تفسير سورة فصّلت

القطان
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

فصلت: بينت. لا يسمعون: لا يطيعون. أكنّة: أغطية، جمع كنان. وقْر: صمم. غير ممنون: غير مقطوع، فهو دائم بلا مَنّ.
حاميم: حرفان من حروف المعجم افتتحت بهما السورة، لإثارة الانتباه والتدليل على إعجاز القرآن.
ان هذا القرآن منزل من عند الله الرحمن الرحيم. وتتكرر هاتان الصفتان من الرحمة دائما لأن الله تعالى رحيم بعباده سبقت رحمته غضبَه، وحتى يعلم الناس ان الله تعالى رحمن رحيم بخلقه، بابه مفتوح لهم دائما حتى لا يقنطوا من رحمته، فالقرآن رحمة من الله تعالى، والرسول الكريم رحمة من الله ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
وهذا القرآن كتاب بُيّنت آياته وفصّل فيه الحرام والحلال والنصائح والمواعظ والاخلاق، بلغةٍ عربية فصيحة، ميسّراً فهمه لقوم يعلمون معانيه ومقاصده، ومراميه الانسانية الخالدة.
ولقد أُنزل هذا الكتاب العظيم بشيراً لمن أطاع ونذيرا لمن عصى.
﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ فلم يطيعوه ولم يقبلوه كأنهم لا يسمعون.
ثم صرحوا بإعراضهم عنه فقالوا: إن قلوبنا مغلقة دونه عليها الأغطية، فلا تقبله، وفي آذاننا صمم فلا نسمع ما تدعونا اليه، وبيننا وبينك يا محمد حجاب ساتر يمنعنا من قبول ما جئت به.
﴿فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾
فاعمل ما شئت، فاننا لا نَحيد عن موقفنا منك ومن دعوتك.
قل لهم ايها الرسول: ما أنا إلا بشر مثلكم يوحَى إليّ من الله بأن الهكم الذي يجب ان تبعدوه هو الله الواحد الأحد.
﴿فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه...﴾
فاستقيموا في افعالكم متوجهين اليه، واطلبوا اليه المغفرة فانه رحيم يحب التوابين، والويلُ والهلاك لمن أشرك به، وبخل بمالِه فلم يعط الفقراء والمحتاجين قليلا منه.
﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾
وينكرون البعثَ والجزاء. ونرى ان منع الزكاة مقرونٌ بالكفر لأن أحبَّ شيء الى الانسان هو المال، وهو شقيق الروح، ولذلك شدّد الله تعالى في هذا الموضوع وأمَرَ بالبذل والعطاء.
والزكاة كانت معروفة قبل الهجرة، وهذه الآية مكية، ولم تكن محدَّدة، وانما فُرضت وحُددت في المدينة في السنة الثانية من الهجرة.
ثم بين الله ما للمؤمنين عنده تعالى حتى يظهر الفرقُ بين المحسن والمسيء فقال:
﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾
جزاؤهم دائم غير مقطوعٍ بلا منٍّ ولا أذى عند رب غفور رحيم.
أندادا: امثالا. الرواسي: الجبال الثابتة الرواسخ. أقواتها: أقواتَ اهلها. سواء: كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة. استوى الى السماء: قصد نحوها. دخان: مادة غازية أشبه بالدخان. فقضاهن: خالقهن. امرها: شأنها. بمصابيح: بكواكب ونجوم كما نراها. وحفظا: حفظناها حفظا من الآفات.
قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين: كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين، وانتم مع هذا تجعلون له شركاء أمثالاً له! ﴿ذَلِكَ رَبُّ العالمين﴾. وجعل في الأرض جبالاً ثابتة من فوقها لئلا تَميدَ بكم، وجعلَها مباركة كثيرة الخيرات، وقدر فيها أرزاقَ أهلِها حسبما تقتضيه حكمته، كل ذلك في اربعة ايام متكاملة.
وقد جاء في القرآن الكريم ذكر اليوم والايام، ففي سورة الحج ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: ٤٧]. وفي سورة السجدة الآية ٥ ﴿يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ وفي سورة المعارج الآية ٤ ﴿تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.﴾ ان هذا اليوم الذي نعيش فيه ونعرفه مرتبطٌ بالأرض ودورانها حول نفسها، فاذا خرجنا من منطقة الأرض الى الفضاء الواسع الفسيح اختلفت المقاييس، ولم يعدْ للزمن حدود، وان سَنَتَنا ٣٦٥ يوما، بينما سنة عطارد وهو اقرب الكواكب الى الشمس ٨٨ يوما فقط حسب دورته حول الشمس، وان ابعد الكواكب وهو بلوتو تقدّر سنته بنحو ٢٥٠ سنة، لأنه يتم دورة واحدة بهذا الزمن، وهكذا فان الزمن نسبي. ان ايام الله هو يعلم مداها، ولا شك بانها أطول بكثير من ايام الأرض المعروفة.
﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾
ثم توجهتْ إرادته تعالى الى السماء وهي غاز هو معروف بالسديم الآن، وخلقَ السموات والأرض على وفق ارادته، فقال للسماء والأرض، ائتيا طائعين او مكرهتين بما وضعتُ فيكما من التأثير، وأبرِزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات، وائتيا في الوجود على ما أردتُه لكما، قالتا: أتينا طائعين لك أيها الخالق العظيم.
والمراد هنا من هذا التعبير تصويرُ قدرته تعالى فيهما وامتثالهما بالطاعة لأمره. فخلقَهن سبع سموات في يومين من أيامه، واوحى في كل سماءٍ أمرها وما أُعدّت له واقتضته حكمته، وزين السماء الدنيا التي نراها بالنجوم المنيرة كالمصابيح في أقرب المجرّات الينا التي نعيش على اطرافها، وهي المعروفة بدرْب التبّانة، والتي يقدَّر قطرها بنحو مئة الف مليون سنة ضوئية. وجعل لهذه الارض غلافاً جوياً يحفظها من كل سوء.
﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾ الذي يمسك هذا الكون، ويدبر الوجود كله بقدرته وحكمته.
قراءات:
قرأ يعقوب: سواءٍ بالجر. والباقون سواءً بالنصب.
صاعقة: عذاب شديد ينزل بهم. من بين أيديهم ومن خلفهم: من كل مكان. ريحاً صرصرا: باردة تهلك بشدة بردها. نحسات: نكدات مشئومات. أخزى: اذل. الهُون: الهوان، الذل.
فإن أعرضَ المشركون عن الإيمان، فقل لهم ايها الرسول: انني أنذركم بعذابٍ شديد مثل ما حلّ بعادٍ وثمود، اذ جاءتهم الرسُل من جميع النواحي ونصحوهم أن لا يعبدوا الا الله، فردّوا عليهم بقولهم: لو أراد الله إرسالَ رسولٍ لأنزل الينا ملائكة. ﴿فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ فاستكبروا في الارض بغير حق وقالوا مغترّين بأنفسهم: من أشدُّ منا قوة؟ قالوا ذلك ولم يروا ان الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوة، ﴿وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾.
وبعد ذلك يبين الله مصيرهم المشئوم فيقول: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً....﴾
ريحاً باردة تهلك بشدّة بردها، ولها صوتٌ مخيف، ارسلناها في ايام مشئومة لنذيقَهم عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا، ولَعذابُ الآخرة أشدُّ خِزيا، يوم لا يستطيع احد ان ينصرهم منه.
واما ثمود فإننا بينّا لهم طريق الخير وطريق الشر، فاختاروا الضلالة على الهدى، فأصابتْهم صاعقة أحرقتْهم وتركتهم في ذلٍ وهوان ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ من الذنوب والجحود.
وأما الذين آمنوا وكانوا يعملون الصالحات ويتقون ربّهم فقد نجّيناهم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع: نحْسات باسكان الحاء. والباقون: نحِسات بكسر الحاء.
يوزَعون: يساقون ويُدفعون الى جهنم. أرداكم: اهلككم. مثوى: مقام. وإن يَستعتبوا: يطلبوا العتبى والرضا. فما هم من المعتَبين: من المجابين الى ما يطلبون.
اذكر لهم أيها الرسول يومَ يُحشَر أعداءُ الله الى النار، وهم يساقون توجُرهم الملائكة، حتى اذا وصلوا وسئلوا عن أعمالهم السيئة في الدنيا، فانكروا - شهدَ عليهم سمعُهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون في الدنيا.
فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا؟ فتقول الجلود: أنطقَنا الله الذي أنطقَ كلَّ شيء وهو الذي خلقم من العدم، وإليه ترجعون.
وما كان باستطاعتكم ان تُخفوا أعمالكم عن جوارحكم مخافةَ ان تشهد عليكم، ولكن كنتم تظنون ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون. وهذا الظنّ الفاءد الذي كان منكم في الدنيا أوقعَكم الآن فأهلككم ﴿فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين﴾.
فان يصبروا على ما هم عليه فالنارُ مأواهم، وان يطلبوا رضا الله عليهم فما هم بِمُجابين الى طلبهم، وهذا مثلُ قوله تعالى: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾ [إبراهيم: ٢١].
قراءات: قرأ نافع ويعقوب: ويوم نحشر بالنون، والباقون: يحشر بالياء.
قيضنا: هيّأنا. قرناء: جمع قرين وهم الأصحاب والإخوان من غواة الجن والإنس. والْغَوا فيه: عارِضوه باللغو الباطل حين يُقرأ لتشوشوا عليه. دار الخلد: دار الاقامة الخالدة.
لا يزال الحديث عن المشركين الجاحدين، ويبين هنا ان السبب في غوايتهم هم قرناءُ السوء الذين زيّنوا لهم الكفر والضلال، وأغروهم بأنه لا بعثٌ ولا حساب، وحقَّ عليهم العذاب ممع أممٍ قد خلتْ من قبلهم من الجن والإنس ممن كانوا على شاكلتهم، وان هؤلاء جميعاً، ﴿كَانُواْ خَاسِرِينَ﴾.
ثم بين الله كيف كان مشركو قريش يكذّبون بالقرآن وكيف يستقبلونه باللغو والتشويش.
﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾
كانوا يوصون بعضهم بأن لا يصغوا الى القرآن، وان يشوّشوا بأصواتهم رجاءَ ان يكونوا هم الغالبين.
ثم اوعد الله الكفارَ بالعذاب الشديد وأقسمَأن يذيقَ الذين كفروا عذاباً شديداً جزاء فعلِهم السيّء وإعراضِهم وشغبهم.
ثم بيّن الله تعالى انهم حين وقوعهم في العذاب الشديد يطلُبون الانتقامَ ممن أضلّوهم من شياطين الإنس والجن، ليطأوهم بأقدامهم وينتقموا منهم شرّ انتقام، ولكنّ كلّ ذلك لا يُجديهم ولا يخفّف عنهم العذاب. وهكذا يصدُقُ عليهم قوله تعالى: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧].
استقاموا: ثبتوا على الايمان والعمل الصالح. أولياؤكم: نصراؤكم. ما تدعون: ما تطلبون. نزلاً: ضيافة حسنة. ادفع بالتي هي أحسن: رُدَّ الاساءة باللين والحسنى. وليّ حميم: صديق عزيز. وما يلقّاها: وما يعمل هذا العمل ويتحمله. الا ذو حظ عظيم: الا ذو نصيب وافر من الخير. ينزغنَّك: يوسوسنَّ لك ويغرينك بالشر. فاستعذ بالله: التجئ اليه.
هذه الآيات الكريمة دستورٌ عظيم في الأخلاق، وحسن المعاشرة، وكيفية الدعوة الى الله والتحلّي بالصبر والأناة، ولو أننا اتبعناها حقا، ولو أن وعّاظنا وأئمة مساجدنا تحلَّوا بها وساروا على هديها - لنفع الله بهم الناس، وهدى الكثيرَ الكثير منهم على أيديهم، ولاستقامت الأمور، وارتقت أحوالنا، هدانا الله الى التحلّي بكل مكرمة.
ان الذين قالوا ربنا الله اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته، ثم استقاموا في أعمالهم - أولئك تحفّهم الملائكة، وتبشّرهم بالفلاح والفوز بالجنة التي وعدَهم بها الله، وهو يقول لهم: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا بالتأييد، وفي الآخرة بالشفاعة والتكريم، ولكم في الجنة ما تشتهي أنفسكم وكلّ ﴿مَا تَدَّعُونَ﴾ أي ما تطلبون من الطيِّبات ضيافةً لكم من الله الغفور الرحيم.
ثم بين الله تعالى صفة الداعي الى الله بالأقوال الحسنة والعمل الصالح ليكون قدوةً ويقرّ بأنه من المسلمين المخلصين. وبعد ذلك أعقب بالدعوة الى حسن المعاملة بين الناس فقال:
﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة﴾
ولا تستوي الخَصلة الحسنة مع الخَصلة القبيحة، ادفعْ ايها المؤمن الاساءة ان حاءتك بالقول الحسن والِّين، فاذا فعلتَ ذلك انقلب العدوُّ صديقاً حميما، وناصرا مخلصا.
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ﴾
وما يتحلى بهذه الأخلاق العالية الا الصابرون ﴿وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ وما يُرزقها إلا ذو نصيب عظيم من خِصال الخير والكمال.
وان يصبْك من الشيطان وسوسةٌ فاستعذْ بالله، إن علمه محيطٌ بكل شيء.
لا يسأمون: لا يملّون. خاشعة: هامدة لا حياة فيها. اهتزت: تحركت. وربتْ: زادت. الذين يلحِدون في آياتنا: ينحرفون عن القرآن الكريم. من بين يديه ومن خلفه: من جميع جهاته. حميد: محمود. في آذانهم وقرٌ: فيها صمم.
يبين الله في هذه الآيات الكريمة الدلائلَ على وجوده تعالى وقدرته وحكمته، ومنها الليلُ والنهار والشمس والقمر، ثم ينبّه الناس أن لا يسجدوا للشمس ولا القمر، بل ان يعبدوا الله وحده الذي خلق هذا الكون العجيب. (وهنا مكان سجود، اذا قرأ القارئ القرآن وبلغ هاتين الآيتين عليه ان يسجد). فان استكبر هؤلاء المشركون الذي يعبدون غير الله عن السجود، فان الله لا يعبأ بهم، فعنده الملائكة يسبّحون له بالليل والنهار، لا يملّون من ذلك ولا يسأمون.
ثم بين بعد ذلك بآية أرضية تراها العين في كل حين، وهي حال الأرض: هامدة يابسة لا نبات فيها، تنتعش وتهتزُّ بعد ان ينزل المطر.. والذي أحياها هذه الحياة قادر على أن يحيي الموتى، ﴿إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ان الذين يميلون عن الحق ويُلحِدون في آياتنا نحن نعلمهم ولا يخفون عنا، ولهم جزاء كبير عند الله عبّرت عنه آيةُ:
﴿أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة؟﴾ انهم لا يستوون. وبعد ذلك هدّدهم الله وبين عاقبتهم بقوله ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
لقد كفر هؤلاء الملحدون بالقرآن لمّا جاءهم، وإنه لكتابٌ عزيز يغلب كل من حاول ان يعارضه، لا يأتيه الباطل أبداً من اي ناحية من نواحيه، فهو ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، حكيمٍ بتدبير شئون عباده، محمود على ما أسدى اليهم من النعم التي لا تحصى.
ثم بعد ذلك سلّى الله رسولَه الكريم عمَا يصيبه من أذى المشركين وطَعْنهم فيه وفي الكتاب العزيزن وحثَّه على الصبر، وان لا يضيق صدره بما يقولون، فقد قيل مثلُه للرسُل الذين جاؤا قبله، ومع كل ذلك ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾.
ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي: هلا نزل القرآن بلغة العَجَم؟ هذا ممع أنه لو نزل بلغة اعجمية لأنكروا ذلك ايضا، وقالوا ما لنا ولهذا؟
ثم قال لرسوله الكريم قل لهم: ان هذا القرآن هدى وشفاء للمؤمنين، اما الذين كفروا ولم يؤمنوا به، فكأنهم صمّ، وهو عليهم عَمًى فلا يبصرون حُججه ومحاسنه.
ثم مثّل حالهم، باعتبار عدم فهمهم له، بحال من ينادَى من مكان بعيد فهو لا يسمع من يناديه: ﴿أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾.
قال اهل اللغة: تقول العرب للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تنادَى من مكان بعيد، وللفهيم ثاقب الرأي: انك لتأخذ الأمور من مكان قريب.
200
ولقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه، ولولا قضاءٌ سبقَ من ربك ايها النبي ان يؤخر عذابَ المكذبين بك الى أجلٍ محدّد عنده - لقضى بينهم باستئصالهم، وان كفّار قومك لفي شكٍّ من القرآن.
ثم ختم هذا الجزء من القرآن بان الجزاء من جنس العمل، وان الله لا يظلم احدا فقال:
﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
قراءات:
قرأ قالون وابو عمرو: آاعجمي بمد الهمزة الاولى وتسهيل الثانية. وقرأ حفص وابن كثير وابن ذكوان: أأعجمي بهمزتين بغير مد. وقرأ هشام: أعجمي على الإخبار.
وهذا بيان واضح للناس، والله قد أعذر ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: ٣٩].
اللهم وفقنا للعمل الصالح واختم لنا بخير، واسترنا يا رب العالمين.
201
الساعة: يوم القيامة. اكمامها: جمع كِمّ بكسر الكاف، برعوم الثمرة ووعاؤها، وكذلك الكُم بضم الكاف: وعاء الثمر والزهر. آذنّاك: أعلمناك. ما منا من شهيد: ليس منا من يشهد لك شركاء. وظنوا ما لهم من محيص: وايقنوا ما لهم من مهرب. لا يسأم: لا يملّ. من دعاء الخير: من طلب المال، ويطلق الخير على المال والصحة والجاه والسلطة وغيرها. الشر: الفقر والمرض وكل سوء. والقنوط: بضم القاف، ظهور اثر اليأس على الانسان من المذلة والانكسار. الرحمة: الصحة وسعة العيش وكل ما يسرّ الانسان. والضرّاء: ضد الرحمة مثل المرض وضيق العيش ونحوهما. هذا لي: هذا ما أَستحقه لما لي من الفضل والعمل. الحسنى: الكرامة. عذاب غليظ: كثير وكبير.
بعد تلك الجولة مع المشركين، وما ينتظرهم يوم القيامة حسب أعمالهم وسوء عقائدهم - يبيّن الله تعالى هنا أن لا سبيل الى معرفة يوم القيامة وتحديد موعده، فذاك لا يعلمه الا هو، وأن علم الحوادث المقبلة في أوقاتها عند الله، فلا يعلم احد متى تخرجُ الثمر من اكمامها، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع. ثم ذكر سبحانه انه يوم القيامة ينادي المشركين تقريعاً لهم فيقول لهم: ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِي﴾ الذين كنتم تعبدونهم من دوني؟ فيكون جوابهم: ﴿آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ إننا نُعلمك يا الله انه ليس منا الآن من يشهد ان لك شركاء. وغاب الشركاء السابقون عنهم فلا يرجون منهم نفعا، وايقنوا انه لا مهرب لهم من العذاب.
ثم بين الله تعالى ان الانسان متبدّل الأحوال، لا يملّ من طل بالمال والمنفعة، فان أحسّ بخيرٍ وقدرة واقبلت عليه الدنيا - تكبّر وصعَّر خدّه، وان اصابته محنة وبلاء تطامنَ ويئس من الفرج. واذا انعم الله عليه بالخير والرحمة بعد الضّراء واليأس يقول: ﴿هذا لِي وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى﴾.
كل هذا من الغرور والضلال. ولكن الله تعالى يبين لهم ان تمرُّدهم هذا وبطرهم لا ينفعهم اذ يقول: ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ وهو عذاب جهنم خالدين فيها ابدا.
قراءات:
قرأ نافع وحفص وابن عامر من ثمرات بالجمع. والباقون: من ثمرة بالإفراد.
نأى بجانبه: تكبّر واختال. عريض: كثير. أرايتم: أخبروني. في شقاق بعيد: في خلاف كبير. الآفاق: جمع أفق بضم الفاء واسكانها. والأفق: الناحية ومنتهَى ما تراه العين من الأرض.
واذا أنعمنا على الإنسان ورزقناه سعة العيش والصحة - أعرضَ عما دعوناه إليه وتكبّر واخال، واذا مسّه الشّر وأصابته شدة من فقر او مرض اطال الدعاء والتضرع الى الله لعلّه يكشف عنه تلك الغُمة. وتقدم مثله في سورة يونس ١٢، وسورة هود ٩ و ١٠ وسورة الاسراء ٨٣.
قل لهم يا محمد: أخبِروني ان كان هذا القرآن الذي تكذّبون به من عند الله ثم كفرتم به، افلا تكونون بعيدين عن الحق والصواب؟.
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق﴾
ينري هؤلاء المشركين دلائلنا على صِدقك، وأنّه وعدُ الله لعباده جميعا، وذلك بأن نطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ومن خفايا أنفسهم على السواء. فقد كشف العلم عن امور كثيرة عن الأرض وما عليها، وعن النظام الشمسي وما فيه، وان هذه الارض وما حولها ما هي الا ذرة صغيرة تابعة للشمس، التي هي وما حولها ذرة صغيرة تسبح في هذا الكون الفسيح، وعرف الناس عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير، وان كل هذه المعلومات والاكتشافات ما هي الا ذرة من علم الله. ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الاسراء: ٨٥].
وكذلك سنري هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد والفتوحات التي تمت على يدي الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، وعلى يدي خلفائه وأصحابه الكرام ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق﴾ وان كل ما جاء به الرسول الكريم هو الحق.
﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾
كفى بالله شهيدا على افعال عباده واقوالهم، وعلى صدق محمد فيما أخبر به عنه.. ألم تكفِهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحَها سبحانه في هذه السورة وفي كل القرآن، وفيها البيان الكافي لاثبات وحدانيته، وتنزيهه عن كل نقص!!
ثم بين الله سببَ عنادهم واستكبارهم بعد كل ما تقدم من حججٍ وبيّنات فقال في الختام:
﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ﴾.
انهم في شك عظيم من البعث والجزاء ولقاء ربهم، ولذلك كفروا، والله تعالى محيطٌ بكل صغير وكبير، لا يفوته شيء في هذا الكون الكبير، واليه مردّ الجميع.
Icon