر لوجود السبب من جهتهن. والأصل في الباب قوله تعالى :﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناج عليهما فيما افتدت به ﴾ وقوله :﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾.
﴿ أتأخذونه بهتانا ﴾ظلما أو باطلا. وأصله الكذب الذي يبهت المذوب عليه. أو الباطل الذي يتحير من بطلانه، وكان الرجل إذا أراد التزوج بأخرى بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها من المهر، ليصرفه في زواج الأخرى، فرحم ذلك عليهم.
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ﴾كانوا في الجاهلية يتزوجون بزوجات آبائهم، فنهاهم الله عنه بهذه الآية، وعفا عما قد سلف قبل نزولها. وقد وصفه الله تعالى بأنه فاحشة، أي أمر مستقبح غاية القبح، وبأنه مقت. وأصله بغض مقرون باستحقار حصل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه. وكانوا في الجاهلية يسمون الولد الذي يأتي به الرجل من زوجة أبيه : المقتي. ثم قال :﴿ وساء سبيلا ﴾أي طريقا يسلكه الأبناء.
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم.... ﴾جملة المحرمات من النساء بنص الكتاب أربعة عشر صنفا : سبع بالنسب من قوله﴿ أمهاتكم ﴾إلى قوله ﴿ وبنات الأخت ﴾، وسبع بالسبب من قوله﴿ وأمهاتكم اللاتي أرضعناكم ﴾إلى قوله﴿ والمحصنات من النساء ﴾. وقد ثبت بالسنة تحريم أصناف أخر، كالجمع بين المرأة وعمها، وبين المرأة وخالتها، ونكاح المعتدة، ونكاح الخامسة لمن كان عنده أربع.
والأمهات تعم الجدات حيث كن، لأن الأم هي الأصل، كأم الكتاب. ﴿ وبناتكم ﴾المراد بهن الفروع. ﴿ وأمهات نسائكم ﴾زوجاتكم. وحرمتهن بمجرد العقد عند الجمهور. ﴿ وربائبكم ﴾جمع ربيبة، بمعنى مربوبة، ولحقتها الياء لصيرورتها اسما، وهي بنت امرأة الرجل من زوج آخر، وسميت ربيبة لأن الزوج يربها ويسوسها كما يرب وليده غالبا. وقوله :﴿ اللاتي في حجوركم ﴾أي في تربيتكم، وصف لبيان الشأن الغالب في الربيبة فلا مفهوم له. وإنما تحرم الربيبة بالدخول بالأم، لا بمجرد العقد
عليها. ﴿ وحلائل أبنائكم ﴾أي وزوجات أبنائكم. جمع حليلة، وهي الزوجة. ويقال للزوج حليل.
﴿ والمحصنات من النساء ﴾أي وحرمت عليكم ذوات الأزواج من النساء قبل مفارقة أزواجهم لهن. سمين محصنات لأن الأزواج أحصنوهن عن الفاحشة. أو هن أحصن أنفسهن عنها، من الإحصان، أعفت، فهي حاصن وحاصنة وحصان. وأحصنها زوجها فيه محصنة. ويقال : رجل محصن، إذا تزوج.
﴿ إلا ما ملكت أيمانهم ﴾استثناء من تحريم نكاح ذوات الأزواج. والمراد به المسببات اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الحرب، فيحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء، لارتفاع النكاح بينهن وبين أزواجهن بمجرد السبي، أو بسبيهن وحدهن دون أزواجهن.
﴿ كتاب الله عليكم ﴾أي كتب الله عليكم تحريم هذه المحرمات المذكورات كتابا، وفرضه فريضة.
﴿ محصنين غير مسافحين ﴾محصنين أنفسكم بمن تطلبوهن بأموالكم من الاستمتاع المحرم، غير زانين. فالمراد بالإحصان هنا : العفة، وتحصين النفس من الوقوع في الفاحشة. وبالسفاح : الزنى : من السفح وهو صب الماء وسيلانه، وسمي به الزنى لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقد دون النسل. و﴿ محصنين ﴾و﴿ غير مسافحين ﴾حالان من فاعل﴿ تبتغوا ﴾.
﴿ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ﴾فرض الله تعالى على الأزواج الذين ابتغوا الزوجات محصنين غير مسافحين أن يعطوهن مهورهن عوضا عن انتفاعهم بهن. ومعلوم أن النكاح الذي يحقق الإحصان ولا يكون الزوج به مسافحا، هو النكاح الصحيح الدائم المستوفي شرائطه. فبطل نكاح المتعة بهذا القيد، لأنه لا يحقق الإحصان، ولا يقصد به إلا سفح الماء وقضاء الشهوة.
وجملة القول في المتعة : أنها أحلت في السفر للضرورة، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح
مكة، وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثم حرمت بعد ثلاث تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، كما في حديث سيرة بن معبد الجهني، وعليه انعقد إجماع الأئمة. وما نسب إلى ابن عباس من حلها مطلقا غير صحيح، فإنه ما كان يحلها إلا للمضطر، وكان يقول : ما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير. على أنه قد صح رجوعه عن القول بحلها بقوله-فيما رواه الترميذي والبيهقي والطبراني- : إن المتعة كانت في أول الإسلام حتى نزلت الآية :﴿ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ﴾ فكل فرج سواهما فهو حرام.
﴿ طولا ﴾غنى وسعة. وهو كناية عما يصرف إلى المهر والنفقات. ﴿ أن ينكح المحصنات ﴾أي الحرائر، بدليل مقابلتهن بالمملوكات. وعبر عنهن بذلك لأن حرمتهن أحصنتهن عن نقص الإماء.
﴿ وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾أي أدوا إلى مواليهن مهورهن عن طيب نفس منكم، دون مطل أو مضارة، ولا تبخسوا منه شيئا استهانة بهن لكونهن مملوكات.
﴿ محصنات غير مسافحات ﴾عفائف غير معلنات بالزنى، ولا متخذات أصدقاء يزنون بهن سرا.
جمع خدن، وهو الصاحب والخليل. وكانوا في الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنى ويستحلون ما خفي منه، فرحمها الله بقوله :﴿ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾. و﴿ محصنات ﴾ منصوب على الحال من المفعول في قوله :﴿ فانكحوهن ﴾. ﴿ ذلك لمن خشي العنت ﴾أي نكاح الإماء لمن خاف
الإثم بسبب غلبة الشهوة، وشق عليه الصبر عن الجماع. وأصل العنت : انكسار العظم بعد جبر، فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم.
﴿ سنن الذين من قبلكم ﴾طرائق من تقدمكم من أهل الرشد لتسلكوها. جمع سنة، وهي الطريقة.
﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ لا يصبر عن الشهوات ولا على مشاق الطاعات، فكان من رحمه الله تعالى به التخفيف عنه في التكاليف.
﴿ بالباطل.. ﴾أي بالحرام، كربا والميسر، والغصب والسرقة، وشهادة الزور، والخيانة والظلم، ونحو ذلك. ﴿ إلا أن تكون تجارة ﴾أي لكن يحل أكلها بالتجارة عن طيبة نفس كل واحد منكم. وخصت التجارة بالذكر من بين أسباب التملك لكونها أغلب وقوعا. وعن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا ). ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾لا تهلكوها بارتكاب الآثام، ومنها : أكل الأموال بالباطل، وقتل النفس بغير حق، وقتل الإنسان نفسه.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ﴾اجتناب الشيء : المباعدة عنه وتركه جانبا. وكبائر الذنوب : ما عظم منها وعظمت عقوبته، كالشرك، وقتل النفس بغير حق، ونحوه.
﴿ نكفر عنكم سيئاتكم ﴾أي صغائر ذنوبكم، بدليل مقابلتها بالكبائر. جمع سيئة، وهي الفعلة القبيحة التي تسوء صاحبها أو غيره، عاجلا أو آجلا. ضد الحسنة.
﴿ وندخلكم مدخلا ﴾مكانا حسنا، وهو الجنة. وقرئ﴿ مدخلا ﴾بفتح الميم، أي وندخلكم فتدخلون مدخلا كريما.
﴿ ولكل جعلنا موالي ﴾ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا ورثة عصبة، يرثون مما تركه الوالدان و الأقربون من المال. والعرب تسمى ابن العم مولى. أو و لكل مال مما تركه الوالدان و الأقربون جعلنا موالي، أي ورثة يلونه ويحوزونه.
﴿ والذين عقدت أيمانكم ﴾عاقدتهم أيمانكم ﴿ فآتوهم نصيبهم ﴾أي حظهم من الميراث. ويسمى عقد الموالاة، وكانوا يتماسكون بالأيدي عند المعاقدة والمحالفة. وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل الأجنبي منه على التوارث، فجعل له في بدء الإسلام السدس من جميع المال، والباقي للورثة. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾.
وذهب الحنفية إلى أنه إذا أسلم الرجل على يد رجل آخر، وتعاقدا على أن يرثه صح، وله إرثه إن لم يكن له وارث أصلا. والآية غير منسوخة.
﴿ حافظات للغيب ﴾يحفظن في غيبة أزواجهن ما يجب حفظه في النفس والمال. فاللازم بمعنى في، والغيب بمعنى الغيبة. أو حافظات لأسرار أزواجهن، وهي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة. ﴿ نشوزهن ﴾عصيانهن لكم وترفعهن عن مطاوعتكم. يقال : نشزت المرأة تنشز وتنشز، عصت زوجها وامتنعت عليه. وأصل النشوز : الارتفاع.
﴿ وإن خفتم شقاق بينهما.. ﴾أي وإن علمتم أو ظننتم شقاقا وخلافا بينهما﴿ فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ﴾لينظرا في أمرهما ويحكما بما يريانه مصلحة من الجمع أو التفريق. وقيل : لا يحكمان إلا بالجمع. واتفقوا على أنهما إذا كانا موكلين من جهة الزوجين ينفذ حكمها في الجمع والتفريق. ونقل الحافظ ابن كثير عن ابن عبد البر : أن الإجماع منعقد على نفاذ قولهما في الجمع و إن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا في نفاذه في التفرقة. والجمهور على نفاذه فيها أيضا من غير توكيل.
﴿ والجار الجنب.. ﴾أي البعيد مكانا، من الجنابة ضد القرابة. يقال : اجتنب فلان فلانا إذا بعد عنه.
وقيل : هو الذي لا قرابة في النسب بينه وبين جاره. ويقابله الجار ذو القربى، بمعنى القريب مكانا أو نسبا. والجنب يستوي في المفرد والجمع، والذكر والمؤنث. ﴿ والصاحب بالجنب ﴾الرفيق في أمر حسن، كتعلم وتجارة وصناعة وسفر. وهو الذي يصحبك في ذلك، ويكون في جنبك وجوارك.
﴿ وابن السبيل ﴾هو المسافر المجتاز بك، الذي انقطع به الطريق. أو هو الضيف يمر بك فتكرمه.
﴿ مختالا فخورا ﴾متكبرا معجبا بنفسه، يعد مناقبه، تكبرا وتطاولا على الناس.
﴿ رئاء الناس ﴾أي قاصدين إنفاقهم الرياء والسمعة، لا وجه الله تعالى، وهم المنافقون أو المشركون.
﴿ فساء قرينا ﴾مصاحبا ملازما له في الدنيا أو الآخرة. فعيل بمعنى مفاعل، كخليط بمعنى مخالط.
﴿ لا يظلم مثقال ذرة ﴾أي لا يظلم أحد شيئا ولو مقدار ذرة، وهي النمة الصغيرة الحمراء التي لا تكاد ترى. أو هي جزء من أجزاء الهباء في الكوة ونحوها. ومثقال الشيء : ميزانه من مثله، وجمعه مثاقيل. وهو مثل ضربه الله لأقل الأشياء.
﴿ لو تسوى بهم الأرض ﴾لو يدفنون فتسوى عليهم الأرض كما تسوى على الموتى.
﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى.. ﴾المراد بالصلاة هنا : إما الهيئة المخصوصة، وإما مواضعها وهي المساجد. و﴿ سكارى ﴾ : جمع سكران. والجنب : من أصابته الجنابة، ويستوي فيه الواحد والأكثر والمذكر والمؤنث. وعابر السبيل : مجتاز الطريق وهو المسافر. أو من يعبر الطريق من جانب إلى جانب.
والمعنى : لا تصلوا في حالة السكر، حتى تكونوا بحيث تعملون ما تقولون، ولا في حال الجنابة حتى
تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمموا للصلاة، أو لا تقربوا المساجد وأنتم سكارى، ولا تقربوها جنبا إلا أن تكونوا مجتازي المسجد من باب إلى آخر من غير مكث. ﴿ وإن كنتم مرضى ﴾بيان للاعذار المبيحة للتيمم ولكيفيته. والمرض المبيح له : هو الذي يمنع من استعمال الماء، مثل الجدري والجراحة التي يخشى من استعمال الماء في التلف أو زيادة المرض. ﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾أي المطمئن من الأرض، وكانوا يأتونه لقضاء الحاجة، وكنى به عن الحدث. ﴿ أو لامستم النساء ﴾أي واقعتموهن. أو ماسستم بشرتهن ببشرتكم. ﴿ فتيمموا صعيدا طيبا ﴾الصعيد : وجه الأرض البارز، ترابا كان أو غيره. وقيل التراب. والطيب : الطاهر.
﴿ الذين أوتوا نصيبا ﴾هم يهود المدينة.
﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه.. ﴾يميلونه عن مواضعه، ويجعلون مكانه غيره. أو يتأولونه على ما يشتهون، من التحريف وهو التغيير. و منه قولهم : طاعون يحرف القلوب، أي يميلها ويجعلها على حرف، أي جانب وطرف. وأصله من الحرف، يقال : حرف الشيء عن وجهه، صرفه عنه.
﴿ واسمع غير مسمع ﴾هي كلمة ذات وجهين، تحتمل معنى : اسمع. مدعوا عليك بلا سمعت، أو غير مسمع كلاما ترضاه. ومعنى : اسمع منا غير مسمع مكروها. كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء به، مضمرين إرادة المعنى الأول، وهم مظهرون له إرادة المعنى الثاني. ﴿ وراعنا ﴾وكذلك كانوا يخاطبونه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، وهي محتملة معنى : راقبنا وانتظرنا نكلمك. ومعنى السب بالرعونة والحمق. أو تنقيصه بإرادة : راعي غنمنا، مظهرين إرادة المعنى الأول، وهم يضمرون الثاني( آية ١٠٤ البقرة ص ٤١ ).
﴿ ليا بألسنتهم ﴾فتلا بها وانحرافا، يصرف الكلام عن جانب الخير إلى جانب الشر، كما كانوا يحبونه بقولهم : السام عليكم، يعنون به الموت، وأصله : لويا، من لوى الشيء- كرمى-إذا فتله. مفعول له أو حال، أي لاوين.
﴿ من قبل أن نطمس وجوها ﴾أصل الطمس : الصرف والإفساد والتحويل. وهو مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق، وردهم إلى الباطل، ورجوعهم على أعقابهم عن المحجة البيضاء. وهو نظير قوله تعالى :﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقحمون. وجعلنا من بين أيديهم سدا ﴾. وقال مجاهد : المراد طمس وجه القلب، أي من قبل أن نطمس قلوبا عن صراط الحق فنردها على أدبارها في الضلال.
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾المراد بالشرك هنا : مطلق الكفر، فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا. أي إن الله لا يغفر لكافر مات على كفره، ويغفر مادون الكفر من الذنوب والمعاصي لمن يشاء أن يغفر له ممن اقترفها إذا مات من غير توبة. فمن مات منهم بدونها فهو في خطر المشيئة، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة. وأما قوله تعالى :﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾ فمقيد بالمشيئة، وبما عدا الشرك لمن مات مصرا عليه
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع، من ادعاء اليهود أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم.
﴿ ولا يظلمون فتيلا ﴾أي مقدار فتيل، وهو الخيط الذي في شق النواة. يضرب مثلا في القلة والحقارة، كالنقير للنقرة في ظهر النواة، والقطمير لقشرتها الرقيقة وفي الكلام جملة مطوية، أي يعاقبون على ذلك التزكية عقابا عادلا، ولا يظلمون في أدنى ظلم وأصغره.
﴿ يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾الجبت في الأصل : اسم صنم، واستعمل في كل معبود غير الله تعالى. والطاغوت : يطلق على كل باطل، وعلى كل ما عبد من دون الله، أو كل من دعا إلى ضلالة. أي يصدقون بأنهما. آلهة ويشركونهما في العبادة مع الله تعالى. أو يطيعونهما في الباطل.
﴿ أم لهم نصيب من الملك ﴾أي بل ألهم. والمعنى ليس لهم نصيب من الملك ألبتة. وإذا كان لهم منه نصيب فهم من شدة الحرص والبخل بحيث لو أوتوا شيئا منه لما أعطوا الناس منه أقل قليل، وقد كني عنه بالنقير.
﴿ أم يحسدون الناس.. ﴾ثم وصفهم الله تعالى بالحسد بعد وصفهم بالبخل، والحسود يتمنى زوال النعم على العباد. والمراد من الناس : النبي صلى الله عليه وسلم، أو هو والمؤمنون، أو العرب عامة.
﴿ الكتاب والحكمة ﴾الكتاب : التوراة والإنجيل، أو هما والزبور. والحكمة : النبوة، أو إتقان العلم والعمل، أو فهم الأسرار المودعة في الكتاب.
﴿ سعيرا ﴾نارا مسعرة، أي موقدة إيقادا شديدا للصادين عنه. يقال : سعر النار-كمنع-وسعرها وأسعرها، أوقدها.
﴿ كلما نضجت جلودهم ﴾كلما احترقت جلودهم، وتهرت وتلاشت ﴿ بدلناهم جلودا ﴾غير محترقة. يقال : نضج الثمر واللحم ينضج نضجا ونضجا، إذا أدرك، فهو نضيج وناضج. والنضج والتبديل في جهنم حقيقي. وقيل : هو كناية عن دوام العذاب لهم.
﴿ أزواج مطهرة.. ﴾ بريئات من جميع الأدناس الحسية والمعنوية. والتنوين للتكثير. ﴿ ظلا ظليلا ﴾الظل معروف. والظليل : صفة مشتقة من الظل للتأكيد، على حد : يوم أيوم، وليل أليل. أي ظلا وارفا لا يصيب صاحبه حر ولا سموم، دائما، دائما لا ينسخ.
﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات.. ﴾أي ما ائتمنتم عليه من الحقوق، سواء أكانت لله تعالى أم للعباد، فعلية أم قولية أم اعتقادية. جمع أمانة، مصدر سمي به المفعول. ﴿ وإذا حكمتم بين الناس ﴾أي ويأمركم إذا قضيتم بين الناس في حقوقهم أن تقضوا بالعدل والإنصاف. وأصل العدل : التسوية. ﴿ نعما يعظكم به ﴾ أصله : نعم ما يعظكم به، فأدغمت ﴿ ما ﴾في ميم﴿ نعم ﴾وكسرت العين للتوصل إلى النطق بالساكن. و﴿ ما ﴾موصولة أو نكرة موصوفة، أي نعم الذي يعظكم به. أو نعم هو، أي الشيء شيئا يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل.
﴿ وأولى الأمر منكم ﴾أمراء الحق وولاة العدل من المسلمين، أو العلماء المجتهدين. أمر المؤمنين بطاعتهم إذا أمروا بما فيه طاعة لله ولرسوله، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف.
﴿ فإن تنازعتم ﴾أمروا برد ما يختلفون فيه من أمور الدين إلى كتاب الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وسنته من بعده، لينزلوا على حكمهما.
﴿ وأحسن تأويلا ﴾احمد مغبة، وأجمل عاقبة. وأصله من آل هذا الأمر إلى كذا، أي رجع إليه. أو أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم إياه، من غير رد إلى أصل من الكتاب و السنة. والتأويل على الأول بمعنى الرجوع إلى المآل والعاقبة. وعلى الثاني بمعنى التفسير والتبيين، وهو فيهما حقيقة.
﴿ إلى الطاغوت ﴾( راجع آية٢٥٦، البقرة ص٨٤، وآية ٥١ من هذه السورة ص ١٥٤ ). وقيل : المراد به هنا كعب بن الأشرف اليهودي، وكان مفرطا في الطغيان وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأسا في الضلال والفتنة.
﴿ فلا وربك لا يؤمنون... ﴾( لا )الأولى نافية لكلام سبق، تقديره : ليس الأمر كما يزعمون من أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم فقال : وربك لا يؤمنون﴿ حتى يحكموك ﴾فيما اختلفوا فيه من الأمور، والتبس عليهم منها. وقيل : إنها زائدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في قوله :{ لئلا
يعلم أهل الكتاب } لتأكيد وجوب العلم. ويقال : شجر بينهم الأمر يشجر شجرا وشجورا، إذا تنازعوا فيه. وأصله التداخل والاختلاط، ومنه شجر الكلام، إذا دخل بعضه في بعض واختلط.
﴿ حرجا ﴾ضيقا. وأصل الحرج : مجتمع الشيء، وتصور منه ضيق ما بينهما، فقيل للضيق : حرج.
و للإثم أيضا : حرج، ومنه :﴿ ليس على الأعمى حرج ﴾، أي ضيق بالإثم لترك الجهاد.
﴿ ويسلموا تسليما ﴾ينقادوا لقضائك انقيادا لا شائبة فيه بظاهرهم وباطنهم. وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة، وليس مخصوصا بمن كان في عهده صلى الله عليه وسلم.
﴿ خذوا حذركم.. ﴾الحذر والحذر بمعنى، وهو الاحتراز مما يخاف. يقال : أخذ حذره، إذا تيقظ واحترز مما يخاف منه. وقيل : الحذر ما به الحذر من السلاح ونحوه، أي احترزوا من عدوكم وتيقظوا له. أو خذوا عدتكم من السلاح واستعدوا لعدوكم. وفيه دلالة على وجوب الأخذ بالأسباب.
﴿ فانفروا ثبات ﴾اخرجوا إلى قتال عدوكم مجدين جماعة في إثر جماعة، فصائل وسرايا.
﴿ أو انفروا جميعا ﴾ مجتمعين جماعة واحدة. والنفر : الفزع. يقال : نفر إلى الحرب ينفر وينفر نفرا ونفورا، إذا فزع إليه. والثباث : جمع ثبة، وهي الجماعة والعصبة من الفرسان، مشتقة من ثبا يثبو، أي اجتمع.
﴿ ليطمئن ﴾ليتأخرن ويتثاقلن عن الجهاد، من بطأ اللازم-بالتشديد-بمعنى أبطأ، كعتم
بمعنى أعتم إذا أبطأ. أو لم ليبطئن غيره، أي يجبننه و يثبطنه عن الجهاد، من بطأ المتعدي، بالتشديد. نزلت في المنافقين.
﴿ كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ﴾يتمنى المنافق إذا انتصر المؤمنون لو كان معهم في القتال، و يأسف لتخلفه عنه، لا مودة في قلبه تحمله على مشاركتهم في الجهاد والبلاء في كل حال، بل لمجرد حرمانه من حظه من الغنيمة. والجملة معترضة بين القول والمقول، لدفع توهم أن تمنيه المعية للنصرة والمظاهرة.
﴿ فليقاتل في سبيل الله ﴾فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدنيا، ويختارون الآخرة وثوابها على الدنيا الفانية.
﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم ﴾كان بعض الصحابة بمكة يلقون من المشركين أذى كثيرا، ويتمنون أن يقاتلوهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكفهم عن القتال لأنه لم يؤمر به. فلما فرض القتال بالمدينة وقد هاجروا إليها، جبنوا عن القتال وخافوا المشركين خوفا شديدا، جزعا من الموت بمقتضى الجبلة البشرية، فنزلت الآية.
﴿ ولا تظلمون فتيلا ﴾ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على الجهاد، فلا ترغبوا عنه. ( آية ٤٩ من هذه السورة ص ١٥٤ ).
﴿ في بروج... ﴾أي في حصون وقلاع، جمع برج وهو الحصن، وأصله من التبرج وهو الإظهار. ﴿ مشيدة ﴾أي مطولة بارتفاع، من شيد البناء رفعه. أو مطلية بالشيد، وهو الجص لتقويتها. أي فأنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجى حذر من قدر، فما بالكم تجبنون عن القتال. ﴿ وإن تصبهم حسنة ﴾نزلت في اليهود والمنافقين حين أبدوا التشاؤم من الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة و قحطوا. والمراد من الحسنة والسيئة : النعمة والبلية، وقد شاع استعمالها في ذلك، كما شاع في الطاعة والمعصية. فكذبهم الله تعالى بقوله :﴿ كل من عند الله ﴾ خلقا وإيجادا، وتقديرا نافذا في البر والفاجر، والمؤمن والكافر، جاريا على مقتضى الحكمة و المشيئة.
﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله.. ﴾أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة فمن الله تفضلا وإحسانا.
﴿ وما أصابك من سيئة ﴾بلية﴿ فمن نفسك ﴾أي فبسبب اقترافك الذنوب عقوبة لك من الله، وإن كان كلاهما من عند الله خلقا وتقديرا. وهو كقوله تعالى :﴿ وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ﴾. وعن ابن عباس : ما كان من نكبة فبذنبك، وأنا قدرت ذلك عليك. وعن عائشة نحوه.
﴿ فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ حافظا ورقيبا، تحفظ أعمالهم وتجازيهم عليها، إنما أنت نذير.
﴿ و إذا جاءهم أمر من الأمن.. ﴾نزلت في ضعفاء المؤمنين، فقد كانوا يسمعون من المنافقون أخبارا عن السرايا مظنونة غير معلوم صحتها، وقد تكون مختلفة، فيذيعونها قبل التثبت منها وتشيع بين الناس، فلا تخلو من وبال يعود على المسلمين. فنهى الله ذلك عليهم، وقال إنهم لو ردوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى كبار أصحابه، وقالوا : نسكت حتى نسمعه منهم، ونتلقى علمه من جهتهم، وهل هو مما يصح أن يذاع أولا يذاع، لعلموا الحقيقة وما يجب عليهم إزاءها من كتمان أو إذاعة. وقوله :﴿ الذين يستنبطونه منهم ﴾أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم، والمستنبطون هم المذيعون. وفي الكلام إظهار في مقام الإضمار، والأصل : لعلموه. ولولا فضل الله على هؤلاء المذيعين بإرشادهم إلى ما يجب عليهم من الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى كبار أصحابه فيما يسمعونه من هذه الأخبار لضلوا بإتباع آراء المنافقين فيما يأتون ويذرون. وقوله :﴿ إلا قليلا ﴾استثناء من قوله﴿ أذاعوا به ﴾أي إلا قليلا منهم لم يذيعوه، أي لم يفشوه، يقال : أذاع الخبر وأذاع به، إذا أشاعه وأفشاه. وقيل : عدى بالباء لتضمنه معنى التحديث.
﴿ وأشد تنكيلا ﴾ تعذيبا. وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد، ثم استعمل في كل تعذيب. يقال : نكل به ينكل، أصابه بنازلة. ونكل به، مبالغة.
﴿ من يشفع شفاعة حسنة ﴾الشفاعة : التوسط بالقول في وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية، أو إلى خلاصه من مضرة كذلك. من الشفع ضد التوتر، كأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا. فمن يسعى في الخير أو في الشر يكون له نصيب من الجزاء، خيرا أو شرا. وإطلاق الشفاعة على السعي في الشر مشاكلة. والكفل : النصيب والحظ، واستعماله في الشر أكثر من استعمال النصيب فيه مأخوذ من قولهم : اكتفلت البعير، إذا أدرت على سنامه، أو على موضع من ظهره كساء ركبت عليه، فكان لك نصيب من الانتفاع به.
﴿ وكان الله على كل شيء مقيتا ﴾ مقتدرا أو حفيظا، من أفات على الشيء : اقتدر عليه. أومن القوت، وهو ما يمسك الرمق من الرزق، وتحفظ به الحياة.
﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾نزلت في قوم خرجوا إلى المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا في أنفسهم واستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى مكة، ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها. فخرجوا وأقاموا بمكة، فاختلف المسلمون فيهم، فقائل : هم منافقون، وقائل : هم مؤمنون، فبين الله نفاقهم وأمر بقتلهم لردتهم. وقيل : نزلت في قوم تخلفوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم المسلمون، فتولاهم أناس و تبرأ من ولايتهم آخرون، فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم ألا يتولاهم حتى يهاجروا. أي فمالكم تفرقتم في شأن المنافقين فرقتين﴿ و الله أركسهم بما كسبوا ﴾ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب ما كسبوه من الردة، من الركس، وهو رد أول الشيء على أخره. يقال : ركس الشيء يركسه ركسا، إذا قلبه على رأسه. والركس والنكس بمعنى.
﴿ حتى يهاجروا ﴾حتى يؤمنوا، وتتحققوا إيمانهم بهجرتهم في سبيل الله، أي بخروجهم للقتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم لوجه الله، لا لغرض دنيوي.
﴿ إلا الذين يصلون ﴾استثني من المأمور بقتلهم فريقان : من ترك المحاربين من الأعداء ولحق بالمعاهدين، فكان معهم على عهدهم. ومن أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين. وقوله :﴿ حصرت صدورهم ﴾أي ضاقت عن أن يقاتلوكم مع قومهم، أو يقاتلوا قومهم معكم، أو يقاتلوا قومهم معكم. يقال : حصر صدره يحصر، ضاق. وهذه الآية منسوخة بآية :﴿ فذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾.
﴿ ستجدون آخرين ﴾نزلت في أناس كانوا يأتون الرسول فيسلمون رياء ونفاقا، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الشرك، يبتغون بذلك أن يأمنوا نبي الله و يأمنوا قومهم، فأبى الله ذلك عليهم. ﴿ ردوا إلى الفتنة ﴾دعوا إلى الشرك﴿ أركسوا فيها ﴾أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه. يقال : أركسته فركس، أي قلبته على رأسه فقلب، ﴿ حيث ثقفتموهم ﴾ أي وجدتموهم، أو تمكنتم منهم. يقال : ثقفت الرجل في الحرب أثقفه، أدركته أو ظفرت به.
﴿ فتحرير رقبة مؤمنة ﴾أي فعليه إعتاق نسمة مؤمنة. ﴿ ودية مسلمة إلى أهله ﴾أي مؤداة إلى ورثته يقتسمونها بينهم قسمة الميراث. والدية : من الودي، كالعدة من الوعد. يقال : ودى القاتل القتيل يديه دية، إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس. و سمي المال دية تسمية بالمصدر. وأحكام الدية مبسوطة في الفقه. ﴿ فإن كان من قوم عدو لكم ﴾أي فإن كان المقتول خطأ من قوم محاربين لكم ﴿ وهو مؤمن ﴾وقد قتله مسلم لكونه بين أظهر قومه، فعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة، ولا دية له، إذ لا وراثة بينه وبين أهله. ﴿ وإن كان ﴾المقتول المؤمن ﴿ من قوم بينكم و بينهم ميثاق ﴾أي معاهدة، فعلى القاتل دية مؤداة إلى أهله المسلمين إن وجدوا، ولا تدفع إلى أهله الكفار، إذ لا يرث الكافر المسلم، وعليه عتق نسمة مؤمنة.
﴿ فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾المراد من الخلود هنا : المكث الطويل لا الدوام، لتظاهر النصوص على أن عصاة المؤمنين لا يخلدون في النار. والجمهور على أن القاتل إذا تاب وأناب، وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلماته، وأرضاه عن طلابته، وما قيل من أنه : لا توبة لقاتل المؤمن عمدا، محمول على التغليظ في الزجر.
﴿ إذا ضربتم في سبيل الله ﴾أي سافرتم للجهاد﴿ فتبينوا ﴾فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تفعلون وتتركون. ﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام ﴾أي حياكم بتحية الإسلام، أو استسلم وانقاد ﴿ لست مؤمنا ﴾وإنما فعلت ذلك تقية، بل اقبلوا منه ما أظهر، وعاملوه بموجبه، وأمر القلوب بيد الله، وسرها لا يعلمه سواه.
﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين ﴾وهم من لم يخرجوا يوم بدر لعذر. أو من أذن لهم في التخلف عن الجهاد. ﴿ غير أولى الضرر ﴾أي غير أصحاب الأمراض و العلل التي لا سبيل معها إلى الجهاد، من نحو عمى أو زمانة أو ضعف بدن أو عجز عن الأهبة. ﴿ والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم ﴾بل هؤلاء أفضل﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ﴾أي بعذر، وهم أولو الضرر. ﴿ درجة ﴾ومنزلة﴿ فضل الله المجاهدين على القاعدين ﴾أي بغير عذر بأمره صلى الله عليه وسلم اكتفاء بغيرهم﴿ أجرا عظيما. درجات منه ﴾كثيرة.
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ﴾نزلت في أناس بمكة أسلموا بألسنتهم ولم يهاجروا معه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خرج المشركون إلى بدر خرجوا معه وقاتلوا المسلمين، فقتلوا بها كفارا.
﴿ إلا المستضعفين ﴾استثناء منقطع.
﴿ عسى الله أن يعفو عنهم ﴾ يتجاوز عنهم بفضله. و﴿ عسى ﴾من الله تعالى واجب، لأنه إطماع وترج، والله تعالى إذا أطمع عبده وصله.
﴿ يجد في الأرض مراغما ﴾متحولا ومهاجرا. اسم مكان، وعبر عنه بالمراغم للإشعار بأن المهاجر في سبل الله يصل في الموضع الذي يهاجر إليه، إلى ما يكون سببا لرغم أنوف قومه الذين فارقهم، من الرغم-بتثليث الراء-وهو الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام، وهو التراب. وفعله من باب قتل وفي اللغة من باب تعب. ﴿ فقد وقع أجره على الله ﴾أي وجب له الأجر تفضلا منه تعالى. وفي الآية ترغيب عظيم في الهجرة في سبيل الله، وكذلك كل من قصد بهجرته فعل طاعة من الطاعات ثم مات قبل إتمامها، فإنه يكتب له ثوابها كاملا.
﴿ وإذا ضربتم في الأرض ﴾أي إذا سافرتم أي سفر، فلا حرج ولا إثم عليكم في قصر الصلاة إن خفتم أن يتعرض لكم الأعداء في الصلاة بقتل أو جرح أو أسر، فتصلى الرباعية ركعتين. وجمهور الأئمة على أن قصر الصلاة مشروع في السفر في حالتي الخوف والأمن، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قصرها في الأمن، كما في الصحيحين وغيرهما. والتقييد بالشرط في الآية إنما يدل على ثبوت القصر في حالة الخوف، ولا يدل على عدمه في حالة عدم الخوف، بل هو مسكوت عنه،
و يستفاد حكمه من دليل آخر، وقد ثبت بالسنة قصرها في الأمن. ولا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم من الأصوليين، لخروجه مخرج الغالب، حيث لم تخل أسفاره صلى الله عليه وسلم في الغالب من خوف الأعداء، لكثرتهم إذ ذاك، و أحكام القصر مبينة في الفقه.
﴿ و إذا كنت فيهم ﴾بيان لكيفية القصر عند الضرورة التامة، بعد النص المجمل في مشروعيته. والخطاب له صلى الله عليه وسلم يتناول الأئمة بعده، فإنهم نوابه والقائمون بما كان يقوم به، فهو كقوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾. وقد أمر أن يجعل المجاهدين طائفتين : طائفة تصلي معه ومعهم أسلحتهم التي لا تشغلهم عن الصلاة. وطائفة أخرى تقف تجاه العدو للحراسة، فإذا أتمت الطائفة الأولى ركعة، أتت الطائفة الأخرى فصلت معه صلى الله عليه وسلم الركعة الباقية من صلاته.
وكيفيات صلاة الخوف مبينة في الفقه. وظاهر أن الآية في صلاة الخوف في غير حالة الالتحام. وأما في حالته فقيل : يؤخرون الصلاة إلى أن يأمنوا، ثم يقضون ما فاتهم منها. وقيل : يصلون بالإيماء بالركوع والسجود إلى أي جهة، رجالا وركبانا. وقد تقدم طرف من ذلك في آية ٢٣٩ البقرة.
﴿ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ﴾( راجع آية ٧١ من هذه السورة ).
﴿ فإذا قضيتم الصلاة ﴾أي إذا فرغتم من صلاة الخوف فداوموا على ذكر الله تعالى في جميع الأحوال، حتى في حال المقارعة والالتحام. ﴿ فإذا اطمأننتم ﴾سكنت قلوبكم بالعودة إلى أوطانكم ﴿ فأقيموا الصلاة ﴾أدوها في أوقاتها بأركانها وشروطها وحدودها، تامة كاملة.
﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم ﴾لا تضعفوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال، من الوهن وهو الضعف.
تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليما حكيما، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾نزلت في طعمة بن أبيرق من بني ظفر- وكان هو وقومه منافقين-سرق درعا من جار له كانت في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب، ثم خبأها عند يهودي، فالتمست عند الأطعمة بدلالة أثر الدقيق في الطريق. فحلف ما أخذها، وما له علم بها، فتركوه واتبعوا الأثر حتى انتهوا إلى دار اليهودي فوجدوها عنده فقال : دفعها إلى طعمة، وشهد له بذلك ناس من اليهود. فانطلق قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا زورا أن اليهودي هو السارق، وسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن صاحبهم، فهم أن يفعل ويعاقب اليهودي، فنزلت الآية فلم يفعل. وهم أن يقضى على طعمة فهرب إلى مكة وارتد، ونقب حائطا ليسرق متاع أهله فسقط عليه ومات مرتدا.
﴿ ولا تكن للخائنين خصيما ﴾أي ولا تكن لأجل الخائنين-وهم طعمة وقومه- مخاصما للبرئ من السرقة. وأصله من الخصم بضم فسكون وهو ناحية الشيء وطرفه، كأن كل واحد من الخصمين في ناحية من الدعوى والحجة، واللام للتعليل.
﴿ واستغفر الله ﴾أي مما هممت به في أمر طعمة واليهودي لظن صدق طعمة وقومه.
وأمر صلى الله عليه وسلم بالاستغفار، وإن كان معذورا، لزيادة الثواب وإرشاده إلى التثبت، وإلى أن ما ليس بذنب مما يكاد يعد حسنة من غيره، إذا صدر صلى الله عليه وسلم-بالنسبة لمقامه المحمود-يوشك أن يكون كالذنب.
﴿ ولا تجادل ﴾لا تخاصم عن الذين يخونون أنفسهم بارتكاب المعاصي، من المجادلة وهي شدة المخاصمة. وأصلها من الجدل، وهو شدة الفتل.
﴿ إذ يبيتون ﴾يدبرون فيما بينهم قولا باطلا لا يرضاه الله، من شهادة الزور، ورمى البريء بالسرقة. وأصل التبييت : تدبير الفعل ليلا، ثم أطلق على كل تدبير وإن لم يكن بالليل.
﴿ وكيلا ﴾محافظا ومحاميا عنهم من عقاب الله تعالى. و أصل معنى الوكيل : من يوكل له الأمر و يسند إليه، ثم أطلق على ما ذكر مجازا، من استعمال الشيء في لازم معناه.
﴿ ومن يعمل سوءا ﴾أي ومن يعمل عملا يسيء به غيره﴿ أو يظلم نفسه ﴾بارتكاب المعاصي، ثم يتب توبة صادقة﴿ يجد الله غفورا رحيما ﴾، وهو كقوله تعالى :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم و من يغفر الذنوب إلا الله و لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين ﴾.
﴿ ومن يكسب خطيئة ﴾الخطيئة : الصغيرة من الذنوب. والإثم : الكبيرة منها. أو الأولى الذنب المختص بفاعله، والثاني الذنب المتعدي إلى الغير، والبهتان : الكذب على الناس بما يبهتون به، ويتحيرون عند سماعه لفظاعته.
﴿ لا خير في كثير من نجواهم ﴾أي مما يتناجى به الناس و يخوضون فيه. والنجوى : اسم مصدر بمعنى المسارة. يقال : نجوته نجوا ونجوى، وناجيته مناجاة، أي ساررته. وأصله : أن تخلو بمن تساره في نجوة من الأرض، و هي المكان المرتفع المنفصل بارتفاعه عما حوله، ويطلق على القوم المتناجين، كما في قوله تعالى :﴿ وإذ هم نجوى ﴾ مبالغة، على حد : قوم عدل. أو بتقدير مضاف، أي ذوو نجوى. ﴿ إلا من أمر ﴾أي إلا في نجوى الذين يأمرون بالصدقة، أو بالبر والخير الذي يصل نفعه إلى الناس، فيسد حاجتهم، أو يرشدهم إلى ما فيه خيرهم و دفع الشر عنهم، أو بإصلاح ذات البين عند المشاحنة والمعاداة.
﴿ نوله ما تولى ﴾نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه من الضلال في الدنيا ﴿ و نصله جهنم ﴾ندخله فيها في الآخرة.
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾( آية ٤٨ من هذه السورة ). و ذكرت هنا تكميلا لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة.
﴿ إن يدعون من دونه إلا إناثا ﴾أي ما يعبدون من دون الله إلا أصناما سموها بأسماء الإناث، كاللات والعزى و مناة، وكان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه، ويسمونه أنثى ابن فلان، و يزينونه بالحلي كالنساء. ﴿ وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ﴾أي وما يعبدون بعبادة هذه الأصنام إلا شيطانا عاتيا، أغراهم بعبادتها فأطاعوه فكانوا له عابدين، والمريد والمتمرد : البالغ الغاية في الشر و الفساد. يقال : مرد- كنصر و ظرف- إذا عتا و تجبر، فهو مارد و مريد و متمرد. وأصل المادة للملاسة والتجرد، ومنه صرح ممرد، أي أملس. وشجرة مرداء، للتي تناثر ورقها. و غلام أمرد : لم ينبت في وجهه شعر. و وصف الشيطان بالتمرد لتجرده للشر، أو لظهور شره ظهور عيدان الشجرة المرداء.
﴿ نصيبا مفروضا ﴾حظا مقدرا معلوما، من الفرض، وأصله القطع. وأطلق هنا على المقدار المعلوم،
لاقتطاعه عمن سواه من صالحي المؤمنين. فكل من أطاع الشيطان فهو نصيبه المفروض.
﴿ ولأضلنهم و لأمنينهم ﴾أي لأزيغنهم عن طاعتك و توحيدك، و لألقين في صدورهم الأماني الباطلة الميسرة للعصيان﴿ فليبتكن آذان الأنعام ﴾أي فليقطعنها من أصلها، أو ليشقنها، من البتك وهو القطع، ومنه، سيف باتك، أي صارم. وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا قطعوا أذنها أو شقوها شقا واسعا، علامة على أنهم حرموا على أنفسهم الانتفاع بها و جعلوها للطواغيت، وسموها البحيرة، أي المشقوقة الأذن. والمراد : أنه يغريهم بعبادة الطواغيت، ويدعوهم إلى التقرب إليها بالبحائر ونحوها، فيسارعون إلى إجابته. ﴿ و لآمرنهم فليغيرن خلق الله ﴾أي فليغيرن ما خلقه الله عن نهجه صورة وصفة، كفقأ عين فحل الإبل في بعض الأحوال، و خصاء الإنسان والوشم، و اللواطة و السحاق والتخنث، وعبادة الكواكب والنار والأحجار، و تغييردين الله وأحكامه.
﴿ ولا يجدون عنها محيصا ﴾معدلا ومهربا، يفرون إليه للنجاة من عذابها، يقال : حاص عنه يحيص حيصا و حيوصا و محيصا، حاد وعدل.
﴿ ومن أصدق من الله قيلا ﴾أي قولا. وهو مصدر قال، أو اسم مصدر.
﴿ ليس بأمانيكم ﴾أي ليس ما وعد الله به من الثواب أو إدخال الجنة، أو ليس ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم أيها المسلمون، أو أماني أهل الكتاب، وإنما يحصل بالسعي والجد في طاعة الله والعمل الصالح. والأماني : جمع أمنية، وهي ما يوده الإنسان و يشتهيه. ﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ من يرتكب معصية، مؤمنا كان أو كافرا، يجازه الله بها، عاجلا أو آجلا، أي إلا إذا تاب أو تفضل الله تعالى عليه بالمغفرة إذا كان مؤمنا. وأجمع العلماء على أن الأمراض والأسقام، ومصائب الدنيا وهمومها يكفر الله بها الخطيئات. و الأكثرون على أنها أيضا ترفع بها الدرجات، وتكتب الحسنات.
﴿ ولا يظلمون نقيرا ﴾لا يبخسون من ثواب أعمالهم شيئا ما، ولو تافها حقيرا كالنقير( آية ٤٩و ٤٥ من هذه السورة ص ١٤٥ ).
﴿ واتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ مائلا عن سائر الأديان الزائغة إلى الدين الحق، حال من ﴿ إبراهيم ﴾. وملته : شريعته الموافقة للإسلام. ﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾صفيا. مشتق من الخلة، وهي صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار.
﴿ ويستفتونك في النساء ﴾ويطلبون منك الفتوى، أي تبيين المشكل من الأحكام في حق النساء من الميراث وغيره، فقل لهم : الله يفتيكم في شأنهن، ويفتيكم ما يتلى عليكم في القرآن في شأن اليتامى اللاتي تمنعونهن ما فرض لهن من الميراث وغيره، وترغبون في نكاحهن لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن. أو ترغبون عن نكاحهن وتعضلوهن طمعا في أموالهن، أي يبين لكم ألا تفعلوا شيئا من ذلك. ويفتيكم أيضا في شأن الصغار من الولدان أن تورثوهم، وكانوا لا يورثون كما لا يورثون النساء. ويفتيكم أيضا في شأن اليتامى- ذكورا كانوا أو إناثا-أن تقوموا بالعدل في ميراثهم و سائر أموالهم وأحوالهم. ﴿ وما تفعلوا من خير ﴾أو شر في ذلك وغيره يعلمه الله و يحاسبكم عليه. فقوله :﴿ وما يتلى عليكم ﴾ معطوف على اسم جلالة، أو على الضمير في ﴿ يفتيكم ﴾و﴿ في يتامى النساء ﴾متعلق ب﴿ يتلى ﴾. و﴿ ترغبون ﴾أي في نكاحهن أو عنه، وكل من الحرفيين مراد على سبيل البدل.
﴿ و المتسضعفين من الولدان ﴾معطوف على﴿ يتامى النساء ﴾. ﴿ وأن تقوموا ﴾عطف على ما قبله.
﴿ نشوزا أو إعراضا ﴾النشوز : أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته ومودته، ويؤذيها بسب أو ضرب. و الإعراض : أن يقلل محادثتها و مؤانستها، وهو أخف من النشوز. ﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾أي جبلت على الإفراط في الحرص والبخل، فكأنه حاضرها لا ينفك عنها أبدا.
﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا ﴾ أي العدل المطلق الكامل بين زوجاتكم في القسم والنفقة، والتعهد والنظر، والإقبال و المحالمة والمفاكهة، والمحبة والانعطاف وغير ذلك. ﴿ ولو حرصتم ﴾عليه أتم الحرص، ولذلك لم يكلفكم الله به، إذ التكليف الشرعي إنما يكون بما في الوسع والطاقة، فقاربوا واجتهدوا ألا تميلوا الليل المحظور إلى واحدة منهن في حقوق الزوجية، بحيث تكون الأخرى كأنها معلقة لا هي مطلقة ولا هي ذات بعل، وجاهدوا أنفسكم حتى تصلوا إلى الحد المستطاع من العدل الذي يباح لكم معه تعدد الزوجات( راجع آية ٢ من هذه السورة ص ١٣٩ ).
﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾كفيلا بالأمر معتمدا عليه.. يقال : وكل فلان فلانا، إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجزا عن القيام بأمر نفسه.
﴿ قوامين بالقسط ﴾مواظبين على إقامة العدل في جميع الأمور، لا تميلون عنه، ولا يصرفكم عنه صارف، متعاونين متناظرين فيه. ﴿ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ﴾أي أنهاكم عن اتباع أهواء نفوسكم، لتتصفوا إذا انتهيتم عنها بصفة العدل. كما يقال : لا تتبع هواك لترضى ربك، أي أنهاك عنه كيما ترضى ربك بتركه. فقوله :﴿ أن تعدلوا ﴾من العدل ضد الجور، وهو علة للنهي بتقدير اللام.
﴿ وإن تلووا ﴾أي وإن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بالحق، بأن تحرفوها وتقيموها على غير وجهها الذي تستحقه، من اللي وهو القتل، كما في قوله تعالى :﴿ ليا بألسنتهم ﴾. ﴿ أو تعرضوا ﴾عنها بترك إقامتها رأسا﴿ فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾فيجازيكم بما عملتم. وقرئ﴿ تلوا ﴾بضم اللام وبواو واحدة، من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة.
﴿ ثم ازدادوا كفرا ﴾بتكرر الارتداد منهم وإصرارهم على الكفر، وتماديهم في الغي حتى ماتوا على كفرهم. ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾لأنه تعالى لا يغفر أن يشرك به. ﴿ ولا ليهديهم سبيلا ﴾أي طريقا إلى الجنة، لأنهم ليسوا من أهلها لسوء اختيارهم وفساد استعدادهم. وهو نظير قوله تعالى : إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا. إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا }.
﴿ أيبتغون عندهم العزة ﴾أي أيطلب المنافقون عند النهود المتعة و القوة والغلبة، فيتخذونهم أولياء وأنصارا لهم من دون المؤمنين ؟ وقد كانوا يقولون فيما بينهم : إن أمر محمد لا يتم فتولوا اليهود وأصل العزة : الشدة، يقال : عز علي أن يكون كذا، أي اشتد علي ذلك. ومنه استعز عليه المرض، أي اشتد عيه وغلبه. والعزاز للأرض الصلبة الشديدة. و الاستفهام للإنكار. وقيل للتعجب.
﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب ﴾الخطاب للمنافقين الذين تولوا اليهود، وخاضوا معهم في الاستهزاء بالقرآن، كما خاض مشركو مكة من قبل في ذلك. وفيه توبيخ شديد لهم، حيث فعلوا ذلك مع تحقق ما يمنعهم منه، وهو نزول القرآن بالنهي عن مجالسة المشركين الذين يخوضون في آيات الله بالباطل في قوله تعالى في سورة الأنعام وهو مكية :﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ وهو يستلزم النهي عن موالاتهم على أبلغ وجه وآكده. ﴿ إنكم إذا مثلهم ﴾أي إنكم إن قعدتم معهم كنتم في الكفر واستحقاق العذاب. ثم أخبر الله انه جامع المنافقين والكافرين من المشركين واليهود في جهنم جميعا، لاشتراكهم في موجب هذا العذاب الخالد. والخوض في الأصل : الدخول في مائع كالماء والطين. يقال : خاض يخوض خوضا، دخل، واسم المكان مخاض جمع مخاضة، ثم صار اسما لكل دخول فيه تلويث، وتجوز به إلى القول الباطل، واستعماله في ضده للمشاكلة. ويؤخذ من الآية النهي عن مجالسة أهل الباطل عامة عند خوضهم في باطلهم، كالمبتدعة و الفساق و الملاحدة.
﴿ الذين يتربصون بكم ﴾ وصف الله المنافقين بأنهم ينتظرون ما يحدث للمؤمنين من خير أو شر، أو من نصر أو هزيمة. ﴿ فإن كان لكم فتح من الله ﴾أي نصر منه وخير لكم ﴿ قالوا ألم نكن معكم ﴾في الجهاد فأعطونا نصيبا من الغنائم. والفتح : النصر، كالفتاحة. ﴿ وإن كان للكافرين نصيب ﴾أي دولة وظهور على المؤمنين﴿ قالوا ﴾للكافرين﴿ ألم نستحوذ عليكم ﴾أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم﴿ ونمنعكم من المؤمنين ﴾أي ألم ندفع المؤمنين عنكم بتخذيلهم، ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأسرارهم، فأعطونا نصيبا مما أصبتم منهم. والاستحواذ : الاستيلاء والغلبة.
يقال : استحوذ عليه، أي غلب عليه.
﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ﴾أي حجة يوم القيامة. وقيل في الدنيا، فلا حجة لهم يغلبون بها المؤمنين، لأنهم على الباطل والمؤمنين على الحق. والسبيل : الطريق، وما يتوصل به إلى الشيء، وأطلق على الحجة مجازا.
﴿ يخادعون الله ﴾يفعلون ما يفعل المخادع، حيث أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر، وهو تعالى فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال، تجري عليهم أحكام الإسلام بحسب الظاهر، وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار. وخادع : اسم فاعل، من خادعته فخدعته، إذا غلبته وكنت أخدع منه.
﴿ مذبذبين بين ذلك ﴾مرددين متحيرين بين الكفر والإيمان، قد ذبذبهم الشيطان بينهما أو بين المؤمنين والكافرين المعلنين. و أصل الذبذبة : حكاية صوت الحركة للشيء المعلق، ثم استعير لكل حركة واضطراب، أو تردد بين شيئين. يقال : ذبذبه ذبذبة، أي تركه حيران مترددا، كالشاة العائرة –وهي المترددة-بين قطيعين لا تدرى أيهما تتبع.
﴿ في الدرك الأسفل ﴾أي في الطبق الأسفل من أطباقها السبعة. وسميت دركات لكونها متداركة، أي متتابعة بعضها تحت بعض. والدرك لغة في الدرك وهو كالدرج، إلا أن الدرج يقال باعتبار الصعود، والدرك باعتبار النزول و الحدور. و لذا قيل : درجات الجنة، ودركات النار.
﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء ﴾أي إعلانه وإظهاره. وكذا الإسرار به. ﴿ من القول ﴾ومثله الفعل، لكن يباح للمظلوم أن يجهر بما في ظالمه من السوء ليدفع عن نفسه شره.
﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ﴾نزلت في اليهود الذين آمنوا بموسى وكفروا بعيسى و محمد.
وفي النصارى الذين آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد-عليهم الصلاة والسلام-تفريقا بين الله ورسله، والله سبحانه قد أمرهم بالإيمان بجميع رسله.
﴿ يسألك أهل الكتاب ﴾نزلت في أحبار اليهود حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم تعنتا : أن يأتيهم من السماء بكتاب جملة واحدة، كما أتى موسى عليه السلام بالتوراة، وجهلوا الحكمة في تفصيل آيات القرآن وجعله نجوما.
﴿ ورفعنا فوقهم الطور ﴾حين امتنعوا من قبول التوراة، ليخافوا فيقبلوها ولا ينقضوا العهد والميثاق، وهو كقوله تعالى :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ﴾. ﴿ لا تعدوا في السبت ﴾لا تجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما حرم عليكم، وهو الاصطياد فيه. ﴿ ميثاقا غليظا ﴾أي عهدا وثيقا مؤكدا بأن يطيعوا الله، فعصوا و نقضوا العهد.
﴿ قلوبنا غلف ﴾( راجع ٨٨ البقرة ص ٣٧ ).
﴿ وما قتلوه وما صلبوه ﴾زعم أكثر اليهود أنهم قتلوا المسيح وصلبوه، فأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال :﴿ ولكن شبه لهم ﴾أي شبه لهم المقتول بأن ألقى عليه شبه المسيح، فلما دخلوا لقتلوا المسيح وجدوا الشبيه فقتلوه وصلبوه، يظنونه المسيح وما هو به في الواقع، إذ قد رفع الله عيسى إلى السماء، ونجاه من شر الأعداء. وقيل : المعنى ولكن التبس عليهم الأمر حيث ظنوا المقتول عيسى كما أوهمهم ذلك أحبارهم. ﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ﴾وهم اليهود، حيث قال بعضهم، قتلناه حق، وتردد فيه آخرون. والنصارى حيث قال بعضهم، صلب الناسوت ورفع اللاهوت. وقال بعضهم : قتلا معا. وقال فريق : رأيناه قتل. وفريق : رأيناه رفع. وكلهم ضلال كذبة، وما لهم بذلك من علم. ولكنهم يظنون ظنا ويتبعون وهما، وما قتلوه متيقنين أنه هو، بل رفعه الله إلى السماء التي لا حكم فيها إلا لله تعالى، وطهره من الذين كفروا.
﴿ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ﴾أي ما أحد من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان إلا ليؤمنن بأنه عبد الله ورسوله وكلمته، قبل أن يموت عيسى وتكون الأديان كلها دينا واحدا، وهو دين الإسلام الحنيف، دين إبراهيم عيه السلام. ونزول عيسى عيه السلام ثابت في الصحيحين، وهو من أشراط الساعة.
﴿ والمقيمين الصلاة ﴾أي وأخص المقيمين الصلاة بالذكر أو بالمدح. و قرئ﴿ والمقيمون ﴾.
﴿ والأسباط ﴾أولاد يعقوب عليه السلام لصلبه، وقيل : أولادهم وفي نبوة من عدا يوسف منهم خلاف، وصحح السيوطي و الآلوسي عدمها. فالمراد من الإيحاء إليهم : الإيحاء إلى الأنبياء منهم، كما تقول : أرسلت إلى بني تميم، تريد أرسلت إلى رؤسائهم و وجوهم. ﴿ زبورا ﴾أي مزبورا بمعنى مكتوب، ولم يكن فيه أحكام، بل فيه تقديس و تحميد وثناء على الله عز وجل، ومواعظ و حكم.
﴿ أنزله بعلمه ﴾أي بعلم تام وحكمة بالغة منه تعالى. أو بما علمه من مصالح عباده في إنزاله عليك.
﴿ إن الذين كفروا و ظلموا ﴾أي وظلموا أنفسهم بالضلال البعيد والصد عن سبيل الله، فازدادوا بذلك كفرا وأصروا عليه إلى الممات﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾كما قال تعلى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾. ﴿ ولا ليهديهم طريقا. إلا طريق جهنم ﴾لفساد استعدادهم ( راجع الآية ١٣٧ من هذه السورة ص ١٧٤ ). والتعبير بالهداية في جانب طريق النار ضرب من التهكم بهم.
﴿ يا أهل الكتاب ﴾خطاب للنصارى، زجرا لهم عما هم عليه من الضلال البعيد. والغلو : مجاوزة الحد. وقد غلوا في الدين فقالوا على الله غير الحق، و نسبوا له ابنا وشريكا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. ﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم ﴾( راجع آية ٣٩ آل عمران ص١٠٦ ). ﴿ و روح منه ﴾أي وذو روح من أمر الله تعالى، خلقه كسائر الأرواح.
﴿ لن يستنكف المسيح ﴾لن يأنف ولن يترفع عن عبوديته وطاعته لخالقه تعالى. والاستنكاف : الأنفة والترفع، يقال : استنكف أي استكبر. و أصله من النكف، وهو تنحية الدمع عن الخد بالإصبع ورفعه عنه.
﴿ برهان من ربكم ﴾هو رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من البينات من ربه. وعبر عنه صلى الله عليه وسلم بذلك لما معه من المعجزات الباهرة الشاهدة بصدقه، كما عبر عنه بالبينة
في قوله تعالى :﴿ حتى تأتيهم البينة ﴾﴿ ونورا مبينا ﴾ : هو القرآن الكريم.
﴿ يفتيكم في الكلالة ﴾( راجع آية ١٢ من هذه السورة ص ١٤٢ ). ﴿ ليس له ولدا ﴾أي ولا ولد، ولم يذكر في الآية لعلمه من لفظ الكلالة. ﴿ وله أخت ﴾أي لأبوين أو لأب. وأما الأخت. لأم ففرضها السدس، كما في آية ١٢ من هذه السورة. والله اعلم.