تفسير سورة الفرقان

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١)
يقال برك الطير على الماء إذا دام وقوفه على ظهر الماء. ومبارك الإبل مواضع إقامتها بالليل. وتبارك على وزن تفاعل تفيد دوام بقائه، واستحقاقه لقدم ثبوته وبقاء وجوده لا عن استفتاح ولا إلى انقطاع.
وفى التفاسير «تَبارَكَ» أي تعظّم وتكبّر. وعند قوم أنه من البركة وهى الزيادة والنفع، فداومه وجوده، وتكبره ستحقاق ذاته لصفاته العلية، والبركة أو الزيادة تشير إلى فضله وإحسانه ولطفه.
فوجوه الثناء عليه تنحصر بهذه الأوجه الثلاثة: ثناء عليه بذكر ذاته وحقّه، وثناء بذكر وصفه وعزّه، وثناء بذكر إحسانه وفضله فكلمة «تَبارَكَ» مجمع الثناء عليه- سبحانه.
«الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ» وهو القرآن «عَلى عَبْدِهِ» : فأكرمه بأن نبّاه وفضّله، وإلى الخلق أرسله، وبيّن معجزته وأمارة صدقه بالقرآن الذي عليه أنزله، وجعله بشيرا ونذيرا، وسراجا منيرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢]
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)
تفرّد بالملك فلا شريك يساهمه، وتوحّد بالجلال فلا نظير يقاسمه فهو الواحد بلا قسيم فى ذاته، ولا شريك فى مخلوقاته، ولا شبيه فى حقّه ولا فى صفاته.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)
اتخذوا من دون الله آلهة لا يملكون قطميرا، ولا يخلقون نقيرا، ولا يدفعون عنهم
كثيرا ولا يسيرا، ولا ينفعونهم ولا يسهّلون عليهم عسيرا، ولا يملكون لأحد موتا «١» ولا نشورا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
ظنّوه كما كانوا، ولمّا كانوا بأمثالهم قد استعانوا فيما عجزوا عنه من أمورهم، واستحدثوا لأمثالهم واستكانوا- فقد قالوا من غير حجّة وتقولوا، ولم يكن لقولهم تحصيل، ولأساطير الأولين ترّهاتهم «٢» التي لا يدرى هل كانت؟ وإن كانت فلا يعرف كيف كانت ومتى كانت؟
ثم قال: يا محمد، إن هذا الكتاب- الذي أنزله الذي يعلم السّرّ فى السماوات والأرض- لا يقدر أحد على الإتيان بمثله ولو تشاغلوا «٣» من الوقت الذي أتى به أعداء الدين، وهم على كثرتهم مجتهدون فى معارضته بما يوجب مساواته فادّعوا تكذيبه. وانقطعت الأعصار وانقضت الأعمار، ولم يأت أحد بسورة مثله، فانتفى الرّيب عن صدقه، ووجب الإقرار بحقّه.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
(١) هكذا فى م وهى في ص (حياة ولا نشورا) والمعنى يتقبلهما أيضا.
(٢) هكذا فى م وهى في ص (برهانهم الذي ) ولكننا آثرنا (ترهانهم) بدليل التأنيث فى (كانت) مكررا.
(٣) هكذا فى ص وهى فى س (ولو تساعدوا).
627
«١»
لما عجزوا عن معارضته أخذوا يعيبونه بكونه بشرا من جنسهم يمشى فى الأسواق، ويأكل الطعام، وعابوه بالفقر وقالوا: هلّا نزّل عليه الملائكة فيرون عيانا؟ وهلّا جعل له الكنوز فاستكثر مالا؟ وهلّا خصّ بآيات- اقترحوها- فتقطع العذر وتزيل عنّا إشكالا؟! وما هذا الرجل إلا بشر تعتريه من دواعى الشهوات ما يعترى غيره! فأىّ خصوصية له حتى تلزمنا متابعته ولن يظهر لنا حجة؟ فأجاب الله عنهم وقال: إنّ الحقّ قادر على تمليك ما قالوا وأضعاف ذلك، وفى قدرته إظهار ما اقترحوه وأضعاف ذلك، ولكن ليس لهم هذا التخير «٢» بعد ما أزيح العذر بإظهار معجزة واحدة، واقتراح ما يهوون تحكّم على التقدير، وليس لهم ذلك. ثم أخبر أنه لو أظهر تفصيل ما قالوه وأضعافه لم يؤمنوا لأن حكم الله بالشقاوة سابق لهم، وقال:
(١) يذكر ابن عباس أنه لم اعبر المشركون محمدا (ص) بالفاقة أقبل رضوان خازن الجنة عليه وقال:
يا محمد، رب العزة يقرئك السلام ويقول لك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عنده فى الآخرة مثل جناح بعوضة فقال النبي: يا رضوان لا حاجة لى فيها، لأحب إلى أن أكون عبدا صابرا شكورا فقال رضوان: أصبت أصابك الله. ورفع الرسول بصره فإذا منازله فوق منازل الأنبياء وغرفهم فدعا النبي: اللهم اجعل ما أردت أن تعطينى فى الدنيا ذخيرة عندك فى الشفاعة يوم القيامة.
(٢) يمكن أن تكون (التحيز) لتنسجم مع (ما اقترحوه) ومع (ما يهوون) ولكننا لا نستبعد أن تكون (التحيز) بالحاء لكثرة جدلهم حول ما ينبغى- فى تصورهم- للرسول.
628

[سورة الفرقان (٢٥) : آية ١١]

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١)
فهم فى حكم الله من جملة الكفار، والله أعدّ لهم ولأمثالهم من الكفار وعيد الأبد..
فلا محالة يمتحنون به.
قوله: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» : دليل على جواز التكليف بما لا يقدر عليه العبد فى الحال لأنه أخبر أنهم لا يستطيعون سبيلا، وهم معاتبون مكلّفون.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ١٢]
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢)
فوحشة النار توجد من مسافة بعيدة قبل شهودها والامتحان بها، ونسيم الجنة يوجد قبل شهودها والدخول فيها، والنار تسجّر منذ سنين قبل المحترقين بها، والجنة تزيّن منذ سنين قبل المستمتعين بها. وكذب من أحال «١» وجودهما قبل كون سكانهما وقطانهما من المنتفعين أو المعاقبين، لأن الصادق أخبر عن صفاتهما التي لا تكون إلا بموجود حيث قال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
راحة الجنة مقرونة بسعتها، ووحشة النار مقرونة بضيقها، فيضيّق عليهم مكانهم، ويضيّق عليهم قلوبهم، ويضيق عليهم أوقاتهم. ولو كانت حياتهم تبطل وكانوا يتخلصون
(١) لهذا الرأى أهميته حيث يرى كثير من المعتزلة أن الجنة والنار لا يوجدان الآن وإنما يوجدان فى الآخرة عند الجزاء، وأجمع المعتزلة- بخلاف جهم وحده- أنهما لا تفنيان ولا يفنى أهلهما، وهم في هذا يتفقون مع الأشاعرة. أما مخالفة جهم لذلك فقد ذكرها الشهرستاني فى (الملل والنحل ج ١ ص ١١١ ط الخانجى) بدعوى أن تلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بجحيمها حركات تتناهى مع أن نصوص القرآن صريحة فى دوامهما.. والقشيري الأشعري يصرح بذلك فى الآيات التالية.
منها لم يكن البلاء كاملا، ولكنها آلام لا تتناهى، ومحن لا تنقضى كلما راموا فرجة قيل لهم:
فلن تريدكم إلا عذابا.
قوله جل ذكره
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ١٥]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥)
المتقون أبدا فى النعيم المقيم حور وسرور وحبور، وروح وريحان، وبهجة وإحسان، ولطف جديد وفضل مزيد، وألذّ شراب وكاسات محابّ، وبسط قلب وطيب حال، وكمال أنس ودوام طرب وتمام جذل، لباسهم فيها حرير وفراشهم سندس وإستبرق. والأسماء أسماء فى الدنيا والأعيان بخلاف المعهودات فيها «١». ثم فيها ما يشاءون، وهم أبدا مقيمون لا يبرحون، ولا هم عنها يخرجون.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ١٦]
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
ولكن لا يخلق فى قلوبهم إلا إرادة ما علم أنه سيفعله، فما هو المعلوم لله أنه لا يفعله لا تتعلق به إرادتهم، ويمنع من قلوبهم مشيئته.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ١٧]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧)
الله يحشر الكفار ويحشر الأصنام التي عبدوها من دون الله، فيحييها ويقول لها:
هل أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ فيتبرأون.. كلّه تهويل وتعظيم للشأن، وإلا فهو عليم بما كان وما لم يكن. فالأصنام تتبرأ منهم، وتقابلهم بالتكذيب، وهم ينادون على أنفسهم بالخطأ والضلال، فيلقون فى النار، ويبقون فى الوعيد إلى الأبد.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)
(١) هذا تنبيه هام جدا لتوضيح حقيقة النعم التي فى الآخرة.
أخبر أن الذين تقدّموه من الرسل كانوا بشرا، ولم تكن الخصوصية لهم إلا ظهور المعجزات عليهم. وفى الجملة الفضائل بالمعاني لا بالصورة، ثم قال:
«وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً».
(فضّل بعضا على بعض، وأمر المفضول بالصبر والرضاء، والفاضل بالشكر على العطاء) «١» وخصّ قوما بالبلاء وجعلهم فتنة لأهل البلاء، وخصّ قوما بالعوافي، وآخرين بالأسقام والآلام، فلا لمن نعّمه مناقب، ولا لمن امتحنه معايب.. فبحكمه لا يجرمهم، وبفضله لا بفعلهم، وبإرادته لا بعبادتهم، وباختياره لا بأوضارهم، وبأقداره لا بأوزارهم، وبه لا بهم.
قوله: «أَتَصْبِرُونَ؟» استفهام فى معنى الأمر، فمن ساعده التوفيق صبر وشكر، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢١]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)
«لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» : لا يؤمنون بالحشر والنشر والرجوع إلى الله فى القيامة من الدنيا.
وكما كانوا لا يخافون العذاب، ولا ينتظرون الحشر كذلك كانوا لا يؤمنون لقاء الله.
فمنّكر الرؤية من أهل القبلة- ممن يؤمن بالقيامة والحشر- مشارك لهؤلاء فى جحد ما ورد به الخبر والنقل لأن النّقل كما ورد بكون الحشر ورد بكون الرؤية لأهل الإيمان «٢».
فالذين لم يؤمنوا قالوه على جهة رؤية المقام لأنفسهم، وأنه مسلم لهم ما اقترحوه من نزول
(١) ما بين القوسين فى م وغير موجود فى ص.
(٢) يعود القشيري بعد قليل إلى شرح موضوع الرؤية عند تفسيره الآية: «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً»
الملائكة عليهم ورؤية ربهم. وذلك وإن كان فى القدرة جائزا- إلا أنه لم يكن واجبا بعد إزاحة عذرهم بظهور معجزات الرسول عليه السلام، فلم يكن اقتراح ما قالوه جائزا لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٢]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)
اقترحوا شيئين: رؤية الملائكة ورؤية الله، فأخبر أنهم يرون الملائكة عند التوفّى، ولكن تقول الملائكة لهم: «لا بشرى لكم!».
«حِجْراً مَحْجُوراً» : أي حراما ممنوعا يعنى رؤية الله عنهم، فهذا يعود إلى ما جرى ذكره، وحمله على ذلك أولى من حمله على الجنة، ولم يجر لها هنا ذكر. ثم فيه بشارة للمؤمنين بالرؤية لأنهم يرون الملائكة ويبشرونهم بالجنة، قال تعالى: «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» «١» فكما لا تكون للكفار بشارة بالجنة وتكون للمؤمنين لا تكون الرؤية للكفار وتكون للمؤمنين.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٣]
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)
هذه آفة الكفار ضاع سعيهم وخاب جهدهم، وضاع عمرهم وخسرت صفقتهم وانقطع رجاؤهم، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وأما أصحاب الحقائق وأرباب التوحيد فى لوح لقلوبهم من سماع هذه الآية ما يحصل به كمال روحهم، وتتأدّى إلى قلوبهم من الراحات ما يضيق عن وصفه شرحهم: ويتقاصر عن ثنائه نطقهم، حيث يسمعون قوله: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» ولقد ظهرت قيمة أعمالهم حيث قال الحقّ لأجله: «وَقَدِمْنا إِلى... » فهم إذا سمعوا ذلك وجب لهم من الأريحية ما يشغلهم عن الاهتمام لقوله: «فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» ويقولون: يا ليت
(١) آية ٣٠ سورة فصلت.
لنا أعمال أهل الدارين ثم لا تقبل منها ذرة وهو يقول بسببها: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ... » ! لأنهم إذا تخلصوا من مواضع الخلل وموجبات الخجل من أعمالهم عدّوا ذلك من أجلّ ما ينالون من الإحسان إليهم «١»، وفى معناه أنشدوا:
سأرجع من حجّ عامى مخجلا لأنّ الذي قد كان لا يتقبّل «٢»
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٤]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
أصحاب الجنة هم الراضون بها، الواصلون إليها، والمكتفون بوجدانها، فحسنت لهم أوطانهم، وطاب لهم مستقرّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
يريد يوم القيامة إذا بدت أهوالها، وظهرت للمبعوثين أحوالها عملوا وتحققوا- ذلك اليوم- أنّ الملك للرحمن، ولم يتخصص ملكه بذلك اليوم، وإنما علمهم ويقينهم حصل لهم ذلك الوقت.
ويقال تنقطع دواعى الأغيار، وتنتفى أوهام الخلق فلا يتجدّد له- سبحانه- وصف ولكن تتلاشى للخلق أوصاف، وذلك يوم على الكافرين عسير، ودليل الخطاب يقتضى أنّ ذلك اليوم على المؤمنين يسير وإلا بطل الفرق فيجب ألا يكون مؤمن إلّا وذلك اليوم يكون عليه هينا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨)
«٣»
(١) هذه إشارة دقيقة غاية الدقة، نأمل أن يفطن إليها القارئ ويستمتع بها.
(٢) معنى البيت مرتبط بالفكرة الصوفية أن عمل الإنسان لا قيمة له، والأمل كله معقود على الفضل الإلهى، فكلما استصغر العابد عبادته بجانب هذا الفضل شعر بقصوره وارتقى فى التجريد والتفويض منزلة بعد منزلة.. وفى هذا تقول رابعة بعد عبادة ليلة كاملة: إن استغفارنا فى حاجة إلى استغفار. [.....]
(٣) قيل نزلت هذه الآية فى أبى بن خلف، وقد قتله الرسول (ص) يوم أحد فى مبارزة، وقيل نزلت فى عقبة بن أبى محيط وكان محالفا لأبىّ.
يندم الكافر على صحبة الكفار. ودليل الخطاب يقتضى سرور المؤمنين بمصاحبة أخدانهم وأحبائهم فى الله، وأمّا الكافر فيضلّ صاحبه فيقع معه فى الثبور، ولكن المؤمن يهدى صاحبه إلى الرشد فيصل به إلى السرور.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
شكا إلى الله منهم، وتلك سنة المرسلين أخبر الله عن يعقوب- عليه السلام- أنه قال: ِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ»
فمن شكا من الله فهو جاحد، ومن شكا إلى الله فهو عارف واجد.
ثم إنه أخبر أنه لم يخل نبيا من أنبيائه صلوات الله عليهم إلا سلّط عليه عدوّا فى وقته، إلا أنّه لم يغادر من أعدائهم أحدا، وأذاقهم وبال ما استوجبوه على كفرهم وغيّهم.
قوله جل ذكره: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً.
كفى بربك اليوم هاديا إلى معرفته، وغدا نصيرا على رؤيته.
ويقال آخر فتنة للمؤمنين ما ورد فى الخبر: أن كل أمة ترى فى القيامة الصنم الذي عبدوه يتبعونه فيحشرون إلى النار، فيلقون فيها ويبقى المؤمنون، فيقال لهم: ما وقفكم؟ فيقولون:
إنهم رأوا معبودهم فتبعوه ونحن لم نر معبودنا! فيقال لهم: ولو رأيتموه.. فهل تعرفونه؟
فيقولون: نعم. فيقال لهم: بم تعرفونه؟
فيقولون: بيننا وبينه علامة. فيريهم شيئا فى صورة شخص فيقول لهم: أنا معبودكم فيقولون: معاذ الله.. نعوذ بالله منك! ما عبدناك. فيتجلّى الحقّ لهم فيسجدون له.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣٢]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢)
أي إنما أنزلناه متفرقا ليسهل عليك حفظه فإنه كان أميا لا يقرأ الكتب، ولأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل عليه السلام بالرسالة إليه فى كل وقت وكل حين..
وكثرة نزوله كانت أوجب لسكون قلبه وكمال روحه ودوام أنسه «١»، فجبريل كان يأتى فى كل وقت بما كان يقتضيه ذلك الوقت من الكوائن والأمور الحادثة، وذلك أبلغ فى كونه معجزة، وأبعد عن التهمة من أن يكون من جهة غيره، أو أن يكون بالاستعانة بمن سواه حاصلا «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣٣]
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)
كان الجواب لما يوردونه على جهة الاحتجاج لهم مفحما، ولفساد ما يقولونه موضحا، ولكن الحقّ- سبحانه- أجرى السّنة بأنه لم يزد ذلك للمسلمين إلا شفاء وبصيرة، ولهم إلا عمى وشبهة.
ثم أخبر عن حالهم فى مآلهم فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣٤]
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
يحشرون على وجوههم وذلك أمارة لإهانتهم، وإن فى الخبر: «الذين أمشاهم اليوم»
(١) لأنه كتاب يحمله رسول الحبيب من الحبيب إلى الحبيب.
(٢) أي أن اتصال القرآن الكريم بحياة الناس وواقع أمورهم آية كونه معجزة بعكس ما يتخرص به المضللون الملحدون الذين يدعون أن محمدا كاتب هذا القرآن، وأنه أوتى ذكاء خارقا كان يجعله يكتب للناس ما يلي احتياجهم ويحل مشاكلهم.. خرست ألسنتهم إن يقولون إلا زورا.
«على أقدامهم يمشيهم غدا على وجوههم» «١»، وهو على ذلك قادر، وذلك منه غير مستحيل.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥)
قلّما يجرى فى القرآن لنبينا- صلى الله عليه وسلم- ذكر إلا ويذكر الله عقيبه موسى عليه السلام. وتكررت قصته فى القرآن فى غير موضع تنبيها على علو شأنه، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور فالتكرير فى الذكر يوجب التفصيل فى الوصف لأن القصة الواحدة إذا أعيدت مرات كثيرة كانت فى باب البلاغة أتمّ لا سيما إذا كانت فى كل مرة فائدة زائدة «٢».
ثم بيّن أنه قال لهما:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣٦]
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)
أي فذهبا فجحد القوم فدمرناهم تدميرا «٣» أي أهلكناهم إهلاكا، وفى ذلك تسلية للنبى- صلى الله عليه وسلم- فيما كان يقاسيه من قومه من فنون البلاء، ووعد له بالجميل فى أنه سيهلك أعداءه كلّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
أحللنا بهم العقوبة كما أحللنا بأمثالهم، وعاملناهم بمثل معاملتنا لقرنائهم. ثم عقّب هذه الآيات بذكر عاد وثمود وأصحاب الرّسّ، ومن ذكرهم على الجملة من غير تفصيل، وما أهلك
(١) القسم الأول من الخبر على النحو التالي: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب وصنف على أرجلهم وصنف على وجوههم» قيل يا رسول الله: كيف يمشون على وجوههم فقال عليه السلام: الذين أمشاهم...
(٢) يضاف هذا إلى ما سبق أن نبهنا إليه عن موقف القشيري من التكرار.
(٣) يلقت القشيري نظرنا إلى ما يعرف فى البلاغة بإيجاز الحذف، فقد اكتفى بذكر أول القصة وآخرها وقد أحسن القشيري حين وطأ لذلك بكلام فى القصة الواحدة التي تعاد أكثر من مرة.
به قوم لوط حيث عملوا الخبائث... كل ذلك تطييبا لقلبه صلى الله عليه وسلم، وتسكينا لسرّه، وإعلاما وتعريفا بأنه سيهلك من يعاديه، ويدمّر من يناويه، وقد فعل من ذلك الكثير فى حال حياته، والباقي بعد مضيّه- عليه السلام- من الدنيا وذهابه.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤١]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١)
كانت تكون له سلوة لو ذكر حالته وشكا إليه قصته، فإذا أخبر الله وقصّ عليه ما كان يلاقيه كان أوجب للسّلوة وأقرب من الأنس، وغاية سلوة أرباب المحن أن يذكروا لأحبائهم ما لقوا فى أيام امتحانهم كما قال قائلهم:
يودّ بأن يمشى سقيما لعلّها... إذا سمعت منه بشكوى تراسله
ويهتزّ للمعروف فى طلب العلى... لتذكر يوما عند سلمى شمائله
وأخبر أنهم كانوا ينظرون إليه- عليه السلام- بعين الإزدراء والتصغير لشأنه لأنهم كانوا لا يعرفون قدره، قال تعالى: «وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٣]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣)
كانوا يعبدون من الأصنام ما يهوون يستبدلون صنما بصنم، وكانوا يجرون على مقتضى ما يقع لهم. والمؤمن بحكم الله لا بحكم نفسه، وبهذا يتضح الفرقان «٢» بين رجل وبين رجل.
والذي يعيش على ما يقع له فعابد هواه، وملتحق بالذين ذكرهم الحقّ بالسوء فى هذه الآية.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٤]
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
(١) آية ١٩٨ سورة الأعراف.
(٢) فرق بين الشيئين فرقا وفرقانا. والفرقان البرهان والحجة، وكل ما فرق به بين الحق والباطل.
كالأنعام التي ليس لها همّ إلّا فى أكلة وشربة، ومن استجلب حظوظ نفسه فكالبهائم. وإنّ الله- سبحانه- خلق الملائكة وعلى العقل جبلهم، والبهائم وعلى الهوى فطرهم، وبنى آدم وركّب فيهم الأمرين فمن غلب هواه عقله فهو شرّ من البهائم، ومن غلب عقله هواه فهو خير من الملائكة.. كذلك قال المشايخ.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦)
قيل نزل الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى بعض أسفاره وقت القيلولة فى ظل شجرة وكانوا خلقا كثيرا فمدّ الله ظلّ تلك الشجرة حتى وسع جميعهم وكانوا كثيرين، فأنزل الله هذه الآية، وكان ذلك من جملة معجزاته عليه السلام.
وقيل إن الله فى ابتداء النهار قبل طلوع الشمس يجعل الأرض كلّها ظلا، ثم إذا طلعت الشمس، وانبسط على وجه الأرض شعاعها فكلّ شخص يبسط له ظلّ، ولا يصيب ذلك الموضع شعاع الشمس، ثم يتناقص إلى وقت الزوال، ثم يأخذ فى الزيادة وقت الزوال.
وذلك من أمارات قدرة الله تعالى لأنه أجرى العادة بخلق الظلّ والضوء والفيء.
قوله: «وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» : أي دائما. «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» أي حال ارتفاع الشمس ونقصان الظّلّ.
ويقال: ألم تر إلى ربك كيف مدّ ظل العناية على أحوال أوليائه فقوم هم فى ظل الحماية، وآخرون فى ظل الرعاية، وآخرون فى ظل العناية، والفقراء فى ظل الكفاية، والأغنياء فى ظل الراحة من الشكاية.
ظل هو ظل العصمة، وظل هو ظل الرحمة فالعصمة للأنبياء عليهم السلام ثم للأولياء، والرحمة للمؤمنين، ثم فى الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبى صلى الله عليه وسلم:
«أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» ثم قوله: «كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» سترا لما كان كاشفة به أولا، إجراء للسّنّة
فى إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه السلام: «لَنْ تَرانِي». وقال لنبينا عليه السلام:
«أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» وشتان ما هما! ويقال أحيا قلبه بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» إلى أن قال: «كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» فجعل استقلاله بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» إلى أن سمع ذكر الظل. ويقال أحياه بقوله:
«أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ» ثم أفناه بقوله: «كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» وكذا سنّته مع عباده يردّدهم بين إفناء وإبقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٤٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)
«١» جعل الليل وقتا لسكون قوم ووقتا لانزعاج آخرين فأرباب الغفلة يسكنون فى ليلهم، والمحبون يسهرون فى ليلهم إن كانوا فى روح الوصال، فلا يأخذهم النوم لكمال أنسهم، وإن كانوا فى ألم الفراق فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم، فالسّهر للأحباب صفة: إمّا لكمال السرور أو لهجوم الهموم. ويقال جعل النوم للأحباب وقت التجلّى بما لا سبيل إليه فى اليقظة، فإذا رأوا ربّهم فى المنام يؤثرون النوم على السّهر «٢»، قال قائلهم:
وإنى لأستغفى وما بي نعسة لعلّ خيالا منك يلقى خياليا
وقال قائلهم:
رأيت سرور قلبى فى منامى فأحببت التّنعّس والمناما
ويقال النوم لأهل الغفلة عقوبة ولأهل الاجتهاد رحمة فإن الحقّ- سبحانه- يدخل عليهم النوم ضرورة رحمة منه بنفوسهم ليستريحوا من كدّ المجاهدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
(١) السبت- القطع. والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته. وقيل السبات- الموت، والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة. وهو كقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ»، ويعضده ذكر النشور فى مقابلته.
(٢) ذكر القشيري فى باب «رؤيا القوم» برسالته أمثلة كثيرة للكرامات التي تحققت للأولياء أثناء نومهم، وكان بعضها ذا تأثير عظيم فى مجرى حيواتهم. (الرسالة ص ١٩٢ وما بعدها).
يرسل رياح الكرم فتهب على قلوب ذوى الحاجات فتزعجها إلى طلب مبارّه، ويرسل رياح الولاية فتهب على قلوب الخواص فتطهرها من جميع الإرادات فتكفى بالله لله، ويرسل رياح الخوف على قلوب العصاة فتحملهم على النّدم، وتطهرها من الإصرار فترجع إلى التوبة، ويرسل رياح الاشتياق على قلوب الأحباب فتزعجها عن المساكنات، وتطهرها عن كل شىء إلا عن اللواعج فلا تستقرّ إلا بالكشف والتجلّى.
ويقال إذا تنسّم القلب نسيم القرب هام فى ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.
قوله جل ذكره: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً.
أنزل من السماء ماء المطر فأحيا به الغياض والرياض، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمة فغسل العصاة ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنّسوا به من الأوزار.
و «الطّهور» هو الطاهر المطهّر، وماء الحياء يطهر قلوب العارفين عن الجنوح إلى المساكنات، وما يتداخلها فى بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يحيي به قلوب المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلّى حتى يزول عنها عطش الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيى به نفوسا ميتة باتباع «١» الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.
قوله جل ذكره
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥١]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١)
(١) الباء في (باتباع) معناها (بسبب).
إنّ الله- سبحانه- خصّ نبينا ﷺ بأن فضّله على الكافة، وأرسله إلى الجملة، وبالا ينسخ شرعه إلى الأبد. وبهذه الآية أدّبه بأدقّ إشارة، حيث قال:
«وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» وهذا كما قال: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» «١».
وقصد الحقّ أن يكون خواصّ عباده أبدا معصومين عن شواهدهم.
وفى القصة أن موسى عليه السلام تبرّم وقتا بكثرة ما كان يسأل، فأوحى الله فى ليلة واحدة إلى ألف نبى من بنى إسرائيل فأصبحوا رسلا، وتفرّق الناس عن موسى عليه السلام إليهم عليهم السلام، فضاق قلب موسى وقال: يا رب، إنى لا أطيق ذلك! فقبض الله أرواحهم فى ذلك اليوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٢]
فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)
أي كن قائما بحقّنا من غير أن يكون منك جنوح إلى غيرنا أو مبالاة بمن سوانا، فإنّا نعصمك بكلّ، وجه، ولا نرفع عنك ظلّ عنايتنا بحال.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٣]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)
البحر الملح لا عذوبة فيه، والعذب لا ملوحة فيه، وهما فى الجوهرية واحد، ولكنه سبحانه- بقدرته- غاير بينهما فى الصفة، كذلك خلق القلوب بعضها معدن اليقين والعرفان وبعضها محلّ الشكّ والكفران.
ويقال أثبت فى قلوب المؤمنين الخوف والرجاء، فلا الخوف يغلب الرجاء، ولا الرجاء يغلب الخوف.
(١) آية ٨٦ سورة الإسراء.
ويقال خلق القلوب على وصفين: قلب المؤمن مضيئا (مشرقا «١» ) وقلب الكافر أسود مظلما، هذا بنور الإيمان مزيّن، وهذا بظلمة الجحود معلّم.
ويقال قلوب العوام فى أسر المطالب ورغائب الحظوظ، وقلوب الخواصّ معتقة عن المطالب، مجرّدة عن رقّ الحظوظ.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٤]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
الخلق متشاكلون فى أصل الخلقة، متماثلون فى الجوهرية، متباينون فى الصفة، مختلفون فى الصورة فنفوس الأعداء مطاياهم تسوقهم إلى النار، ونفوس المؤمنين مطاياهم تحملهم إلى الجنة. والخلق بشر.. ولكن ليس كلّ بشر كبشر واحد عدوّ لا يسعى إلا فى مخالفته، ولا يعيش إلا بنصيبه وحظّه، ولا يحتمل الرياضة ولا يرتقى عن حدّ الوقاحة والخساسة، وواحد ولىّ لا يفتر عن طاعته، ولا ينزل عن همّته، فهو فى سماء تعززه بمعبوده.
وبينهما للناس مناهل ومشارب فواحد يكون كما قال:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٥]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥)
يكتفى بالمنحوت من الخشب، والمصنوع من الصّخر، والمتّخذ من النحاس، وكلّها جمادات لا تعقل ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع.
أما المؤمن فإنّ من صفاته أنّه لا يلتفت إلى العرش- وإن علا، ولا ينقاد بقلبه لمخلوق- وإنّ اتصف بمناقب لا تحصى
(١) وردت فى م ولم ترد فى ص.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٦]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦)
رسولا منّا، مأمورا بالإنذار والتبشير، واقفا حيث وقفناك على نعت التبليغ، غير طالب منهم أجرا، وغير طامع فى أن تجد منهم حظّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٧]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
«إِلَّا» أداة استثناء منقطع إذ ابتغاؤهم السبيل إلى ربّهم ليس بأجر يأخذه منهم، فهو لمن أقبل بشير، ولمن أعرض نذير.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٨]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨)
التوكل تفويض الأمور إلى الله. وحقّه وأصله علم العبد بأنّ الحادثات كلّها حاصلة من الله تعالى، وأنه لا يقدر أحد على الإيجاد غيره.
فإذا عرف هذا فهو فيما يحتاج إليه- إذا علم أن مراده لا يرتفع إلا من قبل الله- حصل له أصل التوكل. وهذا القدر فرض، وهو من شرائط الايمان، فإن الله تعالى يقول:
«وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» »
وما زاد على هذا القدر- وهو سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطرار- فهى أحوال تلحق بالتوكل على وجه كماله.
فإن تقرّر هذا فالناس فى الاكتفاء والسكون على أقسام، ولكلّ درجة من هذه الأقسام اسم: إمّا من حيث الاشتقاق، أو من حيث الاصطلاح.
فأول رتبة فيه أن يكتفى بما فى يده، ولا يطلب زيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة.. وتسمى هذه الحالة القناعة، وفيها يقف صاحيها حيث وقف، ويقنع بالحاصل له
(١) آية ٢٣ سورة المائدة.
والمطلوب منا أن نلاحظ دائما ظاهرة هامة نبهنا إليها في مدخل هذا الكتاب، وهى أن القشيري يحاول أولا استمداد المصطلح الصوفي من كتاب الله، (فالتوكل) الذي هو ركن هام من أركان الطريق الصوفي له أصل فى القرآن. ثم تأتى من بعد ذلك مرحلة البحث فى تطور هذا الأصل ونموه في بينة المتصوفة. [.....]
643
فلا يستزيد. ثم اكتفاء كلّ أحد يختلف فى القلة والكثرة، وراحة قلوب هؤلاء فى التخلص من الحرص وإرادة الزيادة.
ثم بعد هذا سكون القلب فى حالة عدم وجود الأسباب، فيكون مجردا عن الشيء، ويكون فى إرادته متوكلا على الله. وهؤلاء متباينون فى الرتبة، فواحد يكتفى بوعده لأنه صدقه فى ضمانه، فيسكن- عند فقد الأسباب- بقلبه ثقة منه بوعد ربه.. ويسمى هذا توكلا، ويقال على هذا: إن التوكل سكون القلب بضمان الربّ، أو سكون الجأش فى طلب المعاش، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نقده، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد.
وألطف من هذا أن يكتفى بعلم أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله ويعمل على طاعته ولا يراعى إنجاز ما وعده بل يكل أمره إلى الله.. وهذا هو التسليم.
وفوق هذا التفويض «١»، وهو أن يكل أمره إلى الله، ولا يقترح على مولاه بحال، ولا يختار ويستوى عنده وجود الأسباب وعدمها فيشتغل بأداء ما ألزمه الله ولا يفكر فى حال نفسه ويعلم أنه مملوك لمولاه والسيّد أولى بعبده من العبد بنفسه «٢».
فإذا ارتقى عن هذه الحالة، وجد راحة فى المنع واستعذب ما يستقبله من الرّدّ.. وتلك هى مرتبة الرضا «٣» ويحصل له فى هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه مالا يحصل لمن دونه من الحلاوة فى وجود المقصود.
(١) الواقع أن القشيري هنا متأثر بالآراء الكثيرة التي أدلى بها الشيوخ فى هذا الموضوع، وعلى وجه الخصوص بشيخه الدقاق، الذي يقول: التوكل ثلاث درجات: التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه، ويقول كذلك: التوكل بداية والتسليم واسطة، والتفويض نهاية. ويقول كذلك: التوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين. (الرسالة ص ٨٥).
(٢) يروى فى هذا الباب أن جماعة سألوا الجنيد: أين نطلب الرزق؟
فقال: إن علمتم فى أي موضع هو فاطلبوه. قالوا: فنسأل الله تعالى ذلك.
فقال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه. فقالوا: ندخل البيت فنتوكل؟
فقال: التجربة شك قالوا: فما الحيلة؟
فقال: ترك الحيلة (الرسالة الصفحة ذاتها).
(٣) كذلك ربط السراج فى «لمعه» بين التوكل والرضا بوصفهما مقامين متتاليين فى مقامات الطريق (اللمع ص ٧٩ من أسفل).
644
وبعد هذا الموافقة وهى ألا يجد الراحة فى المنع، بل يجد بدل هذا عند نسيم القرب زوائد الأنس بنسيان كلّ أرب، ونسيان وجود سبب أو عدم وجود سبب فكما أن حلاوة الطاعة تتصاغر عند برد الرضا- وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجابا- فكذلك أهل الأنس بالله.. بنسيان كلّ فقد ووجد، وبالتغافل عن أحوالهم فى الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع، والاستقلال بلطائف الرضا نقصانا فى الحال.
ثم بعد هذا استيلاء سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء.. وأمثال هذا، وذلك هو عين التوحيد، فعند ذلك لا أنس ولا هيبة، ولا لذة ولا راحة، ولا وحشة ولا آفة.
هذا بيان ترتيبهم «١». فأمّا ما دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين- على تباين شربهم- يختلف على حسب اختلاف محالّهم.
فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل فى المهد لا شىء من قبله إلا أن يرضعه من هو فى حضانته «٢».
ويقال التوكل زوال الاستشراف، وسقوط الطمع، وفراغ القلب من تعب الانتظار.
ويقال التوكل السكون عند مجارى الأقدار على اختلافها.
ويقال إذا وثق القلب يجريان القسمة لا يضره الكسب، ولا يقدح فى توكله «٣».
ويقال عوام المتوكلين إذا أعطوا شكروا، وإذا منعوا صبروا. وخواصّهم إذا أعطوا آثروا، وإذا منعوا شكروا.
(١) هذا الترتيب الذي ذكره القشيري على جانب كبير من الأهمية لأنه أولا يكشف عن التدرج في مراتب التوكل واحدة بعد الأخرى، والدقائق النفسية المرتبطة بكل منها، كما أنه يكشف عن مرحلة الانتقال من المقامات- التي هى جهود- إلى الأحوال التي هى من عين الجود. وواضح أن (الرضا) يحمل فى طياته طبيعة هذه المرحلة الانتقالية، وقد عالج القشيري هذه الظاهرة فى رسالته ص ٩٧.
(٢) القشيري متأثر بأقوال الشيوخ فى ذلك: نحو (المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوى إليه إلا ثدى أمه (الرسالة ص ٨٥ وقولهم) (الصوفية أطفال فى حجر الحق) الرسالة ص ١٣٩.
(٣) هذه نقطة هامة جدا توضح أن التوكل الصوفي الحق لا يتعارض مع الكسب، ولا يتعارض معه الكسب.. وقد كذب من ادعى التواكل وكذب من انهم الصوفية بالتكاسل.
645
ويقال الحق يجود على الأولياء- إذا توكلوا- بتيسير السبب من حيث يحتسب ولا يحتسب، ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب... وإذا لم يكن الأرب فمتى يكون الطلب؟
ويقال التوكل فى الأسباب الدنيوية إلى حدّ، فأمّا التوكل على الله فى إصلاحه- سبحانه- أمور آخرة العبد فهذا أشدّ غموضا، وأكثر خفاء. فالواجب فى الأسباب الدنيوية أن يكون الشكون عن طلبها غالبا، والحركة تكون ضرورة أفأمّا فى أمور الآخرة وما يتعلّق بالطاعة فالواجب البدار والجدّ والانكماش، والخروج عن أوطان الكسل والجنوح إلى الفشل.
والذي يتّصف بالتواني فى العبادات، ويتباطؤ فى تلافى ما ضيّعه من إرضاء الخصوم والقيام بحقّ الواجبات، ثم يعتقد فى نفسه أنه متوكّل على الله وأنه- سبحانه- يعفو عنه فهو متّهم معلول الحال، ممكور مستدرج، بل يجب أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه.
ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستند إلى سكونه وحركته، ويتبرّأ بسرّه من حوله وقوّته. ثم يكون حسن الظنّ بربّه، ومع حسن ظنه بربه لا ينبغى أن يخلو من مخافته، اللهم إلا أن يغلب على قلبهما يشغله فى الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة فى العواقب فإن ذلك- إذا حصل- فالوقت غالب، وهو أحد ما قيل فى معانى قولهم: الوقت سيف «١» قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٩]
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)
انتظم به الكون- والعرش من جملة الكون- ولم يتجمّل الحقّ- سبحانه- بشىء
(١) فى هذا المعنى يقول القشيري «أي كما أن السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب، وكما أن السيف لين مسه قاطع حده فمن لاينه سلم، ومن خاشنه اصطلم كذلك الوقت من استسلم لحكمه نجا، ومن عارضه انتكس وتردى، ومن ساعده الوقت فالوقت له وقت، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت.
وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول: الوقت مبرد يسحقك ولا يمحقك»
الرسالة ص ٣٤.
من إظهار بريّته فعلوّه على العرش بقهره وقدرته، واستواؤه بفعل خص به العرش بتسوية أجزائه وصورته «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
أقبل الحقّ- سبحانه- بلطفه وبفضله على أقوام فلذلك وجدوه، وأعرض عن آخرين بتكبره وتعزّزه فلذلك جحدوه فطرهم على سمة البعد، وعجن طينتهم بماء الشقاوة والصدّ، فلما أظهرهم ألبسهم صدار الجهل والجحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦١]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١)
زيّن السماء الدنيا بمصابيح، وخلق فيها البروج، وبثّ فيها الكواكب، وصان عن الفطور والتشويش أقطارها ومناكبها، وأدار بقدرته أفلاكها، وأدام على ما أراد إمساكها.
وكما أثبت فى السماء بروجا (أثبت فى سماء قلوب أوليائه وأصفيائه بروجا) «٢» فبروج السماء معدودة وبروج القلب مشهودة.
وبروج السماء (بيوت) «٣» شمسها وقمرها ونجومها، وبروج القلوب مطالع أنوارها ومشارق شموسها ونجومها. وتلك النجوم التي هى نجوم القلوب كالعقل، والفهم والبصيرة والعلم، وقمر القلوب المعرفة.
(١) كانت هذه الآية وأمثالها فرصة لآراء كلامية خطيرة سواء من ناحية استواء الله- سبحانه- على العرش ومسألة تنزههه عن المكانية، أو من ناحية خلق الله ما بين السماوات والأرض وهل المقصود بذلك خلق أفعال الإنسان. وقد ناقش الباقلاني فى كتابه (التمهيد فى أصول الدين) كلا الأمرين، والواقع أن القشيري- تلميذ الباقلاني- متأثر بآراء أستاذه إلى حد كبير، وإن كان الباقلاني أقل تأويلا للصفات الخبرية منه.
(٢) غير موجودة فى ص وموجودة فى م.
(٣) فى ص (ثبوت) وفى م (بيوت) وقد رجحنا هذه لأن البرج (بيت يبنى على سور المدينة وفي أعلاها) كما جاء فى المعاجم.
قمر السماء له نقصان ومحاق، وفى بعض الأحايين هو بدر بوصف الكمال، وقمر المعرفة أبدا له إشراق وليس له نقصان أو محاق، ولذا قال قائلهم:
دع الأقمار تخبو أو تنير لها بدر تذلّ له البدور
فأمّا شمس القلوب فهى التوحيد، وشمس السماء تغرب ولكن شمس القلوب لا تغيب ولا تغرب، وفى معناه قالوا:
إن شمس النهار تغرب بالليل وشمس القلوب ليست تغيب
ويصحّ أن يقال إن شمس النهار تغرب بالليل، وشمس القلوب سلطانها فى الضوء والطلوع بالليل أتمّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٢]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
الأوقات متجانسة، وتفضيلها بعضها على بعض على معنى أنّ الطاعة فى البعض أفضل والثواب عليها أكثر. والليل خلف النهار والنهار خلف الليل، فمن وقع له فى طاعة الليل خلل فإذا حضر بالنهار فذلك وجود جبرانه، وإن حصل فى طاعة النهار خلل فإذا حضر بالليل ففى ذلك إتمام لنقصانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٣]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)
الذين استوجبوا رحمة الرحمن هم الذين وفّقوا للطاعات، فبرحمته وصلوا إلى التوفيق للطاعة. وعباد الرحمن الذين يستحقون غدا رحمته هم القائمون برحمته فبرحمته وصلوا إلى طاعته.. هكذا بيان الحقيقة، وبطاعتهم وصلوا إلى جنّته.. هكذا لسان الشريعة.
ومعنى «هَوْناً» متواضعين متخاشعين
ويقال شرط التواضع وحده ألا يستحسن شيئا من أحواله، حتى قالوا «١» : إذا نظر إلى رجله لا يستحسن شسع نعله، وعلى هذا القياس لا يساكن أعماله، ولا يلاحظ أحواله.
قوله: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» : قيل سداد المنطق ويقال من خاطبهم بالقدح فهم يجاوبونه بالمدح له.
ويقال إذا خاطبهم الجاهلون بأحوالهم، الطاعنون فيهم، العائبون لهم قابلوا ذلك بالرّفق، وحسن الخلق، والقول الحسن والكلام الطيب.
ويقال يخبرون من جفاهم أنهم فى أمان من المجافاة «٢» قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٤]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤)
يبيتون لربهم ساجدين، ويصبحون واجدين فوجد صباحهم ثمرات سجود أرواحهم، كذا فى الخبر: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» أي عظم ماء، وجهه عند الله، وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود محسّن وباطن بالوجود مزيّن.
ويقال متصفين بالسجود قياما بآداب الوجود.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦)
يجتهدون غاية الاجتهاد، ويستفرغون نهاية الوسع، وعند السؤال ينزلون منزلة العصاة، ويقفون موقف أهل الاعتذار، ويخاطبون بلسان التنصّل «٣» كما قيل:
وما رمت الدخول عليه حتى حللت محلة العبد الذليل
(١) هذا القول سمعه القشيري من شيخه الدقاق (الرسالة ص ٧٤).
(٢) وردت (المكافاة) والصواب أن تكون (المجافاة) بمعنى أنهم لا يقابلون الجفاء بالجفاء، فمن عاداهم أمن من انتقامهم أو على معنى أن مجافاة الأعداء لا تصيبهم بأذى إذ ليس فى مقدور أحد أن يؤذى أولياء الله.
(٣) وفى ذلك يقول الرسول صلوات الله عليه: «الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» رواه احمد عن عائشة، والترمذي وابن أبى حاتم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٧]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
الإسراف أن تنفق فى الهوى وفى نصيب النّفس، فأمّا ما كان لله فليس فيه إسراف، والإقتار ما كان ادخارا عن الله. فأمّا التضييق على النّفس منعا لها عن اتباع الشهوات ولتتعود الاجتزاء باليسير فليس بالإقتار المذموم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٨]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨)
«١» «إِلهاً آخَرَ» : فى الظاهر عبادة الأصنام المعمولة من الأحجار، المنحوتة من الأشجار.
وكما تتصف بهذا النفوس والأبشار فكذلك توهّم المبارّ والمضارّ من الأغيار شرك.
«وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ... » من النفوس المحرّم قتلها على العبد نفسه المسكينة، قال تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» «٢». وقتل النّفس من غير حقّ تمكينك لها من اتباع ما فيه هلاكها فى الآخرة فإنّ العبد إذا لم ينه مأمور.
(١) (عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا عليه الصلاة والسلام فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو نخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت الآية: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ... إلى قوله تعالى: غَفُوراً رَحِيماً» رواه مسلم عن ابراهيم بن دينار عن حجاج. و (عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟
قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قال: قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك.
قال قلت ثم أي؟
قال: أن تزانى حليلة جارك. فأنزل الله هذه الآية وما بعدها تصديقا لذلك) رواه البخاري، ومسلم عن عثمان بن أبى شيبة، عن جرير.
و (عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أتى وحشي إلى النبي (ص) فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرنى حتى أسمع كلام الله، فقال الرسول: قد كنت أحب أن أراك على غير جوار، فأما إذ أتيتنى مستجيرا فأنت فى جوارى حتى تسمع كلام الله. قال: فإنى أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت، فهل يقبل الله منى توبة؟ فصمت رسول الله ﷺ حتى نزلت الآية.. وأسلم وحشي). [.....]
(٢) آية ٢٩ سورة النساء.
ثم دليل الخطاب أن تقتلها بالحقّ «١»، وذلك بذبحها بسكين المخالفات، فما فلاحك إلا بقتل نفسك التي بين جنبيك.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٩]
يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩)
يضاعف لهم العذاب يوم القيامة بحسرات الفرقة وزفرات الحرقة. وآخرون يضاعف لهم العذاب اليوم بتراكم الخذلان ووشك الهجران ودوام الحرمان. بل من كان مضاعف العذاب فى عقباه فهو الذي يكون مضاعف العذاب فى دنياه جاء فى الخبر: من كان بحالة لقى الله بها.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٠]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
إِلَّا مَنْ تابَ من الذنب فى الحال وآمن فى المآل.
ويقال «وَآمَنَ» أن نجاته بفضل الله لا بتوبته، «وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» لا ينقض توبته.
ويقال إن نقض توبته عمل صالحا أي جدّد توبته «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ». ويخلق لهم التوفيق بدلا من الخذلان «٢».
ويقال يبدل الله سيئاتهم محسنات فيغفر لهم ويثيبهم على توبتهم.
ويقال يمحو ذلّة زلّاتهم، ويثبت بدلها الخيرات والحسنات، وفى معناه أنشدوا:
ولما رضوا بالعفو عن ذى زلة حتى أنالوا كفّه وأفادوا
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)
(١) تذكر كيف يفرق القشيري بين حظ النفس وحق الله، ولاحظ كيف أحسن استغلال الاستثناء هنا (قتل النفس إلا بالحق) أي ذبحها بسكين المجاهدات في سبيل حق الله.
(٢) واضح من هذا الرأى مدى اتساع صدور الصوفية للأمل في الأخذ بيد العصاة، فرحمة الله- فى نظرهم- أكثر رجابة من أن تضيق في وجه من عثرت أقدامه.
يستمكنون فى مواطن الصدق لا يبرحون عنها ليلا ونهارا، وقولا وفعلا. وإذا مروا بأصحاب الزلات ومساكن المخالفات مروا متمكنين معرضين لا بساكنون أهل تلك الحالة.
ويقال نزلت الآية فى أقوام مرّوا- لمّا دخلوا مكة بأبواب البيوت التي كانوا يعبدون فيها الأصنام مرة- متكرمين دون أن يلاحظوها أو يلتفتوا إليها فشكر الله لهم ذلك.
ثم قال فى صفتهم: «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» :
بل قابلوها بالتفكير والتأمل، واستعمال النظر.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٤]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤)
قرة العين من به حياة الروح، وإنما يكون كذلك إذا كان بحقّ الله قائما.
ويقال قرة العين من كان لطاعة ربه معانقا، ولمخالفة أمره مفارقا.
«وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» الإمام من يقتدى به ولا يبتدع.
ويقال إن الله مدح أقواما ذكروا رتبة الإمامة فسألوها بنوع تضرع، ولم يدّعوا فيها اختيارهم فالإمامة بالدعاء لا بالدعوى، فقالوا: «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً».
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٥]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥)
يعطى- سبحانه- الكثير من عطائه ويعده قليلا، ويقبل اليسير من طاعة العبد ويعده كثيرا عظيما، يعطيهم الجنة قصورا وحورا ثم يقول: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ»، ويقبل اليسير من العبد فيقول: «فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» «١».
(١) آية ٢٢ سورة الذاريات.
قوله: «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» : يسمعون سلامه عليهم بلا واسطة، ويتجلّى لهم ليروه من غير تكلف نقل، ولا تحمل قطع مسافة «١» ويقال «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» «٢» : اليوم يحضر العبد بيته لأداء العبادة، وينقل أقدامه إلى المساجد، وغدا يجازيهم بأن يكفيهم قطع المسافة، فهم على أرائكهم- فى مستقرّ عزّهم- يسمعون كلام الله، وينظرون إلى الله.
قوله: «بِما صَبَرُوا» أي صبروا عمّا نهوا عنه، وصبروا على الأحكام التي أجراها عليهم بترك اختيارهم، وحسن الرضا بتقديره.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٦]
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦)
مقيمين لا يبرحون منازلهم «٣»، وفى أحوالهم حسن مستقرهم مستقرا، وحسن مقامهم مقاما.
قوله جل ذكره:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٧]
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
لولا عبادتكم الأصنام ودعاؤكم إياها باستحقاق العبادة وتسميتكم لها آلهة.. متى كان يخلدكم فى النار؟.
ويقال لولا تضرعكم ودعاؤكم بوصف الابتهال لأدام بكم البلاء، ولكن لما أخذتم فى الاستكانة والدعاء، وتضرّعتم رحمكم وكشف الضرّ عنكم.
(١) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري فى موضوع الرؤية فى الآخرة
(٢) آية: ٦٠ سورة الرحمن.
(٣) يضاف هذا الكلام إلى رأى القشيري فى تأبيد تنعم أهل الجنة.
653
تم المجلد الثاني ويلية المجلد الثالث وأوله سورة الشعراء
654
فهرس
سورة التوبة ٥ سورة يونس ٧٦ سورة هود ١٢٠ سورة يوسف ١٦٤ سورة الرعد ٢١٥ سورة إبراهيم ٢٣٨ سورة الحجر ٢٦٢ سورة النحل ٢٨٤ سورة بنى إسرائيل ٣٣٣ سورة الكهف ٣٧٥ سورة مريم ٤١٨ سورة طه ٤٤٤ سورة الأنبياء ٤٩١ سورة الحج ٥٢٧ سورة المؤمنون ٥٦٦ سورة النور ٥٩٢ سورة الفرقان ٦٢٥
655

[الجزء الثالث]

بسم الله الرّحمن الرّحيم «طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» تلك دلالات كرمنا، وأمارات فضلنا، وشواهد برّنا نبيّن لأوليائنا صدق وعدنا، ونحقق للأصفياء حفظ عهدنا.
بطهارة قدسى وسناء عزّى لا أخيب أمل من أمّل لطفى، بوجود برّى تطيب قلوب أوليائى، وبشهود وجهى تغيب أسرار أصفيائى.
طلب القاصدين مقابل بلطفي، وسعى العاملين مشكور بعطفى.
هذا الكتاب بيان وشفاء، ونور وضياء، وبشرى ودليل لمن حقّقنا له الإيمان، وأكّدنا له الضمان، وكفلنا له الإحسان» عبد الكريم القشيري عند سورة النمل
3
Icon