ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل وغيرهما: خالق السموات والأرض (١). [قال المبرد: فاطر] (٢) خالق مبتدي، يقول: فطر الله الخلق، أي: ابتدأهم، [وأنا فاطر هذه البئر] (٣)، أي: ابتدأت حفرها (٤). ونحو هذا قال الزجاج (٥). وهذا مما سبق فيه الكلام.قوله: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ قال مقاتل: منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والكرام الكاتبين (٦).
وقوله: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ يقول: من الملائكة من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أجنحة، ومنهم من له أربعة أجنحة. وذكرنا الكلام في مثنى وثلاث ورباع في أول سورة النساء (٧).
(٢) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٣) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٤) لم أقف عليه
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٤٦١.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠١ ب.
(٧) عند قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ الآية. وقال هناك: بدل مما طاب، ومعناه: اثنتين وثلاثًا وأربعًا، =
وروي عن الزهري قال: حسن الصوت (٦). وعن أبي هريرة مرفوعًا: الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن (٧). ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ مما يريد أن يخلق ﴿قَدِيرٌ﴾ قاله ابن عباس (٨).
٢ - قوله تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾ قال أبو إسحاق: أي ما ياتيهم به من مطر أو رزق فلا يقدر أن يمسكه، وما يمسك
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ أ.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٢٣ ب، "بحر العلوم" ٣/ ٧٩.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٦٦، "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦١.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٢٣ ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٦٤، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٣.
(٦) انظر: المصادر السابقة، "تفسير ابن أبي حاتم" ١٠/ ٣١٧٠.
(٧) لم أقف عليه مرفوعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وانظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٢٠، "الثعلبي" ٣/ ٢٢٣ ب، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٣.
(٨) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٦٢٦.
٣ - وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قال ابن عباس: يريد أهل مكة (٣). ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ قال: يريد حيث أسكنكم الحرم ومنعكم من جميع الغارات (٤). وقد ذكرنا معنى النعمة فيما تقدم.
وقال الفراء: (وما كان من هذا في القرآن فمعناه: احفظوا، كما تقول: اذكر أيادي عندك أي: احفظها) (٥).
وقوله: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ قال أبو إسحاق: (هذا ذكر بعد قوله: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾ فأكد ذلك بان جعل السؤال لهم: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ قال: ورفع غير على معنى هل من خالق غير الله؛ لأن من مؤكدة) (٦).
وقال أبو علي: (من جر ﴿غَيْرُ﴾ جعله صفة على اللفظ، وذلك حسن لاتباعه الجر الجر. وقوله: ﴿مِنْ خَالِقٍ﴾ في موضع رفع بالابتداء، وخبره قوله: ﴿يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، وزيادة من في غير الإيجاب كثير، نحو: هل من رجل، و ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٦٢]. ومن رفع
(٢) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٤، "الطبري" ٢٢/ ١١٥، "الماوردي" ٤/ ٤٦٢، "بحر العلوم" ٣/ ٨٠.
(٣) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٤، وذكره الطبري ٢٢/ ١١٥، بدون نسبة وابن الجوزي في "زاد المسير" ٦/ ٤٧٤ ونسبه للمفسرين.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٦٦.
(٦) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٢
قال المفسرون وابن عباس: ﴿يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ﴾ المطر ومن ﴿الْأَرْضِ﴾ النبات (٢).
ثم وحد نفسه فقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ قال مقاتل: من أين تكذبون بأن الله لا شريك له، وأنتم مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم (٣).
قال أبو إسحاق: (من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث) (٤).
٤ - ثم عزى نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ أي: الأمر راجع إلى الله في مجازاة من كذب، ونصرة من كذب من رسله.
٥ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يعني: كفار مكة. ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ قال ابن
(٢) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٤، "السمرقندي" ٣/ ٨٠، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٤، "البغوي" ٣/ ٥٦٥.
(٣) لم أقف على قول مقاتل.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٣.
وباقي الآية مفسر في سورة لقمان: ٣٣].
٦ - وقوله: ﴿فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ قال مقاتل: فعادوه بطاعة الله، ثم بين عداوته فقال: ﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ﴾ أي: يدعو شيعته إلى الكفر (٣). ﴿لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.
٨ - وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة (٤).
وقال سعيد بن جبير: يحسب الناس أن هذا في تزيين الخطايا لمن ركب منها شيئًا وليس كذلك، ولكنها الزينة في الملل والأهواء التي خالفت الهدى، فإن أهلها يحسبون أنهم يحسنون (٥). ألا ترى النصارى يدعون لله ولدًا ويحسبون أنهم يحسنون، وتتقرب بذلك إلى الله ولا يحب أن يزني ويسرق، وله الدنيا وما فيها، واحتج على هذا بقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ قال: ألا ترى ذلك صار في الضلالة والهدى وليس فيما يذهب الناس إليه من العمل.
وأما نظم الآية وجواب قوله: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ﴾ فقال أبو إسحاق: (هو على ضربين: أحدهما: أن يكون المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة، ودل على هذا الجواب قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ أ.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ أ.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ أ، "البغوي" ٣/ ٥٦٥، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٥.
(٥) انظر: "الوسيط" ٣/ ٥٠١، "البغوي" ٣/ ٥٦٥
ثم استأنف فقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾، قال ابن عباس: يقول لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرات على تركهم الإسلام (٤)، كقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ [الكهف: ٦] الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ يعني: عالم بصنيعهم فيجازيهم على ذلك. ثم أخبر عن صنعه جل وعز ليعتبروا.
٩ - قوله: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾، قال الكلبي: فتنشئ سحابًا (٥). والمعنى: فنزعجه من حيث هو ﴿فَسُقْنَاهُ﴾ قال أبو عبيد: (فنسوقه، وأنشد قول قعنب:
إن يسمعوا زينة (٦) طاروا بها فرحًا (٧)
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٤.
(٣) لم أقف على أبي عبيدة.
(٤) انظر: "الوسيط" ٣/ ٥٠١، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٦.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: ريبة.
(٧) هذا صدر بيت وعجزه:
مني وما سمعوا من صالح دفنوا
وهو من البسيط، لقعنب بن أم صاحب في: "الحماسة" ٢/ ١٧٠، "مجاز القرآن" ١/ ١٧٧، ٢/ ١٥٢، "سمط اللآلئ" ص ٣٦٢، "عيون الأخبار" ٣/ ٨٤.
وقوله: ﴿إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ قال ابن عباس: يريد الأرض الجرز (٢). وقال الكلبي: إلى مكان ليس عليه نبات (٣). وقوله: ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ قال ابن عباس: أنبتنا فيها الزرع والأشجار بعد ما لم يكن (٤).
﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ أي: البعث والإحياء.
١٠ - وقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ قال الفراء: (معناه من كان يريد علم العزة لمن هي، فإنها لله جميعًا، أي: كل وجه من العزة لله) (٥).
والآية على ما ذكرنا من باب حذف المضاف، وقال قتادة: من كان يريد العزة فليعتزز بطاعة الله (٦) يعني: أن قوله: ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ معناه: الدعاء إلى طاعة من له العزة ليعتز بطاعته، كما يقال: من أراد المال فالمال لفلان، أي: فليطلب من عنده من حيث يجب أن يطلب، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء؛ لأنه قال: يؤمن بالله فيعتز بعزه (٧).
وقال مجاهد ومقاتل: من كان يريد العزة بعبادته غير الله فليعتزز
(٢) لم أقف عليه.
(٣) لم أقف عليه عن الكلبي. وقد ذكره هو بن محكم في "تفسيره" ٣/ ٤١١ ولم ينسبه.
(٤) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص٣٦٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٦٧.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٢٠، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٤٠، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٧.
(٧) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٢٠، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٢٨، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٧.
وقال أبو إسحاق: (أي إليه يصل الكلام الذي هو توحيده، والله تعالى يرتفع إليه كل شيء) (٣). وعلى ما ذكر، معنى الصعود إليه: الارتفاع، وهو بمعنى العلم كما يقال: ارتفع هذا الأمر إلى القاضي وإلى السلطان، أي: علمه، وفي تخصيص الكلم الطيب بعلمه إثبات للثواب عليه (٤) ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] فنثيبك (٥) عليه.
وقال بعض أهل المعاني: يعني إليه يصعد إلى سمائه، والمحل الذي لا جري لأحد سواه فيه ملك ولا حكم (٦). ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ قال
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ أ. وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٥٦٦، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٢٩، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٨.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٥.
(٤) يبدو أن هناك سقط في الكلام يمكن تقديره بنحو: يدل عليه قوله تعالى.
(٥) في (ب): (فثبك).
(٦) المؤلف رحمه الله في هذا الموضع فيه تأويل لصفة الحلو والفوقية، وهذا =
وقال الحسن: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله، يعرض القول على الفعل فإن وافق القول الفعل قبل وإن خالفه رد، ونحو هذا (٢) قال سعيد بن جبير (٣). وعلى هذا الكناية في ﴿يَرْفَعُهُ﴾ تعود إلى الكلم الطيب.
وقال قتادة: يرفع الله العمل الصالح لصاحبه (٤). وعلى هذا تم الكلام عند قوله: ﴿الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾، ثم قال: ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ الله إليه، أي: يقبله، والكناية للعمل الصالح. وقال مقاتل: التوحيد يرفع العمل الصالح إلى السماء (٥). والمعنى على هذا: لا يقبل الله عمل صالح (٦) إلا من موحد، والرافع على هذا القول الكلم الطيب، وعلى القول الثاني
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٢٢/ ١٢١ من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(٢) (هذا) ساقط في (ب).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٤٠، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٦٤، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٨.
(٤) انظر: المصادر السابقة.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ ب.
(٦) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: عملاً صالحًا.
قال مقاتل: ثم ذكر من لا يوحد الله فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ أي: والذين يقولون الشرك (٢). وهذا معنى قول ابن عباس: والذين يشركون بالله لهم عذاب شديد (٣).
وقال الكلبي: يعني يعملون السيئات (٤).
وقال سعيد بن جبير: والذين يعملون بالرياء، وهو قول مجاهد وشهر ابن حوشب (٥).
وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله في دار الندوة (٦)، وهو اختيار أبي إسحاق (٧). ثم أخبر أن مكرهم يبطل فقال: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ ب.
(٣) أورده الطبري ٢٢/ ١٧ ونسبه لقتادة، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٦/ ٤٧٩، ونسبه لمقاتل، ولم أقف عليه عن ابن عباس.
(٤) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٦٢٩، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٣٢، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٦٧.
(٥) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٧١، "البغوي" ٣/ ٥٦٧، "الدر المنثور" ٧/ ١٠ وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن مجاهد ولسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن شهر بن حوشب.
(٦) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٦٢٩، "زاد المسير" ٦/ ٤٧٩.
(٧) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٥.
ثم دل على نفسه بصفة ليوحد فقال:
١١ - قوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يعني آدم (٤). ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ يعني: نسله. ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا﴾ قال السدي ومقاتل: ذكرانًا وإناثًا (٥). ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ﴾ قال مقاتل: يقول: من قل عمره أو كثر عمره، فهو يعمر إلى أجله الذي كتب له (٦). فالمعمر على هذا الذي قدر له شئ من العمر وإن قل، وليس المعمر بمعنى الطويل العمر، وهو قول المفسرين (٧).
﴿وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾ كل يوم حتى ينتهي إلى أجله. قال سعيد بن جبير: يكتب في أول الصحيفة عمره، ثم يكتب في أسفل من ذلك: ذهب
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ ب.
(٣) أورده السيوطي في "الدر" ٧/ ١٠ وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي، "تفسير السدي الكبير" ص ٣٩٣.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ ب، ولم أقف عليه منسوبًا لابن عباس، وبعض المفسرين ذكر القول منسوبًا لقتادة انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٢٢، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٣٢.
(٥) لم أقف عليه عن مقاتل، وقد أورده د/ محمد عطا في "تفسير السدي الكبير" ص ٣٩٩٣ وعزاه للسيوطي في "الدر"، ولم أقف عليه عند السيوطي.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٢ ب
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٢٢، "الماوردي" ٤/ ٤٦٥، "البغوي" ٣/ ٥٦٧.
قال السدي (٢): يعمر الإنسان الستين والسبعين وينقص ما مضى من أيامه وذلك نقصان من عمره، وذلك كله ﴿كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ هذا الذي ذكرنا قول الجمهور.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ما يزاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره (٣).
وعلى هذا المعمر: الطويل العمر، والذي ينقص من عمره غيره. وعلى القول الأول الذي ينقص من عمره هو المعمر الأول. واختار الفراء هذا القول الثاني فقال: (ولا ينقص من عمره، يريد [أخبر] (٤) غير الأول، وكنى عنه بالهاء كأنه الأول، ومثله في الكلام: عندي درهم ونصفه، المعنى نصف آخر، وجاز أن يكنى عنه بالهاء؛ لأن اللفظ الثاني قد يظهر واللفظ الأول يكنى عنه كالكناية عن الأول، قال: وهذا أشبه بالصواب) (٥). وإنما اختار هذا؛ لأن القراءة المشهورة (ولا يَنقُص مِنْ
(٢) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ١٠/ ٣١٧٥، وأورده الطبري ٢٢/ ١٢٣ عن ابن مالك.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٢٢، "زاد المسير" ٦/ ٤٨١.
(٤) هكذا في (أ)، وهي ساقطة في (ب)، وهو خطأ، والصواب: آخر، كما في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٦٨.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٦٨.
قوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يريد اللوح المحفوظ [مكتوب] (٢) قبل أن يخلق (٣). ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ أي كتابة الآجال والأعمال على الله هين.
١٢ - قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ﴾ يعني العذب والمالح. ثم ذكر ذلك فقال ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ﴾ أي: جائز في الخلق. وهذه القطعة مر تفسيرها في سورة الفرقان (٤).
وقوله: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ﴾ إلى آخر الآية تفسيره قد سبق في سورة النحل (٥). وقوله هنا: ﴿وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ يعني: من المالح دون العذب.
١٣ - وقوله تعالى: ﴿مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ قال أبو عبيدة: هو الفوقة التي النواة فيها (٦).
(٢) ما بين المعقوفين مكرر في (أ).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٢ ب، "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٥.
(٤) عند قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ آية ٥٣. وقال هناك: عذب طيب. وأصله من المنع، والماء العذب هو الذي يمنع العطش، فرات الفراة أعذب المياه.
(٥) آية ١٤. انظر: "البسيط"، وذكر فيه: قال ابن عباس: يريد السمك والحيتان.
(٦) "مجاز القرآن" ٢/ ١٥٣، والفوقة: هي الغشاء الرقيق المحيط بالنواف يقول السمين الحلبي في عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الأنفاظ: وقال: إنه اجتمع في النواة أربعة أشياء، يضرب بها المثل في القلة والحقارة، وقد ذكرت منها ثلاثة في =
قال الزجاج: هو لفافة النواة (٢).
وقال مقاتل: يعني قشرة النواة الأبيض (٣). وهو السحاة التي تكون على النوى.
وقال الحسن: قشر النوى (٤).
وقال مجاهد: لفافة النواة، وهذا قول الجميع (٥).
وروي عن ابن عباس أنه شق النواة، وهو اختيار المبرد (٦).
١٤ - وقوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ قال مقاتل: يتبرأون من عبادتكم إياها (٧).
وقال الزجاج: يقولون ما كنتم إيانا تعبدون، والمعنى: بإشراككم إياها مع الله في العبادة، يقولون: ما أمرناكم بعبادتنا (٨).
﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ﴾ يا محمد، ﴿مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يعني
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ٤٠٩.
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٦.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٣ أ.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير مجاهد" ص ٥٣١، "الطبري" ٢٢/ ١٢٥. وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٥ وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٦) انظر: "القرطبي" ١٤/ ٣٣٦.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٣ أ.
(٨) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٧.
وقال أبو إسحاق: لأن ما أنبأ الله -عز وجل- يكون فهو وحده يخبره ولا يشركه فيه أحد (٢). هذا كلامه، والمعنى: لا ينبئك مثل خبير يعلم الأشياء ويخبرها، لأنه لا مثل له، فلا ينبئك مثله في علمه.
١٥ - وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، قال ابن عباس: يريد أهل مكة (٣). ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ المحتاجون إلى رزقه ومغفرته. (وهو الغني) عن عبادتكم ﴿الْحَمِيدُ﴾ إلى خلقه وغير خلقه (٤).
١٦ - وقوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ مفسر فيما مضى (٥) إلى قوله: ﴿وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ﴾، قال الفراء والزجاج: أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب (٦).
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٧.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) هذه العبارة خطأ، ولعلها وهم من المؤلف رحمه الله أو خطأ من الناسخ؛ لأنه لا شيء في الكون غير مخلوق لله جل وعلا.
(٥) الآيتان: ١٩ - ٢٠ من سورة إبراهيم: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾. وقال هناك: قال ابن عباس والكلبي: يريد أمتكم يا معشر الكفار، وأخلق قومًا غيركم خيرًا منكم وأطوع.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٦٨، "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٧.
١٨ - وقوله: ﴿إِلَى حِمْلِهَا﴾ أي: ما حمل من الخطايا والذنوب. ﴿لَا يُحْمَلْ مِنْهُ﴾ أي: من حملها.
[وقوله] (٣) ﴿شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ قال مقاتل: ولو كان بينهما ما حملت عنها شيء من وزرها (٤) (٥).
قال ابن عباس: يقول: يا بني احمل عني، فيقول: حسبي ما علي (٦).
قال أبو إسحاق: أي ولو كان الذي يدعوه ذا قربى، مثل الأب والابن ومن أشبه هؤلاء (٧).
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ قال ابن عباس: يريد أولياؤه، يقول: خافوني وخافوا ما غاب عنهم من عذابي (٨).
وقال أبو إسحاق: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم (٩)، فكأنك تنذرهم دون غيرهم مما لا ينفعهم إنذارك، كقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٦٨
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب)
(٤) في (ب): (أوزارها).
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٣/ أ.
(٦) يدل على ذلك قوله تعالى في سورة عبس آية ٣٤: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾
(٧) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٧.
(٨) لم أقف عليه.
(٩) المصدر السابق.
وقوله: ﴿وَمَنْ تَزَكَّى﴾ قال ابن عباس: من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه (١).
وقال مقاتل: من صلح فصلاحه لنفسه (٢). ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ فيجزي بالأعمال في الآخرة.
١٩ - وقوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ قال ابن عباس: لا يستوي المشرك والمؤمن (٣).
وقال مقاتل: وما يستوي في الفضل الأعمى عن الهدى [يعني] (٤) الكافر، والبصير بالهدى يعني المؤمن يبصر رشده (٥).
٢٠ - ﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ﴾ يعني: الشرك والضلالات. ﴿وَلَا النُّورُ﴾ يعني: الهدى والإيمان بالله.
٢١ - ﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ﴾ قال الكلبي: أما الظل فالجنة، وأما الحرور فالنار (٦).
وقال ابن عباس: يريد ظل الليل، والحرور هو الذي يكون مثل السموم بالنهار (٧).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٣ أ.
(٣) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٦.
(٤) ما بين المعقوفين مكرر في (ب)
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٣ أ.
(٦) انظر: "الوسيط" ٣/ ٥٠٤، "مجمع البيان" ٨/ ٦٣٣
(٧) انظر: "القرطبي" ١٤/ ٣٤٠، "البغوي" ٣/ ٥٦٩.
قال أبو عبيدة: الحرور ريح حارة تكون بالنهار مع الشمس، وأنشد لحميد الأرقط (٢):
إنا وإن تباعد المسير | وسفعت ألواننا الحرور |
قال أبو إسحاق: الحرور استيقاد الحر ولفحه بالليل والنهار، والسموم لا يكون إلا بالنهار (٤).
٢٢ - قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ يعني: المؤمنين والكافرين.
قال ابن عباس: الكافر وإن كان يأكل ويشرب ويجيء ويذهب (٥)، فهو مثل الميت، ودليل هذا في صفتهم قوله تعالى: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ [النحل: ٢١].
(٢) هو: حميد بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وقيل: هو أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، عاصر الحجاج، سمي الأرقط لآثار كانت بوجهه، وهو بخيل لئيم، يقال له: هجاء الأضياف.
انظر: "خزانة الأدب" ٥/ ٣٩٥، "العقد الفريد" ٧/ ٢٠٨.
(٣) "مجاز القرآن" ٢/ ١٥٤.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٨.
(٥) في (ب): (ويذهب ويجيئ)، ترتيب.
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ يعني: الكفار، شبههم حين صموا ولم يجيبوا إذا دعوا إلى الإيمان بأهل القبور. ثم قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- حين لم يجيبوه إلى الإيمان:
٢٣ - ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ يقول: ما أنت إلا نذير، وليس عليك إلا البلاغ.
٢٤ - وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ قال ابن عباس: وما من أمة من خلقي إلا وقد بعثت فيها نبيًّا (٤).
وقال مقاتل: يقول: ما مر أمة فيما مضى إلا جاءهم رسول (٥).
وقال ابن قتيبة: خلا فيها نذير سلف فيها نبي (٦).
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكر الطبري في "تفسيره" ٢٢/ ١٣٠، نحو عن قتادة، والقرطبي في "تفسيره" ١٠/ ٣١٧٩ ولم ينسبه لأحد.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ١٠/ ٣١٧٩ عن السدي.
(٤) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس.
وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٥٢، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٣٦، "مجمع البيان" ٨/ ٦٣٤.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٣ ب.
(٦) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٦١.
٢٧ - ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده فقال: ﴿لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ (٣) إلى قوله: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ﴾ قال الفراء. (الجدد: الطرق تكون في الجبال مثل العروق، بيض وسود وحمر (٤)، واحدها جدة (٥)، وأنشد لامرئ القيس:
كأن سراتيه (٦) وجدة ظهره | كنائن يجري فوقهن دليص (٧). |
وقال أبو عبيدة: (جدد: طرائق، وأنشد لذي الرمة يصف الليل:
(٢) لم أقف على قول مقاتل.
(٣) قوله: (من السماء ماء) ساقط من (أ).
(٤) في (ب): (بيض وحمر وسود).
(٥) في (أ) بعد قوله: (واحدها جده)، قال: فقال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ﴾ إلى قوله ﴿وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ﴾ وسودهم من الناسخ.
(٦) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: سراته.
(٧) البيت من الطويل، لامرئ القيس في: "شرح ديوانه" ص ١٢٤، "تهذيب اللغة" ١٠/ ٤٥٨، "اللسان" ٣/ ١٠٨ (جدد)، ٧/ ٣٧ (دلص)، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٦٩، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٤/ ٢٦٩. وسراته: هو أعلى ظهره، وجدة ظهره: العلامة يخالف لونها لون جلده، والكنائن: هي الخطوط البيض بظهره.
(٨) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٦٩.
حتى إذا حان من حضر قوادمه | ذي جدتين يكف الطرف تعميم (١) (٢). |
وقال ابن قتيبة والمبرد: جدد: طرائق وخطوط (٤). ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد: أنها الطرائق (٥).
وقال مقاتل: يعني بالجدد الطرائق التي تكون في الجبال، منها بيض ومنها حمر ومنها غرابيب سود (٦). وهو جمع غربيب، وهو الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب، يقال: أسود غربيب وغرابي (٧).
وذكر عن الفراء أن هذا التقديم والتأخير، بتقدير: وسود غرابيب؛ لأنه يقال: أسود غربيب، وقل ما يقال: غربيب أسود (٨).
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ١٥٥.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٩.
(٤) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٦١، وانظر: "فتح القدير" ٣/ ٣٧٤.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٢٦ أ، "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٣١، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٧٠.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٣ ب.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١١٧ (غريب)، "اللسان" ١/ ٦٣٨ (غريب).
(٨) لم أقف على قول الفراء في معاني القرآن له. ونقل كلام الفراء: الطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٦٣٥، والمؤلف في "الوسيط" (٣٥٠٤)، والشوكاني في "فتح القدير" ٤/ ٣٤٧.
هذا الذي ذكرنا هو الوجه في تفسير الجدد والطرائق؛ لأن الطرائق في اللغة كل مستطيل، ويجوز أن يكون المعنى ما ذكره الفراء من قوله: هي طريق تكون في الجبال كالعروق.
(٢) انظر: "مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب" ٢/ ٢١٦، "الدر المصون" ٥/ ٤٦٦، "البحر المحيط" ٧/ ٢٩٦.
(٣) في (ب): (الطريق).
(٤) في (أ): (منها طريقة منها بيض)، وهو خطأ.
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٩.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: عزيز في ملكه، غفور لذنوب المؤمنين (٨).
(٢) لم أقف على قول الكلبي. انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٣ ب.
(٣) انظر: "القرطبي" ١٤/ ٣٤٣، "زاد المسير" ٦/ ٤٨٦، انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ ب.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٣ ب.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "القرطبي" ١٤/ ٣٤٣، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٣٧. وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٢٠ وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والطبراني عن ابن مسعود.
(٧) انظر: "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٣٧، "زاد المسير" ٦/ ٤٨٦. وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٢١ وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد.
(٨) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٧، "تفسير مقاتل" ١٠٣ ب.
وقال أبو إسحاق: لن تفسد ولن تكسد (٢). وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ [فاطر: ١٠] في مواضع.
قال ابن عباس في قوله: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾: يعني الجنة (٣). وقول. ﴿يَرْجُونَ﴾ قال الفراء: (هو جواب لقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ * يَرْجُونَ﴾ (٤) فيرجون جواب لأول الكلام) (٥).
وقوله: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ﴾ متعلق بما ذكر من قوله: ﴿يَتْلُونَ﴾ ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ ﴿وَأَنْفَقُوا﴾ ليوفيهم، أي: فعلوا ما فعلوا ليوفيهم الله جزاء أعمالهم بالثواب.
٣٠ - ﴿وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال ابن عباس: سوى الثواب، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (٦). ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ﴾
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٦٩.
(٣) لم أقف عليه عن ابن عباس. وقد ذكره هود في "تفسيره" ٣/ ٤١٧ ولم ينسبه.
(٤) في (أ): (ويقيمون)، بدلًا من (وأقاموا).
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٩.
(٦) لم أقف على هذا الأثر عن ابن عباس، ولكن ورد عن أبي هريرة في الصحيحين، في البخاري كتاب: التفسير، تفسير سورة تنزيل السجدة ٤/ ١٧٩٤ رقم الحديث (٤٥٠١ - ٤٥٠٢) عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وبرقم (٤٥٠٣) عن أبي هريرة أيضًا.
وأخرجه مسلم في "صحيحه" كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها ٤/ ٢١٧٤ رقم الحديث (٢٨٢٤)، وعن سهل بن سعد الساعدي رقم (٢٨٢٥).
٣١ - ﴿اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ قال ابن عباس: حيث جعلت نعمتى كرامتي فيمن خافني وعظم حقي (٣).
٣٢ - وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ هذه الآية منتظمة بقوله: ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾. لما ذكر أن الأمم الماضية كذبوا الرسل الذين أتتهم بالبينات وبالزبور وبالكتاب المنير وأنه عاقبهم على ذلك، ذكر هذه الآية المصدقة بالكتاب فقال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ﴾ قال مقاتل: يعني القرآن (٤) والمعنى: ثم جعلنا الكتاب ينتهي إليهم؛ لأن من ورث شيئًا كان ذلك الشيء منتهيًا له.
وقوله: ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ عباس: يريد المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- (٥).
ثم قسمهم ورتبهم فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ قال ابن عباس: بدأ بشرهم فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ وهو الذي مات على كبيرة ولم يتب منها (٦).
(٢) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٧، وانظر: "الوسيط" ٣/ ٥٠٥، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٧٠.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٣ ب.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٣٣، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٧٠، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٣٩.
(٦) انظر: "الوسيط" ٣/ ٥٠٥، "زاد المسير" ٦/ ٤٨٩.
﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ قال ابن عباس: وهو والذي لم يصب كبيرة (٢).
وقال مقاتل: هو صاحب اليمين (٣).
﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ يعني: المقربين الذين سبقوا إلى الأعمال الصالحة. وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت [حسناته على سيئاته] (٤) (٥).
وقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في هذه الآية: "السابق والمقتصد يدخلان (٦) الجنة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حسابًا يسيرًا ثم يدخل الجنة" (٧).
وقال عقبة قال (٨) لعائشة: أرأيت قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ﴾
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٢٢٨/ أ، عن بكر ابن سهل الدمياطي.
(٣) لم أقف عليه عن مقاتل، وقد ذكره القرطبي ١٤/ ٣٤٦ عن مجاهد.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٢٨ أ، "البغوي" ٣/ ٥٧١، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٣٩.
(٦) في (ب): (يدخلون)، وهو خطأ.
(٧) هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده ٥/ ١٩٨، ٦/ ٤٤٤، والحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير، تفسير سورة الملائكة ٢/ ٤٢٦ وصححه ووافقه الذهبي، وابن أبي حاتم في "التفسير" ١٠/ ٣١٨٢.
(٨) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: قلت.
وعقبة هو: ابن صهبان الأزدي الحداني، وقيل: الراسبي، وقيل: الهنائي البصري، وحدان وراسب وهناءة من الأزد، روى عن عبد الله بن مغفل المزني =
وروي عن ابن عباس أنه سأل كعبًا (٥) عن هؤلاء الأصناف الثلاثة فقال: تحاكت مناكبهم ورب الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم (٦).
انظر: "تهذيب الكمال" ١٧/ ٢٠٠ الترجمة (٣٩٧٧)، "الطبقات الكبرى" ٧/ ١٤٦، "الجرح والتعديل" ٦/ ٣١٢، الترجمة ١٧٣٦.
(١) هكذا في النسخ! وفيه سقط من الأثر نصه: وأما الظالم لنفسه فمثلي.
(٢) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: اتبعنا.
(٣) هذا الحديث رواه الحاكم في"المستدرك"، كتاب: التفسير، تفسير سورة الملائكة ٤/ ٤٢٦ وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وابن حجر في "المطالب العالية" ٥/ ٣٦٠ وقال: لأبي داود، والثعلبي في "تفسيره".
(٤) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٣٥، وأورده السيوطي في "الد" ٧/ ٢٨ وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
(٥) هو: إسحاق بن كعب بن نافع بن ذي هجن الحميري التابعي، اشتهر بكعب الأحبار، من علماء اليهود في اليمن، أسلم في خلافة أبي بكر وقدم المدينة فأخذ عنه الصحابة كثيرًا من أخبار الأمم الغابرة، وأخذ الكتاب والسنة من كبار الصحابة بالمدينة، ثم رحل إلى الشام وتوفي بها.
انظر: "حلية الأولياء" ٥/ ١٦٤، "تذكرة الحفاظ" ١/ ٥٢، "تهذيب التهذيب" ٨/ ٤٣٨.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٣٤، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٣٩، أورده السيوطي في " الدر" ٧/ ٢٧ وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حمبد وابن المنذر.
وروي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: فيعذب الله من اصطفاه وجعلهم يدخلون الجنة (٢).
هذا الذي ذكرنا مذهب جمهور أهل التأويل. وذهب قوم إلى أن الظالم لنفسه ليس من أهل الجنة. فقال الكلبي: فمنهم ظالم لنفسه في الكفر وذلك في النار (٣).
وروي عن عمرو بن دينار أن ابن عباس كان يقول: الظالم لنفسه هو المنافق (٤).
وروي عوف عن الحسن: نجا السابق والمقتصد، وهلك الظالم لنفسه (٥).
وقال مجاهد: صنفيان (٦) نانجيان وصنف هالك قال: وهذه الآية كالتي في الواقعة: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا
(٢) هكذا وردت هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنها في جميع النسخ، ويظهر أن في الكلام خطأ، ولم أقف على رواية عن ابن عباس قريبة منها بعد طول بحث، فيظهر -والله أعلم- أنها خطأ من النساخ والله أعلم.
(٣) لم أقف عليه عن الكلبي، وانظر: "القرطبي" ١٤/ ٣٤٦، "زاد المسير" ٦/ ٤٨٩ ونسبه لعمرو بن دينار عن ابن عباس.
(٤) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٦٣٩، وبعض المفسرين ذكر هذا القول منسوبًا للحسن. انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٣٥، "زاد المسير" ٧/ ٤٨٩.
(٥) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٣٥، "زاد المسير" ٧/ ٤٨٩، "مجمع البيان" ٨/ ٦٣٩. وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٢٧ وعزاه لعبد بن حميد والبيهقي عن الحسن.
(٦) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: صنفان.
ولقد أحسن أبو بكر الوراق كل الإحسان حيث قال: رتب الله هذه الأمة على ثلاث طبقات؛ لأن أحوالهم على ثلاث: معصية ثم توبة ثم قربة، فإذا عصى العبد كان ظالمًا لنفسه، ثم إذا تاب صار مقتصدًا فإذا ثبت على التوبة دخل (٢) في السابقين (٣).
ولهذا المعنى بدأ في ذكرهم بالظالمين (٤). على أن الواو عند أهل التحقيق لا توجب ترتيبًا. وذكرنا معنى المقتصد في اللغة عند قوله: ﴿أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ [المائدة: ٦٦] وقوله: ﴿سَابِقٌ﴾ أي: سابق إلى الجنة أو إلى
(٢) في (ب): (صار من السابقين).
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٢٧ أ، "البغوي" ٣/ ٥٧٢.
(٤) وقد ذكره القرطبي في "تفسيره" ١٤/ ٣٤٩ أوجهًا أخرى في سبب تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقال: وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق، فقيل: التقديم في الذكر لا يقتضي تشريفًا، كقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾.
وقيل: قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من القليل ذكره الزمخشري ولم يذكر غيره. وقيل: قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه؛ إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه، وأتكل المقتصد على حسن ظنه والسابق على طاعته.-قلت: وفي هذا القول نظر إذ لن يدخل أحد الجنة بعمله كما جاء عن الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله وأخر السابق لئلا يعجب بعمله.
قلت: وقيل غير ذلك، ولا مانع من إرادة الكل والله أعلم.
٣٣ - ثم أخبر بثوابهم وجمعهم في دخول الجنة فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ فقال ابن عباس: أدخلهم الجنة أفضل الجنان وأشرفها (١).
وقال مقاتل: يعني: هؤلاء (٢) الأصناف الثلاثة يدخلون الجنان (٣).
قال أبو علي: (جنات عدن نكرة ويدخلونها أو يدخلونها -على ما قرأ أبو عمرو- صفة لها؛ لأنها جملة والنكرات توصف بالجمل، وأما ارتفاع جنات، فيجوز أن يكون تفسيرا للفضل كأنه قيل: ما ذلك الفضل؟ فقال: الفضل جنات عدن، أي: دخول جنات. قال: ويجوز أن تجعل الجنات بدلاً من الفضل، كأن ذلك الفضل جنات عدن، أي: دخول جنات عدن) (٤). هذا كلامه، والمعنى: إيراثنا إياهم الكتاب الفضل الكبير، وذلك الفضل جنات عدن أي: دخولها؛ لأن إيراث الكتاب هو (٥) سبب دخول الجنات. وباقي الآية مفسرة في سورة الحج (٦).
قال مقاتل: فلما دخلوها واستقرت بهم الدار، حمدوا ربهم على ما صنع بهم (٧). وهو:
(٢) في (ب): (هذه).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٤ أ.
(٤) "الحجة" ٦/ ٢٨.
(٥) "هو" ساقطة من (ب).
(٦) آية: ٢٣، وأحال على سورة الكهف.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ أ.
قال ابن عباس: يعنون ما يعاينون (٢) في الموقف من الأهوال والزلازل والشدائد (٣).
قال مقاتل: لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع الله بهم (٤).
وقال الكلبي: يعني الذي كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة (٥).
وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: حزن النار (٦).
وقال سعيد بن جبير: همُّ الخبز في الدنيا (٧).
وقال الحسن: أحزان أهل الدنيا يقطعها الموت، ولكن أحزان الآخرة (٨).
وقال عكرمة: حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات (٩).
وقال أبو إسحاق: اذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها
(٢) في (أ): (عاينون).
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٢٩ أ، "الماوردي" ٤/ ٤٧٥، "البغوي" ٣/ ٥٧٢.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ أ.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٢٩ أ، "البغوي" ٣/ ٥٧٢، "فتح القدير" ٤/ ٣٥٠.
(٦) انظر: المصادر السابقة، ولعله لا فرق بين القولين.
(٧) انظر: "البغوي" ٣/ ٥٧٢، "زاد المسير" ٦/ ٤٩٢، "فتح القدير" ٤/ ٣٥٠. ولعل المقصود بهذا القول هو هم طلب الرزق.
(٨) لم أقف عليه.
(٩) انظر: المصادر السابقة.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ قال ابن عباس: يعنون بذلك أنهم غفر لنا العظائم من ذنوبنا، وشكر لنا من محاسن أعمالنا (٢).
٣٥ - وقوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال مقاتل: أنزلنا دار الخلود، أقاموا فيها أبدًا، لا يموتون ولا يتحولون عنها أبدًا (٣) قال الفراء والزجاج: المقامة مثل الإقامة، يقال: أقمت بالمكان إقامة ومقامة ومقامًا (٤).
وقوله: ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال أبو إسحاق: أي ذلك بتفضله لا بأعمالنا (٥).
﴿لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: لا يصيبنا في الجنة عناء ومشقة في أجسامنا (٦).
﴿وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ اللغوب: الإعياء من التعب. قال الفراء في المصادر: لغب بالفتح يلغب الضم لغوبا، ولغب بفتح الغين قليلة (٧).
(٢) انظر: "تفسير ابن عباس" ص ٣٦٧، وذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٥٠٦.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤/ أ.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٠، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧١.
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧١.
(٦) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٧، "تفسير مقاتل" ١٠٤ أ.
(٧) لم أقف على قول الفراء وانظر: "اللسان" ١/ ٧٤٢ (لغب)، إلا أن ابن منظور قال: ولغب بالكسر لغة ضعيفة. وما ذكر هنا خطأ فالمراد: ولعب بكسر العين، فلعله وهم من النساخ والله أعلم.
والمفسرون يقولون في اللغوب: إنه الإعياء (٣). قال مقاتل: يقول: فلا يصيبنا في الجنة من إعياء (٤). وقال عطاء عن ابن عباس: مثل ما يلغب الرجل حين يلاعب أهله ويجامعها (٥).
٣٦ - فلما بلغ هذا الموضع انقطعت صفة أهل التوحيد، وهم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال في صفة الكفار (٦): ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ قال أبو إسحاق: فيموتوا جواب النفي، المعنى: لا يقضي عليهم الموت فيموتوا (٧). هذا كلامه. ويجوز أن يكون معنى لا يقضى عليهم لا يهلكون، من قوله: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ (٨) وقد مر، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير محذوف. قال ابن عباس: فيموتوا فيستريحوا مما (٩) هم فيه من العذاب.
﴿وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ طرفة عين كذلك يعن ما ذكر (١٠).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١٣٩ (لغب).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٤٠، "بحر العلوم" ٣٠/ ٨٨، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٤٠.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ أ.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) في (ب): (الكافرين).
(٧) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧١
(٨) سورة القصص: آية ١٥.
(٩) في (أ): (بما)، وهو خطأ.
(١٠) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٧، وقد ذكره بعض المفسرين غير منسوب.
٣٧ - ﴿يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ أي: يستغيثون. قاله ابن عباس (٢). والجميع، وهو [قول] (٣) من الافتعال من الصراخ، يقال اصطرخ (٤) القوم وتصارخوا (٥).
قال مقاتل: والاستغاثة أنهم ينادون (٦) ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا﴾، قال ابن عباس: نقل: لا إله إلا الله ﴿غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ يعني: الشرك (٧). فوبخهم الله تعالى فقال: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ثماني عشرة سنة، وهو قول قتادة (٨). وقال الحسن: أربعين سنة (٩). وهو قول الكلبي، قال: تعمير العبد بعد أربعين سنة (١٠).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ أ. وانظر: المصادر السابقة.
(٢) انظر: "تفسير ابن عباس" ص ٤٣٨ بهامش المصحف.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ب)
(٤) في (ب): (أصرخ).
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ١٣٥ (صرخ)، "اللسان" ٣/ ٣٣ (صرخ).
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ أ.
(٧) انظر: "الوسيط" ٣/ ٥٠٦. "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٥٢.
(٨) انظر: "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٤١، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٧٣، "زاد المسير" ٦/ ٤٩٤.
(٩) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٦١، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٧٣، "تفسير القرطبى" ١٤/ ٣٥٣.
(١٠) لم أقف عليه عن الكلبي. وقد ذكره الماوردي في "تفسيره" ٤/ ٤٧٦ عن ابن عباس ومسروق. وابن أبي حاتم في "تفسيره" ١/ ٣١٨٥ عن الحسن.
وقال ابن عباس في رواية مجاهد: يعني ستين سنة (٢). وهذا أولى الأقاويل؛ لما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا بلغ الرجل ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر" (٣)، وقوله: ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ قال ابن عباس (٤): يريد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو قول مقاتل والجمهور (٥).
وقال آخرون: يعني به الشيب. روى ذلك عكرمة وسفيان بن عيينة (٦).
وذكر الفراء والزجاج القولين في النذير (٧).
وقال أبو علي: من قال: إن النذير محمد -صلى الله عليه وسلم-، كان اسم فاعل كالمنذر، ومن قال: إنه الشيب، كان الأولى أن يكون مصدرًا كالإنذار (٨). والقول هو الأول. لقوله تعالى في صفة محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٥، الفتح.: ٨]
(٢) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٤١، "بحر العلوم" ٣/ ٨٩، "زاد المسير" ٦/ ٤٩٤.
(٣) أخرجه الحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير، تفسير سورة الملائكة ٤/ ٤٢٧ وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وابن أبي حاتم في "التفسير" ١٠/ ٣١٨٥.
(٤) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٤٣٧.
(٥) وهو قول جمهور المفسرين كما حكاه "البغوي" ٣/ ٥٧٣، والنحاس في "معاني القرآن" ٥/ ٤٦٢، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٤١.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٣٠ أ، البغوي ٣/ ٥٧٣، "زاد المسير" ٦/ ٤٩٤.
(٧) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٠، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٢.
(٨) "الحجة" ١/ ٢٥٥.
٣٨ - وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ تفسير هذه الآية قد تقدم فيما مضى (٢). قال الكلبي ومقاتل: في هذه الآية يعني أنهم لو ردوا (٣) لما نهو عنه (٤).
٣٩ - ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: يريد خلفًا من بعد قوم كانوا من قبلكم (٥). قال أبو إسحاق: أي جعلكم أمة خلفت من قبلها ورأت وشاهدت فيمن سلف ما ينبغي أن يعتبر به (٦). ﴿فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أي: جزاء كفره.
ثم أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالاحتجاج عليهم بقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ﴾ هو الآية. قال أبو إسحاق: معناه: قل أخبروني عن شركائكم (٧).
﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ قال أبو علي: (قوله: ﴿مَاذَا خَلَقُوا﴾ في موضع النصب؛ لأنه المفعول الثاني لأرأيتم.
(٢) عند قوله تعالى في سورة آل عمران آية ١١٩، ١٥٤.
(٣) هكذا في النسخ! وهو خطأ، إذا الصواب هو: لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام: آية ٢٨ ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾
(٤) لم أقف عليه منسوبًا للكلبي. وانظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ أ، "بحر العلوم" ٣/ ٨٩، "القرطبي" ١٤/ ٣٥٥.
(٥) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس. ونسبه بعض المفسرين لقتادة. انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٤٣، "مجمع البيان" ٨/ ٦٤٢.
(٦) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٢.
(٧) المصدر السابق.
٤٠ - وقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ﴾ [فصلت: ٥٢] في الاستفهام في الآيتين، في (١) المفعول الثاني لـ (أرأيتم) (٢).
وقال مقاتل: ﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ كما خلق الله آدم إن كانوا آلهة (٣).
قال الفراء: أي أنهم لم يخلقوا شيئًا (٤). فعلى هذا من بمعنى في.
وقال الزجاج: (أي بأس شيء أوجبتم لهم شركة الله -عز وجل-) (٥) أي شيء خلقوه من الأرض.
﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ أي: أم لهم شركة في خلق الموات. ثم ترك هذا النظم فقال: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ يقول: بل آتيناهم، يعني: أهل مكة. ﴿كِتَابًا﴾ قال ابن عباس: يريد بعثت إليهم قبلك يا محمد نبينا، وأنزلت عليهم كتابًا (٦).
(٢) لم أقف على قول أبي علي، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٧٠١.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ ب.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٠.
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٣.
(٦) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٤٣٩، وذكر هذا القول الماوردي في "تفسيره" ٤/ ٤٧٨ ونسبه للكلبي.
وقرأ أبو عمرو: بينة، جعل ما في الكتاب بينة على لفظ الإفراد وإن كانت عدة أشياء، كما قال: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ [هود: ٢٨] (٣).
ثم استأنف: ﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ﴾ أي: ما يعد الظالمون. ﴿بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ يعني: أباطيل تغر. قال ابن عباس: يريد ما يعدهم به إبليس وجنوده (٤).
وقال مقاتل: يعني ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة لهم في الآخرة إلا باطلاً ليس بشيء (٥).
٤١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ قال مقاتل: يعني لئلا تزولا عن مواضعهما (٦). وعلى هذا، تكون هذه الآية كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ (٧) وقد مر.
وقال أبو إسحاق: يمسك بمعنى: يمنع (٨) (٩).
(٢) هكذا في النسخ بالتثنية! وهو خطأ؛ لأن الإشارة لم تسبق إلا إلى كتاب واحد، وهكذا وردت بالإفراد في "الوسيط" ٣/ ٥٥٧.
(٣) انظر: "الحجة" ٦/ ٢٩ - ٣٠، "حجة القراءات" ص ٥٩٤.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ أ.
(٦) المصدر السابق.
(٧) سورة النساء: آية ١٧٦.
(٨) في (أ): (يمنعني)، وهو تصحيف.
(٩) النظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٣.
وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ زَالَتَا﴾ قال الفراء: (يعني ولو زالتا، كقوله: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا﴾، وقوله: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ولئن ولو، وهما متآخيتان يجابان بجواب واحد) (٣).
وقال أبو إسحاق: هذا على وجهين:
أحدهما: أنه أراد زولانهما في القيامة قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ [التكوير: ١١] والثاني: أن يقال: إن زالتا وهما لا يزولان. هذا كلامه (٤). والمعنى في الوجه الأول أن زوالهما جائز ولان (٥) في القيامة، وفي الوجه الثاني قيل: ولئن زالتا، على التقدير: لا أنهما تزولان ما دامت الدنيا.
وقال مقاتل: يعني: ولئن أرسلتهما فزالتا (٦)، وأضمر الإرسال.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾ قال أبو عبيدة: أي لا يمسكهما (٧).
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٤٨٧.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٠.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٤.
(٥) هكذا في النسخ! ولعله تصحيف، والصواب: وكائن.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ ب.
(٧) "مجاز القرآن" ٢/ ١٥٦.
قال مقاتل: يقول لم يمسكهما أحد من بعد الله (٢).
وقال الكلبي في سبب النزول (٣): إن اليهود لما قالوا: عزير ابن الله [وقالت] (٤) النصارى: المسيح ابن الله، كادت السموات والأرضون أن تزولا عن أمكنتهما، فمنعها الله -عز وجل- ونزل هذه الآية.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ قال: حليمًا عما يقال له، غفورًا لمن تاب من مقالته. واختار الزجاج قول الكلبي، وذكر في النزول مثل قوله. ﴿حَلِيمًا﴾ حلم عمن قال: اتخذ الرحمن ولدًا فلم يعجل عليهم العقوبة (٥). وسائر المفسرين لم يذكروا هذا السبب، والآية على قولهم احتجاجًا على المشركين بقدرة الله تعالى على حفظ السموات والأرض وإمساكهما عن الزوال، وإخبار (٦) عن عظم قدرته، وعلى هذا يقال: لم قال إنه كان حليمًا غفورًا؟ وأين هذا المكان عن ذكر الحلم والمغفرة وهذا موضع يدل على القدرة؟ والجواب عن هذا ما ذكر مقاتل، قال: هذا على التقديم، إنه كان حليمًا عن قولهم (٧) الملائكة بنات الله، غفورًا إذا أخر
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ ب.
(٣) انظر: "القرطبي" ١٤/ ٣٥٧، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" ٦/ ٤٩٦ عن الزجاج.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط في (ب)
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٣.
(٦) في (ب): (وإجار).
(٧) في (ب): (للملائكة).
٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ يعني: كفار مكة. وهذه ألفاظ قد سبق تفسيرها في سورتين (٢).
قال ابن عباس: حلفوا بالله قبل أن يأتيهم محمد بأيمان غليظة ﴿لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ رسول. ﴿لَيَكُونُنَّ أَهْدَى﴾ أصوب دينا. ﴿مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ﴾ يريد: اليهود والنصارى والصابئين. ﴿جَاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿مَا زَادَهُمْ﴾ مجيئه ﴿إِلَّا نُفُورًا﴾ تباعدًا عن الهدى (٣).
٤٣ - ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: عتوا (٤).
وقال مقاتل: تكبرا في الأرض عن الإيمان (٥). وانتصب استكبارا -عند الأخفش- على البدل من قوله: ﴿نُفُورًا﴾ (٦).
(٢) سورة الأنعام: آية ١٠٩، قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ والآية ٥٣ من سورة النور، قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ﴾.
(٣) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٨، وأرده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٥٠٨، وذكره أكثر المفسرين غير منسوب لابن عباس.
انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٣٠ ب، "بحر العلوم" ٣/ ٩٠، " المحرر الوجيز" ٤/ ٤٤٣.
(٤) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "بحر العلوم" ٣/ ٩٠، "الوسيط" ٣/ ٥٠٨، "القرطبي" ١٤/ ٣٥٨.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ ب.
(٦) انظر: "الدر المصون" ٥/ ٤٧٣، "البحر المحيط" ٨/ ٣٠٥.
﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ قرأ حمزة بإسكان الهمزة. قال أبو إسحاق: (وهذا عند النحويين لحن لا يجوز، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار، كقوله:
إذا أعوججن قلت صاحب قوم (٣)
يريد: يا صاحب، فحذف مضطرا، كأنه استثقل الضم بعد الكسر والكسر بعد الكسر، ولو قال صاحب، ومثله:
اليوم اشرب غير مستحقب (٤)
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٤.
(٣) صدر بين من الرجز، وعجزه:
بالدو أمثال السفين العوم
وينسب لابن نحيلة، انظر: "شرح أبيات سيبوبه" ٢/ ٣٩٨، "شرح شواهد الشافية" ص ٢٢٥. وبلا نسبة في: "الكتاب" ٤/ ٢٠٣، "الخصائص" ١/ ٧٥، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٧١.
ويعني بقوله: اعوججن، الإبل، والدو: الصحراء، شبه الإبل في الصحراء بالسفن التي تمخر عباب اليم.
والشاهد فيه: تسكين ياء صاحب، تشبيهاً للوصل بمجرى الوقف.
(٤) صدر بيت، وعجزه:
إثمًا من الله ولا واغل
وهو لامرئ القيس كما في: "ديوانه" ص ١٢٢، "الكتاب" ٤/ ٢٠٤، "لسان العرب" ١/ ٣٢٥ (حقب)، "الأصمعيات" ص ١٣٠. واستحقب: اكتسب، وأصل الاستحقاب حمل الشيء في الحقيبة، والواغل: الداخل على القوم في شرابهم ولم يدع.
والشاهد فيه قوله: اشرب، حيث سكن الباء ضرورة.
قال أبو علي: (التقدير في قوله: ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ﴾: استكبروا في الأرض، ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ أي: مكروا والمكر السيئ، فأضيف المصدر، إلى صفة المصدر ألا ترى أنه قد جاء بعد ولا يحيق المكر السيئ، وكما أن السيئ صفة للمصدر كذلك الذي قبله، ومثله قوله: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ﴾ تقديره: مكروا المنكرات السيئات، إلا أنك إذا أضفت إلى السيئ قدرت الصفة وصفًا لشيء غير المكر، كما أن من قال: دار الآخرة، وجانب الغربي، قدره كذلك، يريد أن الأصل: الدار الآخرة، والجانب الغربي، فلما أضيف إلى صفته صار التقدير: دار الأحكام الآخرة، وجانب البلد الغربي، كذلك مكر السيئ يكون معناه: مكر الشرك السيء.
قال: فأما قراءة حمزة واستكانة (٢) الهمزة في الاستدراج، فإن ذلك يكون على إجرائها في الوصل مجراها في الوقف، فهو مثل سببا (٣) ويمهل، وهو في الشعر كثير.
ومما يقوي ذلك أن قومًا قالوا في الوقف: أقعى وأقعوا، فأبدلوا من الألف الواو والياء، ثم أجروها في الوصل مجراها في الوقف فقالوا: هذه أفعوا يا فتى، فكذلك عمل حمزة بالهمزة في هذا الموضع.
(٢) في (أ): (واستكانة)، وهو خطأ.
(٣) في (ب): (سببا)، وهو تصحيف.
فاليوم فاشرب غير مستحقب (١).............
................... وقد بدا هنك من المئزر (٢)
فإذا شاع ما ذكرنا في هذه القراءة من التأويل، لم يسغ لقائل أن يقول إنه لحن، للزمه أن يقول: إن قول من قال: افعوا في الوصل لحن، فإذا كان من قرأ به على قياس ما استعملوه في كلامهم المنثور لم يكن لحنا، ولم يكن لقادح في ذلك قدح. وهذه القرآة وإن كان لها مخلص من الطعن، فالوجه قراءة الحرف على ما عليه الجمهور في الدرج) (٣).
وقال أبو جعفر النحاس: كان الأعمش يقف على ومكر السيئ، فيترك الحركة، وهو وقف حسن؛ لأنه تمام الكلام، ثم غلط الراوي فروى أنه كان يحذف الإعراب في الإدراج (٤)، فيحتمل أن يكون حمزة قد ذهب إلى قراءته ولم يعلم أنه إنما كانت يترك الحركة في همز الوقف؛ لأنه في
(٢) عجز بيت من السريع، وصدره:
رحت وفي رجليك ما فيهما.
وهو مختلف في نسبته، فهو في ديوان الأقيشة الأسدي ومنسوب إليه في "شرح أبيات سبويه" ٢/ ٣٩١، و"حزانة الأدب" ٤/ ٤٨٤، ونسبه ابن قتيبة كما في "الشعر والشعراء" للفرزدق. والشاهد فيه: إسكان النون في هناك ضرورة، وهو مرفوع لأنه فاعل بدا.
(٣) "الحجة" ٦/ ٣١ - ٣٣.
(٤) "القطع والائتناف" ص ٥٩٣.
والمفسرون فسروا المكر السيئ هاهنا بالشرك (٢). والتقدير: ومكروا مكرًا سيئًا، والمكر السيئ وهو عملهم القبيح من الشرك، والمكر هو العمل القبيح. وقد مر هذا المعنى في مواضع من التنزيل.
﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ قال ابن عباس: يريد عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك (٣). وقال الكلبي: هو أنهم قتلوا يوم بدر (٤).
ثم خوفهم فقال: قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ﴾ أي: هل ينظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بالأمم المكذبة قولهم (٥) أي: يجب أن لا ينتظروا إلا العذاب بعد تكذيبك، وهذا كقوله: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ (٦) وقد مر.
قوله: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ في العذاب. ﴿تَبْدِيلًا﴾ وإن تأخر ذلك؛ لأن قوله الحق في نزول العذاب بهم في الدنيا.
﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ لا يقدر أحد أن يحول العذاب عنهم إلى غيرهم. قاله مقاتل وابن عباس (٧).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٤٥، "بحر العلوم" ٣/ ٩٠، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٧٤، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٥٨.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٥٧٥، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٤٣، " زاد المسير" ٦/ ٣٥٩.
(٤) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٧٩، "البغوي" ٣/ ٥٧٥، "القرطبي" ١٤/ ٣٥٩.
(٥) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: قبلهم.
(٦) سورة يونس: آية ١٠٢.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٤ ب، انظر: "تفسير ابن عباس" ص ٣٦٨.
وقال الزجاج: قد جرى ذكر الأرض في قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ (٣).
وقوله: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ قال ابن عباس: يريد المشركين (٤).
وقال الكلبي: يعني الجن والإنس خاصة (٥)
قال أبو عبيدة: الدابة هاهنا الناس خاصة (٦). واختار الزجاج قول الكلبي (٧).
وسائر أهل التفسير يجعلون الدابة هاهنا عامًا في من دب على وجه الأرض، وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في نظير هذه الآية في سورة النحل [: ٦١].
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٤٨٧.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٦.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٧٩، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٩١.
(٦) "مجاز القرآن" ٢/ ١٥٦.
(٧) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٦.