تفسير سورة سورة النساء من كتاب أضواء البيان
المعروف بـأضواء البيان
.
لمؤلفه
محمد الأمين الشنقيطي
.
المتوفي سنة 1393 هـ
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ النِّسَاءِقَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ. أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ هُنَا فِي ذَلِكَ شَرْطًا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ هَذَا أَنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَشْرُوطٌ بِشَرْطَيْنِ:
الْأَوَّلُ: بُلُوغُ الْيَتَامَى.
وَالثَّانِي: إِينَاسُ الرُّشْدِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [٤ ٦].
وَتَسْمِيَتُهُمْ يَتَامَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ، إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ يُتْمِهِمُ الَّذِي كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِجْمَاعًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [٧ ١٢٠]، يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً، إِذْ لَا سِحْرَ مَعَ السُّجُودِ لِلَّهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى إِيتَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ إِجْرَاءَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ زَمَنَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً أُعْطِيَ مَالَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ جِدًّا، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ اتِّجَاهِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى حُوبٌ كَبِيرٌ، أَيْ: إِثْمٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَبْلَغَ هَذَا الْحُوبِ مِنَ الْعِظَمِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [٤ ١٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
الْآيَةَ لَا يَخْفَى مَا يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ عَدَمِ ظُهُورِ وَجْهِ الرَّبْطِ بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ، وَهَذَا الْجَزَاءِ، وَعَلَيْهِ، فَفِي الْآيَةِ نَوْعُ إِجْمَالٍ، وَالْمَعْنَى كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
220
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ فِي حِجْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً، تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً رَغِبَ عَنْ نِكَاحِهَا وَعَضَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ ; لِئَلَّا يُشَارِكَهُ فِي مَالِهَا، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا إِلَيْهِنَّ وَيُبَلِّغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، أَيْ: كَمَا أَنَّهُ يَرْغَبُ عَنْ نِكَاحِهَا إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَالِ، وَالْجِمَالِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجِمَالٍ إِلَّا بِالْإِقْسَاطِ إِلَيْهَا، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا كَامِلَةً غَيْرَ مَنْقُوصَةٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [٤ ١٢٧]، وَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى الْآيَةَ، فَتُبَيِّنُ أَنَّهَا يَتَامَى النِّسَاءِ بِدَلِيلِ تَصْرِيحِهِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ الْآيَةَ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي زَوَاجِ الْيَتِيمَاتِ فَدَعُوهُنَّ، وَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ يَقْتَضِيهِ، وَهَذَا هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ ; لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمَةٍ عَلَى الْقَلْبِ، كَمَا قِيلَ أَيَامَى وَالْأَصْلُ أَيَائِمُ وَيَتَائِمُ لِمَا عُرِفَ أَنَّ جَمْعَ الْفِعْلِيَّةِ فَعَائِلُ، وَهَذَا الْقَلْبُ يَطَّرِدُ فِي مُعْتَلِّ اللَّامِ كَقَضِيَّةٍ، وَمَطِيَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُقْصَرُ عَلَى السَّمَاعِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ اشْتِرَاءِ الْوَصِيِّ وَبَيْعِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ، وَلِلسُّلْطَانِ النَّظَرُ فِيمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا أَرَادَ نِكَاحَ مَنْ هُوَ وَلِيُّهَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكِحَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَهُ مِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ، وَرَبِيعَةُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ.
وَقَالَ زُفَرُ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، أَوْ يُزَوِّجَهَا وَلِيٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِنْهُ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: يُوكِلُ رَجُلًا غَيْرَهُ فَيُزَوِّجُهَا مِنْهُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَغَيْرُهُ.
وَأَخَذَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ تَفْسِيرِ عَائِشَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا الرَّدَّ إِلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ اشْتِرَاءِ الْوَصِيِّ وَبَيْعِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ، وَلِلسُّلْطَانِ النَّظَرُ فِيمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا أَرَادَ نِكَاحَ مَنْ هُوَ وَلِيُّهَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكِحَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَهُ مِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ، وَرَبِيعَةُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ.
وَقَالَ زُفَرُ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، أَوْ يُزَوِّجَهَا وَلِيٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِنْهُ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: يُوكِلُ رَجُلًا غَيْرَهُ فَيُزَوِّجُهَا مِنْهُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَغَيْرُهُ.
وَأَخَذَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ تَفْسِيرِ عَائِشَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا الرَّدَّ إِلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ
221
فِيمَا فَسَدَ مِنَ الصَّدَاقِ، أَوْ وَقَعَ الْغَبْنُ فِي مِقْدَارِهِ ; لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «وَيُبَلِّغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلصَّدَاقِ سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لِلنَّاسِ مَنَاكِحُ عُرِفَتْ لَهُمْ، وَعَرَفُوا لَهَا يَعْنِي مُهُورًا وَأَكْفَاءً.
وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ إِذَا أُعْطِيَتْ حُقُوقَهَا وَافِيَةً، وَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْيَتِيمَةَ لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تَبْلُغَ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ، اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّهُنَّ يَتَامَى، بِقَوْلِهِ: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَهَذَا الِاسْمُ أَيْضًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الصِّغَارِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [٢ ٤٩]، وَهُنَّ إِذْ ذَاكَ رَضِيعَاتٌ فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ مَعَ الْإِقْسَاطِ فِي الصَّدَاقِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ.
وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ، فَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا، وَإِنْ خَالَفَ فِي تَزْوِيجِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
تَنْبِيهٌ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَاتَّفَقَ كُلُّ مَنْ يُعَانِي الْعُلُومَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، لَيْسَ لَهُ مَفْهُومٌ إِذْ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَخَفِ الْقِسْطَ فِي الْيَتَامَى لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا، كَمَنْ خَافَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِمَنْ خَافَ ذَلِكَ وَأَنَّ حُكْمَهَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا فَسَّرَتْهَا بِهِ عَائِشَةُ، وَارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنْ لَهَا مَفْهُومًا مُعْتَبَرًا ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتِيمَاتِ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ سِوَاهُنَّ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَخَافُوا عَدَمَ الْقِسْطِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِمُجَاوَزَتِهِنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ، بَلْ يَجُوزُ لَهُمْ حِينَئِذٍ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِمُجَاوَزَتِهِنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ عِنْدَ خَوْفِهِمْ أَنْ لَا يُقْسِطُوا فِيهِنَّ، أَشَارَ إِلَى الْقَدْرِ الْجَائِزِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي
وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ إِذَا أُعْطِيَتْ حُقُوقَهَا وَافِيَةً، وَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْيَتِيمَةَ لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تَبْلُغَ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ، اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّهُنَّ يَتَامَى، بِقَوْلِهِ: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَهَذَا الِاسْمُ أَيْضًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الصِّغَارِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [٢ ٤٩]، وَهُنَّ إِذْ ذَاكَ رَضِيعَاتٌ فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ مَعَ الْإِقْسَاطِ فِي الصَّدَاقِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ.
وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ، فَلَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا، وَإِنْ خَالَفَ فِي تَزْوِيجِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
تَنْبِيهٌ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَاتَّفَقَ كُلُّ مَنْ يُعَانِي الْعُلُومَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، لَيْسَ لَهُ مَفْهُومٌ إِذْ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَخَفِ الْقِسْطَ فِي الْيَتَامَى لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا، كَمَنْ خَافَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِمَنْ خَافَ ذَلِكَ وَأَنَّ حُكْمَهَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا فَسَّرَتْهَا بِهِ عَائِشَةُ، وَارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنْ لَهَا مَفْهُومًا مُعْتَبَرًا ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتِيمَاتِ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ سِوَاهُنَّ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَخَافُوا عَدَمَ الْقِسْطِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِمُجَاوَزَتِهِنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ، بَلْ يَجُوزُ لَهُمْ حِينَئِذٍ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِمُجَاوَزَتِهِنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ عِنْدَ خَوْفِهِمْ أَنْ لَا يُقْسِطُوا فِيهِنَّ، أَشَارَ إِلَى الْقَدْرِ الْجَائِزِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي
222
ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى الْآيَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، أَيْ: إِنْ خَشِيتُمْ ذَلِكَ فَتَحَرَّجْتُمْ مِنْ ظُلْمِ الْيَتَامَى، فَاخْشَوْا أَيْضًا وَتَحَرَّجُوا مِنْ ظُلْمِ النِّسَاءِ بِعَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ، فَقَلِّلُوا عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ وَلَا تَزِيدُوا عَلَى أَرْبَعٍ، وَإِنْ خِفْتُمْ عَدَمَ إِمْكَانِ ذَلِكَ مَعَ التَّعَدُّدِ فَاقْتَصِرُوا عَلَى الْوَاحِدَةِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ شَبِيهَةٌ بِالْيَتِيمِ، لِضَعْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُدَافَعَةِ عَنْ حَقِّهِ فَكَمَا خَشِيتُمْ مِنْ ظُلْمِهِ فَاخْشَوْا مِنْ ظُلْمِهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ وِلَايَةِ الْيَتِيمِ وَلَا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الزِّنَى، فَقِيلَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ: إِنْ خِفْتُمُ الذَّنْبَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَخَافُوا ذَنْبَ الزِّنَى، فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا. وَهَذَا أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ فِيمَا يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا إِلَّا بِتَوْفِيَتِهِ حُقُوقَهَا كَامِلَةً، وَأَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ وَيُحَرَّمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ الضَّالِّ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ». وَكَذَا قَالَ لِلْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْأَسَدِيِّ وَأَنَّهُ مَعَ خَشْيَةِ عَدَمِ الْعَدْلِ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ غَيْرِ وَاحِدَةٍ، وَالْخَوْفُ فِي الْآيَةِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ الْخَشْيَةُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ الْعِلْمُ، أَيْ: وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا الْآيَةَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْخَوْفِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ قَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: [الطَّوِيلِ]
فَقَوْلُهُ أَخَافُ: يَعْنِي أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ
عَبَّرَ تَعَالَى عَنِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا الَّتِي هِيَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ [٤ ٣]، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ طَابَ ; لِأَنَّهَا هُنَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَاتُ لَا الذَّوَاتُ. أَيْ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ بِكْرٍ أَوْ ثَيِّبٍ، أَوْ مَا طَابَ لَكُمْ لِكَوْنِهِ حَلَالًا، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْوَصْفَ عُبِّرَ عَنِ الْعَاقِلِ بِمَا كَقَوْلِكَ مَا زَيْدٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ تَعْنِي أَفَاضِلٌ؟.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى الْآيَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، أَيْ: إِنْ خَشِيتُمْ ذَلِكَ فَتَحَرَّجْتُمْ مِنْ ظُلْمِ الْيَتَامَى، فَاخْشَوْا أَيْضًا وَتَحَرَّجُوا مِنْ ظُلْمِ النِّسَاءِ بِعَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ، فَقَلِّلُوا عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ وَلَا تَزِيدُوا عَلَى أَرْبَعٍ، وَإِنْ خِفْتُمْ عَدَمَ إِمْكَانِ ذَلِكَ مَعَ التَّعَدُّدِ فَاقْتَصِرُوا عَلَى الْوَاحِدَةِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ شَبِيهَةٌ بِالْيَتِيمِ، لِضَعْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُدَافَعَةِ عَنْ حَقِّهِ فَكَمَا خَشِيتُمْ مِنْ ظُلْمِهِ فَاخْشَوْا مِنْ ظُلْمِهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ وِلَايَةِ الْيَتِيمِ وَلَا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الزِّنَى، فَقِيلَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ: إِنْ خِفْتُمُ الذَّنْبَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَخَافُوا ذَنْبَ الزِّنَى، فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا. وَهَذَا أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ فِيمَا يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا إِلَّا بِتَوْفِيَتِهِ حُقُوقَهَا كَامِلَةً، وَأَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ وَيُحَرَّمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ الضَّالِّ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ». وَكَذَا قَالَ لِلْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْأَسَدِيِّ وَأَنَّهُ مَعَ خَشْيَةِ عَدَمِ الْعَدْلِ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ غَيْرِ وَاحِدَةٍ، وَالْخَوْفُ فِي الْآيَةِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ الْخَشْيَةُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ الْعِلْمُ، أَيْ: وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا الْآيَةَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْخَوْفِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ قَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: [الطَّوِيلِ]
إِذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ | تُرَوِّي عِظَامِي فِي الْمَمَاتِ عُرُوقُهَا |
وَلَا تَدْفِنَّنِي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي | أَخَافُ إِذَا مَا مُتُّ أَلَّا أَذُوقَهَا |
تَنْبِيهٌ
عَبَّرَ تَعَالَى عَنِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا الَّتِي هِيَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ [٤ ٣]، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ طَابَ ; لِأَنَّهَا هُنَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَاتُ لَا الذَّوَاتُ. أَيْ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ بِكْرٍ أَوْ ثَيِّبٍ، أَوْ مَا طَابَ لَكُمْ لِكَوْنِهِ حَلَالًا، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْوَصْفَ عُبِّرَ عَنِ الْعَاقِلِ بِمَا كَقَوْلِكَ مَا زَيْدٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ تَعْنِي أَفَاضِلٌ؟.
223
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَبَّرَ عَنْهُنَّ بِـ (مَا) إِشَارَةً إِلَى نُقْصَانِهِنَّ وَشَبَّهَهُنَّ بِمَا لَا يَعْقِلُ حَيْثُ يُؤْخَذُ بِالْعِوَضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا قَدْرَ هَذَا النَّصِيبِ الَّذِي هُوَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ كَقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَتَيْنِ [٤ ١١]، وَقَوْلِهِ فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الْآيَةَ [٤ ١٧٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا حِكْمَةَ تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ مَعَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقَرَابَةِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [٤] ; لِأَنَّ الْقَائِمَ عَلَى غَيْرِهِ الْمُنْفِقَ مَالَهُ عَلَيْهِ مُتَرَقِّبٌ لِلنَّقْصِ دَائِمًا، وَالْمُقَوَّمَ عَلَيْهِ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ الْمَالُ مُتَرَقِّبٌ لِلزِّيَادَةِ دَائِمًا، وَالْحِكْمَةُ فِي إِيثَارِ مُتَرَقِّبِ النَّقْصِ عَلَى مُتَرَقِّبِ الزِّيَادَةِ جَبْرٌ لِنَقْصَةِ الْمُتَرَقِّبَةِ ظَاهِرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ الْآيَةَ، صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الْبَنَاتِ إِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَصَاعِدًا، فَلَهُنَّ الثُّلْثَانِ وَقَوْلُهُ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يُوهِمُ أَنَّ الِاثْنَتَيْنِ لَيْسَتَا كَذَلِكَ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَهَا النِّصْفُ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الِاثْنَتَيْنِ لَيْسَتَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ فَفِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِ الْبِنْتَيْنِ إِجْمَالٌ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي مَوْضِعَيْنِ إِلَى أَنَّ هَذَا الظَّرْفَ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، وَأَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَيْضًا:
الْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، إِذِ الذَّكَرُ يَرِثُ مَعَ الْوَاحِدَةِ الثُّلُثَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ فِي صُورَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَيْسَا بِحَظٍّ لَهُمَا أَصْلًا، لَكِنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَيْسَتْ صُورَةَ الِاجْتِمَاعِ، إِذْ مَا مِنْ صُورَةٍ يَجْتَمِعُ فِيهَا الِابْنَتَانِ مَعَ الذَّكَرِ وَيَكُونُ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، فَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ صُورَةَ انْفِرَادِهِمَا عَنِ الذَّكَرِ. وَاعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِلُزُومِ الدَّوْرِ قَائِلًا: إِنَّ مَعْرِفَةَ أَنَّ لِلذَّكَرِ الثُّلُثَيْنِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّهُ مَا عُلِمَ مِنَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا قَدْرَ هَذَا النَّصِيبِ الَّذِي هُوَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ كَقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَتَيْنِ [٤ ١١]، وَقَوْلِهِ فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الْآيَةَ [٤ ١٧٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا حِكْمَةَ تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ مَعَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقَرَابَةِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [٤] ; لِأَنَّ الْقَائِمَ عَلَى غَيْرِهِ الْمُنْفِقَ مَالَهُ عَلَيْهِ مُتَرَقِّبٌ لِلنَّقْصِ دَائِمًا، وَالْمُقَوَّمَ عَلَيْهِ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ الْمَالُ مُتَرَقِّبٌ لِلزِّيَادَةِ دَائِمًا، وَالْحِكْمَةُ فِي إِيثَارِ مُتَرَقِّبِ النَّقْصِ عَلَى مُتَرَقِّبِ الزِّيَادَةِ جَبْرٌ لِنَقْصَةِ الْمُتَرَقِّبَةِ ظَاهِرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ الْآيَةَ، صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الْبَنَاتِ إِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَصَاعِدًا، فَلَهُنَّ الثُّلْثَانِ وَقَوْلُهُ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يُوهِمُ أَنَّ الِاثْنَتَيْنِ لَيْسَتَا كَذَلِكَ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَهَا النِّصْفُ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الِاثْنَتَيْنِ لَيْسَتَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ فَفِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِ الْبِنْتَيْنِ إِجْمَالٌ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي مَوْضِعَيْنِ إِلَى أَنَّ هَذَا الظَّرْفَ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، وَأَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَيْضًا:
الْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، إِذِ الذَّكَرُ يَرِثُ مَعَ الْوَاحِدَةِ الثُّلُثَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ فِي صُورَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَيْسَا بِحَظٍّ لَهُمَا أَصْلًا، لَكِنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَيْسَتْ صُورَةَ الِاجْتِمَاعِ، إِذْ مَا مِنْ صُورَةٍ يَجْتَمِعُ فِيهَا الِابْنَتَانِ مَعَ الذَّكَرِ وَيَكُونُ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، فَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ صُورَةَ انْفِرَادِهِمَا عَنِ الذَّكَرِ. وَاعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِلُزُومِ الدَّوْرِ قَائِلًا: إِنَّ مَعْرِفَةَ أَنَّ لِلذَّكَرِ الثُّلُثَيْنِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّهُ مَا عُلِمَ مِنَ
224
الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَتَيْنِ، فَلَوْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مُسْتَخْرَجَةً مِنْ حَظِّ الذَّكَرِ لَزِمَ الدَّوْرَ سَاقِطٌ ; لِأَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ هُوَ الْحَظُّ الْمُعَيَّنُ لِلْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ، وَالَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ حَظِّ الذَّكَرِ هُوَ مَعْرِفَةُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مُطْلَقًا، فَلَا دَوْرَ لِانْفِكَاكِ الْجِهَةِ، وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُهُمْ أَيْضًا بِأَنَّ لِلِابْنِ مَعَ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَهُمَا النِّصْفُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ لَمَّا اسْتَحَقَّتَا مَعَ الذَّكَرِ النِّصْفَ عُلِمَ أَنَّهُمَا إِنِ انْفَرَدَتَا عَنْهُ، اسْتَحَقَّتَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ إِذَا انْفَرَدَتْ أَخَذَتِ النِّصْفَ بَعْدَمَا كَانَتْ مَعَهُ تَأْخُذُ الثُّلُثَ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا أَنَّ الْبِنْتَ تَأْخُذُ مَعَ الِابْنِ الذَّكَرِ الثُّلُثَ بِلَا نِزَاعٍ، فَلِأَنْ تَأْخُذَهُ مَعَ الِابْنَةِ الْأُنْثَى أَوْلَى.
فَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَشَارَ إِلَى مِيرَاثِ الْبِنْتَيْنِ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَحُكْمَ الْوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ إِيضَاحًا، أَنَّهُ تَعَالَى فَرَّعَهُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا قَبْلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى سَهْمِ الْإِنَاثِ لَمْ تَقَعِ الْفَاءُ مَوْقِعَهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأُخْتَيْنِ: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [٤ ١٧٦] ; لِأَنَّ الْبِنْتَ أَمَسُّ رَحِمًا، وَأَقْوَى سَبَبًا فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْأُخْتِ بِلَا نِزَاعٍ.
فَإِذَا صَرَّحَ تَعَالَى: بِأَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، عُلِمَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ كَذَلِكَ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ، أَعْنِي: مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ الَّذِي الْمَسْكُوتُ فِيهِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ، مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْمٍ، كَمَا عُلِمَ فِي الْأُصُولِ فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَفْهَمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ كَذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ لَمَّا صَرَّحَ أَنَّ لِمَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَيْنِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْأَخَوَاتِ، أَفْهَمَ أَيْضًا مِنْ بَابٍ أَوْلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا زَادَ مِنَ الْأَخَوَاتِ غَيْرُ الثُّلُثَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْطِ لِلْبَنَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا تَسْتَحِقُّهُ الْأَخَوَاتُ، فَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ فِي الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ أَخْذَهُ مِنْهُ، وَيَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا إِيضَاحًا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ
فَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَشَارَ إِلَى مِيرَاثِ الْبِنْتَيْنِ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَحُكْمَ الْوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ إِيضَاحًا، أَنَّهُ تَعَالَى فَرَّعَهُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا قَبْلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى سَهْمِ الْإِنَاثِ لَمْ تَقَعِ الْفَاءُ مَوْقِعَهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأُخْتَيْنِ: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [٤ ١٧٦] ; لِأَنَّ الْبِنْتَ أَمَسُّ رَحِمًا، وَأَقْوَى سَبَبًا فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْأُخْتِ بِلَا نِزَاعٍ.
فَإِذَا صَرَّحَ تَعَالَى: بِأَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، عُلِمَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ كَذَلِكَ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ، أَعْنِي: مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ الَّذِي الْمَسْكُوتُ فِيهِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ، مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْمٍ، كَمَا عُلِمَ فِي الْأُصُولِ فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَفْهَمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ كَذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ لَمَّا صَرَّحَ أَنَّ لِمَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَيْنِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْأَخَوَاتِ، أَفْهَمَ أَيْضًا مِنْ بَابٍ أَوْلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا زَادَ مِنَ الْأَخَوَاتِ غَيْرُ الثُّلُثَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْطِ لِلْبَنَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا تَسْتَحِقُّهُ الْأَخَوَاتُ، فَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ فِي الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ أَخْذَهُ مِنْهُ، وَيَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا إِيضَاحًا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ
225
عَنْهُ - قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدٍ قُتِلَ أَبُوهُمَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، وَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا، وَلَا يُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ» فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَمِّهِمَا، فَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتِي سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ».
وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَنَّهُ قَالَ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ إِنَّمَا هُمَا لِمَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ فِيهِ أُمُورٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِمِثْلِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ أَيْضًا: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ النِّصْفَ لِلْوَاحِدَةِ جَاعِلًا كَوْنَهَا وَاحِدَةً شَرْطًا مُعَلَّقًا عَلَيْهِ فَرْضُ النِّصْفِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَفَاهِيمَ إِذَا تَعَارَضَتْ قُدِّمَ الْأَقْوَى مِنْهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الظَّرْفِ ; لِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ لَمْ يُقَدَّمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفَاهِيمِ، إِلَّا مَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ مَنْطُوقٌ لَا مَفْهُومٌ وَهُوَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَإِنَّمَا مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ وَالْغَايَةِ، وَغَيْرُ هَذَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الشَّرْطِ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» مُبَيِّنًا مَرَاتِبَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ: [الرَّجَزِ]
وَقَالَ صَاحِبُ «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» مَا نَصُّهُ: مَسْأَلَةُ الْغَايَةِ قِيلَ: مَنْطُوقٌ وَالْحَقُّ مَفْهُومٌ يَتْلُوهُ الشَّرْطُ، فَالصِّفَةُ الْمُنَاسِبَةُ، فَمُطْلَقُ الصِّفَةِ غَيْرُ الْعَدَدِ، فَالْعَدَدُ، فَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ إِلَخْ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ.
الثَّانِي: دَلَالَةُ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ.
الثَّالِثُ: تَصْرِيحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَنَّهُ قَالَ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ إِنَّمَا هُمَا لِمَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ فِيهِ أُمُورٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِمِثْلِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ أَيْضًا: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ النِّصْفَ لِلْوَاحِدَةِ جَاعِلًا كَوْنَهَا وَاحِدَةً شَرْطًا مُعَلَّقًا عَلَيْهِ فَرْضُ النِّصْفِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَفَاهِيمَ إِذَا تَعَارَضَتْ قُدِّمَ الْأَقْوَى مِنْهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الظَّرْفِ ; لِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ لَمْ يُقَدَّمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفَاهِيمِ، إِلَّا مَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ مَنْطُوقٌ لَا مَفْهُومٌ وَهُوَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَإِنَّمَا مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ وَالْغَايَةِ، وَغَيْرُ هَذَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الشَّرْطِ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» مُبَيِّنًا مَرَاتِبَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ: [الرَّجَزِ]
أَعْلَاهُ لَا يُرْشَدُ إِلَّا الْعِلْمَا | فَمَا لِمَنْطُوقٍ بِضَعْفٍ انْتَمَى |
فَالشَّرْطُ فَالْوَصْفُ الَّذِي يُنَاسِبُ | فَمُطْلَقُ الْوَصْفِ الَّذِي يُقَارِبُ |
فَعَدَدٌ ثَمَّتَ تَقْدِيمٌ يَلِي | وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى النَّهْجِ الْجَلِيِّ |
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ.
الثَّانِي: دَلَالَةُ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ.
الثَّالِثُ: تَصْرِيحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
226
الرَّابِعُ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مَا نَصُّهُ: وَفِي «شَرْحِ الْيَنْبُوعِ» نَقْلًا عَنِ الشَّرِيفِ شَمْسِ الدِّينِ الْأَرْمُونِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي «شَرْحِ فَرَائِضِ الْوَسِيطِ» : صَحَّ رُجُوعُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ فَصَارَ إِجْمَاعًا. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَجَزَمَ بِهِ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مِنْ أَنَّ الْمَفْهُومَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ مَفْهُومُ عَدَدٍ غَلَطٌ. وَالتَّحْقِيقُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَفْهُومُ شَرْطٍ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ بِدَرَجَاتٍ كَمَا رَأَيْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ فِي «نَشْرِ الْبُنُودِ عَلَى مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي شَرْحِ قَوْلِهِ:
مَا نَصَّهُ: وَالْمُرَادُ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ مَا فُهِمَ مِنْ تَعْلِيقِ حُكْمٍ عَلَى شَيْءٍ بِأَدَاةِ شَرْطٍ كَإِنْ وَإِذَا، وَقَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَيْتِ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا مَا نَصُّهُ: وَمِنْهَا الشَّرْطُ نَحْوَ: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ [٦٥ ٦]، مَفْهُومُ انْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، أَيْ: فَغَيْرُ أُولَاتِ حَمْلٍ لَا يَجِبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِنَّ وَنَحْوَ: مَنْ تَطَهَّرْ صَحَّتْ صِلَاتُهُ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، عُلِّقَ فِيهِ فَرْضُ النِّصْفِ عَلَى شَرْطٍ هُوَ كَوْنُ الْبِنْتِ وَاحِدَةً، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِنِ انْتَفَى الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ كَوْنُهَا وَاحِدَةً انْتَفَى الْمَشْرُوطُ الَّذِي هُوَ فَرْضُ النِّصْفِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَذَلِكَ الْمَفْهُومُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ; لِتَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْطِ كَوْنَهُنَّ نِسَاءً، وَقَوْلُهُ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَصْفٌ زَائِدٌ، وَكَوْنُهَا وَاحِدَةً هُوَ نَفْسُ الشَّرْطِ لَا وَصْفٌ زَائِدٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ تَقْدِيمَ مَفْهُومِ الشَّرْطِ عَلَى مَفْهُومِ الصِّفَةِ ظَرْفًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ.
الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا جَدَلِيًّا أَنَّهُ مَفْهُومُ شَرْطٍ لَتَسَاقَطَ الْمَفْهُومَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا وَيُطْلَبُ الدَّلِيلُ مِنْ خَارِجٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَدِلَّةَ عَلَى كَوْنِ الْبِنْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي: إِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي لَفْظَةِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِذَا كَانَتِ الِاثْنَتَانِ كَذَلِكَ؟
قَالَ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مَا نَصُّهُ: وَفِي «شَرْحِ الْيَنْبُوعِ» نَقْلًا عَنِ الشَّرِيفِ شَمْسِ الدِّينِ الْأَرْمُونِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي «شَرْحِ فَرَائِضِ الْوَسِيطِ» : صَحَّ رُجُوعُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ فَصَارَ إِجْمَاعًا. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَجَزَمَ بِهِ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مِنْ أَنَّ الْمَفْهُومَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ مَفْهُومُ عَدَدٍ غَلَطٌ. وَالتَّحْقِيقُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَفْهُومُ شَرْطٍ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ بِدَرَجَاتٍ كَمَا رَأَيْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ فِي «نَشْرِ الْبُنُودِ عَلَى مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي شَرْحِ قَوْلِهِ:
وَهُوَ ظَرْفُ عِلَّةٍ وَعَدَدُ | وَمِنْهُ شَرْطُ غَايَةٍ تُعْتَمَدُ |
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، عُلِّقَ فِيهِ فَرْضُ النِّصْفِ عَلَى شَرْطٍ هُوَ كَوْنُ الْبِنْتِ وَاحِدَةً، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِنِ انْتَفَى الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ كَوْنُهَا وَاحِدَةً انْتَفَى الْمَشْرُوطُ الَّذِي هُوَ فَرْضُ النِّصْفِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَذَلِكَ الْمَفْهُومُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ; لِتَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْطِ كَوْنَهُنَّ نِسَاءً، وَقَوْلُهُ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَصْفٌ زَائِدٌ، وَكَوْنُهَا وَاحِدَةً هُوَ نَفْسُ الشَّرْطِ لَا وَصْفٌ زَائِدٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ تَقْدِيمَ مَفْهُومِ الشَّرْطِ عَلَى مَفْهُومِ الصِّفَةِ ظَرْفًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ.
الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا جَدَلِيًّا أَنَّهُ مَفْهُومُ شَرْطٍ لَتَسَاقَطَ الْمَفْهُومَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا وَيُطْلَبُ الدَّلِيلُ مِنْ خَارِجٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَدِلَّةَ عَلَى كَوْنِ الْبِنْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي: إِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي لَفْظَةِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِذَا كَانَتِ الِاثْنَتَانِ كَذَلِكَ؟
227
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الِاثْنَتَيْنِ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَإِذَنْ قَوْلُهُ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ تَنْصِيصٌ عَلَى حُكْمِ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَةَ فَوْقَ ذُكِرَتْ ; لِإِفَادَةِ أَنَّ الْبَنَاتِ لَا يَزِدْنَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَلَوْ بَلَغَ عَدَدُهُنَّ مَا بَلَغَ.
وَأَمَّا ادِّعَاءُ أَنَّ لَفْظَةَ فَوْقَ زَائِدَةٌ وَادِّعَاءُ أَنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ مَعْنَاهُ اثْنَتَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَكُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ مِثْلِهِ وَإِنْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِخْوَةِ الَّذِينَ يَأْخُذُ الْمُنْفَرِدُ مِنْهُمُ السُّدُسَ وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ يَشْتَرِكُونَ فِي الثُّلُثِ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، سَوَاءٌ أُخُوَّةَ الْأُمِّ بِدَلِيلِ بَيَانِهِ تَعَالَى أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأَبِ أَشِقَّاءُ أَوْ لَا، يَرِثُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كُلَّ الْمَالِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ يَرْثُونَ الْمَالَ كُلَّهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَقَالَ فِي الْمُنْفَرِدِ مِنْهُمْ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَقَالَ فِي جَمَاعَتِهِمْ: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأَبِ، كَانُوا أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ. كَمَا أَجْمَعُوا أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً الْآيَةَ، أَنَّهَا فِي إِخْوَةِ الْأُمِّ، وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ عَدَمُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، كَمَا قَالَ النَّاظِمُ: [الرَّجَزِ]
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَالَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَعَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يُخْلِفْ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا، وَعَلَى الْوَارِثِ الَّذِي لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ، وَعَلَى الْمَالِ الْمَوْرُوثِ عَمَّنْ لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ ; إِلَّا أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ غَيْرُ شَائِعٍ وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِ الْكَلَالَةِ.
وَاخْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَصْلَهَا مَنْ تَكَلَّلَهُ إِذَا أَحَاطَ بِهِ وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ، وَالْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الِاثْنَتَيْنِ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَإِذَنْ قَوْلُهُ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ تَنْصِيصٌ عَلَى حُكْمِ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَةَ فَوْقَ ذُكِرَتْ ; لِإِفَادَةِ أَنَّ الْبَنَاتِ لَا يَزِدْنَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَلَوْ بَلَغَ عَدَدُهُنَّ مَا بَلَغَ.
وَأَمَّا ادِّعَاءُ أَنَّ لَفْظَةَ فَوْقَ زَائِدَةٌ وَادِّعَاءُ أَنَّ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ مَعْنَاهُ اثْنَتَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَكُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ مِثْلِهِ وَإِنْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِخْوَةِ الَّذِينَ يَأْخُذُ الْمُنْفَرِدُ مِنْهُمُ السُّدُسَ وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ يَشْتَرِكُونَ فِي الثُّلُثِ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، سَوَاءٌ أُخُوَّةَ الْأُمِّ بِدَلِيلِ بَيَانِهِ تَعَالَى أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأَبِ أَشِقَّاءُ أَوْ لَا، يَرِثُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كُلَّ الْمَالِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ يَرْثُونَ الْمَالَ كُلَّهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَقَالَ فِي الْمُنْفَرِدِ مِنْهُمْ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَقَالَ فِي جَمَاعَتِهِمْ: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأَبِ، كَانُوا أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ. كَمَا أَجْمَعُوا أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً الْآيَةَ، أَنَّهَا فِي إِخْوَةِ الْأُمِّ، وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ عَدَمُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، كَمَا قَالَ النَّاظِمُ: [الرَّجَزِ]
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْكَلَالَةِ | هِيَ انْقِطَاعُ النَّسْلِ لَا مَحَالَةَ |
لَا وَالِدَ يَبْقَى وَلَا مَوْلُودَ | فَانْقَطَعَ الْأَبْنَاءُ وَالْجُدُودُ |
وَاخْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَصْلَهَا مَنْ تَكَلَّلَهُ إِذَا أَحَاطَ بِهِ وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ، وَالْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ
بِالْرَأْسِ، وَالْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ بِالْعَدَدِ ; لِأَنَّ الْوَرَثَةَ فِيهَا مُحِيطَةٌ بِالْمَيِّتِ مِنْ جَوَانِبِهِ لَا مِنْ أَصْلِهِ وَلَا فَرْعِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهَا مِنَ الْكَلَالِ بِمَعْنَى الْإِعْيَاءِ ; لِأَنَّ الْكَلَالَةَ أَضْعَفُ مِنْ قَرَابَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهَا مِنَ الْكُلِّ بِمَعْنَى الظَّهْرِ وَعَلَيْهِ فَهِيَ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ كَلَالَةً. فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ حَالٌ مِنْ نَائِبِ فَاعِلِ يُورَثُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: يُورَثُ فِي حَالِ كَوْنِهِ ذَا كَلَالَةٍ أَيْ قَرَابَةِ غَيْرِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: هِيَ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: يُورَثُ لِأَجْلِ الْكَلَالَةِ أَيِ الْقَرَابَةِ، وَقِيلَ: هِيَ خَبَرُ كَانَ، وَيُورَثُ صِفَةٌ لِرَجُلٍ، أَيْ: كَانَ رَجُلٌ مَوْرُوثٌ ذَا كَلَالَةٍ لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ جَعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا أَوْ لَا؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُنَّ السَّبِيلَ بِالْحَدِّ كَقَوْلِهِ فِي الْبِكْرِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآيَةَ [٢٤ ٢]، ، وَقَوْلِهِ فِي الثَّيِّبِ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ كَمَا صَحَّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوخَةَ التِّلَاوَةِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ مَأْخُوذٌ أَيْضًا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى مُحْكَمَةٍ غَيْرِ مَنْسُوخَةِ التِّلَاوَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا وَهُمَا مُحْصَنَانِ وَرَجَمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَمُّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ لِلْمُعْرِضِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصِنِ، دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ وَاضِحٌ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الرَّجْمِ، وَيُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهُنَّ السَّبِيلَ بِالْحَدِّ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَكَحَهَا الْأَبُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا الْمُرَادُ بِنِكَاحِ الْأَبِ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهَا مِنَ الْكَلَالِ بِمَعْنَى الْإِعْيَاءِ ; لِأَنَّ الْكَلَالَةَ أَضْعَفُ مِنْ قَرَابَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهَا مِنَ الْكُلِّ بِمَعْنَى الظَّهْرِ وَعَلَيْهِ فَهِيَ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ كَلَالَةً. فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ حَالٌ مِنْ نَائِبِ فَاعِلِ يُورَثُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: يُورَثُ فِي حَالِ كَوْنِهِ ذَا كَلَالَةٍ أَيْ قَرَابَةِ غَيْرِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: هِيَ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: يُورَثُ لِأَجْلِ الْكَلَالَةِ أَيِ الْقَرَابَةِ، وَقِيلَ: هِيَ خَبَرُ كَانَ، وَيُورَثُ صِفَةٌ لِرَجُلٍ، أَيْ: كَانَ رَجُلٌ مَوْرُوثٌ ذَا كَلَالَةٍ لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ جَعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا أَوْ لَا؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُنَّ السَّبِيلَ بِالْحَدِّ كَقَوْلِهِ فِي الْبِكْرِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآيَةَ [٢٤ ٢]، ، وَقَوْلِهِ فِي الثَّيِّبِ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ كَمَا صَحَّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوخَةَ التِّلَاوَةِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ مَأْخُوذٌ أَيْضًا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى مُحْكَمَةٍ غَيْرِ مَنْسُوخَةِ التِّلَاوَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا وَهُمَا مُحْصَنَانِ وَرَجَمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَمُّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ لِلْمُعْرِضِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصِنِ، دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ وَاضِحٌ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الرَّجْمِ، وَيُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهُنَّ السَّبِيلَ بِالْحَدِّ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَكَحَهَا الْأَبُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا الْمُرَادُ بِنِكَاحِ الْأَبِ
229
هَلْ هُوَ الْعَقْدُ أَوِ الْوَطْءُ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَسِيسٌ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [٣٣ ٤٩]، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ نِكَاحٌ وَأَنَّهُ لَا مَسِيسَ فِيهِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا الْأَبُ حَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهَا الْأَبُ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الِابْنِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْأَبِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهَا وَقَدْ أَطْلَقَ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مُرِيدًا بِهِ الْجِمَاعَ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [٢ ٢٣٠] ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ هُنَا لَيْسَ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْوَطْءِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ: «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» يَعْنِي الْجِمَاعَ وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يُرْوَى مِنَ الْمُخَالَفَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ; لِوُضُوحِ النَّصِّ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَفْظُ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْجِمَاعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجِمَاعِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ ; لِأَنَّهُ سَبَبُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْعَكْسِ.
تَنْبِيهٌ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ لَفْظَةَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [٤ ٢٢]، مَصْدَرِيَّةٌ وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنَ النِّسَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تَنْكِحُوا لَا بِقَوْلِهِ نَكَحَ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ نِكَاحَ آبَائِكُمْ، أَيْ: لَا تَفْعَلُوا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى النِّسَاءِ الَّتِي نَكَحَهَا الْآبَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [٤ ٣]، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكِحُونَ نِسَاءَ آبَائِهِمْ كَمَا يَدُلُّ لَهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ خَطَبَ ابْنُهُ امْرَأَتَهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ فَقَالَ: «ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكِ»، فَنَزَلَتْ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ الْآيَةَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: نِكَاحُ زَوْجَاتِ الْآبَاءِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَمِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْمَذْكُورُ، فَقَدْ تَزَوَّجَ أَمَّ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَتْ تَحْتَ الْأَسْلَتِ أَبِيهِ،
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا الْأَبُ حَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهَا الْأَبُ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الِابْنِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْأَبِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهَا وَقَدْ أَطْلَقَ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مُرِيدًا بِهِ الْجِمَاعَ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [٢ ٢٣٠] ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ هُنَا لَيْسَ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْوَطْءِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ: «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» يَعْنِي الْجِمَاعَ وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يُرْوَى مِنَ الْمُخَالَفَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ; لِوُضُوحِ النَّصِّ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَفْظُ النِّكَاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْجِمَاعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجِمَاعِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ ; لِأَنَّهُ سَبَبُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْعَكْسِ.
تَنْبِيهٌ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ لَفْظَةَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [٤ ٢٢]، مَصْدَرِيَّةٌ وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنَ النِّسَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تَنْكِحُوا لَا بِقَوْلِهِ نَكَحَ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ نِكَاحَ آبَائِكُمْ، أَيْ: لَا تَفْعَلُوا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى النِّسَاءِ الَّتِي نَكَحَهَا الْآبَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [٤ ٣]، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكِحُونَ نِسَاءَ آبَائِهِمْ كَمَا يَدُلُّ لَهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ خَطَبَ ابْنُهُ امْرَأَتَهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ فَقَالَ: «ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكِ»، فَنَزَلَتْ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ الْآيَةَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: نِكَاحُ زَوْجَاتِ الْآبَاءِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَمِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْمَذْكُورُ، فَقَدْ تَزَوَّجَ أَمَّ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَتْ تَحْتَ الْأَسْلَتِ أَبِيهِ،
230
وَتَزَوَّجَ الْأَسْوَدُ بْنُ خَلَفٍ ابْنَةَ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِيهِ خَلَفٍ، وَتَزَوَّجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَاخِتَةَ ابْنَةَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِيهِ أُمَيَّةَ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَائِلًا: إِنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَتَزَوَّجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ زَوْجَةَ أَبِيهِ بَعْدَهُ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُسَافِرًا وَأَبَا مُعَيْطٍ، وَكَانَ لَهَا مِنْ أُمَيَّةَ أَبُو الْعِيصِ وَغَيْرُهُ، فَكَانُوا إِخْوَةَ مُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَأَعْمَامِهِمَا، وَتَزَوَّجَ مَنْظُورُ بْنُ زَبَّانِ بْنِ سَيَّارٍ الْفَزَارِيُّ زَوْجَةَ أَبِيهِ مُلَيْكَةَ بِنْتِ خَارِجَةَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمُلَيْكَةُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا مَنْظُورٌ الْمَذْكُورُ بَعْدَ أَنْ فَسَخَ نِكَاحَهَا مِنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
[الطَّوِيلِ]
وَأَشَارَ إِلَى تَزْوِيجِ مَنْظُورٍ هَذَا زَوْجَةَ أَبِيهِ نَاظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ فِي ذِكْرِ مَشَاهِيرِ فَزَارَةَ:
[الرَّجَزِ]
وَقَوْلُهُ: وَحَلَفَ إِلَخْ.
قَالَ شَارِحُهُ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَلَّفَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا بَعْدَ الْعَصْرِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَذَكَرُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ كِنَانَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ تَزَوَّجَ زَوْجَةَ أَبِيهِ خُزَيْمَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَائِغًا لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَفِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنْ قِصَّةِ كِنَانَةَ نَظَرٌ، وَأَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ نَاظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ:
[الرَّجَزِ]
وَذَكَرَ شَارِحُهُ أَنَّ الَّذِي ضَعَّفَ ذَلِكَ هُوَ السُّهَيْلِيُّ نَفْسُهُ، خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ وَمَعْنَى الْأَبْيَاتِ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ مُرٍّ أُخْتَ تَمِيمِ بْنِ مُرِّ بْنِ أَدْبَنَ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ هِيَ أَمُّ ثَلَاثَةٍ
[الطَّوِيلِ]
أَلَّا لَا أُبَالِي الْيَوْمَ مَا فَعَلَ الدَّهْرُ | إِذَا مُنِعَتْ مِنِّي مُلَيْكَةُ وَالْخَمْرُ |
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمْسَتْ بَعِيدًا مَزَارُهَا | فَحَيِّ ابْنَةَ الْمُرِّيِّ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ |
[الرَّجَزِ]
مَنْظُورٌ النَّاكِحُ مَقْتًا وَحَلَفَ | خَمْسِينَ مَا لَهُ عَلَى مَنْعٍ وَقَفَ |
قَالَ شَارِحُهُ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَلَّفَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا بَعْدَ الْعَصْرِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَذَكَرُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ كِنَانَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ تَزَوَّجَ زَوْجَةَ أَبِيهِ خُزَيْمَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَائِغًا لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَفِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنْ قِصَّةِ كِنَانَةَ نَظَرٌ، وَأَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ نَاظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ:
[الرَّجَزِ]
وَهِنْدُ بِنْتُ مُرٍّ أَمُّ حَارِثَةَ | شَخِيصَةٌ وَأُمُّ عَنْزٍ ثَالِثَةْ |
بَرَّةُ أُخْتُهَا عَلَيْهَا خَلَفَا | كِنَانَةَ خُزَيْمَةَ وَضِعْفَا |
أُخْتُهُمَا عَاتِكَةُ وَنَسْلُهَا | عُذْرَةُ الَّتِي الْهَوَى يَقْتُلُهَا |
231
مِنْ أَوْلَادِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطٍ وَهُمُ الْحَارِثُ وَشَخِيصٌ وَعَنْزٌ، وَأَنَّ أُخْتَهَا بَرَّةَ بِنْتَ مُرٍّ كَانَتْ زَوْجَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ابْنِهِ كِنَانَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُضَعَّفٌ، وَأَنَّ أُخْتَهُمَا عَاتِكَةَ بِنْتَ مُرٍّ هِيَ أَمُّ عُذْرَةَ أَبِي الْقَبِيلَةِ الْمَشْهُورَةِ بِأَنَّ الْهَوَى يَقْتُلُهَا، وَقَدْ كَانَ مِنْ مُخْتَلَقَاتِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِرْثُ الْأَقَارِبِ أَزْوَاجَ أَقَارِبِهِمْ، كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا مَاتَ وَأَلْقَى ابْنُهُ أَوْ أَخُوهُ مَثَلًا ثَوْبًا عَلَى زَوْجَتِهِ وَرِثَهَا وَصَارَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا، إِنْ شَاءَ نَكَحَهَا بِلَا مَهْرٍ وَإِنْ شَاءَ أَنْكَحَهَا غَيْرَهُ وَأَخَذَ مَهْرَهَا، وَإِنْ شَاءَ عَضَلَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ، إِلَى أَنْ نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا الْآيَةَ [٤ ١٩]، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا نَاظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ:
[الرَّجَزِ]
ثُمَّ شَرَعَ يُعَدِّدُ مُخْتَلَقَاتِهِمْ، إِلَى أَنْ قَالَ:
[الرَّجَزِ]
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [٤ ٢٣]، أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَا مَضَى مِنَ ارْتِكَابِ هَذَا الْفِعْلِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ الْآيَةَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ حَلِيلَةَ دَعِيِّهِ الَّذِي تَبَنَّاهُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [٣٣ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [٣٣ ٤]، وَقَوْلِهِ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ الْآيَةَ [٣٣ ٤٠].
أَمَّا تَحْرِيمُ مَنْكُوحَةِ الِابْنِ مِنَ الرِّضَاعِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلِ خَارِجٍ وَهُوَ تَصْرِيحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ:
[الرَّجَزِ]
الْقَوْلُ فِيمَا اخْتَلَفُوا وَاخْتَرَقُوا | وَلَمْ يَقُدْ إِلَيْهِ إِلَّا النَّزَقُ |
[الرَّجَزِ]
وَأَنَّ مَنْ أَلْقَى عَلَى زَوْجِ أَبِيهِ وَنَحْوَهُ | بَعْدَ الْتَوَى ثَوْبًا يُرِيهِ |
أَوْلَى بِهَا مِنْ نَفْسِهَا إِنْ شَاءَ | نَكَحَ أَوْ أَنْكَحَ أَوْ أَسَاءَ |
بِالْعَضْلِ كَيْ يَرِثَهَا أَوْ تُفْتَدَى | وَمَهْرُهَا فِي النَّكْحَتَيْنِ لِلرَّدَى |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ الْآيَةَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ حَلِيلَةَ دَعِيِّهِ الَّذِي تَبَنَّاهُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [٣٣ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [٣٣ ٤]، وَقَوْلِهِ: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ الْآيَةَ [٣٣ ٤٠].
أَمَّا تَحْرِيمُ مَنْكُوحَةِ الِابْنِ مِنَ الرِّضَاعِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلِ خَارِجٍ وَهُوَ تَصْرِيحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ:
232
الْأَوَّلُ: الْمُحْصَنَاتُ الْعَفَائِفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [٤ ٢٥] أَيْ: عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتِ.
الثَّانِي: الْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: عَلَى الْإِمَاءِ نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْجَلْدِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُرَادَ بِالْإِحْصَانِ التَّزَوُّجُ، وَمِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ الْآيَةَ، أَيْ: فَإِذَا تَزَوَّجْنَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ الْإِسْلَامُ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ هَاهُنَا التَّزْوِيجُ ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَاللَّهِ أَعْلَمُ. وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ سِيَاقُهَا فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ أَيْ: تَزَوَّجْنَ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ، أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ هِيَ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَالْقُرْآنُ يُفْهَمُ مِنْهُ تَرْجِيحُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا أَعَمُّ مِنَ الْعَفَائِفِ وَالْحَرَائِرِ وَالْمُتَزَوِّجَاتِ أَيْ: حَرُمَتْ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ أَوْ مِلْكٍ شَرْعِيٍّ بِالرِّقِّ، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمُ النِّسَاءِ كُلُّهُنَّ إِلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ تَسَرٍّ شَرْعِيٍّ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ».
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ فِي الْآيَةِ الْحَرَائِرُ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْحَرَائِرُ غَيْرُ الْأَرْبَعِ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ الْإِمَاءِ، وَعَلَيْهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ
الثَّانِي: الْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: عَلَى الْإِمَاءِ نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْجَلْدِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُرَادَ بِالْإِحْصَانِ التَّزَوُّجُ، وَمِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ الْآيَةَ، أَيْ: فَإِذَا تَزَوَّجْنَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ الْإِسْلَامُ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ هَاهُنَا التَّزْوِيجُ ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَاللَّهِ أَعْلَمُ. وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ سِيَاقُهَا فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ أَيْ: تَزَوَّجْنَ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ، أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ هِيَ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَالْقُرْآنُ يُفْهَمُ مِنْهُ تَرْجِيحُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا أَعَمُّ مِنَ الْعَفَائِفِ وَالْحَرَائِرِ وَالْمُتَزَوِّجَاتِ أَيْ: حَرُمَتْ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ أَوْ مِلْكٍ شَرْعِيٍّ بِالرِّقِّ، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمُ النِّسَاءِ كُلُّهُنَّ إِلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ تَسَرٍّ شَرْعِيٍّ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ».
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ فِي الْآيَةِ الْحَرَائِرُ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْحَرَائِرُ غَيْرُ الْأَرْبَعِ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ الْإِمَاءِ، وَعَلَيْهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ
233
وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُتَزَوِّجَاتُ ; لِأَنَّ ذَاتَ الزَّوْجِ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِالسَّبْيِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ السَّبْيَ يَرْفَعُ حُكْمَ الزَّوْجِيَّةِ الْأُولَى فِي الْكُفْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ الْقُرْآنُ لِصِحَّتِهِ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِيهِ حَمْلُ مِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى مَا يَشْمَلُ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِمَعْنَى الْمِلْكِ بِالرِّقِّ، كَقَوْلِهِ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَوْلِهِ: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ [٣٣ ٥٠]، وَقَوْلِهِ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ ٣٦]، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [٢٣ ٥، ٦]، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَجَعَلَ مِلْكَ الْيَمِينِ قِسْمًا آخَرَ غَيْرَ الزَّوْجِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٢٤ ٣٣]، فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ الْإِمَاءُ دُونَ الْمَنْكُوحَاتِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْحَرَائِرُ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ مَعْنَى لَفْظِ الْآيَةِ كَمَا تَرَى.
وَصَرَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَظَهَرَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَرْنَا، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْأُخَرُ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ ; لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ أُوطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فَكَرِهْنَا أَنْ نَقَعَ عَلَيْهِنَّ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ ٢٤]، فَاسْتَحْلَلْنَا فُرُوجَهُنَّ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَبَايَا خَيْبَرَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
[الطَّوِيلِ]
تَنْبِيهٌ
فَإِنْ قِيلَ: عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، لَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْبِيَّاتِ، بَلْ ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ أَنَّ كُلَّ أَمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ إِذَا مَلَكَهَا رَجُلٌ آخَرُ فَهِيَ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَيَرْتَفِعُ حُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ بِذَلِكَ الْمِلْكِ، وَالْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي خُصُوصِ الْمَسْبِيَّاتِ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَصَرَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَظَهَرَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَرْنَا، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْأُخَرُ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ ; لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ أُوطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فَكَرِهْنَا أَنْ نَقَعَ عَلَيْهِنَّ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ ٢٤]، فَاسْتَحْلَلْنَا فُرُوجَهُنَّ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَبَايَا خَيْبَرَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
[الطَّوِيلِ]
وَذَاتُ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا | حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ |
فَإِنْ قِيلَ: عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، لَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْبِيَّاتِ، بَلْ ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ أَنَّ كُلَّ أَمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ إِذَا مَلَكَهَا رَجُلٌ آخَرُ فَهِيَ تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَيَرْتَفِعُ حُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ بِذَلِكَ الْمِلْكِ، وَالْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي خُصُوصِ الْمَسْبِيَّاتِ كَمَا ذَكَرْنَا،
234
فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ قَالُوا بِظَاهِرِ هَذَا الْعُمُومِ، فَحَكَمُوا بِأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ مَثَلًا يَكُونُ طَلَاقًا لَهَا مِنْ زَوْجِهَا أَخْذًا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ وَمَعْمَرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِصَاصِ هَذَا الْحُكْمِ بِالْمَسْبِيَّاتِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَمْلُوكَاتِ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ السَّبْيِ، كَالْبَيْعِ مَثَلًا وَلَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِصُورَةِ سَبَبِهِ. وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ فِي ذَلِكَ قِصَّةُ بِرَيْرَةَ الْمَشْهُورَةُ مَعَ زَوْجِهَا مُغِيثٌ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَقْوَالَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْبَيْعَ طَلَاقٌ، مَا نَصُّهُ: وَقَدْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَرَأَوْا أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَيْسَ طَلَاقًا لَهَا ; لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ نَائِبٌ عَنِ الْبَائِعِ، وَالْبَائِعُ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ عَنْ مِلْكِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ، وَبَاعِهَا مَسْلُوبَةً عَنْهُ، وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى حَدِيثِ بِرَيْرَةَ الْمُخَرَّجِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَرَتْهَا، وَأَعْتَقَتْهَا وَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا مِنْ زَوْجِهَا مُغِيثٍ، بَلْ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْبَقَاءِ، فَاخْتَارَتِ الْفَسْخَ وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ، فَلَوْ كَانَ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ مَا خَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا خَيَّرَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْمَسْبِيَّاتُ فَقَطْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ مِنْهُ لَفْظُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي امْرَأَةً لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ ; لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِبُضْعِ الْأَمَةِ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ النِّكَاحِ، كَمَا قَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ بِرَيْرَةَ، فَالْجَوَابُ هُوَ مَا حَرَّرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَهُوَ أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَمْلِكِ الِاسْتِمْتَاعَ بِبُضْعِ أَمَتِهَا، فَهِيَ تَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَتَزْوِيجَهَا وَأَخْذَ مَهْرِهَا، وَذَلِكَ كَمِلْكِ الرَّجُلِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَمْتِعْ بِالْبُضْعِ، فَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمُحْصَنَاتُ أَيْ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِالسَّبْيِ مِنَ الْكَفَّارِ، فَلَا مَنْعَ فِي وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ ; لِانْهِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ الْأُولَى بِالسَّبْيِ كَمَا قَرَّرْنَا، وَكَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مُتَزَوِّجَةً بِرَجُلٍ اسْمُهُ مُسَافِعٌ، فَسُبِيَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقِصَّتُهَا مَعْرُوفَةٌ. قَالَ نَاظِمُ قُرَّةِ الْأَبْصَارِ فِي جُوَيْرِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
[الرَّجَزِ]
وَمُرَادُهُ بِالْمُنْزَلَقِ السَّيْفُ، ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي السَّبْيِ، هَلْ يُبْطِلُ حُكْمَ الزَّوْجِيَّةِ
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَقْوَالَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْبَيْعَ طَلَاقٌ، مَا نَصُّهُ: وَقَدْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَرَأَوْا أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَيْسَ طَلَاقًا لَهَا ; لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ نَائِبٌ عَنِ الْبَائِعِ، وَالْبَائِعُ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ عَنْ مِلْكِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ، وَبَاعِهَا مَسْلُوبَةً عَنْهُ، وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى حَدِيثِ بِرَيْرَةَ الْمُخَرَّجِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَرَتْهَا، وَأَعْتَقَتْهَا وَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا مِنْ زَوْجِهَا مُغِيثٍ، بَلْ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْبَقَاءِ، فَاخْتَارَتِ الْفَسْخَ وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ، فَلَوْ كَانَ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ مَا خَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا خَيَّرَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْمَسْبِيَّاتُ فَقَطْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ مِنْهُ لَفْظُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي امْرَأَةً لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ ; لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِبُضْعِ الْأَمَةِ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ النِّكَاحِ، كَمَا قَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ بِرَيْرَةَ، فَالْجَوَابُ هُوَ مَا حَرَّرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَهُوَ أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَمْلِكِ الِاسْتِمْتَاعَ بِبُضْعِ أَمَتِهَا، فَهِيَ تَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَتَزْوِيجَهَا وَأَخْذَ مَهْرِهَا، وَذَلِكَ كَمِلْكِ الرَّجُلِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَمْتِعْ بِالْبُضْعِ، فَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمُحْصَنَاتُ أَيْ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِالسَّبْيِ مِنَ الْكَفَّارِ، فَلَا مَنْعَ فِي وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ ; لِانْهِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ الْأُولَى بِالسَّبْيِ كَمَا قَرَّرْنَا، وَكَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مُتَزَوِّجَةً بِرَجُلٍ اسْمُهُ مُسَافِعٌ، فَسُبِيَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقِصَّتُهَا مَعْرُوفَةٌ. قَالَ نَاظِمُ قُرَّةِ الْأَبْصَارِ فِي جُوَيْرِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
[الرَّجَزِ]
وَقَدْ سَبَاهَا فِي غُزَاةِ الْمُصْطَلِقِ | مِنْ بَعْلِهَا مُسَافِعٌ بِالْمُنْزَلَقِ |
235
الْأُولَى مُطْلَقًا وَلَوْ سُبِيَ الزَّوْجُ مَعَهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَوْ لَا يُبْطِلُهُ إِلَّا إِذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا دُونَهُ؟ فَإِنْ سُبِيَ مَعَهَا فَحُكْمُ الزَّوْجِيَّةِ بَاقٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ، يَعْنِي: كَمَا أَنَّكُمْ تَسْتَمْتِعُونَ بِالْمَنْكُوحَاتِ فَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ الْآيَةَ [٤ ٢١]، فَإِفْضَاءُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ الْمُصَرَّحُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الصَّدَاقِ كَامِلًا، هُوَ بِعَيْنِهِ الِاسْتِمْتَاعُ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [٤ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [٤ ٤]، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا الْآيَةَ [٢ ٢٢٩]. فَالْآيَةُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، لَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَا قَالَ بِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا، فَإِنْ قِيلَ: التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْأُجُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأُجْرَةُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَا يُسَمَّى أَجْرًا، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ فِي تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ أَجْرًا فِي مَوْضِعٍ لَا نِزَاعَ فِيهِ ; لِأَنَّ الصَّدَاقَ لِمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ الْآيَةَ، صَارَ لَهُ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِأَثْمَانِ الْمَنَافِعِ فَسُمِّيَ أَجْرًا، وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ [٤ ٢٥]، أَيْ: مُهُورَهُنَّ بِلَا نِزَاعٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ [٥ ٥]. أَيْ: مُهُورَهُنَّ فَاتَّضَحَ أَنَّ الْآيَةَ فِي النِّكَاحِ لَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ يَقْرَءُونَ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا ; لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ كَتْبِهِ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ مَا قَرَأَهُ الصَّحَابِيُّ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ فَبَطَلَ كَوْنُهُ قُرْآنًا ظَهَرَ بُطْلَانُهُ مِنْ أَصْلِهِ.
الثَّانِي: أَنَّا لَوْ مَشَيْنَا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ كَالِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْآحَادِ كَمَا قَالَ بِهِ قَوْمٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمْ لِلْآيَةِ بِذَلِكَ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَقْوَى مِنْهُ ; لِأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ، يَعْنِي: كَمَا أَنَّكُمْ تَسْتَمْتِعُونَ بِالْمَنْكُوحَاتِ فَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ الْآيَةَ [٤ ٢١]، فَإِفْضَاءُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ الْمُصَرَّحُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الصَّدَاقِ كَامِلًا، هُوَ بِعَيْنِهِ الِاسْتِمْتَاعُ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [٤ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [٤ ٤]، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا الْآيَةَ [٢ ٢٢٩]. فَالْآيَةُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، لَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَا قَالَ بِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا، فَإِنْ قِيلَ: التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْأُجُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأُجْرَةُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَا يُسَمَّى أَجْرًا، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ فِي تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ أَجْرًا فِي مَوْضِعٍ لَا نِزَاعَ فِيهِ ; لِأَنَّ الصَّدَاقَ لِمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ الْآيَةَ، صَارَ لَهُ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِأَثْمَانِ الْمَنَافِعِ فَسُمِّيَ أَجْرًا، وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ [٤ ٢٥]، أَيْ: مُهُورَهُنَّ بِلَا نِزَاعٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ [٥ ٥]. أَيْ: مُهُورَهُنَّ فَاتَّضَحَ أَنَّ الْآيَةَ فِي النِّكَاحِ لَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ يَقْرَءُونَ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا ; لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ كَتْبِهِ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ مَا قَرَأَهُ الصَّحَابِيُّ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ فَبَطَلَ كَوْنُهُ قُرْآنًا ظَهَرَ بُطْلَانُهُ مِنْ أَصْلِهِ.
الثَّانِي: أَنَّا لَوْ مَشَيْنَا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ كَالِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْآحَادِ كَمَا قَالَ بِهِ قَوْمٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمْ لِلْآيَةِ بِذَلِكَ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَقْوَى مِنْهُ ; لِأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى
236
خِلَافِهِ ; وَلِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ قَاطِعَةٌ بِكَثْرَةٍ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَصَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ دَائِمٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فِي النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا».
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَلَا تَعَارُضَ فِي ذَلِكَ ; لِإِمْكَانِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ.
الثَّالِثُ: أَنَا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ إِبَاحَتَهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا صَحَّ نَسْخُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ الْأُولَى يَوْمَ خَيْبَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَالْآخِرَةُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نُسِخَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً يَوْمَ الْفَتْحِ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي خَيْبَرَ تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَطْ، فَظَنَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ يَوْمَ خَيْبَرَ ظَرْفٌ أَيْضًا لِتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ.
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَلَكِنْ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ أَيْضًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا حُرِّمَتْ مَرَّتَيْنِ كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَجِبُ حِفْظُ الْفَرْجِ عَنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالسَّرِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [٢٣ ٦]، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُبْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْعَادِينَ بِقَوْلِهِ: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ الْآيَةَ [٢٣ ٧].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَمْتِعَ بِهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً وَلَا زَوْجَةً، فَمُبْتَغِيهَا إِذَنْ مِنَ الْعَادِينَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، أَمَّا كَوْنُهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا كَوْنُهَا غَيْرَ زَوْجَةٍ فَلِانْتِفَاءِ لَوَازِمِ الزَّوْجِيَّةِ عَنْهَا كَالْمِيرَاثِ، وَالْعِدَّةِ، وَالطَّلَاقِ، وَالنَّفَقَةِ، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَوَرِثَتْ وَاعْتَدَّتْ وَوَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَلَا تَعَارُضَ فِي ذَلِكَ ; لِإِمْكَانِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ.
الثَّالِثُ: أَنَا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ إِبَاحَتَهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا صَحَّ نَسْخُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ الْأُولَى يَوْمَ خَيْبَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَالْآخِرَةُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نُسِخَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً يَوْمَ الْفَتْحِ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي خَيْبَرَ تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَطْ، فَظَنَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ يَوْمَ خَيْبَرَ ظَرْفٌ أَيْضًا لِتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ.
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَلَكِنْ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ أَيْضًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا حُرِّمَتْ مَرَّتَيْنِ كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَجِبُ حِفْظُ الْفَرْجِ عَنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالسَّرِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [٢٣ ٦]، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُبْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْعَادِينَ بِقَوْلِهِ: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ الْآيَةَ [٢٣ ٧].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَمْتِعَ بِهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً وَلَا زَوْجَةً، فَمُبْتَغِيهَا إِذَنْ مِنَ الْعَادِينَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، أَمَّا كَوْنُهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا كَوْنُهَا غَيْرَ زَوْجَةٍ فَلِانْتِفَاءِ لَوَازِمِ الزَّوْجِيَّةِ عَنْهَا كَالْمِيرَاثِ، وَالْعِدَّةِ، وَالطَّلَاقِ، وَالنَّفَقَةِ، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَوَرِثَتْ وَاعْتَدَّتْ وَوَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
237
[٢٣ ٧٥ - ٢٩، ٣١]، صَرِيحَةٌ فِي مَنْعِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ الَّذِي نُسِخَ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ كَمَا بَيَّنَّا لَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [٤ ٢٣] الْخَ...
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ غَيْرَ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ حَلَالٌ بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [٤ ٢٤]، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ نَكَحْتُمْ مِنْهُنَّ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا يَلْزَمُكُمْ أَنْ تُعْطُوهَا مَهْرَهَا، مُرَتَّبًا لِذَلِكَ بِالْفَاءِ عَلَى النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [٤ ٢٤]، كَمَا بَيَّنَاهُ وَاضِحًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَمَةَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، وَلَوْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [٤ ٢٥]، فَمَفْهُومُ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنَ الْإِمَاءِ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [٥ ٥]، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ فِيهَا الْحَرَائِرُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِمَاءَ الْكَوَافِرَ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ وَلَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَجَازَ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ، وَأَجَازَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ لِمَنْ عِنْدَهُ طَوْلٌ يَنْكِحُ بِهِ الْحَرَائِرَ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَمَّا وَطْءُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةٌ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِبَاحَةِ وَطْئِهَا بِالْمِلْكِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ الْآيَةَ [٢٣ ٦]، وَلِجَوَازِ نِكَاحِ حَرَائِرِهِمْ فَيَحِلُّ التَّسَرِّي بِالْإِمَاءِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لَهُ مَجُوسِيَّةً أَوْ عَابِدَةَ وَثَنٍ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ ; فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِ وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ شُذُوذٌ لَا يُعَدُّ خِلَافًا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا إِبَاحَةُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ طَاوُسٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ جَوَازُ وَطْءِ الْأَمَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَتْ عَابِدَةَ وَثَنٍ أَوْ مَجُوسِيَّةً ; لِأَنَّ أَكْثَرَ السَّبَايَا فِي عَصْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ غَيْرَ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ حَلَالٌ بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [٤ ٢٤]، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ نَكَحْتُمْ مِنْهُنَّ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا يَلْزَمُكُمْ أَنْ تُعْطُوهَا مَهْرَهَا، مُرَتَّبًا لِذَلِكَ بِالْفَاءِ عَلَى النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [٤ ٢٤]، كَمَا بَيَّنَاهُ وَاضِحًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَمَةَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، وَلَوْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [٤ ٢٥]، فَمَفْهُومُ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنَ الْإِمَاءِ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [٥ ٥]، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ فِيهَا الْحَرَائِرُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِمَاءَ الْكَوَافِرَ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ وَلَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَجَازَ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ، وَأَجَازَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ لِمَنْ عِنْدَهُ طَوْلٌ يَنْكِحُ بِهِ الْحَرَائِرَ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَمَّا وَطْءُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةٌ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِبَاحَةِ وَطْئِهَا بِالْمِلْكِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ الْآيَةَ [٢٣ ٦]، وَلِجَوَازِ نِكَاحِ حَرَائِرِهِمْ فَيَحِلُّ التَّسَرِّي بِالْإِمَاءِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لَهُ مَجُوسِيَّةً أَوْ عَابِدَةَ وَثَنٍ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ ; فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِ وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ شُذُوذٌ لَا يُعَدُّ خِلَافًا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا إِبَاحَةُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ طَاوُسٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ جَوَازُ وَطْءِ الْأَمَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَتْ عَابِدَةَ وَثَنٍ أَوْ مَجُوسِيَّةً ; لِأَنَّ أَكْثَرَ السَّبَايَا فِي عَصْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ
238
كُفَّارِ الْعَرَبِ وَهُمْ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَرَّمَ وَطْأَهُنَّ بِالْمِلْكِ لِكُفْرِهِنَّ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَبَيَّنَهُ، بَلْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً»، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يُسْلِمْنَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَقَالَهُ وَقَدْ أَخَذَ الصَّحَابَةُ سَبَايَا فَارِسَ وَهُنَّ مَجُوسٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمُ اجْتَنَبُوهُنَّ حَتَّى أَسْلَمْنَ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» مَا نَصُّهُ: وَدَلَّ هَذَا الْقَضَاءُ النَّبَوِيُّ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْإِمَاءِ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ سَبَايَا أُوطَاسٍ لَمْ يَكُنْ كِتَابِيَّاتٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَطْئِهِنَّ إِسْلَامَهُنَّ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمَانِعَ مِنْهُ إِلَّا الِاسْتِبْرَاءَ فَقَطْ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ مَعَ أَنَّهُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَيَخْفَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحُصُولُ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ السَّبَايَا، وَكُنَّ عِدَّةَ آلَافٍ بِحَيْثُ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُنَّ عَنِ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ وَاحِدَةٌ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّهُنَّ لَمْ يُكْرَهْنَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ مِنَ الْبَصِيرَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَا يَقْتَضِي مُبَادَرَتَهُنَّ إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَمُقْتَضَى السُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ جَوَازُ وَطْءِ الْمَمْلُوكَاتِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كُنَّ، وَهَذَا مَذْهَبُ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَوَّاهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» فِيهِ وَرَجَّحَ أَدِلَّتَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. اهـ كَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ بِلَفْظِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي عَلَى الْمُحْصَنَاتِ وَهُنَّ الْحَرَائِرُ الَّذِي نِصْفُهُ عَلَى الْإِمَاءِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ جِلْدٌ مِائَةٍ بِقَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [٢٤ ٢]، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ عَلَى الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ خَمْسِينَ جَلْدَةً وَيَلْحَقُ بِهَا الْعَبْدُ الزَّانِي فَيُجْلَدُ خَمْسِينَ، فَعُمُومُ الزَّانِيَةِ مَخْصُوصٌ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ ٢٥]، وَعُمُومُ الزَّانِي مَخْصُوصٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ ; لِأَنَّهُ لَا فَارِقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إِلَّا الرِّقَّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سَبَبُ تَشْطِيرِ الْجَلْدِ فَأَجْرَى فِي الْعَبْدِ لِاتِّصَافِهِ بِالرِّقِّ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ تَشْطِيرِ الْجَلْدِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَوْعَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ الْمَعْرُوفِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ يُسَمَّى قِيَاسًا، وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ قِيَاسًا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. أَمَّا الرَّجْمُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَتَشَطَّرُ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ.
تَنْبِيهٌ
قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى أُحْصِنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَزَوَّجْنَ، وَذَلِكَ هُوَ
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» مَا نَصُّهُ: وَدَلَّ هَذَا الْقَضَاءُ النَّبَوِيُّ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْإِمَاءِ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ سَبَايَا أُوطَاسٍ لَمْ يَكُنْ كِتَابِيَّاتٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَطْئِهِنَّ إِسْلَامَهُنَّ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمَانِعَ مِنْهُ إِلَّا الِاسْتِبْرَاءَ فَقَطْ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ مَعَ أَنَّهُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَيَخْفَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحُصُولُ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ السَّبَايَا، وَكُنَّ عِدَّةَ آلَافٍ بِحَيْثُ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُنَّ عَنِ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ وَاحِدَةٌ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّهُنَّ لَمْ يُكْرَهْنَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ مِنَ الْبَصِيرَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَا يَقْتَضِي مُبَادَرَتَهُنَّ إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَمُقْتَضَى السُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ جَوَازُ وَطْءِ الْمَمْلُوكَاتِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كُنَّ، وَهَذَا مَذْهَبُ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَوَّاهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» فِيهِ وَرَجَّحَ أَدِلَّتَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. اهـ كَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ بِلَفْظِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي عَلَى الْمُحْصَنَاتِ وَهُنَّ الْحَرَائِرُ الَّذِي نِصْفُهُ عَلَى الْإِمَاءِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ جِلْدٌ مِائَةٍ بِقَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [٢٤ ٢]، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ عَلَى الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ خَمْسِينَ جَلْدَةً وَيَلْحَقُ بِهَا الْعَبْدُ الزَّانِي فَيُجْلَدُ خَمْسِينَ، فَعُمُومُ الزَّانِيَةِ مَخْصُوصٌ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ ٢٥]، وَعُمُومُ الزَّانِي مَخْصُوصٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ ; لِأَنَّهُ لَا فَارِقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إِلَّا الرِّقَّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سَبَبُ تَشْطِيرِ الْجَلْدِ فَأَجْرَى فِي الْعَبْدِ لِاتِّصَافِهِ بِالرِّقِّ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ تَشْطِيرِ الْجَلْدِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَمْثِلَةِ تَخْصِيصِ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَوْعَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ الْمَعْرُوفِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ يُسَمَّى قِيَاسًا، وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ قِيَاسًا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. أَمَّا الرَّجْمُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَتَشَطَّرُ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ.
تَنْبِيهٌ
قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى أُحْصِنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَزَوَّجْنَ، وَذَلِكَ هُوَ
239
مَعْنَاهُ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ قِرَاءَتُهُ بِالْبِنَاةِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، خِلَافًا لِمَا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَى قِرَاءَةِ أَحْصَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَسْلَمْنَ، وَأَنَّ مَعْنَى أُحْصِنَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ زُوِّجْنَ، وَعَلَيْهِ فَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ [٤ ٢٥] أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِذَا زَنَتْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ حَدَّهَا فِي الْآيَةِ بِالْإِحْصَانِ، وَتَمَسَّكَ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي رِوَايَةٍ فَقَالُوا: لَا حَدَّ عَلَى مَمْلُوكَةٍ حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَفْهُومَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ إِجْمَالٌ وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ تَعْلِيقَ جَلْدِ الْخَمْسِينَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِحْصَانِ الْأَمَةِ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَمْ تُحْصَنْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَقَطْ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَا تُجْلَدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُجْلَدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ تُرْجَمُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحْتَمَلَاتِ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنَةِ مِنَ الْإِمَاءِ كَذَلِكَ، لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُحْصَنَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِخُصُوصِ الْمُحْصَنَةِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّهَا تُرْجَمُ كَالْحُرَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ، وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ: «إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ».
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي أَبْعَدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، وَحَمْلُ الْجَلْدِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّأْدِيبِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، لَا سِيَّمَا وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ التَّصْرِيحُ بِالْحَدِّ، فَمَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَ فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْجَلْدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ مَا سَأَلَهُ إِلَّا لِأَنَّهُ أُشْكِلَ عَلَيْهِ مَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ فَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَوْ كَانَ جَلْدُ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ جَلْدِ الْمُحْصَنَةِ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ لِهَذَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا، وَكَالْقَوْلِ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ مِائَةً، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ وَكَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمَةَ الْمُحْصَنَةَ تُرْجَمُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ خَمْسِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَلَا يَخْفَى شِدَّةُ بُعْدِهِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النُّشُوزَ قَدْ يَحْصُلُ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ يَحْصُلُ مِنَ الرِّجَالِ نُشُوزٌ أَوْ لَا؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي أَبْعَدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، وَحَمْلُ الْجَلْدِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّأْدِيبِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، لَا سِيَّمَا وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ التَّصْرِيحُ بِالْحَدِّ، فَمَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَ فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْجَلْدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ مَا سَأَلَهُ إِلَّا لِأَنَّهُ أُشْكِلَ عَلَيْهِ مَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ فَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَوْ كَانَ جَلْدُ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ جَلْدِ الْمُحْصَنَةِ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ لِهَذَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا، وَكَالْقَوْلِ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ مِائَةً، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ وَكَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمَةَ الْمُحْصَنَةَ تُرْجَمُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ خَمْسِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَلَا يَخْفَى شِدَّةُ بُعْدِهِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النُّشُوزَ قَدْ يَحْصُلُ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ يَحْصُلُ مِنَ الرِّجَالِ نُشُوزٌ أَوْ لَا؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
أَنَّ النُّشُوزَ أَيْضًا قَدْ يَحْصُلُ مِنَ الرِّجَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا الْآيَةَ [٤ ١٢٨]، وَأَصْلُ النُّشُوزِ فِي اللُّغَةِ الِارْتِفَاعُ، فَالْمَرْأَةُ النَّاشِزُ كَأَنَّهَا تَرْتَفِعُ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يُضَاجِعُهَا فِيهِ زَوْجُهَا، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ الزَّوْجِ، وَكَأَنَّ نُشُوزَ الرَّجُلِ ارْتِفَاعُهُ أَيْضًا عَنِ الْمَحَلِّ الَّذِي فِيهِ الزَّوْجَةُ وَتَرْكُهُ مُضَاجَعَتَهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقَلَّ مَا تُضَاعَفُ بِهِ الْحَسَنَةُ وَلَا أَكْثَرَهُ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ أَقَلَّ مَا تُضَاعَفُ بِهِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [٦ ١٦٠].
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ رُبَّمَا بَلَغَتْ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ الْآيَةَ [٢ ٢٦١] كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ الْآيَةَ، عَلَى الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنَّ يَسْتُوُوا بِالْأَرْضِ، فَيَكُونُوا تُرَابًا مِثْلَهَا عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [٧٨ ٤٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا بَيِّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ عَدَمَ الْكَتْمِ الْمَذْكُورِ هُنَا، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ إِخْبَارِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ بِكُلِّ مَا عَمِلُوا عِنْدَ الْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ إِذَا أَنْكَرُوا شِرْكَهُمْ وَمَعَاصِيَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٣٦ ٦٥]، فَلَا يَتَنَافَى قَوْلُهُ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [٤ ٤٢]، مَعَ قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [٦ ٢٣]، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ أَيْضًا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [١٦ ٢٨]، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا [٤٠]، لِلْبَيَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ بَيِّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ زَوَالَ السُّكْرِ بِأَنَّهُ هُوَ أَنْ يَثُوبَ لِلسَّكْرَانِ عَقْلُهُ، حَتَّى يَعْلَمَ مَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [٤ ٤٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقَلَّ مَا تُضَاعَفُ بِهِ الْحَسَنَةُ وَلَا أَكْثَرَهُ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ أَقَلَّ مَا تُضَاعَفُ بِهِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [٦ ١٦٠].
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ رُبَّمَا بَلَغَتْ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ الْآيَةَ [٢ ٢٦١] كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ الْآيَةَ، عَلَى الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنَّ يَسْتُوُوا بِالْأَرْضِ، فَيَكُونُوا تُرَابًا مِثْلَهَا عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [٧٨ ٤٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا بَيِّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ عَدَمَ الْكَتْمِ الْمَذْكُورِ هُنَا، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ إِخْبَارِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ بِكُلِّ مَا عَمِلُوا عِنْدَ الْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ إِذَا أَنْكَرُوا شِرْكَهُمْ وَمَعَاصِيَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٣٦ ٦٥]، فَلَا يَتَنَافَى قَوْلُهُ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [٤ ٤٢]، مَعَ قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [٦ ٢٣]، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ أَيْضًا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [١٦ ٢٨]، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا [٤٠]، لِلْبَيَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ بَيِّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ زَوَالَ السُّكْرِ بِأَنَّهُ هُوَ أَنْ يَثُوبَ لِلسَّكْرَانِ عَقْلُهُ، حَتَّى يَعْلَمَ مَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [٤ ٤٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ الْآيَةَ. ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مَعَ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ يُرِيدُونَ إِضْلَالَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا.
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ كَثِيرٌ، وَأَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ رِدَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ السَّبَبَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْحَسَدُ وَأَنَّهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمُ الْحَقَّ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ [٢ ١٠٩].
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ الَّذِي يَتَمَنَّوْنَهُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَقَعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْهُمْ أَعْنِي الْمُتَمَنِّينَ الضَّلَالَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ لَعْنِهِ لِأَصْحَابِ السَّبْتِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ لَعْنَهُ لَهُمْ هُوَ مَسْخُهُمْ قِرَدَةً وَمَنْ مَسَخَهُ اللَّهُ قِرْدًا غَضَبًا عَلَيْهِ مَلْعُونٌ بِلَا شَكٍّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [٢ ٦٥]، وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [٧ ١٦٦]، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى مُغَايَرَةِ اللَّعْنِ لِلْمَسْخِ بِعَطْفِهِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [٥ ٦٠]، لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ مُغَايَرَتِهِ لِلْمَسْخِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، كَمَا قَالَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاللَّعْنَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي طَرَدَهُ قَوْمُهُ وَأَبْعَدُوهُ لِجِنَايَاتِهِ تَقُولُ لَهُ الْعَرَبَ رَجُلٌ لَعِينٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[الْوَافِرِ]
وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: اللَّعْنَةُ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسْخَ مِنْ أَكْبَرِ أَنْوَاعِ الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ كَثِيرٌ، وَأَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ رِدَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ السَّبَبَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْحَسَدُ وَأَنَّهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمُ الْحَقَّ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ [٢ ١٠٩].
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ الَّذِي يَتَمَنَّوْنَهُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَقَعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْهُمْ أَعْنِي الْمُتَمَنِّينَ الضَّلَالَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ لَعْنِهِ لِأَصْحَابِ السَّبْتِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ لَعْنَهُ لَهُمْ هُوَ مَسْخُهُمْ قِرَدَةً وَمَنْ مَسَخَهُ اللَّهُ قِرْدًا غَضَبًا عَلَيْهِ مَلْعُونٌ بِلَا شَكٍّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [٢ ٦٥]، وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [٧ ١٦٦]، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى مُغَايَرَةِ اللَّعْنِ لِلْمَسْخِ بِعَطْفِهِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [٥ ٦٠]، لَا يُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ مُغَايَرَتِهِ لِلْمَسْخِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، كَمَا قَالَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاللَّعْنَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي طَرَدَهُ قَوْمُهُ وَأَبْعَدُوهُ لِجِنَايَاتِهِ تَقُولُ لَهُ الْعَرَبَ رَجُلٌ لَعِينٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[الْوَافِرِ]
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ | مَقَامَ الذِئْبِ كَالرَجُلِ اللَّعِينِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ الْإِشْرَاكَ بِهِ وَأَنَّهُ يَغْفِرُ غَيْرَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا.
وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ مَحَلَّ كَوْنِهِ لَا يَغْفِرُ الْإِشْرَاكَ بِهِ إِذَا لَمْ يَتُبِ الْمُشْرِكُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ تَابَ غَفَرَ لَهُ كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا الْآيَةَ [٢٥ ٧٠]، فَإِنَّ الْاسْتِثِّنَاءَ رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [٢٥ ٦٨]، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْكُلِّ جُمِعَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا الْآيَةَ [٢٥ ٦٨] وَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [٨ ٣٨]. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ قَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [٤ ١١٦]، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَمَأْوَاهُ النَّارُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [٥]، وَقَوْلِهِ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [٧ ٥٠].
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يُرْجَى لَهُ خَلَاصٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [٢٢ ٣١]، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: بِأَنَّ الْإِشْرَاكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ بِقَوْلِهِ عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [٣١ ١٣].
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْأَمْنَ التَّامَّ وَالِاهْتِدَاءَ، إِنَّمَا هُمَا لِمَنْ لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِشِرْكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [٦ ٨٢]، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَعْنَى بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ، أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَزْكِيَتَهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ [٤ ٤٩]، وَبِقَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا [٤ ٥٠]، وَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ الْعَامِّ عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَأَحْرَى نَفْسَ الْكَافِرِ الَّتِي هِيَ أَخَسُّ شَيْءٍ وَأَنْجَسُهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [٥٣]،
وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ مَحَلَّ كَوْنِهِ لَا يَغْفِرُ الْإِشْرَاكَ بِهِ إِذَا لَمْ يَتُبِ الْمُشْرِكُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ تَابَ غَفَرَ لَهُ كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا الْآيَةَ [٢٥ ٧٠]، فَإِنَّ الْاسْتِثِّنَاءَ رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [٢٥ ٦٨]، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْكُلِّ جُمِعَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا الْآيَةَ [٢٥ ٦٨] وَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [٨ ٣٨]. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ قَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [٤ ١١٦]، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَمَأْوَاهُ النَّارُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [٥]، وَقَوْلِهِ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [٧ ٥٠].
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يُرْجَى لَهُ خَلَاصٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [٢٢ ٣١]، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: بِأَنَّ الْإِشْرَاكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ بِقَوْلِهِ عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [٣١ ١٣].
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْأَمْنَ التَّامَّ وَالِاهْتِدَاءَ، إِنَّمَا هُمَا لِمَنْ لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِشِرْكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [٦ ٨٢]، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَعْنَى بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ، أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَزْكِيَتَهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ [٤ ٤٩]، وَبِقَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا [٤ ٥٠]، وَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ الْعَامِّ عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَأَحْرَى نَفْسَ الْكَافِرِ الَّتِي هِيَ أَخَسُّ شَيْءٍ وَأَنْجَسُهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [٥٣]،
وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ.
وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [٥ ١٨]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [٢ ١١١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا، وَصَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ظِلَّ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ ظَلِيلٌ، وَوَصَفَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ دَائِمٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [١٣ ٣٥]، وَوَصَفَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ مَمْدُودٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [٥٦]، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا ظِلَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ الْآيَةَ [٧٧ ٤١].
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الظِّلَالِ مُتَّكِئُونَ مَعَ أَزْوَاجِهِمْ عَلَى الْأَرَائِكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [٣٦ ٥٦]، وَالْأَرَائِكُ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ وَهِيَ السَّرِيرُ فِي الْحَجَلَةِ، وَالْحَجَلَةُ بَيْتٌ يُزَيَّنُ لِلْعَرُوسِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ظِلَّ أَهْلِ النَّارِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [٧٧ ٢٩، ٣٠]، وَقَوْلِهِ: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [٥٦ ٤١، ٤٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ أَمَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَفُرُوعِهِ أَنْ يُرَدَّ التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [٤ ٨٠]، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [٤٢ ١٠]، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ مُوَبِّخًا لِلْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا أَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [٤ ٦٠]، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يَكْفُرَ بِالطَّاغُوتِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [٢ ٢٥٦].
وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [٥ ١٨]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [٢ ١١١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا، وَصَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ظِلَّ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ ظَلِيلٌ، وَوَصَفَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ دَائِمٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [١٣ ٣٥]، وَوَصَفَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ مَمْدُودٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [٥٦]، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا ظِلَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ الْآيَةَ [٧٧ ٤١].
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الظِّلَالِ مُتَّكِئُونَ مَعَ أَزْوَاجِهِمْ عَلَى الْأَرَائِكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [٣٦ ٥٦]، وَالْأَرَائِكُ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ وَهِيَ السَّرِيرُ فِي الْحَجَلَةِ، وَالْحَجَلَةُ بَيْتٌ يُزَيَّنُ لِلْعَرُوسِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ظِلَّ أَهْلِ النَّارِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [٧٧ ٢٩، ٣٠]، وَقَوْلِهِ: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [٥٦ ٤١، ٤٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ أَمَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَفُرُوعِهِ أَنْ يُرَدَّ التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [٤ ٨٠]، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [٤٢ ١٠]، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ مُوَبِّخًا لِلْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا أَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [٤ ٦٠]، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يَكْفُرَ بِالطَّاغُوتِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [٢ ٢٥٦].
وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَالْإِيمَانُ بِالطَّاغُوتِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ أَوْ رُكْنٌ مِنْهُ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ الْآيَةَ [٢ ٢٥٦].
تَنْبِيهٌ
اسْتَدَلَّ مُنَكِرُو الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ، عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الرَّدَّ إِلَى خُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْقِيَاسِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ إِلْحَاقَ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ لِوُجُودِ مَعْنَى النَّصِّ فِيهِ لَا يَخْرَجُ عَنِ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالْمُرَادُ بِإِطَاعَةِ اللَّهِ الْعَمَلُ بِالْكِتَابِ، وَبِإِطَاعَةِ الرَّسُولِ الْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ، وَبِالرَّدِّ إِلَيْهِمَا الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ رَدَّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ مِنَ النَّصِّ إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّمْثِيلِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْقِيَاسُ شَيْئًا وَرَاءَ ذَلِكَ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّزَاعِ يُعْمَلُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ قَالَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَإِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُدُّونَ عَنْ ذَلِكَ صُدُودًا أَيْ: يُعْرِضُونَ إِعْرَاضًا.
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ، وَصَدُّوا وَاسْتَكْبَرُوا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [٦٣ ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أَقْسَمَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْسِهِ
تَنْبِيهٌ
اسْتَدَلَّ مُنَكِرُو الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ، عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الرَّدَّ إِلَى خُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْقِيَاسِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ إِلْحَاقَ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ لِوُجُودِ مَعْنَى النَّصِّ فِيهِ لَا يَخْرَجُ عَنِ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالْمُرَادُ بِإِطَاعَةِ اللَّهِ الْعَمَلُ بِالْكِتَابِ، وَبِإِطَاعَةِ الرَّسُولِ الْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ، وَبِالرَّدِّ إِلَيْهِمَا الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ رَدَّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ مِنَ النَّصِّ إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّمْثِيلِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْقِيَاسُ شَيْئًا وَرَاءَ ذَلِكَ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّزَاعِ يُعْمَلُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ قَالَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَإِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُدُّونَ عَنْ ذَلِكَ صُدُودًا أَيْ: يُعْرِضُونَ إِعْرَاضًا.
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ، وَصَدُّوا وَاسْتَكْبَرُوا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [٦٣ ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أَقْسَمَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْسِهِ
الْكَرِيمَةِ الْمُقَدِّسَةِ، أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحَكِّمَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، ثُمَّ يَنْقَادَ لِمَا حَكَمَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيُسَلِّمَهُ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا مِنْ غَيْرِ مُمَانَعَةٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ وَلَا مُنَازَعَةٍ، وَبَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ مَحْصُورٌ فِي هَذَا التَّسْلِيمِ الْكُلِّيِّ، وَالِانْقِيَادِ التَّامِّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِمَا حَكَمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا الْآيَةَ [٢٤ ٥١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا سَمِعُوا بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أَيْ: مِنْ قَتْلِ الْأَعْدَاءِ لَهُمْ، أَوْ جِرَاحٍ أَصَابَتْهُمْ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ يَقُولُونَ: إِنَّ عَدَمَ حُضُورِهِمْ مَعَهُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِالسُّوءِ الَّذِي أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [٣ ١٢٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ [٩ ٥٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا سَمِعُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَهُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ: نَصْرٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ ; لِيَفُوزُوا بِسِهَامِهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ.
وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ الَّذِي يُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُمْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمُ الْبَاطِنَةِ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [٣ ١٢٠]، وَقَوْلِهِ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [٩ ٥٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ سَوْفَ يُؤْتِي الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِهِ أَجْرًا عَظِيمًا سَوَاءٌ أَقُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمْ غَلَبَ عَدُوَّهُ، وَظَفِرَ بِهِ.
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ حُسْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [٩ ٥٢]، وَالْحُسْنَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ ; لِأَنَّهَا تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [٤ ٨٤]، لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالَّذِي يُحَرِّضُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا سَمِعُوا بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أَيْ: مِنْ قَتْلِ الْأَعْدَاءِ لَهُمْ، أَوْ جِرَاحٍ أَصَابَتْهُمْ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ يَقُولُونَ: إِنَّ عَدَمَ حُضُورِهِمْ مَعَهُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِالسُّوءِ الَّذِي أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [٣ ١٢٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ [٩ ٥٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا سَمِعُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَهُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ: نَصْرٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ ; لِيَفُوزُوا بِسِهَامِهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ.
وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ الَّذِي يُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُمْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمُ الْبَاطِنَةِ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [٣ ١٢٠]، وَقَوْلِهِ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [٩ ٥٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ سَوْفَ يُؤْتِي الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِهِ أَجْرًا عَظِيمًا سَوَاءٌ أَقُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمْ غَلَبَ عَدُوَّهُ، وَظَفِرَ بِهِ.
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ حُسْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [٩ ٥٢]، وَالْحُسْنَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ ; لِأَنَّهَا تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [٤ ٨٤]، لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالَّذِي يُحَرِّضُ عَلَيْهِ
الْمُؤْمِنِينَ مَا هُوَ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُ الْقِتَالُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، أَنْكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَهْدِيَ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَصَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا يُوجَدُ سَبِيلٌ إِلَى هُدَاهُ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [٥ ٤١]، وَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [٧ ١٨٦]، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ كَثْرَةُ التَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ وَلَا يُضِلَّهُ ; فَإِنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لَا يَضِلُّ، وَمَنْ أَضَلَّهُ لَا هَادِيَ لَهُ، وَلِذَا ذَكَرَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا الْآيَةَ [٣ ٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [٥٧ ١٠]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ مَنْ خَلَّفَهُ الْعُذْرُ إِذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ صَالِحَةً يُحَصِّلُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ، وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ»، قَالُوا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ»، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الشَّاعِرُ:
[الْبَسِيطِ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، أَنْكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَهْدِيَ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَصَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا يُوجَدُ سَبِيلٌ إِلَى هُدَاهُ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [٥ ٤١]، وَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [٧ ١٨٦]، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ كَثْرَةُ التَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ وَلَا يُضِلَّهُ ; فَإِنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لَا يَضِلُّ، وَمَنْ أَضَلَّهُ لَا هَادِيَ لَهُ، وَلِذَا ذَكَرَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا الْآيَةَ [٣ ٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [٥٧ ١٠]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ مَنْ خَلَّفَهُ الْعُذْرُ إِذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ صَالِحَةً يُحَصِّلُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ، وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ»، قَالُوا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ»، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الشَّاعِرُ:
[الْبَسِيطِ]