تفسير سورة النحل

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة النحل من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(١٦) سورة النحل مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
268
اللغة:
(نُطْفَةٍ) : في المصباح: «نطف الماء ينطف من باب قتل سال، وقال أبو زيد: نطفت القربة تنطف وتنطف نطفانا إذا قطرت والنقطة ماء الرجل والمرأة وجمعها نطف ونطاف مثل برمة وبرام والنطفة أيضا الماء الصافي قلّ أو كثر ولا فعل للنطفة أي لا يستعمل لها فعل من لفظها» وفي المختار أن نطف من بابي قتل وضرب.
(خَصِيمٌ) : شديد الخصومة وفيه معنيان أحدهما أنه خصيم لربه منكر على خالقه قائل «من يحيي العظام وهي رميم» والثاني فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم باللدد والجدل والسفسطة وما إلى ذلك من ضروب الوقاحة والشرة وسيأتي المزيد من هذا في باب البلاغة.
(دِفْءٌ) : في المختار: «الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها قال الله تعالى: «لكم فيها دفء» وفي الحديث: «لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق» وهو أيضا السخونة اسم من دفىء الرجل: من باب طرب وسلم فالذكر دفآن والأنثى دفأى مثل غضبان وغضبى ورجل دفىء بالقصر ورجل دفيء بالمد» وفي المصباح: «دفيء البيت يدفأ مهموز من باب تعب قالوا: ولا يقال في اسم الفاعل دفيء وزان كريم بل وزان تعب ودفىء الشخص فالذكر دفآن والأنثى دفأى مثل غضبان وغضبى إذا لبس ما يدفئه ودفؤ اليوم مثل قرب والدفء وزان حمل خلاف البرد» وفي القاموس: «والدفء بالكسر ويحرك نقيض حدة البرد كالدفاءة والجمع أدفاء دفىء كفرح وكرم وتدفأ واستدفأ وادّفأ وأدفأه ألبسه الدفء والدفآن المستدفئ كالدفىء والدفء
269
بالكسر نتاج الإبل وأوبارها والانتفاع بها وما أدفأ من الأصواف والأوبار» وقال الزمخشري: «والدفء اسم ما يدفأ به كما أن الملء اسم ما يملأ به وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر» فتلخص أن للدفء ثلاثة معان:
١- ضد البرودة أي السخونة.
٢- ما يتدفأ به من الثياب.
٣- ما يتحصل من الإبل من نتاج ولبن ومنافع.
(تُرِيحُونَ) : تردونها الى مراحها بالعشي.
(تَسْرَحُونَ) : تخرجونها الى المرعى بالغداة وسيرد المزيد من بحث الاراحة والتسريح في باب البلاغة وفي المصباح: سرحت الإبل سرحا من باب نفع وسروحا رعت بنفسها وسرحتها يتعدى ولا يتعدّى وسرحتها بالتثقيل مبالغة وتكثير.
(بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) : بجهدها بكسر الشين وفتحها وهما لغتان في معنى المشقة وبينهما فرق وهو ان المكسور بمعنى النصف كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد وأما المفتوح فهو مصدر شق عليه الأمر شقا وحقيقته راجعة الى الشق وهو الصدع وفي المختار: «الشق بالكسر نصف الشيء والشق أيضا المشقة ومنه قوله تعالى: «إلا بشق الأنفس» وهذا قد يفتح».
(قَصْدُ السَّبِيلِ) : القصد: مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه.
(جائِرٌ) : حائد عن الاستقامة.
270
الإعراب:
(أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أتى فعل ماض وأمر الله فاعله عبر عن المستقبل بالماضي لأنه بمثابة الأمر الواقع الذي لا محيد عنه، والفاء عاطفة ولا ناهية وتستعجلوه فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والهاء مفعول به. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وعما تنازعه كل من سبحانه وتعالى وما يحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج الى عائد ويحتمل أن تكون موصولة فتحتاج الى تقدير عائد وجملة يشركون لا محل لها على كل حال. (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ينزل الملائكة فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبالروح متعلقان بينزل أو بمحذوف حال أي ملتبسة بالروح ومن أمره متعلقان بمحذوف حال وعلى من يشاء متعلقان بينزل ومن عباده حال. (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أن مخففة وهي وما في حيزها بدل من قوله بالروح أي ينزل الملائكة بأن أنذروا وتقديره بأنه أنذروا فاسم أن ضمير الشأن وجملة أنذروا مقول قول محذوف أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا ولك أن تجعل أن مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الذي فيه معنى القول دون حروفه وأنه سدت مع ما في حيزها مسد مفعول أنذروا لأنه متضمن معنى أعلموا الناس أو تكون أنذروا على معناها الأصلي وأنه نصب بنزع الخافض أي أنذروا بأنه وجملة لا إله إلا أنا خبر أنه وقد تقدم القول مفصلا في «لا إله إلا الله»، فاتقون: الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على الأنبياء وأمرهم بأن ينذروا الناس أنه لا شريك له في الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه، واتقون فعل أمر وفاعل والنون للوقاية وياء المتكلم
271
حذفت لمراعاة الفواصل. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) خلق السموات والأرض فعل وفاعل مستتر والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق في محل نصب على الحال أي محقا وتعالى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة لما. (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) خلق الإنسان فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومن نطفة متعلقان بخلق ومن للابتداء فإذا الفاء عاطفة وإذا الفجائية وهو مبتدأ وخصيم خبر ومبين صفة. (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) الواو عاطفة والأنعام منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده وخلقها فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة مفسرة ولكم خبر مقدم وفيها حال ودفء مبتدأ مؤخر والجملة حالية ويجوز أن تكون مستأنفة ويجوز أن يكون لكم حالا من دفء وفيها الخبر، وقع الاسم المشتغل عنه وهو الانعام بعد عاطف غير مفصول من الاسم بأما مسبوق بفعل وهو خلق الإنسان من نطفة فترجح نصبه لأن المتكلم عاطف جملة فعلية على جملة فعلية والرافع عاطف جملة اسمية على جملة فعليه وتشاكل الجملتين أحسن من تخالفهما وقد يقال: إن في الرفع تخلصا من تقدير العامل فلكل مرجح فكان ينبغي التساوي لا أرجحية النصب ويجاب بأن مراعاة التشاكل أقوى مما ذكر ومنافع عطف على دفء ومنها متعلقان بتأكلون وتأكلون فعل مضارع وفاعل وتقديم الجار والمجرور وهو معمول للفعل يوجب حصره فيه. (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) الواو عاطفة ولكم خبر مقدم وفيها حال وجمال مبتدأ مؤخر وحين ظرف متعلق بمحذوف صفة وجملة تريحون مضاف إليها وكذلك قوله وحين تسرحون وسيأتي مزيد بحث عن الإراحة والتسريح في باب البلاغة. (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ)
272
الواو عاطفة وتحمل أثقالكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والى بلد متعلقان بتحمل وجملة لم تكونوا بالغيه صفة لبلد وبالغيه خبر تكونوا وإلا أداة حصر وبشق الأنفس في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي مشقوقا عليكم. (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ان واسمها واللام المزحلقة ورءوف رحيم خبران. (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً)
والخيل وما بعده عطف على الانعام أي وخلق هؤلاء للركوب والزينة ولتركبوها مضارع منصوب
بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور في موضع نصب مفعول لأجله وزينة عطف على محل لتركبوها وجر الأول بالجر لاختلاف الفاعل لأن الركوب فعل المخاطبين وفاعل الخلق هو الله تعالى أما زينة فهي من فعله تعالى ولذلك نصبت فالمزين والخالق هو الله ويجوز أن تعرب نصبا على الحال من الهاء في تركبوها. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته تعالى وقدرته وان ما تناهى إليهم علمه يعد ضئيلا جدا بالنسبة إلى علمه الواسع. (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) على الله خبر مقدم وقصد السبيل مبتدأ مؤخر ومنها خبر مقدم وجائر صفة لموصوف هو المبتدأ المؤخر أي سبيل جائر أي حائد عن الاستقامة. (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) الواو عاطفة ولو امتناعية شرطية ومفعول شاء محذوف أي شاء هدايتكم واللام رابطة لجواب لو وهداكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأجمعين تأكيد.
البلاغة:
١- الإيجاز في قوله تعالى «حين تريحون وحين تسرحون» فقد انطوت كلمتا «تريحون» و «تسرحون» على الكثير من المعاني والصور، مما يضفي على مقتني هذه الأنعام جمالا ورواء وأبهة ليس
273
في المكنة تصوره لأن الرعاة إذا ردوا الأنعام بالعشي الى مراحها أي مأواها بالليل أو سرحوها عند الغداة إلى المراعي المعشوشبة وعرجوا على الأفنية والبيوت رغت الإبل وخارت البقر وثغت الشاء فتجاوب ذلك كله مع صياح الصبيان وحديث العقائل والأوانس وهن يتهادين متخطرات متوثبات شمل الفرح الجميع، ورقصت النعمة، ورفرفت السعادة وقدم الإراحة على التسريح لأن الجمال في الإراحة أكثر تقبل وهي ملأى البطون حافلة الضروع معسولة الحلب.
٢- المجاز المرسل في قوله «فإذا هو خصيم مبين» لأن الفاء تدل على التعقيب وكونه خصيما مبينا لا يكون عقب خلقه من نطفة ولكنه إشارة إلى ما تؤول إليه حاله فهو مجاز مرسل والعلاقة اعتبار ما سيكون كقوله تعالى «إني أراني أعصر خمرا» أي عنبا يئول إلى الخمر.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ الى ١٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)
274
اللغة:
(تُسِيمُونَ) : ترعون دوابكم من سامت الماشية إذا رعت فهي سائمة وأسامها صاحبها وهي من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض.
قال السيوطي: لم يأت اسم المفعول من أفعل على فاعل إلا في حرف واحد وهو قول العرب: أسمت الماشية من المرعى فهي سائمة ولم يقولوا مسامة وقوله تعالى: «فيه تسيمون» من أسام يسيم واجب المراد أسمتها أنا فسامت هي فهي سائمة كما تقول: أدخلته الدار فدخل فهو داخل.
(ذَرَأَ) : خلق وذرأنا الأرض وذروناها: بذرناها وذرأ الله الخلق وبرأ ومن الذارىء البارئ سواه واللهم لك الذّرء والبرء، ومنك السّقم والبرء، وقد علته ذرأة وهي بياض الشيب أول ما يبدو في الفودين وقد ذرىء رأسه ذرءا ورجل أذرأ وامرأة ذرءاء بيضاء الرأس أو بيضاء الوجه قال:
275
فمرّ ولما تسخن الشمس غدوة بذرءاء تدري كيف تمشي المنائح
أي منحت كثيرا فاعتادت ذلك فهي تسامح بالمشي لا تأبى.
(طَرِيًّا) : الطراوة ضد اليبوسة أي غضا جديدا ويقال طريت كذا أي جددته وفي المصباح: طرو الشيء وزان قرب فهو طري أي غضّ بين الطراوة وطرىء بالهمز وزان تعب لغة فهو طريء بين الطراوة وطرأ فلان علينا يطرأ مهموز بفتحتين طروءا طلع فهو طارئ وطرأ الشيء يطرأ أيضا طرآنا مهموز حصل بغتة فهو طارئ وأطريت العسل بالياء عقدته وأطريت فلانا مدحته بأحسن ما فيه وستأتي النكتة في وصف اللحم بالطراوة أو الطراءة في باب البلاغة.
(حِلْيَةً) : في المصباح: «حلي الشيء بعيني وبصدري يحلى من باب تعب حسن عندي وأعجبني وحليت المرأة حليا ساكن اللام لبست الحلي وجمعه حلي والأصل على فعول مثل فلس وفلوس والحلية بالكسر الصفة والجمع حلى مقصور وتضم الحاء وتكسر وحلية السيف زينته، قال ابن فارس: ولا تجمع وتحلت المرأة لبست الحلي أو اتخذته وحليتها بالتشديد ألبستها الحلي أو اتخذته لها لتلبسه وحليت السويق جعلت فيه شيئا حلوا حتى حلا» وفي القاموس وشرحه وغيرهما: الحلي وجمعه حلي وحليّ والحلية وجمعها حليّ وحلى على غير القياس ما يزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة الكريمة وقول بعض المفسرين: اللؤلؤ والمرجان تفسير معنى للحلية لا تفسير لغة والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأنهن إنما يتزين من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم.
276
(مَواخِرَ) : جواري والمخر شق الماء بحيزومها وعن الفراء هو صوت جري الفلك بالرياح وفي المختار: «مخرت السفينة من باب قطع ودخل جرت تشق الماء مع صوت ومنه قوله تعالى: وترى الفلك مواخر فيه أي جواري» وفي الأساس: «فلك مواخر تمخر الماء تشقه مع صوت ونشأت بنات مخر وهي سحاب الصيف تمخر الجو مخرا واستمخرت الريح استقبلتها بأنفي وخرجت أتمخر الريح وأستنشئها ومخرت الأرض مخرا سقيتها لتطيب».
(تَمِيدَ) : تميل بكم وفي المختار: «ماد الشيء يميد ميدا من باب باع ومادت الأغصان والأشجار تمايلت وماد الرجل: تبختر» وفي القاموس: «ماد يميد ميدا وميدانا تحرك وزاغ والسراب اضطرب والرجل تبختر وأصابه غثيان ودوار من سكر أو ركوب بحر ومنه المائدة: الطعام والخوان عليه الطعام كالميدة فيهما» (عَلاماتٍ) جمع علامة ففي المصباح: «وأعلمت على كذا بالألف من الكتاب وغيره جعلت عليه علامة وأعلمت الثوب جعلت له علما من طراز وغيره وهو العلامة وجمع العلم أعلام وجمع العلامة علامات وعلمت له علامة بالتشديد وضعت له أمارة يعرفها».
الإعراب:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أنزل صلة ومن السماء جار ومجرور متعلقان بأنزل وماء مفعول به ولكم خبر مقدم ومنه متعلقان بمحذوف حال من شراب وشراب مبتدأ مؤخر والجملة صفة لماء ومنه
277
شراب جملة مستأنفة متألفة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر وفيه متعلقان بتسيمون وجملة تسيمون صفة لشجر والباء للسببية أي بسببه ينبت الشجر. (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ينبت فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو ولكم متعلقان بينبت وبه متعلقان بينبت أيضا والباء للسببية والزرع مفعول به والزيتون والنخيل والأعناب عطف على الزرع ومن كل الثمرات عطف على ما تقدم أيضا ومن تبعيضية أي وبعض كل الثمرات.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر ولقوم صفة لآية وجملة يتفكرون صفة لقوم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وسخر لكم الليل فعل وفاعل مستتر ومفعول به ولكم متعلقان بسخر والشمس والقمر معطوفان على الليل والنهار. (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) الواو عاطفة والنجوم مبتدأ ومسخرات خبر والجملة عطف على الجملة السابقة وبأمره متعلقان بمسخرات. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تقدم اعراب نظيرتها. (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) الواو عاطفة وما عطف على الليل والنهار يعني ما خلق فيها من حيوان ونبات وجماد ويجوز أن تنصبه بفعل محذوف أي وخلق وأنبت والمعنى واحد ولكم متعلقان بذرأ وفي الأرض متعلقان بذرأ أيضا ومختلفا حال وألوانه فاعل مختلفا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) تقدم اعرابها.
(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبر وجملة سخر صلة والبحر مفعول به ولتأكلوا اللام للتعليل وتأكلوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بسخر ومنه متعلقان بتأكلوا ولحما مفعول به
278
وطريا صفة. (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) وتستخرجوا عطف على لتأكلوا ومنه متعلقان بتستخرجوا وحلية مفعول به وجملة تلبسونها صفة لحلية. (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو اعتراضية وترى الفلك فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة معترضة ومواخر حال لأن الرؤية بصرية وفيه متعلقان بمواخر ولتبتغوا عطف على لتأكلوا ولعل واسمها وجملة تشكرون خبرها.
(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) وألقى عطف على وسخر وفي الأرض متعلقان بألقى ورواسي صفة لمفعول به محذوف أي جبالا رواسي وأن وما في حيزها مفعول لأجله أي كراهة أن تميل بكم وتضطرب كالمائد الذي يدار به إذا ركب البحر وبكم متعلقان بتميد.
(وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وأنهارا وسبلا عطف على رواسي أو مفعول به لفعل محذوف والتقدير وجعل فيها لأن ألقى فيه معنى جعل قال تعالى: «ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا» ولعل واسمها وجملة تهتدون خبرها. (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) وعلامات عطف على أنهارا وسبلا وبالنجم متعلقان بيهتدون وهم مبتدأ وجملة يهتدون خبره وقال ابن عطية: وعلامات نصب كالمصدر أي فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها وعلامات أي عبرة واعلاما في كل سلوك فقد يهتدى بالجبال والأنهر وبالسبل، وهذا كلام غير مفهوم ولعل أبا البقاء كان على حق حين أعربها مفعولا لفعل محذوف أي ووضع فيها علامات.
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف ومن مبتدأ وجملة يخلق صلة والكاف خبر من وجملة لا يخلق صلة لمن الثانية والهمزة انكار ثان والفاء عاطفة ولا نافية وتذكرون أصله تتذكرون فحذفت إحدى التاءين.
279
البلاغة:
١- التتميم:
في قوله تعالى «لتأكلوا منه لحما طريا» تتميم احتياط وقد تقدم أن التتميم فن يشتمل على كلمة لو طرحت من الكلام نقص معناه كما تقدم أنه ثلاثة أنواع تتميم نقص وتتميم احتياط وتتميم مبالغة وتقدمت الأمثلة عليه ونقول هنا انه علم سبحانه انه إذا لم يصف اللحم بالطراوة لم يكن مظنة للفساد ولكن المعروف أن الفساد الى اللحم الطري أكثر من غيره فلزم وصفه بها ليسارع الى أكله خيفة الفساد عليه، وللفقهاء مباحث في لحم السمك تدل على ذكاء وألمعية وسنشير إليها في باب الفوائد إشارة سريعة، ولهذا التميم فائدة عامة وهي التعليم والإرشاد إلى أن اللحم لا ينبغي أن يتناول إلا طريا والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون.
٢- الالتفات:
في قوله تعالى: «وبالنجم هم يهتدون» التفات من الخطاب الى الغيبة والفائدة منه انه لما كانت الدلالة من النجم أنفع الدلالات وأوضحها في البر والبحر نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم ولئلا يظن أن المخاطب مخصوص بذلك وزاد التأكيد بتقديم الجار والمجرور كأنما يشير من طرف خفي الى أن دلالة غير النجم ضئيلة لا يؤبه لها.
٣- التشبيه المقلوب:
وذلك في قوله تعالى «أفمن يخلق كمن لا يخلق» إذ مقتضى
280
الظاهر عكسه لأن الخطاب لعباد الأوثان حيث سموها آلهة تشبيها به تعالى فجعلوا غير الخالق كالخالق فجاءت المخالفة في الخطاب كأنهم لمبالغتهم في عبادتها ولا سفافهم- بالتالي- وارتكاس عقولهم صارت عندهم كالأصل وصار الخالق الحقيقي هو الفرع فجاء الإنكار على وفق ذلك. وللتشبيه المقلوب أسرار كثيرة ومنها هذا السر الذي ألمعنا اليه ومنها أن ينسى الإنسان أن المشبه به هو المقدّم لشدة ولعه بالمشبه فيعكس التشبيه كما فعل البحتري في وصف البركة التي بناها المتوكل على الله إذ قال:
كأنها حين لجت في تدفقها يد الخليفة لمّا سال واديها
والمعهود أن تشبه يد الخليفة في تدفقها بالكرم بالبركة إذا تدفقت بالماء.
هذا وقد جرى الشعراء على مذهب القلب كثيرا فمنهم من أصاب كما أصاب أبو عبادة البحتري ومنهم من أخطأ وتعسف، وزعم أبو بكر الصولي أن أبا تمام قد أخطأ في قلبه بقوله:
طلل الجميع لقد عفوت حميدا وكفى على رزئي بذاك شهيدا
قال أبو بكر: «أراد وكفى بأنه مضى حميدا شاهدا على اني رزئت وكان وجه الكلام أن يقول: وكفى برزئي شاهدا على أنه مضى حميدا لأن حمد أمر الطلل قد مضى وليس بشاهد ولا بمعلوم ورزؤه بما ظهر من تفجعه شاهد معلوم فلأن يكون الحاضر شاهدا على الغالب أولى من أن يكون الغائب شاهدا على الحاضر» ومضى الصولي في نقده منكرا أن يكون القلب قد ورد في القرآن وان ما احتج به أصحاب
281
أبي تمام من قلب في القرآن على ما جاء به في بيته من قلب ليس صحيحا رغم قول المفسرين وانه لهذا لا يصحّ القياس عليه فلا يصح القلب في بيت أبي تمام.
وهذا تعسف وتحامل من الصولي حدا به الى انكار ما انعقد الإجماع ودل المنطق عليه وسنعود الى مناقشته في مكان آخر من هذا الكتاب.
٤- التغليب:
في قوله تعالى أيضا «أفمن يخلق كمن لا يخلق» إذ المراد بمن لا يخلق الأصنام وجاء بمن الذي هو للعقلاء ذوي العلم وذلك لأنهم لما عبدوها وسموها آلهة أجروها مجرى أولي العلم فجيء بمن على اعتقادهم ووفق ما هو مركوز في سلائقهم، وأيضا للمشاكلة بينها وبين الخالق الحقيقي وهو المعبر عنه بقوله «أفمن يخلق كمن لا يخلق» قال العز بن عبد السلام هذه الآية مشكلة لأن قاعدة التشبيه تقتضي أن يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق ولا يقال انهم كانوا يعظمون الأصنام أكثر من الله لأنهم لم يقولوا ذلك وإنما قالوا: نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى بخلاف قوله تعالى: أفنجعل المسلمين كالمجرمين وقوله: أم نجعل المتقين كالفجار فإنهم لما كانوا يقولون نحن نسود في الآخرة كما سدنا في الدنيا جاء الجواب على وفق معتقدهم انهم أعلى والمؤمنون أدنى.
وأجاب شيخ الإسلام زكريا في فتح الرحمن: «بأن الخطاب لعباد الأوثان وهم بالغوا في عبادتها حتى صارت عندهم أصلا في العبادة والخالق فرعا فجاء الإنكار على وفق ذلك ليفهموا المراد على معتقدهم.
282
الفوائد:
اللحم الطري ولحم السمك:
من طرائف الفقهاء أنهم يقولون: إذا حلف الرجل لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث فإذا اعترض عليهم معترض بأن الله تعالى سماه لحما قالوا إن الأمر مبني على العادة وعادة الناس إذا ذكر اللحم على إطلاقه لا يفهم منه السمك قالوا: ألا ترى أنه لو حلف لا يركب دابة فركب كافرا لا يحنث وإن سماه الله دابة في قوله: «إن شر الدواب عند الله الذين كفروا» وكذا لو خرب بيت العنكبوت لا يحنث بيمينه لا يخرب بيتا وكذلك الألية وشحم البطن ليسا بلحم لأنهما لا يستعملان استعمال اللحم ولا يتخذ منهما ما يتخذ من اللحم ولا يسميان لحما عرفا إلى آخر هذه المباحث التي يرجع إليها في المطولات من كتب الفقه.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٨ الى ٢٣]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢)
لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
283
الإعراب:
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) جملة مستأنفة مسوقة للتذكير الاجمالي بأنعم الله وآلائه وإن شرطية وتعدوا فعل الشرط والواو فاعل ونعمة الله مفعول به ولا نافية وتحصوها جواب الشرط والواو فاعل والهاء مفعول به. (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها واللام المزحلقة للتوكيد وغفور خبر إن الاول ورحيم خبرها الثاني. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) الله مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة تسرون صلة وما تعلنون عطف على ما تسرون. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) والذين مبتدأ وجملة يدعون صلة ومن دون الله حال وجملة لا يخلقون خبر الذين وشيئا مفعول به والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وجملة يخلقون خبر وهو بالبناء للمجهول. (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي هم أموات فهو خبر لمبتدأ محذوف وهو أولى من جعله خبرا ثانيا للذين وان كان لا يمتنع وغير أحياء صفة لأموات قصد به التأكيد وما يشعرون عطف على أموات فهو بمثابة الجزء الثاني ل «هم» المقدرة أو خبر ثالث للذين وأيان ظرف ليبعثون فهو متعلق به واختلف في ضمير يبعثون فقيل هو للاصنام والمعنى وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء وفي ذلك من التهكم ما فيه وهذا أرجح ما قيل فيه ولهذا اقتصرنا عليه واجتزأنا به. (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) إلهكم مبتدأ وإله خبر وواحد صفة والفاء الفصيحة والذين مبتدأ وجملة لا يؤمنون بالآخرة صلة وقلوبهم مبتدأ ومنكرة خبر لقلوبهم والجملة الاسمية خبر الذين وهم الواو حالية وهم مبتدأ ومستكبرون خبر والجملة في محل نصب على
284
الحال. (لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) لا جرم تقدم القول فيه في سورة هود ونضيف هنا ان لا نافية وجرم بمعنى بد وهذا بحسب الأصل أما هنا فقد ركبت لا مع جرم تركيب خمسة عشر وجعلا بمعنى فعل معناه حق وثبت وأن وما في حيزها فاعله وجملة يعلم خبر أن وجملة يسرون صلة وما يعلنون عطف على ما يسرون. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) ان واسمها وجملة لا يحب خبرها والمستكبرين مفعول يحب.
الفوائد:
(أَيَّانَ) : اسم شرط للزمان يجزم فعلين ملحقا بما أو غير ملحق بها، كقول الشاعر:
أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا
وقول الآخر وقد ألحقها ما الزائدة للتوكيد:
إذا النعجة الأدماء باتت بقفره فأيان ما تعدل به الريح تنزل
وتكون اسم استفهام عن الزمان مثل متى وأصلها «أي آن» فهي مركبة من أي المتضمنة معنى الشرط وآن بمعنى حين فصارتا بعد التركيب اسما للشرط أو للاستفهام مبنيا على الفتح في محل نصب على الظرفية الزمانية.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٩]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
285
اللغة:
(أَساطِيرُ) : جمع أسطورة كأحاديث وأضاحيك وأعاجيب جمع أحدوثة وأضحوكة وأعجوبة وفي القاموس والتاج: الإسطار والأسطار والأسطور والأساطير وأيضا كلها بالهاء ما يكتب والجمع أساطير والحديث الذي لا أصل له.
(أَوْزارَهُمْ) جمع وزر وهو الذنب.
286
الإعراب:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة قيل لهم مضاف إليها الظرف وجملة ماذا أنزل ربكم نائب فاعل لقيل والكلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر نماذج من مثالب المشركين، وماذا: تقدم انه يجوز فيها وجهان فإما أن تكون كلها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لأنزل وإما أن تكون ما وحدها اسم استفهام وذا اسم موصول في محل رفع خبر، وأنزل ربكم فعل وفاعل وجملة قالوا لا محل لها وأساطير الأولين خبر لمبتدأ محذوف أي هي أساطير الأولين أو المنزل أساطير الأولين وفي تقديره المنزل بلاغة زائدة لأنه يكون تهكما أي على فرض أنه منزل فهو أساطير لا طائل تحتها. (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) اللام للتعليل ويحملوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل وأوزارهم مفعول به وكاملة حال ويوم القيامة ظرف متعلق بيحملوا ولك أن تجعل اللام للعاقبة وعلى كل حال هي متعلقة بقوله قالوا أساطير الأولين فإما أن يكون المعنى أنهم جنوا على أنفسهم بأيديهم وقالوا ما يسبب لهم حمل الأوزار أو أنهم فعلوا ذلك جاهلين غافلين فكانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم التي اجترحوها سيأتي سر قوله «كاملة» في باب البلاغة. (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ومن أوزار عطف على أوازرهم فالجار والمجرور متعلقان بيحملوا ومن للتبعيض أي وبعض أوزار من يضل بضلالهم وهذا ما ذهبت إليه طائفة من المفسرين على رأسهم الزمخشري والبيضاوي والجلال وقال الواحدي: «ولفظ من في قوله «ومن أوزار الذين يضلونهم» ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص
287
عن الاتباع بعض الأوزار وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام:
«لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» لكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الكفار» وهو كلام جميل أيضا وجملة يضلونهم صلة الذين وبغير علم حال من المفعول به أي يضلون من لا يعلم انهم ضلال ويجوز أن تكون من الفاعل المسند إليه الإضلال والمعنى أنهم يقدمون على الإضلال جهلا منهم بما يترتب عليهم من العذاب الشديد. وألا أداة تنبيه وساء فعل ماض لانشاء الذم وما تمييز أي شيئا أو فاعل ساء وجملة يزرون صفة لما على الاول أو صلة لها على الثاني وعلى كل حال المخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم. (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) جملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي ﷺ عما كابده من تعنتهم ومكرهم وقد حرف تحقيق ومكر الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الذين فأتى الله بنيانهم عطف على ما تقدم وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن القواعد حال أو جار ومجرور متعلقان بأتى. (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) الفاء عاطفة وخر فعل ماض وعليهم جار ومجرور متعلقان بخر والسقف فاعل ومن فوقهم حال وأتاهم العذاب فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن حيث متعلقان بأتاهم وجملة لا يشعرون مضافة إلى الظرف. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) ثم حرف عطف ويوم ظرف متعلق بيخزيهم والقيامة مضاف اليه ويخزيهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدم وشركائي مبتدأ مؤخر والذين صفة لشركائي وجملة كنتم صلة وجملة تشاقون خبر كنتم وفيهم متعلقان بتشاقون. (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) قال الذين فعل
288
وفاعل وجملة أوتوا صلة والواو نائب فاعل والعلم مفعول به ثان وإن واسمها واليوم ظرف متعلق بالخزي لأنه مصدر يعمل عمل الفعل والسوء عطف على الخزي وعلى الكافرين خبر إن. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الذين نعت للكافرين أو بدل منه وجملة تتوفاهم الملائكة صلة والجملة فعل ومفعول به وفاعل وظالمي أنفسهم حال من مفعول تتوفاهم وأنفسهم مضاف اليه وتتوفاهم مضارع بمعنى الماضي.
(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) يجوز أن تكون الفاء عاطفة وألقوا معطوف على توفاهم لأنه بمعنى توفتهم ويجوز أن يكون ألقوا معطوفا على قال الذين أوتوا العلم ويجوز أن تكون للاستئناف، وألقوا فعل وفاعل والسلم مفعول به، والسلم المسالمة والإخبات وجملة ما كنا مقول لقول محذوف أي قائلين وما نافية وكنا كان واسمها وجملة نعمل خبر كنا ومن زائدة وسوء مجرور لفظا منصوب محلا على انه مفعول به.
(بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلى حرف جواب وان واسمها وخبرها وبما متعلقان بعليم وجملة كنتم تعملون صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم. (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) الفاء الفصيحة وادخلوا فعل أمر وفاعل وأبواب مفعول به على السعة وجهنم مضاف اليه وخالدين حال من فاعل ادخلوا وفيها متعلقان بخالدين والفاء استئنافية واللام للابتداء وبئس فعل ماض لانشاء الذم ومثوى المتكبرين فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي.
البلاغة:
١- في قوله تعالى: «قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم» استعارة تمثيلية فقد شبه حال
289
جميع الماكرين المبطلين المدبرين للمكايد والمؤامرات والذين يحاولون إيقاع الضرر والمكر بالمؤمنين ونصب الشباك لهم بحال قوم بنوا بنيانا شامخا ودعموه بأساطين البناء وقواعده فطاح البنيان من الأساطين نفسها بأن وهنت ولم تقو على إمساك ما أقيم عليها فتهدم السقف وهوى عليها.
هذا وقد ذكر علماء البلاغة ان للتمثيل مظهرين أحدهما أن يظهر المعنى ابتداء في صورة التمثيل وثانيهما ما يجيء في أعقاب المعاني لإيضاحها وتقريرها في النفوس وهو على الحالين يكسو المعاني أبهة ويرفع من أقدارها ويضاعف قواها في تحريك النفوس لها ودعوة القلوب إليها. تأمل قول أبي الطيب:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
لو كان عبر عن المعنى بقوله مثلا: ان الجاهل لمفاسد الطبع يتصور المعنى بغير صورته ويخيل اليه في الصواب انه خطأ فهل كنت تجد هذه الروعة؟ وهل كان يبلغ من التهجين للجاهل والكشف عن نقصه ما بلغ التمثيل في البيت؟ ومهما بالغت في تصوير المؤامرات المبطلة يدبرها المبطلون، ويحوكونها من خلف ستار حتى إذا خيل لهم انها قد أحكمت واستطاعت أن توقع الخصوم في شراكها إذا بها تحبط فجأة فهل يبلغ ذلك من نفسك مبلغ مشهد البناء وقد تطاول وتسامق وتشامخ وأحكمه بانيه إحكاما خيل اليه معه أنه ضمن له الخلود فما عتم أن تزلزلت منه أواخيه وصياصيه وانهار بمن وعلى من فيه وفيما يلي طائفة من أبيات التمثيل لتقيس عليها:
قال ابن لنكك يهجو قوما حسنت مناظرهم وقبحت مخابرهم.
290
في شجر السرو منهم مثل... له رواء وما له ثمر
وقال ابن الرومي في المعنى نفسه:
فغدا كالخلاف يورق للعي... ين ويأبى الإثمار كل الإباء
وتأمل كذلك قول أبي تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة... طويت أتاح لها لسان حسود
مقطوعا عن البيت الذي يليه برغم أن البيت واضح المعنى ثم اتبعه بالبيت التالي:
لولا اشتعال النار فيما جاورت... ما كان يعرف طيب عرف العود
وانظر هل نشر المعنى تمام حلته وأظهر المكنون من حليته وزينته واستحق التقديم كله إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير.
وسيأتي من روائع التمثيل في كتابنا ما يذهل الألباب.
عودة إلى الآية:
والآية التي نحن بصددها من أرقى ما يصل اليه التمثيل وهي خالدة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة فالبناء كان ولا يزال يمثل القوة والجدّة والثراء، وتداعيه وتطوحه يمثل قديما وحديثا زوال ذلك كله وفناءه ذلك لأن الاستعارة التمثيلية أساسها التشبيه فلا عجب أن تختلف فبها الأذواق باختلاف الأزمنة كما اختلفت في تقدير التشبيه وها نحن أولاء اليوم لا نستسيغ كثيرا من الاستعارات التي أوحت بها البيئة
291
الماضية والتي تبقى رواسم جامدة يبهرنا لفظها أكثر مما يوضحه في نفوسنا معناها أما الاستعارة التي تتجاوز ظروف الزمان والمكان وتضمن لها الجدّة الباقية بقاء الدهر فهي الاستعارة التي تحقق غرض القائل وتكون فيها الصورة المشبهة بها واضحة معروفة تصور ما تريد أن تصوره بوضوح وتأثير وإيجاز وتضاف إليها روافد كهذه الآية عند ما قال «فخر عليهم السقف من فوقهم» فقد أكد التمثيل بقوله من فوقهم لأن السقف لا يخر إلا من فوق لأنه أشعر بخروره فوقهم أنهم تحته فأزال احتمال أن يكونوا غير موجودين تحته وأكد إبطال مؤامراتهم بموتهم متأثرين بما نصبوه للآخرين على حد قول المثل: «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها».
٢- الاحتراس:
في قوله تعالى «فخر عليهم السقف من فوقهم» فإن لقائل أن يقول: السقف لا يكون إلا من فوق فما معنى ذكر من فوقهم والجواب انه احتراس من احتمال أن السقف قد يكون أرضا بالنسبة لغيرهم، فإن كثيرا من السقوف يكون أرضا لقوم وسقفا لقوم آخرين فرفع الله تعالى هذا الاحتمال بجملتين وهما قوله «عليهم» وقوله «خر» لأنها لا تستعمل إلا فيما يهبط أو يسقط من العلو إلى السفل.
هذا وقد ساق بعض النقاد بيتا في شواهد العيوب وهو:
زياد بن عين عينه تحت حاجبه وبيض الثنايا تحت خضرة شاربه
فقال: وجه العيب فيه كون العين لا تكون إلا تحت الحاجب.
292
والثنايا تحت الشارب، وقيل في الرد على هذا العائب: ان الشاعر أراد أن هذا الممدوح خلق في أحسن تقويم وولد كذلك ولم يولد مشوه الخلق ولا معيب الصورة ولم يطرأ عليه وهو جنين ما ينقص خلقه أو يشوهه.
وقال ابن الاعرابي: «وإنما قال: من فوقهم ليعلمك انهم كانوا حالين تحته والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه فجاء بقوله: من فوقهم ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب» وهو كلام لا بأس به.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
293
الإعراب:
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) وقيل للذين قيل فعل ماض مبني للمجهول واختلف في ضميره وأقرب الأقوال انهم وفود العرب الذين كانت تبعثهم القبائل الى مكة وللذين متعلقان بقيل وجملة اتقوا صلة وماذا تقدم القول فيها كثيرا وأنزل ربكم فعل وفاعل وخيرا مفعول لفعل محذوف أي أنزل خيرا وعبارة الزمخشري «فإن قلت لم رفع الأول ونصب هذا قلت فرقا بين جواب المقر وجواب الجاحد يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للانزال فقالوا: خيرا أي أنزل خيرا وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين وليس من الانزال في شيء». (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) للذين خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة وفي هذه متعلقان بأحسنوا والدنيا بدل وحسنة مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة ويجوز أن تكون مفسرة لقوله «خيرا» ولدار الآخرة اللام للابتداء ودار الآخرة مبتدأ وخير خبر ولنعم دار المتقين اللام للابتداء ايضا ونعم فعل ماض لإنشاء المدح ودار المتقين فاعل والمخصوص بالمدح محذوف أي هي (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) جنات خبر لمبتدأ محذوف ويجوز أن تكون هي المخصوص بالمدح فتعرب مبتدأ خبره جملة نعم دار المتقين أو خبرا لمبتدأ محذوف والأول أرجح وأقل تكلفا وجملة يدخلونها حالية.
(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) جملة تجري من تحتهم الأنهار حال أيضا ولهم خبر مقدم وفيها حال وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وجملة لهم فيها حال ثالثة. (كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويجوز أن تعرب حالا وقد تقدم تقرير ذلك كثيرا ويجزي الله المتقين فعل وفاعل ومفعول به. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
294
الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ)
الذين نعت للمتقين أو بدل منه وجملة تتوفاهم صلة والهاء مفعول به والملائكة فاعل وطيبين حال من المفعول في تتوفاهم أي طاهرين من الشوائب. (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جملة يقولون حال من الملائكة مقارنة أو مقدرة وسيأتي تعريفهما في باب الفوائد وسلام مبتدأ وعليكم خبر وادخلوا الجنة فعل أمر وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بادخلوا وجملة كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد.
َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)
هل حرف استفهام ومعناه النفي وينظرون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول ينظرون وأو حرف عطف ويأتي أمر ربك عطف على تأتيهم الملائكة أي العذاب. َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
تقدم إعراب كذلك قريبا فجدد به عهدا وفعل الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الموصول. َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
الواو عاطفة وما نافية وظلمهم الله فعل ومفعول به وفاعل والواو حالية أو اعتراضية ولكن مخففة مهملة وكان واسمها وجملة يظلمون خبرها وأنفسهم مفعول مقدم لقوله يظلمون. (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) الفاء عاطفة وأصابهم فعل ومفعول به مقدم وسيئات فاعل وما موصولة أو مصدرية وهي على كل مضافة لسيئات. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وبهم متعلقان بحاق وما فاعل وجملة كانوا صلة وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا.
الفوائد:
الحال بالنسبة للزمان:
للحال بالنسبة للزمان ثلاثة أقسام:
295
١- مقارنة وهي الغالبة نحو: «هذا بعلي شيخا».
٢- مقدرة وهي المستقبلة نحو: «ادخلوها خالدين».
٣- ومحكية وهي الماضية نحو: جاء زيد أمس راكبا.
وفي الآية التي نحن بصددها وهي «يقولون سلام عليكم» يجوز أن تكون مقارنة إن كان القول واقعا منهم في الدنيا وأن تكون مقدرة إن كان القول واقعا منهم في الآخرة.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)
الإعراب:
(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لتقرير مغالطتهم وقولهم كلمة حق أريد بها باطل واحتجاجهم على الله تعالى بمشيئته التي لا حجة
296
لهم فيها مع ما خلق لها من اختيار النجدين وسلوك أحد الطريقين.
وقال الذين فعل وفاعل وجملة أشركوا صلة ولو امتناعية شرطية وشاء الله فعل وفاعل والمفعول محذوف أي لو شاء خلاف طريقتنا وما يصدر عنا وسيأتي مزيد بحث عن حذف المفعول به في باب البلاغة وما نافية وعبدنا فعل وفاعل ومن دونه حال ومن زائدة وشيء مجرور لفظا مفعول عبدنا محلا ونحن تأكيد لفاعل عبدنا والمعنى ما عبدنا شيئا حال كونه دونه ولا الواو عاطفة ولا نافية وآباؤنا عطف على نحن. (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) الواو عاطفة وحرمنا فعل وفاعل ومن دونه حال من شيء ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا.
(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كذلك نعت لمصدر محذوف مفعول مطلق وفعل الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة. (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام معناه النفي وعلى الرسل خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفته. (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وبعثنا فعل وفاعل وفي كل أمة متعلقان ببعثنا ورسولا مفعول به.
(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أن يجوز أن تكون مصدرية وهي مع مدخولها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان ببعثنا ويجوز أن تكون مفسرة لأن البعث فيه معنى القول واعبدوا فعل أمر وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به واجتنبوا الطاغوت فعل أمر وفاعل ومفعول به.
(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) الفاء تفريعية استئنافية ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وهي نكرة موصوفة وجملة هدى الله صفة لمن ومنهم من حقت عليه الضلالة عطف على سابقتها وهي مثلها في الإعراب. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ
297
عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)
الفاء الفصيحة أي إن أردتم الاهتداء والاستدلال على الطريق المثلى فسيروا وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بسيروا فانظروا الفاء عاطفة وانظروا فعل أمر وفاعل وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة المكذبين اسمها المؤخر.
البلاغة:
إيجاز الحذف:
الحذف للايجاز فقد حذف مفعول شاء في قوله «لو شاء الله ما عبدنا من دونه» أي لو شاء هدايتنا، ولحذف المفعول به لطائف هي أكثر من أن تذكر، ذلك أن أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدية فتارة يذكرونها ويريدون أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين وعندئذ يكون الفعل المتعدي كغير المتعدي ومثال ذلك قول الناس: فلان يحلّ ويعقد، ويأمر وينهى، ويضر وينفع، والقسم الثاني أن يكون للفعل مفعول مقصود إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل يدل عليه وقد يكون ذلك جليا لا صنعة فيه كقولهم: «أصغيت اليه» أي بأذني، والخفي منه ما تدخله الصنعة، فمن الخفي أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص إلا أنك تنساه وتخفيه عن نفسك وتوهم أنك إنما تذكر الفعل لتثبت نفس معناه من غير أن تعديه إلى مفعول كقول البحتري:
شجو حساده وغيظ عداه أن يرى مبصر ويسمع واع
المعنى أن يرى مبصر محاسنه ويسمع واع أخباره، ومن الخفي
298
ايضا أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قد علم انه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه بدليل الحال أو ما سبق من الكلام إلا أنك تطرحه وتتناساه لكي تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل وتخلص له وتنصرف بجملتها اليه، قال طفيل الغنوي في بني جعفر بن كلاب:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبو أن يملونا ولو أن أمّنا تلاقي الذي يلقون منا لملّت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى حجرات أدفأت وأظلت
حذف المفعول في أربعة مواضع هي «لملت» و «ألجئوا» و «أدفأت» و «أظلت» لأن الأصل لملتنا وألجئونا الى حجرات أدفأتنا وأظلتنا وقول الشاعر «ولو أن أمنا تلاقي الذي لا قوه منا لملت» يتضمن أن ما لا قوه منا قد بلغ من القوة الى أن يجعل كل أم تملّ وتسأم وان المشقّة بلغت من ذلك حدا يجعل الأم له تمل الابن وتتبرم به مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد وذلك انه وإن قال «أمنا» فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها ولو قال لملتنا لم يصلح لأنه يراد به معنى العموم وان بحيث يملّ كل أم من كل ابن، ومن ذلك حذف المفعول بعد فعل المشيئة كقوله:
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم كرما ولم تهدم مآثر خالد
والأصل: لو شئت أن تفسد سماحة حاتم لم تفسدها ثم حذف ذلك من الأول استغناء بدلالة في الثاني عليه ثم هو على ما تراه من الحسن والغرابة لأن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف
299
فليس يخفى أنك لو رجعت إلى الأصل لصرت إلى كلام غث وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس.
ويعلل عبد القاهر الجرجاني لجمال حذف المفعول بعد فعل المشيئة بأن في البيان بعد الإبهام وبعد تحريك النفس الى معرفته لطفا ونبلا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك فأنت إذا قلت لو شئت علم السامع انك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء فهو يضع في نفسه أن هاهنا شيئا تقتضيه المشيئة فاذا قلت لم تفسد سماحة حاتم عرف ذلك الشيء.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٧ الى ٤٢]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
الإعراب:
(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) إن شرطية
300
وتحرص فعل الشرط وعلى هداهم متعلقان بتحرص أي ترغب فيه، فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها وجملة لا يهدي خبرها ومن اسم موصول مفعول به وجملة يضل صلة وقيل جواب الشرط محذوف وجملة فإن الله لا يهدي تعليل للجواب والتقدير لا تقدر أنت ولا يقدر أحد على هدايتهم. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية ولهم خبر ما مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين اسم ما محلا أو مبتدأ مؤخر ومجرور لفظا. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) وأقسموا فعل وفاعل وبالله جار ومجرور متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم نصب على المصدرية وقيل مصدر في موضع الحال أي جاهدين والجملة عطف على وقال الذين أشركوا أو استئنافية إخبارية. (لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) لا نافية ويبعث الله من يموت فعل وفاعل ومفعول والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وسمي الحلف قسما لأنه يكون عند انقسام الناس الى مصدق ومكذب وبلى حرف جواب أي بلى يبعثهم لأنه إثبات لما بعد النفي ووعدا عليه حقا مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى وقيل حقا صفة لوعدا وكذا عليه، وعليه متعلقان بحقا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الجملة حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) اللام للتعليل ويبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بما دل عليه بلى أي يبعثهم ليبين ولهم متعلقان بيبين والذي مفعول به وجملة يختلفون صلة وفيه متعلقان بيختلفون. (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) وليعلم عطف على ليبين والذين فاعل وجملة كفروا صلة وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلم وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكاذبين خبر كانوا. (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنما كافة ومكفوفة وقولنا مبتدأ ولشيء جار ومجرور متعلقان بقولنا وإذا ظرف متعلق بقولنا وجملة أردناه مضافة للظرف
301
وأن ومدخولها مصدر مؤول خبر قولنا وله متعلقان بنقول وكن فعل أمر من كان التامة وجملة كن مقول القول، فيكون: الفاء عاطفة ويكون معطوف على مقدر تفصح منه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول له ذلك فيكون، واما جواب لشرط محذوف فتكون فصيحة أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون وسيأتي مزيد بحث عن هذا القول والمقول والأمر والمأمور في باب البلاغة والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير القدرة على البعث أو كيفية التكوين على الإطلاق إبداء وإعادة. (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) والذين مبتدأ وجملة هاجروا صلة أي انتقلوا من مكة الى المدينة، ومنهم من هاجر الى الحبشة فجمع بين الهجرتين وفي الله متعلقان بهاجروا وفي للتعليل أي لإقامة دين الله ومن بعد حال وما مصدرية مؤولة مع مدخولها بمصدر مضاف الى بعد، أي من بعد ظلمهم بالأذى من أهل مكة. (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) اللام موطئة للقسم وجملة نبوئنهم خبر الذين وفي الدنيا حال وحسنة صفة لمصدر محذوف أي تبوئة حسنة فهي نائب مفعول مطلق ولك أن تعربها مفعولا ثانيا لنبوئنهم لتضمن معناه نعطينهم فتكون صفة لمحذوف أي دارا حسنة (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الواو حالية واللام للابتداء وأجر الآخرة مبتدأ وأكبر خبر ولو شرطية وكان واسمها وخبرها. (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الذين خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين صبروا فمحله الرفع أو منصوب على المدح أي أعني الذين صبروا فمحله النصب وجملة صبروا صلة وعلى ربهم جار ومجرور متعلقان بيتوكلون ويتوكلون فعل مضارع وفاعل.
البلاغة:
١- إنما:
«إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» عقد الامام
302
عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الاعجاز فصلا ممتعا عن إنما ننقل خلاصته، فقد وقف يستلهم معاني «إنما» ويرى أن الوقوف فيها عند قول النحاة: انه ليس في انضمام «ما» إلى «ان» فائدة أكثر من أنها تبطل عملها خطأ بيّن، وأصل انما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا ينكر صحته أو لما ينزل هذه المنزلة فمن الاول قوله تعالى «انما يستجيب الذين يسمعون» فكل عاقل يعلم انه لا تكون استجابة إلا ممن يعقل ما يقال له ويدعى اليه ومثال ما ينزل هذه المنزلة قول ابن الرقيات:
انما مصعب شهاب من الله تجلّت عن وجهه الظلماء وتفيد انما في الكلام الذي بعدها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره وتجعل الأمر ظاهرا فإذا قلت إنما جاءني زيد عقل منه أنك أردت أن يكون الجائي غيره فمعنى الكلام معها شبيه بالمعنى في قولك: جاءني زيد لا عمرو إلا أن لها مزية وهي انك تعقل معها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة وتجعل الأمر ظاهرا في أن الجائي زيد.
٢- الاستعارة التمثيلية: في قوله «كن فيكون» فهي استعارة للكينونة تمثل سرعة الإيجاد عند تعلق الارادة وليس هناك أمر حقيقة ولا كاف ولا نون وإلا لو كان هناك أمر لتوجه أن يقال إن كان الخطاب للشيء حال عدمه فلا يعقل لأن خطاب المعدوم لا يعقل وإن كان بعد وجوده ففيه تحصيل الحاصل وإنما القصد منه تصوير سرعة الحدوث بما لا يتجاوز أمده النطق بلفظ كن وما أسهلها.
٣- الاخبار عن الماضي بالمستقبل أبلغ من الاخبار بالفعل الماضي وذلك في قوله تعالى «وعلى ربهم يتوكلون» فالظاهر أن المعنى على
303
المضي والتعبير بالمضارع لاستحضار تلك الصورة البديعة حتى كأن السامع يشاهدها وقد تقدم بحثه.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٧]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
اللغة:
(الزُّبُرِ) : الكتب جمع زبور بمعنى مزبور.
(تَخَوُّفٍ) : تنقص وهو من قولك تخوفته وتخونته إذا تنقصته قال زهير بن أبي سلمى- وقيل هو لأبي كبير الهذلي-:
تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السبفن
والمعنى يأخذهم على أن ينتقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا وعن عمر بن الخطاب أنه سأل عن معنى التخوف
304
في قوله تعالى «أو يأخذهم على تخوف» فيقوم له رجل من هذيل ويقول: هذه لغتنا التخوف التنقص قال عمر: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم وأنشد البيت الآنف فقال عمر: عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم.
الصحابة والغريب في القرآن:
بدأت مدرسة الرسول ﷺ تترسّم خطاه في التفسير وتحفظ ما نقل عنه وترويه وقد تتزيد فيه بشرح لفظ غريب وعلى الرغم من هذا لا نعدم بعض الغريب في آيات الكتاب توفقوا عنده من ذلك ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن ابراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى: «وفاكهة وأبّا» فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ ونقل عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «وفاكهة وأبّا» فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع الى نفسه فقال: إن هذا لهو الكلف يا عمر، وقد انقسم الصحابة في صدر الإسلام الى قسمين: متحرج من القول في القرآن ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعبد الله بن عمر وكان عبد الله يأخذ على عبد الله بن عباس تفسيره القرآن بالشعر، والقسم الثاني الذين لم يتحرجوا وفسروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول أو حسب فهمهم الخاص بالمقارنة الى الشعر العربي وكلام العرب ومن هؤلاء علي ابن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومن أخذ عنهما وقد وقف ابن عباس على رأس المفسرين بالرأي المتخذين شعر العرب وسيلة الى كشف معاني القرآن وكان علي بن أبي طالب يثني على عبد الله بن عباس ويقول:
305
كأنما ينظر الى الغيب من ستر رقيق ومن هؤلاء أيضا ابن مسعود وأبي ابن كعب وغيرهما وتبعهم الحسن البصري ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم ويقول أحمد أمين في كتابه الممتع فجر الإسلام ما خلاصته ان هؤلاء المفسرين من الصحابة والتابعين كانوا ينهجون منهجا يتلخص في الاسترشاد بحديث رسول الله وبروح القرآن وبالشعر العربي والأدب الجاهلي بوجه عام ثم عادات العرب في جاهليتها وصدر إسلامها وما قابلهم من أحداث وما لقي رسول الله من عداء ومنازعات وهجرة وحروب
لمحة عن ابن عباس ومدرسته:
وشق ابن عباس طريقه بين هؤلاء جميعا متزعما مدرسة خاصة تسلطت على التفسير وطبعته بطابعها وقد أورد السيوطي في «الإتقان» مسائل ابن الأزرق المائة في القرآن وجواب ابن عباس عليها بالشعر مفسرا غريب كل آية ببيت ويقول ابن عباس في تفسير القرآن بالشعر:
إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي ويقول:
إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب، وكان إلمام ابن عباس واسعا بلغة القرآن ومعانيه حتى انه قال: كل القرآن أعلم إلا أربعا: غسلين وحنانا والأواه والرقيم.
وقد بدأت بمحاولات ابن عباس مدرسة جديدة في التفسير تكشف عن أسلوب القرآن ومعانيه بمقارنته بالأدب العربي شعره ونثره ومهدت هذه المدرسة لقيام حركة واسعة لجمع اللغة والشعر من مضارب الخيام وبوادي العرب ليواجهوا ما في القرآن من الغريب الذي ابتعدت به الشقة عن الحجاز وقلب الجزيرة العربية في العراق وفارس والشام
306
وغيرها من الأمصار الاسلامية وتلقط العلماء ما كانت تجود به ألسنة الأعراب من أمثلة توافق ما يجري في آيات القرآن وكانت هذه الحركة الكبرى سببا في حفظ العربية من الضياع.
الإعراب:
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) الواو عاطفة ليتناسق الكلام يورد ناحية أخرى من نواحي تعنتهم وإصرارهم على القول: ان الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا، ولك أن تجعلها استئنافية قائمة بنفسها والجملة مسوقة لما ذكرناه، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال وإلا أداة حصر ورجالا مفعول أرسلنا وجملة نوحي إليهم صفة. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة أي إن شككتم فيما ذكر فاسألوا، واسألوا فعل أمر وفاعل وأهل الذكر مفعوله وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه فاسألوا وكان واسمها وجملة لا تعلمون خبرها. (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) بالبينات يحتمل متعلقات شتى فإما أن يتعلقا بأرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات ومثل له الزمخشري بقول القائل: ما ضربت إلا زيدا بالسوط لأن أصله ضربت زيدا بالسوط وإما متعلقان بمحذوف صفة لرجالا أي رجالا ملتبسين بالبينات أي مصاحبين لها وإما بأرسلنا مضمرا كأنما قيل بم أرسلوا فقيل بالبينات وإما بنوحي أي نوحي إليهم بالبينات وهناك أوجه أخرى ضربنا عنها صفحا، وأنزلنا عطف على أرسلنا وإليك متعلقان بأنزلنا والذكر مفعول به ولتبين اللام للتعليل وتبين منصوب
307
بأن مضمرة وهو متعلق بأنزلنا وللناس جار ومجرور متعلقان بتبين.
(ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ما مفعول تبين وجملة نزل إليهم صلة ولعلهم لعل واسمها وجملة يتفكرون خبرها. (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف- كما تقدم- يرشد اليه النظم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه ولم يتفكروا في ذلك فكأنه قيل ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات؟ وأمن الذين فعل وفاعل وجملة مكروا صلة والسيئات صفة لمفعول مطلق محذوف أي المكرات السيئات ويجوز أن يكون مفعولا به لأمن أي أمنوا العقوبات السيئات أو منصوبا بنزع الخافض أي مكروا بالسيئات وان يخسف أن وما في حيزها مصدر مفعول أمن على الوجه الأول في السيئات وبدل من السيئات على الوجه الثاني والله فاعل يخسف، وبهم متعلقان بيخسف والأرض مفعول به. (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) عطف على أن يخسف ومن حيث حال وجملة لا يشعرون مضافة للظرف.
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) عطف أيضا على أن يخسف وفي تقلبهم حال من المفعول أي حال كونهم متقلبين في الأسفار والمتاجر وأسباب الدنيا والفاء عاطفة وما نافية حجازية وهم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على انه خبر ما.
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) عطف ثالث على أن يخسف وعلى تخوف حال أيضا من الفاعل أو المفعول أي يأخذهم متنقصا إياهم شيئا بعد شيء أو وهم متخوفون والفاء تعليل لما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة ورؤوف خبر إن الاول ورحيم خبر إن الثاني.
308

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٨ الى ٥٢]

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
اللغة:
(يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) تفيأ الظل تقلب وانتقل من جانب الى آخر والمصدر التفيؤ من فاء يفيء إذا رجع، وفاء لازم فإذا أريد تعديته عدي بالهمزة كقوله تعالى: «ما أفاء الله على رسوله» أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ مطاوع فيها فهو لازم واختلف في الفيء فقيل هو مطلق الظل سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو ينسجم مع الآية وقيل ما كان قبل الزوال فهو ظل فقط وما كان بعده فهو ظل وفيء فالظل أعم وقيل بل يختص الظل بما قبل الزوال والفيء بما بعده فالفيء لا يكون إلا في العشي وهو ما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله. وفي القاموس والتاج وغيرهما: الظل: الفيء والجمع ظلال وأظلال وظلول وظل الليل سواده، يقال أتانا في ظل الليل، قال ذو الرمة:
309
قد أسعف النازح المجهول مسعفه... في ظل أخضر يدعو هامة البوم
وهو استعارة لأن الظل في الحقيقة إنما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة وليس بظل وقال أصحاب العلم: الظل مطلقا هو الضوء الثاني ومعنى ذلك أن النير إذا ارتفع عن الأفق استضاء الهواء بإثبات الشعاع فيه فهذا هو الضوء الأول فإذا حجب هذا الضوء حاجب كان ما وراء ذلك الحاجب ضوءا ثانيا بالنسبة إلى الضوء الاول لأنه مستفاد منه وهذا الضوء الثاني هو الظل وقد أوحى خيال الظل الى الشعراء طرائف بديعة فمن ذلك قول المناوي في راقصة:
إذا ما تغنت قلت: سكرى صبابة... وإن رقصت قلنا احتكام مدام
أرتنا خيال الظل والستر دونها... فأبدت خيال الشمس وهو غمام
وذكر ابن قتيبة في كتابه (أدب الكاتب) ما نصه: «يذهب الناس إلى أن الظل والفيء واحد وليس كذلك لأن الظل يكون من أول النهار إلى آخره، ومعنى الظل الستر والفيء لا يكون إلا بعد الزوال ولا يقال لما كان قبل الزوال فيء وانما سمي فيئا لأنه ظل فاء من جانب الى جانب أي رجع من جانب المغرب الى جانب المشرق والفيء الرجوع قال الله تعالى: «حتى تفيء إلى أمر الله» أي ترجع.
(الشَّمائِلِ) : جمع شمال أي عن جانبيهما أول النهار وآخره قال العلماء: إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان
310
ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس الى الغروب كان ظلك عن يسارك.
(داخِرُونَ) : خاضعون صاغرون.
الإعراب:
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي والواو عاطفة على محذوف مقدر يقتضيه السياق أي ألم ينظروا ولم يروا متوجهين الى ما خلق الله والى ما جار ومجرور متعلقان بيروا، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار وذلك الاعتبار لا يتأتى إلا بنفس الرؤية التي يكون معها النظر إلى الشيء لتدبره والتبصر فيه والتأمل بمغابه وعواقبه، وجملة خلق الله صلة ومن شيء حال من ما خلق الله وصح أن تكون مبنية لوصفها مع أن كلمة شيء مبهمة وجملة يتفيأ ظلاله صفة لشيء وظلاله فاعل يتفيأ وعن اليمين حال وعن الشمائل عطف ويصح أن تكون «عن» اسما بمعنى جانب فعلى هذا تنتصب على الظرف ويصح أن تتعلق بتتفيأ ومعناه المجاوزة أي تتجاوز الظلال عن اليمين الى الشمال، بقي هنا سؤال وهو لماذا أفرد اليمين وجمع الشمال وأجاب العلماء بأجوبة عديدة أقربها الى المنطق أن الابتداء يقع من اليمين وهو شيء واحد فلذلك وحد اليمين ثم ينتقص شيئا فشيئا وحالا بعد حال فهو بمعنى الجمع فصدق على كل حال لفظ الشمائل فتعدد بتعدد الحالات، وللفراء رأي طريف قال: كأنه إذا وحّد ذهب الى واحد من ذوات الظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها لأن قوله «ما خلق الله من شيء» لفظه واحد ومعناه الجمع،
311
فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله تعالى «وجعل الظلمات والنور» وقال ابن الصائغ: «أفرد وجمع بالنظر الى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقي منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان في الآية، هذا من جهة المعنى وفيه من جهة اللفظ المطابقة لأن سجّدا جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ولحظهما معا وتلك الغاية في الإعجاز». وقيل أفرد اليمين مراعاة للفظ ما وجمع ثانيا مراعاة لمعناها وقد أفرد السهيلي رسالة لطيفة على هذه الآية.
وسجّدا حال من ظلاله والواو للحال وهم مبتدأ وداخرون خبر والجملة حالية من الضمير المستتر في سجدا فهي حال متداخلة. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ) لله جار ومجرور متعلقان بيسجد وما فاعل ليسجد وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات ومن دابة في موضع نصب على الحال المبنية والملائكة عطف على ما، وخصهم بالذكر بعد العموم تنويها بفضلهم.
(وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يستكبرون خبر. (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) جملة يخافون نصب على الحال من ضمير يستكبرون أو بدل من جملة لا يستكبرون لأن من خاف الله لم يستكبر عن عبادته ويخافون ربهم فعل مضارع وفاعل ومفعول به ومن فوقهم حال من ربهم أي يخافون ربهم عاليا عليهم في الرتبة على حد قوله «وهو القاهر فوق عباده» ويفعلون عطف على يخافون وما مفعول به وجملة يؤمرون صلة. (وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) الواو استئنافية وقال الله فعل وفاعل ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وإلهين مفعول به واثنين صفة لإلهين ومن طريف المفارقات أن جميع المفسرين تقريبا يعربونها توكيدا
312
لإلهين وليست اثنين من ألفاظ التوكيد المعنوي وليست من باب التوكيد اللفظي ويظهر أن إعرابهم لها كذلك قائم على المعنى لأن معنى الوصف هو التوكيد وسترى بحثا طريفا عن ذلك في باب البلاغة وقد اضطر بعضهم الى القول أن لفظ اثنين تأكيد لما فهم من إلهين من التثنية وقيل:
إن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير: لا تتخذوا إثنين إلهين. إنما هو إله واحد (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) إنما كافة ومكفوفة وهو مبتدأ وإله خبر وواحد صفة للتأكيد أيضا، فإياي: الفاء الفصيحة وإياي مفعول به لفعل مضمر يفسره ما بعده أي بقوله ارهبون، وارهبون فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لمراعاة الفواصل مفعوله.
(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لك أن تجعل الواو عاطفة والجملة معطوفة على قوله إنما هو إله واحد ولك أن تجعلها استئنافية والجملة مستأنفة وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة والأرض عطف على ما في السموات. (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) الواو عاطفة وله خبر مقدم والدين مبتدأ مؤخر وواصبا حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور والتقدير والدين ثابت له حال كونه واصبا وفي معنى الوصب قولان أحدهما الدوام أي له الدين ثابتا سرمدا وثانيهما المشقة والكلفة، أي له الدين ذا كلفة ومشقة. (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف والتقدير أبعد ما تقرر من توحيد الله وبعد ما عرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه كيف يعقل أن تتقوا غيره وترهبوا من غيره وغير الله مفعول مقدم لتتقون وتتقون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله.
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على وجازتها على فنون من البلاغة تستوعب الأجلاد، وسنحاول تلخيصها في العبارات الآتية:
313
١- التغليب:
في قوله تعالى «ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض إلخ» فقد أتى بلفظ ما الموصولية في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد والحكم للأغلب وما الموصولة في أصل وضعها لما لا يعقل كما أن من موضوعة في الأصل لمن يعقل وقد تتخالفان، ومن استعمال «من» لغير العاقل في الشعر قول العباس بن الأحنف:
أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلّي الى من قد هويت أطير
فأوقع من على سرب القطا وهو غير عاقل وقول امرؤ القيس:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فأوقع من على الطلل وهو غير عاقل.
وفيما يلي ضابط هام نوجزه فبما يلي:
- قد تستعمل «من» لغير العقلاء في ثلاث مسائل:
آ- أن ينزل غير العاقل منزلة العاقل كقوله تعالى «ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الى يوم القيامة» وقول امرئ القيس السابق.
وكذلك قول العباس بن الأحنف السابق الذكر.
314
فدعاء الأصنام التي لا تستجيب الدعاء في الآية الكريمة ونداء الطلل والقطا في البيتين سوغا تنزيلها منزلة العاقل إذ لا ينادى إلا العقلاء.
ب- أن يندمج غير العاقل مع العاقل في حكم واحد كقوله تعالى:
«أفمن يخلق كمن لا يخلق» وقوله «ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض».
ح- أن يقترن غير العاقل بالعاقل في عموم مفصل كقوله تعالى:
«والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع» فالدابة تعم أصناف من يدب عن وجه الأرض وقد فصلها على ثلاثة أنواع.
- وقد تستعمل (ما) للعاقل إذا اقترن العاقل بغير العاقل في حكم واحد كما في الآية المتقدمة.
٢- الاحتراس:
وذلك في قوله تعالى «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد» والمعروف انه لا يجمع بين العدد والمعدود إلا فيما وراء الواحد والاثنين فيقولون عندي رجال ثلاثة ونساء ثلاث لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص فلو لم تشفعه بصفته لما فهمت العدد المراد وأما رجل وامرأة ورجلان وامرأتان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد وامرأة واحدة ورجلان اثنان وامرأتان اثنتان أما في الآية فالاسم الحامل لمعنى الافراد والتثنية وهو إله وإلهان دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريد
315
الدلالة على أن المراد الذي يساق إليه الحديث هو العدد كان لا بد من أن يشفع بما يؤكده ألا ترى أنك لو قلت إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل إليك أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية فكان لا بد من الاحتراس وهذا من روائع البلاغة التي تتقطع دونها الأعناق.
٣- الالتفات:
عن الغيبة الى التكلم فقد قال: «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إلخ» ثم عدل الى الحضور وهو قوله «وإياي فارهبون» لأن ذلك أبلغ في الرهبة من أن يقول جريا على السياق فإياه فارهبون.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٣ الى ٦٠]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧)
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
316
اللغة:
(تَجْئَرُونَ) تتضرعون والجؤار بوزن الزكام رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة قال الأعشى يصف راهبا:
يراوح من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا والمراوحة في العمل الانتقال من حالة الى أخرى ولا يفوتنك ما في هذا الوصف من دقة، وقبله:
وما آبلي على هيكل... بناه وصلب فيه وصارا
والآبلي الراهب نسبة إلى آبل وهو قيم البيعة وصلب أي صور الصليب وفي القاموس: «جأر كمنع جأرا وجؤارا بوزن غراب رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث والبقرة والثور صاحا والنبت جأرا طال والأرض طال نبتها».
(ظَلَّ) هنا بمعنى صار وليست على بابها من كونها تدل على الإقامة نهارا على الصفة المسندة إلى اسمها وعلى التقديرين هي ناقصة ومصدرها الظلول ويجوز ابقاؤها على معناها الأصلي وهو اتصاف الشيء بصفة ما نهارا فقط لأن الأوضاع تتشابه في الليل أي يظل سحابة نهاره مغتما مربدّ الوجه من الكآبة والحياء من الناس.
(كَظِيمٌ) : مملوء حنقا على الأنثى وفي المصباح: «كظمت الغيظ كظما من باب ضرب وكظوما أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ وفي التنزيل «الكاظمين الغيظ» وربما قيل كظمت على الغيظ وكظمني الغيظ فأنا كظيم ومكظوم وكظم البعير كظوما لم يجتر».
317
(هُونٍ) : هوان وذل قال اليزيدي: والهون الهوان بلغة قريش.
وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي وحكى الكسائي انه البلاء والمشقة قالت الخنساء:
نهين النفوس وهون النفو س يوم الكريهة أبقى لها
الإعراب:
(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) ما شرطية في محل رفع مبتدأ وفعل الشرط محذوف وبكم متعلقان بفعل الشرط المحذوف ومن نعمة حال من اسم الشرط واختار أبو البقاء أن تكون حالا من الضمير في الجار والفاء رابطة لجواب الشرط ومن الله خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهو من الله والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط المحذوف والجواب في محل رفع خبر ما ويجوز أن تكون ما موصولة مبتدأ والجار والمجرور صلتها والخبر قوله فمن الله والفاء رابطة لتضمن الموصول معنى الشرط والتقدير والذي استقر بكم وسيأتي مزيد بحث عن حذف فعل الشرط والجواب في باب الفوائد. (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) ثم حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب تجأرون وجملة مسكم مضافة للظرف ومسكم فعل ومفعول به مقدم والضر فاعل مؤخر والفاء رابطة واليه متعلقان بتجأرون وتجأرون فعل مضارع وفاعل وجملة فإليه تجأرون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ثم حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بما في إذا من معنى المفاجأة ولا يجوز أن يكون العامل
318
في إذا هو الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها وجملة كشف مضافة والضر مفعول به وعنكم متعلقان بكشف وإذا فجائية لا محل لها وقد تقدم القول فيها وفريق مبتدأ ساغ الابتداء به لأنه وصف بقوله منهم وبربهم جار ومجرور متعلقان يشركون وجملة يشركون خبر فريق ومن العجيب أن أبا البقاء تورط فقاس إذا الفجائية على إذا الشرطية فقال «فريق فاعل لفعل محذوف» وهذا طائح من أساسه. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ليكفروا اللام لام التعليل ويكفروا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيشركون أي اشراكهم سببه كفر هم بربهم ويجوز أن تكون اللام لام الصيرورة أو العاقبة أي فعاقبة إشراكهم بالله غيره كفرهم بالنعمة التي هي كشف الضر عنهم فيكون متعلق ليكفروا بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وبما متعلقان بيكفروا وجملة آتيناهم صلة، فتستعوا جملة معمولة لقول محذوف أي قل لهم يا محمد تمتعوا، فسوف تعلمون الفاء الفصيحة وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره عاقبة ذلك. (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) عطف على ما سبق ويجعلون فعل مضارع وفاعل ولما متعلقان بيجعلون وجملة لا يعلمون صلة لما والضمير في يعلمون عائد على المشركين والعائد محذوف يقدر بأنها تضر ولا تنفع ولك أن تجعله عائدا على الأصنام المدلول عليها بما أي الأشياء غير موصوفة بالعلم لا تشعر أجعلوا لها نصيبا في أنعامهم وزروعهم أم لا، ونصيبا مفعول يجعلون ومما صفة لنصيبا وجملة رزقناهم صلة. (تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) التاء تاء القسم الجارة ولفظ الجلالة مجرور بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره قسمي واللام واقعة في جواب القسم وتسألن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون
319
المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة وقد تقدم لهذا الإعراب نظائر وعما متعلقان تسألن وجملة كنتم صلة وجملة تفترون خبر كنتم. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ويجعلون عطف على ما تقدم ولله متعلقان بيجعلون والبنات مفعول يجعلون وسبحانه منصوب على المصدرية بفعل محذوف والجملة معترضة لكونه بتقدير الفعل وقد وقعت في مطاوي الكلام لأن قوله تعالى ولهم ما يشتهون عطف على قوله لله البنات على رأي الزمخشري والفراء، ولهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة يشتهون صلة وبعضهم أعراب ما في محل نصب فعل مقدر وجملة ولهم ما يشتهون إما استئنافية وإما حالية ولك أن تعطف ما على البنات ولهم على لله فيكون من قبيل عطف المفردات وهذا رأي الزمخشري والفراء وتعقبهما أبو حيان فقال «وذهلوا عن قاعدة في النحو وهي أن الفعل إذا رفع ضميرا وجاء بعده ضمير منصوب لا يجوز أن ينصبه الفعل إلا إن كان من باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية أو فقد وعدم
فيجوز زيد ظنه قائما تريد ظن نفسه، ولو قلت زيد ضربه فتجعل في ضرب ضمير رفع عائدا على زيد وقد تعدي للضمير المنصوب لم يجز والمجرور يجري مجرى المنصوب فلو قلت زيد غضب عليه لم يجز كما لم يجز زيد ضربه فلذلك امتنع أن يكون قولهم لهم متعلقا بيجعلون.
(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) الواو حالية من ضمير يجعلون أي الواو أي كيف يستسيغون نسبة البنات اليه تعالى وهذه حالتهم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بشر أحدهم مضافة للظرف وبالأنثى جار ومجرور متعلقان ببشر وجملة ظل لا محل لها ووجهه اسم ظل ومسودا خبرها والواو حالية أيضا وهو مبتدأ وكظيم خبر والجملة حال متداخلة، وليس المراد السواد الذي
320
هو ضد البياض بل المراد الكناية بالسواد عن التغير والانكسار بما يحصل من الغم، والعرب تقول لكل من لقي مكروها قد اسود وجهه غما وحزنا قاله الزجاج وقال الماوردي: بل المراد سواد اللون حقيقة قال: وهو قول الجمهور والأول أولى فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتم لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي. (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) جملة يتوارى حالية من الضمير في كظيم ومن القوم متعلقان به ومن سوء متعلق به أيضا فالأولى للابتداء والثانية للعلة وما اسم موصول مضاف لسوء وجملة بشر به صلة أي من الأنثى وسوءها حسب اعتقاداتهم أنها مستهدفة للغواية ويخافون عليها من الزنا ومن حيث كونها لا تكسب. (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) الهمزة للاستفهام وجملة يمسكه الاستفهامية معمولة لشيء محذوف هو حال من فاعل يتوارى أي يتوارى حائرا مترددا مترجحا بين اليقين والشك أيمسكه محتملا الذل أم يئده في الحياة ويمسكه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعلى هون حال من الفاعل المستتر أو من المفعول به وأم حرف عطف ويدسه عطف على يمسكه وفي التراب متعلقان بيدسه والتذكير في يمسكه ويدسه مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ.
(أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ألا حرف تنبيه وساء فعل ماض لإنشاء الذم وما نكرة منصوبة على التمييز أو موصولة فاعل ساء وجملة يحكمون صلة ولك أن تجعلها مصدرية والمصدر المؤول فاعل أي ساء حكمهم.
(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) للذين خبر مقدم وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون ومثل السوء مبتدأ مؤخر ولله المثل الأعلى عطف على ما سبق وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان.
321
الفوائد:
حذف فعل الشرط وجوابه:
يجوز حذف ما علم ما شرط إن كانت الأداة إن مقرونة بلا النافية كقول الأحوص يخاطب مطرا وكان مطر دميم الخلقة وتحته امرأة وسيمة:
فطلّقها فلست لها بكفء وإلّا يعل مفرقك الحسام
فحذف فعل الشرط لدلالة قوله فطلقها عليه وأبقى جوابه أي وإن لا تطلقها يعل ولهذه الشروط منع بعض المفسرين إعراب «وما بكم من نعمة فمن الله» شرطية واكتفى بأن جعلها موصولة لكن نقل النحاة ان هذه الشروط ليست ملزمة فقد يتخلف واحد من إن والاقتران بلا وقد يتخلفان معا فالأول ما حكاه ابن الأنباري في الإنصاف عن العرب: من يسلم عليك فسلم عليه ومن لا فلا تعبأ به أي ومن لا يسلم عليك فلا تعبأ به قال الشاطبي وهذا نص في الجواز والثاني نحو «وإن امرأة خافت من بعلها» فحذف الشرط مع انتفاء اقتران إن بلا والثالث كقوله:
متى تؤخذوا قسرا بظنة عامر ولم ينج إلا في الصفاد يزيد
أي متى تثقفوا تؤخذوا فحذف الشرط مع انتفاء الأمرين ويجوز حذف ما علم من جواب شرط ماض نحو «فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية» فإن استطعت شرط حذف جوابه لدلالة الكلام عليه والتقدير فافعل والشرط الثاني وجوابه جواب للشرط الأول والمعنى إن استطعت منفذا تحت الأرض تنفذ فيه فتطلع
322
لهم بآية أو سلما تصعد به الى السماء فتنزل منها بآية فافعل وسيأتي تفصيل ذلك في مواضعه.
وفيما يلي عبارة ابن هشام في المغني قال عند الكلام على ما الشرطية: «وقد جوزت في: وما بكم من نعمة فمن الله على أن الأصل وما يكن ثم حذف فعل الشرط كقوله:
إن العقل في أموالنا لا نضق بها ذراعا وإن صبرا فنصبر للصبر
أي إن يكن العقل وان نحبس حبسا والأرجح في الآية أنها موصولة وان الفاء داخلة على الخبر لا شرطية والفاء داخلة على الجواب»
.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
323
اللغة:
(مُفْرَطُونَ) : اسم مفعول من أفرط أي أعجل يقال: أفرطت فلانا وفرطته في طلب الماء إذا قدمته وقيل منسيون متروكون من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته وفي المختار: «وفرط القوم سبقهم الى الماء فهو فارط والجمع فراط بوزن كتاب وبابه نصر وأفرطه تركه ومنه قوله تعالى «وانهم مفرطون» أي متروكون في النار منسيون وأفرط في الأمر جاوز الحدّ فيه» وفي القاموس: «وأفرط فلانا: تركه وتقدمه وجاوز الحد وأعجل بالأمر وانهم مفرطون أي منسيون متروكون في النار أو مقدمون معجلون إليها.
وفي الحديث: عن أنس عن النبي ﷺ قال: إني فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم»
وقال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لورّاد
الإعراب:
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) الواو استئنافية ولو شرطية ويؤاخذ الله الناس فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبظلمهم الباء حرف جر للسببية أي بسبب ظلمهم متعلقان بيؤاخذ وجملة ما ترك لا محل لها وترك فعل وفاعل مستتر وعليها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لدابة ومن حرف جر زائد ودابة مجرور
324
لفظا مفعول به محلا والضمير يعود على الأرض وان لم تذكر فقد دلّ عليها ذكر الناس وذكر الدابة فإن الجميع مستقرون على الأرض.
(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنها مخففة ويؤخرهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلى أجل متعلقان بيؤخرهم ومسمى صفة أي معين. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الفاء عاطفة أو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء أجلهم مضافة للظرف وجملة لا يستأخرون لا محل لها وساعة ظرف متعلق بيستأخرون ولا يستقدمون عطف على لا يستأخرون وقد تقدمت الاشارة في آية مماثلة لها إلى معنى لا يستأخرون ولا يستقدمون. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ويجعلون فعل مضارع وفاعل ولله متعلقان بيجعلون وما مفعول يجعلون وجملة يكرهون صلة وتصف ألسنتهم الكذب فعل مضارع وفاعل ومفعول به وقد فسر الكذب بقوله: (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) فأن وما في حيزها بدل من الكذب بدل الكل من الكل ولهم خبر أن المقدم والحسني اسمها المؤخر. (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) تقدم القول في لا جرم، وأن وخبرها المقدم واسمها المؤخر وإنهم مفرطون عطف على أن لهم النار. (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) التاء تاء القسم والجر والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المقدر واللام واقعة في جواب القسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل والى أمم متعلقان بأرسلنا ومن قبلك صفة. (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الفاء عاطفة وزين فعل ماض ولهم متعلقان بزين والشيطان فاعل وأعمالهم مفعول به. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء عاطفة وهو مبتدأ ووليهم خبر واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال إذا
325
أردت حكاية الحال الآتية أو في الدنيا أو متعلق بوليهم إذا أردت حكاية انحال الماضية التي كان الشيطان يزين لهم أعمالهم فيها بمعنى ناصرهم ومعينهم، ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة. (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) الواو عاطفة وما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به وإلا أداة حصر ولتبين لام التعليل ومدخولها متعلقة بأنزلنا على معنى التعليل وإنما جر المفعول لأجله باللام لاختلاف فاعله مع فاعل الفعل فإن المنزل هو الله والمبين هو النبي. (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هدى ورحمة عطف على محل لتبين وقد انتصبا نصب المفعول لأجله لاتحاد فاعلهما مع فاعل الفعل لأن الهادي والرحم هو الله كما هو المنزل ولقوم صفة أو متعلقان بالمصدر وجملة يؤمنون صفة لقوم.
الفوائد:
بحث مهم عن فاء التعقيب:
المعروف عن الفاء العاطفة أنها للعطف مع التعقيب ولكنه ليس التعقيب الفوري بل هي للتعقيب حسب ما يصح إما عقلا وإما عادة ولهذا صح أن يقال دخلت البصرة فبغداد وإن كان بينهما زمان كثير لكن يعقب دخول هذه دخول تلك على ما يمكن بمعنى انه لم يمكث بواسط مثلا سنة أو مدة طويلة بل طوى المنازل بعد البصرة ولم يقم بواحد منها إقامة يخرج بها عن حد السفر إلى أن دخل بغداد، هذا الذي يقوله أهل اللغة وأهل الأصول وليست الفاء للفور الحقيقي الذي معناه حصول هذا بعد هذا بغير فصل ولا زمان، ألا ترى إلى قوله تعالى «فإذا جاء أجلهم» فإن مجيء الأجل متراخ عن التأخير وسيأتي لهذا نظائر.
326

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
اللغة:
(الْأَنْعامِ) : تقدم شرحها في سورة الانعام وقد ذكر سيبويه الانعام في باب مالا ينصرف في الأسماء الواردة على أفعال ولذلك رجع الضمير اليه مفردا وقد رجع الضمير إليها مؤنثا في سورة المؤمنون لأن معناها الجمع ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان أحدهما أن يكون
327
تكسير نعم كأجبال في جبل وأن يكون اسما مفردا مقتضيا لمعنى الجمع فاذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله:
في كل عام نعم تحوونه... يلقحه قوم وتنتجونه
وإذا أنث ففيه وجهان انه تكسير نعم وانه في معنى الجمع، ولسيبويه بحث طريف كما قلنا فقد عدّ المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأمشاج فيعامل بالتذكير تارة باعتبار لفظه وبالتأنيث أخرى اعتبارا بمعناه وقيل هو جمع نعم كأسباب وسبب.
وقال ابن يعيش: «واعلم أن أبنية القلة أقرب الى الواحد من أبنية الكثرة ولذلك يجري عليها كثير من أحكام المفرد ومن ذلك جواز تصغيره على لفظه خلافا للجمع الكثير ومنها جواز وصف المفرد بها:
غرب ثوب أسمال وبرمة اكسار ومنها جواز عود الضمير إليها بلفظ الإفراد نحو قوله تعالى: «وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه»
.
(عبرة) : عظة أي دلالة يعبر عليها من الجهل الى العلم فهي مصدر بمعنى العبور أطلق على ما يعبر به الى العلم مبالغة في كونه سببا الى العبور.
(فَرْثٍ) : الفرث الروث والأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش.
قال الحريري في درة الغواص: «ويقولون: فرث لما يخرج من الكرش وهو وهم لأنه إنما يسسى به مادام فيها فإذا خرج سمي سرجينا
328
ومن أمثال العرب فيمن يحفظ الحقير ويضع الجليل: «فلان يحفظ الفرث ويفسد الحرث» وأجيب عن هذا بأن ذلك القول باعتبار ما كان ومثله كثير مطرد.
(سائِغاً) : سهل المرور في الحلق لا يغص به.
(سَكَراً) : السكر بفتحتين الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا، قال:
فجاءونا لهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاح
وفي القاموس والتاج: سكر يسكر من باب تعب سكرا بفتحتين وسكرا بضم فسكون وسكرا بضمتين وسكرا بفتح فسكون وسكرانا بفتحتين من الشراب نقيض صحا فهو سكر وسكران وهي سكرة وسكرى وسكرانة والجمع سكرى وسكارى بفتح السين وسكارى بضمها وجاء في غيره: «في السكر أربعة أقوال: الأول أنه من أسماء الخمر والثاني أنه مصدر في الأصل ثم سمي به الخمر والثالث أنه اسم للخل بلغة الحبشة والرابع أنه اسم للعصير ما دام حلوا كأنه سمي مجازا لمآله لذلك لو ترك».
(يَعْرِشُونَ) : يبنون وبابه ضرب ونصر كما في المختار وفي القاموس: وعرش يعرش بنى عريشا كأعرش وعرش بالتثقيل.
الإعراب:
(وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) الله مبتدأ وجملة أنزل خبر ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به فأحيا عطف
329
على أنزل وبه متعلقان بأحيا والأرض مفعول وبعد موتها الظرف متعلق بمحذوف حال. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسم ان ولقوم صفة لآية وجملة يسمعون صفة لقوم. (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) الواو عاطفة وإن حرف مشبه بالفعل ولكم خبرها المقدم وفي الأنعام حال لأنه كان صفة لعبرة واللام المزحلقة وعبرة اسمها المؤخر. (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) نسقيكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومما متعلقان بنسقيكم وفي بطونه صلة ما وجملة نسقيكم مفسرة لعبرة أو خبر لمبتدأ محذوف على حد قوله «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» كأنه قيل: العبرة هي نسقيكم ومن بين فرث ودم حال لأنه كان في الأصل صفة لقوله لبنا وقدم عليه ولك أن تجعله حالا من ما التي قبله ومعنى من الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية لأن بين الفرث والدم مكان الاسقاء الذي منه يبتدأ ولبنا مفعول ثان لنسقيكم وسائغا صفة وللشاربين متعلقان بسائغا. (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) ومن ثمرات النخيل خبر مقدم وجملة تتخذون صفة لموصوف محذوف هو المبتدأ المؤخر أي ثمر كانوا يتخذون منه سكرا ورزقا حسنا لأنهم كانوا يأكلون منه بعضا ويتخذون السكر من بعضه الآخر ولك أن تعلقه بمحذوف دل عليه نسقيكم أي نسقيكم من عصير النخيل والأعناب وعندئذ تكون جملة تتخذون حالا وقال أبو حيان: «والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون وكررت من للتوكيد وكان الضمير مفردا راعيا لمحذوف أي ومن عصير ثمرات أو على معنى الثمرات وهو الثمر وقيل تتعلق بنسقيكم فيكون معطوفا على مما في بطونه أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة فيكون من عطف الجمل والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل
330
وقيل معطوف على الأنعام أي ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة ثم بيّن العبرة بقوله تتخذون» وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون تتخذون صفة موصوف محذوف كقوله «بكفي كان من أرمى البشر» تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه. والضمير في منه يعود على العصير المقدر والأول أضبط وسكرا مفعول تتخذون ورزقا عطف على سكرا وحسنا صفة ولا يخفى ما يتولد عن العنب والتمر من خل وزبيب ودبس وفي المختار: الدبس ما يسيل من الرطب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها المؤخر وجملة يعقلون صفة لقوم. (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) الواو عاطفة على ما قبلها لتتساوق الدلائل على عجائب صنعته تعالى وبدائع قدرته ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لما ذكر وأوحى ربك فعل وفاعل والى النحل متعلقان بأوحى وأن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول دون حروفه وهو الشرط المعقود لأن التفسيرية، ولك أن تجعلها مصدرية وهي مع مدخولها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأوحينا أي بأن اتخذي وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب الفوائد فتنبّه له ومن الجبال متعلقان باتخذي فمن للتبعيض لأنها لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر وكل ما يعرش وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب البلاغة وبيوتا مفعول اتخذي ومن الشجر عطف على من الجبال وكذلك مما يعرشون.
(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) ثم حرف عطف للتراخي والسرّ فيه أن سعيها لطلب الرزق بعد اتخاذها البيوت نسكناها لتطلب بعد ذلك الرزق في مظانه، وكلّيّ فعل أمر وفاعل ومن كل الثمرات متعلقان بكلّيّ فاسلكي الفاء عاطفة واسلكي عطف على كلّيّ وسبل ربك مفعول به وذللا حال من السبل لأن الله ذللها لها ووطأ لها
331
مهادها ومسالكها أو من فاعل اسلكي أي وأنت منقادة لما أمرت به وهيئت له. (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) في الكلام التفات من الخطاب الى الغيبة سيأتي الكلام عنه في باب البلاغة ويخرج فعل مضارع ومن بطونها متعلقان بيخرج وشراب فاعل يخرج ومختلف صفة لشراب وألوانه فاعل مختلف لأنه اسم فاعل وفيه خبر مقدم وشفاء مبتدأ مؤخر وللناس جار ومجرور متعلقان بشفاء والجملة صفة ثانية لشراب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) تقدم إعراب نظيرتها قريبا فجدد به عهدا.
البلاغة:
١- الالتفات:
في قوله تعالى «يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه» إلى آخر الآية، التفات من الخطاب الى الغيبة ولو جاء الكلام على النسق الأول لقيل من بطونك، وإنما صرف الكلام هاهنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدة وهي انه ذكر للبشر العسل وأوصافه وألوانه المختلفة وأخبرهم أن فيه فوائد شتى لهم ليلفت انتباههم اليه ولو قال من بطونك لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة وليس ذلك بخاف عن نقدة الكلام.
٢- التنكير:
ونكر قوله «فيه شفاء» ولم يقل فيه الشفاء لكل الناس فاندفع الاعتراض بأن كثيرين يأكلون العسل ولا يشفون مما ألم بهم. فيلاحظ أن النكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه
332
وسلم فقال يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال سقيته عسلا فما زاد إلا استطلاقا، قال اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه، ثم جاء فقال ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه عسلا فبرىء.
٣- التنكيت:
في قوله تعالى: «أن اتخذي من الجبال بيوتا» وقد تقدمت الاشارة إليه وهو هنا في قوله من الجبال إذ معنى من هنا للتبعيض ولم يقل في الجبال لأنها لا تبني بيوتها في كل جبل وفي كل شجر وكل ما يعرش فلم يترك لها الحرية في بناء البيوت ولم يكل الأمر إلى شهواتها كما وكله إليها في قوله ثم كلّيّ من الثمرات وإنما خولف ذلك وحجر عليها في المسكن ولم يحجر عليها في المأكل لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق لاستمراء مشتهاها منه وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع ولهذا المعنى بالذات دخلت ثم لتفاوت الأمر وتباعده بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت والإطلاق لها في تناول الثمرات.
الفوائد:
أن التفسيرية:
تقدم القول في «أن التفسيرية» وانها الواقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه وقد وقعت هنا بعد الإيحاء لما فيه من معنى القول فما بعدها لا محل له من الإعراب ومن طريف المناقشات أن أبا عبد الله الرازي وهو الفخر المشهور منع ذلك وقال إننا لا نسلم أنها مفسرة كيف
333
وقد انتفى شرط التفسير لأن الوحي هنا إلهام باتفاق وليس في الإلهام معنى القول قال: وإنما هي مصدرية أي باتخاذ الجبال بيوتا ولكن الفخر الرازي جنح به الخيال هذه المرة فلم يقع على الصواب إذ المقصود من القول الإعلام والإلهام فعل من أفعال الله يتضمن الإعلام بحيث يكون الملهم عالما بما ألهم به وإلهام الله النحل من هذا القبيل.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
اللغة:
(حَفَدَةً) : الحفدة: جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة، قال:
334
وفي الصحاح: «الحفدة الأعوان والخدم أيضا» وفي المختار:
«الحفد السرعة وبابه ضرب وحفدا أيضا بفتح الفاء ومنه قولهم في الدعاء وإليك نسعى ونحفد، وأحفده حمله على الحفد وبعضهم يجعل أحفد لازما والحفد بفتحتين الأعوان والخدم وقيل ولد الولد واحدهم حافد» وفي القاموس والتاج: «حفد يحفد من باب ضرب حفدا بسكون الفاء وحفودا وحفدانا واحتفد في العمل أسرع وحفده خدمه وأحفد الظلم أسرع وأحفده حمله على الحفد أي الإسراع والحفيد ولد الولد وجمعه حفداء والحافد: الخادم والتابع والناصر وولد الولد وجمعه حفدة وحفد والحفدة أيضا: صناع الوشي» وللمفسرين كلام طويل حول المراد بهم واللفظ يحتمل الجميع لاشتمال الحفدة على الكثير من المعاني كما تقدم.
الإعراب:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) الله مبتدأ وجملة خلقكم خبر ثم حرف عطف للتراخي كما تقدم ومنكم الواو حرف عطف ومنكم خبر مقدم وهو معطوف على مقدر أي فمنكم من يبقى محتفظا بقوة جسمه وعقله ومنكم، ومن مبتدأ مؤخر وجملة يرد صلة ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإلى أرذل العمر متعلقان بيرد وأرذل العمر هو الهرم حيث تغور الأعين وتضعف الحركات وترتعش المفاصل ويدب الوهن إلى جميع أنحاء الجسم ويستولي الخرف عليه.
(لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) اللام لام التعليل وكي حرف مصدري ونصب ولا نافية ويعلم منصوب بكي واللام ومدخولها متعلقة بيرد ويجوز أن تكون اللام للصيرورة أي فكانت عاقبته أنه رجع الى حال الطفولة في النسيان وعدم الإدراك، وبعد علم ظرف متعلق
335
بيعلم وشيئا مفعول به ليعلم ولك أن تجعل المسألة من باب التنازع فتنصب شيئا بالعلم وهو مصدر وإن واسمها وعليم خبرها الأول وقدير خبرها الثاني. (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الله مبتدأ وجملة فضل خبر وبعضكم مفعول به وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بفضل وفي الرزق حال أي حالة كونكم مرزوقين فمنكم غني ومنكم فقير. (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) الفاء عاطفة وما نافية حجازية والذين اسمها وجملة فضلوا صلة والباء حرف جر زائد ورادي مجرور لفظا خبر ما محلا ورزقهم مضاف اليه من إضافة المصدر إلى مفعوله وعلى ما متعلقان برادي وملكت أيمانهم صلة.
(فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) الفاء عاطفة للدلالة على أن التساوي مترتب على التراد أي لا يردون عليهم ردا مستتبعا للتساوي وإنما يردون عليهم شيئا يسيرا وهم مبتدأ وفيه متعلقان بسواء وسواء خبر هم وسيأتي بحث هذا الإيجاز البليغ في باب البلاغة. (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) استفهام إنكار وتوبيخ والفاء عاطفة على مقدر أي يشركون به فيجحدون نعمته وبنعمة الله متعلقان بيجحدون لأنه متضمن معنى الكفران. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) الله مبتدأ وجملة جعل خبر ولكم متعلقان بجعل ومن أنفسكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأزواجا وأزواجا مفعول جعل (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) عطف على ما تقدم والاعراب مماثل لها (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) ورزقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ومن الطيبات متعلقان برزقكم والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على مقدر أي يكفرون بالله فيؤمنون بالباطل وبنعمة الله متعلقان يكفرون وهم مبتدأ وجملة يكفرون خبر.
336
البلاغة:
الإيجاز:
في قوله تعالى «فهم فيه سواء» إيجاز بليغ، وإشارة الى أرفع النظم التي يتحتم على البشر سلكوكها في دنياهم لتستقيم أمورهم، وتزول أسباب العداوة والخصام من قلوبهم وليسود السلام بينهم فقد أخبر تعالى أنه جعلهم متفاوتين في الرزق ولكن هذا التفاوت لا يعني تفضيلهم عليهم في الانسانية أو كأنه يشير إلى أن الواجب يحتم عليكم أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملابس والمطاعم روي عن أبي ذر الغفاري أنه سمع النبي ﷺ يقول:
«إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون» ويزداد هذا المعنى رسوخا بما تلاه من توبيخ لهم وتقريع لأنهم فرقوا بين الناس وما يزوا بين الطبقات. وفي قوله تعالى «إلى أرذل العمر» إيجاز آخر، إلى الهرم وما يستوجبه من حالات الضعف والخرف التي تدنو بالعاجز والهرم إلى عالم الطفولة الأول مع الفارق البيّن بين الأمل المترتب على الطفولة ومخايلها المبشرة بالفوز في المستقبل والأمل بالحياة الراغد في الآتي أما الآن فليس أمامه إلا مكابدة الحالات التي كان رسول الله ﷺ يتعوذ منها وهي قوله: «اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات».
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
337
اللغة:
(أَبْكَمُ) : الأبكم الذي ولد أخرس فهو أخص من مطلق الأخرس وفي القاموس: «البكم محرك الخرس كالبكامة أو مع عيّ وبله أو أن يولد ولا ينطق ولا يسمع ولا يبصر وبكم كفرح فهو أبكم وبكيم والجمع بكم، وبكم ككرم امتنع عن الكلام تعمدا» وروى ثعلب عن ابن الاعرابي: الأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر وعلى هذا يتميز عن الأخرس بأنه لا يفهم ولا يفهم أما الأخرس فيفهم بالسماع أو بالاشارة ويفهم بالاشارة.
(كَلٌّ) : ثقيل على من يلي أمره ويعوله وفي القاموس وغيره:
«مصدر كل يكل من باب تعب كلّا وكلة وكلالة وكلولا وكلالة وكلولة تعب وأعيا والضعيف والذي لا ولد له ولا والد وقفا السكين أو السيف والوكيل والصنم والمصيبة تحدث والعيّل والعيال والثقل ويطلق الكلّ على الواحد وغيره وبعضهم يجمع المذكر والمؤنث على كلول».
338
الإعراب:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو عاطفة ويعبدون فعل مضارع وفاعل ومن دون الله حال وما مفعول به وجملة لا يملك صلة ورزقا مفعول به ومن السموات والأرض صفة لرزقا أو متعلقان برزقا. (شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) شيئا مفعول به لرزقا إذا أردت به المصدر أو اسم المصدر كقوله تعالى: «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما... »، وان أردت به المرزوق كان شيئا بدلا منه بمعنى قليلا وسيأتي في باب الفوائد تفصيل حول إعراب شيئا لا بد من معرفته، ولا يستطيعون يجوز في هذه الجملة العطف على صلة ما والاخبار عنهم بعدم الاستطاعة باعتبار معناها لأن ما هنا مفردة لفظا جمع معنى ويجوز أن تكون مستأنفة وعلى كل حال الواو عائدة على ما والمراد بها آلهتهم (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) الفاء استئنافية ولا ناهية وتضربوا فعل مضارع مجزوم والواو فاعل ولله متعلقان بتضربوا والأمثال مفعول به لأن ضرب المثل تشبيه حال بحال وذلك يتنافى مع الذات الإلهية. (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إن واسمها وجملة يعلم خبر والجملة تعليلية وأنتم الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تعلمون خبر. (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) جملة مستأنفة لتعليمهم كيف يضرب الله المثل، وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به وعبدا بدل من مثلا ومملوكا صفة وجملة لا يقدر على شيء صفة ثانية وعلى شيء متعلقان بيقدر أي من التصرفات (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) الواو عاطفة ومن عطف على عبدا مملوكا ومن اسم موصول أو نكرة موصوفة كأنه قيل وحرا رزقناه ليطابق عبدا وجملة رزقناه صلة على الأول وصفة على
339
الثاني ونا فاعل والها مفعول به ومنا متعلقان برزقناه ورزقا مفعول به ثان إن أردت به الحال أو مفعول مطلق إن أردت به المصدر وحسنا صفة لرزقا. (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) الفاء عاطفة وهو مبتدأ وجملة ينفق خبر ومنه متعلقان بينفق وسرا وجهرا مصدران منصوبان على المفعولية المطلقة أي انفاق سر وجهر أو منصوبان على الحال أي مسرا ومجاهرا وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه وأن الثواب فيه أكثر، وهل حرف استفهام للنفي وجمع الضمير في يستوون وان تقدمه اثنان لأن المراد جنس الأحرار والعبيد المدلول عليهما والمعنى لا يستوي الأحرار والعبيد. (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر وبل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر وأتى بالجملة الاخبارية إرشادا للعبد الى وجوب شكر المنعم على ما أسبغ من العوارف والآلاء. (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) الواو عاطفة وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به ورجلين بدل من مثلا. (أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) أحدهما مبتدأ وأبكم خبره وجملة لا يقدر على شيء صفة أبكم (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) الواو حالية وهو مبتدأ وكل خبره وعلى مولاه متعلقان بكل (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية، وهو متعلق بفعل الشرط كما هي القاعدة وقيل بجوابه ولكل وجه وقال الرضي: «العامل في متى وكل ظرف فيه معنى الشرط شرطه على ما قاله الأكثرون» غير إذا والصحيح ان العامل فيها الجواب ووجهه ابن الحاجب فقال: ان الشرط والجزاء جملتان ولا يستقيم عمل الجواب في اسم الشرط لأنه يؤدي إلى أنه يصير جملة واحدة لأنه إذا كان ظرفا له كان من تتمته ولا يكون جملة ثانية أما إذا فالعامل فيها هو الجزاء
340
ووجه ذلك قوة توهم الاضافة في إذا وضعفه في متى، وفصل بعضهم فقال: والأولى أن نفصل ونقول إن تضمن إذا معنى الشرط فحكمه حكم أخواته من متى ونحوه وإن لم يتضمن نحو إذا غربت الشمس جئتك بمعنى أجيئك وقت غروب الشمس فالعامل هو الفعل الذي في محل الجزاء وإن لم يكن جزاء في الحقيقة دون الذي في محل الشرط إذ هو مخصص للظرف وتخصيصه له إما لكونه صفة له أو لكونه مضافا اليه ولا ثالث بالاستقراء. ويوجهه فعل الشرط ولا نافية
ويأت جواب الشرط وبخير متعلقان بيأت. (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هل حرف استفهام معناه النفي ويستوي فعل مضارع وهو تأكيد للفاعل المستتر ومن عطف على الفاعل المستتر في يستوي والشرط موجود وهو العطف بالضمير المنفصل وهو لفظ هو وهو مبتدأ وعلى صراط مستقيم خبره والجملة الاسمية صلة من وحذف مقابل أحدهما أبكم للدلالة عليه بقوله ومن يأمر أي والآخر ناطق قادر خفيف على مولاه أينما يوجهه يأت بخير.
الفوائد:
الفرق بين المصدر واسم المصدر:
كثر الاختلاف في إعراب شيئا ولهذا كان لا بد من التبسّط في إعمال المصدر، والفرق بينهما: ان المصدر هو الذي له فعل يجري عليه كالانطلاق في انطلق واسم المصدر هو اسم المعنى وليس له فعل يجري عليه كالقهقرى فإنه لنوع من الرجوع ولا فعل له يجري عليه من لفظه وقد يقولون مصدر واسم مصدر في الشيئين المتغايرين لفظا أحدهما للفعل والآخر للدلالة التي يستعمل بها الفعل كالطهور
341
والطهور والأكل والأكل فالطهور المصدر والطهور اسم ما يتطهر به والأكل المصدر والأكل ما يؤكل.
ويعمل المصدر عمل فعله إن كان يحل محله فعل إما مع أن المصدرية والزمان ماض أو مستقبل نحو عجبت من ضربك زيدا أمس، ونحو يعجبني ضربك زيدا غدا وإما مع ما المصدرية والزمان حال فقط كيعجبني ضربك زيدا الآن أي ما تضربه الآن وعمل المصدر مضافا أكثر من عمله غير مضاف نحو: «ولولا دفع الله الناس» وعمله منونا هو القياس لأنه أقرب إلى الشبه بالفعل لتنكيره نحو: «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما» فإطعام مصدر وفاعله مستتر ويتيما مفعوله وعمله معرفا بأل قليل في السماع ضعيف في القياس لبعده من مشابهة الفعل كقوله:
حفد الولائد بينهن وأسلمت بأكفهنّ أزمة الأجمال
ضعيف النكاية أعداءه يخال الفرار يراخي الأجل
فالنكاية مصدر مقرون بأل وأعداءه مفعوله والمعنى ضعيف نكايته أعداءه يظن أن الفرار من الموت يباعد الأجل.
أما اسم المصدر فيعمل أيضا كالمصدر إذا كان ميميا كقول العرجي وقيل الحارث بن خالد المخزومي:
أظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
فمصاب مصدر ميمي مضاف إلى فاعله ورجلا مفعوله وجملة أهدى السلام نعت رجلا وتحية مفعول مطلق وستأتي قصة هذا البيت، وإن كان غير ميمي لم يعمل عند البصريين لأن أصل وضعه لغير المصدر
342
فالغسل موضوع لما يغتسل به والوضوء لما يتوضأ به ويعمل عند الكوفيين وجماعة من البصريين وعليه قول القطامي:
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
فعطاء اسم مصدر مضاف الى فاعله والمائة مفعوله الثاني أما الأول فهو محذوف أي عطائك إياي المائة الرتاع أي الراتعة وهي الإبل التي ترتعي والواقع أن البصريين اضطربت أقوالهم فقال بعضهم بالجواز وقال بعضهم بالمنع.
قصة بيت العرجي:
غنت جارية بحضرة الواثق من شعر العرجي:
أظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
فاختلف من بالحضرة في إعراب رجلا فمنهم من نصبه وجعله اسم ان ومنهم من رفعه على انه خبرها والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب فأمر الواثق بأشخاصه قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت من مازن، قال: من أي الموازن؟
قلت: من مازن ربيعة فكلمني بكلام قومي وقال با اسمك؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما إذا كانت في أول الأسماء فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر فقلت: بكر يا أمير المؤمنين ففطن لما قصدته وأعجبه مني ذلك ثم قال: ما تقول في قول الشاعر:
343
أترفع رجلا أم تنصبه فقلت الوجه النصب قال ولم ذلك؟ فقلت:
لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم وهو بمنزلة قولك: إن ضربك زيدا ظلم فالرجل مفعول مصاب ومنصوب به والدليل عليه ان الكلام متعلق الى أن تقول ظلم فيتم فاستحسنه الواثق وأمر له بألف دينار.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢)
344
اللغة:
(ظَعْنِكُمْ) : سفركم يقال ظعن يظعن من باب فتح ظعنا وظعنا وظعونا ومظعنا سار ورجل قال:
أظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنا إن يظعنوا فعجيب عيش من قطنا
والقاعدة هي: كل ما كان بوزن فعل مما عينه حرف حلق يجوز تسكينه كبحر ونحر ونهر وشعر وشهر، وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: أهل اللغة وأكثر النحويين يقولون: كل ما كان الحرف الثاني منه حرف حلق جاز فيه التسكين والفتح وقال الحذاق: ليس ذلك صحيحا ولكن هي كلمات فيها لغتان فمن سكن من العرب لا يفتح ومن فتح لا يسكن إلا في ضرورة شعر والدليل على ذلك انه قد جاء عنهم مثل ذلك في كلام كثير ليس في شيء منه من حروف الحلق شيء مثل القبض والقبض فإنه جاء فيهما الفتح والإسكان، قال: ومما يدل على بطلان ما ذهبوا اليه أنه قد جاء في النطع أربع لغات فلو كان ذلك من أجل حروف الحلق لجازت هذه الأربع في الشعر والنهر وكل ما كان فيه شيء من حروف الحلق قال: ومما جاء فيه الوجهان مما ثانية حرف حلق: الشعر والشعر والنهر والنهر والصخر والصخر والبعر والبعر والظعن والظعن والدأب والدأب والفحم والفحم والسحر والسحر للرئة، ومما جاء فيه الوجهان وليس ثانيه حرف حلق نشز من الأرض ونشز مرتفع ورجل صدع وصدع خفيف اللحم وليلة النفر والنفر وسطر وسطر وقدر وقدر ولفظ ولفظ وشمع وشمع ونطع ونطع وغذل وغذل وطرد وطرد وطرد وغبن وغبن ودرك ودرك وشبح وشبح للشخص، وهو صريح في أن طريق ذلك السماع.
345
(أَثاثاً) : الأثاث: متاع البيت الكبير وأصله من أث أي تكاثف وكثر ومنه شعر أثيث أي كثير مجتمع قال امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف لفظيهما، فإن قلت لا بد من فرق بين الأثاث والمتاع حتى يصح ذكر واو العطف والعطف يوجب المغايرة فما هو هذا الفرق؟ قلت الأثاث ما كثر من آلات البيت وحوائجه فيدخل فيه جميع أصناف المال، والمتاع ما ينتفع به في البيت خاصة فظهر الفرق بين اللفظين.
(أكنان) : جمع كن وهو ما يستكن فيه من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف وفي المختار: «الكنّ السترة والجمع أكنان قال تعالى: «وجعل لكم من الجبال أكنانا» والأكنة الأغطية قال تعالى: «وجعلنا على قلوبهم أكنة» الواحد كنان وقال الكسائي كنّ الشيء ستره وبابه رد» وقد تقدم ذكر الأكنة.
(سَرابِيلَ) هي القمصان والثياب المتخذة من الصوف والكتان والقطن ومنه قول لبيد:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
الإعراب:
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) الواو استئنافية ولله خبر مقدم وغيب السموات والأرض مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وما نافية وأمر مبتدأ والساعة مضاف إليه وإلا أداة حصر وكلمح البصر خبره وأو حرف عطف وهو مبتدأ وأقرب خبره.
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير
346
وقدير خبر إن. (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) الله مبتدأ وجملة أخرجكم خبر ومن بطون أمهاتكم جار ومجرور متعلقان بأخرجكم.
(لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) الجملة في محل نصب على الحال من الكاف أي غير عالمين شيئا، وشيئا مفعول به. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وجعل عطف على أخرجكم والفاعل مستتر تقديره هو ولكم في موضع المفعول الثاني لجعل والسمع مفعوله الأول والأبصار والأفئدة عطف عليه ولعل واسمها وجملة تشكرون خبرها.
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والى الطير متعلقان بيروا ومسخرات حال أي مذللة للطيران بما خلق لها من أجنحة وأسباب مواتية له وفي جو السماء متعلقان بمسخرات أي للتحليق في سمت العلو وسكاكه. و (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) الجملة حالية وما نافية ويمسكهن فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر والله فاعل. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يؤمنون صفة لقوم. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) والله مبتدأ وجملة جعل خبر مفعوله الأول سكنا ومفعوله الثاني أحد الجارين والثاني حال لأنه كان صفة لسكنا وتقدم عليه وإذا كانت جعل بمعنى خلق تعلق أحد الجارين به واكتفى بمفعول واحد وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تقدم إعراب نظيرتها والمراد بالبيوت هنا القباب والأبنية من الأدم والأنطاع كالخيام وغيرها وجملة تستخفونها صفة لبيوتا ويوم ظعنكم الظرف متعلق بتستخفونها ويوم إقامتكم عطف على يوم ظعنكم.
347
(وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) ومن أصوافها عطف على من جلود الأنعام وأثاثا معطوف على بيوتا أي وجعل لكم من أصوافها أثاثا فيكون من باب عطف الجار والمجرور والمنصوب على مثله ومتاعا عطف على أثاثا وإلى حين متعلقان بمتاعا أو صفة له. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا) تقدم إعرابها. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً)
تقدم إعرابها أيضا. (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) جملة تقيكم الحر صفة لسرابيل وحذف المعطوف للعلم به أي والبرد. (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) وسرابيل عطف على سرابيل الأولى وجملة تقيكم صفة وتقيكم فعل مضارع وفاعل مستتر والكاف مفعوله الأول وبأسكم مفعوله الثاني والمراد بها الدروع والجواشن. (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) كذلك نعت مصدر محذوف وقد تقدم كثيرا ويتم نعمته فعل وفاعل مستتر ومفعول به ولعل واسمها وجملة تسلمون خبرها. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء استئنافية وان شرطية وتولوا فعل الشرط وأصله تتولوا فحذفت إحدى التاءين ويجوز أن يكون فعلا ماضيا والكلام فيه التفات ولعله أولى وجواب إن محذوف أي فلا غضاضة عليك والفاء تعليلية وإنما أداة حصر كافة ومكفوفة وعليك البلاغ خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والمبين صفة.
البلاغة:
معنى التشبيه هنا التمثيل، أي ان الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب بمثابة لمح البصر، واللمح النظر بسرعة، ولا بد فيه من زمان تنقلب فيه الحدقة نحو المرئي، وكل زمان قابل للتجزئة، وقال الزجاج: «لم يرد ان الساعة تأتي في لمح البصر وانما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها لأنه يقول للشيء كن فيكون» وقيل:
المعنى هي عند الله كذلك وان لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة.
348

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]

يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦)
اللغة:
(يُسْتَعْتَبُونَ) : يسترضون وقد اختلفت عبارات المفسرين فيها فلنرجع الى كتب اللغة. قال في المختار: عتب عليه وجد وبابه ضرب ونصر ومعتبا أيضا بفتح التاء والتعتب كالعتب والاسم المعتبة بفتح التاء وكسرها وقال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة وعاتبه معاتبة وعتابا وأعتبه سره بعد ما أساءه والاسم منه العتبى واستعتب وأعتب بمعنى. واستعتب أيضا طلب أن يعتب تقول استعتبه فأعتبه أي استرضاه فأرضاه» وفي الأساس: «واستعتبه استرضاه «وما بعد الموت مستعتب» وبينهم أعتوبة إذا كانوا يتعاتبون. تقول:
سمعت منها أعتوبة، لم تكن إلا أعجوبة. وعتابك السيف وعاتبت المشيب قال النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا... وقلت: ألمّا أصح والشيب وازع
349
أي قلت للشيب: ما أقبح بك أن تصبو وعلى: من صلة عاتبت كما تقول عاتبته على الذنب».
(نَبْعَثُ) : نرسل، وفي القاموس وغيره: بعثه يبعثه من باب فتح بعثا وتبعاثا أرسله وحده وبعث به أرسله مع غيره وبذلك يتضح صواب أبي الطيب المتنبي في قوله:
فآجرك الإله على عليل... بعثت إلى المسيح به طبيبا
وقد أخطأ الصاحب في نقده لهذا البيت لأنه عدى بعث بالباء بحجة أن بعث يتعدى الى العاقل بنفسه والى غير العاقل بالباء وقد صرفه تحامله على أبي الطيب عن التأمل في قصة البيت فقد ذكر الواحدي في كتابه قال سمعت الشيخ كريم بن الفضل قال سمعت والدي أبا بشر قاضي القضاة قال: أنشدني أبو الحسين الشامي الملقب بالمشوق قال كنت عند المتنبي فجاء وكيل علي بن محمد بن سيار بن مكرم وكان يحب الرمي فلما دخل عليه أنشده أبياتا سخيفة فنظم المتنبي قصيدته الرائعة في مديح علي بن مكرم والتي مطلعها:
ضروب الناس عشاق ضروبا... فأعذرهم أشفهم حبيبا
وفيها يصف نفسه بأبيات ما لحسنها نهاية نثبتها فيما يلي:
أعزمي طال هذا الليل فانظر... أمنك الصبح يفرق أن يئوبا
كأن الفجر حبّ مستزار... يراعي من دجنته رقيبا
كأن نجومه حلي عليه... وقد حذيت قوائمه الجبوبا
كأن الجو قاسى ما أقاسي... فصار سواده فيه شحوبا
350
كأن دجاه يجذبها سهادي... فليس تغيب إلا أن ت
غيبا أقلب فيه أجفاني كأني... أعد به على الدهر ألذ
نوبا وما ليل بأطول من نهار... يظل بلحظ حسادي م
شوبا وما موت بأبغض من حياة... أرى لهم معي فيها نصيبا
ثم يتطرق إلى مديح علي بن مكرم ويشير الى قصة وكيله الشاعر السخيف:
تيممني وكيلك مادحا لي... وأنشدني من الشعر الغريبا
فآجرك الإله على عليل... بعثت الى المسيح به طبيبا
وعبر عنه بما لا يعقل لأنه عدى البعث بحرف الجر أو انه من جملة الهدايا التي بعث بها اليه ولكنها هدية منكرة إذ يقول:
ولست بمنكر منك الهدايا... ولكن زدتني فيها أديبا
أما أبيات الوكيل فهي تافهة غير مستقيمة الوزن ولهذا أعرضنا عنها.
الإعراب:
(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) يعرفون نعمة الله يعرفون فعل مضارع والواو فاعل ونعمة الله مفعول به وثم حرف عطف للتراخي ينكرونها عطف على يعرفون وعطف بثم للدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد توفر دلائل المعرفة، وأكثرهم الواو
351
للحال وأكثرهم مبتدأ والكافرون خبره أو بالعكس أي انهم كانوا يعرفون وينحرفون. (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) الظرف متلق بمحذوف أي اذكر وجملة نبعث مضاف إليها الظرف ومن كل أمة حال لأنه كان في الأصل صفة لشهيدا وشهيدا مفعول به. (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ثم حرف عطف للتراخي ولا نافية ويؤذن فعل مضارع مبني للمجهول وللذين متعلقان به وقد اختلفت الآراء في هذا الإذن وأصحها أنه لا يؤذن لهم في الاعتذار لا سيما وان لها مثيلا في القرآن وهو قوله «ولا يؤذن لهم فيعتذرون» ولا الواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يستعتبون خبر وإنما عطف بثم لطول المدة التي كانت مغبتها منعهم من الكلام. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة رأى مضافة الى الظرف والذين فاعل رأى وجملة ظلموا صلة والعذاب مفعول به والفاء رابطة لجواب إذا. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) الفاء رابطة لجواب إذا ولا نافية ويخفف فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر أي العذاب ولا عاطفة وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) تقدم نظيرتها وشركاءهم مفعول رأى. (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب إذا وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وهؤلاء مبتدأ وشركاؤنا خبر والذين صفة شركاؤنا وجملة كنا صلة وكان واسمها وجملة ندعو خبر كنا ومن دونك حال من مفعول ندعو المحذوف أي ندعوهم ونعبدهم من دونك.
(فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) الفاء عاطفة وألقوا فعل وفاعل وهو الشركاء وإليهم متعلقان بألقوا والقول مفعول به وإنكم لكاذبون ان واسمها واللام المزحلقة وخبرها والجملة مقول القول.
352

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٧ الى ٩٠]

وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)
الإعراب:
(وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الواو عاطفة وألقوا فعل وفاعل وهو الكفار والى الله جار ومجرور متعلقان بألقوا ويومئذ ظرف أضيف إلى ظرف مثله والتنوين عوضا عن جملة وقد مرّ مثاله كثيرا والسلم مفعول به. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) الواو عاطفة وضل فعل ماض وعنهم متعلقان به وما فاعل ضل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يفترون خبر كانوا. (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) الذين مبتدأ خبره جملة زدناهم وجملة كفروا صلة وصدوا عن سبيل الله عطف على كفروا، وزدناهم فعل وفاعل ومفعول به وعذابا مفعول به ثان وفوق العذاب ظرف متعلق
353
بمحذوف صفة لعذابا وبما متعلقان بزدناهم والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب صدهم وإفسادهم وكان واسمها وجملة يفسدون خبرها.
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وقد تكررت هذه الجملة مبالغة في التهديد والوعيد وجملة نبعث مضافة للظرف وفي كل أمة متعلقان بنبعث وشهيدا مفعول به وعليهم متعلقان بشهيدا ومن أنفسهم صفة لشهيدا (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) وجئنا الواو عاطفة وجئنا فعل وفاعل وبك جار ومجرور متعلقان بجئنا وشهيدا حال وعلى هؤلاء متعلقان بشهيدا.
(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) ونزلنا عطف على جئنا ونا فاعل وعليك متعلقان بنزلنا والكتاب مفعول به وتبيانا مفعول لأجله أو حال أي مبينا ولكل شيء متعلقان بتبيانا وهدى ورحمة وبشرى عطف على تبيانا وللمسلمين متعلقان ببشرى وهو متعلق بالمصادر الأخرى المتقدمة من حيث المعنى.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) إن واسمها وجملة يأمر خبر إن وبالعدل متعلقان بيأمر والإحسان عطف على العدل وكذلك إيتاء وذي القربى مضاف لإيتاء. (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وينهى عطف على يأمر والفاعل مستتر وعن الفحشاء متعلقان بينهى وما بعده عطف عليه وجملة يعظكم حال من فاعل يأمر وينهى ولعل واسمها وجملة تذكرون أي تتذكرون خبرها.
البلاغة:
اتفق علماء البلاغة والمفسرون جميعا على أن هذه الآية أجمع آية في القرآن للخير والشر وهي قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان إلخ» وقد أمر عمر بن عبد العزيز الخليفة الصالح بتلاوتها
354
بدلا من القذف الذي كان يعقب خطب الجمعة بالإمام علي بن أبي طالب وبسببها أسلم عثمان بن مظعون، وروي أن النبي ﷺ قرأها على الوليد بن المغيرة فقال له: يا ابن أخي أعد فأعاد النبي ﷺ قراءتها عليه فقال له: إن له لحلاوة. وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر.
وقد اشتملت في الواقع على أفانين من البلاغة نبينها فيما يلي:
١- الإيجاز: فقد أمر في أول الآية بكل معروف ونهى بعد ذلك عن كل منكر وختم الآية بأبلغ العظات وصاغ ذلك في أوجز العبارات.
٢- صحة التقسيم: فقد استوفى فيها جميع أقسام المعنى فلم يبق معروف إلا وهو داخل في نطاق الأمر ولم يبق منكر إلا وهو داخل في حيز النهي، وقدم ذكر العدل لأنه واجب وتلاه بالإحسان لأنه مندوب ليقع نظم الكلام على أحسن ترتيب وقرنهما في الأمر لأن الفرض لا يخلو من خلل وتفريط يجبره الندب والنوافل وخص ذا القربى بالذكر بعد دخوله في عموم من أمر بمعاملته بالعدل والإحسان لبيان فضل ذي القربى وفضل الثواب عليه.
٣- الطباق اللفظي والمقابلة بين يأمر وينهى وبين العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وبين الفحشاء والمنكر والبغي.
٤- حسن النسق: في ترتيب الجمل وعطفها بعضها على بعض كما بنبغي حيث قدم العدل وعطف عليه الإحسان لكون الإحسان اسما عاما وإيتاء ذي القربى خاص فكأنه نوع من ذلك الجنس ثم أتى بجملة الأمر مقدمة وعطف عليها جملة النهي.
٥- التسهيم: لأن صدر الكلام يدل على عجزه كدلالة صدر البيت المسهم على عجزه.
355
٦- حسن البيان: لأن لفظ الآية لا يتوقف من سمعه في فهم معناه إذ سلم من التعقيد في لفظه ودل على معناه دلالة واضحة بأقرب الطرق وأسهلها واستوى في فهمه الذكي والغبي.
٧- الائتلاف: لأن كل لفظة لا يصلح مكانها غيرها.
٨- المساواة: لأن ألفاظ الكلام قوالب لمعانيه لا تفضل عنها ولا تقصر دونها.
٩- تمكين الفاصلة: لأن مقطع الآية مستقر في حيزه ثابت في مقره وقراره معناه متعلق بما قبله الى أول الكلام ولأنه لا تحسن الموعظة إلا بعد التكليف ببيان الأمر والنهي ولأن أي لفظة حذفتها من ألفاظ الآية يختل المعنى بحذفها اختلالا ظاهرا وينقص نقصا بيّنا.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
356
اللغة:
(تَوْكِيدِها) : توثيقها والتوكيد مصدر وكد يوكد بالواو وفيه لغة أخرى أكد يؤكد بالهمز ومعناه التقوية وهذا كقولهم ورخت الكتاب وأرخته وليست الهمزة بدلا من واو كما زعم بعضهم لأن الاستعسالين في المادتين متساويان فليس ادعاء كون أحدهما أصلا أولى من الآخر.
(أَنْكاثاً) : جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وفي المصباح: «نكث الرجل العهد نكثا من باب قتل نقضه ونبذه فانتكث مثل نقضه فانتقض ونكث الكساء وغير نقضه أيضا والنكث بالكسر ما نقض ليغزل ثانية والجمع أنكاث مثل حمل وأحمال وفي القاموس:
«النكث بالكسر ما نقض من الأكسية والأخبية ليغزل ثانية وجمعه أنكاث، يقال: حبل نكث وأنكاث أي منكوث»
.
(دَخَلًا) : مفسدة ودغلا وفي الصحاح الدغل بالتحريك الفساد مثل الدخل وفي المعاجم الدخل العيب وفي القاموس والتاج: «الدخل بفتحتين ما داخل الإنسان من فساد في العقل أو الجسم والخديعة والعيب في الحسب والقوم الذين يتسبون إلى من ليسوا منهم ومن غريب أمر الدال والخاء أنهما لا تجتمعان إلا دلتا على فساد أو ظلام فالدّخ والدّخ بفتح الدال وضمها الدخان وناهيك بظلمته واربداده قالت امرأة أعرابية لزوجها وكان قد كبر:
لا خير في الشيخ إذا ما اجلخا... وسال غرب عينه ولخا
وكان أكلا قاعدا وشخا... تحت رواق البيت يغشى الدخا
وانثنت الرجل فصارت فخا... وصار وصل الغانيات أخا
357
ودخر: ذل وصغر وأدخره أذله ودخس الحافر بكسر الخاء أصابه داء الدخس بسكون الخاء وهو ورم في الحافر والدخس بضم الدال وسكون الخاء دابة في البحر والدخيس الملتف من الكلأ وإذا التف فقد قارب السواد والعدد الكثير واللحم المكتنز وتداخلت الأمور التبست وتشابهت والدخل بفتح الدال وسكون الخاء ما دخل عليك من مالك ويقابله الخرج وهو مفسدة لصاحبه ما لم يؤدّ زكاته وما يترتب عليه ومنه سميت ضريبة الدخل ودخلة الرجل بتثليث الدال داخلته وهي محتجبة بظلمة الخفاء والدخيل من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم فهو في لبس من أمره وقلما يكون صالحا وداء دخيل أي داخل في أعماق البدن وكل كلمة أعجمية أدخلت في كلام العرب ودخمه دفعه بإزعاج ودخن الطعام واللحم وغيرهما أصابه الدخان في حال طبخه أو شيه فتغلبت رائحة الدخان على طعمه فهو دخن والدخن بفتحتين الحقد والفساد وتغير العقل والدين والحسب يقال: «لست أصالحه على دخن» أي على مكر وفساد والدخي بفتح الدال المشددة الظلمة وليلة دخياء مظلمة وهذا من عجائب اللغات.
(أَرْبى) أزيد عددا وأوفر مالا.
الإعراب:
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ) الواو عاطفة وأوفوا فعل أمر وفاعل وبعهد الله جار ومجرور متعلقان بأوفوا وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة عاهدتم مضاف إليها الظرف. (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتنقضوا مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والأيمان مفعول به
358
وبعد ظرف متعلق بتنقضوا وتوكيدها مضاف اليه والواو حالية والجملة حال من فاعل تنقضوا وقد حرف تحقيق وجعلتم الله فعل وفاعل ومفعول به وعليكم متعلقان بكفيلا وكفيلا مفعول به ثان لجعلتم. (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) تقدم إعراب مثيلتها كثيرا. (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) الواو عاطفة ولا ناهية وتكونوا مجزوم بها وكان واسمها والكاف خبرها وجملة نقضت صلة وغزلها مفعول به ومن بعد قوة حال من فاعل نقضت أو من مفعوله أي محكمة له أو محكمأ وأنكاثا منصوب بفعل محذوف أي فجعلته أنكاثا أو بتضمين نقضت معنى صيرت فهو مفعول ثان وجوّز الزجاج فيه وجها آخر وهو النصب على المصدرية لأن معنى نقضت نكثت فهو مطابق لعامله في المعنى وقيل هو حال من غزلها أي منقوضا وستأتي قصة هذه المرأة في باب الفوائد. (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) جملة تتخذون حال من ضمير تكونوا أي لا تكونوا مثلها متخذين أيمانكم دخلا وتتخذون فعل مضارع وفاعل وأيمانكم مفعول به أول ودخلا مفعول به ثان وبينكم صفة لدخلا وأن وما في حيزها مصدر في محل نصب مفعول لأجله أي مخافة أن تكون وأمة اسم تكون وهي مبتدأ وأربى خبر والجملة خبر تكون ومن أمة جار ومجرور متعلقان بأربى، كانوا يحالفون الحلفاء ويقطعون العهود والمواثيق فإذا وجدوا أكثر منهم وأعز جانبا نقضوا حلف أولئك وحالفوا هؤلاء.
(إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) إنما كافة ومكفوفة وهي للحصر ويبلوكم الله فعل ومفعول مقدم وفاعل مؤخر وبه متعلقان بيبلوكم وليبيننّ الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويبينّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وجوبا ولكم متعلقان بيبينن ويوم القيامة ظرف متعلق بمحذوف حال
359
وما مفعول به وكنتم صلة وهي كان واسمها وفيه جار ومجرور متعلقان بتختلفون وجملة تختلفون خبر كنتم. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) الواو عاطفة ولو شرطية وشاء الله فعل وفاعل واللام واقعة في جواب لو وجعلكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وأمة مفعول به ثان وواحدة صفة. (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهملة لأنها خففت، ويضل فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو ومن مفعول به ويشاء صلة ويهدي من يشاء عطف على ما تقدم. (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وتسألن فعل مضارع معرب لأن النون لم تباشره فهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين نائب فاعل والنون المشددة هي نون التوكيد الثقيلة وعما متعلقان بتسألن وجملة كنتم تعملون خبر كنتم.
الفوائد:
روى التاريخ أن امرأة حمقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تميم من مكة اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن فالكلام تشبيه تمثيلي مرسل والمشبه به معين.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
360
الإعراب:
(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) كرره تأكيدا مع التصريح بالنهي عنه مبالغة في قبحه (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) الفاء فاء السببية المسبوقة بالنهي وتزل مضارع منصوب بإضمار أن وقدم فاعل وبعد ظرف متعلق بتزل وثبوتها مضاف اليه. (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وتذوقوا عطف على تزل والسوء مفعول به والباء حرف جر وهي للسببية وما مصدرية وهي مع مدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بتذوقوا وعن سبيل الله متعلقان بصددتم ولكم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفته.
(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتشتروا فعل مضارع مجزوم بلا وبعهد الله متعلقان بتشتروا فالباء داخلة على المتروك وثمنا مفعول به وقليلا صفة (إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن واسمها والظرف صلة ما وهو مبتدأ وخير خبر والجملة خبر ان ولكم متعلقان به وإن شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط
361
والتاء اسم كان وجملة تعلمون خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فلا تنقضوا (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ) ما اسم موصول مبتدأ وعندكم ظرف متعلق بالصلة وجملة ينفد خبر ما ومثلها وما عند الله باق. (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) اللام موطئة للقسم ونجزين فعل مضارع مبني على الفتح لتأكيده بالنون المشددة والفاعل مستتر تقديره نحن والذين صبروا مفعوله وأجرهم مفعول ثان لنجزين وبأحسن جار ومجرور متعلقان بنجزين وهو صفة لمحذوف أي بجزاء أحسن، وما مصدرية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها ولك أن تجعل ما موصولة والتقدير بجزاء أحسن من عملهم الذي كانوا يعملونه في الدنيا أو نجعل الأجر متناسبا مع الأحسن من أعمالهم. (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومن ذكر متعلقان بمحذوف حال من فاعل عمل وأو حرف عطف وأنثى عطف على ذكر وهو الواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والجملة حالية فلنحيينه الفاء رابطة واللام موطئة للقسم ونحيينه فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والهاء مفعول به وحياة مفعول مطلق وطيبة صفة وجملة فلنحيينه جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من ولك أن تجعل من اسما موصولا والفاء الداخلة لما في الموصوف من رائحة الشرط فتكون جملة فلنحيينه خبره.
(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تقدم إعرابها وسيأتي مزيد بيان لهذه الآيات في باب البلاغة.
362
البلاغة:
١- في قوله تعالى «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن إلى آخر الآية» فنون شتى أبرزها التتميم وقد تقدم القول فيه وتكرر في هذه الآية مرتين الأولى في قوله من ذكر أو أنثى لأن من الشرطية أو الموصولية تفيد العموم فكان لا بد من تتميمها بذلك للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص جريا على معتقدات العرب القديمة في تفضيل الذكر على الأنثى وإيثاره بكل ما هو خير والثانية في قوله وهو مؤمن وقد اختلفت الآراء في هذا التميم وما هو المراد بالحياة الطيبة التي ينالها من هو بهذه المثابة وأحسن ما نختاره منها قول الزمخشري وننقله بنصه لفائدته قال وأبدع:
«وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا يعيش عيشا طيبا إن كان موسرا فلا مقال فيه وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله وأما الفاجر فأمره على العكس إن كان معسرا فلا إشكال في أمره على حد قول أبي دلامة:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
وإن كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يهنأ بعيشه»
ويؤيد هذا ما نراه من انهماك النوع البشري في ابتكار وسائل التدمير والخراب للاستعلاء والاستغلال والسيطرة على العالم وهيهات!! ٢- وفي قوله «فتزل قدم بعد ثبوتها استعارة تمثيلية للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان
363
من حال خير الى حال شر ويقال لمن أخطأ في شيء زلت به قدمه ومنه قول زهير:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها وذبيان قد زلت بأقدامها النعل
٣- وفي قوله «فتزل قدم بعد ثبوتها إلخ» توحيد القدم وتنكيرها والسر في ذلك استعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن توطأ لها مهاده وثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة وفيه تقليل للواعي من الناس لما يقضي بسداد الرأي واستقامته ومن جنس إفادة التنكير هنا للتقليل إفادته له في قوله تعالى: «وتعيها اذن واعية» وفي قوله «اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد» فنكر الاذن والنفس تقليلا للواعي من الناس لما يقضي بسداده.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٢]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
364
الإعراب:
(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق باستعذ وجملة قرأت مضاف إليها الظرف والقرآن مفعول به أي إذا أردت قراءة القرآن، والفاء رابطة للجواب واستعذ فعل أمر وفاعله أنت وبالله متعلقان باستعذ وكذلك يتعلق باستعذ من الشيطان، والرجيم صفة. (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الجملة تعليلية للأمر وان واسمها وجملة ليس خبرها وله خبر مقدم لليس وسلطان اسمها المؤخر وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بسلطان لأنه مصدر بمعنى التسلط أي الاستيلاء والقهر والتمكن وآمنوا صلة وعلى ربهم متعلقان بيتوكلون.
(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) إنما كافة ومكفوفة وسلطانه مبتدأ وعلى الذين خبر وجملة يتولونه من الفعل والفاعل والمفعول به صلة الموصول وعائده والذين عطف على الذين الأولى وجملة هم مشركون صلة وهم مبتدأ وبه متعلقان بمشركون ومشركون خبرهم. (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل وبدلنا فعل وفاعل وآية مفعول به ومكان مفعول ثان لبدلنا أو ظرف مكان متعلق ببدلنا وآية مضاف إليه. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا) الواو اعتراضية والجملة معترضة بين شرط إذا وجوابها لا محل لها والله مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وينزل صلة وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب إذا. (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة مقول القول وإنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومفتر خبر وبل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر وحذف مفعول يعلمون للعلم به أي حقيقة التبديل والنسخ وفائدتهما. (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
365
الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا)
جملة نزله مقول قل وهو فعل ومفعول به مقدم وروح فاعل مؤخر والقدس مضاف اليه من إضافة الموصوف لصفته أي الروح المقدس وهو جبريل ومن ربك متعلقان بنزله وبالحق حال أي ملتبسا بالحق، وليثبت اللام لام التعليل ويثبت فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل هو والذين مفعول به وآمنوا صلة وليثبت في محل نصب مفعول لأجله وجر باللام لأن المصدر ليس بقلبي ولاختلاف الفعل لأن المنزل هو جبريل والمثبت هو القرآن. (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) هذان المصدران معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتا وهداية وبشرى.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٦]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)
اللغة:
(يُلْحِدُونَ) : يميلون ولحدت القبر وألحدته وقبروه في لحد وملحود ولحد للميت وألحد له حفر له لحدا ولحد الميت وألحده جعله
366
في اللحد ولحد السهم عن الهدف وألحد، وألحد في دين الله ولحد عن القصد عدل عنه وألحد في الحرم ولحد إليه مال إليه والتحد اليه: التجأ ومالي دونه ملتحد قال ذو الرمة:
إذا استوسجت آذانها استأنست لها أناسيّ ملحود لها في الحواجب
الإعراب:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف يراد به التكثير هنا ونعلم فعل مضارع وفاعل مستتر وان وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي نعلم وأن واسمها وجملة يقولون خبرها.
(إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) الجملة مقول قولهم وإنما كافة ومكفوفة ويعلمه بشر فعل ومفعول به مقدم وبشر فاعل مؤخر وهو قين أي حداد رومي اسمه جبر بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة وهو غلام عامر بن الحضرمي وقيل يعنون جبرا ويسارا وكانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل وكان الرسول ﷺ يمر عليهما ويسمع ما يقرأانه وقيل غير ذلك مما لا يخرج عن الصدد. (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) لسان مبتدأ والذي مضاف إليه وجملة يلحدون إليه صلة وأعجمي خبر لسان أي غير مبين وهذا مبتدأ وعربي خبر ومبين صفة وهذا تأكيد على عروبة لغة القرآن ووجه الجواب ان الذي يعزون إليه أنه يعلم النبي القرآن رجل أعجمي في لسانه لكنة وعجمة تمنعانه من الإفصاح والإبانة ومحمد ﷺ الذي جاءكم بهذا القرآن المبين الذي عجزتم عن الإتيان بسورة
367
من مثله. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) إن واسمها وجملة لا يؤمنون صلة وبآيات الله متعلقان بيؤمنون وجملة لا يهديهم الله خبر إن والواو عاطفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفته. (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) إنما كافة ومكفوفة ويفتري فعل مضارع والكذب مفعول به مقدم والذين فاعل مؤخر وجملة لا يؤمنون بآيات الله صلة. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) الواو اعتراضية وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والكاذبون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك وجملة أولئك هم الكاذبون معترضة.
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أولى الأعاريب التي ذكرها المعربون لمن أن تكون بدلا من الذين لا يؤمنون بآيات الله وتكون جملة وأولئك هم الكاذبون اعتراضا بين البدل والمبدل منه والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ويجوز على بعد أن تعربه مبتدأ خبره جملة فعليهم والفاء زيدت لتضمن الموصول معنى الشرط وجملة كفر بالله صلة كما يجوز أن تعرب من شرطية وبالله جار ومجرور متعلقان بكفر ومن بعد إيمانه حال وإلا أداة استثناء ومن مستثنى متصل لأن الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد وقيل هو منقطع لأن الكفر اعتقاد والإكراه على القول دون الاعتقاد كالمكره وجملة أكره صلة الموصول، وقلبه الواو حالية وقلبه مبتدأ ومطمئن خبر وبالايمان متعلقان بمطمئن. (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ولكن الواو استئنافية ولكن حرف مشبه بالفعل واسمها ضمير الشأن ومن مبتدأ وشرح فعل الشرط إن جعلتها صلة وصلة إن جعلتها موصولا والله فاعل وصدرا
368
تمييز أي طاب به نفسا واعتقده، فعليهم الفاء رابطة وعليهم خبر مقدم وغضب مبتدأ مؤخر ومن الله صفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفة.
البلاغة:
الإلجاء:
في قوله تعالى: «ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر إلخ» وقول الله تعالى جوابا لهذا القول: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين» والإلجاء فن لم يذكره علماء البديع كثيرا وقد تكلم عنه أسامة بن منقذ في بديعه تحت اسم الالتجاء والمغالطة، وهو أن تكون صحة الكلام المدخول ظاهرة موقوفه على الإتيان فيه بما يبادر الخصم إلى رده بشيء يلجئه الى الاعتراف بصحته، أو بعبارة أوضح:
لكل كلام يرد فيه على المعترض عليه جواب مدخول إذا دخله الخصم به التجأ إلى تصحيح الجواب كقوله تعالى الآنف الذكر فإن للخصم أن يقول: نحن أردنا القصص والاخبار ونحن نعلم أن الأعجمي إذا ألقى الكلام إلى العربي لا يخرجه عن كونه تعلم معانيه من الأعجمي فظاهر الكلام لا يصح أن يكون ردا على المشركين فيقال لهم: هب الأعجمي علّمه المعاني فهذه العبارة الهائلة التي قطعت أطماعكم عن الإتيان بمثلها من علمها له؟ فإن كان هو الذي أتى بها من قبل نفسه فقد أقررتم أن رجلا واحدا منكم أتى بهذا المقدار من الكلام الذي هو مائة سورة وأربع عشرة سورة وقد عجزتم بأجمعكم وكل من تدعون من دون الله عن الإتيان بأقصر سوره فإن قلتم إن الأعجمي علمه المعاني والألفاظ فهذا أشد عليكم لأنه إقرار بأن رجلا أعجميا قدر على بين الآيات المتضمنة للأخبار والقصص وقد عجزتم عن ثلاث آيات منهن، يلجئهم ذلك الى الإقرار بأنه من عند الله.
369
الفوائد:
قصة عمار بن ياسر:
روى التاريخ أن ناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان منهم عمار بن ياسر وأبواه ياسر وسمية وصهيب وبلال وخباب وسالم عذبوا فأما سمية أم عمار فربطوها بين بعيرين وضربها أبو جهل بحربة في قلبها فماتت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه مكرها فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال: كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله يبكي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله نلت منك فذكرت فجعل النبي ﷺ يمسح عينيه وقال: إن عادوا لك فقل لهم ما قلت إلى آخر هذه القصة الممتعة التي يرجع إليها في المطولات.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٧ الى ١١١]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
370
اللغة:
(النفس) يؤخذ من مجموع أقوال المعاجم العربية أن النفس مصدر وهي أيضا الروح والدم يقال دفق نفسه أي دمه والجسد يقال هو عظيم النفس أي الجسد والعين يقال أصابته نفس أي عين وشخص الإنسان، ونفس الشيء عينه ويؤكد به فيقال: جاءني هو نفسه وبنفسه ونفس الأمر حقيقته والنفس أيضا العظمة والهمة والعزة والأنفة والإرادة والرأي والعقوبة والماء، والنفس مؤنث إن أريد بها الروح نحو خرجت نفسه ومذكر إن أريد بها الشخص نحو عندي خمسة عشر نفسا والجمع أنفس ونفوس ويقال في نفسي أن أفعل شيئا أي قصدي ومرادي أن أفعل كذا وفلان يؤامر نفسيه ويشاورهما أي يتردد في الأمر ويتجه له رأيان لا يدري على أيهما يثبت وخرجت نفسه وجاد بنفسه إذا مات، أما معنى النفس عند الفلاسفة فمرجعه علم النفس وليس هذا مكانه والخلاف فيه طويل وقد أصاب أبو الطيب حيث قال:
371
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكر في الدنيا ومهجته أقامه الفكر بين الهمّ والتعب
من قصيدة الرئيس ابن سينا في النفس:
هذا ومن المفيد أن نقتبس هنا أبياتا مختارة من قصيدة الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا في النفس:
372
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت... بين المعالم والطلول ا
لخضع تبكي وقد ذكرت عهودا بالحمى... بمدامع تهمي ولما
تقلع وتظل ساجعة على الدمن التي... درست بتكرار الرياح الأربع
ويطول بنا القول إن حاولنا شرح ما رمزت إليه هذه الأبيات المقتبسة من العينية الرائعة وحاصل ما أراده أنه يتساءل: لم تعلقت النفس بالبدن؟ إن كان رائدها غير الكمال فهي حكيمة خفية على الأذهان وإن كان رائدها الكمال فلم ينقطع تعلقها به قبل حصوله.
الإعراب:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) الاشارة الى ما تقدم من ذكر الغضب والعذاب واسم الاشارة مبتدأ خبره بأنهم أي ثابت بسبب أنهم فالباء للسببية وان واسمها وجملة استحبوا خبرها أي اختاروا والحياة مفعول به والدنيا صفة وعلى الآخرة جار ومجرور متعلقان باستحبوا. (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) وأن عطف على بأنهم وأن واسمها وجملة لا يهدي خبرها والقوم مفعول به والكافرين صفة القوم. (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة
373
طبع الله صلة وعلى قلوبهم جار ومجرور متعلقان بطبع وسمعهم وأبصارهم عطف على قلوبهم وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والغافلون خبر هم أو خبر أولئك. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لا جرم تقدم القول فيها وأن واسمها وفي الآخرة متعلقان بالخاسرون وهم مبتدأ والخاسرون خبره والجملة خبر ان. (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) ثم للترتيب مع التراخي لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك وإن واسمها وللذين خبر إن بمعنى أنه وليهم وناصرهم وجملة هاجروا صلة ومن بعد متعلقان بهاجروا وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مضاف للظرف أي من بعد فتنتهم ثم حرف عطف وتراخ وجاهدوا وصبروا عطف على هاجروا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها ومن بعدها حال واللام المزحلقة وغفور خبر إن الأول ورحيم خبرها الثاني، هذا وقد أسهب المعربون في إعراب هذه الآية واضطربت أقوالهم اضطرابا شديدا لفرط عنايتهم وتحريهم مواقع الصواب فجهدهم مشكور ولكن لا حاجة لذلك كله والكلام واضح لا لبس فيه. (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وجملة تأتي مضافة للظرف وكل نفس فاعل تأتي وجملة تجادل حال وعن نفسها متعلقان بتجادل وإنما جازت إضافة النفس الى النفس ومن شرط المتضايفين أن يكونا متغايرين ان المراد بالنفس الأولى الإنسان وبالثاني ذاته فكأنه قال يوم يأتي كل إنسان يجادل على ذاته أي يعتذر عنها لا يهمه شأن غيره. (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وتوفى عطف على تجادل وكل نفس نائب فاعل وما عملت مفعول توفى الثاني وهم الواو حالية أو عاطفة وهم متدأ وجملة لا يظلمون خبر.
374

[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
الإعراب:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) الواو استئنافية وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به وقرية بدل من مثلا أي جعل القرية الموسومة بهذه السمات مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا، وجملة كانت صفة لقرية وكان واسمها المستتر وآمنة خبرها ومطمئنة خبر ثان وجملة يأتيها خبر ثالث وهو فعل مضارع ومفعول به مقدم ورزقها فاعل مؤخر ورغدا وصف للمصدر أي اتيانا رغدا فهو مفعول مطلق أو بمعنى راغدا فهو حال ومن كل مكان متعلقان بيأتيها. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) الفاء عاطفة وكفرت فعل ماض والفاعل مستتر يعود على القرية وبأنعم الله متعلقان بكفرت فأذاقها الفاء عاطفة للتعقيب وأذاقها فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ولباس الجوع والخوف مفعول ثان والباء حرف جر للسببية وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي بسبب صنعهم أو بسبب الذي كانوا يصنعونه. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) الواو عاطفة واللام
375
موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءهم رسول فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومنهم صفة لرسول فكذبوه الفاء حرف عطف وكذبوه فعل ماض وفاعل ومفعول به. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) فأخذهم عطف على فكذبوه والعذاب فاعل والواو حالية وهم مبتدأ وظالمون خبر والجملة حالية.
البلاغة:
في قوله تعالى «وضرب الله مثلا قرية» مجاز مرسل واستعارتان مكنيتان، أما المجاز المرسل ففي قوله قرية والمراد أهلها فعلاقة المجاز المحلية إذ أطلق المحل وأريد الحال وأما الاستعارة الأولى فهي استعارة الذوق للباس فأما الإذاقة فقد كادت تجري عند العرب مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا فيقولون ذاق فلان البؤس والضرر شبّه ما يدرك منهما من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ البشع وأما اللباس فقد صح التشبيه به لأنه يشتمل على لابسه وأما الاستعارة الثانية فهي استعارة اللباس للجوع والخوف كأنما قد أحاط بهم واشتمل عليهم كما يشتمل اللباس على لابسه، وبناء الاستعارة على الاستعارة ميدان فسيح تضل فيه الأفكار وقد ينغلق فهمه كما انغلق على ابن سنان الخفاجي في نقده للآمدي حين تناول بيت امرئ القيس:
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزّز وتمنع
محجوب عن كل مقلة عارف وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما كرهت فراقك وهي ذات توجع
أنفت وما أنست فلما واصلت ألفت مجاورة الغراب الأبقع
وأظنها نسيت عهودا بالحمى ومنازلا بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها عن ميم مركزها بذات الاجرع
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
فقد قال الآمدي في كتاب الموازنة «وقد عاب امرأ القيس بهذا المعنى من لم يعرف موضوعات المعاني ولا المجازات وهو في غاية الحسن والجودة والصحة وهو إنما قصد وصف أجزاء الليل الطويل فذكر
376
امتداد وسطه وتثاقل صدره للذهاب والانبعاث وترادف اعجازه وأواخره شيئا فشيئا وهذا عندي منتظم لجميع نعوت الليل الطويل على هيئته وذلك أشد ما يكون على من يراعيه ويترقب تصرمه فلما جعل له وسطا يمتد وأعجازا رادفة للوسط وصدرا متثاقلا في نهوضه حسن أن يستعير للوسط اسم الصلب وجعله متمطيا من أجل امتداده لأن تمطّى وتمدّد بمنزلة واحدة وصلح أن يستعير للصدر اسم الكلكل من أجل نهوضه وهذه أقرب الاستعارات من الحقيقة وأشد للاءمته هنا لما استعيرت له وكذلك قول زهير:
وعرّي أفراس الصبا ورواحله
لما كان من شأن ذي الصّبا أن يوصف أبدا بأن يقال: ركب جواده وجرى في ميدانه، وجمح في عنانه، ونحو هذا، حسن أن يستعار للصبا اسم الأفراس وأن يجعل النزوع عنه أن تعرى أفراسه ورواحله وكانت هذه الاستعارة أيضا من أليق شيء بما استعيرت له».
وقال ابن سنان الخفاجي في كتابه «سر الفصاحة» : حول قول امرئ القيس:
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
«إن هذا الذي ذكره الآمدي ليس بمرضي غاية الرضا وإن بيت امرئ القيس ليس من الاستعارة الجيدة ولا الرديئة بل هو وسط فإن الآمدي قد أفصح بأن امرأ القيس لما جعل لليل وسطا ممتدا استعار له اسم الصلب وجعل متمطيا من أجل امتداده وحيث جعل له أولا وآخرا استعار له عجزا وكلكلا وهذا كله إنما يحسن بعضه مع بعض فذكر
377
الصلب إنما يحسن من أجل العجز والوسط والتمطي من أجل الصلب والكلكل لمجموع ذلك استعارة مبنية على استعارة أخرى». هذا ما قاله الرجلان بصدد الاستعارة المبنية على استعارة أخرى وقد غفل ابن سنان على سموه في البلاغة عن آية القرآن وإلا ما كان أساغ لنفسه أن يذم هذه الاستعارة.
وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس هب أن محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع فرد عليه ابن الأعرابي، وقد أجاب علماء البلاغة أن هذا من تجريد الاستعارة وذلك انه استعار اللباس لما خشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال الثوب على اللابس ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف لأن اطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره فكانت الاستعارة مجردة ولو قال فكساها كانت مرشحة، قيل وترشيح الاستعارة وان كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحا من حيث أنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحا.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٧]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
378
الإعراب:
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً) الفاء الفصيحة أي إذا استبان لكم حال من كفر وما آل إليه أمرهم فانتهوا عما أنتم عليه وأقلعوا عن كفران النعم وكلوا واشربوا ومما متعلقان بكلوا وجملة رزقكم صلة وحلالا حال ولك أن تجعله مفعولا به لكلوا وطيبا صفة.
(وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) واشكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكان واسمها وإياه مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون خبر كنتم. (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) إنما كافة ومكفوفة وحرم فعل وفاعل مستتر وعليكم جار ومجرور متعلقان بحرم والميتة مفعول به والدم والخنزير عطف على الميتة وما عطف أيضا وجملة أهل صلة ولغير الله حال وبه متعلقان بأهل وقد تقدمت هذه الآية.
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء تفريعية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ واضطر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ونائب الفاعل مستتر يعود على من وغير باغ حال ولا عاد عطف على باغ والفاء رابطة وان واسمها وغفور خبرها الأول ورحيم خبرها الثاني والجملة في محل جزم جواب الشرط.
(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)
379
لا ناهية وتقولوا مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ولما تصف اللام حرف جر وما مصدرية وهي مع مدخولها في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بتقولوا وألسنتكم فاعل تصف والكذب مفعول تصف وجملة هذا حلال مقول القول فيكون المعنى ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي لتعودها عليه وجريانها به أي لا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم وهو قول مدفوع لا تقوم به حجة وهذا حرام عطف على هذا حلال ولتفتروا بدل من قوله لما تصف، وعلى الله متعلقان بتفتروا والكذب مفعول به لتفتروا ويجوز أن ينتصب الكذب مفعولا لتقولوا ولكون جملة هذا حلال بدل منه وعندئذ تكون ما موصولة أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حرام وهذا حلال وكلا الاعرابين صحيح وسائغ وأورد ابن هشام في المغني هذه الآية وعبارته: قيل في ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب وفي كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، أن الكذب بدل من مفعول تصف المحذوف أي لما تصفه وكذلك في رسولا بناء على أن «ما» في «كما» موصول اسمي ويرده أن فيه إطلاق ما على الواحد من أولي العلم والظاهر أن ما كافة وأظهر منه أنها مصدرية لإبقاء الكاف حينئذ على عمل الجر وقيل في الكذب إنه مفعول لتقولوا والجملتان بعده بدل منه أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل أو الحرمة وإما لمحذوف أي فتقولون الكذب وإما لنصف على أن ما مصدرية والجملتان محكيتا القول أي لا تحللوا وتحرموا لمجرد قول تنطق به ألسنتكم. وسيأتي معنى وصف الألسنة بالكذب في باب البلاغة. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) ان واسمها وجملة يفترون صلة وعلى الله متعلقان بيفترون والكذب مفعول يفترون وجملة لا يفلحون خبر ان. (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ
380
أَلِيمٌ)
متاع خبر مبتدأ محذوف أي ذلك العمل الذي هو ديدنهم متاع قليل الفائدة أو مبتدأ محذوف الخبر أي لهم متاع وقليل صفة متاع ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة عذاب.
البلاغة:
وصف الألسنة للكذب تعبير عربي مبين للمبالغة جعلت الألسنة لاستساغتها الكذب وجريانه عليها وتردده فيما تنطق به دائما كأنها تصفه وتجسده للسامع ومن ذلك قولهم وجهها يصف الجمال وعينها توحي بالسحر أو كأن الكذب أمر مجهول وعليهم تبيانه للناس وكشف الغطاء عن خوافيه فهو مجاز عقلي.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٨ الى ١٢٣]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
381
الإعراب:
(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) وعلى الذين متعلقان بحرمنا وهادوا صلة الذين وما مفعول به وقصصنا صلة وعليك متعلقان بقصصنا ومن قبل متعلقان بحرمنا وقد تقدمت الاشارة الى ما خص اليهود بتحريمه وذلك في قوله تعالى: «وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» الى آخر الآية من سورة الأنعام (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وظلمناهم فعل وفاعل ومفعول به والواو حالية ولكن مخففة مهملة فهي حرف استدراك وكانوا كان واسمها وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون وجملة يظلمون خبر كانوا. (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) ثم حرف عطف للتراخي وان واسمها وللذين خبرها أي غفور للذين وعملوا صلة والسوء مفعول به وبجهالة في موضع الحال من الواو أي عملوا السوء جاهلين ثم تابوا عطف على عملوا ومن بعد متعلقان بتابوا وذلك مضافة لبعد وأصلحوا عطف على تابوا.
(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها ومن بعدها متعلقان بغفور واللام المزحلقة وغفور خبر إن ورحيم خبر ثان. (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو أي ابراهيم وأمة خبر كان أي كان وحده أمة بذاتها لأنه اجتمعت فيه من صفات الكمال ما يجتمع في أمة فصدق فيه قول أبي نواس:
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
وقانتا خبر ثان لكان ولله متعلقان بقانتا وحنيفا خبر ثالث. ولم
382
بك: لم حرف نفي وقلب وجزم ويك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون وحذفت النون للتخفيف وقد مر ذلك في بحث خصائص كان واسم يك مستتر تقديره هو ومن المشركين خبر يك. (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) شاكرا خبر رابع لكان ولأنعمه منعلقان بشاكرا وجملة اجتباه خبر خامس وهداه عطف على اجتباه والى صراط جار ومجرور متعلقان بهداه ومستقيم صفة لصراط.
(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على ما تقدم على طريق الالتفات عن الغيبة الى التكلم لزيادة الاعتناء بشأنه وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به وفي الدنيا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لحسنة وحسنة مفعول به ثان وانه ان واسمها وفي الآخرة متعلقان بمحذوف حال واللام المزحلقة ومن الصالحين خبر ان. (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثم حرف عطف وأوحينا فعل وفاعل وعطفها بثم الدالة على التراخي والتباعد إشعار بالمكانة السميا والمنزلة العليا لمحمد ﷺ وان أجلّ ما أوتي ابراهيم من النعمة اتباع محمد لشريعته، وإليك متعلقان بأوحينا وأن اتبع أن مفسرة أو مصدرية فتكون منصوبة بنزع الخافض وملة ابراهيم مفعول اتبع وحنيفا حال من ابراهيم وسيأتي بحث مجيء الحال من المضاف اليه والواو عاطفة وما نافية وكان واسمها المستتر ومن المشركين خبرها.
الفوائد:
مجيء الحال من المضاف اليه:
تأتي الحال من المضاف اليه بشروط ثلاثة:
383
١- أن يكون المضاف جزءا من المضاف اليه نحو «ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا» فإخوانا حال من المضاف اليه وهو الضمير والصدور بعضه ونحو «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه» فميتا حال من الأخ المضاف اليه اللحم واللحم بعض الأخ ٢- أو كالجزء منه مثل هذه الآية فحنيفا حال من ابراهيم المضاف اليه الملة والملة كبعضه في صحة حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إذ لو قيل واتبع ابراهيم لكان صحيحا.
٣- أن يكون المضاف عاملا في الحال كأن يكون مصدرا أو وصفا نحو «إليه مرجعكم جميعا» فجميعا حال من الكاف والميم المضاف اليه مرجع ومرجع مصدر ميمي عامل في الحال النصب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٨]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
384
الإعراب:
(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) إنما كافة ومكفوفة وجعل فعل ماض مبني للمجهول والسبت نائب فاعل وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بجعل فهو بمثابة المفعول الثاني وجملة اختلفوا صلة وفيه متعلقان باختلفوا وقد تقدم أن اليهود خالفوا نبيهم موسى حيث أمرهم أن يعظموا يوم الجمعة بالتفرغ للعبادة فيه وترك الأشغال فقالوا لا نريده واختاروا السبت فشدد عليهم فيه. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وجملة يحكم خبر إن وبينهم متعلقان بيحكم وكذلك الظرف وهو يوم القيامة وفيما متعلقان بمحذوف حال وجملة كانوا صلة وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبر كانوا.
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ادع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والمفعول محذوف أي الناس والى سبيل ربك متعلقان بادع وبالحكمة حال أي ملتبسا بها والموعظة الحسنة عطف على الحكمة. (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وجادلهم عطف على ادع والهاء مفعول به وبالتي متعلقان بادع وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة الاسمية صلة التي. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إن واسمها وهو مبتدأ وأعلم خبر والجملة خبر إن وبمن متعلقان بأعلم وجملة ضل صلة وعن سبيله متعلقان بضل وهو مبتدأ وأعلم خبر وبالمهتدين متعلقان بأعلم. (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) الواو استئنافية وان شرطية وعاقبتم فعل ماض والتاء فاعل وهو في محل جزم فعل الشرط فعاقبوا الفاء رابطة وعاقبوا فعل أمر وفاعل وبمثل جار ومجرور متعلقان بعاقبوا وما مضاف اليه وجملة عوقبتم صلة وبه
385
متعلقان بعوقبتم وجملة فعاقبوا في محل جزم جواب الشرط.
(وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية وصبرتم في محل جزم فعل الشرط واللام واقعة في جواب القسم لتقدمه وقد تقدم ذلك وهو مبتدأ وخير خبر وللصابرين متعلقان بخير.
(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) واصبر الواو استئنافية واصبر فعل أمر وفاعله مستتر وما صبرك الواو حالية وما نافية وصبرك مبتدأ وإلا أداة حصر وبالله خبر والواو عاطفة ولا ناهية وتحزن فعل مضارع مجزوم بلا وعليهم متعلقان بتحزن. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتك فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر تقديره أنت وفي ضيق خبر تك ومما صفة لضيق وجملة يمكرون صلة.
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) إن واسمها ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والذين مضاف اليه واتقوا صلة والذين عطف على الذين وهم مبتدأ ومحسنون خبر والجملة صلة.
البلاغة:
خواتم سورة النحل:
قوله تعالى «ولا تك في ضيق» يجوز أن يكون من الكلام المقلوب لأن الضيق وصف يكون في الإنسان ولا يكون الإنسان فيه ويجوز أن يراد أن في الكلام تشبيها فقد شبه الضيق بالشيء الذي يحيط بالإنسان وهو من روائع التعبير وجوامع الكلم ولذلك روي عن ابراهيم بن حيان عند ما احتضر أنه قيل له: أوص، فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي ولكني أوصيكم بخواتم سورة النحل.
386
Icon