تفسير سورة الدّخان

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الدخان١
٢مقصودها الإنذار من الهلكة لمن لم يقبل ما في الذكر الكريم٣ الحكيم من الخير والبركة رحمة جعلها بين عامة خلقه مشتركة، وعلى ذلك دل اسمها٤ الدخان إذا تؤملت آياته وإفصاح ما ٥فيها وإشاراته٦ ﴿ بسم الله ﴾ الملك الجبار الواحد القهار﴿ الرحمن ﴾ الذي عم بنعمة٧ النذارة﴿ الرحيم ﴾ الذي [ خص-٨ ] أهل وداده برحمة البشارة. /﴿ حم ﴾ تقدمت الإشارة إلى شيء من أسرار أخواتها.
لما٩ ختمت الزخرف ببشارة باطنة ونذارة ظاهرة، وكان ما بشر به سبحانه من علم العرب وسلامتهم من غوائل ما كانوا فيه مستبعدا، افتتح هذا بمثل ذلك مقسما عليه.
١ الرابعة والأربعون من سور القرآن الكريم، مكية، وعدد آيها تسع وخمسون عند الكوفيين وسبع عند البصريين، وست عند المدنيين والمكي والشامي.
٢ زيد في الأصل: قال رحمه الله تعالى، ولم تكن الزيادة، ظ ومد فحذفناها.
٣ ليس في ظ ومد.
٤ من ظ ومد، وفي الأصل: اسمه.
٥ من ظ ومد، وفي الأصل: راته..
٦ من ظ ومد، وفي الأصل: راته..
٧ من مد، وفي الأصل وظ: بنعمته.
٨ زيد من مد.
٩ في الأصول: ولما، وما أثبتناه ينسجم مع ما دأب عليه المؤلف في أوائل السور..

فقال: ﴿والكتاب﴾ أي الجامع
1
لكل خير ﴿المبين *﴾ أي البين في نفسه، الموضح لما تقدم من دقيق البشارة لأهل الصفاء والبصارة، واضح النذارة بصريح العبارة، وغير ذلك من كل ما يراد منه، ولأجل ما ذكر من الاستبعاد أكد جواب القسم وأتى به في مظهر العظمة فقال: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿أنزلناه﴾ أي الكتاب إما جميعاً إلى بيت العزة في سماء الدنيا أو ابتدأنا إنزاله إلى الأرض ﴿في ليلة مباركة﴾ أي ليلة القدر - قاله ابن عباس رضي الله عنهما أو النصف من شعبان، فلذلك يتأثر عنه من التأثيرات ما لم تحط به الأفهام في الدين والدنيا، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ينزل إلى سماء الدنيا كل سنة بمقدار ما كان جبريل عليه السلام ينزله على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك السنة وسماها ﴿مباركة﴾ لأنها ليلة افتتاح الوصلة وأشد الليالي بركة يكون العبد فيها حاضراً بقلبه مشاهداً لربه، يتنعم فيها بأنوار الوصلة ويجد فيها نسيم القربة، وقال الرازي في اللوامع: وأعظم الليالي بركة ما كوشف فيها بحقائق الأشياء.
2
ولما كان هذا موضحاً لما لوح به آخر تلك من البشارة في ظاهر النذارة، علل الإنزال أو استأنف ما فيه من واضح النذارة الموصل إلى المعاني المقتضية للبشارة، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم: ﴿إنا﴾ أي على ما نحن عليه من الجلال ﴿كنا﴾ بما لنا من العظمة دائماً لعبادنا ﴿منذرين *﴾ لا نؤاخذهم من غير إنذار، فلأجل رحمتنا لهؤلاء القوم وهم أرق الناس طبعاً وأصفاهم قلوباً وأوعاهم سمعاً نوصلهم بما هيأناهم به من ذلك إلى ما لم يصل غيرهم إليه ولم يقاربه من المعالي في الأخلاق والشمائل والاكتساب لجميع الفضائل.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة حم السجدة وسورة الشورى من ذكر الكتاب العزيز ما قد أشير إليه مما لم تنطو سورة غافر على شيء منه، وحصل من مجموع ذلك الإعلام بتنزيله من عند الله وتفصيله وكونه قرآناً عربياً إلى ما ذكر تعالى من خصائصه إلى قوله ﴿وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون﴾ [الزخرف: ٤٤] وتعلق الكلام بعد هذا بعضه ببعض إلى آخر السورة، افتتح تعالى سورة الدخان بما يكمل ذلك الغرض، وهو التعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا فقال تعالى: ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ ثم ذكر من فضلها فقال ﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ فحصل وصف الكتاب بخصائصه والتعريف بوقت إنزاله إلى
3
سماء الدنيا وتقدم الأهم من ذلك في السورتين قبل، وتأخر التعريف بوقت إنزاله إلى السماء الدنيا إذ ليس في التأكيد كالمتقدم، ثم وقع إثر هذا تفصيل وعيد قد أجمل في قوله تعالى ﴿فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون﴾ وما تقدمه من قوله ﴿أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون﴾ وقوله سبحانه ﴿أم يحسبون أنا نسمع سرهم ونجواهم﴾ وتنزيهه سبحانه وتعالى نفسه عن عظيم افترائهم في جعلهم الشريك والولد - إلى آخر السورة، ففصل بعض ما أجملته هذه الآي في قوله تعالى في صدر سورة الدخان ﴿فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين﴾ وقوله تعالى ﴿يوم نبطش البطشة الكبرى﴾، والإشارة إلى يوم بدر، ثم ذكر شأن غيرهم في هذا وهلاكهم بسوء ما ارتكبوا ليشعروا أن لا فارق إن هم عقلوا واعتبروا، ثم عرض بقرنهم في مقالته ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم، ثم ذكر تعالى:
4
﴿شجرة الزقوم﴾ إلى قوله: ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ والتحم هذا كله التحاماً يبهر العقول، ثم اتبع بذكر حال المتقين جرياً على المطرد من شفع الترغيب والترهيب ليبين حال الفريقين وينتج علم الواضح من الطريقين، ثم قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون﴾ وقد أخبره مع بيان الأمر ووضوحه أنه ﴿إنما يتذكر من يخشى﴾ ثم قال ﴿فارتقب﴾ وعدك ووعيدهم ﴿إنهم مرتقبون﴾.
ولما وصف ليلة إنزال هذا القرآن بالبركة، وأعلم أن من أعظم بركتها النذارة، وكانت النذارة مع أنها فرقت من البشارة أمراً عظيماً موجباً لفرقان ما بين المحاسن والمساوىء من الأعمال قائدة إلى كل خير بدليل أن أتباع ذوي البركة من العلماء، وإذا تعارض عندهم أمر العالم والظالم، قدموا أمر الظالم لما يخافون من نذارته، وأهملوا أمر العالم وإن عظم الرجاء لبشارته، قال معللاً لبركتها بعد تعليل الإنزال فيها، ومعمماً لها يحصل فيها من بركات التفضيل: ﴿فيها﴾ أي الليلة المباركة سواء قلنا: إنها ليلة القدر أو ليلة النصف أصالة أو مآلاً ﴿يفرق﴾ أي ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة ﴿كل أمر حكيم *﴾ أي محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحى به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب
5
والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياً في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً، قال البغوي رحمه الله: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر، والأرزاق والآجال، قال: وروى أبو الضحى عنه أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان فيسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقال الكرماني: فيسلمها إلى إلى أربابها وعملها من الملائكة ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان.
ولما كان هذا مفهماً لأمور لا حصر لها، بين أنه لا كلفة عليه سبحانه فيه، ولا تجدد عنده في وقت من الأوقات لشيء لم يكن قبل إلا تعليق القدرة على وفق الإرادة، فقال مؤكداً لفخامة ما تضمنه وصفه بأنه حكيم: ﴿أمراً﴾ أي حال كون هذا كله مع انتشاره وعدم انحصاره أمراً عظيماً جداً واحداً لا تعدد فيه دبرناه في الأزل وقررناه وأتقناه واخترناه ليوجد في أوقاته بتقدير، ويبرز على ما له من
6
الإحكام في أحيانه في أقل من لمح البصر، ودل على أنه ليس مستغرقاً لما تحت قدرته سبحانه بإثبات الجار فقال: ﴿من عندنا﴾ أي من العاديات والخوارق وما وراءها.
ولما بين حال الفرقان الذي من جملته الإنذار، علله بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من أوصاف الكمال وكمال العظمة ﴿كنا﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿مرسلين *﴾ أي لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد، لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس، فلا يكون لأحد على الله حجة بعد الرسل، وهذا الكلام المنتظم والقول الملتحم بعضه ببعض، المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم تنزل صحيفة ولا كتاب إلا في هذه الليلة، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها كما بينته في كتابي «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» وكذا قوله في سورة القدر ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمور الحكيمة، وبين سبحانه حال الرسالات
7
بقوله: ﴿رحمة﴾ وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله «منا» إلى قوله: ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك، فإن رسالاتهم كانت لبث الأنوار في العباد، وتمهيد الشرائع في العباد، حتى استنارت القلوب، واطمأنت النفوس، بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان، فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق، فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق.
ولما كانت الرسالة لا بد فيها من السمع والعلم، قال: ﴿إنه هو﴾ أي وحده ﴿السميع﴾ أي فهو الحي المريد ﴿العليم *﴾ فهو القدير البصير المتكلم، يسمع ما يقوله رسله وما يقال لهم، وكل ما يمكن أن يسمع وإن كان بحيث لا يسمعه غيره من الكلام النفسي وغيره الذي هو بالنسبة إلى سمعنا كنسبة ما تسمعه من الكلام إلى سمع الأصم وسمعه ليس كأسماعنا، بل هو متعلق بالمسموعات على ما هي عليه قبل وجودها كما أن علمه متعلق بالمعلومات كما هي قبل كونها.
ولما ذكر إنزال الكتاب على تلك الحال العظيمة البركة لأجل الإرسال، وبين أن معظم ثمرة الإرسال الإنذار لما للمرسل إليهم من أنفسهم
8
من التوراة، دل على ذلك من التدبير المحكم الذي اقتضته حكمة التربية فقال: ﴿رب﴾ أي مالك ومنشئ ومدبر ﴿السماوات﴾ أي جميع الأجرام العلوية ﴿والأرض﴾ وما فيها ﴿وما بينهما﴾ مما تشاهدون من هذا الفضاء، وما فيه من الهواء وغيره، مما تعلمون من اكتساب العباد، وغيرهما مما لا تعلمون، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله.
ولما كانوا مقرين بهذا الربوبية ويأنفون من وصفهم بأنهم غير محققين لشيء يعترفون به، أشار إلى ما يلزمهم بهذا الإقرار إن كانوا كما يزعمون من التحقيق فقال: ﴿إن كنتم موقنين *﴾ أي إن كان لكم إيقان بأنه الخالق لما ركز في غرائزكم وجبلاتكم رسوخ العلم الصافي السالم عن شوائب الأكدار من حظوظ النفوس وعوائق العلائق، فأنتم تعلمون أنه لا بد لهذه الأجرام الكثيفة جداً المتعالي بعضها عن بعض بلا ممسك تشاهدونه مع تغير كل منها بأنواع الغير من رب، وأنه لا يكون وهي على هذا النظام إلا وهو
9
كامل العلم شامل القدرة، مختار في تدبيره، حكيم في شأنه كله وجميع تقديره، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يدع من فيها من العلماء العقلاء الذين هم خلاصة ما فيهما هملاً يبغي بعضهم على بعض من غير رسول معلم بأوامره، وأحكامه وزواجره، منبه لهم على أنه ما خلق هذا الخلق كله إلا لأجلهم، ليحذروا سطواته ويقيدوا بالشكر على ما حباهم به من أنواع هباته.
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته، وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته، وبعدم الجري على نظام واحد من كل وجه فعله بالاختيار وقدرته، صرح بذلك منبهاً لهم على أن النظر الصحيح أنتج ذلك ولا بد فقال تعالى: ﴿لا إله إلا هو﴾ أي وإلا لنازعه في أمرهما أو بعضه منازع، أو أمكن أن ينازع فيكون محتاجاً لا محالة، وإلا لدفع عنه من يمكن نزعه له وخلافه إياه، فلا يكون صالحاً للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإيحاء لكل من يوافقهم على مر الزمان وتطاول الدهر ومد الحدثان على نظام مستمر، وحال ثابت مستقر.
10
ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره، ثبت قوله تعالى: ﴿يحيى ويميت﴾ لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير، وهو تنبيه على تمام دليل الوحدانية لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه، ويحال شيء من الأمور عليه، فهما جملتان: الأولى نافية لما أثبتوه من الشركة، والثانية مثبتة لما نفوه من البعث.
ولما ثبت أنه المختص بالإفاضة والسلب، وكان السلب أدل على القهر، ذكرهم ما لهم من ذلك في أنفسهم فقال سبحانه: ﴿ربكم﴾ أي الذي أفاض عليكم ما تشاهدون من النعم في الأرواح وغيرها ﴿ورب آبائكم﴾ ولما كانوا يشاهدون من ربوبيته لأقرب آبائهم ما يشاهدون لأنفسهم، رقي نظرهم إلى النهاية فقال: ﴿الأولين *﴾ أي الذين أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون، فلم يقدر أحد منهم على ممانعة ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة.
11
ولما كان أكثرهم منكراً لما لزمه القطع به بهذا البرهان الزاهر والسلطان الظاهر القاهر عناداً ولدداً وإن كان باطنه على غير ذلك،
11
فكان فعله فعل الشاك اللاعب، كان التقدير لأجل ما يظهر من حالهم: لكنكم غير موقنين بعلم من العلوم، بنى عليه قوله مع الصرف إلى الغيبة إعراضاً عنهم أيذاناً بالغضب، وأنهم أهل للمعاجلة بالعطب: ﴿بل هم﴾ أي بضمائرهم ﴿في شك﴾ لأنهم لا يجردون أنفسهم من شوائب المكدرات لصفاء العلم، ثم أعلم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الشاغل لهم عن هذا المهم حال الصبيان مع ادعائهم الكمال بأخلاق الأجلاء من الرجال فقال: ﴿يلعبون *﴾ أي يفعلون دائماً فعل التارك لما هو فيه من أجد الجد الذي لا مرية فيه اللعب الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة له بوجه بعد فعل الشاك بالإعراض وعدم الإسراع إلى التصديق والإيقاض.
ولما كان هذا موضع أن يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المفهوم من السياق: فماذا صنع فيهم بعد هذا البيان، الذي لم يدع لبساً لإنسان؟ سبب عن ذلك قوله تسلية له وتهديداً لهم: ﴿فارتقب﴾ أي انتظر بكل جهد عالياً عليم ناظراً لأحوالهم نظر من هو حارس
12
لها، متحفظاً من مثلها بهمة كهمة الأسد الأرقب، والفعل متعد ولكنه قصر تهويلاً لذهاب الوهم في مفعوله كل مذهب، ولعل المراد في الأصل ما يحصل من أسباب نصرك وموجبات خذلانهم ﴿يوم تأتي السماء﴾ أي فيما يخيل للعين لما يغشي البصر من شدة الجهد بالجوع إن كان المراد ما حصل لهم من المجاعة الناشئة عن القحط الذي سببه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» وروي في الصحيح أن الرجل منهم كان يرى ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، وفي الواقع أن المراد عند قرب الساعة وعقب قيامها، فإنه ورد أنه يأتي إذ ذاك فيغشي الناس ويحصل للمؤمن منه كهيئة الزكام، ويجوز أن يكون المراد أعم من ذلك كله وأوله وقت القحط وكان آية على ما بعده، أو منه ما يأتي عند خروج الدخان من القحط الذي يحصل قبله أو غيره كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني قد خبأت لك خبأ فما هو؟» قال: الدخ، ففسر بالدخان، فلذلك قال تعالى: ﴿بدخان مبين﴾ أي واضح لا لبس فيه عند رائية ومبين لما سواه من الآيات للفطن
13
﴿يغشى الناس﴾ أي المهددين بهذا، وهم الذين رضوا بحضيض النوس والاضطراب عن أوج الثبات في رتبة الصواب، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بادروا بالأعمال ستاً: الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم».
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون عند إتيانه جرياً على عادة جهلهم: ما هذا؟ أجيبوا بقوله تعالى حكاية عن لسان الحال، أو قول بعضهم أو بعض أولياء الله: ﴿هذا عذاب أليم *﴾ يخلص وجعه إلى القلب فيبلغ في ألمه بما كنتم تؤلمون دعاتكم إلى الله برد مقولهم والاستخفاف باغتراركم بكثرة العدد والقوة والمدد.
ولما كان كأنه قيل: فما قالوا حين تحققوا ذلك؟ قيل: قالوا وقد انحلت عرى تلك العزائم، ووهت تلك القوى من كل عازم، وسفلت بعد العو تلك الشوامخ من الهمم مدعين أنهم لغاية الإذعان من أهل القرب والرضوان: ﴿ربنا﴾ أي أيها المبدع لنا والمحسن
14
إلينا ﴿اكشف عنا العذاب﴾ ثم عللوا ذلك بما علموا أنه الموجب كشفه، فقالوا مؤكدين لما لحالهم من المنافاة لخبرهم: ﴿إنا مؤمنون *﴾ أي عريقون في وصف الإيمان واصلون إلى رتبة الإيقان، وهذا يصح أن يراد به بعد طلوع الشمس من مغربها، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها» ثم قرأ الآية، وإن كان المراد بالعذاب ما حصل من القحط كان هذا الإيمان على سبيل الوعد.
ولما كان كشف الآيات وإظهار العذاب لا يفيد في الدلالة على الحق أكثر مما أفاده الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أقامه من المعجزات بل إفادة الرسول أعظم، أجيب من كأنه سأل عن حالهم عند ذلك بقوله معرضاً عن خطابهم، إيذاناً بدوام مصابهم، لئلا يظن أنه ما كشف عنهم العذاب إلا لظن أنهم صادقون: ﴿أنى﴾ أي كيف ومن أين ﴿لهم الذكرى﴾ أي هذا التذكر العظيم الذي وصفوا به أنفسهم ﴿وقد﴾ أي والحال أنه قد ﴿جاءهم﴾ ما هو أعظم من ذلك بما
15
لا يقايس ﴿رسول مبين *﴾ أي ظاهر غاية الظهور أنه رسولنا، وموضح غاية الإيضاح لما جاء به عنا بما أظهر من الآيات، وغير ذلك من الدلالات.
ولما كان الإعراض عنه مع ماله من العظمة بالبيان استخفافاً به وبمن جاء من بعده، أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال: ﴿ثم﴾ أي بعد ما له من عليّ الرتبة في نفسه وبالإضافة إلى من أرسله. ولما كانت الفطر الأولى داعية إلى الإقبال على الحق، نازعة إلى الانقطاع إلى الله والعكوف ببابه، واللجاء إلى جنابه، إلا بجهد من النفس في النفور وعلاج دواعي الثبور، أشار إلى ذلك بالتعبير بصيغة التفعل فقال: ﴿تولوا عنه﴾ أي أطاعوا ما دعاهم إلى الإدبار عنه من دواعي الهوى ونوازع الشهوات والحظوظ ﴿وقالوا﴾ أي زيادة على إساءتهم بالتولي: ﴿معلم﴾ أي علمه غيره من البشر ﴿مجنون *﴾ فلم يبالوا بالتناقض البين الأمر، وهذا يدل على أن من لا يبالي بعرضه ولا حياء له لا طيب لدائه لأنه لا وجود لدوائه، وأنه إذا مس بما يلينه ويرده ويهينه لا يؤمن من رجوعه إلى الحال السيىء عند كشف ذلك
16
الضر عنه.
ولما لفت سبحانه الخطاب عنهم إهانة لهم، بين أن سببه أن داءهم عضال، فليس له أبداً زوال، فقال مؤكداً لاستبعادهم زوال ما هم فيه: ﴿إنا﴾ أي على ما لنا من العظمة بالعلم المحيط وغيره ﴿كاشفوا العذاب﴾ أي عنكم بدعاء رسولكم صل الله عليه وسلم في القول بأن الدخان ما كانوا يرونه بسبب الجوع من القحط ﴿قليلاً﴾ إقامة للحجة عليكم لا لخفاء ما في ضمائركم علينا. ولما كانوا قد أكدوا الإخبار بإيمانهم، وهو باطل، أكد سبحانه الإخبار بكذبهم، ومن أصدق منه سبحانه قيلاً، فقال تحقيقاً لقوله تعالى ﴿ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ [الأنعام: ٢٨] ﴿وإنهم لكاذبون﴾ [الأنعام: ٢٨] :﴿إنكم عائدون *﴾ أي ثابت عودكم بعد كشفنا عنكم في ذلك الزمن القصير إلى الكفران وإن أكدتم حصول الإيمان بأكيد الإيمان لما في جبلاتكم من العوج ولطباعكم من المبادرة إلى الزلل، فإيمانكم هذا الذي أخبرتم برسوخه عرض زائل وخيال باطل، وإن كان هذا في آخر الزمان فلا يدع أن يكون الخطاب لهم على حقيقته بملك أو غيره ممن يرده الله تعالى لأن ذلك زمان خرق العادات ونقض المطردات إقامة للحجة عليهم وله الحجة البالغة، وتأديباً
17
لنا وتعليماً.
18
ولما كان اليوم قد يراد به المن المجتمع في حكم من الأحكام، وكان زمان الدخان إن كان المراد به القحط الذي كان قبل يوم بدر أو ما يقرب من الساعة يسمى يوماً واحداً لاتحاد ذلك الحكم، أبدل من ﴿يوم الدخان﴾ قوله تهديداً بشق الأكباد: ﴿يوم نبطش﴾ أي بما لنا من العظمة، والبطش: الأخذ بقوة ﴿البطشة الكبرى﴾ أي التي تنحل لها عراهم وتنخل بها عزائمهم وقواهم ولا يحتملها حقائقهم ولا مناهم، سواء كانت البطشة يوم بدر أو غيره فيخسر هنالك من كشف حال الابتلاء عن طغيانه، وتمرده على ربه وعصيانه، ويجوز أن يكون هذا ظرفاً لعائدون. ولما كان ما له سبحانه من الحلم وطول الإمهال موجباً لأهل البلادة والغلظة الشك في وعيده، قال مؤكداً ﴿إنا منتقمون *﴾ أي ذلك صفة ثابتة لم نزل نفعلها بأعدائنا لنسر أضدادهم في أوليائنا.
ولما كان التقدير: لفقد فتناهم بإرسالك إليهم ليكشف ذلك لمن لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه عما نعلمه في الأزل، وفيما لا يزال ولم يزل،
18
من بواطن أمورهم، فتقوم الحجة على من خالفنا على مقتضى عاداتكم، عطف عليه محذراً لقريش ومسلياً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: ﴿ولقد فتنا﴾ أي فعلنا على ما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر الذي يريد أن يعلم حقيقة الشيء بالإملاء والتمكين ثم الإرسال.
ولما كان من المعلوم أن قوم فرعون لم يستغرقوا الزمان ولا كانوا أقرب الناس زماناً إلى قريش، نزع الجار قبل الظرف لعدم الإلباس أو أنه عظم فتنتهم لما كان لهم من العظمة والمكمنة، فجعلها لذلك كأنها مستغرقة لجميع الزمان فقال: ﴿قبلهم﴾ أي قبل هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم وعظة.
ولما كان فرعون من أقوى من جاءه رسول قبلهم بما كان له من الجنود والأموال والمكنة، وكان الرسول الذي أتاه قد جمع له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآيات التي اشتملت على التصرف في العناصر الأربعة. فكان فيها الماء والتراب والنار والهواء، وكانوا إذا أتتهم الآية قالوا: يا أيها الساحر! ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون،
19
فإذا كشف عنهم ذلك عادوا إلى ما كانوا عليه كما أخبر تعالى عن هؤلاء عند مجيء الدخان - إلى غير ذلك مما شابهوهم فيه من الأسرار التي كشفها هذا المضمار، وكان آخر ذلك أن أهلكهم أجمعين، فكانوا أجلى مثل لقوله تعالى في التي قبلها ﴿فأهلكنا أشد منهم بطشاً﴾ [الزخرف: ٨] خصهم بالذكر من بين المفتونين قبل فقال: ﴿قوم فرعون﴾ أي مع فرعون لأن ما كان فتنة لقومه كان فتنة له لأن الكبير أرسخ في الفتنة بما أحاط به من الدنيا، وسيأتي التصريح به في آخر القصة ﴿وجاءهم﴾ أي المضافين والمضاف إليه في زيادة فتنتهم ﴿رسول كريم﴾ أي يعلمون شرفه نسباً وأخلاقًا وأفعالاً، ثم زاد بيان كرمه بما ظهر لله به من العناية بما أيده به من المعجزات.
ولما أخبر بمجيئه إليهم بالرسالة التي لا تكون إلا بالقول، فسر ما بلغهم منها بقوله: ﴿أن أدوا﴾ أي أوصلوا مع البشر وطيب النفس، وأبرز ذلك في صيغة الأمر الذي لا يسوغ مخالفته ولما كان بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين تصرفه في قومه حائل كثيف من
20
ظلم فرعون وقومه، أشار إليه بحرف الغاية فقال: ﴿إليّ﴾ ونبهه على أنه لا حكم له عليهم بقوله ﴿عباد الله﴾ أي بني إسرائيل الذين استعبدتموهم ظلماً وليست عليهم عبودية إلا للذي أظهر في أمورهم صفات جلاله وجماله بما صنع مع آبائهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده وما سيظهر مما ترونه وما يكون بعدكم.
ولما كان لهم به من النفع إن تبعوا ما جاءهم به والضر إن ردوه ما ليس لغيرهم، وكان لا يقدر على تأدية بني إسرائيل إليه من أهل الأرض غيرهم لاحتوائهم عليهم كان تقديم الجار في أحكم مواضعه فلذلك قال مؤكداً فإنكارهم لرسالته عليه الصلاة والسلام: ﴿إني لكم﴾ أي خاصة بسبب ذلك ﴿رسول﴾ أي من عند من لا تكون الرسالة الكاملة إلا منه، ولما كان الإنسان لا يأتمن على السياسة إلا ثقة كافياً، قال واصفاً لنفسه بما يزيل عذرهم ويقيم الحجة عليهم: ﴿أمين *﴾ أي بالغ الأمانة لأن الملك الديان لا يرسل إلا من كان كذلك.
21
ولما كان استعباد عبد الغير بغير حق في صورة العلو على مالك العبد قال: ﴿وأن لا تعلوا﴾ أي تفعلوا باستعبادكم لبني إسرائيل نبي الله
21
ابن خليل الله فعل العالي ﴿على الله﴾ الذي له مجامع العظمة ومعاقد العزة بنفوذ الكلمة وجميع أوصاف الكمال فإنكم إن فعلتم ذلك أخذكم بعزته ودمركم بعظمته.
ولما كان علو من يتصرف في العبد على مالك العبد لا يثبت إلا بعد ثبوت أنه ملكه وأنه لا يحب التصرف فيه، علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل أن ما أتى به بصدد أن ينكروه لأن النزوع عما استقر في النفس ومضى عليه الإلف بعيد: ﴿إني آتيكم﴾ وهو يصح أن يكون اسم فاعل وأن يكون فعلاً مضارعاً. ولما كان فعلهم فعل العالي على السلطان، قال: ﴿بسلطان﴾ أي أمر باهر قاهر من عند مالكهم، لا يسوغ لأحد الاستعلاء عليه فكيف بالاستعلاء على من هو بأمره ﴿مبين *﴾ أي واضح في نفسه سلطنته ومظهر لغيره ذلك.
ولما كان من العجائب أن يقتل منهم نفساً ثم يخرج فاراً منهم ثم يأتي إليهم لا سيما إتياناً يقاهرهم فيه في أمر عظيم من غير أن يقع بينهم وبينه ما يمحو ما تقدم منه، نبههم على إتيانه هذا على هذا الحال آية أخرى دالة على السلطان، فقال مؤكداً تكذيباً لظنهم أنه في قبضتهم: ﴿وإني عذت﴾ أي اعتصمت وامتنعت ﴿بربي﴾ الذي
22
رباني على ما اقتضاه لطفه بي وإحسانه إليّ ﴿وربكم﴾ الذي أعاذني من قتلكم لي بكم على ما دعت إليه حكمته من جبروتكم وتكبركم وقوة مكنتكم ﴿أن ترجمون *﴾ أي أن يتجدد في وقت من الأوقات قتل منكم لي، ما أتيتكم حتى توثقت من ربي في ذلك، فإني قلت ﴿إني أخاف أن يقتلون﴾ فقال ﴿سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا﴾ [القصص: ٣٨] فهو من أعظم آياتي أن لا تصلوا على قوتكم وكثرتكم إلى قتلي منع أنه لا قوة لي بغير الله الذي أرسلني.
ولما كان التقدير: فإن آمنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم، عطف عليه قوله: ﴿وإن لم تؤمنوا لي﴾ أي تصدقوا لأجلي ما أخبرتكم به ﴿فاعتزلون *﴾ أي وإن لم تعتزلوني هلكتم، ولا تقدرون على قتلي بوجه وأنا واحد ممن تسومونهم سوء العذاب، وما قتلتم أبناءهم إلا من أجلي، فرباني على كف من ضاقت عليه الأرض بسببي وسفك الدماء في شأني، ومنعه الله من أن يصل إليّ منه سوء قبل أن
23
أعوذ به، فكيف به بعد أن أرسلني وعذت به فأعاذني، واستجرت به فأجارني.
ولما كان التقدير: لم يؤمنوا به ولا لأجله ولم يعتزلوه، بل بغوا له الغوائل وراموا أن يواقعوا به الدواهي والقواصم، فلم يقدروا على ذلك وآذوا قومه وطال البلاء، سبب عنه قوله: ﴿فدعا ربه﴾ الذي أحسن إليه وضمن له سياسته وسياسة قومه، ثم فسر ما دعا به بقوله: ﴿أن هؤلاء﴾ أي الحقيرون الأراذل الذليلون ﴿قوم﴾ أي لهم قوة على القيام بما يحاولونه ﴿مجرمون *﴾ أي عريقون في قطع ما أمرت به أن يوصل، وذلك متضمن وصل ما أمرت به أن يقطع، فكان المعنى: فدعا بهذا المعنى، ولذلك أتى «بأن» الدالة على المصدرية.
ولما كان ممن يستجيب دعاءه ويكرم نداءه، سبب عن ذلك قوله: ﴿فأسر﴾ أي فقلنا له: سر عامة الليل - هذا على قراءة المدنيين وابن كثير بوصل الهمزة وعلى قراءة غيرهم بالقطع المعنى: أوقع السرى وهو السير عامة الليل ﴿بعبادي﴾ الذين هم أهل لإضافتهم إلى جنابي، قومك الذين أرسلناك لإسعادهم باستنقاذهم ممن يظلمهم وتفريغهم لعبادتي
24
لا لعبادة غيري.
ولما كان سبحانه قد تقدم إلى بني إسرائيل في أن يكونوا متهيئين في الليلة التي أمر بالسرى فيها بحيث لا يكون لأحد منهم عاقة أصلاً كما تقدم بيانه في الأعراف عن التوراة، بين تأكيده لذلك بقوله: ﴿ليلاً﴾ فصار تأكيداً بغير اللفظ، وإنما أمره بالسير في الليل لأنه أوقع بالقبط موت الأبكار ليلاً، فأمر فرعون موسى عليه الصلاة والسلام أن يخرج بقومه في ذلك خوفاً من أن يموت القبط.
ولما علم الله تعالى أنهم إن تأخروا إلى أن يطلع الفجر ويرتفع عنهم الموت، منعوهم الخروج، وإن تأخروا إلى آخر الليل أدركوهم قبل الوصول إلى البحر فيقتلوهم، علل هذا الأمر بقوله مؤكداً له لأن حال القبط عندما أمروهم بالخروج كان حال من لا يصدق له ترجع في قوله: ﴿إنكم متبعون *﴾ أي مطلوبون بغاية الشهوة والجهد من عدوكم، فلا يغرنكم ما هم فيه عند أمركم بالخروج من الجزع من إقامتكم بين أظهرهم وسؤالهم لكم في الخروج عنهم بسب وقوع الموت الفاشي فيهم، فإن القلوب بيد الله، فهو يقسي قلب فرعون
25
بعد رؤية هذه الآيات حين يرتفع عنهم الموت ويفرغون من دفن موتاهم فيطلبكم لما دبرته في القدم من سياستكم بإغراقهم أجمعين ليظهر مجدي بذلك وأدفع عنكم روع مدافعتهم فإني أعلم أنه لا قوة لكم ولا طاقة بهم، فلم أكلفكم لمباشرة شيء من أمرهم.
ولما أمره بالإسراء وعلله، أمره بما يفعل فيه وعلله فقال: ﴿واترك البحر﴾ أي إذا أسريت بهم وتبعك العدو ووصلت إليه وأمرناك بضربه لينفتح لتدخلوا فيه فدخلتم ونجوتم ﴿رهواً﴾ بعد خروجكم منه بأجمعكم أي منفرجاً واسعاً ساكناً بحيث يكون المرتفع من مائه مرتفعاً والمنخفض منخفضاً كالجدار، وطريقه الذي سرتم به يابساً ذا سير سهل على الحالة التي دخلتم فيها ليدخل فيه عدوكم فنمجد بإغراقهم كما وعدناكم، وقال البغوي: راهياً أي ذا رهو فسمي بالمصدر - وعزاه إلى مقاتل - انتهى. ولما كانت هذه أسباباً لدخول آل فرعون فيه، علل بما يكون عنها تسكيناً لقلوبهم في ترك البحر طريقاً مفتوحاً يدخله العدو، فقال مؤكداً لأجل استبعاد بني إسرائيل مضمون الخبر لأنه من خوارق العادات مع ما لفرعون وآله في قلوبهم من
26
الهيبة الموجبة لأن يستبعدوا معها عمومهم بالإهلاك ﴿إنهم جند مغرقون *﴾ أي متمكنون في هذا الوصف وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي محطه النجدة الموجبة للعلو في الأمور.
27
ولما أرشد السياق ولا بد إلى تقدير: فأسرى موسى بعباد الله كما أمره الله فتعبهم آل فرعون كما أخبر سبحانه، ففتح الله البحر بباهر قدرته وأمسك ماءه كالجدران بقاهر عظمته وتركه بعد طلوعهم منه على حالته فتبعهم عباد الشيطان بما فاض عليهم من شقاوته فأغرقهم الله بعزته لم يفلت منهم أحد، عبر سبحانه عن هذا كله بقوله على طريق الاستئناف: ﴿كم تركوا﴾ أي الذي سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا ﴿من جنات﴾ أي بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يسر المهموم ويستر الهموم، ودل على كرم الأرض بقوله: ﴿وعيون وزروع﴾ أي مما هو دون الأشجار. ولما كان ذلك لا يكمل إلا بمنازل ومناظر في الجنان وغيرها فقال: ﴿ومقام كريم *﴾ أي مجلس شريف هو أهل لأن يقيم الإنسان فيه، لأن النهاية فيما يرضيه.
27
ولما كان ذلك قد يكون بتعب صاحبة فيه، دل على أنه كان بكد غيرهم وهم في غاية الترف، وهذا هو الذي حملهم على اتباع من كان يكفيهم ذلك حتى أداهم إلى الغرق قال: ﴿ونعمة﴾ هي بفتح النون اسم للتنعم بمعنى الترفه والعيش اللين الرغد، وأما التي بالكسر فهي الإنعام ﴿كانوا فيها﴾ أي دائماً ﴿فاكهين *﴾ أي فعلهم في عيشهم فعل المترفه لا فعل من يضطر إلى إقامة نفسه.
ولما كان هذا أمراً عظيماً لا يكاد يصدق أن يكون لأحد، دل على عظمه وحصوله لهم بقوله: ﴿كذلك﴾ أي الأمر كما أخبرنا به من تنعيمهم وإخراجهم وإغراقهم وأنهم تركوا جميع ما كانوا فيه لم يغن عنهم شيء منه، فلا يغترن أحد بما ابتليناه به من النعم لئلا يصنع به من الإهلاك ما صنعنا بهم. ولما أفهم سوق الكلام هكذا إغراقهم كلهم، زاده إيضاحاً بالتعبير بالإرث الذي حقيقته الأخذ عن الميت أخذاً لا منازع فيه فقال عاطفاً على ما تقدم تقديره بعد اسم الإشارة: ﴿وأورثناها﴾ أي تلك الأمور العظيمة ﴿قوماً﴾ أي ناساً
28
ذوي قوة في في القيام على ما يحاولونه، وحقق أنهم غيرهم تحقيقاً لإغراقه بقوله: ﴿آخرين *﴾ قال ابن برجان، وقال في سورة الظلمة: «وعيون وكنوز» مكان «وزروع» لما كان المعهود من الزرع الحصد في أقرب المدة أورث زروعها وجناتها وما فيها من مقام كريم قوماً بآل فرعون فإنهم أهلكوا ولا بني إسرائيل فإنهم قد عبروا البحر، ولما توطد ملكهم في الأرض المقدسة اتصل بمصر، فورثوا الأرض بكنوزها وأموالها ونعمتها ومقامها الكريم - انتهى.
ولما كان الإهلاك يوجب أسفاً على المهلكين ولو من بعض الناس ولا سيما إذا كانوا جمعاً فكيف إذا كانوا أهل مملكة ولا سيما إذا كانوا في نهاية الرئاسة، أخبر بأنهم كانوا لهوانهم عنده سبحانه وتعالى على خلاف ذلك، فسبب عما مضى قوله: ﴿فما بكت عليهم﴾ استعارة لعدم الاكتراث لهم لهوانهم ﴿السماء والأرض﴾ وإذا لم يبك السكن فما ظنك بالساكن الذي هو بعضه، روى أبو يعلى في مسنده والترمذي في جامعه - وقال: غريب والربذي والرقاشي يضعفان
29
في الحديث - عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«ما من مسلم إلا وله في السماء بابان، باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه» وتلا هذه الآية، وقال علي رضي الله عنه: إن المؤمن إذا مات بكى مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء.
ولما جرت العادة بأن العدو قد يستمهله عدوه في بعض الأوقات لمثل وصية وقضاء حاجة فيمهله، أخبر تتميماً لعدم الاكتراث بهم أنهم كانوا دون ذلك فقال: ﴿وما كانوا﴾ ولما كان هذا لكونه خيراً عنهم بعد مضيهم المقصود منه تحذير من بعدهم فقط، لم يذكر التقييد بذلك الوقت بإذن ونحوها دلالة على أن ما كانوا فيه من طويل الإمهال كان كأنه لم يكن لعظم هذا الأخذ بخلاف ما مر في في الحجر من التخويف من إنزال الملائكة عليهم، فإن تقييد عدم الإنظار بذلك الوقت لرد السامعين عن طلب إنزالهم فقال تعالى: ﴿منظرين *﴾ أي ممهلين عما أنزلنا بهم من المصيبة من ممهل ما لحظه فما
30
فوقها ليتداركوا بعض ما فرطوا فيه وينظروا في شيء مما يهمهم بل كان أخذهم لسهولته علينا في أسرع من اللمح، لم يقدروا على دفاع، فنالهم عذاب الدنيا وصاروا إلى عذاب الآخرة فخسروا الدارين وما ضروا غير أنفسهم.
ولما كان إنقاذ بني إسرائيل من القبط أمراً باهراً لا يكاد يصدق فضلاً عن أن يكون بإهلاك أعدائهم، أكد سبحانه الإخبار بذلك إشارة إلى ما يحق له من العظمة تنبيهاً على أنه قادر أن يفعل بهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعه كذلك وإن كانت قريش يرون ذلك محالاً وأنهم في قبضتهم فقال: ﴿ولقد نجينا﴾ أي بما لنا من العظمة «تنجية عظيمة» مع كونها بسبب الآيات المتفرقات كانت على التدريج ﴿بني إسرائيل﴾ عبدنا المخلص لنا ﴿من العذاب المهين *﴾ بسبب أنهم كانوا عندهم في عداد العبيد يتسخدمون الرجال والنساء بل أذل للزيادة على التصرف العبيد بالتذبيح للأبناء.
31
ولما تشوف السامع إلى صاحب ذلك العذاب قال مبدلاً مما قبله إفهاماً لأن فرعون نفسه كان عذاباً لإفراطه في أذاهم: ﴿من فرعون﴾ ثم علل ذلك بما يعرف منه صحة الوصف للعذاب فقال مؤكداً لأن حال قريش في استذلال المؤمنين حل من يكذب بأن الله أنجى بني إسرائيل على ضعفهم فهو ينجي غيرهم من الضعفاء أو يكذب أن فرعون كان قوياً ﴿إنه كان عالياً﴾ في جبلته العراقة في العلو ﴿من المسرفين *﴾ أي العريقين في مجاوزة الحدود.
32
ولما كانت قريش تفتخر بظواهر الأمور من الزينة والغرور ويعدونه تعظيماً من الله ويعدون ضعف الحال في الدنيا شقاء وبعداً من الله، رد عليهم قولهم بما أتى بني إسرائيل على ما كانوا فيه من الضعف وسوء الحال بعد إهلاك آل فرعون بعذاب الاستئصال، فقال مؤكداً لاستبعاد قريش أن يختار من قل حظه من الدنيا: ﴿ولقد﴾ اخترناهم} أي فعلنا بما لنا من العظمة في جعلنا لهم خياراً فعل من اجتهد في ذلك، وعظم أمرهم بقوله بانياً على ما تقديره: اختياراً
32
مستعلياً ﴿على علم﴾ أي منا بما يكون منهم من خير وشر، وقد ظهر من آثاره أنكم صرتم تسألونهم وأنتم صريح ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام عما ينوبكم وتجعلونهم قدوتكم فيما يصيبكم وتضربون إليه أكباد الإبل، وهكذا يصير عن قليل كل من اتبع رسولكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكم ومن غيركم. ولما بين المفضل، بين المفضل عليه فقال: ﴿على العالمين *﴾ أي الموجودين في زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتاب وأرسلنا إليهم من الرسل.
ولما أعلم باختيارهم، بين آثار الاختيار فقال: ﴿وآتيناهم﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿من الآيات﴾ أي العلامات الدالة على عظمتنا واختيارنا لهم من حين أتى موسى عبدنا عليه الصلاة والسلام فرعون إلى أن فارقهم بالوفاة وبعد وفاته على أيدي الأنبياء المقررين لشرعه عليهم الصلاة والسلام ﴿ما فيه بلاؤا﴾ أي اختبار مثله يميل من ينظره أو يسمعه أو يحيله إلى غير ما كان عليه، وذلك بفرق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما رأوه من الآيات التسع، وفي هذا ما هو رادع للعرب عن بعض أقوالهم من خوف التخطف
33
من العرب والفقر لقطع الجلب عنهم وغير ذلك ﴿مبين *﴾ أي بين لنفسه موضح لغيره، وما أنسب هذا الختم لقوله أول قصتهم «ولد فتنا قبلهم قوم فرعون».
ولما ثبت بما مضى أنه سبحانه متصف بالإحياء والإماتة، وكان إنكار ذلك عناداً لا يستطيع أحد يثبت الإله أن ينكره، وكان الإقرار بذلك في بعض وإنكاره في بعض تحكماً ومخالفاً لحاكم العقل وصارم النقل، وكان من الآيات التي أوتوها إحياؤهم بعد إماتتهم حين طلبوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة، وحين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وكان ذلك هو البعث بعينه، وكان العرب ينكرونه ويبالغون في إنكارهم له ولا يسألونهم عنه، قال موبخاً لهم مشيراً بالتأكيد إلى أنه لا يكاد يصدق أن أحداً ينكر ذلك لما له من الأدلة: ﴿إن﴾ وحقرهم بقوله: ﴿هؤلاء﴾ أي الأدنياء الأقلاء الأذلاء ﴿ليقولون *﴾ أي بعد قيام الحجة البالغة عليهم مبالغين في الإنكار في نظير تأكيد الإثبات: ﴿إن﴾ أي ما.
ولما كان قد تقدم قوله تعالى ﴿يحيي ويميت﴾ وهم يعلمون أن المراد به أن يتكرر منه الإحياء للشخص الواحد،
34
وكان تعالى قد قال ولا يخاطبهم إلا بما يعرفونه ﴿وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون﴾ [البقرة: ٢٨] أي بالانتشار بعد الحياة وقال ﴿أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين﴾ [غافر: ١١] قالوا: ما ﴿هي إلا موتتنا﴾ على حذف مضاف أي ما الحياة إلا حياة موتتنا ﴿الأولى﴾ أي التي كانت قبل نفخ الروح - كما سيأتي في الجاثية ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا﴾ وعبروا عنها بالموتة إشارة إلى أن الحياة في جنب الموت المؤبد على زعمهم أمر متلاش لا نسبة لها منه، وساق سبحانه كلامهم على هذا الوجه إشارة إلى أن الأمور إذا قيس غائبها على شاهدها، كان الإحياء بعد الموتة الثانية أولى لكونه بعد حياة من الإحياء بعد الموتة الأولى، فحط الأمر على أن الابتداء كان من موت لم يتقدمه حياة، والقرار يكون على حياة لا يعقبها موت.
ولما كان المعنى: وليس وراءها حياة، أكدوه بما يفهمه تصريحاً فقالوا برد ما أثبته الله على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
35
﴿وما نحن﴾ وأكدوا النفي فقالوا: ﴿بمنشرين *﴾ أي من منشر ما بالبعث بحيث نصير ذوي حركة اختيارية ننتشر بها بعد الموت، يقال: نشره وأنشره - إذا أحياه.
ولما كانوا يزعموه أن دعوى الإحياء لا يصح إلا إذا شاهدوا أحداً من الأموات الذين يعرفونه حياً بعد أن تمزق جلده وعظامه، سببوا عن إنكارهم مخاطبين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن تبعه: ﴿فأتوا﴾ أي أيها الزاعمون أنا نبعث بعد الموت إيذاناً بأنهم لا يصدقون بذلك وإن كثر معتقدوه من جنس بشرهم وتبعهم ﴿بآبائنا﴾ أي لكوننا نعرفهم ونعرف وفور عقولهم فلا نشك في أن ذلك إحياء لمن مات ليكون ذلك آية لنا على البعث، وأكدوا تكذيبهم بقوله: ﴿إن كنتم صادقين *﴾ أي ثابتاً صدقكم.
ولما أخبروا على هذه العظمة تنطعاً لأنها لو وقعت لم يكن بأدل على ثبوت النبوة المستلزمة لتصديق كل ما يقول لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يأتيهم به من الآيات، غير خائفين من الله وهم يعلمون قدرته وإهلاكه للماضين لأجل تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكأنهم يدعون خصوصيته في مكنة من عين أو معنى
36
ينجون بها من مساواة من قبلهم في ذلك، فقال تعالى منكراً عليهم: ﴿أهم خير﴾ أي في الدين والدنيا ﴿أم قوم تبع﴾ أي الذين ملك بهم تبع الأرض بطولها والعرض وحيرة الحيرة وبنى قصر سمرقند وكان مؤمناً، وقومه حمير ومن تبعهم أقرب المهلكين إلى قريش زماناً ومكاناً. وكان له بمكة المشرفة ما ليس لغيره من الآثار، وقال الرازي في اللوامع: هو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق.
وقال البغوي بعد أن ذكر قصته مع الأنصار لما قتل ابنه غيلة بالمدينة الشريفة وما وعظته به اليهود في الكف عن إخراب المدينة لأنها مهاجر نبي من قريش: فصدقهم وتبع دينهم، وذلك قبل نسخه، وقال عن الرقاشي: آمن تبع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يبعث بسبعمائة عام، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا تسبوا تبعاً فإنه كان رجلاً صالحاً.
ولما كان ذلك في سياق التهديد بالإهلاك لأجل مخالفتهم، وكان الإهلاك لذلك إنما كان لبعض من تقدم زمانهم لا لجميع الخلق، أدخل الجار فقال: ﴿والذين من قبلهم﴾ أي من مشاهير الأمر كمدين وأصحاب الأيكة والرس وثمود وعاد.
37
ولما كان كأنه قيل: ما لهؤلاء الأمم؟ قيل: ﴿أهلكناهم﴾ أي بعظمتنا وإن كانوا عظماء لا يشعرهم هؤلاء فيما لهم من المكنة لقطعهم من أمر الله به أو يوصل من الرسل وأتباعهم، وتكذيبهم بما أتوا به، ولذلك علل الإهلاك تحذيراً للعرب بقوله مؤكداً لظنهم أن هلاكهم إنما هو على عادة الدهر: ﴿إنهم كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿مجرمين *﴾ أي عريقين في الإجرام، فليحذر هؤلاء إذا ارتكبوا مثل أفعالهم من مثل حالهم وأن يحل بهم ما حل بهم.
38
ولما كان التقدير للاستدلال على الجزاء الذي جامعه التكفل بجميع أنحائه يوم القيامة: فإنا ما خلقنا الناس عبثاً يبغي بعضهم على بعض ثم لا يؤاخذون، عطف عليه ما هو أكبر في الظاهر منه فقال: ﴿وما خلقنا السماوات﴾ أي على عظمها واتساع كل واحدة منها واحتوائها لما تحتها، وجمعها لأن العمل كلما زاد كان أبعد من العبث مع أن إدراك تعددها مما يقتضي المشاهدة بما فيها من الكواكب،
38
ووحد في سورة الأنبياء تخصيصاً بما يتحقق المكذبون بالبعث رؤيته لما ذكر هناك من اختصاص «لدن» بما بطن.
ولما كان الدليل على تطابق الأرضي دقيقاً وحدها فقال: ﴿والأرض﴾ أي على ما فيها من المنافع ﴿وما بينهما﴾ أي النوعين وبين كل واحدة منها وما يليها ﴿لاعبين *﴾ أي على ما لنا من العظمة التي يدرك من له أدنى عقل تعاليها عن اللعب لأنه لا يفعله إلا ناقص، ولو تركنا الناس يبغي بعضهم على بعض كما تشاهدون ثم لا نأخذ لضعيفهم بحقه من قويهم لكان خلقنا لهم لعباً، بل اللعب أخف منه، ولم نكن على ذلك التقدير مستحقين لصفة القدوسية، فإنه «لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها بالحق من قويها غير متعتع» - رواه ابن ماجة عن أبي سعيد وابن جميع في معجمه عن جابر، وصاحب الفردوس عن أبي موسى رضي الله عنهم رفعوه، وهو شيء لا يرضى به لنفسه أقل حكام الدنيا، فكان هذا برهاناً قاطعاً على صحة الحشر ليظهر هناك الفصل بالعدل والفضل.
ولما نفى أن يكون خلق لك اللعب الذي هو باطل، أثبت ما خلقه له ولم يصرح بما في البين لأنه تابع، وقد نبه ما مضى،
39
فقال مستأنفاً: ﴿ما خلنقاهما﴾ أي السماوات والأراضي مع ما بينهما ﴿إلا بالحق﴾ من الحكم بين من فيهما، فمن عمل الباطل عاقبناه ومن عمل الحق أثبناه، وبذلك يظهر غاية الظهور إحاطتنا بجميع أوصاف الكمال كما نبهنا عليه أهل الكمال في هذا الدار بخلقهما الذي واقعة بمطابق للحق، وهو ما لنا من تلك الصفات المقتضية للبعث لأحقاق الحق وإبطال الباطل بما لا خفاء فيه عند أحد.
ولما كان أكثر الخلق لا يعلم ذلك لعظمته عن النظر في دليله وإن كان قطعياً بديهيّاً. ﴿ولكن أكثرهم﴾ أي أكثر هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم وهم يقولون: ﴿إن هي إلا موتتنا الأولى﴾ وكذا من نحا نحوهم ﴿لا يعلمون *﴾ أي أنا خلقنا الخلق بسبب إقامة الحق فهم لأجل ذلك يجترئون على المعاصي ويفسدون في الأرض لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، ولو تذكروا ما ركزناه في جبلاتهم لعلموا علماً ظاهراً أنه الحق الذي لا معدل عنه كما يتولى حكامهم المناصب لأجل إظهار الحكم بين رعاياهم، ويشرطون الحكم بالحق، ويؤكدون على أنفسهم أنهم لا يتجاوزونه.
ولما كان كأنه قيل: إنا
40
نرى أكثر المظلومين يموتون بمرير غصصهم مقهورين، وأكثر الظالمين يذهبون ظافرين بمطالبهم مسرورين، فمتى يكون هذا الحق؟ قال جواباً لذلك مؤكداً لأجل تكذبيهم: ﴿إن يوم الفصل﴾ عند جمع الأولين والآخرين من جميع المكلفين الذين ينتظره كل أحد للفرق بين كل ملبس، فلا يدع نوعاً منه حتى أنه يميز بين المكاره والمحاب ودار النعيم وغار الجحيم، وبين أهل كل منهما بتمييز المحق من المبطل بالثواب والعقاب وهو بعد البعث من الموت ﴿ميقاتهم﴾ أي وقت جمع الخلائق للحكم بينهم الذي ضرب لهم في الأزل وأنزلت به الكتب على ألسنة الرسل ﴿أجمعين *﴾ لا يتخلف عنه أحد ممن مات من الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات.
ولما ذكر هذا اليوم الذي دل على عظمته بهذه العبارة إفراداً وتركيباً، ذكر من وصفه ما يحمل على الخوف والرجاء، فقال مبدلاً منه: ﴿يوم لا يغني﴾ بوجه من الوجوه ﴿مولى﴾ بقرابة أو غيرها بحلف أو رق من أعلى أو أسفل ﴿عن مولى﴾ أريد أخذه بما وقع منه ﴿شيئاً﴾ من الإغناء. ولما كان الإغناء تارة يكون بالرفق وأخرى
41
بالعنف، صرح بالثاني لأنه أعظمها والسياق للإهلاك والقهر فقال: ﴿ولا هم﴾ أي القسمان ﴿ينصرون *﴾ أي من ناصر ما لو أراد بعضهم نصرة بعض، أو أراد غيرهم لو فرض أن ينصرهم، وعبر بالجمع الذي أفاده الإبهام للمولى ليتناول القليل والكثير منه لأن النفي عنه نفي عن الأفراد من باب الأولى.
ولما نفى الإغناء استثنى منه فقال: ﴿إلا من رحم الله﴾ أي أراد إكرامه الملك الأعظم وهم المؤمنون يشفع بعضهم لبعض بإذن الله في الشفاعة لأحدهم فيكرم الشافع فيه بقبول شفاعته ويكرمه بقبوله الشفاعة فيه. ولما كان ما تقدم دالاً على تمام القدرة في الإكرام والانتقام، وكان الإكرام قد يكون عن ضعف، قال نافياً لذلك ومقرراً لتمام القدرة اللازم منه الاختصاص بذلك مؤكداً له تنبيهاً على أنه ما ينبغي أن يجعل نصب العين وتعقد عليه الخناصر، ولأن إشراكهم وتكذيبهم بالبعث يتضمن التكذيب بذلك: ﴿إنه هو﴾ أي وحده ﴿العزيز﴾ أي المنيع الذي لا يقدح في عزته عفو ولا عقاب، بل ذلك دليل على عزته فإنه يفعل ما يشاء فيمن يشاء من غير مبالاة بأحد. ولما كان العزيز قد لا يرحم قال: ﴿الرحيم *﴾ أي الذي لا تمنع عزته أن يكرم
42
من يشاء.
ولما كان السياق للانتقام، أخبر عن حال الفجار على سبيل الاستئناف، فقال مؤكداً لما يكذبون به: ﴿إن شجرة الزقوم *﴾ التي تقدم من وصفها ما يقطع القلوب من أنها تخرج من أصل الجحيم، وأن طلعها كأنه رؤوس الشياطين، وغيره مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى والذي تعرفونه من ذلك في الدنيا أنها شجرة صغيرة الورق ذفرة أي شديد النتن - مرة، من الزقم، أي اللقم الشديد والشوب والمفرط، وقال عبد الحق في كتابه الواعي: الزقوم شجرة غبراء صغيرة الورق لا شوك لها ذفرة لها كعابر في سوقها أي عقد كالأنابيب ولها ورد تجرسه النحل، ورأس ورقها قبيح جداً، وهي مرعى، ومنابتها السهل، قال ابن برجان: وهي في النار في مقابلة شجرة طوبى في الجنة، يضطرون إلى أكلها وإلى شرب الغسلين كما يضطر أهل الدنيا لإدخال الطعام والشراب ﴿طعام الأثيم *﴾ أي المبالغ في اكتساب الآثام حتى مرن عليها فصارت به إلى الكفر ﴿كالمهل﴾ أي القطران الرقيق وما ذاب من صفر أو حديد أو دردية، روى أحمد والترمذي - وقال:
43
لا نعرفه إلا من حديث رشدين - وابن حبان في صحيحه والحاكم من وجه آخر - وقال الحاكم: صحيح الإسناد - عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله ﴿كالمهل﴾ قال:
«كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه» ﴿تغلي﴾ أي الشجرة - على قراءة الجماعة بالتأنيث، والطعام على قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب بالتذكير ولا يعود الضمير على المهل لأنه مشبه به ﴿في البطون *﴾ أي من شدة الحر.
44
ولما كان للتذكير بما يعرف شأن عظيم من الإقبال أو التنفير وإن كان دون ما شبه به قال: ﴿كغلي﴾ أي مثل غلي ﴿الحميم *﴾ أي الماء الذي تناهى حره بما يوقد تحته، فهو يثبت كأنه يريد أن يتخلص مما هو فيه من الحر، روى - وقال حسن صحيح - والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم - وقال صحيح على شرطهما - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا
44
معائشهم فكيف بمن يكون هذا طعامه». ولما كان كأنه قيل: ما للأثيم يأكل هذا الطعام، وما الحامل له عليه وعلى مقاربة مكانه، أجيب بأنه مقهور عليه، يقتضيه صفة العزة فيه الرحمة لإعادته بأن يقال للزبانية: ﴿خذوه﴾ أي أخذ قهر فلا تدعوه يملك من أمره شيئاً ﴿فاعتلوه﴾ أي جروه بقهر بغلظة وعنف وسرعة إلى العذاب والإهانة بحيث يكون كأنه محمول، وقال الرازي في اللوامع: والعتل أن يأخذ بمجامع ثوبه عند صدره يجره، وقراءة الضم أدل على تناهي الغلظة والشدة من قراءة الكسر ﴿إلى سواء﴾ أي وسط ﴿الجحيم *﴾ أي النار التي في غاية الاضطرام والتوقد، وهي موضع خروج الشجرة التي هي طعامه.
ولما أفهم هذا صار في موضع يحيط به العذاب فيه من جميع الجوانب، بين أن له نوعاً آخر من النكد رتبته في العظمة مما يستحق العطف بأداة التراخي فقال: ﴿ثم صبوا﴾ أي في جميع الجهة التي هي ﴿فوق رأسه﴾ ليكون المصبوب محيطاً بجميع جسمه ﴿من عذاب الحميم﴾ أي العذاب الذي يغلي به الحميم أو الذي هو الحميم نفسه، والتعبير عنه بالعذاب أهول، وهذا في مقابلة ما كان لهم من البركة بما ينزل
45
من السماء من المطر ليجتمع لهم حر الظاهر بالحميم والباطن بالزقوم.
ولما علم بهذا أنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، بل وصل إلى غاية الهوان، دل عليه بالتهكم بما كان يظن في نفسه من العظمة التي يترفع بها في الدنيا على أوامر الله، فقيل بناء على ما تقديره: يفعل به ذلك مقولاً له: ﴿ذق﴾ أي من هذا أوصلك إليه تغررك على أولياء الله. ولما كان أولياء الله من الرسل وأتباعهم يخبرون في الدنيا أنه - لإبائه أمر الله - هو الذليل، وكان هذا الأثيم وأتباعه يكذبون بذلك ويؤكدون قولهم المقتضي لعظمته لإحراق أكباد الأولياء حكى له قولهم على ما كانوا يلفظون به زيادة في تعذيبه بالتوبيخ والتقريع معللاً للأمر بالذوق: ﴿إنك﴾ وأكد بقوله: ﴿أنت﴾ وحدك دون هؤلاء الذين يخبرون بحقارتك ﴿العزيز﴾ أي الذي يغلب ولا يغلب ﴿الكريم *﴾ أي الجامع إلى الجود شرف النفس وعظم الإباء، فلا تنفعك عن ستر مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها فلست بلئيم أي بخيل مهين النفس خسيس الإباء، فهو كناية عن مخاطبته بالخسة مع إقامة الدليل على ذلك بما هو فيه من المهالك، وقراءة
46
الكسائي بفتح «إن» دالة على هذا العذاب قولاً وفعلاً على ما كان يقال له من هذا الدنيا ويعتقد هو أنه حق.
ولما دل على أنه يقال هذا لكل من الأثماء ويفعل به على حدته، دل على ما يعمون به، فقال مؤكداً رداً لتكذيبهم سائقاً لهم على وجه مفهم أنه علة ما ذكر من عذابهم: ﴿إن هذا﴾ أي العذاب قولاً وفعلاً وحالاً ﴿ما كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً طبعناكم عليه لتظهر قدرتنا في أمركم دنيا وأخرى ﴿به تمترون *﴾ أي تعالجون أنفسكم وتحملونها على الشك فيه وتردونها عما لها من الفطرة الأولى من التصديق بالممكن لا سيما لمن جرب صدقه وظهرت خوارق العادات على يده بحيث كنتم لشدة ردكم له كأنكم تخصونه بالشك.
ولما وصف سبحانه ما للمبالغ في المساوئ وأفرده أولاً إشارة إلى قليل في قوم هذا النبي الكرمي الذي تداركهم الله بدعوته تشريفاً له وإعلاء لمقداره، وجمع آخراً ذاكراً من آثار ما استحق به ذلك من مشاركة في أوزاره، ففهم أن وصفه انقضى، ومر ومضى، فتاقت النفس إلى تعرف ما لأضداده الذين خالفوه في مبدئه ومعاده، قال مؤكداً لما لهم من التكذيب: ﴿إن المتقين﴾ أي
47
العريقين في هذا الوصف ﴿في مقام﴾ أي موضع إقامة لا يريد الحال فيه تحولاً عنه ﴿أمين *﴾ أي يأمن صاحبه فيه من كل ما لا يعجبه.
ولما كان الوصف بعد الوصف شديد الترغيب في الشيء، قال مبدلاً من «مقام» :﴿في جنات﴾ أي بساتين تقصر العقول عن إدراك وصفها كل وصفها ﴿وعيون *﴾ كذلك بحيث تقر بها العيون، ولما كان قد أشار إلى وصف ما للباطن من لذة النظر ولباس الأكل والشرب، أتبعه كسوة الظاهر وما لكل من القرب فقال: ﴿يلبسون﴾.
ولما وصف ما أعد لهم من اللبس في الجنة، دل على الكثرة جداً بقوله: ﴿من سندس﴾ وهو ما رق من الحرير يعمل وجوهاً، وزاد صنفاً آخر فقال: ﴿وإستبرق﴾ وهو ما غلظ منه يعمل بطائن، وسمي بذلك لشدة بريقه. ولما كان وصف الأثماء بما لهم من القبض الشاغل لكل منهم عن نفسه وغيره بعد ما تقدم في الزخرف في آية الأخلاء ما أعلم بكونهم مدابرين وصف أضدادهم بما لهم من البسط مع الاجتماع فقال: ﴿متقابلين *﴾ أي ليس منهم أحد يدابر الآخر لا حساً ولا معنى، وود أن كلاًّ منهم يقابل الآخر ناظراً إليه، فإذا
48
أرادوا النساء حالت الستور بينهم.
ولما كان هذا أمراً يبهر العقل، فلا يكاد يتصوره، قال مؤكداً له: ﴿كذلك﴾ أي الأمر كما ذكرنا سواء لا مرية فيه. ولما كان ذلك لا يتم السرور به إلا بالأزواج قال: ﴿وزوجناهم﴾ أي قرناهم كما تقرن الأزواج، وليس المراد به العقد لأنه فعل متعد بنفسه وهو لا يكون في الجنة لأن فائدته الحل، والجنة ليست بدار كلفة من تحليل أو تحريم، وذكر مظهر العظمة تنبيهاً على كمال الشرف ﴿بحور﴾ أي على حسب التوزيع بجواري بيض حسان نقيات الثياب ﴿عين *﴾ أي واسعات الأعين.
49
ولما كان الإنسان في الدنيا يخشى كلفة النفقات، وصف ما هنالك من سعة الخيرات فقال: ﴿يدعون﴾ أي يطلبون طلباً هو بغاية المسرة ﴿فيها بكل﴾ لا يمتنع عليهم صنف من الأصناف ببعد مكان ولا فقد أوان، ولا غير ذلك من الشأن، وقال: ﴿فاكهة﴾ إيذاناً بأن ذلك مع سعته ليس فيها شيء لإقامة البينة وإنما هو للفتكه ومجرد التلذذ. ولما كان التوسع في التلذذ يخشى منه غوائل جمة قال: ﴿آمنين *﴾ أي وهم في غاية الأمن من كل مخوف.
49
ولما ذكر الأمان، وكان أخوف ما يخاف أهل الدنيا الموت، قال: ﴿لا يذوقون فيها﴾ أي الجنة ﴿الموت﴾ أي لا يتجدد لهم أوائل استطعامه فكيف بما وراء ذلك. ولما كان المراد نفي ذلك على وجه يحصل معه القطع بالأمن على أعلى الوجوه، وكان الاستثناء معيار العموم، وكان من المعلوم أن ما كان في الدنيا من ذوق الموت الذي هو معنى من المعاني قد استحال عوده، قال معللاً معلقاً على هذا المحال: ﴿إلا الموتة﴾ ولما كان المعنى مع إسناد الذوق إليه لا يلبس لأن ما قبل نفخ الروح ليس مذوقاً، عبر بقوله: ﴿الأولى﴾ وقد أفهم التقييد بالظرف أن النار يذاق فيها الموت، والوصف بالأولى أن المذوق موتة ثانية، فكان كأنه قيل: لكن غير المتقين ممن كان عاصياً فيدخل النار فيذوق فيها موتة أخرى - كما جاء في الأحاديث الصحيحة، ويجوز أن يجعل وصف المتقين أعم من الراسخين وغيرهم، فيكون الحكم على المجموع، أي أن الكل لا يذوقون، وبعضهم - وهم من أراد الله من العصاة - يذوقونه في غيرها وهو النار، ويجوز أن تكون الموتة الأولى كانت في الجنة المجازية فلا يكون تعليقاً بمحال، وذلك أن المتقي لم يزل
50
فيها في الدنيا مجازاً بما له من التسبب وبما سبق من حكم الله له بها، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمن إذا عاد أخاه لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل: وما خرفة الجنة؟ قال: جناها» «وإذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» وكذا المحكوم له بما هو فيها عند الموت وبعده بما له من التمتع بالنظر ونحوه من الأكل للشهداء وغير ذلك مما ورد في الأخبار الصحيحة، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمه النضر رضي الله عنه قال يوم أحد: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد، ثم قاتل حتى قتل. ثم يكون تمام ذلك النعيم بالجنة بعد البعث، قال ابن برجان: الدنيا إذا تحققت في حق المؤمن المتقي وتتبع النظر فيها فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياهم فيها وقربه منهم ونظره إليهم وذكرهم له وعبادتهم إياه وشغلهم به وهو معهم أينما كانوا.
ولما كان السياق للمتقين قال: ﴿ووقاهم﴾ أي جملة المتقين في جزاء ما اتقوه ﴿عذاب الجحيم *﴾ أي التي تقدم إصلاء الأثيم لها، وأما غير المتقين من العصاة فيدخل الله من أراد منهم النار فيعذر كلاًّ منهم
51
على قدر ذنوبه ثم يميتهم فيها ويستمرون إلى أن يأذن الله في الشفاعة فيهم فيخرجهم ثم يحييهم بما يرش عليهم أهل الجنة من ماء الحياة، روى الإمام أحمد في مسنده ومسلم في الإيمان من صحيحه وابن حبان في الشفاعة من سننه والدرامي في صفة الجنة والنار من سننه المشهور بالمسند، وابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أهل النار الذين هم أهلها» - وقال الدارمي: الذين هم للنار - «فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم»، - أو قال: «بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة»، وقال الإمام أحمد: «فيميتهم إماتة»، وقال الدرامي: «فإن النار تصيبهم على قدر ذنوبهم فيحرقون فيها حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم» وقال الدرامي: «فيخرجون من النار ضبائر ضبائر فنبتوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم، فينبتون»، وقال الدرامي فتنبت لحومهم نبات الحبة في حميل السيل. الضبائر قال عبد الغافر الفارسي في مجمع الرغائب:
52
جمع ضبارة مثل عمارة عمائر: جماعات الناس، وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يدخل ناس في النار حتى إذا صاروا فحماً أدخلوا الجنة، فيقول أهل الجنة: من هؤلاء؟، فيقال: هؤلاء الجهنميون»، ولأحمد بن منيع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يوضع الصراط» فذكر شفاعة المؤمنين في إخوانهم بعد جواز الصراط وإذن الله لهم في إخراجهم، قال: «فيخرجونهم منها فيطرحونهم في ماء الحياة فينبتون نبات الزرع في غثاء السيل»، ولابن أبي عمر عن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يخرج الله قوماً من النار بعد ما امتحشوا فيها وصاروا فحماً فيلقون في نهر على باب الجنة يسمى نهر الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل - أو كما تنبت الثعارير - فيدخلون الجنة، فيقال: هؤلاء عتقاء الرحمن» الثعارير - بالثاء المثلثة والعين والراء المهملتين: نبات كالهليون، وروى الترمذي - وقال: حسن صحيح - وروي من غير وجه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
53
«يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمماً ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما تنبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة».
ولما كان السياق للمتقين، فكان ربما ظن أن هذا الذي فعل بهم حق لهم لا بد ولا محيد عنه، بين أن الأمر على غير ذلك، وأنه سبحانه لو واخذهم ولم يعاملهم بفضله وعفوه لهلكوا، فقال: ﴿فضلاً﴾ أي فعل بهم ذلك لأجل الفضل، ولذلك عدل عن مظهر العظمة فقال تعالى: ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بكمال إحسانه إلى اتباعك إحساناً يليق بك، قال الرازي في اللوامع: أصل الإيمان رؤية الفضل في جميع الأحوال. ولما عظمه تعالى بإظهار هذه الصفة مضافة إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زاد في تعظيمه بالإشارة بأداة البعد فقال: ﴿ذلك﴾ أي الفضل العظيم الواسع ﴿هو﴾ أي خاصة ﴿الفوز﴾ أي الظفر بجميع المطالب ﴿العظيم *﴾ الذي لم يدع جهة الشرف إلا ملأها.
ولما قدم سبحانه في هذه السورة ما للقرآن من البركة بما اشتمل عليه من البشارة والندارة والجمع والفرق، وذكرهم بما يقرون به من
54
أنه مبدع هذا الكون مما يستلزم إقرارهم بتوحيده المستلزم لأنه يفعل ما يشاء من إرسال وإنزال وتنبيه وبعث وغير ذلك، وهددهم بما لا يقدر عليه غيره من الدخان والبطشة، وفعل بعض ذلك، وذكرهم بما يعرفون من أخبار من مضى من قروم القرون وأنهم مع ذلك كله أنكروا البعث، ثم ذكر ما يقتضي التحذير والتبشير - كل ذلك في أساليب فأتت كل المدى، فأعجزت جميع القوى، مع ما لها من المعاني الباهرة، والبدائع الزاهرة القاهرة، سبب عن قوله فذلكة للسورة: ﴿فإنما يسرناه﴾ أي جعلنا له يسراً عظيماً وسهولة كبيرة.
ولما كان الإنسان كلما زادت فصاحته وعظمت بلاغته، كان كلامه أبين وقوله أعذب وأرصن وأرشق وأمتن، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفصح الناس وأبعدهم لذلك من التكلف، أضافه إليه فقط فقال: ﴿بلسانك﴾ أي هذا العربي المبين وهم عرب تعجبهم الفصاحة ﴿لعلهم يتذكرون *﴾ أي ليكونوا عند من يراهم وهو عارف بلسانهم ممن شأنه كشأنهم على رجاء من أن يتذكروا أن هذا القرآن شاهد
55
بإعجازه بصحة ما فيه من التوحيد والرسالة وغيرهما مما سبق إليك وجلى عليك وإلا لقدروا هم وهم أفصح الناس على معارضة شيء منه فيتذكروا ما غفلوا عنه من أنه عزيز بإهلاكه الجبابرة، وأنه حكيم بنصبه الآيات لأنبيائه وتأييدهم بالمعجزات، ومن أن الكبير منهم لا يرضى أن يطعن أحد في كبريائه ولا أن يترك من له عليه حكم وهو تحت قهره أن يبغي بعضهم على بعض ثم لا ينصر المظلوم منهم على ظالمه ويأخذ بيده حتى لا يستوي المحسن بالمسيء، فإذا تذكروا ذلك مع ما يعرفون من قدرة الملك وكبريائه وحكمته علموا قطعاً أنه لا بد من البعث للتمييز بين أهل الصلاح والفساد، والفصل بين جميع العباد، فتسبب عن ذلك قوله: ﴿فارتقب﴾ أي ما رجيتك به من تذكرهم المستلزم لهدايتهم.
ولما كانوا يظهرون تجلداً ولدداً أنهم لا يعبؤون بشيء من القرآن ولا غيره مما يأتي به ولا يعدون شيئاً منه آية، أخبر عما يبطنون من خوفهم وانتظارهم لجميع ما يهددهم به مؤكداً لأجل ظن من حمل تجلدهم على أنه جلد فقال: ﴿إنهم﴾ وزاد الأمر بالإخبار بالاسم الدال على الثبات والدوام فقال: ﴿مرتقبون *﴾ أي تكليفهم أنفسهم المراقبة وإجهادهم أفكارهم في ذلك دائم لا يزايلهم بل قد قطع قلوبهم وملأ صدورهم، فقد انطبق آخر السورة على أولها، بل وعلى المراد من مجملها ومفصلها، بذكر الكتاب والأرتقاب لأنواع العذاب - والله الهادي إلى الصواب، إنه الكريم الوهاب.
55
سورة الجاثية وتسمى الشريعة
مقصودها الدلالة على أن منزل هذا الكتاب - كما دل عليه في الدخان - ذو العزة لأنه لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء، والحكمة لأنه لم يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه، فعلم أنه المختص بالكبرياء، فوضع شرعاً هو في غاية الاستقامة لا تستقل العقول بإدراكه ولا يخرج شيء منه عنه، أمر فيه ونهى، ورغب ورهب ثم بطن حتى أنه لا يعرف، ثم ظهر حتى أنه لا يجهل، فمن المكلفين من حكم عقله وجانب هواه فشهد جلاله فسمع وأطاع، ومنه من تبع هواه فضل عن نور العقل فزاغ وأضاع فاقتضت الحكمة ولا بد أن يجمع سبحانه الخلق ليوم الفصل فيظهر كل الظهور ويدبن عباده ليشهد رحمته المطيع وكبرياءه العاصي، وينشر العدل ويظهر الفضل، ويتجلى في جميع صفاته لجميع خلقه، وعلى ذلك دل اسمها الشريعه، واسمها الجاثية واضح
58
الدلالة فيه إذا تؤمل كل من آيتهما - والله سبحانه وتعالى الهادي.
) بسم الله (الذي تفرد بتمام العز والكبرياء) الرحمن (الذي أحكم رحمته البيان العام للسعداء والأشقياء) الرحيم (الذي خص بملابس طاعته الأولياء)
59
Icon