تفسير سورة فاطر

زاد المسير
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة فاطر
وتسمى سورة الملائكة، وهي مكية بإجماعهم.

سورة فاطر
وتسمّى سورة الملائكة، وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: خالِقُهما مبتدئاً على غير مِثال. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر السّموات والأرض حتى اختصم أعرابيَّان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتُها، أي: ابتدأتُها.
قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ وروى الحلبي والقزَّاز عن عبد الوارث: «جاعِلٌ» بالرفع والتنوين «الملائكةَ» بالنصب رُسُلًا يرسلهم إِلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور أُولِي أَجْنِحَةٍ أي: أصحاب أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فبعضُهم له جناحان، وبعضُهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ويَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه زاد في خَلْق الملائكة الأجنحة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: يَزيد في الأجنحة ما يشاء، رواه عبّاد بن منصور عن الحسن، وبه قال مقاتل. والثالث: أنه الخلق الحسن، رواه عوف عن الحسن. والرابع: أنه حُسن الصوت، قاله الزهري: وابن جريج.
والخامس: المَلاحة في العينين، قاله قتادة.
قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي: من خير ورزق. وقيل: أراد بها المطر فَلا مُمْسِكَ لَها وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة: «فلا مُمْسِكَ له». وفي الآية تنبيه على أنه لا إِله إِلا هو، إِذ لا يستطيع أحدٌ إِمساك ما فتَحَ وفَتْح ما أمسك.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣ الى ٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال المفسرون: الخطاب لأهل مكة، و «اذكُروا» بمعنى احفظوا، ونعمة الله عليهم: إِسكانهم الحَرَم ومنع الغارات عنهم. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وقرأ حمزة والكسائي: «غيرِ الله» بخفض الراء، قال أبو علي: جعلاه صفة على اللفظ، وذلك حَسَنٌ لإِتباع الجرِّ. وهذا استفهام تقرير وتوبيخ والمعنى: لا خالق سواه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر وَمن الْأَرْضِ النبات. وما بعد هذا قد سبق بيانه «١» إلى قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ أي: إِنه يريد هلاككم فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي: أنزِلوه من أنفُسكم منزلة الأعداء، وتجنّبوا طاعته إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي:
شيعته إِلى الكفر لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٨ الى ٩]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)
قوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
(١١٨٧) أحدها: أنها نزلت في أبي جهل ومشركي مكة، قاله ابن عباس.
والثاني: في أصحاب الأهواء والمِلل التي خالفت الهُدى، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله أبو قلابة. فان قيل: أين جواب «أفَمَنْ زُيِّن له» ؟. فالجواب من وجهين: ذكرهما الزجاج. أحدهما: أن الجواب محذوف والمعنى: أفَمَنْ زُيِّن له سُوء عمله كمن هداه الله؟ ويدُلُّ على هذا قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. والثاني: أن المعنى: أفَمَنْ زُيِّن له سوء عمله فأضلَّه اللهُ ذهبتْ نفسُك عليهم حسرات؟! ويدلّ على هذا قوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ. وقرأ أبو جعفر: «فلا تُذْهِبْ» بضم التاء وكسر الهاء «نَفْسَكَ» بنصب السين. وقال ابن عباس: لا تغتمَّ ولا تُهْلِكْ نَفْسَكَ حَسْرة على تركهم الإِيمان. قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً أي:
تُزعجه من مكانه وقال أبو عبيدة: تجمعُه وتجيء به، و «سُقْناه» بمعنى «نسوقه» والعرب قد تضع «فَعَلْنَا» في موضع «نَفْعَلُ» وأنشدوا:
إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً مِنَّي ومَا سَمعوا مِنْ صَالحٍ دَفَنُوا «٢»
المعنى: يَطيروا ويَدفِنوا.
قوله تعالى: كَذلِكَ النُّشُورُ وهو الحياة، وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: كما أحيا اللهُ الأرض بعد موتها يُحيي الموتى يوم البعث.
واه بمرة. ورد في «أسباب النزول» للسيوطي ٩٢٨ برواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وهذا سند تالف، جويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس. والصحيح عموم الآية.
__________
(١) البقرة: ٢١٠، آل عمران: ١٨٤، لقمان: ٣٣.
(٢) البيت لقعنب بن أم صاحب كما في «اللسان» - أذن- وقد سبق تخريجه.
(١١٨٨) روى أبو رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله كيف يُحيي اللهُ الموتى؟ وما آيةُ ذلك في خَلْقه؟ فقال: «هل مررتَ بوادي أهلك مَحْلاً، ثم مررتَ به يهتزُّ خَضِراً؟» قلت: نعم، قال:
«فكذلك يُحيي اللهُ الموتى، وتلك آيتُه في خَلْقه».
والثاني: كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يُحيي الله الموتى بالماء. قال ابن مسعود:
يرسِلُ اللهُ تعالى ماءً من تحت العرش كمنِيِّ الرجال، قال: فتنبت لُحْمانهم وجُسْمانهم من ذلك الماء، كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ هذه الآية. وقد ذكرنا في الأعراف «١» نحو هذا الشّرح.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: من كان يريد العزَّة بعبادة الأوثان فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، قاله مجاهد. والثاني: من كان يريد العزَّة فليتعزَّز بطاعة الله، قاله قتادة. وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(١١٨٩) «إِنَّ ربَّكم يقول كل يوم: أنا العزيز، فمن أراد عِزَّ الدَّارَيْن فليُطِع العزيز».
والثالث: من كان يريد عِلْم العزَّة لِمن هي، فانها لله جميعاً، قاله الفراء.
قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي، والنخعي، والجحدري، والشيزري عن الكسائي: «يُصْعَدُ الكلامُ الطَّيِّبُ» وهو توحيده وذِكْره وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال علي بن المديني: الكِلَم الطَّيِّب: لا إِله إِلا الله، والعمل الصالح: أداء الفرائض واجتناب المحارم. وفي هاء الكناية في قوله تعالى: يَرْفَعُهُ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إِلى الكَلِم الطَّيِّب فالمعنى: والعمل الصالح يرفع الكَلِم الطَّيِّب، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك. وكان الحسن يقول: يُعْرَض القولُ على الفعل، فان وافق القولَ الفعلُ قُبِل، وإِن خالف رُدَّ. والثاني: أنها ترجع إِلى العمل الصالح، فالمعنى:
والعمل الصالح يرفعُه الكَلِم الطَّيِّب، فهو عكس القول الأول، وبه قال أبو صالح، وشهر بن حوشب.
فاذا قلنا: إِن الكَلِم الطَّيِّب هو التوحيد، كانت فائدة هذا القول أنه لا يُقْبَلُ عملٌ صالح إلّا من موحّد.
ضعيف. أخرجه أحمد ٤/ ١١ والطيالسي ١٠٨٩ من حديث أبي رزين، وفيه وكيع بن عدس، قال الذهبي في «الميزان» لا يعرف، تفرد عنه يعلى بن عطاء اه فالإسناد ضعيف، وكيع مجهول العين.
باطل. أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» ١/ ١١٩ من حديث أنس، وأعله بداود بن عفان، وقال: قال ابن حبان: كان يضع الحديث على أنس. وكرره ١/ ١٢٠ من وجه آخر، وأعله بسعيد بن هبيرة، ونقل عن ابن عدي وابن حبان أنه كان يضع الحديث.
__________
(١) الأعراف: ٥٧.
(٢) قال الطبري في «تفسيره» ١٠/ ٣٩٨: وأولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال: من كان يريد العزة فبالله فليتعزز، فلله العزة جميعا، وقال ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٦٧٣: من كان يحب أن يكون عزيزا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله فإنه يحصل له مقصوده، لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعها.
والثالث: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، فالمعنى: والعمل الصالح يرفعُه اللهُ إِليه، أي: يَقْبَلُه. قاله قتادة.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ قال أبو عبيدة: يمكرون: بمعنى يكتسِبون ويجترحِون. ثم في المشار إِليهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم في دار الندوة، قاله أبو العالية.
والثاني: أنهم أصحاب الرِّياءَ، قاله مجاهد، وشهر بن حوشب. والثالث: أنهم الذين يعملون السَّيِّئات، قاله قتادة، وابن السائب. والرابع: أنهم قائلو الشِّرك، قاله مقاتل.
وفي معنى يَبُورُ قولان: أحدهما: يَبْطُلُ، قاله ابن قتيبة. والثاني: يَفْسُدُ، قاله الزّجّاج.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني نسله ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي: أصنافاً، ذكوراً وإِناثاً قال قتادة: زوَّج بعضهم ببعض.
قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي: ما يطُول عمر أحد وَلا يُنْقَصُ وقرأ الحسن، ويعقوب:
«يَنْقُصُ» بفتح الياء وضم القاف مِنْ عُمُرِهِ في هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها كناية عن آخر، فالمعنى: ولا يُنْقَص من عمر آخر وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في آخرين. قال الفراء: وإِنما كني عنه كأنه الأول، لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول، كأنه قال: ولا يُنْقَصُ من عمر مُعَمَّر، ومثله في الكلام: عندي درهم ونصفه والمعنى: ونصف آخر. والثاني: أنها ترجع إِلى المُعَمَّر المذكور فالمعنى: ما يذهب من عمر هذا المُعَمَّر يومٌ أو ليلة إِلاَّ وذلك مكتوب قال سعيد بن جبير: مكتوب في أول الكتاب: عمره كذا وكذا سنة، ثم يُكتب أسفل من ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، ذهبت ثلاثة، إِلى أن ينقطع عُمُره وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين.
فأما الكتاب، فهو اللوح المحفوظ. وفي قوله تعالى إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قولان:
أحدهما: أنه يرجع إِلى كتابة الآجال. والثاني: إِلى زيادة العُمُر ونقصانه.
قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ يعني العذب والمِلْح وهذه الآية وما بعدها قد سبق بيانه «١» إِلى قوله: ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ قال ابن عباس: هو القِشْر الذي يكون على ظهر النَّواة. قوله تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد وَلَوْ سَمِعُوا بأن يخلق الله لهم أسماعاً مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ
(١) آل عمران: ٢٧، الرعد: ٢، الفرقان: ٥٣، النحل: ١٤.
أي: لم يكن عندهم إِجابة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي: يتبرَّؤون من عبادتكم وَلا يُنَبِّئُكَ يا محمد مِثْلُ خَبِيرٍ أي: عالِم بالأشياء، يعني نفسه عزّ وجلّ والمعنى أنه لا أخبر منه عزّ وجلّ بما أخبر أنّه سيكون.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٥ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ أي: المحتاجون إِليه وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن عبادتكم الْحَمِيدُ عند خلقه باحسانه إِليهم. وما بعد هذا قد تقدّم بيانه «١» إلى قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي: نَفْس مُثْقَلة بالذُّنوب إِلى حِمْلِها الذي حملتْ من الخطايا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ الذي تدعوه ذا قُرْبى ذا قرابة إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي: يخشونه ولم يَرَوه والمعنى:
إِنما تَنفع بانذارك أهل الخشية، فكأنك تُنذرهم دون غيرهم لمكان اختصاصهم بالانتفاع، وَمَنْ تَزَكَّى أي: تطهَّر من الشِّرك والفواحش، وفعلَ الخير فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي: فصلاحُه لنَفْسه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيجزي بالأعمال. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني المؤمن والمشرك، وَلَا الظُّلُماتُ يعني الشِّرك والضَّلالات وَلَا النُّورُ الهدى والإِيمان، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ فيه قولان: أحدهما: ظِلُّ اللَّيل وسَمُوم النهار، قاله عطاء. والثاني: الظِّلُّ: الجَنَّة، والحَرُور: النَّار، قاله مجاهد. قال الفراء: الحَرُور بمنزلة السَّمُوم، وهي الرِّياح الحارَّة. والحَرُور تكون بالنَّهار وبالليل، والسَّمُوم لا تكون إِلا بالنَّهار. وقال أبو عبيدة: الحَرُور تكون بالنَّهار مع الشمس، وكان رؤبة يقول: الحَرور باللَّيل، والسَّمُوم بالنَّهار.
قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ فيهم قولان: أحدهما: أن الأحياء: المؤمنون، والأموات: الكفار. والثاني: أن الأحياء، العقلاء: والأموات: الجُهَّال. وفي «لا» المذكورة في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها زائدة مؤكِّدة. والثاني: أنها نافية لاستواء أحد المذكورَين مع الآخر. قال قتادة: هذه أمثال ضربها اللهُ تعالى للمؤمن والكافر، يقول: كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي: يُفهم من يريد إِفهامه وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والجحدري: «بِمُسْمِعِ مَنْ» على الإِضافة يعني الكفار، شبههم بالموتى، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ قال بعض المفسرين: نُسخ معناها بآية السيف. قوله
(١) إبراهيم: ١٩- ٧١، الأنعام: ١٦٤.
تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي: ما من أُمَّة إِلا قد جاءها رسول. وما بعد هذا قد سبق بيانه «١» إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، وافقه في الوصل ورش.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
قوله تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ أي: ومِمَّا خَلَقْنا من الجبال جُدَدٌ. قال ابن قتيبة: الجُدَدُ:
الخُطوط والطَّرائق تكون في الجبال، فبعضُها بِيض، وبعضُها حُمر، وبعضُها غرابيبُ سودٌ، والغَرابيب جمع غِرْبِيبٍ، وهو الشديد السواد، يقال: أسْودُ غِرْبِيبٌ، وتمام الكلام عند قوله: «كذلك»، يقول: من الجبال مختلِفٌ ألوانه، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي: كاختلاف الثمرات. قال الفراء: وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وسودٌ غرابيب، لأنه يقال: أسودُ غِرْبيبٌ، وقلّما يقال: غربيب أسود. وقال الزجاج: المعنى: ومن الجبال غرابيبُ سود، وهي ذوات الصخر الأَسْود. وقال ابن دريد: الغِرْبيب: الأَسْود، أحسِبُ أن اشتقاقه من الغُراب. وللمفسرين في المراد بالغرابيب ثلاثة أقوال: أحدها: الطرائق السُّود، قاله ابن عباس. والثاني: الأودية السود، قاله قتادة.
والثالث: الجبال السود، قاله السدي.
ثم ابتدأ فقال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ يعني العلماء بالله عزَّ وجل. قال ابن عباس:
يريد: إِنَّما يخافُني مِنْ خَلْقي مَنْ عَلِم جبروتي وعِزَّتي وسلطاني. وقال مجاهد والشعبي: العالِم من خاف اللهَ. وقال الربيع بن أنس: من لم يَخْش اللهَ فليس بعالِم.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يعني قُرَّاء القرآن، فأثنى عليهم بقراءة القرآن وكان مطرّف يقول: هذه آية القُرَّاء. وفي قوله تعالى يَتْلُونَ قولان: أحدهما: يقرءون. والثاني: يَتبَّعون.
قال أبو عبيدة: وَأَقامُوا الصَّلاةَ بمعنى ويُقيمون وهو إِدامتها لمواقيتها وحدودها. قوله تعالى:
يَرْجُونَ تِجارَةً قال الفراء: هذا جواب قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ. قال المفسرون:
والمعنى: يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسُد ولن تَهْلِك ولن تَكْسُد لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أي: جزاء أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس: سوى الثّواب ما لم تر عين ولم تسمع أُذن. فأما الشَّكور، فقال الخطّابي: هو الذي يشكُر اليسيرَ من الطاعة، فيُثيب عليه الكثير من الثواب، ويُعطي الجزيل من النِّعمة، ويرضي باليسير من الشُّكر ومعنى الشُّكر المضاف إِليه: الرِّضى بيسير الطَّاعة من العبد، والقبول له، وإِعظام الثواب عليه وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشّكور ترغيب
(١) آل عمران: ١٨٤.
الخَلْق في الطاعة قلَّت أو كَثُرت، لئلاَّ يَسْتَقِلُّوا القليل من العمل، ولا يتركوا اليسير منه.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)
قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ في «ثُمَّ» وجهان: أحدهما: أنها بمعنى الواو. والثاني: أنها للترتيب. والمعنى: أنزلنا الكتب المتقدِّمة، ثُمَّ أَوْرَثْنا الكتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا وفيهم قولان: أحدهما:
أنهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن. وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه اسم جنس، والمراد به الكتب التي أنزلها الله عزّ وجلّ، وهذا يخرَّج على القولين. فان قلنا: الذين اصطُفوا أُمَّة محمد، فقد قال ابن عباس: إنّ الله أورث أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم كلَّ كتاب أنزله. وقال ابن جرير الطبري: ومعنى ذلك: أورثهم الإِيمانَ بالكتب كلِّها- وجميع الكتب تأمر باتِّباع القرآن- فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها واستدل على صحة هذا القول بأن الله تعالى قال في الآية التي قبل هذه: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ وأتبعه بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ فعلمنا أنهم أُمَّةٌ محمد، إِذ كان معنى الميراث: انتقال شيء من قوم إِلى قوم، ولم تكن أُمَّةٌ على عهد نبيّنا صلى الله عليه وسلّم انتقل إِليهم كتابٌ من قوم كانوا قبلهم غير أُمَّته. فان قلنا: هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى:
أَورثْنا كلَّ كتاب أُنزل على نبيٍّ ذلك النبيَّ وأتباعَه. والقول الثاني: أن المراد بالكتاب القرآن. وفي معنى «أَوْرَثْنا» قولان: أحدهما: أَعْطَيْنا، لأنَّ الميراث، عطاء، قاله مجاهد. والثاني: أخَّرْنا، ومنه الميراث، لأنه تأخّر عن الميت فالمعنى: أخَّرْنا القرآنَ عن الأُمم السالفة وأعطيناه هذه الأُمَّة، إِكراماً لها، ذكره بعض أهل المعاني.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ فيه أربعة أقوال «١» : أحدها: أنه صاحب الصغائر (١١٩٠) روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «سابقُنا سابق، ومقتصدُنا ناجٍ، وظالمُنا مغفورٌ له».
(١١٩١) وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية، قال: «كلُّهم في الجنة».
أخرجه العقيلي في «الضعفاء» ١٤٩١ من طريق محمد بن أيوب عن عمرو بن الحصين به، وإسناده ضعيف جدا لأجل عمرو بن حصين، فإنه متروك. وأخرجه البيهقي في «البعث» ٦٥ من طريق حفص بن خالد عن ميمون بن سياه عن عمر به. وقال البيهقي: فيه إرسال بين ميمون، وعمر. وانظر ما بعده.
حسن. أخرجه الترمذي ٣٢٢٥ وأحمد ٣/ ٧٨ والطبري ٢٩٠١٢ والطيالسي ٢٢٣٦ والبيهقي في «البعث» ٦١ من حديث أبي سعيد، وإسناده ضعيف. فيه رجل من ثقيف عن رجل من كنانة، وكلاهما لم يسمّ، فالخبر واه، وضعفه الترمذي، بقوله: غريب اه لكن له شواهد. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٠٦٥.
- وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» ٢٥٧٧، وفيه نظر، وحسبه الحسن.
__________
(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٦٨٠: والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهو اختيار ابن جرير، فقد قال: وأما الظالم لنفسه فإنه من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك.
والثاني: أنه الذي مات على كبيرة ولم يَتُب منها، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أنه الكافر، رواه عمرو بن دينار عن ابن عباس.
(١١٩٢) وقد رواه ابن عمر مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم. فعلى هذا يكون الاصطفاء لجملة من أُنزل عليه الكتاب، كما قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «١» أي: لَشَرف لكم، وكم من مُكْرَم لم يَقبل الكرامة! والرابع: أنه المنافق، حكي عن الحسن. وقد روي عن الحسن أنه قال: الظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد: الذي قد استوت حسناته وسيِّئاته، والسابق: من رَجَحت حسناتُه.
وروي عن عثمان بن عفان أنه تلا هذه الآية، فقال: سابقُنا أهل جهادنا، ومقتصدِنا أهل حَضَرنا، وظالمُنا أهل بدونا.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ سابِقٌ وقرأ أبو المتوكل والجحدري وابن السميفع: «سَبَّاقٌ» مثل: فَعَّال بِالْخَيْراتِ أي: بالأعمال الصالحة إِلى الجنة، أو إِلى الرَّحمة بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بارادته وأمره ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني إِيراثهم الكتاب.
ثم أخبر بثوابهم، فجمعهم في دخول الجنة فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها قرأ أبو عمرو وحده:
«يُدْخَلُونَها» بضم الياء وفتحها الباقون، وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: وَلُؤْلُؤاً بالنصب. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان يهمز الواو الثانية ولا يهمز الأولى وفي رواية أخرى أنه كان يهمز الأولى ولا يهمز الثانية. والآية مفسرة في سورة الحج «٢». قال كعب: تحاكت مناكبُهم وربِّ الكعبة، ثم أُعطوا الفضل بأعمالهم.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)
ثم أخبر عمَّا يقولون عند دخولها، وهو قوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ الحَزَن والحُزْن واحد، كالبَخَل والبُخْل. وفي المراد بهذا الحزن خمسة أقوال «٣» : أحدها: أنه الحزن
باطل، أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» ٥/ ٤٧٤ عن عمر مرفوعا، وتفرد ابن مردويه به دليل وهنه، ويخالفه ما تقدم من أحاديث، فهو متن باطل.
__________
(١) الزخرف: ٤٤.
(٢) الحج: ٢٣. [.....]
(٣) قال الطبري في «تفسيره» ١٠/ ٤١٦: وأولى الأقوال عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم الذين أكرمهم بما أكرمهم به أنهم قالوا حين دخلوا الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ وخوف دخول النار من الحزن، والجزع من الموت من الحزن، والجزع من الحاجة إلى المطعم من الحزن ولم يخصص الله إذ أخبر عنهم أنهم حمدوه على إذهابه الحزن عنهم نوعا دون نوع.
512
لطول المقام في المحشر.
(١١٩٣) روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أمَّا السابق، فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصِد، فيحاسَب حساباً يسيراً، وأما الظَّالم لنفسه، فانه حزين في ذلك المقام»، فهو الحزن والغم، وذلك قوله تعالى: «الحمد لله الذي أذهب عنّا الحَزَن».
(١١٩٤) والثاني: أنه الجوع، رواه أبو الدرداء أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا يصح، وبه قال شمر بن عطية. وفي لفظ عن شمر أنه قال: الحزن: هَمُّ الخُبز، وكذلك روي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحزن: هَمُّ الخُبز في الدنيا.
والثالث: أنه حزن النار، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والرابع: حزنهم في الدنيا على ذُنوب سلفت منهم، رواه عكرمة عن ابن عباس. والخامس: حزن الموت، قاله عطية.
والآية عامَّة في هذه الأقوال وغيرها، ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه، وإِنما حزنوا على ذُنوبهم وما يوجبه الخوف.
قوله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنا أي: أنزلنا دارَ الْمُقامَةِ قال الفراء: المُقامة هي الإِقامة، والمَقامة:
المجلس، بالفتح لا غير، قال الشاعر:
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقامَاتٍ وأنْدِيَةٍ وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلى الأعْدَاءِ تأْوِيبِ «١»
قوله تعالى: مِنْ فَضْلِهِ قال الزجاج: أي: بتفضُّله، لا بأعمالنا. والنَّصَبُ: التَّعَب.
واللُّغوب: الإِعياء من التَّعب. ومعنى لُغُوبٌ: شيء يُلْغِب أي: لا نتكلّف شيئاً نُعَنّى منه.
قوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي: لا يهلكون فيستريحوا ممَّا هُمْ فيه، ومثله: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ «٢». قوله تعالى: كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وقرأ أبو عمرو: «يجزى» بالياء «كلّ»
أخرجه أحمد ٥/ ١٩٤ و ٦/ ٤٤٤ من طريق وكيع عن سفيان به. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٢٦ ومن طريقه البيهقي في «البعث» ٦٢ من طريق جرير عن الأعمش به. وأخرجه أحمد ٥/ ١٩٨ من طريق أنس بن عياض الليثي عن موسى بن عقبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء به. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٩٥- (١٢٢٩٠) : رواه الطبراني، وأحمد باختصار إلا أنه قال عن ثابت أو أبي ثابت... وثابت بن عبيد ومن قبله من رجال الصحيح، وفي إسناد الطبراني رجل غير مسمى. وقد فصّل الحاكم في اختلاف طرق هذا الحديث، وقال: إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلا. وللحديث شواهد منها الضعيف، وانظر «فتح القدير» ٢٠٦٦ و ٢٠٦٧.
حديث حسن أو شبه حسن بطرقه وشواهده دون لفظ «فإنه حزين » فهذا ضعيف، ليس له شواهد.
لم أره مسندا، وأمارة الوضع لائحة عليه، فإنه من بدع التأويل، واكتفى المصنف رحمه الله بقوله: لا يصح.
وورد من كلام شمر بن عطية أحد علماء التفسير، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٤/ ٤٧٦.
- والصحيح عموم الآية في كل ما يحزن الإنسان من مصائب وهموم ونصب، وهو الذي اختاره المصنف.
__________
(١) البيت لسلامة بن جندل كما في «اللسان» - أوب-.
(٢) القصص: ٥١.
513
برفع اللام. وقرأ الباقون: «نَجزي» بالنون «كُلَّ» بنصب اللام.
قوله تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها وهو افتعال من الصُّراخ: والمعنى: يستغيثون، فيقولون:
رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً أي: نوحِّدك ونُطيعك غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من الشِّرك والمعاصي فوبَّخهم الله تعالى بقوله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ قال أبو عبيدة: معناه التقرير، وليس باستفهام والمعنى: أو لم نعمِّركم عُمُراً يتذكرَّ فيه من تَذَكَّر؟! وفي مقدار هذا التعمير أربعة أقوال: أحدها: أنه سبعون سنة، قال ابن عمر: هذه الآية تعيير لأبناء السبعين. والثاني: أربعون سنة. والثالث: ستون سنة، رواهما مجاهد عن ابن عباس، وبالأول منهما قال الحسن، وابن السائب. والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله عطاء، ووهب بن منبّه، وأبو العالية، وقتادة.
قوله تعالى: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الشيب، قاله ابن عمر وعكرمة وسفيان بن عيينة والمعنى: أو لم نعمركم حتى شبتم؟! والثاني: النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة وابن زيد وابن السائب ومقاتل. والثالث: موت الأهل والأقارب. والرابع: الحمّى، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: فَذُوقُوا يعني العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي: من مانع يَمنع عنهم. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «١» إلى قوله تعالى: خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ وهي الأُمَّة التي خَلَفَتْ مَنْ قَبْلها ورأت فيمن تقدَّمها ما ينبغي أن تَعتبر به فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: جزاء كفره.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
قوله تعالى: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ المعنى: أَخبِروني عن الذين عبدتم من دون الله واتخذتموهم شركاء بزعمكم، بأيّ شيءٍ أوجبتم لهم الشركة في العبادة؟! أبشيءٍ خلقوه من الارض، أم شارَكوا خالق السموات في خَلْقها؟! ثم عاد إِلى الكفار فقال: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يأمرهم بما يفعلون فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم: «على بيِّنةٍ» على التوحيد. وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «بيِّناتٍ» جمعاً. والمراد: البيان بأنَّ مع الله شريكاً بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ يعني المشركين يَعِدُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً أنَّ الأصنام تَشفع لهم، وأنّه لا حساب عليهم ولا عقاب. وقال مقاتل: ما يَعِدُ الشيطانُ الكفَّار من شفاعة الآلهة إِلاَّ باطلاً. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي: يمنعهما من الزوال والذهاب والوقوع. قال الفراء وَلَئِنْ بمعنى «ولو»، و «إِن» بمعنى «ما»، فالتقدير: ولو زالتا ما أمسكهما من أحد. وقال الزجاج: لمَّا قالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، كادت السمواتُ يتفطَّرْن والجبالُ أن تَزُول والأرضُ أن تنشقَّ، فأمسكها الله عزّ وجلّ وإِنَّما وحَّد «الأرض» مع جمع «السموات»، لأن الأرض تدل على الأَرَضِين. وَلَئِنْ زالَتا تحتمل وجهين: أحدهما: زوالهما يوم القيامة. والثاني: أن يقال
(١) المائدة: ٧.
تقديرًا: وإِن لم تزولا، وهذا مكان يَدُلُّ على القدرة، غير أنه ذكر الحِلْم فيه، لأنه لمَّا أمسكهما عند قولهم: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً «١»، حلم فلم يعجّل لهم العقوبة.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣)
قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني كفار مكة حلفوا بالله قبل إِرسال محمد صلى الله عليه وسلّم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي: رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى أي: أَصْوَبَ دِيناً مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ يعني: اليهود والنّصارى والصّابئين فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وهو محمّد صلى الله عليه وسلّم ما زادَهُمْ مجيئُه إِلَّا نُفُوراً أي: تباعُداً عن الهُدى، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي: عتوّاً على الله وتكبُّراً عن الإِيمان به. قال الاخفش: نصب «استكباراً» على البدل من النفور. قال الفراء: المعنى: فعلوا ذلك استكباراً وَمَكْرَ السَّيِّئِ، فأضيف المكر إلى السّيئ، كقوله: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ «٢»، وتصديقه في قراءة عبد الله: «ومَكْراً سَيِّئاً»، والهمزة في «السّيئ» مخفوضة، وقد جزمها الأعمش وحمزة، لكثرة الحركات قال الزجّاج: وهذا عند النحويِّين الحُذَّاق لَحْن، إِنّما يجوز في الشِّعر اضطراراً. وقال أبو جعفر النحاس: كان الأعمش يقف على «مَكْرَ السَّيّ» فيترك الحركة، وهو وقف حَسَنٌ تامّ، فغَلِط الراوي فروى أنه كان يَحْذِفُ الإِعراب في الوصل، فتابع حمزة الغلط، فقرأ في الإِدراج بترك الحركة. وللمفسرين في المراد ب «مكر السيّئ» قولان: أحدهما:
أنه الشِّرك. قال ابن عباس: عاقبة الشِّرك لا تَحُلُّ إِلا بمن أشرك. والثاني: أنه المكر برسول الله صلى الله عليه وسلّم، حكاه الماوردي. قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي: ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي: إِلاَّ أن يَنْزِل العذاب بهم كما نَزَل بالأمم المكذِّبة قبلهم فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ في العذاب تَبْدِيلًا وإِن تأخَّر وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي: لا يَقْدِر أحدٌ أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا هذا عامٌّ، وبعضهم يقول: أراد بالناس المشركين. والمعنى: لو واخذهم بأفعالهم لعجَّل لهم العقوبة. وقد شرحنا هذه الآية في «النحل» «٣».
وما أخللنا به فقد سبق بيانه «٤». قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً قال ابن جرير: بصيرا بمن يستحقّ العقوبة ومن يستوجب الكرامة.
(١) مريم: ٨٨.
(٢) الحاقة: ٥١.
(٣) النحل: ٦١.
(٤) يوسف: ١٠٩، الروم: ٩، الأعراف: ٣٤، النحل: ٦١.
Icon