تفسير سورة الطارق

الدر المصون
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿والطارق﴾ : الطارقُ في الأصل اسمُ فاعل مِنْ طَرَقَ يَطْرُقُ طُروقاً، أي: جاء ليلاً قال:
٤٥٣٩ - فمِثْلَكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعاً فألهَيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ
وأصلُه من الضَّرْبِ. والطارقُ بالحصى الضارِبُ به. قال:
٤٥٤٠ - لعَمْرُكَ ما تَدْري الضواربُ بالحصى ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللَّهُ صانعُ
ثم اتُّسِع فقيل لكلٍ جاء ليلاً: طارِقٌ.
قوله: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا﴾ : قد تقدَّم في سورةِ هود التخفيفُ والتشديدُ في «لَمَّاً». فمَنْ خَفَّفها هنا كانت «إنْ»
751
هنا مخففةً من الثقيلة، و «كلُّ» مبتدأٌ، واللامُ فارقةٌ، و «عليها» خبرٌ مقدَّمٌ و «حافظٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ خبرُ «كل» و «ما» مزيدةٌ بعد اللامِ الفارقةِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «عليها» هو الخبرَ وحدَه، و «حافِظٌ» فاعلٌ به، وهو أحسنُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «كلُّ» متبدأً، و «حافظٌ» خبرَه، و «عليها» متعلقٌ به و «ما» مزيدة أيضاً، هذا كلُّه تفريعٌ على قولِ البصريِين. وقال الكوفيون: «إنْ هنا نافيةٌ، واللامُ بمعنى» إلاَّ «إيجاباً بعد النفي، و» ما «مزيدةٌ. وتقدَّم الكلامُ في هذا مُسْتوفى.
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فإنْ نافيةٌ، و»
لَمَّا «بمعنى» إلاَّ «، وتقدَّمَتْ شواهدُ ذلك مستوفاةً في هود. وحكى هارونُ أنه قُرِىءَ هنا» إنَّ «بالتشديدِ،» كلَّ «بالنصب على أنَّه اسمُها، واللامُ هي الداخلةُ في الخبرِ، و» ما «مزيدةٌ و» حافظٌ «خبرُها، وعلى كلِّ تقديرِ فإنْ وما في حَيِّزِها جوابُ القسمِ سواءً جَعَلها مخففةً أو نافيةً. وقيل: الجواب ﴿إِنَّهُ على رَجْعِهِ﴾، وما بينهما اعتراضٌ. وفيه بُعْدٌ.
752
قوله: ﴿دَافِقٍ﴾ : قيل: فاعِل بمعنى مَفْعول كعكسِه في قولهم: «سيلٌ مُفْعَم»، وقولِه تعالى: ﴿حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإِسراء: ٤٥] على وجهٍ. وقيل: دافق على النسبِ، أي: ذي دَفْقٍ أو انْدِفاق. وقال ابن عطية: «يَصِحُّ أَنْ يَكونَ الماءُ دافقاً؛ لأنَّ بعضَه يَدْفُقُ بعضاً، أي: يدفعه فمنه
752
دافِق، ومنه مَدْفوق» انتهى. والدَّفْقُ: الصَّبُّ/ ففِعْلُه متعدٍّ. وقرأ زيدُ ابنُ علي «مَدْفُوقٍ» وكأنه فَسَّر المعنى.
753
قوله: ﴿والترآئب﴾ : جمع تَريبة. وهي مَوْضِعُ القِلادةِ من عظامِ الصدرِ؛ لأنَّ الولدَ مخلوقٌ مِنْ مائهما، فماءُ الرجل في صُلْبه، والمرأةُ في ترائبِها، وهو معنى قولِه: ﴿مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ بالإِنسان: ٢]. وقال الشاعر:
٤٥٤٠ - مُهَفْهَفَةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ تَرائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
وقال:
٤٥٤١ - والزَّعْفَرانُ على ترائبِها شَرِقَتْ به اللَّبَّاتُ والنَّحْرُ
وقال أبو عبيدة: «جمع التَّريبة تريب». قال:
753
وقيل: الترائبُ: التَّراقي. وقيل: أضلاعُ الرجلِ التي أسفلَ الصُّلْب. وقيل: ما بين المَنْكِبَيْن والصَّدْرِ. وعن ابن عباس: هي أطرافُ المَرْءِ يداه وِرجْلاه وعيناه. وقيل: عُصارةُ القلبِ. قال ابن عطية: «وفي هذه الأقوالِ تَحَكُّمٌّ في اللغة».
وقرأ العامَّةُ «يَخْرُج» مبنياً للفاعل. وابنُ أبي عبلة وابن مقسم مبنياً للمفعول. وقرأ أيضاً وأهلُ مكة «الصُّلُب» بضم الصاد واللام، واليمانيُّ بفتحهما، وعليه قولُ العَجَّاج:
٤٥٤٣ - في صَلَبٍ مِثْلِ العِنانِ المُؤْدَمِ... وتَقَدَّمَتْ لغاتُه في سورة النساء. وأَغْرَبُها «صالِب» كقوله:
٤٥٤٢ - ومِنْ ذَهَبٍ يَذُوْبُ على تَرِيْبٍ كلَوْنِ العاجِ ليس بذي غُضونِ
754
قوله: ﴿إِنَّهُ﴾ : الضميرُ للخالقِ المدلولِ عليه بقوله: «خُلِقَ» لأنه معلومٌ أَنْ لا خالقَ سواه.
قوله: ﴿على رَجْعِهِ﴾ في الهاء وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الإِنسانِ،
754
أي: على بَعْثِه بعد موتِه. والثاني: أنه ضميرُ الماءِ، أي: يُرْجِعُ المنيَّ في الإِحليلِ أو الصُّلْبِ.
755
قوله: ﴿يَوْمَ تبلى﴾ : فيه أوجهٌ. وقد رتَّبها أبو البقاء على الخلافِ في الضمير فقال على القولِ بكونِ الضميرِ للإِنسان: «فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه معمولٌ ل» قادر «. إلاَّ أنَّ ابنَ عطية قال بعد أن حكى أوجهاً عن النحاةِ قال:» وكل هذه الفِرَقِ فَرَّتْ من أَنْ يكونَ العاملُ «لَقادِرٌ» لئلا يظهرَ من ذلك تخصيصُ القدرةِ بذلك اليومِ وحدَه «ثم قال:» وإذا تُؤُمِّل المعنى وما يَقْتَضِيه فصيحُ كلامِ العربِ جازَ أَنْ يكونَ العاملُ «لَقادر» لأنَّه إذا قَدَرَ على ذلك في هذا الوقتِ كان في غيره أقدرَ بطريق الأَوْلى. الثاني: أن العاملَ مضمرٌ على التبيين، أي: يَرْجِعه يومَ تُبْلى. الثالث: تقديره: اذكُرْ، فيكونُ مفعولاً به. وعلى عَوْدِه على الماء يكونُ العاملُ فيه اذكُرْ «انتهى ملخصاً.
وجَوَّزَ بعضُهم أَنْ يكون العاملُ فيه»
ناصرٍ «. وهو فاسدٌ لأنَّ ما بعد» ما «النافيةِ وما بعد الفاءِ لا يعملُ فيما قبلَهما. وقيل: العامل فيه» رَجْعِه «. وهو فاسدٌ لأنه قد فصل بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ، وبعضُهم يَغْتَفِرُه في الظرف.
قوله: ﴿ذَاتِ الرجع﴾ : قيل: هو مصدرٌ بمعنى: رجوعِ الشمس والقمر إليها. وقيل: المطر كقولِه يصفُ سيفاً:
755
٤٥٤٤ -............. مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ .........................
٤٥٤٥ - أبيضُ كالرَّجْعِ رَسوبٌ إذا .......................
كما سُمِّي أَوْباً كقولِه:
756
قوله: ﴿إِنَّهُ﴾ : جوابُ القسمِ في قوله: «والسَّماءِ». والهَزْلُ: ضدُّ الجَدِّ والتشميرِ في الأمر. قال الكُميت:
٤٥٤٦ - رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأْوي لِقُلَّتِها إلاَّ السَّحابُ وإلاَّ الأَوْبُ والسَّبَلُ
٤٥٤٧ -........................ يُجَدُّ بنافي كلِّ يومٍ ونَهْزِلُ
والضمير في «إنَّه» للقرآن. وقيل: للكلامِ المتقدَّمِ الدالِّ على البعث والنشور.
قوله: ﴿أَمْهِلْهُمْ﴾ : هذه قراةُ العامَّة، لَمَّا كرَّر الأمرَ
756
توكيداً خالَفَ بين اللفظَيْن. وعن ابن عباس «مَهِّلْهُمْ» كالأولِ. والإِمهالُ والتمهيلُ الانتظارُ. يقال: أَمْهَلْتُك كذا، أي: انتظرتُك لِتَفْعَلَه. والمَهْلُ: الرِّفْقُ والتُّؤَدَةُ.
قوله: ﴿رُوَيْداً﴾ مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى العامل، وهو تصغيرُ إرْواد على الترخيم. وقيل: بل هو تصغيرُ «رُوْدِ»، وأنَشد:
٤٥٤٨ - تكادُ لا تَثْلِمُ البَطْحاءُ وَطْأتَه كأنَّه ثَمِلٌ يَمْشي على رُوْدِ
واعلَمْ أنَّ رُوَيْداً يُستعمل مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه، فيُضاف تارةً كقوله: ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ [محمد: ٤] ولا يُضافُ أخرى نحو: رويداً زيداً [ويُستعمل اسمَ فعلٍ فلا يُنَوَّن، بل يبنى على الفتح نحو: رُوَيْداً زيداً] ويقع حالاً نحو: ساروا رُوَيْدا، أي: متمهِّلين، ونعتاً لمصدر محذوف نحو: «ساروا رُوَيْداً»، أي: سَيْراً رويداً. وهذه الأحكامُ لها موضوعٌ هو أَلْيَقُ بها.
757
Icon