هذه السورة مكية كلها، وهي فيها من المعاني والأخبار والعبر وألوان الترهيب والتحذير ما هو كثير.
والسورة مبدوءة بذكر الملائكة الأطهار العظام على اختلاف هيئاتها وأجنحتها، وأولئك خَلْق أبرار يعبدون الله دوما لا ينقطعون ولا يفترون.
وفي السورة يحذر الله عباده من تغرير الشيطان لهم بما يزينه لهم من فتن الحياة الدنيا وزينتها وزخرفها.
وتتضمن السورة بيانا بأجناس شتى من الخلائق التي ذرأها الله في هذا الكون مما يدل على عظمته سبحانه وجلال قدره، وذلك كخلْق الإنسان من تراب، وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر إلى أجل مسمى، وغير ذلك من الكائنات والأجرام في السماء والأرض.
وفي السورة إعلان رباني كريم بأن الناس جميعا فقراء إلى الله، وأنه سبحانه هو الغني وهو مالك كل شيء. وفيها ترسيخ لقاعدة من قواعد الحق والعدل، وهي أن النفس لا تحمل وزر نفس أخرى وإنما يناط بالمرء من المسئولية والحساب ما قدمته يداه.
وفي السورة وصف لحال الكافرين الخاسرين وهم خلود في النار فلا يبرحونها ولا يخفف عنهم من لهيبها واستعارها. إلى غير ذلك من المواعظ والعبر وألوان التخويف والتحذير.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ذلك ثناء من الله عز وجل على نفسه ؛ فهو الخالق المعبود الجدير بالشكر الكامل، وهو سبحانه ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ﴿ فَاطِرِ ﴾ مجرور على أنه صفة لاسم الله تعالى. أو على البدل منه١ و ﴿ فَاطِرِ ﴾ من الفطر أي الابتداء والاختراع٢. قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها ؛ أي بدأتها. والمراد : أن الله وحده جدير بالعبادة والشكر الكاملين ؛ فهو سبحانه بديع السماوات والأرض وخالقهما وما فيهما وما بينهما. وما ينبغي لأحد من دون الله أن تذعن له القلوب وتخرَّ له النواصي. وهو سبحانه :﴿ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ﴾ ﴿ رُسُلاً ﴾ مفعول ثان ؛ أي جعل الله الملائكة رسلا إلى أنبيائه، أو لينيط بهم من الوجائب والمسؤوليات ما يبادرون بفعله سراعا ﴿ أُولِي أَجْنِحَةٍ ﴾ أي أصحاب أجنحة يطيرون بها سراعا خفافا ليبلغوا ما أمروا به، أو ليفعلوا ما يكلّفهم الله بفعله.
قوله :﴿ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ﴾ هذه الأسماء في موضع زجر على الوصف ؛ لأجنحة، وهي غير منصرفة لأنها صفات، ولكونها معدولة من جهة اللفظ والمعنى. أما العدل من جهة اللفظ : فإن ﴿ مثنى ﴾ معدول عن اثنين. ﴿ وثلاث ﴾، معدول عن ثلاثة. ﴿ ورباع ﴾ معدول عن أربعة.
وأما العدل من جهة المعنى : فلأنه يقتضي التكرار ؛ فمثنى عن اثنتين اثنتين، و ﴿ وثلاث ﴾ عن ثلاثة ثلاثة، و ﴿ رباع ﴾ عن أربعة أربعة٣
والمعنى، أن من الملائكة من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أجنحة. ومنهم من له أربعة أجنحة. ومنهم من له أكثر من ذلك. وهم يهبطون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون من الأرض إلى السماء.
قوله :﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ والمراد زيادته خَلْقَ هذا الملك من الأجنحة على الآخر ما يشاء. ونقصانه عن الآخر ما يريد. والله له الخلْقُ والأمر والسلطان.
وهو قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ الله قادر على فعل ما يشاء أو خلْق ما يشاء من الملائكة أو غيرهم. فهو الخلاّقُ المقتدر، لا راد لحكمه أو قضائه٤.
٢ مختار الصحاح ص ٥٠٧
.
٣ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٨٥
.
٤ تفسير الطبري ج ٢٢ ص ٧٦-٧٧ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٤٦.
﴿ مّا ﴾ شرطية في موضع نصب للفعل يفتح ﴿ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ﴾ في موضع جزم جواب الشرط١ والمعنى : أن كل شيء كائن بإرادة الله وقدره فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فإن أراد الله بسط رحمته وفضله على العباد فلا يقدر أحد أن يحبس ذلك أو يمنعه، وإن أراد الله أن يمسك رحمته وفضله عنهم فليس من أحد بقادر على إرساله ؛ وفي ذلك روى الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفعُ ذا الجد منك الجد ".
قوله :﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ الله القوي القاهر الذي لا يغلبه غالب وهو الجبار المقتدر الذي ينتقم من الظالمين المجرمين. وهو سبحانه الحكيم في أقواله وأفعاله ومقاديره.
.
وفي الآية يأمر الله عباده أن يذكروا نعمته عليهم وذلك بدوام شكره والثناء عليه لما منَّ به عليهم من وجوه النعم التي لا تحصى ؛ وهي نِعَمٌ كثير وعديدة ومبسوطة ومختلفة، وهي مبثوثة في كل جوانب الإنسان والحياة.
قوله :﴿ هََلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ لا يملك أحد أن يبسط للناس شيئا من الرزق أو أسبابه كإنزال المطر من السماء، وتسخير الرياح اللواقح المبشرات بالخير، أو إنبات النبات من الأرض. بل الله وحده قادر على ذلك ؛ فهو بذلك جدير بإفراده بالعبادة والتوحيد والإذعان له دون غيره من الآلهة الموهومة والأنداد المفتراة. وذلكم هو الله الخالق الرزاق ﴿ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي كيف تصرفون عن عبادة الله وحده وإفراده دون غيره بالإلهية وكمال الطاعة ثم تتخذون من دونه آلهة أخرى وأنتم تعترفون بأنه الخالق الرازق المقتدر ؟ !
هذا تأنيس من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ إذْ يواسيه ويسرِّي عنه كيلا يبتئس بتكذيب قومه المشركين وبصدهم الناس عن دين الله.
والمعنى : إنْ يكذبك هؤلاء المشركون الضالون يا محمد فلا يحزنك ذلك ولا يعظُم عليك ؛ فذلك دأب أمثالهم من الأمم السابقة، أولئك الذين كفروا بربهم وعصوا رسلهم وصدوا عن سبيل الله. وليس قومك المشركون إلا نظراءَ أولئك الظالمين الفاسقين.
قوله :﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾ أي أن كل شيء صائر إلى الله ؛ فهو سبحانه وتعالى جامع هؤلاء المشركين وأمثالهم ليوم القيامة ليناقشوا الحساب فيجازيهم ربهم بما عملوا من كفر وجحْدٍ وصد عن سبيله.
قوله :﴿ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ ﴿ الْغَرُورُ ﴾ معناه الشيطان ؛ فهو الذي يخدع الناس فيضلهم ويغويهم. والمعنى : لا يخدعنكم هذا الخبيث اللعين بوسوسته واحتياله وخداعه ؛ إذ يزين لكم الشرور والمعاصي ويزهِّدكم في سلوك الصواب والسداد وفعل الطاعات.
على أن الشيطان من الجن. فهو ذو جِبِلَّةٍ غريبة خلقت من نار مستعرة تلتهم كل شيء تمسه ليستحيل إلى رماد. وكذلك الشيطان فإنه كائن جِنّي مُبْغِض لآدم وذريته ؛ وهو بذلك شديد العداوة للإنسان فما يَمَلُّ ولا يكَلُّ من طول الكيد لبني آدم من أجل أن يغويهم ويلهيهم عن دين الله ويغْرِقهم في اللذات والموبقات بما يفضي بهم إلى الخسران وسوء المصير. وبذلك يحذّر الله عباده من طغيان الشيطان عليهم وإغوائه لهم باتخاذه عدوّا لهم. لا جرم أن الشيطان عدو مضلّ مبين، لا مناص لمن يبتغي السلامة والسداد والنجاة من اتخاذه عدوّا لينجو من كيده وخداعه وإغوائه.
وحريٌّ بالذكر هنا أن من البشر أنفسهم شياطين أنجاسا ماكرين، وهم غواة أشرار، وأشقياء فجار يكيدون لدين الله الحق أبلغ كيد، ويتمالئون على الإنسانية لإطغائها وإغوائها وإغراقها في الكفر والمعاصي والفساد. أولئك صنف خبيث من طغاة الشر يدأبون في كل الآناء والأوقات على إفساد الأفراد وتدمير المجتمعات بما يسوّلونه لهم من الشرك والضلال وفعل الخطايا والمنكرات. أولئك شياطين أشرار ماكرون لُدٌّ، خليق بالعباد أن يحذروهم لينجوا من كيدهم وإفسادهم.
قوله :﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ حزب الشيطان : يعني أتباعه وأشياعه وأولياءه. وهم الذين سلكوا سبيل الضلال في الغيِّ والخسران. أولئك الذين يدعوهم الشيطان ليطيعوه ويتبعوا خطواته ثم يسوقهم معه إلى النار١
﴿ الَّذِينَ ﴾ في موضع جر على البدل من ﴿ أصحاب ﴾ أو في محل نصب على البدل من ﴿ حزبه ﴾ أو في محل رفع على أنه مبتدأ، وخبره ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ ١ وذلك بيان من الله عن حال الكافرين الذين عصوا رسول الله وكذبوا بما أنزل إليه من ربه، فأولئك قد أعدَّ الله لهم عذابا شديدا وهو التحريق في النار. ثم بين الله حال المصدقين الله ورسوله، الذين كانوا يعملون الصالحات بأن جزاءهم من الله أن يكفّر عنهم سيئاتهم وآثامهم، وأن يبوءوا بالسعادة في الجنة حيث النعيم المقيم.
قوله :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ الله الهادي إلى سواء السبيل ؛ فهو سبحانه يوفق من يشاء للهداية والرشاد، ويخذل من يشاء عن الإيمان، لحكمة مكنونة لا يعلمها إلا هو سبحانه ﴿ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ ﴿ حَسَرَاتٍ ﴾، منصوب على وجهين. أحدهما : أنه مفعول له. وثانيهما : أنه مصدر١ والمعنى : لا تهلك نفسك حزنا واغتماما على كفرهم وضلالهم وتكذيبهم لك.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ ذلك تخويف من الله للعباد. فالله جلت قدرته يعلم ما يصنعه العباد ؛ إذ لا يخفى عليه من أفعالهم شيء وهو سبحانه مطلع على ما يصنعه المشركون الضالون الذين زيّن لهم الشيطان سوء أعمالهم، فالله يجازيهم بذلك سوء الجزاء٢.
٢ تفسير الطبري ج ٢٢ ص ٧٨-٧٩ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣٢٤-٣٢٦.
هذا برهان من الله على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم لملاقاة الحساب يوم القيامة. وليس ذلك على الله بعزيز ولا عسير ؛ فهو سبحانه ﴿ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ﴾ الله يهيج الرياح لتسوق الغيوم المحملة بقطرات الماء فتزجي بها إلى بلد ذات أرض جدبة وقفار حتى إذا أصابها الماء أنبت الله به الزروع والثمرات على اختلافها وهو قوله :﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ فالأرض حال جفافها وقحوطها ويبسها أشبه بالموتى الذين لا حَراكَ فيهم. بل هم خاوون هامدون. ثم يبعث الله فيهم الحياة والبهجة وحسن المنظر بما يثير فيها من الإنبات والاخضرار.
قوله :﴿ كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ أي هكذا يحيي الله الموتى بعد أن أتى عليهم البلى وكانوا رُفاتا رميما في قبورهم، كما أحيى هذه الأرض بالغيث بعد مماتها ؛ وفي هذا روي عن أبي رزين قوله : قلت : يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ قال صلى الله عليه وسلم :" يا أبا رزين، أما مررت بوادي قومك ممحلا ثم مررت به يهتز خَضِرا ؟ " قلت : بلى. قال صلى الله عليه وسلم : " فكذلك يحيي الله الموتى ".
وفي هذا النص الرباني ما لا يخفى من التنبيه على الاعتزاز بالله وذلك بالإذعان لجلاله العظيم بتمام الخضوع له والطاعة لأمره ؛ فالله وحده مصدر العزة في هذه الدنيا ويوم الأشهاد فما ينبغي للمؤمن بعد رسوخ هذه الحقيقة أن يذل خاويا لغير ربه فيسأله الغلبة والاعتزاز وعلو الشأن. إنه لا يستجير بالكافرين الخاسرين طلبا للعزة منهم إلا الخائرون المستضعفون من الناس.
قوله :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ و ﴿ الْكَلِمُ ﴾ جمع كلمة وهو الكلام٢ وقد اختلفوا في المراد بالكلم الطيب ؛ فقد قيل : هو قول العبد : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقيل : هو لا إله إلا الله. وقيل : كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك. وهذا أولى بالصواب. فإن كل ذكر لله من تلاوة ودعاء واستغفار وتهليل وإنابة، لهو كلم طيب يصعد إلى الله ؛ أي يرتفع إليه. وهو من الصعود بمعنى العروج إلى فوق.
أما العمل الصالح : فهو كل عمل وافق السنة وقَُصد به مرضاة الله. وقوله :﴿ يَرْفَعُهُ ﴾ الرافع هو الله. والتقدير : والعمل الصالح يرفعه الله. كما أن الله، سبحانه، إليه يصعد الكلم الطيب. وقيل : الهاء في قوله :﴿ يَرْفَعُهُ ﴾ تعود على ﴿ الْكَلِمُ ﴾. والتقدير : والعمل الصالح يرفع الكلم٣ وهو قول ابن عباس : وفي الحديث : " لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة ".
وجدير بالبيان هنا أن الذي يذكر الله فيقول كلاما طيبا وهو مؤدٍّ لفرائض الله فلا ريب في ارتفاع ما يقوله من طيب الكلام وما يقوم به من عمل. أما إذا لم يؤد فرائض الله من عبادات ونحوها وقد ذكر الله وقال كلاما طيبا من تلاوة وتسبيح وتهليل ونحو ذلك، فما ينبغي القول إن ذلك كله مردود أو غير متقبَّل، وإنما يقال متقبَّل، وهو مكتوب له بالرغم من كونه عاصيا بتركه فرائض الله. وهو بذلك له حسناته وعليه سيئاته، والله يتقبَّل من المرء ما قدَّم من صالح القول والعمل، إن اجتنب الشرك.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ ﴿ السَّيِّئَاتِ ﴾ منصوب على أنهه مفعول لقوله :﴿ يَمْكُرُونَ ﴾ أي يعملون السيئات. وقيل : صفة لمصدر محذوف وتقديره : يمكرون المكرات السيئات : ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه٤ والمراد بالذين يمكرون السيئات، أهل الشرك. وقيل : هم المراؤون بأعمالهم ؛ فهم بذلك يمكرون بالناس ؛ إذ يوهمونهم أنهم طائعون لله. وهم في الحقيقة بغيضون إليه، بعيدون من رحمته ورضوانه. وقيل : المراد بهم المشركون. والصواب أنها عامة لتشمل المشركين والمنافقين والمرائين والماكرين الذين يمكرون بالإسلام والمسلمين. أولئك جميعا ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ أي عذاب جهنم.
قوله :﴿ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ ﴿ مَكْرُ ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿ يبور ﴾ هو ضمير فصل بين المبتدأ وخبره٥ ﴿ يبور ﴾ من البوار وهو الهلاك. والرجل البور : هو الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. وكذلك المرأة البور. وقوم بور : أي هلكى. وأباره الله : أي أهلكه. وبار المتاع إذا كسد. وبارت البياعات : كسدت. وبارت الأيِّم إذا لم يُرغَب فيها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من بوار الأيم، وبارت الأرض : إذا لم تزرع. وبار عمله : أي بطل٦ والمراد : أي الرياء ؛ فإنهم ماكرون يخادعون الناس بأعمالهم، فإن أعمالهم صائرة إلى البوار، وهو الهلاك والبطلان.
وقيل : هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم : فإما إثباته، أي حبسه. وإما قتله، أو إخراجُه. وقد مرَّ بيان ذلك في سورة الأنفال.
٢ مختار الصحاح ص ٥٧٧.
٣ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٨٧.
٤ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٨٧
.
٥ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٨٧..
٦ أساس البلاغة ص ٥٤ ومختار الصحاح ص ٦٩..
قوله :﴿ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ أي زوَّج بعضكم بعضا، أو جعلكم أصنافا، أي ذكرانا وإناثا لتستوي الحياة على وجه الأرض فتظل عامرة بأهلها من الأناسي حتى يأتي وعدُ الله بزوال الدنيا.
قوله :﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ أي يزوج الذكران من الإناث فيتناسلان بعلم الله بعد إلقاء النطف في الأرحام، ثم حصول الحمل، ثم التناسل، كل ذلك بعلم ؛ فهو سبحانه لا يفوته من ذلك شيء ولا يعزب عن علمه بذلك أيما خبر.
قوله :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ سماه معمرا بما هو صائر إليه. والمعنى : أن من قضيت له أن يعمَّر حتى يدركه الكبر، أو يعمَّر أنقص من ذلك، فكل بالغ أجله الذي قضي له، وكل ذلك في كتاب. فلا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب وهو اللوح المحفوظ ؛ إذ هو مكتوب عند الله، قد علمهُ وأحصاه.
قوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ العلم بالآجال والأعمار، ما طال منها ومالا قُصر، وإحصاء ذلك كله على الخلْق سهل على الله غير متعذر عليه٢.
٢ الكشاف ج ٣ ص ٣٠١-٣٠٣ وتفسير الطبري ج ٢٢ ص ٧٩-٨١ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٥٩٣.
المرتد بالبحرين : النهر والبحر، فماء النهر عذب فرات. والفرات أعذب العذب. وهو سائغ شرابه أي سهل مدخله في الحلق١. وماء البحر ملح أُجاج ؛ أي مرّ. وهذان صنفان من الماء مختلفان غير مستويين. وهذه ظاهرة من ظواهر الطبيعة العجاب التي تزجي بالدليل المستبين على عظيم قدرة الله وبالغ حكمته.
قوله :﴿ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ والمراد به السمك. وهو من الكائنات التي تعيش في الماء سواء فيه العذب أو المِلْح. والسمك طعام نافع مستطاب جعله الله نعمة للعباد يصطادونه في الماء بغير عسر ولا مشقة.
قوله :﴿ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ وهي اللؤلؤ والمرجان ؛ إذْ يُستعملان للبس أو الافتراش أو غير ذلك من وجوه الزينة.
قوله :﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ﴾ ﴿ الْفُلْكَ ﴾ السفن. و ﴿ مَوَاخِرَ ﴾، يعني جواري. مَخَرت السفينة إذا جرت تشقُ الماء مع صوت٢ ؛ أي السفن الجواري في البحر تشق الماء بصدورها شقا وهي تخرُق عُبابَ البحر ﴿ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ﴾ أي ترمون التجارة في أسفاركم فتقطعون المسافات النائية والأقاليم الواسعة طلبا للرزق وتحقيقا للمعاش.
قوله :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي تشكرون الله على ما خوَّلكم من نعمة الطفْوِ على سطح الماء. فقد سخَّر الله لكم البحر ليحمل بكم السفائن فتبلغوا بها ما تريدون من البلدان حيث تقضون فيه حوائجكم ومصالحكم المختلفة.
وهذه ظاهرة عظيمة من ظواهر الطبيعة سخرها الله لنبي آدم ليسيروا على سطح لماء بمراكبهم وأمتعتهم الثقال وهم آمنون مطمئنون. وهذه ظاهرة فريدة خص الله بها الماء دون غيره من المائعات٣.
٢ أساس البلاغة ص ٥٨٤ ومختار الصحاح ص ٦١٧.
٣ الكشاف ج ٣ ص ٣٠٤ وتفسير الطبري ج ٢٢ ص ٨١-٨٢.
هذا دليل آخر يسوقه الله – عز وعلا – مبينا فيه عظيم سلطانه وبالغ اقتداره ؛ فإنه سبحانه ﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ أي يدخل الليل في النهار، وذلك بما ينقصه من الليل فيدخله في النهار، وهو كذلك يولج النهار في الليل، فما ينقصه الله من أجزاء النهار يدخله في الليل فيزيد في أجزائه. وهو انتقاص أحدهما من الآخر، وذلك بزيادة هذا في نقصان هذا. ونقصان هذا في زيادة هذا.
قول :﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ وهذان جُرمان عظيمان سخرهما الله لعباده لما فيهما من جزيل المنافع ؛ فالشمس جرم كوني هائل متوقِّد أو هو كتلة هائلة من النار المتأجّجة الملتهبة يعدل حجمها مليونا وثلثا من المليون من أضعاف حجم الأرض. وهي بذلك تفيض على الدنيا بالدفء والحرارة والنور والضياء وكل أسباب البقاء والعيش على وجه هذه الأرض. وكذلك القمر ؛ فإنه كوكب دائر سيّار حول الأرض، وقد جعله الله في مكانه المعتدل الموزون لتستوي الحياة على الأرض فتظل منسجمة معتدلة. وأيما اختلال في حجم القمر أو في مسافته وبُعْده عن الأرض سوف يفْضي لا محالة إلى اختلال مذهل واضطراب عظيم في وضع الأرض برمتها. ويضاف لذلك ما أودعه الله في القمر من بهجة السطوع الباهر الذي يملأ جوانب الأرض إشراقا وضياء. ويثير في نفوس العباد إحساسا غامرا بروعة الإيناس وجمال السكون المشعشع. لا جرم أن الشمس والقمر آيتان كبريان من آيات الله في الكون الواسع. آيتان تَشْدَهانِ الحس تديران الرأس وتَبعثان على اليقين بعظمة الخالق البديع المقتدر.
قوله :﴿ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ كلاهما يجري إلى وقت معلوم وهو يوم القيامة. وحينئذ تتوقف عجلة الحياة عن الحَراك والدوران، ويأخذ الزمان في لفظ أنفاسه الأخيرة. وذلك إيذان بفناء الحياة وفناء الزمان.
قوله :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ﴾ هذا هو الله الخالق المقتدر الذي صنع كل ذلك وهو بديع السماوات الكائنات، وما حوته الأرض من كنوز ومذخورات، بيده مقاليد كل شيء، فهو وحده المعبود دون سواه من الشركاء والأنداد.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ﴾ القطمير : القشرة الرقيقة التي على النواة، كاللفافة لها١ يعني ما تعبدونه – أيها المشركون – من الآلهة المصطنعة كالأصنام والأوثان ٢ لا يقدرون على شيء ولا يملكون مثقال قشرة أو لفافة تحيط بالنواة وهي في غاية البساطة والامتهان.
٢ الصنم: و الوثن المتخذ من الحجارة أو الخشب. وقيل: الصنم ما اتُخذ من الجواهر المعدنية التي تذوب، والوثن: هو المتخذ من الحجر أو الخشب. انظر المصباح المنير ج ١ ص ٣٧٤.
قوله :﴿ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ﴾ أي لو سمعوا نداءكم أو دعاءكم إياهم وفهموا ما تبتغون منهم لما استجابوا لكم وما نفعوكم ؛ لأنهم عاجزون عن نفعكم وكشف الضر والنوائب عنكم. فما ينبغي لكم بعد أن أيقنتم بهذه الحقيقة أن تعبدوا غير الله الخالق المقتدر ؛ فهو المعبود وحده دون سواه من المخاليق.
قوله :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ﴾ يبين الله للمشركين الغافلين السادرين في الضلالة والتيه أن هذه الآلهة المزعومة التي عبدتموها من دون الله تتبرأ منكم يوم القيامة منكم ومن إشراككم إياها، وتتبرأ من أن يكون شركاء لله في الدنيا. ويومئذ يعضكم الندم ويحيط بكم اليأس والخسران فتبوءون بالويل والوبال وسوء المصير.
قوله :﴿ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ يخاطب الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم قائلا له : إنه ليس من أحد يخبرك يا محمد بمثل هذه الحقائق والأخبار وبما تصير إليه الأمور في الدنيا والآخرة مثل ذي خبرة عليم بذلك. والمراد هو الله سبحانه ؛ فهو العليم الخبير بما يجري وبما هو آتٍ١
ذلك إعلان من الله لعباده يخبرهم فيه أنهم محتاجون إلى ربهم ؛ فهو المالك القادر الذي خلق كل شيء وقدّره تقديرا. وهو الذي أوجد الناس وجعل لهم القدرات والطاقات والأسباب ؛ ليحيوا على هذه الأرض آمنين مستقرين ؛ فهو سبحانه مصدر بقائهم ووجودهم. وهم بذلك فقراء إلى جلاله بالغ الفقر، ومحتاجون دوما إلى رحمته وفضله. وهو سبحانه ﴿ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ الله الغني بملكوته وجبروته وعظيم سلطانه، المهيمن على الوجود كله، وهو سبحانه المحمود الذي يستحق الثناء والشكران والعبادة على ما منَّ به على الخلْق من جزيل النعم.
قوله :﴿ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ﴾ يعني : إنْ تسألْ نفس مُثْقلةٌ بالذنوب والآثام، من يحمل عنها ذنوبها وآثامها أو بعضا منها فإنها لا تجدُ من يحملُ عنها شيئا منها ﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ أي ولو كان الذي سألته ذا قرابة منها كأب أو أم أو أخ أو غيره من أولي القربى. فكل امرئٍ يوم القيامة مشغول بنفسه، مذهول من فرْط همومه وفزعه وما ينتظره من مصير.
وقيل : المراد بهذه الآية أن المرأة تَلقى ولدها يوم القيامة فتقول : يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاءً، ألم يكن ثدي لك سقاءً، ألم يكن حجري لك وطاءً، فيقول : بلى يا أُمّاه. فتقول : يا بني، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا، فيقول : إليك عني يا أُمّاه، فإني بذنبي عنك مشغول.
قوله :﴿ إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ﴾ يعني إنما يتقبّلُ منك الإنذار والموعظةُ وما جئت به من عند الله، الذين يخافون ربهم ويخشون عذابه ويوقنون يوم القيامة، والذين يقيمون الصلاة محافظين عليها مفرطين. وقد خصَّ الصلاة من بين العبادات : بالنظر لأهميتها البالغة ؛ فهي ركن الدين وعماده.
قوله :﴿ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ﴾ أي ومن تطهَّر من الأدناس والأرجاس والخطايا وخشي الله في نفسه فأطاعه والتزم شرعه وأناب إليه فإنما يعود جزاء ذلك كله على نفسه فهو الفائز والمأجور.
قوله :﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ سائر الخلْق صائرون إلى الله ؛ فإليه المرجعُ والمآب ؛ ليجزي كل نفس بما عملت من خير أو سوء٢.
٢ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣٣٨-٣٣٩ وتفسير الطبري ج ٢٢ ص ٨٣-٨٤ والكشاف ج ٢ ص ٣٠٥.
ضرب الله هذه الأمثلة ليبين فيها سعة البون والاختلاف بين أهل الجنة وأهل النار أو بين الحق وأهله وأشياعه، والباطل وجنده وأعوانه. لا جرم أنهما فريقان متباينان مفترقان افتراق النور والظلمة، أو الهداية والعماية.
لقد ضرب الله مثلا الأعمى والبصير، للكافر والمؤمن، وهما لا يستويان ؛ فإنه لا يستوي من عمي قلبه وعقله عن سبيل الحق، ومن آمن واهتدى، وسلك سبيل الرشاد. إنهما لا يستويان بل إنهما مختلفان متباينان وبينهما من سعة البَوْن ما بين المشرق والمغرب، أو ما بين الحق والباطل.
٢ مختار الصحاح ص ١٢٩.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ الله يُسمع آياته وحججه وعباده الطيبين الذين علم أنهم مؤمنون، فيهديهم لطاعته. قال الزمخشري في تأويل هذه الآية : يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه. فيهدي الذي قد علم أن الهداية تنفع فيه، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه.
قوله :﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ الكافرون الخاسرون بمنزلة الموتى من أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه من الآيات و العظات. فهم خامدو هامدون رِمَم وكذلك الكفرة الجاحدون ؛ فإن قلوبهم قد طبع عليها ؛ فهي لا تعي ولا تستجيب ولا تريم١.
قوله :﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ أي ليس من أمة من الأمم إلا سلف فيها نبي ينذرهم بأس الله ويخوفهم عقابه ويحذرهم سوء المصير.
يبين الله كمال قدرته وبالغ إرادته، إذ ينشئ في الخلْق ما يشاء من الكائنات والمخلوقات، كإنبات الزروع والثمرات عقب نزول الماء من السماء. وهو قوله سبحانه عن عظيم شأنه وجلال قدره :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ﴾ خلق الله من الماء الواحد أصنافا شتى من النبات بألوانه المختلفة وطعومه المتنوعة وروائحه المتعددة العجاب، والماء الساقي واحد. كقوله :﴿ يُسقى بماء واحد ونُفضل على بعض في الأكل ﴾.
قوله :﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ﴾ الجدد جمع جدة بضم الجيم وتشديد الدال، وهي الطريقة. والجُدَد، بمعنى الطرائق المختلفة الألوان والتي تخالف لون الجبل١.
قوله :﴿ وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ الغرابيب : الجبال السود الطوال. ومفردها غِربيب. وقيل : غربيب، شديد السواد. والسّود في الآية بدل من غرابيب ؛ لأن توكيد الألوان لا يتقدم٢ وفي الخبر :" إن الله يكره الشيخ الغِربيب " بعني الذي يخْصِب بالسواد.
٢ مختار الصحاح ص ٤٧٠.
على أن ما ذُكر في الآية من إخراج الثمرات بألوانها وطعومها وروائحها المختلفة، وما في الجبال من طرائق مختلفة الأشكال والألوان، فإن ذلك كله يدل على قدرة الصانع الحكيم ذي القوة والجلال والملكوت الذي تذعن له القلوب والنواصي بالخشية والخضوع والطاعة والعبادة.
قوله :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ أولئك أهل النباهة والفطانة والتقوى الذين آمنوا بالله ورسوله، وأيقنوا بالمعاد في اليوم الآخر وأن الله جامع الناس ليوم لا ريب فيه. أولئك الذين يخشون الله ويحرصون أشد الحرص على طاعته والتزام أوامره وشرائعه سبحانه.
قال ابن عباس في تأويل الآية : العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئا وأحل حلاله وحرّم حرامه وحفظ وصيته وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله.
وقال الحسن البصري : العالم من خشي الرحمن بالغيب ورغب فيما رغَّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه.
وقال الزمخشري في تأويل الآية : المراد بالعلماء به الذين علموه صفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه حق قدره وخشوه حق خشيته.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ الله قوي ذو بأس شديد، قاهر للعصاة والمستكبرين. ومنتقم من الطغاة المتجبرين. وهو سبحانه غفار لذنوب عباده التائبين المستغفرين٣
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٨٨.
٣ الكشاف ج ٣ ص ٣٠٦-٣٠٧ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٥٣.
يبين الله حقيقة ما يبتغيه عباده المؤمنين الذين يتلون كتاب ربهم ويتدبرون آياته، والذين يقيمون الصلاة وما كان منها مفروضا أو مندوبا، وينفقون مما رزقهم الله سرّا، والمراد بذلك صدقة التطوع، أو ما كان منها علانية وهي الزكاة المفروضة، فأولئك المؤمنون العابدون ﴿ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ ﴿ يَرْجُونَ ﴾ خبر إن، و ﴿ تَبُورَ ﴾ من البوار وهو الكساد١، والمراد بالتجارة هنا طلب الثواب ببذل الطاعات وعمل الصالحات. أولئك يبتغون بذلك المثوبة من الله وحسن الجزاء.
قوله :﴿ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ الله غفار لذنوبهم متجاوز عن سيئاتهم. وهو سبحانه ﴿ شَكُورٌ ﴾ يتقبل منهم من الأعمال ما قلَّ ويثيبهم عليه جزيل الثواب١.
أي ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب يراد به القرآن، وهو الحق الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه بما تضمنه من جليل المعاني والأحكام والآيات والعبر. وذلكم كله حق من عند الله يهدي به الله عباده إلى الصواب والسداد.
قوله :﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ ﴿ مُصَدِّقًا ﴾، حال مؤكدة. أي أنزلهُ الله مصدقا لما مضى من الكتب السماوية المتقدمة.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ الله لذو علم بما يفعله العباد. وهو سبحانه بصير بما يصلحهم وبما تستقيم عليه أحوالهم.
المراد بالكتاب في الآية، كل كتاب أنزله إلى عباده. وقيل : المراد به القرآن الحكيم ؛ فقد اصطفى الله من عباده هذه الأمة المباركة الفضلى ؛ لتقوم بكتابه الحكيم فتبشر الناس بعلومه وأخباره وأحكامه، وما تضمنه للعالمين من منهج قويم تهتدي به البشرية، لتحيى به آمنة مطمئنة، مبرأة من الأمراض والمفاسد والشرور، ثم قسَّم الله هذه الأمة من حيث احتمالها لكتابه الحكيم ومدى التزامها بشريعته وأحكامه فجعلهم أصنافا ثلاثة.
أما الصنف الأول :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ واختلفوا في تأويله. فقيل : ذلكم المفرِّط في دينه، المخالف أمر ربه. وقيل : الكافر أو الفاسق. وقيل : هو المؤمن العاصي. وهو الأولى بالصواب ؛ لأن الكافرين المفرطين الفاسقين عن أمر الله لا يكونون في زمرة المسلمين الذين اصطفاهم الله لحمل كتابه وتبليغه للناس.
وأما الصنف الثاني :﴿ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ﴾ عرّفه ابن كثير رحمه الله بقوله : هو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات.
وأما الصنف الثالث :﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ وهو الذي يفعل الواجبات والمندوبات ولا يأتي المناهي والمكروهات قال ابن عباس في تأويل قوله :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ﴾ الآية : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ورَّثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقُهم يدخلُ الجنة بغير حساب.
وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه قال في ذلك : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب. وثلث يحاسَبون حسابا يسيرا، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول ما هؤلاء – وهو أعلم تبارك وتعالى – فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يُشركوا بك فيقول الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي.
قوله :﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ ﴿ ذَلِكَ ﴾، في موضع رفع مبتدأ. وخبره ﴿ الْفَضْلُ ﴾ و ﴿ هو ﴾ ضمير فصل بين المبتدأ وخبره. و ﴿ الْكَبِيرُ ﴾ صفة للخبر. ويجوز أن يقال :﴿ ذَلِكَ ﴾، مبتدأ أول. و ﴿ هو ﴾ مبتدأ ثان. و ﴿ الفضل ﴾ خبر المبتدأ الثاني. والمبتدأ الثاني وخبره، خبر عن المبتدأ الأول١.
والمعنى : أن إيتاء الكتاب لهذه الأمة فضل كبير من الله لهم. ما وعدهم الله به جميعا من الجنة له فضل من الله كبير. وقيل : الإشارة عائدة إلى السابق بالخيرات. فسَبْقُهُ بالخيرات وما أعده الله له من عظيم الجزاء لهو فضل من الله كبير فٌضِّلَ به على من دونه في المنزلة.
قال ابن عباس : غفر لهم الكثير من السيئات وشكر لهم اليسير من الحسنات.
قوله :﴿ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ النصب، معناه التعب١ واللغوب، معناه الإعياء والعناء٢. أي يحمدون الله أنْ أنزلهم الجنة حيث الأمن والسعادة والقرار الدائم فلا يصيبهم فيها تعب من أتعاب الدنيا. قال الزمخشري في الفرق بين النصب واللغوب : النَصَب نفس المشقة والتعب. أما اللغوب فما يلحق الناصب المتْعَب من الفتور بسبب النصب. أو ما يعقب التعب من الكلال٣.
٢ أساس البلاغة ص ٥٦٧.
٣ الكشاف ج ٣ ص ٣١٠ وتفسير الطبري ج ٢٢ ص ٩١ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٥٧.
بعد أن ذكر الله حال المؤمنين من أهل النجاة الذين يسعدون بدخول الجنة، فيمكثون لابثين في نعيمها الدائم – شرع سبحانه في بيان أهل الشقاء والتعْس من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بما قدموا من الكفران والمعاصي. أولئك يكبكبون في النار على وجوههم ليجدوا فيها الهوان والعذاب وفظاعة التحريق. وهو قوله :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ﴾ يعني الذين كفروا بالله ورسوله والدار الآخرة أعدَّ لهم نار جهنم يلبثون في سعيرها المتأجج اللاهب خالدين لا يبرحون ﴿ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ﴾ ﴿ فَيَمُوتُوا ﴾ منصوب على جواب النفي بالفاء بتقديره " أن " ١. أي لا يموتون في جهنم، فإنهم لو ماتوا استراحوا ولكنهم لابثون دائما ﴿ وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ﴾ أي لا يخفف عنهم من فظاعة النار واشتداد لهيبها المتوقد ولو بمقدار طرفة عين.
قوله :﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ الكاف في اسم الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف والتقدير : مثل ذلك الجزاء نجزي كل كفور. وهو الجحود لنعم الله، فالله يكافئه مثل ذلك العذاب الحارق الأليم الذي يجد فيه الجاحدون العصاة من فظاعة التنكيل وشدة اللظى المستعر ما لو أصاب الجبال لا نماعت فيها انمياعا.
وقد اختلفوا في مقدار العمر المراد هنا. فقد قيل : إنه أربعون سنة وهي رواية عن ابن عباس. وفي رواية عنه أخرى وهي أصح، على أن المراد ستون سنة. وفي ذلك روى الإمام أحمد عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لقد أعذر الله تعالى إلى عبدٍ أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة. لقد أعذر الله تعالى إليه، لقد أعذر اللهُ تعالى إليه " وروى البخاري كذلك عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بلغ ستين سنة " وأعذر إليه معناه، بلغ به أقصى العذر. ومنه قولهم : قد أعذر من أنذر. والمعنى : أن من عمَّره الله ستين سنة أو سبعين لم يبق له عذر.
قوله :﴿ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ النذير معناه الإنذار، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المنذر المبلغ الأمين. وقيل : المراد به الشيب. والأول أظهر قوله :﴿ هذا نذير من النذر الأولى ﴾.
قوله :﴿ فذوقوا ﴾ أي اصلوا نار جهنم ﴿ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ أي ليس لهم من مغيث ولا معين يجيرهم من النار أو يخفف عنهم ما هم فيه من سوء العذاب١.
ذلك تخويف من الله لعباده ؛ إذ يحذرهم بأسه وبطشه، ويبين لهم أنه عليم بكل خبر، سرّا كان أو علانية. وهو سبحانه محيط علمه بكل ما حوته السماوات والأرض من أخبار وأسرار وأستار. وهو يعلم ما تكنه صدور العباد من خفايا. فما يكون لأحد ذي عقل أن يستتر من رب العالمين، فإنه لا تخفى عليه خافية. وما على الناس بذلك إلا أن يخشوا ربهم فيراقبوه في السر والعلن ويتجنبوا ما نهى عنه أو حذر منه أو زجر.
قوله :﴿ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ﴾ من أعرض وأدبر عن صراط الله ودينه الحق فإنه لا يجني بكفره وعصيانه إلا على نفسه ولا يضيرُ ذلك أحدا غيره فهو الذي يحيق به العذاب.
قوله :﴿ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا ﴾ المقت، معناه البغض الشديد١ يعني : الكافرون الجاحدون لنعمة الإيمان، العاصون لأمر الله لا يزيدهم ذلك من الله إلا بغضا شديدا وبعدا من رحمته.
قوله :﴿ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا ﴾ أي لا يزيدهم جحودهم وإشراكهم إلا إيغالا في الضلال الذي يفضي بهم إلى الهلاك وسوء المصير في النار.
أي قل للمشركين من قومك يا محمد : أرأيتم أصنامكم هذه التي تعبدونها من دون الله أروني ما الذي خلقوه من الأرض. هل يستطيعون أن يخلقوا شيئا وهم ليسوا إلا أشباحا وتماثيل لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل ﴿ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ أم لهذه الأصنام التي تعبدونها أيما شركة مع الله في خلق السماوات.
قوله :﴿ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ﴾ أم أنزلنا على هؤلاء المشركين الضالين كتابا من السماء فيه خبر هذه الشركة فهو يأمرهم أن يشركوا أصنامهم في عبادة الله.
قوله :﴿ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا ﴾ أي بل ما يعدُ المشركون بعضهم بعضا إلا الأباطيل والضلالات والزور. وهو قول السادة والكبراء للدهماء والرعاع. إن هذه الأصنام تقرّبنا إلى الله زُلفى أو إنها لها شركة مع الله في خلق السماوات والأرض. وليس ذلك إلا الزور والإيغال في الباطل.
قوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ لا يعاجل الله الكافرين بالعقوبة بما فعلوه من كفر وعصيان وبما قالوه من شرك عظيم. فإن ما قالوه من الشرك كاتخاذ الآلهة والأنداد مع الله ونسبة الولد له والصاحبة، كل ذلك تكاد السماوات يتفطرن منه أو تزول من أماكنها بسببه أو تخِرَّ به الجبال انهدادا أو تنشق الأرض انشقاقا، لكن الله بحلمه ومغفرته منعهما من ذلك٢.
٢ الكشاف ج ٣ ص ٣١٢ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣٥٦.
قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، كان قد بَلَغَ المشركين العرب أن أهل الكتاب كذبوا أنبياءهم ولعنوا من كذَّب منهم نبيه وأقسموا بالله أشد الأيمان ﴿ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ ﴾ أي لئن بعث الله إليهم رسولا مبلِّغا وهاديا ليكونن أكثر إيمانا به وأعظم قبولا لدين الله من سائر الأمم الذين أرسل الله إليهم رسله.
قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ﴾ النفور، معناه الإعراض والصدّ١ يعني لما جاءهم رسول من عند الله يبلغهم رسالة ربه ويدعوهم إلى توحيد الله وإفراده بالإلهية والتحرر كليّا من أوضار وضلالات الجاهلية، ولّوْا مدبرين معرضين وما زادتهم دعوته إلا بعدا عن الحق ومجانبة لصراط الله القويم ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ ﴾.
قوله :﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ يحيق بمعنى ينزل أو يحيط ؛ أي لا تنزل عاقبة الظلم إلا بالظالم نفسه. أو لا ينزل وبال المكر السيئ إلا بالذين يمكرونه. فلا يحل مكروه ذلك المكر إلا بهؤلاء المشركين الماكرين.
ويُفهم من ذلك التنبيه على مجانبة الخداع والمكر والخيانة. فإن هذا الدين قائم على طُهر السريرة من الأرجاس النفيسة كالغل والحسد والغدر والخديعة. فإن هذه خسائس ليست من أخلاق المؤمنين الذين التزموا الإسلام عقيدة ومنهاجا. بل إن تلكم من أخلاق الكافرين والمنافقين والمرائين والماكرين.
قوله :﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ ﴾ المراد بسنة الله، إنزال العقاب بالمكذبين المدبرين العصاة. وهذا تهديد من الله يتوعد به كل أمة تعرض عن صراطه المستقيم وتضل عاتية مستكبرة، فإنه مصيبها من العقاب المدمِّر ما أصاب السابقين الجاحدين. وهو قوله :﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ ﴾ أي هل ينتظر هؤلاء المشركين الجاحدون إلا أن يحيط بهم عذاب الله كما أحاط بالمكذبين من قبلهم.
وهذه سنة الله في العتاة العصاة الذين يخالفون عن أمره.
قوله :﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ أي جعل الله العقاب في المخالفين الجاحدين سنة مقدورة فيهم بسبب تكذيبهم وعصيانهم. وهي سنة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ﴾ أي لا تحويل لسنة الله في عقاب الظالمين المجرمين، فهو حائق بهم ولن يتحول عنهم إلى غيرهم٣
٢ نفس المصدر السابق.
٣ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٦٢ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣٦.
أي قل لهؤلاء المشركين المكذبين يا محمد : أو لم تروا في أسفاركم ما حلَّ بالذين خلوا من قبلكم من الأمم الكافرة، من العقاب. فقد أهلكهم الله ودمَّر عليهم وأذهب سلطانهم ووجودهم. وهذه بيوتهم الخاوية ومساكنهم التي أتى عليها الخراب والتدمير تشهد بما حاق بهم من سخط الله وعقابه الماحق، وقد كانوا أشد قوة وبطشا من هؤلاء المشركين.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ﴾ أي لن يُعجز اللهَ تعذيب هؤلاء المشركين الضالين إن أراد الله أن يعاقبهم أو ينتقم منهم.
إنهم لا يعجزونه هربا من سلطانه وملكوته فهو سبحانه محيط بهم وهو قادر على إفنائهم وقطع دابرهم. وليس من قوة أو شيء في السماوات والأرض بقادر على دفع البلاء أو العقاب عن الظالمين إن أراد الله أن يُحله بهم ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ الله عليم بأحوال عباده وبما هم عليه من الضلال أو الهداية. وهو سبحانه قادر أن ينتقم من الظالمين المكذبين فيهلكهم أو يذلهم.
قوله :﴿ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ أي يؤخر اللهُ عقاب العصاة والمذنبين إلى أجل معلوم عند. وقيل : يؤخر ذلك إلى يوم القيامة فإن عذابهم فيها أليم شديد.
قوله :﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ إذا جاء أجل العقاب فإن الله عليم بمن يستحق العقاب من المجرمين، وبمن كان مطيعا لله فينجو.