تفسير سورة النحل

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة النحل من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة النحل
مكية إلا الآيات الثلاث الأخيرة فمدنية
وآياتها ١٢٨ نزلت بعد الكهف

سورة النحل
مكية إلا الآيات الثلاث الأخيرة فمدنية وآياتها ١٢٨ نزلت بعد الكهف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة النحل) أَتى أَمْرُ اللَّهِ قيل: النصر على الكفار، وقيل: عذاب الكفار في الدنيا، ووضع الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوع الأمر ولقربه، وروي أنها لما نزلت وثب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما فلما قال: فلا تستعجلوه سكن يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ أي بالنبوة وقيل بالوحي خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أي من نطفة المني، والمراد جنس الإنسان فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فيه وجهان أحدهما: أن معناه متكلم يخاصم عن نفسه، والثاني: يخاصم في ربه ودينه، وهذا في الكفار، والأول أعم لَكُمْ فِيها دِفْءٌ أي ما يتدفأ به، يعني ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب، ويحتمل أن يكون قوله: لكم متعلقا بما قبله أو بما بعده ويختلف الوقوف باختلاف ذلك وَمَنافِعُ يعني شرب ألبانها، والحرث بها وغير ذلك وَمِنْها تَأْكُلُونَ يحتمل أن يريد بالمنافع ما عدا الأكل فيكون الأكل أمرا زائدا عليها، أو يريد بالمنافع الأكل وغيره، ثم جرد ذكر الأكل لأنه أعظم المنافع وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الجمال حسن المنظر، وحين تريحون يعني حين تردونها بالعشي إلى المنازل، وحين تسرحون حين تردونها بالغداة إلى الرعي، وإنما قدم تريحون على تسرحون، لأن جمال الأنعام بالعشي أكثر لأنها ترجع وبطونها ملأى وضروعها حافلة وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ يعني الأمتعة وغيرها وقيل: أجساد بني آدم إِلى بَلَدٍ أي إلى أي بلد توجهتم، وقيل:
يعني مكة بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أي بمشقة لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً استدل بعض الناس به على تحريم أكل الخيل والبغال والحمير، لكونه علّل خلقتها بالركوب والزينة دون الأكل، ونصب زينة على أنه
مفعول من أجله، وهو معطوف على موضع لتركبوها وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «١» عبارة على العموم أي أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها، وكل ما ذكر في هذه الآية شيئا مخصوصا فهو على وجه المثال
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي على الله تقويم طريق الهدى، بنصب الأدلة وبعث الرسل والمراد بالسبيل هنا: الجنس، ومعنى القصد الموصل، وإضافته إلى السبيل من إضافة الصفة إلى الموصوف وَمِنْها جائِرٌ الضمير في منها يعود على السبيل إذ المراد به:
الجنس ومعنى الجائر: الخارج عن الصواب: أي ومن الطريق جائر كطريق اليهود والنصارى وغيرهم ماءً لَكُمْ يحتمل أن يتعلق لكم بأنزل أو يكون في موضع خبر لشراب، أو صفة لسماء وَمِنْهُ شَجَرٌ يعني ما ينبت بالمطر من الشجر فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون أنعامكم وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني الحيوان والأشجار والثمار وغير ذلك مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه وأشكاله لَحْماً طَرِيًّا يعني الحوت «٢» حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني الجواهر والمرجان مَواخِرَ فِيهِ جمع ماخرة يقال: مخرت السفينة، والمخر: شق الماء، وقيل: صوت جري الفلك بالرياح لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني في التجارة وهو معطوف على لتأكلوا.
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ الرواسي الجبال، واللفظ مشتق من رسا إذا ثبت، وأن تميد في موضع مفعول من أجله، والمعنى أنه ألقى الجبال في الأرضي لئلا تميد الأرض وروي أنه لما خلق الله الأرض جعلت تميد فقالت الملائكة: لا يستقر على ظهر هذه أحد، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال وَأَنْهاراً قال ابن عطية: أنهارا منصوب بفعل مضمر تقديره: وجعل أو خلق أنهارا قال: وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على أن ألقى أخص من جعل وخلق: ولو كانت ألقى بمعنى خلق: لم يحتج إلى هذا الإضمار وَسُبُلًا يعني الطرق وَعَلاماتٍ يعني ما يستدل به على الطرق من الجبال والمناهل وغير ذلك، وهو معطوف على أنهارا وسبلا قال ابن عطية: هو نصب على المصدر أي لعلكم تعتبرون، وعلامات أي عبرة وأعلاما وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ يعني الاهتداء بالليل في الطرق، والنجم
(١). في هذه إشارة إلى المركبات الحديثة في البر والبحر والجو.
(٢). حسب اصطلاح أهل المغرب هو السمك.
هنا جنس، وقيل: المراد الثريا والفرقدان، فإن قيل: قوله وبالنجم هم يهتدون مخرج عن سنن الخطاب وقدم فيه النجم كأنه يقول: بالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فمن المراد بهم؟ فالجواب أنه أراد قريشا لأنهم كان لهم في الاهتداء بالنجم في سيرهم علم لم يكن لغيرهم، وكان الإعتبار ألزم لهم فخصصوا، قال ذلك الزمخشري.
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ تقرير يقتضي الردّ على من عبد غير الله، وإنما عبّر عنهم بمن لأن فيهم من يعقل ومن لا يعقل، أو مشاكلة لقوله: أفمن يخلق وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ذكر من أول السورة إلى هنا أنواعا من مخلوقاته تعالى على وجه الاستدلال بها على وحدانيته، ولذلك أعقبها بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، وفيها أيضا تعداد لنعمه على خلقه، ولذلك أعقبها بقوله: وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، ثم أعقب ذلك بقوله: إن الله لغفور رحيم: أي يغفر لكم التقصير في شكر نعمه.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ نفى عن الأصنام صفات الربوبية، وأثبت لهم أضدادها، وهي أنهم مخلوقون غير خالقين، وغير أحياء، وغير عالمين بوقت البعث، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم أثبت الربوبية لله وحده فقال:
إلهكم إله واحد أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي لم تكن لهم حياة قط ولا تكون، وذلك أغرق في موتها ممن تقدّمت له حياة ثم مات، ثم يعقب موته حياة وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ الضمير في يشعرون: للأصنام وفي: يبعثون للكفار الذين عبدوهم، وقيل: إن الضميرين للكفار قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أي تنكر وحدانية الله عز وجل لا جَرَمَ أي لا بد ولا شك، وقيل إن لا نفي لما تقدم، وجرم معناه وجب، أو حق، وأن فاعلة بجرم أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما سطره الأولون، وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتاب تواريخ، وكان يقول: إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه، وماذا يجوز أن يكون اسما واحدا مركبا من ما وذا، ويكون منصوبا بأنزل، أو أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي، وفي أنزل ضمير محذوف لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ اللام لام العاقبة والصيرورة: أي قالوا أساطير الأولين، فأوجب ذلك أن حملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، ويحتمل أن تكون للأمر بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول في يضلونهم، أو من الفاعل
فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ الآية: قيل المراد بالذين من قبلهم نمروذ، فإنه بنى صرحا ليصعد
فيه إلى السماء بزعمه، فلما علا فيه هدمه الله وخر سقفه عليه، وقيل: المراد بالذين من قبلهم كل من كفر من الأمم المتقدمة، ونزلت به عقوبة الله فالبنيان والسقف والقواعد على هذا تمثيل وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ توبيخ للمشركين وأضاف الشركاء إلى نفسه أي على زعمكم ودعواكم، وفيه تهكم بهم الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تعادون من أجلهم فمن قرأ بكسر النون «١» فالمفعول ضمير المتكلم وهو الله عز وجل، ومن قرأ بفتحها فالمفعول محذوف تقديره تعادون المؤمنين من أجلهم قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هم الأنبياء والعلماء من كل أمة، وقيل: يعني الملائكة واللفظ أعم من ذلك ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ حال من الضمير المفعول في تتوفاهم فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي استسلموا للموت ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أي قالوا ذلك، ويحتمل قولهم لذلك أن يكونوا قصدوا الكذب اعتصاما به كقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] أو يكونوا أخبروا على حسب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر بَلى من قول الملائكة للكفار: أي قد كنتم تعملون السوء.
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لما وصف مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين: قابل ذلك بمقالة المؤمنين، فإن قيل: لم نصب جواب المؤمنين وهو قولهم:
خيرا، رفع جواب الكافرين وهو أساطير الأولين؟ فالجواب: أن قولهم خيرا منصوب بفعل مضمر تقديره أنزل خيرا، ففي ذلك اعتراف بأن الله أنزله، وأما أساطير الأولين فهو خبر ابتداء مضمر تقديره هو أساطير الأولين، فلم يعترفوا بأن الله أنزله فلا وجه لنصبه، ولو كان منصوبا لكان الكلام متناقضا لأن قولهم أساطير الأولين يقتضي التكذيب بأن الله أنزله، والنصب بفعل مضمر يقتضي التصديق بأن الله أنزله، لأن تقديره أنزل، فإن قيل: يلزم مثل هذا في الرفع، لأن تقديره هو أساطير الأولين، فإنه غير مطابق للسؤال الذي هو ماذا أنزل ربكم، فالجواب: أنهم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين، ولم ينزله الله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ارتفع حسنة بالابتداء وللذين خبره، والجملة بدل من خيرا، وتفسيره للخير الذي قالوا، وقيل: هي استئناف كلام الله تعالى، لا من كلام الذين قالوا خيرا
جَنَّاتُ عَدْنٍ يحتمل أن يكون هو اسم الممدوح بنعم، فيكون مبتدأ وخبره فيما قبله أو خبر
(١). قرأ نافع بكسر النون: تشاقون وقرأ الباقون: تشاقون بفتحها.
ابتداء مضمر، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره يدخلونها أو مضمر تقديره: لهم جنات عدن.
ْ يَنْظُرُونَ
أي ينتظرون، والضمير للكفار وإنما أن تأتيهم الملائكة يعني لقبض أرواحهم وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
يعني قيام الساعة أو العذاب في الدنيا فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي أصابهم جزاء سيئات ما عملوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي أحاط بهم العذاب الذين كانوا به يستهزؤن، وهذا تفسيره حيث وقع وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة والإحتجاج على صحة فعلهم أي أن فعلنا هو بمشيئة الله فهو صواب، ولو شاء الله أن لا نفعله ما فعلناه، والرّد عليهم بأن الله نهى عن الشرك ولكنه قضي على من يشاء من عباده، ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك في الآخرة على وجه التمني فإن «لو» تكون للتمني والمعنى هذا أنهم لما رأوا العذاب تمنوا أن يكونوا لم يعبدوا غيره، ولم يحرموا ما أحل الله من البحيرة وغيرها فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قرئ بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول أي لا يهدي غير الله من يضله الله، وقرئ «١» يهدي بفتح الياء وكسر الدال، والمعنى على هذا: لا يهدي الله من قضي بإضلاله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ الضمير عائد على من يضل، لأنه في معنى الجمع.
بَلى ردّ على الذين أقسموا لا يبعث الله من يموت أي أنه يبعثه لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ اللام تتعلق بما دل عليه أي يبعثهم ليبين لهم، وهذا برهان أيضا على البعث، فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم، فيبعثهم الله ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ الآية: برهان أيضا على البعث، لأنه داخل تحت قدرة الله تعالى
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ يعني الذين هاجروا من مكة إلى أرض الحبشة، لأن الهجرة إلى
(١). قرأ حمزة وعاصم والكسائي يهدي. وقرأ الباقون: يهدى.
المدينة كانت بعدها، وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل وخبره مذكور في السير في قصة الحديبية، وهذا بعيد لأن السورة نزلت قبل ذلك لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وعد أن ينزلهم بقعة حسنة، وهي المدينة التي استقروا بها، وقيل: إن حسنة صفة لمصدر أي نبوئنهم تبوئة حسنة وقرئ لنثوبنهم بالثاء من الثواب الَّذِينَ صَبَرُوا وصف للذين هاجروا، ويحتمل إعرابه أن يكون نعتا أو على تقدير: هم الذين أو مدح الذين إِلَّا رِجالًا ردّ على من استبعد أن يكون الرسول من البشر فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني أحبار اليهود والنصارى، أي لأن جميعهم يشهدون أن الرسول من البشر بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية على التقديم والتأخير في الكلام، أو بأرسلنا مضمرا وبيوحي أو بتعلمون.
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ يعني القرآن لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يحتمل أن يريد لتبين القرآن بسردك نصه وتعليمه للناس، أو لتبين معانيه بتفسير مشكله، فيدخل في هذا ما بينته السنة من الشريعة أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ يعني: كفار قريش عند جمهور المفسرين، والسيئات تحتمل وجهين: أحدهما: يريد به الأعمال السيئات أي المعاصي فيكون: مكروا يتضمن معنى عملوا، والآخر أن يريد بالمكرات السيئات مكرهم بالنبي صلى الله تعالى عليه واله وسلّم فيكون المكر على بابه أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ يعني في أسفارهم فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بمفلتين حيث وقع أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فيه وجهان أحدهما: أن معناه على تنقص أي ينتقص أموالهم وأنفسهم شيئا بعد شيء، حتى يهلكوا من غير أن يهلكهم جملة واحدة، ولهذا أشار بقوله: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، لأن الأخذ هكذا أخف من غيره، وقد كان عمر بن الخطاب أشكل عليه معنى التخوف في الآية، حتى قال له رجل من هذيل: التخوف التنقص في لغتنا، والوجه الثاني: أنه من الخوف أي يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا هم ذلك، فيأخذهم بعد أن توقعوا العذاب وخافوه، ذلك خلاف قوله: وهم لا يشعرون
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ معنى الآية اعتبار بانتقال الظل، ويعني بقوله: ما خلق الله من شيء: الأجرام التي لها ظلال من الجبال والشجر والحيوان وغير ذلك، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال يكون ظلها إلى جهة، ومن الزوال إلى الليل إلى جهة أخرى، ثم يمتدّ الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس، وقوله: يتفيأ من الفيء وهو الظل الذي يرجع، بعكس ما كان
427
غدوة، وقال رؤبة بن العجاج: يقال بعد الزوال ظل وفيء، ولا يقال قبله إلا ظل، ففي لفظة: يتفيأ هنا تجوز ما لوقوع الخصوص في موضع العموم، لأن المقصود الإعتبار من أول النهار إلى آخره، فوضع يتفيأ موضع ينتقل أو يميل، والضمير في ظلاله يعود على ما أو على شيء عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ يعني عن الجانبين أي يرجع الظل من جانب إلى جانب، واليمين بمعنى الأيمان، واستعار هنا الأيمان والشمائل للأجرام، فإن اليمين والشمائل إنما هما في الحقيقة للإنسان سُجَّداً لِلَّهِ حال من الظلال، وقال الزمخشري حال من الضمير في ظلاله، إذ هو بمعنى الجمع لأنه يعود على قوله: من شيء، فعلى الأول يكون السجود من صفة الظلال، وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام، واختلف في معنى هذا السجود فقيل عبر به عن الخضوع والانقياد، وقيل هو سجود حقيقة وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون وجمع بالواو [والنون] لأن الدخور من أوصاف العقلاء.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ يحتمل أن يكون من دابة بيان لما في السموات وما في الأرض معا، لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب، ويحتمل أن يكون بيانا لما في الأرض خاصة وإنما قال: ما في السموات وما في الأرض ليعم العقلاء وغيرهم، ولو قال. من في السموات لم يدخل في ذلك غير العقلاء قاله الزمخشري وَالْمَلائِكَةُ إن كان قوله من دابة بيانا لما في السموات والأرض، فقد دخل الملائكة في ذلك، وكرر ذكرهم تخصيصا لهم بالذكر وتشريفا، وإن كان من دابة لما في الأرض خاصة فلم تدخل الملائكة في ذلك فعطفهم على ما قبلهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ هذا إخبار عن الملائكة، وهو بيان نفي الاستكبار، ويحتمل أن يريد فوقية القدرة والعظمة أو يكون من المشكلات التي يمسك عن تأويلها، وقيل: معناه يخافون أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ وصف الإلهين باثنين تأكيدا وبيانا للمعنى وقيل: إن إثنين مفعول أول وإلهين مفعول ثاني، فلا يكون في الكلام تأكيد فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ خرج من الغيبية إلى التكلم، لأن الغائب هو المتكلم، وإياي مفعول بفعل مضمر، ولا يعمل فيه فارهبون لأنه قد أخذ معموله وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أي واجبا وثابتا، وقيل: دائما، وانتصابه على الحال من الدين وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يحتمل أن تكون الواو للاستئناف أو الحال، فيكون الكلام متصلا بما قبله: أي كيف تتقون غير الله، وما بكم من نعمة فمنه وحده فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والتضرع لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام لام الأمر
428
على وجه التهديد لقوله بعد: فتمتعوا فسوف تعلمون، فعلى هذا يبتدئ بها، وقيل: هي لام العاقبة، فعلى هذا توصل بما قبلها لأنها في الأصل لام كي، وذلك بعيد في المعنى، والكفر هنا يحتمل أن يريد به كفر النعم لقوله: بما آتيناهم، أو كفر الجحود والشرك لقوله:
بربهم يشركون فَتَمَتَّعُوا يريد التمتع في الدنيا، وذلك أمر على وجه التهديد
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ الضمير في يجعلون لكفار العرب فإنهم كانوا يجعلون للأصنام نصيبا من ذبائحهم وغيرها، والمراد بقوله لما لا يعلمون الأصنام، والضمير في لا يعلمون للكفار أي لا يعلمون ربوبيتهم ببرهان ولا بحجة، وقيل: الضمير في لا يعلمون للأصنام أي الأشياء غير عالمة وهذا بعيد وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ إشارة إلى قول الكفار: إن الملائكة بنات الله، ثم نزه تعالى نفسه عن ذلك بقوله سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ المعنى أنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني بذلك الذكور من الأولاد، وأما الإعراب فيجوز أن يكون ما يشتهون مبتدأ وخبره المجرور قبله، وأن يكون مفعولا بفعل مضمر تقديره:
ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وأن يكون معطوفا على البنات على أن هذا يمنعه البصريون، لأنه من باب ضربتني وكان يلزم عندهم أن يقال لأنفسهم.
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ إخبار عن حال العرب في كراهتهم البنات، وظل هنا يحتمل أن تكون على بابها، أو بمعنى صار، والسواد عبارة عن العبوس والغم، وقد يكون معه سواد حقيقة، وكظيم قد ذكر في [يوسف: ٨٤] يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يستخفي من أجل سوء ما بشر به أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ المعنى يدبر وينظر هل يمسك الأنثى التي بشر بها على هوان وذل لها، أو يدفنها في التراب حية، وهي الموؤدة، وهذا معنى يدسه في التراب مَثَلُ السَّوْءِ أي صفة السوء من الحاجة إلى الأولاد وغير ذلك من الافتقار والنقص وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الوصف الأعلى من الغنى عن كل شيء، والنزاهة عن صفات المخلوقين وَلَوْ يُؤاخِذُ يعني لو يعاقبهم في الدنيا بِظُلْمِهِمْ أي بكفرهم ومعاصيهم ما تَرَكَ عَلَيْها الضمير للأرض مِنْ دَابَّةٍ يعم بني آدم وغيرهم وهذا يقتضي أن تهلك الحيوانات بذنوب بني آدم، وقد ورد ذلك في الأثر، وقيل: يعني بني آدم خاصة وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ يعني البنات أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أن بدل من الكذب، والحسنى هنا قيل: هي الجنة، وقيل: ذكور الأولاد وَأَنَّهُمْ
مُفْرَطُونَ
بكسر الراء والتخفيف من الإفراط: «١» أي متجاوزون الحدّ في المعاصي، أو بفتح الراء والتخفيف من الفرط أي معجلون إلى النار، وبكسر الراء والتشديد من التفريط
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ يحتمل أن يريد باليوم وقت نزول الآية أو يوم القيامة وَهُدىً وَرَحْمَةً معطوفان على موضع لنبين، وانتصبا على أنهما مفعول من أجله: أي لأجل البيان والهدى والرحمة نُسْقِيكُمْ بفتح النون «٢» وضمها لغتان، يقال سقى وأسقى مِمَّا فِي بُطُونِهِ الضمير للإنعام، وإنما ذكر لأنه مفرد بمعنى الجمع كقوله: ثوب أخلاق لأنه اسم جنس، وإذا أنث فهو جمع نعم مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ الفرث هي ما في الكرش من الروث، والمعنى أن الله يخلق اللبن متوسطا بين الفرث والدم يكتنفانه، ومع ذلك فلا يغيران له لونا ولا طعما ولا رائحة، ومن في قوله من بين فرث لابتداء الغاية سائِغاً لِلشَّارِبِينَ يعني سهلا للشرب حتى قيل: لم يغص أحد قط باللبن وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ المجرور يتعلق بفعل محذوف تقديره: نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها، ويدل عليه نسقيكم الأول أو يكون من ثمرات معطوف على مما في بطونها، أو يتعلق من ثمرات بتتخذون، وكرر منه توكيدا أو يكون تتخذون صفة لمحذوف تقديره: شيئا تتخذون سَكَراً يعني الخمر، ونزل ذلك قبل تحريمها فهي منسوخة بالتحريم، وقيل إن هذا على وجه المنة بالمنفعة التي في الخمر، ولا تعرض فيها لتحليل ولا تحريم، فلا نسخ، وقيل: السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخل والرب. والرزق الحسن: العنب والتمر والزبيب.
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الوحي هنا بمعنى الإلهام، فإن الوحي على ثلاثة أنواع:
وحي كلام، ووحي منام، ووحي إلهام أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أن مفسرة للوحي الذي أوحى إلى النحل، وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار وإما فيما يعرش بني آدم من الأجباح [مفردها: جبح] والحيطان ونحوها، ومن في المواضع الثلاثة للتبعيض لأن النحل
(١). هي قراءة نافع وقرأ الباقون: مفرطون بفتح الراء
(٢). قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بفتح النون: نسقيكم. وقرأ الباقون بالرفع.
إنما تتخذ بيوتا في بعض الجبال، وبعض الشجر، وبعض الأماكن، وعرش معناه هيأ أو بنى، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الأغصان والخشب
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عطف كلي على اتخذي، ومن للتبعض، وذلك إنها إنما تأكل النوار من الأشجار، وقيل: المعنى من كل الثمرات التي تشتهيها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ يعني الطرق في الطيران، وأضافها إلى الرب لأنها ملكه وخلقه ذُلُلًا أي مطيعة منقادة ويحتمل أن يكون حالا من السبل، قال مجاهد: لم يتوعر قط على النحل طريق، أو حالا من النحل أي منقادة لما أمرها الله به يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ يعني العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أي منه أبيض وأصفر وأحمر فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ الضمير للعسل، لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل، كالمعاجين والأشربة النافعة من الأمراض، وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء، فكأنه أخذه على العموم. وعلى ذلك الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا جاء إليه، فقال إن أخي يشتكي بطنه، فقال اسقه عسلا، فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فما نفع، قال فاذهب فاسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فبرأ «١» إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي إلى أخسه وأحقره، وهو الهرم. وقيل: حدّه خمسة وسبعون عاما، وقيل: ثمانون، والصحيح أنه لا يحصر إلى مدة معينة، وأنه يختلف بحسب الناس لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام لام الصيرورة أي يصير إذا هرم لا يعلم شيئا بعد أن كان يعلم قبل الهرم، وليس المراد نفي العلم بالكلية، بل ذلك عبارة عن قلة العلم لغلبة النسيان، وقيل: المعنى لئلا يعلم زيادة على علمه شيئا.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الآية في معناها قولان: أحدهما أنها احتجاج على الوحدانية، كأنه يقول أنتم لا تسوّون بين أنفسكم وبين مماليككم في الرزق، ولا تجعلونهم شركاء لكم، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي، والآخر: أنها عتاب وذم لمن لا يحسن إلى مملوكه حتى يرد ما رزقه الله عليه كما جاء في الحديث: «أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون» «٢» والأول أرجح أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الجحد هنا على المعنى الأول إشارة إلى الإشراك بالله، وعبادة غيره، وعلى المعنى الثاني إشارة إلى جنس المماليك فيما يجب لهم من الإنفاق
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني الزوجات،
(١). رواه البخاري في كتاب الطب ج ٧ ص ١٣ عن أبي سعيد الخدري.
(٢). أخرج أحمد عن أبي ذر بمعناه ج ٥ ص ٢٠٩ وأوله: إخوانكم خولكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل.
431
ومن أنفسكم يحتمل أن يريد من نوعكم وعلى خلقتكم، أو يريد أن حواء خلقت من ضلع آدم، وأسند ذلك إلى بني آدم لأنهم من ذريته وَحَفَدَةً جمع حافد قال ابن عباس: هم أولاد البنين، وقيل: الأصهار وقيل الخدم، وقيل: البنات إلا أن اللفظ المذكور لا يدل عليهم، والحفدة في اللغة الخدمة وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية: توبيخ للكفار، وردّ عليهم في عبادتهم للأصنام، وهي لا تملك لهم رزقا، وانتصب رزقا لأنه مفعول بيملك، ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسما لما يرزق، فإن كان مصدرا فإعراب شيئا مفعول به، لأن المصدر ينصب المفعول، وإن كان اسما فإعراب شيئا بدل منه وَلا يَسْتَطِيعُونَ الضمير عائد على ما لأن المراد به الإلهية، ونفي الاستطاعة بعد نفي الملك، لأن نفيها أبلغ في الذم.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً الآية: مثل لله تعالى وللأصنام، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى له الملك، وبيده الرزق ويتصرف فيه كيف يشاء، فكيف يسوي بينه وبين الأصنام، وإنما قال: لا يقدر على شيء، لأن بعض يقدرون على بعض الأمور كالمكاتب والمأذون له وَمَنْ رَزَقْناهُ من هنا نكرة موصوفة، والمراد بها من هو حر قادر كأنه قال: وحرّا رزقناه ليطابق عبدا، ويحتمل أن تكون موصولة هَلْ يَسْتَوُونَ أي هل يستوي العبيد والأحرار الذين ضرب لهم المثل الْحَمْدُ لِلَّهِ شكرا لله على بيان هذا المثال ووضوح الحق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني الكفار وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ الآية: مثل لله تعالى وللأصنام كالذي قبله، والمقصود منهما إبطال مذاهب المشركين، وإثبات الوحدانية لله تعالى، وقيل: إن الرجل الأبكم أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر، والأظهر عدم التعيين وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ الكلّ:
الثقيل يعني أنه عيال على وليه أو سيده، وهو مثل للأصنام والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بيان لقدرة الله على إقامتها، وأن ذلك يسير عليه كقوله: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: ٢٨] وقيل: المراد سرعة إتيانها وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ الأمهات جمع أم زيدت فيه الهاء فرقا بين من
432
يعقل ومن لا يعقل، وقرئ بضم الهمزة وبكسرها اتباعا للكسرة قبلها
فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء البعيد من الأرض وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً السكن مصدر يوصف به، وقيل: هو فعل بمعنى مفعول ومعناه ما يسكن فيه كالبيوت أو يسكن إليه وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يعني الأدم من القباب وغيرها تَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفيفة يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ يعني في السفر والحضر، واليوم هنا بمعنى الوقت ويقال: ظعن الرجل إذا رحل، وقرئ ظعنكم بفتح العين «١»، وإسكانها تخفيفا وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها الأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز والبقر أَثاثاً الأثاث متاع البيت من البسط وغيرها، وانتصابه على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره جعل وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي إلى وقت غير معين، ويحتمل أن يريد إلى أن تبلى وتغنى أو إلى أن تموت.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي نعمة عددها الله عليهم بالظل، لأن الظل مطلوب في بلادهم محبوب لشدّة حرها، ويعني بما خلق من الشجر وغيرها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً الأكنان جمع كن، وهو ما يقي من المطر والريح وغير ذلك، ويعني بذلك الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ السرابيل هي الثياب من القمص وغيرها، وذكر وقاية الحر ولم يذكر وقاية البرد، لأن وقاية الحر أهم عندهم لحرارة بلادهم، وقيل: لأن ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يعني دروع الحديد يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ اشارة الى ما ذكر من النعم من أول السورة الى هنا والضمير في يعرفون للكفار، وانكارهم لنعم الله اشراكهم به وعبادة غيره، وقيل نعمة الله هنا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي يشهد عليهم بإيمانهم وكفرهم ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا يؤذن لهم في الاعتذار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يسترضون، وهو من العتب بمعنى الرضى وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يحتمل أن يكون بمعنى التأخير أو بمعنى النظر: أي لا ينظر الله إليهم
فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ الضمير
(١). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح وقرأ الباقون بسكون العين. [.....]
433
في القول للمعبودين والمعنى أنهم كذبوهم في قولهم أنهم كانوا يعبدونهم، كقولهم: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ [يونس: ٢٨] فإن قيل: كيف كذبوهم وهم قد كانوا يعبدونهم؟ فالجواب أنهم لما كانوا غير راضين بعبادتهم، فكأن عبادتهم لم تكن عبادة، ويحتمل أن يكون تكذيبهم لهم في تسميتهم شركاء لله، لا في العبادة وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي استسلموا له وانقادوا زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ روي أن الزيادة في العذاب هي حيات وعقارب كالبغال تلسعهم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ يعنى بالعدل: فعل الواجبات، وبالإحسان: المندوبات، وذلك في حقوق الله تعالى وفي حقوق المخلوقين، قال ابن مسعود:
هذه أجمع آية في كتاب الله تعالى وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى الإيتاء مصدر آتى بمعنى أعطى، وقد دخل ذلك في العدل والإحسان، ولكنه جرده بالذكر اهتماما به وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ قيل: يعنى الزنا، واللفظ أعم من ذلك وَالْمُنْكَرِ هو أعم من الفحشاء، لأنه يعم جميع المعاصي وَالْبَغْيِ يعنى الظلم وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ هذا في الإيمان التي في الوفاء بها خير، وأما ما كان تركه أولى، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير منه، كما جاء في الحديث، أو تكون الأيمان هنا ما يحلفه الإنسان في حق غيره، أو معاهدة لغيره وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي رقيبا ومتكفلا بوفائكم بالعهد، وقيل: إن هذه الآية نزلت في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: فيما كان بين العرب من حلف في الجاهلية وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها شبّه الله من يحلف ولم يف بيمينه بالمرأة التي تغزل غزلا قويا ثم تنقضه.
وروي أنه كان بمكة امرأة حمقاء تسمى ريطة بنت سعد، كانت تفعل ذلك وبها وقع التشبيه، وقيل إنما شبه بامرأة غير معينة أَنْكاثاً جمع نكث، وهو ما ينكث أي ينقض، وانتصابه على الحال تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ الدخل الدغل، وهو قصد الخديعة أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أن في موضع المفعول من أجله: أي بسبب أن تكون أمة، ومعنى أربى: أكثر عددا أو أقوى، ونزلت الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها غدرت بالأولى وحالفت الثانية، وقيل:
الإشارة بالأربى هنا إلى كفّار قريش إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ
434
بِهِ
الضمير للأمر بالوفاء، أو لكون أمة هي أربى من أمة، فإن بذلك يظهر من يحافظ على الوفاء أولا
فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها استعارة في الرجوع عن الخير إلى الشر، وإنما أفرد القدم ونكّرها: لاستعظام الزلل في قدم واحدة فكيف في اقدام كثيرة وَتَذُوقُوا السُّوءَ يعنى في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يدل على أن الآية فيمن بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعنى في الآخرة وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا الثمن القليل عرض الدنيا، وهذا نهي لمن بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينكث، لأجل ضعف الإسلام حينئذ وقوة الكفّار، ورجاء الانتفاع في الدنيا إن رجع عن البيعة ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ أي يفنى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً يعنى في الدنيا، قال ابن عباس: هي الرزق الحلال، وقيل: هي القناعة، وقيل: هي حياة الآخرة فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ظاهر اللفظ أن يستعاذ بعد القراءة، لأن الفاء تقتضي الترتيب، وقد شذ قوم فأخذوا بذلك، وجمهور الأمة على أن الاستعاذة قبل القراءة، وتأويل الآية: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي ليس له عليهم سبيل ولا يقدر على إضلالهم إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي يتخذونه وليا وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ الضمير لإبليس، والباء سببية وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ التبديل هنا النسخ، كان الكفار إذا نسخت آية، يقولون: هذا افتراء ولو كان من عند الله لم يبدل وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ جملة اعتراض بين الشرط وجوابه. وفيها رد على الكفار أي الله أعلم بما يصلح للعباد في وقت ثم ما يصلح لهم بعد ذلك قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعنى جبريل بِالْحَقِّ أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأخباره، ويحتمل أن يكون قوله بالحق بمعنى حقا، أو بمعنى أنه واجب النزول
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ كان بمكة غلام أعجمي اسمه يعيش، وقيل: كانا غلامين اسم أحدهما جبر والآخر يسار، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجلس إليهما ويدعوهما إلى الإسلام، فقالت قريش: هذان يعلمان محمدا لِسانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ
اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام، ويلحدون من ألحد إذا مال، وقرئ «١» بفتح الياء من لحد، وهما بمعنى واحد، وهذا ردّ عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه يعلمه أعجمى اللسان وهذا القرآن عربي في غاية الفصاحة فلا يمكن أن يأتي به أعجمي.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ هذا في حق من علم الله منه أنه لا يؤمن كقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: ٩٦]، فاللفظ عام يراد به الخصوص، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: ٦]، وقال ابن عطية: المعنى إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر، تهكما لتقبيح أفعالهم إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ردّ على قولهم: إنما أنت مفتر يعنى: إنما يليق الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يخاف الله، وأما من يؤمن بالله فلا يكذب عليه وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالله: أي هم الذين عادتهم الكذب لأنهم لا يبالون بالوقوع في المعاصي، ويحتمل أن يكون الكذب المنسوب إليهم قولهم إنما أنت مفتر مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ الآية: من شرطية في موضع رفع بالابتداء، وكذلك من في قوله من شرح، لأنه تخصيص من الأول، وقوله: فعليهم غضب: جواب عن الأولى والثانية، لأنهم بمعنى واحد أو يكون جوابا للثانية، وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية، وقيل: من كفر بدل من الذين لا يؤمنون أو من المبتدأ في قوله أولئك هم الكاذبون، أو من الخبر إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ استثنى من قوله من كفر، وذلك أن قوما ارتدوا عن الإسلام، فنزلت فيهم الآية، وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر، وهو يعتقد الإيمان منهم عمار بن ياسر، وصهيب، وبلال فعذرهم الله.
روى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما صنع به من العذاب وما تسامح به من القول، فقال له رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: كيف تجد قلبك؟ قال أجده مطمئنا بالإيمان، قال فأجبهم بلسانك، فإنه لا يضرك، وهذا الحكم في من أكره بالنطق على الكفر، وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصنم فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا؟ فأجازه الجمهور، ومنعه قوم وكذلك قال مالك: لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شيء فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحد أو أخذ ماله
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا الإشارة إلى العذاب، والباء للتعليل، فعلل عذابهم بعلتين: أحدهما إيثارهم الحياة الدنيا، والأخرى أن الله
(١). قرأ حمزة والكسائي: تلحدون والباقون: يلحدون بالرفع.
لا يهديهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا قرأه الجمهور فتنوا بضم الفاء: أي عذبوا فالآية على هذا في عمار وشبهه من المعذبين على الإسلام، وقرأ ابن عامر بفتح الفاء: أي عذاب المسلمين، فالآية على هذا فيمن عذّب المسلمين، ثم هاجر وجاهد كالحضرمي وأشباهه.
إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ كرر إن ربك توكيدا، والضمير في بعدها يعود على الأفعال المذكورة وهي الهجرة والجهاد والصبر يَوْمَ تَأْتِي يحتمل أن يتعلق بغفور رحيم أو بمحذوف تقديره اذكر وهذا أظهر كُلُّ نَفْسٍ النفس هنا بمعنى الجملة كقولك:
إنسان، والنفس في قوله عن نفسها بمعنى الذات المعينة التي نقيضها الغير أي تجادل عن ذاتها لا عن غيرها كقولك: جاء نفسه وعينه تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها أي تحتج وتعتذر، فإن قيل: كيف الجمع بين هذا وبين قوله هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ؟ [المرسلات: ٣٥، ٣٦] فالجواب أن الحال مختلف باختلاف المواطن والأشخاص.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً الآية، قيل: إن القرية المذكورة مكة كانت بهذه الصفة التي ذكرها الله فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ يعنى بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأصابهم الجدب والخوف من غزو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إنما قصد قرية غير معينة أصابها ذلك فضرب الله بها مثلا لمكة، وهذا أظهر، لأن المراد وعظ أهل مكة بما جرى لغيرهم، والضمير في قوله فكفرت وأذاقها: يراد بها أهل القرية بدليل قوله بما كانوا يصنعون فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ الإذاقة هنا واللباس مستعاران، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا، حتى صارت كالحقيقة، وأما اللباس فاستعير للجوع والخوف لاشتمالهما على اللباس ومباشرتهما له كمباشرة الثوب.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ إن المراد بالقرية مكة، فالرسول هنا محمد صلّى الله عليه وسلّم والعذاب الذي أخذهم القحط وغيره، وإن كانت القرية غير معينة، فالرسول من المتقدمين كهود وشعيب وغيرهما، والعذاب ما أصابهم من الهلاك فَكُلُوا وما بعده مذكور في البقرة
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ هذه الآية مخاطبة للعرب
الذين أحلوا أشياء وحرموا أشياء كالبحيرة وغيرها مما ذكر في سورة المائدة والأنعام، ثم يدخل فيها كل من قال: هذا حلال أو حرام بغير علم، وانتصب الكذب بلا تقولوا أو يكون قوله: هذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب وما في قوله بما تصف موصولة ويجوز أن ينتصب الكذب بقوله تصف وتكون ما على هذا مصدرية ويكون قوله هذا حلال وهذا حرام معمول لا تقولوا مَتاعٌ قَلِيلٌ يعنى عيشهم في الدنيا أو انتفاعهم بما فعلوه من التحليل والتحريم.
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعنى قوله في [الأنعام: ١٤٦] حرمنا كل ذي ظفر إلى آخر الآية، فذكر ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود، ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله كما فعلت العرب ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ هذه الآية تأنيس لجميع الناس وفتح باب التوبة.
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً فيه وجهان: أحدهما أنه كان وحده أمة من الأمم بكماله وجمعه لصفات الخير كقول الشاعر
فليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
والآخر: أن يكون أمة بمعنى إمام كقوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: ١٢٤] قال ابن مسعود: والأمة معلم الناس الخير، وقد ذكر معنى القانت والحنيف وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعنى لسان الصدق، وأن جميع الأمم متفقون عليه، وقيل: يعنى المال والأولاد لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي من أهل الجنة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نفى عنه الشرك لقصد الرد على المشركين من العرب الذين كانوا ينتمون إليه إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أمر موسى بني إسرائيل أن يجعلوا يوم الجمعة مختصا للعبادة فرضي بعضهم بذلك، وقال أكثرهم: بل يكون يوم السبت، فألزمهم الله يوم السبت، فاختلافهم فيه هو ما ذكر والسبت على هذا هو اليوم، وقيل اختلافهم فيه: هو أن منهم من حرم الصيد فيه، ومنهم من أحله، فعاقبهم الله بالمسخ قردة، فالمعنى: إنما جعل وبال السبت على الذين اختلفوا فيه، والسبت على هذا مصدر من سبت إذا عظم يوم السبت، قاله الزمخشري، وتقتضي الآية أن السبت لم يكن من ملة إبراهيم عليه السلام
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المراد بالسبيل هنا: الإسلام، والحكمة هي الكلام الذي يظهر صوابه،
438
والموعظة هي الترغيب والترهيب، والجدال هو الردّ على المخالف، وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدال، وهذه الآية تقتضي مهادنة نسخت بالسيف، وقيل: إن الدعاء إلى الله بهذه الطريقة من التلطف والرفق غير منسوخ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الملاطفة من الكفار: وأما العصاة فهي في حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ المعنى إن صنع بكم صنع سوء فافعلوا مثله ولا تزيدوا عليه، والعقوبة في الحقيقة إنما هي الثانية، وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ، ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم عقبى: كقوله في الممتحنة فعاقبتم بمعنى غنمتم فيكون في الكلام تجنيس، وقال الجمهور:
إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بقر المشركون بطنه يوم أحد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم، فنزلت الآية فكفر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن يمينه وترك ما أراد من المثلة ولا خلاف أن المثلة حرام، وقد وردت الأحاديث بذلك ويقتضي ذلك أنها مدنية، ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال، وتكون على هذا مكية كسائر السورة واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فأجاز ذلك قوم لظاهر الآية، ومنعه مالك لقوله صلّى الله عليه وسلّم: أدّ الإمامة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك «١» وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ هذا ندب إلى الصبر وترك عقوبة من أساء إليك فإن العقوبة مباحة، وتركها أفضل، والضمير راجع للصبر، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم، أو يراد به المخاطبون كأنه قال: خير لكم وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ هذا عزم على النبي صلّى الله عليه وسلّم في خاصته على الصبر، ويروى أنه قال لأصحابه أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون؟ قالوا نصبر كما ندبنا ثم أخبره أنه لا يصبر إلا بمعونة الله وقد قيل إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ بالسيف، وهذا إن كان الصبر يراد به ترك القتال، وأما إن كان الصبر يراد به ترك المثلة التي فعل مثلها بحمزة فذلك غير منسوخ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي لا تتأسف لكفرهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي لا يضق صدرك بمكرهم، والضيق بفتح الضاد تخفيف من ضيق كميت وميت، وقرئ «٢» بالكسر وهو مصدر، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدران إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا يريد أنه معهم بمعونته ونصره وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ الإحسان هنا يحتمل أن يراد به فعل الحسنات، والمعنى الذي أشار له النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه «٣» وهذا هو الأظهر، لأنه رتبة فوق التقوى.
(١). أخرجه أحمد في المسند عن رجل من أهل مكة يقال له يوسف عن رجل قرشي عن أبيه: ج ٣ ص ٥٢٧ وذكره صاحب التيسير وعزاه للبخاري في التاريخ وأبي داود والترمذي وحسّنه والحاكم عن أبي هريرة.
(٢). قرأ ابن كثير: ضيق وفي النمل، بكسر الضاد، والباقون بالفتح.
(٣). جزء من حديث جبريل الطويل الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب.
439
Icon