وَابْتَلُوا الْيَتَامَى
الِابْتِلَاء الِاخْتِبَار ; وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَهَذِهِ الْآيَة خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ فِي بَيَان كَيْفِيَّة دَفْع أَمْوَالِهِمْ.
وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَابِت بْن رِفَاعَة وَفِي عَمِّهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ رِفَاعَةَ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ اِبْنَهُ وَهُوَ صَغِير، فَأَتَى عَمُّ ثَابِتٍ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ اِبْن أَخِي يَتِيم فِي حِجْرِي فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْ مَالِهِ، وَمَتَى أَدْفَع إِلَيْهِ مَالَهُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الِاخْتِبَار ; فَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْوَصِيُّ أَخْلَاقَ يَتِيمِهِ، وَيَسْتَمِعَ إِلَى أَغْرَاضِهِ، فَيَحْصُل لَهُ الْعِلْم بِنَجَابَتِهِ، وَالْمَعْرِفَة بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحه وَضَبْط مَاله، وَالْإِهْمَال لِذَلِكَ.
فَإِذَا تَوَسَّمَ الْخَيْر قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرهمْ : لَا بَأْس أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَاله يُبِيح لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَإِنْ نَمَّاهُ وَحَسَّنَ النَّظَرَ فِيهِ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِبَار، وَوَجَبَ عَلَى الْوَصِيّ تَسْلِيم جَمِيع مَاله إِلَيْهِ.
وَإِنْ أَسَاءَ النَّظَرَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاك مَاله عِنْده.
وَلَيْسَ فِي الْعُلَمَاء مَنْ يَقُول : إِنَّهُ إِذَا اخْتَبَرَ الصَّبِيّ فَوَجَدَهُ رَشِيدًا تَرْتَفِع الْوِلَايَة عَنْهُ، وَأَنَّهُ يَجِب دَفْع مَاله إِلَيْهِ وَإِطْلَاق يَده فِي التَّصَرُّف ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح ".
وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء : الصَّغِير لَا يَخْلُو مِنْ أَحَد أَمْرَيْنِ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَة ; فَإِنْ كَانَ غُلَامًا رَدَّ النَّظَر إِلَيْهِ فِي نَفَقَة الدَّار شَهْرًا، أَوْ أَعْطَاهُ شَيْئًا نَزْرًا يَتَصَرَّف فِيهِ ; لِيَعْرِف كَيْفَ تَدْبِيرُهُ وَتَصَرُّفُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرَاعِيهِ لِئَلَّا يُتْلِفَهُ ; فَإِنْ أَتْلَفَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَصِيّ.
فَإِذَا رَآهُ مُتَوَخِّيًا سَلَّمَ إِلَيْهِ مَالَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَة رَدَّ إِلَيْهَا مَا يُرَدُّ إِلَى رَبَّة الْبَيْت مِنْ تَدْبِير بَيْتهَا وَالنَّظَر فِيهِ، فِي الِاسْتِغْزَال وَالِاسْتِقْصَاء عَلَى الْغَزَّالَات فِي دَفْع الْقُطْن وَأُجْرَتِهِ، وَاسْتِيفَاء الْغَزْل وَجَوْدَتِهِ.
فَإِنْ رَآهَا رَشِيدَة سَلَّمَ أَيْضًا إِلَيْهَا مَالَهَا وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا.
وَإِلَّا بَقِيَا تَحْت الْحَجْر حَتَّى يُؤْنَس رُشْدُهُمَا.
وَقَالَ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : اِخْتَبَرُوهُمْ فِي عُقُولهمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَتَنْمِيَةِ أَمْوَالهمْ.
حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ
أَيْ الْحُلُم ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَال مِنْكُمْ الْحُلُم " [ النُّور : ٥٩ ] أَيْ الْبُلُوغ، وَحَال النِّكَاح.
وَالْبُلُوغ يَكُون بِخَمْسَةِ أَشْيَاء : ثَلَاثَة يَشْتَرِك فِيهَا الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَاثْنَانِ يَخْتَصَّانِ بِالنِّسَاءِ وَهُمَا الْحَيْض وَالْحَبَل.
فَأَمَّا الْحَيْض وَالْحَبَل فَلَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء فِي أَنَّهُ بُلُوغ، وَأَنَّ الْفَرَائِض وَالْأَحْكَام تَجِب بِهِمَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّلَاثَة ; فَأَمَّا الْإِنْبَات وَالسِّنّ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَابْن حَنْبَل : خَمْس عَشْرَة سَنَة بُلُوغ لِمَنْ لَمْ يَحْتَلِم.
وَهُوَ قَوْل اِبْن وَهْب وَأَصْبَغَ وَعَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة، وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَتَجِب الْحُدُود وَالْفَرَائِض عِنْدهمْ عَلَى مَنْ بَلَغَ هَذَا السِّنَّ.
قَالَ أَصْبَغ بْن الْفَرَج : وَاَلَّذِي نَقُول بِهِ أَنَّ حَدَّ الْبُلُوغ الَّذِي تَلْزَم بِهِ الْفَرَائِض وَالْحُدُود خَمْس عَشْرَة سَنَة ; وَذَلِكَ أَحَبّ مَا فِيهِ إِلَيَّ وَأَحْسَنُهُ عِنْدِي ; لِأَنَّهُ الْحَدّ الَّذِي يُسْهَم فِيهِ فِي الْجِهَاد وَلِمَنْ حَضَرَ الْقِتَال.
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ اِبْن عُمَر إِذْ عُرِضَ يَوْم الْخَنْدَق وَهُوَ اِبْن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَة فَأُجِيزَ، وَلَمْ يُجَزْ يَوْمَ أُحُد ; لِأَنَّهُ كَانَ اِبْن أَرْبَع عَشْرَة سَنَة.
أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : هَذَا فِيمَنْ عُرِفَ مَوْلِده، وَأَمَّا مَنْ جُهِلَ مَوْلِده وَعِدَّةُ سِنِّهِ أَوْ جَحَدَهُ فَالْعَمَل فِيهِ بِمَا رَوَى نَافِع عَنْ أَسْلَمَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاء الْأَجْنَاد :( أَلَّا تَضْرِبُوا الْجِزْيَة إِلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي ).
وَقَالَ عُثْمَان فِي غُلَام سَرَقَ : اُنْظُرُوا إِنْ كَانَ قَدْ اِخْضَرَّ مِئْزَرُهُ فَاقْطَعُوهُ.
وَقَالَ عَطِيَّة الْقُرَظِيّ : عَرَضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي قُرَيْظَة ; فَكُلّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ قَتَلَهُ بِحُكْمِ سَعْد بْن مُعَاذ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ مِنْهُمْ اِسْتَحْيَاهُ ; فَكُنْت فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَتَرَكَنِي.
وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَغَيْرُهُمَا : لَا يُحْكَمُ لِمَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ حَتَّى يَبْلُغَ مَا لَمْ يُبْلِغْهُ أَحَدٌ إِلَّا اِحْتَلَمَ، وَذَلِكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ; فَيَكُون عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الْحَدّ إِذَا أَتَى مَا يَجِب عَلَيْهِ الْحَدّ.
وَقَالَ مَالِك مَرَّة : بُلُوغُهُ أَنْ يَغْلُظ صَوْته وَتَنْشَقَّ أَرْنَبَتُهُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة رِوَايَة أُخْرَى : تِسْعَ عَشْرَة سَنَة ; وَهِيَ الْأَشْهَر.
وَقَالَ فِي الْجَارِيَة : بُلُوغهَا لِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَة وَعَلَيْهَا النَّظَر.
وَرَوَى اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْهُ ثَمَانَ عَشْرَة سَنَة.
وَقَالَ دَاوُدُ : لَا يَبْلُغ بِالسِّنِّ مَا لَمْ يَحْتَلِم وَلَوْ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة.
فَأَمَّا الْإِنْبَات فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى الْبُلُوغ ; رُوِيَ عَنْ اِبْن الْقَاسِم وَسَالِم، وَقَالَ مَالِك مَرَّة، وَالشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر.
وَقِيلَ : هُوَ بُلُوغ ; إِلَّا أَنَّهُ يُحْكَم بِهِ فِي الْكُفَّار فَيُقْتَل مَنْ أَنْبَتَ وَيُجْعَل مَنْ لَمْ يُنْبِتْ فِي الذَّرَارِيّ ; قَالَهُ الشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر ; لِحَدِيثِ عَطِيَّة الْقُرَظِيّ.
وَلَا اِعْتِبَار بِالْخُضْرَةِ وَالزَّغَب، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّب الْحُكْم عَلَى الشَّعْر.
وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : سَمِعْت مَالِكًا يَقُول : الْعَمَل عِنْدِي عَلَى حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب : لَوْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي لَحَدَدْتُهُ.
قَالَ أَصْبَغ : قَالَ لِي اِبْن الْقَاسِم وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَلَّا يُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ الْإِنْبَات وَالْبُلُوغ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَثْبُت بِالْإِنْبَاتِ حُكْم، وَلَيْسَ هُوَ بِبُلُوغٍ وَلَا دَلَالَة عَلَى الْبُلُوغ.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَعَطَاء : لَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ، وَمَالَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مَرَّة، وَقَالَ بِهِ بَعْض أَصْحَابه.
وَظَاهِره عَدَم اِعْتِبَار الْإِنْبَات وَالسِّنّ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ :" إِذَا لَمْ يَكُنْ حَدِيث اِبْن عُمَر دَلِيلًا فِي السِّنّ فَكُلّ عَدَد يَذْكُرُونَهُ مِنْ السِّنِينَ فَإِنَّهُ دَعْوَى، وَالسِّنّ الَّتِي أَجَازَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنْ سِنٍّ لَمْ يَعْتَبِرْهَا، وَلَا قَامَ فِي الشَّرْع دَلِيل عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ اِعْتَبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِنْبَات فِي بَنِي قُرَيْظَة ; فَمَنْ عَذِيرِي مِمَّنْ تَرَكَ أَمْرَيْنِ اِعْتَبَرَهُمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَأَوَّلهُ وَيَعْتَبِر مَا لَمْ يَعْتَبِرْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا، وَلَا جَعَلَ اللَّه لَهُ فِي الشَّرِيعَة نَظَرًا ".
قُلْت : هَذَا قَوْله هُنَا، وَقَالَ فِي سُورَة الْأَنْفَال عَكْسه ; إِذْ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى حَدِيث اِبْن عُمَر هُنَاكَ، وَتَأَوَّلَهُ كَمَا تَأَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا، وَأَنَّ مُوجِبه الْفَرْق بَيْنَ مَنْ يُطِيق الْقِتَال وَيُسْهَم لَهُ وَهُوَ اِبْن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَة، وَمَنْ لَا يُطِيقهُ فَلَا يُسْهَم لَهُ فَيُجْعَل فِي الْعِيَال.
وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْد الْعَزِيز مِنْ الْحَدِيث.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
" آنَسْتُمْ " أَيْ أَبْصَرْتُمْ وَرَأَيْتُمْ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" آنَسَ مِنْ جَانِب الطُّور نَارًا " [ ٢٩ الْقَصَص ] أَيْ أَبْصَرَ وَرَأَى.
قَالَ الْأَزْهَرِيّ : تَقُول الْعَرَب اِذْهَبْ فَاسْتَأْنِسْ هَلْ تَرَى أَحَدًا ; مَعْنَاهُ تُبْصِر.
قَالَ النَّابِغَة :
عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَوَجَدْ
أَرَادَ ثَوْرًا وَحْشِيًّا يَتَبَصَّر هَلْ يَرَى قَانِصًا فَيَحْذَرهُ.
وَقِيلَ : آنَسْت وَأَحْسَسْت وَوَجَدْت بِمَعْنًى وَاحِد ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا " أَيْ عَلِمْتُمْ.
وَالْأَصْل فِيهِ أَبْصَرْتُمْ.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " رُشْدًا " بِضَمِّ الرَّاء وَسُكُون الشِّين.
وَقَرَأَ السُّلَمِيّ وَعِيسَى وَالثَّقَفِيّ وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ " رَشَدًا " بِفَتْحِ الرَّاء وَالشِّين، وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَقِيلَ : رُشْدًا مَصْدَر رَشَدَ.
وَرَشَدًا مَصْدَر رَشِدَ، وَكَذَلِكَ الرَّشَاد.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل " رُشْدًا " فَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا : صَلَاحًا فِي الْعَقْل وَالدِّين.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَالثَّوْرِيّ :( صَلَاحًا فِي الْعَقْل وَحِفْظ الْمَال ).
قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَالشَّعْبِيّ : إِنَّ الرَّجُل لَيُأْخَذ بِلِحْيَتِهِ وَمَا بَلَغَ رُشْدَهُ ; فَلَا يُدْفَعْ إِلَى الْيَتِيمِ مَالُهُ وَإِنْ كَانَ شَيْخًا حَتَّى يُؤْنَس مِنْهُ رُشْده.
وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاك : لَا يُعْطَى الْيَتِيم وَإِنْ بَلَغَ مِائَة سَنَة حَتَّى يُعْلَم مِنْهُ إِصْلَاح مَاله.
وَقَالَ مُجَاهِد :" رُشْدًا " يَعْنِي فِي الْعَقْل خَاصَّة.
وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الرُّشْد لَا يَكُون إِلَّا بَعْد الْبُلُوغ، وَعَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْشُدْ بَعْد بُلُوغ الْحُلُم وَإِنْ شَاخَ لَا يَزُول الْحَجْر عَنْهُ ; وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَغَيْره.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يُحْجَر عَلَى الْحُرّ الْبَالِغ إِذَا بَلَغَ مَبْلَغ الرِّجَال، وَلَوْ كَانَ أَفْسَقَ النَّاس وَأَشَدَّهُمْ تَبْذِيرًا إِذَا كَانَ عَاقِلًا.
وَبِهِ قَالَ زُفَر بْن الْهُذَيْل ; وَهُوَ مَذْهَب النَّخَعِيّ.
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ قَتَادَة عَنْ أَنَس أَنَّ حِبَّان بْن مُنْقِذ كَانَ يَبْتَاع وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اُحْجُرْ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ يَبْتَاع وَفِي عُقْدَته ضَعْف.
فَاسْتَدْعَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :( لَا تَبِعْ ).
فَقَالَ : لَا أَصْبِرُ.
فَقَالَ لَهُ :( فَإِذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا ).
قَالُوا : فَلَمَّا سَأَلَهُ الْقَوْم الْحَجْر عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ فِي تَصَرُّفِهِ مِنْ الْغَبْن وَلَمْ يَفْعَل عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثَبَتَ أَنَّ الْحَجْر لَا يَجُوز.
وَهَذَا لَا حُجَّة لَهُمْ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مَخْصُوص بِذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبَقَرَة، فَغَيْرُهُ بِخِلَافِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ كَانٍ مُفْسِدًا لِمَالِهِ وَدِينه، أَوْ كَانَ مُفْسِدًا لِمَالِهِ دُونَ دِينِهِ حُجِرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُفْسِدًا لِدِينِهِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا يُحْجَر عَلَيْهِ ; وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي الْعَبَّاس بْن شُرَيْح.
وَالثَّانِي لَا حَجْر عَلَيْهِ ; وَهُوَ اِخْتِيَار إِسْحَاق الْمَرْوَزِيّ، وَالْأَظْهَر مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ.
قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَجْر عَلَى السَّفِيه قَوْل عُثْمَان وَعَلِيّ وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَعَبْد اللَّه بْن جَعْفَر رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ، وَمِنْ التَّابِعِينَ شُرَيْح، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاء : مَالِك وَأَهْل الْمَدِينَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَهْل الشَّام وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر.
قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَادَّعَى أَصْحَابنَا الْإِجْمَاع فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ دَفْعَ الْمَال يَكُون بِشَرْطَيْنِ : إِينَاس الرُّشْد وَالْبُلُوغ، فَإِنْ وُجِدَ أَحَدهمَا دُون الْآخَر لَمْ يَجُزْ تَسْلِيم الْمَال، كَذَلِكَ نَصّ الْآيَة.
وَهُوَ رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَبَ وَابْن وَهْب عَنْ مَالِك فِي الْآيَة.
وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة الْفُقَهَاء إِلَّا أَبَا حَنِيفَة وَزُفَر وَالنَّخَعِيّ فَإِنَّهُمْ أَسْقَطُوا إِينَاس الرُّشْد بِبُلُوغِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَة.
قَالَ أَبُو حَنِيفَة : لِكَوْنِهِ جَدًّا وَهَذَا يَدُلّ عَلَى ضَعْف قَوْلِهِ، وَضَعْف مَا اِحْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْر الرَّازِيّ فِي أَحْكَام الْقُرْآن لَهُ مِنْ اِسْتِعْمَال الْآيَتَيْنِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَاب الْمُطْلَق وَالْمُقَيَّد، وَالْمُطْلَق يُرَدُّ إِلَى الْمُقَيَّد بِاتِّفَاقِ أَهْل الْأُصُول.
وَمَاذَا يُغْنِي كَوْنه جَدًّا إِذَا كَانَ غَيْر جَدّ، أَيْ بُخْت.
إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا شَرَطُوا فِي الْجَارِيَة دُخُول الزَّوْج بِهَا مَعَ الْبُلُوغ، وَحِينَئِذٍ يَقَع الِابْتِلَاء فِي الرُّشْد.
وَلَمْ يَرَهُ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَرَأَوْا الِاخْتِبَارَ فِي الذَّكَر وَالْأُنْثَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَفَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا بَيْنَهُمَا بِأَنْ قَالُوا : الْأُنْثَى مُخَالِفَة لِلْغُلَامِ لِكَوْنِهَا مَحْجُوبَةً لَا تُعَانِي الْأُمُور وَلَا تَبْرُز لِأَجْلِ الْبَكَارَة فَلِذَلِكَ وُقِفَ فِيهَا عَلَى وُجُود النِّكَاح ; فَبِهِ تُفْهَم الْمَقَاصِدُ كُلُّهَا.
وَالذَّكَر بِخِلَافِهَا ; فَإِنَّهُ بِتَصَرُّفِهِ وَمُلَاقَاته لِلنَّاسِ مِنْ أَوَّل نَشْئِهِ إِلَى بُلُوغه يَحْصُل لَهُ الِاخْتِبَار، وَيَكْمُل عَقْلُهُ بِالْبُلُوغِ، فَيَحْصُل لَهُ الْغَرَض.
وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ أَصْوَب ; فَإِنَّ نَفْسَ الْوَطْء بِإِدْخَالِ الْحَشَفَة لَا يَزِيدُهَا فِي رُشْدهَا إِذَا كَانَتْ عَارِفَة بِجَمِيعِ أُمُورهَا وَمَقَاصِدهَا، غَيْر مُبَذِّرَة لِمَالِهَا.
ثُمَّ زَادَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : لَا بُدّ بَعْد دُخُول زَوْجهَا مِنْ مُضِيّ مُدَّة مِنْ الزَّمَان تُمَارِس فِيهَا الْأَحْوَال.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا فِي تَحْدِيدهَا أَقْوَالًا عَدِيدَة ; مِنْهَا الْخَمْسَة الْأَعْوَام وَالسِّتَّة وَالسَّبْعَة فِي ذَات الْأَب.
وَجَعَلُوا فِي الْيَتِيمَة الَّتِي لَا أَب لَهَا وَلَا وَصِيّ عَلَيْهَا عَامًا وَاحِدًا بَعْد الدُّخُول، وَجَعَلُوا فِي الْمُوَلَّى عَلَيْهَا مُؤَبَّدًا حَتَّى يَثْبُت رُشْدهَا.
وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلّه دَلِيل، وَتَحْدِيد الْأَعْوَام فِي ذَات الْأَبِ عَسِير ; وَأَعْسَرُ مِنْهُ تَحْدِيد الْعَام فِي الْيَتِيمَة.
وَأَمَّا تَمَادِي الْحَجْر فِي الْمُوَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى يَتَبَيَّن رُشْدهَا فَيُخْرِجهَا الْوَصِيّ عَنْهُ، أَوْ يُخْرِجهَا الْحَكَم مِنْهُ فَهُوَ ظَاهِر الْقُرْآن.
وَالْمَقْصُود مِنْ هَذَا كُلّه دَاخِل تَحْت قَوْله تَعَالَى :" فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا " فَتَعَيَّنَ اِعْتِبَار الرُّشْد وَلَكِنْ يَخْتَلِف إِينَاسُهُ بِحَسَبِ اِخْتِلَاف حَال الرَّاشِد.
فَاعْرِفْهُ وَرَكِّبْ عَلَيْهِ وَاجْتَنِبْ التَّحَكُّمَ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا فَعَلَتْهُ ذَات الْأَب فِي تِلْكَ الْمُدَّة ; فَقِيلَ : هُوَ مَحْمُول عَلَى الرَّدّ لِبَقَاءِ الْحَجْر، وَمَا عَمِلَتْهُ بَعْدَهُ فَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْجَوَاز.
وَقَالَ بَعْضهمْ : مَا عَمِلَتْهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّة مَحْمُول عَلَى الرَّدّ إِلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِ السَّدَاد، وَمَا عَمِلَتْهُ بَعْد ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الْإِمْضَاء حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ السَّفَه.
وَاخْتَلَفُوا فِي دَفْع الْمَال إِلَى الْمَحْجُور عَلَيْهِ هَلْ يَحْتَاج إِلَى السُّلْطَان أَمْ لَا ؟ فَقَالَتْ فِرْقَة : لَا بُدّ مِنْ رَفْعِهِ إِلَى السُّلْطَان، وَيَثْبُت عِنْده رُشْده ثُمَّ يُدْفَع إِلَيْهِ مَاله.
وَقَالَتْ فِرْقَة : ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى اِجْتِهَاد الْوَصِيّ دُون أَنْ يَحْتَاج إِلَى رَفْعه إِلَى السُّلْطَان.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَالصَّوَاب فِي أَوْصِيَاء زَمَاننَا أَلَّا يُسْتَغْنَى عَنْ رَفْعه إِلَى السُّلْطَان وَثُبُوت الرُّشْد عِنْده، لِمَا حُفِظَ مِنْ تَوَاطُؤِ الْأَوْصِيَاء عَلَى أَنْ يَرْشُد الصَّبِيّ، وَيَبْرَأ الْمَحْجُور عَلَيْهِ لِسَفَهِهِ وَقِلَّةِ تَحْصِيلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْت.
فَإِذَا سُلِّمَ الْمَال إِلَيْهِ بِوُجُودِ الرُّشْد، ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّفَه بِظُهُورِ تَبْذِيرٍ وَقِلَّةِ تَدْبِيرٍ عَادَ إِلَيْهِ الْحَجْر عِنْدَنَا، وَعِنْد الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَعُود ; لِأَنَّهُ بَالِغٌ عَاقِلٌ ; بِدَلِيلِ جَوَاز إِقْرَارِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى :" وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّه لَكُمْ قِيَامًا " [ النِّسَاء : ٥ ] وَقَالَ تَعَالَى :" فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ " [ الْبَقَرَة : ٢٨٢ ] وَلَمْ يُفَرَّق بَيْنَ أَنْ يَكُون مَحْجُورًا سَفِيهًا أَوْ يَطْرَأ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْد الْإِطْلَاق.
وَيَجُوز لِلْوَصِيِّ أَنْ يَصْنَع فِي مَال الْيَتِيم مَا كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يَصْنَع مِنْ تِجَارَةٍ وَإِبْضَاعٍ وَشِرَاءٍ وَبَيْعٍ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاة مِنْ سَائِر أَمْوَالِهِ : عَيْن وَحَرْث وَمَاشِيَة وَفِطْرَة.
وَيُؤَدِّي عَنْهُ أُرُوش الْجِنَايَات وَقِيَم الْمُتْلَفَات، وَنَفَقَة الْوَالِدَيْنِ وَسَائِر الْحُقُوق اللَّازِمَة.
وَيَجُوز أَنْ يُزَوِّجَهُ وَيُؤَدِّيَ عَنْهُ الصَّدَاقَ، وَيَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً يَتَسَرَّرُهَا، وَيُصَالِح لَهُ وَعَلَيْهِ عَلَى وَجْه النَّظَر لَهُ.
وَإِذَا قَضَى الْوَصِيّ بَعْضَ الْغُرَمَاء وَبَقِيَ مِنْ الْمَال بَقِيَّة تَفِي مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْن كَانَ فِعْل الْوَصِيّ جَائِزًا.
فَإِنْ تَلِفَ بَاقِي الْمَال فَلَا شَيْء لِبَاقِي الْغُرَمَاء عَلَى الْوَصِيّ وَلَا عَلَى الَّذِينَ اِقْتَضَوْا.
وَإِنْ اِقْتَضَى الْغُرَمَاء جَمِيع الْمَال ثُمَّ أَتَى غُرَمَاءُ آخَرُونَ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالدَّيْنِ الْبَاقِي أَوْ كَانَ الْمَيِّت مَعْرُوفًا بِالدَّيْنِ الْبَاقِي ضَمِنَ الْوَصِيُّ لِهَؤُلَاءِ الْغُرَمَاء مَا كَانَ يُصِيبُهُمْ فِي الْمُحَاصَّة، وَرَجَعَ عَلَى الَّذِينَ اِقْتَضَوْا دَيْنَهُمْ بِذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَلَا كَانَ الْمَيِّت مَعْرُوفًا بِالدَّيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَصِيّ.
وَإِذَا دَفَعَ الْوَصِيّ دَيْنَ الْمَيِّت بِغَيْرِ إِشْهَادٍ ضَمِنَ.
وَأَمَّا إِنْ أَشْهَدَ وَطَالَ الزَّمَان حَتَّى مَاتَ الشُّهُود فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَة عِنْد قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ " [ الْبَقَرَة : ٢٢٠ ] مِنْ أَحْكَام الْوَصِيّ فِي الْإِنْفَاق وَغَيْرِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا
لَيْسَ يُرِيد أَنَّ أَكْلَ مَالِهِمْ مِنْ غَيْر إِسْرَاف جَائِزٌ، فَيَكُون لَهُ دَلِيل خِطَاب، بَلْ الْمُرَاد وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّهُ إِسْرَاف.
فَنَهَى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَوْصِيَاء عَنْ أَكْل أَمْوَال الْيَتَامَى بِغَيْرِ الْوَاجِب الْمُبَاح لَهُمْ ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه.
وَالْإِسْرَاف فِي اللُّغَة الْإِفْرَاط وَمُجَاوَزَة الْحَدّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آل عِمْرَان وَالسَّرَف الْخَطَأ فِي الْإِنْفَاق.
وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوهَا ثَمَانِيَةٌ | مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ وَلَا سَرَفُ |
أَيْ لَيْسَ يُخْطِئُونَ مَوَاضِع الْعَطَاء.
وَقَالَ آخَر :وَقَالَ قَائِلُهُمْ وَالْخَيْلُ تَخْبِطُهُمْ | أَسْرَفْتُمُ فَأَجَبْنَا أَنَّنَا سَرَفُ |
قَالَ النَّضْرُ بْن شُمَيْل : السَّرَف التَّبْذِير، وَالسَّرَف الْغَفْلَة.
وَسَيَأْتِي لِمَعْنَى الْإِسْرَاف زِيَادَة بَيَان فِي " الْأَنْعَام " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
" وَبِدَارًا " مَعْنَاهُ وَمُبَادَرَةَ كِبَرِهِمْ، وَهُوَ حَال الْبُلُوغ.
وَالْبِدَار وَالْمُبَادَرَة كَالْقِتَالِ وَالْمُقَاتَلَة.
وَهُوَ مَعْطُوف عَلَى " إِسْرَافًا ".
وَ " أَنْ يَكْبَرُوا " فِي مَوْضِع نَصْب بِ " بِدَارًا "، أَيْ لَا تَسْتَغْنِمْ مَالَ مَحْجُورك فَتَأْكُلَهُ وَتَقُول أُبَادِر كِبَرَهُ لِئَلَّا يَرْشُدَ وَيَأْخُذَ مَالَهُ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى مَا يَحِلّ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالهمْ ; فَأَمَرَ الْغَنِيَّ بِالْإِمْسَاكِ وَأَبَاحَ لِلْوَصِيِّ الْفَقِير أَنْ يَأْكُل مِنْ مَال وَلِيِّهِ بِالْمَعْرُوفِ.
يُقَال : عَفَّ الرَّجُل عَنْ الشَّيْء وَاسْتَعَفَّ إِذَا أَمْسَكَ.
وَالِاسْتِعْفَاف عَنْ الشَّيْء تَرْكُهُ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا " [ النُّور : ٣٣ ].
وَالْعِفَّة : الِامْتِنَاع عَمَّا لَا يَحِلّ وَلَا يَجِب فِعْله.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث حُسَيْن الْمُعَلِّم عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي فَقِير لَيْسَ لِي شَيْء وَلِي يَتِيمٌ.
قَالَ : فَقَالَ :( كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِك غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُبَاذِرٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ ).
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ الْمُخَاطَب وَالْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة ؟ فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَائِشَة فِي قَوْله تَعَالَى :" وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ " قَالَتْ : نَزَلَتْ فِي وَلِيّ الْيَتِيم الَّذِي يَقُوم عَلَيْهِ وَيُصْلِحُهُ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا جَازَ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ.
فِي رِوَايَة : بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَقَالَ بَعْضهمْ : الْمُرَاد الْيَتِيم إِنْ كَانَ غَنِيًّا وَسَّعَ عَلَيْهِ وَأَعَفَّ عَنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِقَدْرِهِ ; قَالَ رَبِيعَة وَيَحْيَى بْن سَعِيد.
وَالْأَوَّل قَوْل الْجُمْهُور وَهُوَ الصَّحِيح ; لِأَنَّ الْيَتِيم لَا يُخَاطَب بِالتَّصَرُّفِ فِي مَاله لِصِغَرِهِ وَلِسَفَهِهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُور فِي الْأَكْل بِالْمَعْرُوفِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ قَوْم :( هُوَ الْقَرْض إِذَا اِحْتَاجَ وَيَقْضِي إِذَا أَيْسَرَ ) ; قَالَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْن عَبَّاس وَعُبَيْدَة وَابْن جُبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد وَأَبُو الْعَالِيَة، وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ.
وَلَا يَسْتَسْلِفُ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ.
قَالَ عُمَر :( أَلَا إِنِّي أَنْزَلْت نَفْسِي مِنْ مَال اللَّه مَنْزِلَةَ الْوَلِيّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، إِنْ اِسْتَغْنَيْت اِسْتَعْفَفْت، وَإِنْ اِفْتَقَرْت أَكَلْت بِالْمَعْرُوفِ ; فَإِذَا أَيْسَرْت قَضَيْت ).
رَوَى عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك عَنْ عَاصِم عَنْ أَبِي الْعَالِيَة " وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ " قَالَ : قَرْضًا - ثُمَّ تَلَا " فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ".
وَقَوْلٌ ثَانٍ - رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة : لَا قَضَاء عَلَى الْوَصِيّ الْفَقِير فِيمَا يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ النَّظَرِ، وَعَلَيْهِ الْفُقَهَاء.
قَالَ الْحَسَن : هُوَ طُعْمَة مِنْ اللَّه لَهُ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ يَأْكُل مَا يَسُدّ جَوْعَتَهُ، وَيَكْتَسِي مَا يَسْتُر عَوْرَتَهُ، وَلَا يَلْبَس الرَّفِيع مِنْ الْكَتَّان وَلَا الْحُلَل.
وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا الْقَوْل إِجْمَاع الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْإِمَام النَّاظِر لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَجِب عَلَيْهِ غُرْم مَا أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ فَرَضَ سَهْمَهُ فِي مَال اللَّه.
فَلَا حُجَّة لَهُمْ فِي قَوْل عُمَر :( فَإِذَا أَيْسَرْت قَضَيْت ) - أَنْ لَوْ صَحَّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي الْعَالِيَة وَالشَّعْبِيّ أَنَّ ( الْأَكْل بِالْمَعْرُوفِ هُوَ كَالِانْتِفَاعِ بِأَلْبَانِ الْمَوَاشِي، وَاسْتِخْدَام الْعَبِيد، وَرُكُوب الدَّوَابّ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَصْلِ الْمَال ; كَمَا يَهْنَأ الْجَرْبَاء، وَيَنْشُد الضَّالَّة، وَيَلُوط الْحَوْض، وَيَجُذّ التَّمْر.
فَأَمَّا أَعْيَان الْأَمْوَال وَأُصُولهَا فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَخْذُهَا ).
وَهَذَا كُلّه يُخَرَّج مَعَ قَوْل الْفُقَهَاء : إِنَّهُ يَأْخُذ بِقَدْرِ أَجْر عَمَله ; وَقَالَتْ بِهِ طَائِفَة وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوف، وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَالزِّيَادَة عَلَى ذَلِكَ مُحَرَّمَة.
وَفَرَّقَ الْحَسَن بْن صَالِح بْن حَيّ - وَيُقَال اِبْن حَيَّان - بَيْنَ وَصِيّ الْأَب وَالْحَاكِم ; فَلِوَصِيِّ الْأَب أَنْ يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَّا وَصِيّ الْحَاكِم فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْمَال بِوَجْهٍ ; وَهُوَ الْقَوْل الثَّالِث.
وَقَوْلٌ رَابِعٌ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد قَالَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذ قَرْضًا وَلَا غَيْره.
وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْآيَة مَنْسُوخَة، نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُون تِجَارَة عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٩ ] وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ.
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : إِنَّ الرُّخْصَة فِي هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا " [ النِّسَاء : ١٠ ] الْآيَة.
وَحَكَى بِشْر بْن الْوَلِيد عَنْ اِبْن يُوسُف قَالَ : لَا أَدْرِي، لَعَلَّ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُون تِجَارَة عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٩ ].
وَقَوْلٌ خَامِسٌ - وَهُوَ الْفَرْق بَيْنَ الْحَضَر وَالسَّفَر ; فَيُمْنَع إِذَا كَانَ مُقِيمًا مَعَهُ فِي الْمِصْر.
فَإِذَا اِحْتَاجَ أَنْ يُسَافِر مِنْ أَجْلِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْتَنِي شَيْئًا ; قَالَهُ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد.
وَقَوْلٌ سَادِسٌ - قَالَ أَبُو قِلَابَةَ : فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ مِمَّا يَجْنِي مِنْ الْغَلَّة ; فَأَمَّا الْمَال النَّاضّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ.
وَقَوْلٌ سَابِعٌ - رَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس " وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ " قَالَ :( إِذَا اِحْتَاجَ وَاضْطُرَّ ).
وَقَالَ الشَّعْبِيّ : كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير أَخَذَ مِنْهُ ; فَإِنْ وُجِدَ أَوْفَى.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إِذَا اُضْطُرَّ هَذَا الِاضْطِرَارَ كَانَ لَهُ أَخْذ مَا يُقِيمُهُ مِنْ مَال يَتِيمه أَوْ غَيْره مِنْ قَرِيب أَوْ بَعِيد.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَالنَّخَعِيّ :( الْمُرَاد أَنْ يَأْكُل الْوَصِيّ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَال نَفْسه حَتَّى لَا يَحْتَاج إِلَى مَال الْيَتِيم ; فَيَسْتَعْفِف الْغَنِيّ بِغِنَاهُ، وَالْفَقِير يُقَتِّر عَلَى نَفْسه حَتَّى لَا يَحْتَاج إِلَى مَال يَتِيمه ).
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ أَحْسَن مَا رُوِيَ فِي تَفْسِير الْآيَة ; لِأَنَّ أَمْوَال النَّاس مَحْظُورَة لَا يُطْلَق شَيْء مِنْهَا إِلَّا بِحُجَّةٍ قَاطِعَة.
قُلْت : وَقَدْ اِخْتَارَ هَذَا الْقَوْل اِلْكِيَا الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَام الْقُرْآن لَهُ ; فَقَالَ :" تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمُونَ مِنْ السَّلَف بِحُكْمِ الْآيَة أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْكُل مِنْ مَال الصَّبِيّ قَدْرًا لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدّ السَّرَف، وَذَلِكَ خِلَاف مَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ مِنْ قَوْله :- " لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُون تِجَارَة عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ " وَلَا يَتَحَقَّق ذَلِكَ فِي مَال الْيَتِيم.
فَقَوْله :" وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ " يَرْجِع إِلَى أَكْل مَال نَفْسه دُون مَال الْيَتِيم.
فَمَعْنَاهُ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَال الْيَتِيم مَعَ أَمْوَالِكُمْ، بَلْ اِقْتَصِرُوا عَلَى أَكْل أَمْوَالِكُمْ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى :" وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا " [ النِّسَاء : ٢ ] وَبَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ " الِاقْتِصَار عَلَى الْبُلْغَة، حَتَّى لَا يَحْتَاج إِلَى أَكْل مَال الْيَتِيم ; فَهَذَا تَمَام مَعْنَى الْآيَة.
فَقَدْ وَجَدْنَا آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ تَمْنَع أَكْل مَال الْغَيْر دُون رِضَاهُ، سِيَّمَا فِي حَقّ الْيَتِيم.
وَقَدْ وَجَدْنَا هَذِهِ الْآيَة مُحْتَمِلَة لِلْمَعَانِي، فَحَمْلهَا عَلَى مُوجِب الْآيَات الْمُحْكَمَات مُتَعَيِّنٌ.
فَإِنْ قَالَ مَنْ يَنْصُر مَذْهَب السَّلَف : إِنَّ الْقُضَاة يَأْخُذُونَ أَرْزَاقَهُمْ لِأَجْلِ عَمَلهمْ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَلَّا كَانَ الْوَصِيّ كَذَلِكَ إِذَا عَمِلَ لِلْيَتِيمِ، وَلِمَ لَا يَأْخُذ الْأُجْرَة بِقَدْرِ عَمَله ؟ قِيلَ لَهُ : اِعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَف لَمْ يُجَوِّزْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذ مِنْ مَال الصَّبِيّ مَعَ غِنَى الْوَصِيّ، بِخِلَافِ الْقَاضِي ; فَذَلِكَ فَارِقٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَأْخُذهُ الْفُقَهَاء وَالْقُضَاة وَالْخُلَفَاء الْقَائِمُونَ بِأُمُورِ الْإِسْلَام لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَالِكٌ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّه ذَلِكَ الْمَالَ الضَّائِعَ لِأَصْنَافٍ بِأَوْصَافٍ، وَالْقُضَاة مِنْ جُمْلَتهمْ، وَالْوَصِيّ إِنَّمَا يَأْخُذ بِعَمَلِهِ مَالَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْر رِضَاهُ ; وَعَمَلُهُ مَجْهُولٌ وَأُجْرَتُهُ مَجْهُولَةٌ وَذَلِكَ بَعِيد عَنْ الِاسْتِحْقَاق.
قُلْت : وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاس يَقُول : إِنْ كَانَ مَال الْيَتِيم كَثِيرًا يَحْتَاج إِلَى كَبِير قِيَام عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَشْغَل الْوَلِيَّ عَنْ حَاجَاتِهِ وَمُهِمَّاتِهِ فُرِضَ لَهُ فِيهِ أَجْرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ تَافِهًا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ حَاجَاتِهِ فَلَا يَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا ; غَيْر أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ شُرْب قَلِيل اللَّبَن وَأَكْل الْقَلِيل مِنْ الطَّعَام وَالسَّمْن، غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِ وَلَا مُسْتَكْثِرٍ لَهُ، بَلْ عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَة بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ.
قَالَ شَيْخُنَا : وَمَا ذَكَرْته مِنْ الْأُجْرَة، وَنَيْل الْيَسِير مِنْ التَّمْر وَاللَّبَن كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مَعْرُوف ; فَصَلَحَ حَمْل الْآيَة عَلَى ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قُلْت : وَالِاحْتِرَاز عَنْهُ أَفْضَل، إِنْ شَاءَ اللَّه.
وَأَمَّا مَا يَأْخُذُهُ قَاضِي الْقِسْمَة وَيُسَمِّيهِ رَسْمًا وَنَهْب أَتْبَاعِهِ فَلَا أَدْرِي لَهُ وَجْهًا وَلَا حِلًّا، وَهُمْ دَاخِلُونَ فِي عُمُوم قَوْله تَعَالَى :" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونهمْ نَارًا " [ النِّسَاء : ١٠ ].
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ
أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ تَنْبِيهًا عَلَى التَّحْصِين وَزَوَالًا لِلتُّهَمِ.
وَهَذَا الْإِشْهَاد مُسْتَحَبّ عِنْد طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء ; فَإِنَّ الْقَوْل قَوْل الْوَصِيّ ; لِأَنَّهُ أَمِينٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَة : هُوَ فَرْض ; وَهُوَ ظَاهِر الْآيَة، وَلَيْسَ بِأَمِينٍ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، كَالْوَكِيلِ إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ مَا دُفِعَ إِلَيْهِ أَوْ الْمُودَع، وَإِنَّمَا هُوَ أَمِين لِلْأَبِ، وَمَتَى اِئْتَمَنَهُ الْأَب لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى غَيْره.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيل لَوْ اِدَّعَى أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ لِزَيْدٍ مَا أَمَرَهُ بِهِ بِعَدَالَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ; فَكَذَلِكَ الْوَصِيّ.
وَرَأَى عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَابْن جُبَيْر أَنَّ هَذَا الْإِشْهَاد إِنَّمَا هُوَ عَلَى دَفْع الْوَصِيّ فِي يُسْرِهِ مَا اِسْتَقْرَضَهُ مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ حَالَةَ فَقْرِهِ.
قَالَ عُبَيْدَة : هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب الْقَضَاء عَلَى مَنْ أَكَلَ ; الْمَعْنَى : فَإِذَا اِقْتَرَضْتُمْ أَوْ أَكَلْتُمْ فَأَشْهِدُوا إِذَا غَرِمْتُمْ.
وَالصَّحِيح أَنَّ اللَّفْظ يَعُمُّ هَذَا وَسِوَاهُ.
وَالظَّاهِر أَنَّ الْمُرَاد إِذَا أَنْفَقْتُمْ شَيْئًا عَلَى الْمُولَى عَلَيْهِ فَأَشْهِدُوا، حَتَّى وَلَوْ وَقَعَ خِلَاف أَمْكَنَ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ; فَإِنَّ كُلّ مَالٍ قُبِضَ عَلَى وَجْه الْأَمَانَة بِإِشْهَادٍ لَا يُبْرَأُ مِنْهُ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى دَفْعِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَأَشْهِدُوا " فَإِذَا دَفَعَ لِمَنْ دَفَعَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِشْهَاد فَلَا يَحْتَاج فِي دَفْعهَا لِإِشْهَادِ إِنْ كَانَ قَبْضهَا بِغَيْرِ إِشْهَادٍ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
كَمَا عَلَى الْوَصِيّ وَالْكَفِيل حِفْظُ مَال يَتِيمه وَالتَّثْمِير لَهُ، كَذَلِكَ عَلَيْهِ حِفْظ الصَّبِيّ فِي بَدَنه.
فَالْمَال يَحْفَظهُ بِضَبْطِهِ، وَالْبَدَن يَحْفَظهُ بِأَدَبِهِ.
وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة ".
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ فِي حِجْرِي يَتِيمًا أَآكُلُ مِنْ مَاله ؟ قَالَ :( نَعَمْ غَيْر مُتَأَثِّل مَالًا وَلَا وَاقٍ مَالَك بِمَالِهِ ).
قَالَ : يَا رَسُول اللَّه، أَفَأَضْرِبُهُ ؟ قَالَ :( مَا كُنْت ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَك ).
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُسْنَدًا فَلَيْسَ يَجِد أَحَد عَنْهُ مُلْتَحَدًا.
وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا
أَيْ كَفَى اللَّه حَاسِبًا لِأَعْمَالِكُمْ وَمُجَازِيًا بِهَا.
فَفِي هَذَا وَعِيد لِكُلِّ جَاحِد حَقّ.
وَالْبَاء زَائِدَة، وَهُوَ فِي مَوْضِع رَفْع.
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة مَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْله :" لِلرِّجَالِ نَصِيب " [ النِّسَاء : ٣٢ ] و " لِلنِّسَاءِ نَصِيب " فَدَلَّ هَذَا عَلَى جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْت السُّؤَال.
وَهَذِهِ الْآيَة رُكْن مِنْ أَرْكَان الدِّين، وَعُمْدَةِ مِنْ عُمَد الْأَحْكَام، وَأُمّ مِنْ أُمَّهَات الْآيَات ; فَإِنَّ الْفَرَائِض عَظِيمَة الْقَدْر حَتَّى إِنَّهَا ثُلُث الْعِلْم، وَرُوِيَ نِصْف الْعِلْم.
وَهُوَ أَوَّل عِلْم يُنْزَع مِنْ النَّاس وَيُنْسَى.
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( تَعَلَّمُوا الْفَرَائِض وَعَلِّمُوهُ النَّاس فَإِنَّهُ نِصْف الْعِلْم وَهُوَ أَوَّل شَيْء يُنْسَى وَهُوَ أَوَّل شَيْء يُنْتَزَع مِنْ أُمَّتِي ).
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( تَعَلَّمُوا الْقُرْآن وَعَلِّمُوهُ النَّاس وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِض وَعَلِّمُوهَا النَّاس وَتَعَلَّمُوا الْعِلْم وَعَلِّمُوهُ النَّاس فَإِنِّي اِمْرُؤٌ مَقْبُوض وَإِنَّ الْعِلْم سَيُقْبَضُ وَتَظْهَر الْفِتَن حَتَّى يَخْتَلِف الِاثْنَانِ فِي الْفَرِيضَة لَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنهمَا ).
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرَائِض كَانَ جُلّ عِلْم الصَّحَابَة، وَعَظِيم مُنَاظَرَتهمْ، وَلَكِنَّ الْخَلْق ضَيَّعُوهُ.
وَقَدْ رَوَى مُطَرِّف عَنْ مَالِك، قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود :( مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ الْفَرَائِضَ وَالطَّلَاقَ وَالْحَجّ فَبِمَ يَفْضُلُ أَهْل الْبَادِيَة ؟ ) وَقَالَ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك : كُنْت أَسْمَع رَبِيعَة يَقُول :( مَنْ تَعَلَّمَ الْفَرَائِض مِنْ غَيْر عِلْم بِهَا مِنْ الْقُرْآن مَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَاهَا ).
قَالَ مَالِك : وَصَدَقَ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( الْعِلْم ثَلَاثَة وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْل : آيَة مُحْكَمَة أَوْ سُنَّة قَائِمَة أَوْ فَرِيضَة عَادِلَة ).
قَالَ الْخَطَّابِيّ أَبُو سُلَيْمَان : الْآيَة الْمُحْكَمَة هِيَ كِتَاب اللَّه تَعَالَى : وَاشْتَرَطَ فِيهَا الْإِحْكَام ; لِأَنَّ مِنْ الْآي مَا هُوَ مَنْسُوخ لَا يُعْمَل بِهِ، وَإِنَّمَا يُعْمَل بِنَاسِخِهِ.
وَالسُّنَّة الْقَائِمَة هِيَ الثَّابِتَة مِمَّا جَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السُّنَن الثَّابِتَة.
وَقَوْله :( أَوْ فَرِيضَة عَادِلَة ) يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ مِنْ التَّأْوِيل :
أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون مِنْ الْعَدْل فِي الْقِسْمَة ; فَتَكُون مُعَدَّلَة عَلَى الْأَنْصِبَاء وَالسِّهَام الْمَذْكُورَة فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة.
وَالْوَجْه الْآخَر : أَنْ تَكُون مُسْتَنْبَطَة مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَمِنْ مَعْنَاهُمَا ; فَتَكُون هَذِهِ الْفَرِيضَة تَعْدِل مَا أُخِذَ مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة إِذْ كَانَتْ فِي مَعْنَى مَا أُخِذَ عَنْهُمَا نَصًّا.
رَوَى عِكْرِمَة قَالَ : أَرْسَلَ اِبْن عَبَّاس إِلَى زَيْد بْن ثَابِت يَسْأَل عَنْ اِمْرَأَة تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأَبَوَيْهَا.
قَالَ : لِلزَّوْجِ النِّصْف، وَلِلْأُمِّ ثُلُث مَا بَقِيَ.
فَقَالَ : تَجِدُهُ فِي كِتَاب اللَّه أَوْ تَقُول بِرَأْيٍ ؟ قَالَ : أَقُولُهُ بِرَأْيٍ ; لَا أُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى أَبٍ.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان : فَهَذَا مِنْ بَاب تَعْدِيل الْفَرِيضَة إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصّ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ اِعْتَبَرَهَا بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى :" وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث ".
فَلَمَّا وَجَدَ نَصِيب الْأُمّ الثُّلُث، وَكَانَ بَاقِي الْمَال هُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ، قَاسَ النِّصْف الْفَاضِل مِنْ الْمَال بَعْد نَصِيب الزَّوْج عَلَى كُلّ الْمَال إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْوَالِدَيْنِ اِبْن أَوْ ذُو سَهْم ; فَقَسَمَهُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَة، لِلْأُمِّ سَهْم وَلِلْأَبِ سَهْمَانِ وَهُوَ الْبَاقِي.
وَكَانَ هَذَا أَعْدَلَ فِي الْقِسْمَة مِنْ أَنْ يُعْطِيَ الْأُمّ مِنْ النِّصْف الْبَاقِي ثُلُثَ جَمِيع الْمَال، وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ وَهُوَ السُّدُس، فَفَضَّلَهَا عَلَيْهِ فَيَكُون لَهَا وَهِيَ مَفْضُولَة فِي أَصْل الْمَوْرُوث أَكْثَر مِمَّا لِلْأَبِ وَهُوَ الْمُقَدَّم وَالْمُفَضَّل فِي الْأَصْل.
وَذَلِكَ أَعْدَلُ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ اِبْن عَبَّاس مِنْ تَوْفِير الثُّلُث عَلَى الْأُمّ، وَبَخْس الْأَب حَقَّهُ بِرَدِّهِ إِلَى السُّدُس ; فَتَرَكَ قَوْله وَصَارَ عَامَّة الْفُقَهَاء إِلَى زَيْد.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي زَوْج وَأَبَوَيْنِ :( لِلزَّوْجِ النِّصْف، وَلِلْأُمِّ ثُلُث جَمِيع الْمَال، وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ ).
وَقَالَ فِي اِمْرَأَة وَأَبَوَيْنِ :( لِلْمَرْأَةِ الرُّبُع، وَلِلْأُمِّ ثُلُث جَمِيع الْمَال، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ).
وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْح الْقَاضِي وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَدَاوُد بْن عَلِيّ، وَفِرْقَة مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْفَرَضِيّ الْمِصْرِيّ الْمَعْرُوف بِابْنِ اللَّبَّان فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا.
وَزَعَمَ أَنَّهُ قِيَاس قَوْل عَلِيّ فِي الْمُشْتَرَكَة.
وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر : إِنَّهُ قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ أَيْضًا.
قَالَ أَبُو عُمَر : الْمَعْرُوف الْمَشْهُور عَنْ عَلِيّ وَزَيْد وَعَبْد اللَّه وَسَائِر الصَّحَابَة وَعَامَّة الْعُلَمَاء مَا رَسَمَهُ مَالِك.
وَمِنْ الْحُجَّة لَهُمْ عَلَى اِبْن عَبَّاس :( أَنَّ الْأَبَوَيْنِ إِذَا اِشْتَرَكَا فِي الْوِرَاثَة، لَيْسَ مَعَهُمَا غَيْرهمَا، كَانَ لِلْأُمِّ الثُّلُث وَلِلْأَبِ الثُّلُثَانِ ).
وَكَذَلِكَ إِذَا اِشْتَرَكَا فِي النِّصْف الَّذِي يَفْضُل عَنْ الزَّوْج، كَانَا فِيهِ كَذَلِكَ عَلَى ثُلُث وَثُلُثَيْنِ.
وَهَذَا صَحِيح فِي النَّظَر وَالْقِيَاس.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات فِي سَبَب نُزُول آيَة الْمَوَارِيث ; فَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْن مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه أَنَّ اِمْرَأَة سَعْد بْن الرَّبِيع قَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ سَعْدًا هَلَكَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَأَخَاهُ، فَعَمَدَ أَخُوهُ فَقَبَضَ مَا تَرَكَ سَعْد، وَإِنَّمَا تُنْكَح النِّسَاء عَلَى أَمْوَالِهِنَّ ; فَلَمْ يُجِبْهَا فِي مَجْلِسهَا ذَلِكَ.
ثُمَّ جَاءَتْهُ فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه، اِبْنَتَا سَعْد ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اُدْعُ لِي أَخَاهُ ) فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ :( اِدْفَعْ إِلَى اِبْنَته الثُّلُثَيْنِ وَإِلَى اِمْرَأَته الثُّمُن وَلَك مَا بَقِيَ ).
لَفْظ أَبِي دَاوُدَ.
فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَغَيْره : فَنَزَلَتْ آيَة الْمَوَارِيث.
قَالَ : هَذَا حَدِيث صَحِيح.
وَرَوَى جَابِر أَيْضًا قَالَ : عَادَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر فِي بَنِي سَلِمَة يَمْشِيَانِ، فَوَجَدَانِي لَا أَعْقِلُ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْهُ فَأَفَقْت.
فَقُلْت : كَيْفَ أَصْنَع فِي مَالِي يَا رَسُول اللَّه ؟ فَنَزَلَتْ " يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ ".
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَفِيهِ " فَقُلْت يَا نَبِيَّ اللَّه كَيْفَ أَقْسِم مَالِي بَيْنَ وَلَدِي ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا فَنَزَلَتْ " يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ " الْآيَة.
قَالَ :" حَدِيث حَسَن صَحِيح ".
وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس ( أَنَّ نُزُول ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَجْل أَنَّ الْمَال كَانَ لِلْوَلَدِ، وَالْوَصِيَّة لِلْوَالِدَيْنِ ; فَنُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَات ).
وَقَالَ مُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : نَزَلَتْ فِي أُمّ كَجَّة ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا.
السُّدِّيّ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ بَنَات عَبْد الرَّحْمَن بْن ثَابِت أَخِي حِسَان بْن ثَابِت.
وَقِيلَ : إِنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ إِلَّا مَنْ لَاقَى الْحُرُوب وَقَاتَلَ الْعَدُوّ ; فَنَزَلَتْ الْآيَة تَبْيِينًا أَنَّ لِكُلِّ صَغِير وَكَبِير حَظَّهُ.
وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون جَوَابًا لِلْجَمِيعِ ; وَلِذَلِكَ تَأَخَّرَ نُزُولهَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ اِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْض الْآثَار أَنَّ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَفْعَلهُ مِنْ تَرْك تَوْرِيث الصَّغِير كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام إِلَى أَنْ نَسَخَتْهُ هَذِهِ الْآيَة وَلَمْ يَثْبُت عِنْدَنَا اِشْتِمَال الشَّرِيعَة عَلَى ذَلِكَ، بَلْ ثَبَتَ خِلَافُهُ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي وَرَثَة سَعْد بْن الرَّبِيع.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي وَرَثَة ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس.
وَالْأَوَّل أَصَحّ عِنْد أَهْل النَّقْل.
فَاسْتَرْجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِيرَاث مِنْ الْعَمّ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا مِنْ قَبْل فِي شَرْعِنَا مَا اِسْتَرْجَعَهُ.
وَلَمْ يَثْبُت قَطُّ فِي شَرْعِنَا أَنَّ الصَّبِيّ مَا كَانَ يُعْطَى الْمِيرَاث حَتَّى يُقَاتِل عَلَى الْفَرَس وَيَذُبَّ عَنْ الْحَرِيم.
قُلْت : وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ قَالَ : وَدَلَّ نُزُول هَذِهِ الْآيَة عَلَى نُكْتَة بَدِيعَة ; وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة تَفْعَلهُ مِنْ أَخْذ الْمَال لَمْ يَكُنْ فِي صَدْر الْإِسْلَام شَرْعًا مَسْكُوتًا مُقَرًّا عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعًا مُقَرًّا عَلَيْهِ لَمَا حَكَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَمّ الصَّبِيَّتَيْنِ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِمَا ; لِأَنَّ الْأَحْكَام إِذَا مَضَتْ وَجَاءَ النَّسْخ بَعْدهَا إِنَّمَا يُؤَثِّر فِي الْمُسْتَقْبَل فَلَا يُنْقَضُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا كَانَتْ ظُلَامَةً رُفِعَتْ.
قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
قَوْله تَعَالَى :" يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ " قَالَتْ الشَّافِعِيَّة : قَوْل اللَّه تَعَالَى " يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ " حَقِيقَة فِي أَوْلَاد الصُّلْب، فَأَمَّا وَلَد الِابْن فَإِنَّمَا يَدْخُل فِيهِ بِطَرِيقِ الْمَجَاز ; فَإِذَا حَلَفَ أَنْ لَا وَلَد لَهُ وَلَهُ وَلَد اِبْن لَمْ يَحْنَث ; وَإِذَا أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَان لَمْ يَدْخُل فِيهِ وَلَدُ وَلَدِهِ.
وَأَبُو حَنِيفَة يَقُول : إِنَّهُ يَدْخُل فِيهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَد صُلْب.
وَمَعْلُوم أَنَّ الْأَلْفَاظ لَا تَتَغَيَّر بِمَا قَالُوهُ.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَمَّا قَالَ تَعَالَى :" يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ " فَكَانَ الَّذِي يَجِب عَلَى ظَاهِر الْآيَة أَنْ يَكُون الْمِيرَاث لِجَمِيعِ الْأَوْلَاد، الْمُؤْمِن مِنْهُمْ وَالْكَافِر ; فَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( لَا يَرِث الْمُسْلِم الْكَافِر ) عُلِمَ أَنَّ اللَّه أَرَادَ بَعْض الْأَوْلَاد دُون بَعْض، فَلَا يَرِث الْمُسْلِم الْكَافِر، وَلَا الْكَافِر الْمُسْلِم عَلَى ظَاهِر الْحَدِيث.
قُلْت : وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى :" فِي أَوْلَادكُمْ " دَخَلَ فِيهِمْ الْأَسِير فِي أَيْدِي الْكُفَّار ; فَإِنَّهُ يَرِث مَا دَامَ تُعْلَم حَيَاته عَلَى الْإِسْلَام.
وَبِهِ قَالَ كَافَّة أَهْل الْعِلْم، إِلَّا النَّخَعِيّ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا يَرِث الْأَسِير.
فَأَمَّا إِذَا لَمْ تُعْلَمْ حَيَاته فَحُكْمه حُكْم الْمَفْقُود.
وَلَمْ يَدْخُل فِي عُمُوم الْآيَة مِيرَاث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ :( لَا نُورَث مَا تَرَكْنَا صَدَقَة ) وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " مَرْيَم " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ الْقَاتِل عَمْدًا لِأَبِيهِ أَوْ جَدّه أَوْ أَخِيهِ أَوْ عَمّه بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاع الْأُمَّة، وَأَنَّهُ لَا يَرِث مِنْ مَال مَنْ قَتَلَهُ وَلَا مِنْ دِيَته شَيْئًا ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْبَقَرَة.
فَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأ فَلَا مِيرَاث لَهُ مِنْ الدِّيَة، وَيَرِث مِنْ الْمَال فِي قَوْل مَالِك، وَلَا يَرِث فِي قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَسُفْيَان وَأَصْحَاب الرَّأْي، مِنْ الْمَال وَلَا مِنْ الدِّيَة شَيْئًا ; حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْبَقَرَة.
وَقَوْل مَالِك أَصَحّ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر.
وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَمُجَاهِد وَالزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُنْذِر ; لِأَنَّ مِيرَاث مَنْ وَرَّثَهُ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه ثَابِت لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا بِسُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاع.
وَكُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَمَرْدُودٌ إِلَى ظَاهِر الْآيَات الَّتِي فِيهَا الْمَوَارِيث.
اِعْلَمْ أَنَّ الْمِيرَاث كَانَ يُسْتَحَقّ فِي أَوَّل الْإِسْلَام بِأَسْبَابٍ : مِنْهَا الْحِلْف وَالْهِجْرَة وَالْمُعَاقَدَة، ثُمَّ نُسِخَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي هَذِهِ السُّورَة عِنْد قَوْله تَعَالَى :" وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ " [ النِّسَاء : ٣٣ ].
إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْأَوْلَاد إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مَنْ لَهُ فَرْض مُسَمًّى أُعْطِيَهُ، وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَال لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( أَلْحِقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة.
يَعْنِي الْفَرَائِض الْوَاقِعَة فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى.
وَهِيَ سِتَّةٌ : النِّصْف وَالرُّبُع وَالثُّمُن وَالثُّلُثَانِ وَالثُّلُث وَالسُّدُس.
فَالنِّصْف فَرْض خَمْسَةٍ : اِبْنَة الصُّلْب، وَابْنَة الِابْن، وَالْأُخْت الشَّقِيقَة، وَالْأُخْت لِلْأَبِ، وَالزَّوْج.
وَكُلّ ذَلِكَ إِذَا اِنْفَرَدُوا عَمَّنْ يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ.
وَالرُّبُع فَرْض الزَّوْج مَعَ الْحَاجِب، وَفَرْض الزَّوْجَة وَالزَّوْجَات مَعَ عَدَمِهِ.
وَالثُّمُن فَرْض الزَّوْجَة وَالزَّوْجَات مَعَ الْحَاجِب.
وَالثُّلُثَانِ فَرْض أَرْبَع : الِاثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ بَنَات الصُّلْب، وَبَنَات الِابْن، وَالْأَخَوَات الْأَشِقَّاء، أَوْ لِلْأَبِ.
وَكُلّ هَؤُلَاءِ إِذَا اِنْفَرَدْنَ عَمَّنْ يَحْجُبُهُنَّ عَنْهُ.
وَالثُّلُث فَرْض صِنْفَيْنِ : الْأُمّ مَعَ عَدَم الْوَلَد، وَوَلَد الِابْن، وَعَدَم الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات، وَفَرْض الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ وَلَد الْأُمّ.
وَهَذَا هُوَ ثُلُث كُلّ الْمَال.
فَأَمَّا ثُلُث مَا يَبْقَى فَذَلِكَ لِلْأُمِّ فِي مَسْأَلَة زَوْج أَوْ زَوْجَة وَأَبَوَانِ ; فَلِلْأُمِّ فِيهَا ثُلُث مَا يَبْقَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَفِي مَسَائِل الْجَدّ مَعَ الْإِخْوَة إِذَا كَانَ مَعَهُمْ ذُو سَهْم وَكَانَ ثُلُث مَا يَبْقَى أَحْظَى لَهُ.
وَالسُّدُس فَرْض سَبْعَة : الْأَبَوَانِ وَالْجَدّ مَعَ الْوَلَد وَوَلَد الِابْن، وَالْجَدَّة وَالْجَدَّات إِذَا اِجْتَمَعْنَ، وَبَنَات الِابْن مَعَ بِنْت الصُّلْب، وَالْأَخَوَات لِلْأَبِ مَعَ الْأُخْت الشَّقِيقَة، وَالْوَاحِد مِنْ وَلَد الْأُمّ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.
وَهَذِهِ الْفَرَائِض كُلّهَا مَأْخُوذَة مِنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى إِلَّا فَرْضَ الْجَدَّة وَالْجَدَّات فَإِنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ السُّنَّة.
وَالْأَسْبَاب الْمُوجِبَة لِهَذِهِ الْفُرُوض بِالْمِيرَاثِ ثَلَاثَة أَشْيَاء : نَسَبٌ ثَابِت، وَنِكَاح مُنْعَقِد، وَوَلَاءُ عَتَاقَةٍ.
وَقَدْ تَجْتَمِع الثَّلَاثَة الْأَشْيَاء فَيَكُون الرَّجُل زَوْج الْمَرْأَة وَمَوْلَاهَا وَابْن عَمِّهَا.
وَقَدْ يَجْتَمِع فِيهِ مِنْهَا شَيْئَانِ لَا أَكْثَرُ، مِثْل أَنْ يَكُون زَوْجَهَا وَمَوْلَاهَا، أَوْ زَوْجَهَا وَابْن عَمّهَا ; فَيَرِث بِوَجْهَيْنِ وَيَكُون لَهُ جَمِيع الْمَال إِذَا اِنْفَرَدَ : نِصْفُهُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَنِصْفُهُ بِالْوَلَاءِ أَوْ بِالنَّسَبِ.
وَمِثْل أَنْ تَكُون الْمَرْأَة اِبْنَة الرَّجُل وَمَوْلَاته، فَيَكُون لَهَا أَيْضًا الْمَال إِذَا اِنْفَرَدَتْ : نِصْفه بِالنَّسَبِ وَنِصْفه بِالْوَلَاءِ.
وَلَا مِيرَاث إِلَّا بَعْد أَدَاء الدَّيْن وَالْوَصِيَّة ; فَإِذَا مَاتَ الْمُتَوَفَّى أُخْرِجَ مِنْ تَرِكَتِهِ الْحُقُوق الْمُعَيَّنَات، ثُمَّ مَا يَلْزَم مِنْ تَكْفِينِهِ وَتَقْبِيرِهِ، ثُمَّ الدُّيُون عَلَى مَرَاتِبهَا، ثُمَّ يُخْرَج مِنْ الثُّلُث الْوَصَايَا، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا عَلَى مَرَاتِبهَا أَيْضًا، وَيَكُون الْبَاقِي مِيرَاثًا بَيْنَ الْوَرَثَة.
وَجُمْلَتهمْ سَبْعَةَ عَشَرَ.
عَشَرَة مِنْ الرِّجَال : الِابْن وَابْن الِابْن وَإِنْ سَفَلَ، وَالْأَب وَأَب الْأَب وَهُوَ الْجَدّ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخ وَابْن الْأَخ، وَالْعَمّ وَابْن الْعَمّ، وَالزَّوْج وَمَوْلَى النِّعْمَة.
وَيَرِث مِنْ النِّسَاء سَبْعٌ : الْبِنْت وَبِنْت الِابْن وَإِنْ سَفَلَتْ، وَالْأُمّ وَالْجَدَّة وَإِنْ عَلَتْ، وَالْأُخْت وَالزَّوْجَة، وَمَوْلَاة النِّعْمَة وَهِيَ الْمُعْتَقَة.
وَقَدْ نَظَمَهُمْ بَعْض الْفُضَلَاء فَقَالَ :
وَالْوَارِثُونَ إِنْ أَرَدْت جَمْعَهُمْ | مَعَ الْإِنَاثِ الْوَارِثَاتِ مَعَهُمْ |
عَشَرَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الذُّكْرَانِ | وَسَبْعُ أَشْخَاصٍ مِنْ النِّسْوَانِ |
وَهُمْ، وَقَدْ حَصَرْتُهُمْ فِي النَّظْمِ | الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَابْنُ الْعَمِّ |
وَالْأَبُ مِنْهُمْ وَهْوَ فِي التَّرْتِيبِ | وَالْجَدُّ مِنْ قَبْلِ الْأَخِ الْقَرِيبِ |
وَابْنُ الْأَخِ الْأَدْنَى أَجَلْ وَالْعَمُّ | وَالزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ ثُمَّ الْأُمُّ |
وَابْنَةُ الِابْنِ بَعْدَهَا وَالْبِنْتُ | وَزَوْجَةٌ وَجَدَّةٌ وَأُخْتُ |
وَالْمَرْأَةُ الْمَوْلَاةُ أَعْنِي الْمُعْتَقَهْ | خُذْهَا إِلَيْك عِدَّةً مُحَقَّقَهْ |
لَمَّا قَالَ تَعَالَى :" فِي أَوْلَادكُمْ " يَتَنَاوَل كُلّ وَلَد كَانَ مَوْجُودًا أَوْ جَنِينًا فِي بَطْن أُمّه، دَنِيًّا أَوْ بَعِيدًا، مِنْ الذُّكُور أَوْ الْإِنَاث مَا عَدَا الْكَافِر كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ بَعْضهمْ : ذَلِكَ حَقِيقَة فِي الْأَدْنَيْنَ مَجَازٌ فِي الْأَبْعَدِينَ.
وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ حَقِيقَة فِي الْجَمِيع ; لِأَنَّهُ مِنْ التَّوَلُّد، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَرِثُونَ عَلَى قَدْر الْقُرْب مِنْهُ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" يَا بَنِي آدَم " [ الْأَعْرَاف : ٢٦ ].
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم ) قَالَ :( يَا بَنِي إِسْمَاعِيل اِرْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ) إِلَّا أَنَّهُ غَلَبَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَال فِي إِطْلَاق ذَلِكَ عَلَى الْأَعْيَان الْأَدْنَيْنَ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَة ; فَإِنْ كَانَ فِي وَلَد الصُّلْب ذَكَرٌ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ الْوَلَد شَيْء، وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْل الْعِلْم.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَلَد الصُّلْب ذَكَرٌ وَكَانَ فِي وَلَد الْوَلَد بُدِئَ بِالْبَنَاتِ لِلصُّلْبِ، فَأُعْطِينَ إِلَى مَبْلَغ الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ أُعْطِيَ الثُّلُثُ الْبَاقِي لِوَلَدِ الْوَلَد إِذَا اِسْتَوَوْا فِي الْقُعْدُد، أَوْ كَانَ الذَّكَر أَسْفَل مِمَّنْ فَوْقَهُ مِنْ الْبَنَات، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ.
هَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي.
وَبِهِ قَالَ عَامَّة أَهْل الْعِلْم مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ; إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ :( إِنْ كَانَ الذَّكَر مِنْ وَلَد الْوَلَد بِإِزَاءِ الْوَلَد الْأُنْثَى رُدَّ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا يُرَدُّ عَلَيْهَا ) ; مُرَاعِيًا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" فَإِنْ كُنَّ نِسَاء فَوْق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ " [ النِّسَاء : ١١ ] فَلَمْ يَجْعَل لِلْبَنَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ إِلَّا الثُّلُثَيْنِ.
قُلْت : هَكَذَا ذَكَرَ اِبْن الْعَرَبِيّ هَذَا التَّفْصِيل عَنْ اِبْن مَسْعُود، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَالْبَاجِيّ عَنْهُ :( أَنَّ مَا فَضَلَ عَنْ بَنَات الصُّلْب لِبَنِي الِابْن دُون بَنَات الِابْن )، وَلَمْ يُفَصِّلَا.
وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ أَبِي ثَوْر.
وَنَحْوه حَكَى أَبُو عُمَر، قَالَ أَبُو عُمَر : وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ اِبْن مَسْعُود فَقَالَ : وَإِذَا اِسْتَكْمَلَ الْبَنَات الثُّلُثَيْنِ فَالْبَاقِي لِبَنِي الِابْن دُون أَخَوَاتِهِمْ، وَدُون مَنْ فَوْقهمْ مِنْ بَنَات الِابْن، وَمَنْ تَحْتَهُمْ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو ثَوْر وَدَاوُد بْن عَلِيّ.
وَرُوِيَ مِثْله عَنْ عَلْقَمَة.
وَحُجَّة مَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَب حَدِيث اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( اِقْسِمُوا الْمَال بَيْنَ أَهْل الْفَرَائِض عَلَى كِتَاب اللَّه فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِض فَلِأَوْلَى رَجُل ذَكَرٍ ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا.
وَمِنْ حُجَّة الْجُمْهُور قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ " لِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ وَلَدٌ.
وَمِنْ جِهَة النَّظَر وَالْقِيَاس أَنَّ كُلّ مَنْ يُعَصِّبُ مَنْ فِي دَرَجَته فِي جُمْلَة الْمَال فَوَاجِب أَنْ يُعَصِّبَهُ فِي الْفَاضِل مِنْ الْمَال ; كَأَوْلَادِ الصُّلْب.
فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنْ يَشْرَك اِبْن الِابْن أُخْتَه، كَمَا يَشْرَك الِابْن لِلصُّلْبِ أُخْته.
فَإِنْ اُحْتُجَّ لِأَبِي ثَوْر وَدَاوُد أَنَّ بِنْت الِابْن لَمَّا لَمْ تَرِث شَيْئًا مِنْ الْفَاضِل بَعْد الثُّلُثَيْنِ مُنْفَرِدَة لَمْ يُعَصِّبْهَا أَخُوهَا.
فَالْجَوَاب أَنَّهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا أَخُوهَا قَوِيَتْ بِهِ وَصَارَتْ عَصَبَةً مَعَهُ.
وَظَاهِر قَوْله تَعَالَى :" يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ " وَهِيَ مِنْ الْوَلَد.
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ
الْآيَة.
فَرَضَ اللَّه تَعَالَى لِلْوَاحِدَةِ النِّصْف، وَفَرَضَ لِمَا فَوْق الثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَلَمْ يَفْرِضْ لِلثِّنْتَيْنِ فَرْضًا مَنْصُوصًا فِي كِتَابه ; فَتَكَلَّمَ الْعُلَمَاء فِي الدَّلِيل الَّذِي يُوجِب لَهُمَا الثُّلُثَيْنِ مَا هُوَ ؟ فَقِيلَ : الْإِجْمَاع وَهُوَ مَرْدُود ; لِأَنَّ الصَّحِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ أَعْطَى الْبِنْتَيْنِ النِّصْف ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ :" فَإِنْ كُنَّ نِسَاء فَوْق اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ " [ النِّسَاء : ١١ ] وَهَذَا شَرْط وَجَزَاء.
قَالَ : فَلَا أُعْطِي الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ.
وَقِيلَ : أُعْطِيَتَا الثُّلُثَيْنِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأُخْتَيْنِ ; فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ فِي آخِر السُّورَة :" وَلَهُ أُخْت فَلَهَا نِصْف مَا تَرَكَ " [ النِّسَاء : ١٧٦ ] وَقَالَ تَعَالَى :" فَإِنْ كَانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ " [ النِّسَاء : ١٧٦ ] فَأُلْحِقَتْ الِابْنَتَانِ بِالْأُخْتَيْنِ فِي الِاشْتِرَاك فِي الثُّلُثَيْنِ، وَأُلْحِقَتْ الْأَخَوَات إِذَا زِدْنَ عَلَى اِثْنَتَيْنِ بِالْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاك فِي الثُّلُثَيْنِ.
وَاعْتُرِضَ هَذَا بِأَنَّ ذَلِكَ مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْأَخَوَات، وَالْإِجْمَاع مُنْعَقِد عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّم بِذَلِكَ.
وَقِيلَ : فِي الْآيَة مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْوَاحِدَةِ مَعَ أَخِيهَا الثُّلُث إِذَا اِنْفَرَدَتْ، عَلِمْنَا أَنَّ لِلِاثْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ.
اِحْتَجَّ بِهَذِهِ الْحُجَّة وَقَالَ هَذِهِ الْمَقَالَة إِسْمَاعِيل الْقَاضِي وَأَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الِاحْتِجَاج عِنْد أَهْل النَّظَر غَلَط ; لِأَنَّ الِاخْتِلَاف فِي الْبِنْتَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْوَاحِدَة.
فَيَقُول مُخَالِفُهُ : إِذَا تَرَكَ بِنْتَيْنِ وَابْنًا فَلِلْبِنْتَيْنِ النِّصْف ; فَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ هَذَا فَرْضُهُمْ.
وَقِيلَ :" فَوْقَ " زَائِدَة أَيْ إِنْ كُنَّ نِسَاء اِثْنَتَيْنِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَاضْرِبُوا فَوْق الْأَعْنَاق " [ الْأَنْفَال : ١٢ ] أَيْ الْأَعْنَاق.
وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَا : هُوَ خَطَأ ; لِأَنَّ الظُّرُوف وَجَمِيع الْأَسْمَاء لَا يَجُوز فِي كَلَام الْعَرَب أَنْ تُزَاد لِغَيْرِ مَعْنًى.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى :" فَاضْرِبُوا فَوْق الْأَعْنَاق " هُوَ الْفَصِيح، وَلَيْسَتْ فَوْق زَائِدَة بَلْ هِيَ مُحْكَمَة لِلْمَعْنَى ; لِأَنَّ ضَرْبَةَ الْعُنُقِ إِنَّمَا يَجِب أَنْ تَكُون فَوْق الْعِظَام فِي الْمَفْصِل دُون الدِّمَاغ.
كَمَا قَالَ دُرَيْد بْن الصِّمَّةِ : اِخْفِضْ عَنْ الدِّمَاغِ وَارْفَعْ عَنْ الْعَظْمِ، فَهَكَذَا كُنْت أَضْرِبُ أَعْنَاقَ الْأَبْطَال.
وَأَقْوَى الِاحْتِجَاج فِي أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ الْحَدِيث الصَّحِيح الْمَرْوِيّ فِي سَبَب النُّزُول.
وَلُغَة أَهْل الْحِجَاز وَبَنِي أَسَد الثُّلُث وَالرُّبُع إِلَى الْعُشُر.
وَلُغَة بَنِي تَمِيم وَرَبِيعَة الثُّلْث بِإِسْكَانِ اللَّام إِلَى الْعُشْر.
وَيُقَال : ثَلَّثْت الْقَوْمَ أُثَلِّثُهُمْ، وَثَلَّثْت الدَّرَاهِمَ أُثَلِّثُهَا إِذَا تَمَّمْتهَا ثَلَاثَةً، وَأَثْلَثَتْ هِيَ ; إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمِائَة وَالْأَلْف : أَمْأَيْتُهَا وَآلَفْتُهَا وَأَمْأَتْ وَآلَفَتْ.
وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
قَرَأَ نَافِع وَأَهْل الْمَدِينَة " وَاحِدَةٌ " بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى وَقَعَتْ وَحَدَثَتْ، فَهِيَ كَانَتْ التَّامَّة ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي | فَإِنَّ الشَّيْخ يُهْرِمُهُ الشِّتَاءُ |
وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذِهِ قِرَاءَة حَسَنَة.
أَيْ وَإِنْ كَانَتْ الْمَتْرُوكَة أَوْ الْمَوْلُودَة " وَاحِدَةً " مِثْل " فَإِنْ كُنَّ نِسَاء ".
فَإِذَا كَانَ مَعَ بَنَات الصُّلْب بَنَات اِبْن، وَكَانَ بَنَات الصُّلْب اِثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا حَجَبْنَ بَنَاتِ الِابْن أَنْ يَرِثْنَ بِالْفَرْضِ ; لِأَنَّهُ لَا مَدْخَل لِبَنَاتِ الِابْن أَنْ يَرِثْنَ بِالْفَرْضِ فِي غَيْر الثُّلُثَيْنِ.
فَإِنْ كَانَتْ بِنْت الصُّلْب وَاحِدَة فَإِنَّ اِبْنَة الِابْن أَوْ بَنَات الِابْن يَرِثْنَ مَعَ بَنَات الصُّلْب تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ ; لِأَنَّهُ فَرْض يَرِثهُ الْبِنْتَانِ فَمَا زَادَ.
وَبَنَات الِابْن يَقُمْنَ مَقَام الْبَنَات عِنْد عَدَمِهِنَّ.
وَكَذَلِكَ أَبْنَاء الْبَنِينَ يَقُومُونَ مَقَام الْبَنِينَ فِي الْحَجْب وَالْمِيرَاث.
فَلَمَّا عُدِمَ مَنْ يَسْتَحِقّ مِنْهُنَّ السُّدُس كَانَ ذَلِكَ لِبِنْتِ الِابْن، وَهِيَ أَوْلَى بِالسُّدُسِ مِنْ الْأُخْت الشَّقِيقَة لِلْمُتَوَفَّى.
عَلَى هَذَا جُمْهُور الْفُقَهَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ; إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي مُوسَى وَسُلَيْمَان بْن أَبِي رَبِيعَة أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ، وَالنِّصْف الثَّانِي لِلْأُخْتِ، وَلَا حَقّ فِي ذَلِكَ لِبِنْتِ الِابْن.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ ; رَوَاهُ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا آدَم حَدَّثَنَا شُعْبَة حَدَّثَنَا أَبُو قَيْس سَمِعْت هُزَيْل بْن شُرَحْبِيل يَقُول : سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ اِبْنَةٍ وَابْنَةِ اِبْن وَأُخْت.
فَقَالَ :( لِلِابْنَةِ النِّصْف، وَلِلْأُخْتِ النِّصْف ) ; وَأْتِ اِبْن مَسْعُود فَإِنَّهُ سَيُتَابِعُنِي.
فَسُئِلَ اِبْن مَسْعُود وَأَخْبَرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ :( لَقَدْ ضَلَلْت إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ ! أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِلِابْنَةِ النِّصْف، وَلِابْنَةِ الِابْن السُّدُس تَكْمِلَة الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ ).
فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ اِبْن مَسْعُود فَقَالَ :( لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْر فِيكُمْ ).
فَإِنْ كَانَ مَعَ بِنْت الِابْن أَوْ بَنَات الِابْن اِبْن فِي دَرَجَتهَا أَوْ أَسْفَل مِنْهَا عَصَّبَهَا، فَكَانَ النِّصْف الثَّانِي بَيْنهمَا، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ بَالِغًا مَا بَلَغَ - خِلَافًا لِابْنِ مَسْعُود عَلَى مَا تَقَدَّمَ إِذَا اِسْتَوْفَى بَنَات الصُّلْب، أَوْ بِنْت الصُّلْب وَبَنَات الِابْن الثُّلُثَيْنِ وَكَذَلِكَ يَقُول فِي الْأُخْت لِأَبٍ وَأُمّ، وَأَخَوَات وَإِخْوَة لِأَبٍ : لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَب وَالْأُمّ النِّصْف، وَالْبَاقِي لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَات، مَا لَمْ يُصِبْهُنَّ مِنْ الْمُقَاسَمَة أَكْثَر مِنْ السُّدُس ; فَإِنْ أَصَابَهُنَّ أَكْثَر مِنْ السُّدُس أَعْطَاهُنَّ السُّدُس تَكْمِلَة الثُّلُثَيْنِ، وَلَمْ يَزِدْهُنَّ عَلَى ذَلِكَ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر.
إِذَا مَاتَ الرَّجُل وَتَرَكَ زَوْجَته حُبْلَى فَإِنَّ الْمَال يُوقَف حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَا تَضَع.
وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا مَاتَ وَزَوْجَته حُبْلَى أَنَّ الْوَلَد الَّذِي فِي بَطْنهَا يَرِث وَيُورَث إِذَا خَرَجَ حَيًّا وَاسْتَهَلَّ.
وَقَالُوا جَمِيعًا : إِذَا خَرَجَ مَيِّتًا لَمْ يَرِثْ ; فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يَسْتَهِلَّ فَقَالَتْ طَائِفَة : لَا مِيرَاث لَهُ وَإِنْ تَحَرَّكَ أَوْ عَطَسَ مَا لَمْ يَسْتَهِلّ.
هَذَا قَوْل مَالِك وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَابْن سِيرِينَ وَالشَّعْبِيّ وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة.
وَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا عُرِفَتْ حَيَاة الْمَوْلُود بِتَحْرِيكٍ أَوْ صِيَاح أَوْ رَضَاع أَوْ نَفَسٍ فَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْحَيّ.
هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : الَّذِي قَالَ الشَّافِعِيّ يَحْتَمِل النَّظَر، غَيْر أَنَّ الْخَبَر يَمْنَع مِنْهُ وَهُوَ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا مِنْ مَوْلُود يُولَد إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَان فَيَسْتَهِلّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَان إِلَّا اِبْنَ مَرْيَم وَأُمَّهُ ).
وَهَذَا خَبَر، وَلَا يَقَع عَلَى الْخَبَر النَّسْخ.
لَمَّا قَالَ تَعَالَى :" فِي أَوْلَادكُمْ " تَنَاوَلَ الْخُنْثَى وَهُوَ الَّذِي لَهُ فَرْجَانِ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ يُورَث مِنْ حَيْثُ يَبُول ; إِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُول الرَّجُل وَرِثَ مِيرَاث رَجُل، وَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ تَبُول الْمَرْأَة وَرِثَ مِيرَاث الْمَرْأَة.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَا أَحْفَظ عَنْ مَالِك فِيهِ شَيْئًا، بَلْ قَدْ ذَكَرَ اِبْن الْقَاسِم أَنَّهُ هَابَ أَنْ يَسْأَلَ مَالِكًا عَنْهُ.
فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا مَعًا فَالْمُعْتَبَر سَبْق الْبَوْل ; قَالَهُ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَأَحْمَد وَإِسْحَاق.
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَصْحَاب الرَّأْي.
وَرَوَى قَتَادَة عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّهُ قَالَ فِي الْخُنْثَى : يُوَرِّثهُ مِنْ حَيْثُ يَبُول ; فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَمِنْ أَيِّهِمَا سَبَقَ، فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا مَعًا فَنِصْف ذَكَر وَنِصْف أُنْثَى.
وَقَالَ يَعْقُوب وَمُحَمَّد : مِنْ أَيّهمَا خَرَجَ أَكْثَرَ وَرِثَ ; وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ.
وَقَالَ النُّعْمَان : إِذَا خَرَجَ مِنْهُمَا مَعًا فَهُوَ مُشْكِلٌ، وَلَا أَنْظُر إِلَى أَيّهمَا أَكْثَر.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ وَقَفَ عَنْهُ إِذَا كَانَ هَكَذَا.
وَحُكِيَ عَنْهُ قَالَ : إِذَا أَشْكَلَ يُعْطَى أَقَلّ النَّصِيبَيْنِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْن آدَم : إِذَا بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُول الرَّجُل وَيَحِيض كَمَا تَحِيض الْمَرْأَة وَرِثَ مِنْ حَيْثُ يَبُول ; لِأَنَّ فِي الْأَثَر : يُوَرَّث مِنْ مَبَالِهِ.
وَفِي قَوْل الشَّافِعِيّ : إِذَا خَرَجَ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَلَمْ يَسْبِق أَحَدهمَا الْآخَر يَكُون مُشْكِلًا، وَيُعْطَى مِنْ الْمِيرَاث مِيرَاث أُنْثَى، وَيُوقَف الْبَاقِي بَيْنه وَبَيْنَ سَائِر الْوَرَثَة حَتَّى يَتَبَيَّن أَمْره أَوْ يَصْطَلِحُوا، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر.
وَقَالَ الشَّعْبِيّ : يُعْطَى نِصْف مِيرَاث الذَّكَر، وَنِصْف مِيرَاث الْأُنْثَى ; وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك.
قَالَ اِبْن شَاسٍ فِي جَوَاهِره الثَّمِينَة عَلَى مَذْهَب مَالِك عَالِم الْمَدِينَة : الْخُنْثَى يُعْتَبَر إِذَا كَانَ ذَا فَرْجَيْنِ فَرْج الْمَرْأَة وَفَرْج الرَّجُل بِالْمَبَالِ مِنْهُمَا ; فَيُعْطَى الْحُكْم لِمَا بَالَ مِنْهُ فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا اُعْتُبِرَتْ الْكَثْرَة مِنْ أَيّهمَا، فَإِنْ تَسَاوَى الْحَال اُعْتُبِرَ السَّبْق، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعًا اُعْتُبِرَ نَبَات اللِّحْيَة أَوْ كِبَر الثَّدْيَيْنِ وَمُشَابَهَتُهُمَا لِثَدْيِ النِّسَاء، فَإِنْ اِجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ اُعْتُبِرَ الْحَال عِنْد الْبُلُوغ، فَإِنْ وُجِدَ الْحَيْض حُكِمَ بِهِ، وَإِنْ وُجِدَ الِاحْتِلَام وَحْدَهُ حُكِمَ بِهِ، فَإِنْ اجْتَمَعَا فَهُوَ مُشْكِل.
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فَرْجٌ، لَا الْمُخْتَصّ بِالرِّجَالِ وَلَا الْمُخْتَصّ بِالنِّسَاءِ، بَلْ كَانَ لَهُ مَكَان يَبُول مِنْهُ فَقَطْ اُنْتُظِرَ بِهِ الْبُلُوغ ; فَإِنْ ظَهَرَتْ عَلَامَة مُمَيِّزَة وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِل.
ثُمَّ حَيْثُ حَكَمْنَا بِالْإِشْكَالِ فَمِيرَاثُهُ نِصْف نَصِيبَيْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
قُلْت : هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ الْعَلَامَات فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِل.
وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى عَلَامَةٍ فِي " الْبَقَرَة " وَصَدْر هَذِهِ السُّورَة تُلْحِقُهُ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ، وَهِيَ اِعْتِبَار الْأَضْلَاع ; وَهِيَ مَرْوِيَّة عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَبِهَا حَكَمَ.
وَقَدْ نَظَمَ بَعْض الْفُضَلَاء الْعُلَمَاء حُكْم الْخُنْثَى فِي أَبْيَات كَثِيرَة أَوَّلهَا :
وَأَنَّهُ مُعْتَبَرُ الْأَحْوَالِ | بِالثَّدْيِ وَاللِّحْيَةِ وَالْمَبَالِ |
وَفِيهَا يَقُول :وَإِنْ يَكُنْ قَدْ اِسْتَوَتْ حَالَاتُهُ | وَلَمْ تَبِنْ وَأَشْكَلَتْ آيَاتُهُ |
فَحَظُّهُ مِنْ مَوْرِثِ الْقَرِيبِ | سِتَّةُ أَثْمَانٍ مِنْ النَّصِيبِ |
هَذَا الَّذِي اِسْتَحَقَّ لِلْإِشْكَالِ | وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنْ النَّكَالِ |
وَوَاجِبٌ فِي الْحَقِّ أَلَّا يَنْكِحَا | مَا عَاشَ فِي الدُّنْيَا وَأَلَّا يُنْكَحَا |
إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَالِصِ الْعِيَالِ | وَلَا اِغْتَدَى مِنْ جُمْلَةِ الرِّجَالِ |
وَكُلُّ مَا ذَكَرْته فِي النَّظْمِ | قَدْ قَالَهُ سَرَاةُ أَهْلِ الْعِلْمِ |
وَقَدْ أَبَى الْكَلَامَ فِيهِ قَوْمُ | مِنْهُمْ وَلَمْ يَجْنَحْ إِلَيْهِ لَوْمُ |
لِفَرْطِ مَا يَبْدُو مِنْ الشَّنَاعَهْ | فِي ذِكْرِهِ وَظَاهِرِ الْبَشَاعَهْ |
وَقَدْ مَضَى فِي شَأْنِهِ الْخَفِيِّ | حُكْمُ الْإِمَامِ الْمُرْتَضَى عَلِيِّ |
بِأَنَّهُ إِنْ نَقَصَتْ أَضْلَاعُهُ | فَلِلرِّجَالِ يَنْبَغِي إِتْبَاعُهُ |
فِي الْإِرْثِ وَالنِّكَاحِ وَالْإِحْرَامِ | فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالْأَحْكَامِ |
وَإِنْ تَزِدْ ضِلْعًا عَلَى الذُّكْرَانِ | فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ النِّسْوَانِ |
لِأَنَّ لِلنِّسْوَانِ ضِلْعًا زَائِدَهْ | عَلَى الرِّجَالِ فَاغْتَنِمْهَا فَائِدَهْ |
إِذْ نَقَصَتْ مِنْ آدَمَ فِيمَا سَبَقْ | لِخَلْقِ حَوَّاءَ وَهَذَا الْقَوْلُ حَقْ |
عَلَيْهِ مِمَّا قَالَهُ الرَّسُولُ | صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا دَلِيلُ |
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ اِبْن رُشْد : وَلَا يَكُون الْخُنْثَى الْمُشْكِل زَوْجًا وَلَا زَوْجَة، وَلَا أَبًا وَلَا أُمًّا.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ وُجِدَ مَنْ لَهُ وَلَد مِنْ بَطْنه وَوَلَد مِنْ ظَهْره.
قَالَ اِبْن رُشْد : فَإِنْ صَحَّ وَرِثَ مِنْ اِبْنه لِصُلْبِهِ مِيرَاثَ الْأَب كَامِلًا، وَمِنْ اِبْنه لِبَطْنِهِ مِيرَاث الْأُمّ كَامِلًا.
وَهَذَا بَعِيد، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي سُنَن الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هَانِئ عُمَر بْن بَشِير قَالَ : سُئِلَ عَامِر الشَّعْبِيّ عَنْ مَوْلُود لَيْسَ بِذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، لَيْسَ لَهُ مَا لِلذَّكَرِ وَلَا مَا لِلْأُنْثَى، يَخْرُجُ مِنْ سُرَّتِهِ كَهَيْئَةِ الْبَوْل وَالْغَائِط ; فَسُئِلَ عَامِر عَنْ مِيرَاثه فَقَالَ عَامِر : نِصْف حَظِّ الذَّكَرِ وَنِصْف حَظّ الْأُنْثَى.
وَلِأَبَوَيْهِ
أَيْ لِأَبَوَيْ الْمَيِّت.
وَهَذَا كِنَايَة عَنْ غَيْر مَذْكُور، وَجَازَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ ; كَقَوْلِهِ :" حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ " [ ص : ٣٢ ] و " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْر " [ الْقَدْر : ١ ].
و " السُّدُس " رَفْع بِالِابْتِدَاءِ، وَمَا قَبْلَهُ خَبَرُهُ : وَكَذَلِكَ " الثُّلُث.
وَالسُّدُس ".
وَكَذَلِكَ " نِصْف مَا تَرَكَ " وَكَذَلِكَ " فَلَكُمْ الرُّبُع ".
وَكَذَلِكَ " لَهُنَّ الرُّبُع ".
و " فَلَهُنَّ الثُّمُن " وَكَذَلِكَ " فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس ".
وَالْأَبَوَانِ تَثْنِيَة الْأَب وَالْأَبَة.
وَاسْتُغْنِيَ بِلَفْظِ الْأُمّ عَنْ أَنْ يُقَال لَهَا أَبَة.
وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يُجْرِي الْمُخْتَلِفَيْنِ مَجْرَى الْمُتَّفِقَيْنِ ; فَيُغَلِّبُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَر لِخِفَّتِهِ أَوْ شُهْرَتِهِ.
جَاءَ ذَلِكَ مَسْمُوعًا فِي أَسْمَاء صَالِحَة ; كَقَوْلِهِمْ لِلْأَبِ وَالْأُمّ : أَبَوَانِ.
وَلِلشَّمْسِ وَالْقَمَر : الْقَمَرَانِ.
وَلِلَّيْلِ وَالنَّهَار : الْمَلَوَانِ.
وَكَذَلِكَ الْعُمَرَانِ لِأَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
غَلَّبُوا الْقَمَرَ عَلَى الشَّمْس لِخِفَّةِ التَّذْكِير، وَغَلَّبُوا عُمَر عَلَى أَبِي بَكْر لِأَنَّ أَيَّام عُمَر اِمْتَدَّتْ فَاشْتَهَرَتْ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْعُمَرَيْنِ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز فَلَيْسَ قَوْله بِشَيْءٍ ; لِأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِالْعُمَرَيْنِ قَبْل أَنْ يَرَوْا عُمَرَ بْن عَبْد الْعَزِيز ; قَالَ اِبْن الشَّجَرِيّ.
وَلَمْ يَدْخُل فِي قَوْله تَعَالَى :" وَلِأَبَوَيْهِ " مَنْ عَلَا مِنْ الْآبَاء دُخُولَ مَنْ سَفَلَ مِنْ الْأَبْنَاء فِي قَوْله " أَوْلَادكُمْ " ; لِأَنَّ قَوْله :" وَلِأَبَوَيْهِ " لَفْظ مُثَنًّى لَا يَحْتَمِل الْعُمُومَ وَالْجَمْع أَيْضًا ; بِخِلَافِ قَوْله " أَوْلَادكُمْ ".
وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة هَذَا قَوْله تَعَالَى :" فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَد وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث " وَالْأُمّ الْعُلْيَا جَدَّةٌ وَلَا يُفْرَض لَهَا الثُّلُث بِإِجْمَاعٍ، فَخُرُوج الْجَدَّة عَنْ هَذَا اللَّفْظ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَتَنَاوُلُهُ لِلْجَدِّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَمِمَّنْ قَالَ هُوَ أَب وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَة أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَة فِي ذَلِكَ أَيَّام حَيَاتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ بَعْد وَفَاته ; فَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ أَب اِبْن عَبَّاس وَعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وَعَائِشَة وَمُعَاذ بْن جَبَل وَأُبَيّ بْن كَعْب وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأَبُو هُرَيْرَة، كُلّهمْ يَجْعَلُونَ الْجَدّ عِنْد عَدَم الْأَب كَالْأَبِ سَوَاء، يَحْجُبُونَ بِهِ الْإِخْوَةَ كُلَّهُمْ وَلَا يَرِثُونَ مَعَهُ شَيْئًا.
وَقَالَهُ عَطَاء وَطَاوُس وَالْحَسَن وَقَتَادَة.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق.
وَالْحُجَّة لَهُمْ قَوْله تَعَالَى :" مِلَّة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم " [ الْحَجّ : ٧٨ ] " يَا بَنِي آدَم " [ الْأَعْرَاف : ٢٦ ]، وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( يَا بَنِي إِسْمَاعِيل اِرْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ).
وَذَهَبَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَزَيْد وَابْن مَسْعُود إِلَى تَوْرِيث الْجَدّ مَعَ الْإِخْوَة، وَلَا يُنْقَص مِنْ الثُّلُث مَعَ الْإِخْوَة لِلْأَبِ وَالْأُمّ أَوْ لِلْأَبِ إِلَّا مَعَ ذَوِي الْفُرُوض ; فَإِنَّهُ لَا يُنْقِص مَعَهُمْ مِنْ السُّدُس شَيْئًا فِي قَوْل زَيْد.
وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ.
وَكَانَ عَلِيّ يُشْرِك بَيْنَ الْإِخْوَة وَالْجَدّ إِلَى السُّدُس وَلَا يُنْقِصُهُ مِنْ السُّدُس شَيْئًا مَعَ ذَوِي الْفَرَائِض وَغَيْرهمْ.
وَهُوَ قَوْل اِبْن أَبِي لَيْلَى وَطَائِفَة.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْجَدَّ لَا يَرِث مَعَ الْأَب وَأَنَّ الِابْن يَحْجُب أَبَاهُ.
وَأَنْزَلُوا الْجَدّ بِمَنْزِلَةِ الْأَب فِي الْحَجْب وَالْمِيرَاث إِذَا لَمْ يَتْرُك الْمُتَوَفَّى أَبًا أَقْرَبَ مِنْهُ فِي جَمِيع الْمَوَاضِع.
وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّ الْجَدّ يُسْقِطُ بَنِي الْإِخْوَة مِنْ الْمِيرَاث ; إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَلِيّ أَنَّهُ أَجْرَى بَنِي الْإِخْوَة فِي الْمُقَاسَمَة مَجْرَى الْإِخْوَة.
وَالْحُجَّة لِقَوْلِ الْجُمْهُور إِنَّ هَذَا ذَكَر لَا يُعَصِّب أُخْتَه فَلَا يُقَاسِم الْجَدّ كَالْعَمِّ وَابْن الْعَمّ.
قَالَ الشَّعْبِيّ : أَوَّل جَدّ وَرِثَ فِي الْإِسْلَام عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; مَاتَ اِبْنٌ لِعَاصِمِ بْن عُمَرَ وَتَرَكَ أَخَوَيْنِ فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِمَالٍ فَاسْتَشَارَ عَلِيًّا وَزَيْدًا فِي ذَلِكَ فَمَثَّلَا لَهُ مَثَلًا فَقَالَ :( لَوْلَا أَنَّ رَأْيَكُمَا اِجْتَمَعَ مَا رَأَيْت أَنْ يَكُون اِبْنِي وَلَا أَكُونُ أَبَاهُ ).
رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب اِسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ يَوْمًا فَأَذِنَ لَهُ، وَرَأْسه فِي يَد جَارِيَةٍ لَهُ تُرَجِّلُهُ، فَنَزَعَ رَأْسَهُ ; فَقَالَ لَهُ عُمَر : دَعْهَا تُرَجِّلكَ.
فَقَالَ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَرْسَلْت إِلَيَّ جِئْتُك.
فَقَالَ عُمَر : إِنَّمَا الْحَاجَة لِي، إِنِّي جِئْتُك لِتَنْظُرَ فِي أَمْر الْجَدّ.
فَقَالَ زَيْد : لَا وَاَللَّهِ ! مَا تَقُول فِيهِ.
فَقَالَ عُمَر : لَيْسَ هُوَ بِوَحْيٍ حَتَّى نَزِيدَ فِيهِ وَنُنْقِص، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ تَرَاهُ، فَإِنْ رَأَيْته وَافَقَنِي تَبِعْته، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْك فِيهِ شَيْءٌ.
فَأَبَى زَيْد، فَخَرَجَ مُغْضَبًا وَقَالَ : قَدْ جِئْتُك وَأَنَا أَظُنُّ سَتُفْرِغُ مِنْ حَاجَتِي.
ثُمَّ أَتَاهُ مَرَّة أُخْرَى فِي السَّاعَة الَّتِي أَتَاهُ فِي الْمَرَّة الْأُولَى، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ : فَسَأَكْتُبُ لَك فِيهِ.
فَكَتَبَهُ فِي قِطْعَة قَتْب وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا.
إِنَّمَا مَثَلُهُ مَثَلُ شَجَرَة تَنْبُت عَلَى سَاقٍ وَاحِدَة، فَخَرَجَ فِيهَا غُصْن ثُمَّ خَرَجَ فِي غُصْنٍ غُصْنٌ آخَرُ ; فَالسَّاق يَسْقِي الْغُصْنَ، فَإِنْ قَطَعْت الْغُصْنَ الْأَوَّلَ رَجَعَ الْمَاء إِلَى الْغُصْن، وَإِنْ قَطَعْت الثَّانِيَ رَجَعَ الْمَاء إِلَى الْأَوَّل.
فَأَتَى بِهِ فَخَطَبَ النَّاس عُمَر ثُمَّ قَرَأَ قِطْعَة الْقَتْب عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَدْ قَالَ فِي الْجَدّ قَوْلًا وَقَدْ أَمْضَيْته.
قَالَ : وَكَانَ عُمَر أَوَّلَ جَدّ كَانَ ; فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ كُلَّهُ، مَالَ اِبْن اِبْنِهِ دُونَ إِخْوَته، فَقَسَمَهُ بَعْد ذَلِكَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَأَمَّا الْجَدَّة فَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمّ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأُمَّ تَحْجُب أُمَّهَا وَأُمّ الْأَب.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَب لَا يَحْجُب أُمّ الْأُمّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيث الْجَدَّة وَابْنُهَا حَيٌّ ; فَقَالَتْ طَائِفَة :( لَا تَرِث الْجَدَّة وَابْنهَا حَيّ ).
رُوِيَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت وَعُثْمَان وَعَلِيّ.
وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي.
وَقَالَتْ طَائِفَة :( تَرِث الْجَدَّة مَعَ اِبْنهَا ).
رُوِيَ عَنْ عُمَر وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان وَعَلِيّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقَالَ بِهِ شُرَيْح وَجَابِر بْن زَيْد وَعُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن وَشَرِيك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذِر.
وَقَالَ : كَمَا أَنَّ الْجَدّ لَا يَحْجُبُهُ إِلَّا الْأَب كَذَلِكَ الْجَدَّة لَا يَحْجُبهَا إِلَّا الْأُمّ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ فِي الْجَدَّة مَعَ اِبْنهَا :( إِنَّهَا أَوَّل جَدَّة أَطْعَمَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُدُسًا مَعَ اِبْنهَا وَابْنُهَا حَيٌّ ).
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَوْرِيث الْجَدَّات ; فَقَالَ مَالِك : لَا يَرِث إِلَّا جَدَّتَانِ، أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أَبٍ وَأُمَّهَاتهمَا.
وَكَذَلِكَ رَوَى أَبُو ثَوْر عَنْ الشَّافِعِيّ، وَقَالَ بِهِ جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ.
فَإِنْ اِنْفَرَدَتْ إِحْدَاهُمَا فَالسُّدُس لَهَا، وَإِنْ اِجْتَمَعَتَا وَقَرَابَتهمَا سَوَاء فَالسُّدُس بَيْنهمَا.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَثُرْنَ إِذَا تَسَاوَيْنَ فِي الْقُعْدُد ; وَهَذَا كُلّه مُجْمَع عَلَيْهِ.
فَإِنْ قَرُبَتْ الَّتِي مِنْ قِبَل الْأُمّ كَانَ لَهَا السُّدُس دُون غَيْرهَا، وَإِنْ قَرُبَتْ الَّتِي مِنْ قِبَل الْأَب كَانَ بَيْنهَا وَبَيْنَ الَّتِي مِنْ قِبَل الْأُمّ وَإِنْ بَعُدَتْ.
وَلَا تَرِث إِلَّا جَدَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ قِبَل الْأُمّ.
وَلَا تَرِث الْجَدَّة أُمّ أَب الْأُمّ عَلَى حَال.
هَذَا مَذْهَب زَيْد بْن ثَابِت، وَهُوَ أَثْبَتُ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَهْل الْمَدِينَة.
وَقِيلَ : إِنَّ الْجَدَّات أُمَّهَات ; فَإِذَا اجْتَمَعْنَ فَالسُّدُس لِأَقْرَبِهِنَّ ; كَمَا أَنَّ الْآبَاء إِذَا اِجْتَمَعُوا كَانَ أَحَدهمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبَهُمْ ; فَكَذَلِكَ الْبَنُونَ وَالْإِخْوَة، وَبَنُو الْإِخْوَة وَبَنُو الْعَمّ إِذَا اِجْتَمَعُوا كَانَ أَحَقُّهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبَهُمْ ; فَكَذَلِكَ الْأُمَّهَات.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا أَصَحّ، وَبِهِ أَقُول.
وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يُوَرِّث ثَلَاثَ جَدَّات : وَاحِدَة مِنْ قِبَل الْأُمّ وَاثْنَتَيْنِ مِنْ قِبَل الْأَب.
وَهُوَ قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل ; رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وَرُوِيَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت عَكْس هَذَا ; أَنَّهُ كَانَ يُوَرِّث ثَلَاثَ جَدَّات : ثِنْتَيْنِ مِنْ جِهَة الْأُمّ وَوَاحِدَة مِنْ قِبَل الْأَب.
وَقَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَقَوْلِ زَيْد هَذَا.
وَكَانَا يَجْعَلَانِ السُّدُس لِأَقْرَبِهِمَا، مِنْ قِبَل الْأُمّ كَانَتْ أَوْ مِنْ قِبَل الْأَب.
وَلَا يَشْرَكُهَا فِيهِ مَنْ لَيْسَ فِي قُعْدُدِهَا، وَبِهِ يَقُول الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَأَبُو ثَوْر.
وَأَمَّا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس فَكَانَا يُوَرِّثَانِ الْجَدَّاتِ الْأَرْبَعَ ; وَهُوَ قَوْل الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ وَجَابِر بْن زَيْد.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكُلّ جَدَّة إِذَا نُسِبَتْ إِلَى الْمُتَوَفَّى وَقَعَ فِي نَسَبِهَا أَب بَيْنَ أُمَّيْنِ فَلَيْسَتْ تَرِث، فِي قَوْل كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم.
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ
فَرَضَ تَعَالَى لِكُلِّ وَاحِد مِنْ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْوَلَد السُّدُس ; وَأَبْهَمَ الْوَلَد فَكَانَ الذَّكَر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء.
فَإِنْ مَاتَ رَجُل وَتَرَكَ اِبْنًا وَأَبَوَيْنِ فَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا السُّدُس، وَمَا بَقِيَ فَلِلِابْنِ.
فَإِنْ تَرَكَ اِبْنَة وَأَبَوَيْنِ فَلِلِابْنَةِ النِّصْف وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، وَمَا بَقِيَ فَلِأَقْرَب عَصَبَةٍ وَهُوَ الْأَب ; لِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا أَبْقَتْ الْفَرَائِض فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ ).
فَاجْتَمَعَ لِلْأَبِ الِاسْتِحْقَاق بِجِهَتَيْنِ : التَّعْصِيب وَالْفَرْض.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ
فَأَخْبَرَ جَلَّ ذِكْره أَنَّ الْأَبَوَيْنِ إِذَا وَرِثَاهُ أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ.
وَدَلَّ بِقَوْلِهِ :" وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ " وَإِخْبَاره أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، أَنَّ الْبَاقِيَ وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ.
وَهَذَا كَمَا تَقُول لِرَجُلَيْنِ : هَذَا الْمَال بَيْنَكُمَا، ثُمَّ تَقُول لِأَحَدِهِمَا : أَنْتَ يَا فُلَانُ لَك مِنْهُ ثُلُثٌ ; فَإِنَّك حَدَّدْت لِلْآخَرِ مِنْهُ الثُّلُثَيْنِ بِنَصِّ كَلَامك ; وَلِأَنَّ قُوَّة الْكَلَام فِي قَوْله :" وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ " يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمَا مُنْفَرِدَانِ عَنْ جَمِيع أَهْل السِّهَام مِنْ وَلَد وَغَيْره، وَلَيْسَ فِي هَذَا اِخْتِلَاف.
قُلْت : وَعَلَى هَذَا يَكُون الثُّلُثَانِ فَرْضًا لِلْأَبِ مُسَمًّى لَا يَكُون عَصَبَة، وَذَكَرَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنَّ الْمَعْنَى فِي تَفْضِيل الْأَب بِالثُّلُثِ عِنْد عَدَم الْوَلَد الذُّكُورِيَّة وَالنُّصْرَة، وَوُجُوب الْمُؤْنَة عَلَيْهِ، وَثَبَتَتْ الْأُمّ عَلَى سَهْم لِأَجْلِ الْقَرَابَة.
قُلْت : وَهَذَا مُنْتَقَض ; فَإِنَّ ذَلِكَ مَوْجُود مَعَ حَيَاته فَلِمَ حُرِمَ السُّدُس.
وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّهُ إِنَّمَا حُرِمَ السُّدُس فِي حَيَاته إِرْفَاقًا بِالصَّبِيِّ وَحِيَاطَة عَلَى مَاله ; إِذْ قَدْ يَكُون إِخْرَاج جُزْء مِنْ مَاله إِجْحَافًا بِهِ.
أَوْ أَنَّ ذَلِكَ تَعَبُّد، وَهُوَ أَوْلَى مَا يُقَال.
وَاَللَّه الْمُوَفِّق.
إِنْ قِيلَ : مَا فَائِدَة زِيَادَة الْوَاو فِي قَوْله :" وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ "، وَكَانَ ظَاهِر الْكَلَام أَنْ يَقُول : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَد وَرِثَهُ أَبَوَاهُ.
قِيلَ لَهُ : أَرَادَ بِزِيَادَتِهَا الْإِخْبَار لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ أَمْر مُسْتَقِرّ ثَابِت، فَيُخْبِر عَنْ ثُبُوته وَاسْتِقْرَاره، فَيَكُون حَال الْوَالِدَيْنِ عِنْد اِنْفِرَادهمَا كَحَالِ الْوَلَدَيْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَيَجْتَمِع لِلْأَبِ بِذَلِكَ فَرْضَانِ السَّهْم وَالتَّعْصِيب إِذْ يُحْجَب الْإِخْوَة كَالْوَلَدِ.
وَهَذَا عَدْل فِي الْحُكْم، ظَاهِر فِي الْحِكْمَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
" فَلِأُمِّهِ الثُّلُث " قَرَأَ أَهْل الْكُوفَة " فَلِإِمِّهِ الثُّلُث " وَهِيَ لُغَة حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ.
قَالَ الْكِسَائِيّ : هِيَ لُغَة كَثِير مِنْ هَوَازِن وَهُذَيْل ; وَلِأَنَّ اللَّام لَمَّا كَانَتْ مَكْسُورَة وَكَانَتْ مُتَّصِلَة بِالْحَرْفِ كَرِهُوا ضَمَّةً بَعْد كَسْرَة، فَأَبْدَلُوا مِنْ الضَّمَّة كَسْرَة ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام فِعُل.
وَمَنْ ضَمَّ جَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْل ; وَلِأَنَّ اللَّام تَنْفَصِل لِأَنَّهَا دَاخِلَة عَلَى الِاسْم.
قَالَ جَمِيعه النَّحَّاس.
فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
الْإِخْوَة يَحْجُبُونَ الْأُمّ عَنْ الثُّلُث إِلَى السُّدُس، وَهَذَا هُوَ حَجْب النُّقْصَان، وَسَوَاء كَانَ الْإِخْوَة أَشِقَّاء أَوْ لِلْأَبِ أَوْ لِلْأُمِّ، وَلَا سَهْم لَهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يَقُول :( السُّدُس الَّذِي حَجَبَ الْإِخْوَةُ الْأُمَّ عَنْهُ هُوَ لِلْإِخْوَةِ ).
وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْل قَوْل النَّاس ( إِنَّهُ لِلْأَبِ ).
قَالَ قَتَادَة : وَإِنَّمَا أَخَذَهُ الْأَب دُونَهُمْ ; لِأَنَّهُ يَمُونُهُمْ وَيَلِي نِكَاحَهُمْ وَالنَّفَقَة عَلَيْهِمْ.
وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ أَخَوَيْنِ فَصَاعِدًا ذُكْرَانًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا مِنْ أَبٍ وَأُمّ، أَوْ مِنْ أَبٍ أَوْ مِنْ أُمّ يَحْجُبُونَ الْأُمّ عَنْ الثُّلُث إِلَى السُّدُس ; إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ ( الِاثْنَيْنِ مِنْ الْإِخْوَة فِي حُكْم الْوَاحِد، وَلَا يَحْجُب الْأُمّ أَقَلّ مِنْ ثَلَاثَة ).
وَقَدْ صَارَ بَعْض النَّاس إِلَى أَنَّ الْأَخَوَات لَا يَحْجُبْنَ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُث إِلَى السُّدُس ; لِأَنَّ كِتَاب اللَّه فِي الْإِخْوَة وَلَيْسَتْ قُوَّة مِيرَاث الْإِنَاث مِثْل قُوَّة مِيرَاث الذُّكُور حَتَّى تَقْتَضِيَ الْعِبْرَة الْإِلْحَاق.
قَالَ اِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَمُقْتَضَى أَقْوَالهمْ أَلَّا يَدْخُلْنَ مَعَ الْإِخْوَة ; فَإِنَّ لَفْظ الْإِخْوَة بِمُطْلَقِهِ لَا يَتَنَاوَل الْأَخَوَات، كَمَا أَنَّ لَفْظ الْبَنِينَ لَا يَتَنَاوَل الْبَنَات.
وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَلَّا تُحْجَب الْأُمّ بِالْأَخِ الْوَاحِد وَالْأُخْت مِنْ الثُّلُث إِلَى السُّدُس ; وَهُوَ خِلَاف إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ.
وَإِذَا كُنَّ مُرَادَات بِالْآيَةِ مَعَ الْإِخْوَة كُنَّ مُرَادَات عَلَى الِانْفِرَاد.
وَاسْتَدَلَّ الْجَمِيع بِأَنَّ أَقَلّ الْجَمْع اِثْنَانِ ; لِأَنَّ التَّثْنِيَة جَمْع شَيْء إِلَى مِثْله، فَالْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنَّهَا جَمْع.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ).
وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْت الْخَلِيل عَنْ قَوْله " مَا أَحْسَنَ وُجُوهَهُمَا " ؟ فَقَالَ : الِاثْنَانِ جَمَاعَة.
وَقَدْ صَحَّ قَوْل الشَّاعِر :وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِ | ظَهْرَاهُمَا مِثْل ظُهُور التُّرْسَيْنِ |
وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش :لَمَّا أَتَتْنَا الْمَرْأَتَانِ بِالْخَبَرْ | فَقُلْنَ إِنَّ الْأَمْرَ فِينَا قَدْ شُهِرْ |
وَقَالَ آخَر :يُحَيَّى بِالسَّلَامِ غَنِيُّ قَوْمٍ | وَيُبْخَلُ بِالسَّلَامِ عَلَى الْفَقِيرِ |
أَلَيْسَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمَا سَوَاءً | إِذَا مَاتُوا وَصَارُوا فِي الْقُبُورِ |
وَلَمَّا وَقَعَ الْكَلَام فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُثْمَان وَابْن عَبَّاس قَالَ لَهُ عُثْمَان :( إِنَّ قَوْمك حَجَبُوهَا - يَعْنِي قُرَيْشًا - وَهُمْ أَهْل الْفَصَاحَة وَالْبَلَاغَة ).
وَمِمَّنْ قَالَ :( إِنَّ أَقَلّ الْجَمْع ثَلَاثَة ) - وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ هُنَا - اِبْن مَسْعُود وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَغَيْرهمْ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ
قَرَأَ اِبْن كَثِير ( أَبُو عَمْرو وَابْن عَامِر وَعَاصِم " يُوصَى " بِفَتْحِ الصَّاد.
الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ، وَكَذَلِكَ الْآخَر.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة فِيهِمَا عَنْ عَاصِم.
وَالْكَسْر اخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم ; لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْر الْمَيِّت قَبْل هَذَا.
قَالَ الْأَخْفَش : وَتَصْدِيق ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" يُوصِينَ " و " تُوصُونَ ".
إِنْ قِيلَ : مَا الْحِكْمَة فِي تَقْدِيم ذِكْر الْوَصِيَّة عَلَى ذِكْر الدَّيْن، وَالدَّيْن مُقَدَّم عَلَيْهَا بِإِجْمَاعٍ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ الْحَارِث عَنْ عَلِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْل الْوَصِيَّة، وَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ الْوَصِيَّة قَبْل الدَّيْن.
قَالَ : وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد عَامَّة أَهْل الْعِلْم أَنَّهُ يَبْدَأ بِالدَّيْنِ قَبْل الْوَصِيَّة.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث عَاصِم بْن ضَمْرَة عَنْ عَلِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الدَّيْن قَبْل الْوَصِيَّة وَلَيْسَ لِوَارِثٍ وَصِيَّة ).
رَوَاهُ عَنْهُمَا أَبُو إِسْحَاق الْهَمْدَانِيّ.
فَالْجَوَاب مِنْ أَوْجُه خَمْسَة :
الْأَوَّل : إِنَّمَا قُصِدَ تَقْدِيم هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ عَلَى الْمِيرَاث وَلَمْ يُقْصَد تَرْتِيبُهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا ; فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَتْ الْوَصِيَّة فِي اللَّفْظ.
جَوَابٌ ثَانٍ : لَمَّا كَانَتْ الْوَصِيَّة أَقَلّ لُزُومًا مِنْ الدَّيْن قَدَّمَهَا اِهْتِمَامًا بِهَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" لَا يُغَادِر صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً " [ الْكَهْف : ٤٩ ].
جَوَاب ثَالِث : قَدَّمَهَا لِكَثْرَةِ وُجُودِهَا وَوُقُوعِهَا ; فَصَارَتْ كَاللَّازِمِ لِكُلِّ مَيِّت مَعَ نَصّ الشَّرْع عَلَيْهَا، وَأَخَّرَ الدَّيْن لِشُذُوذِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُون وَقَدْ لَا يَكُون.
فَبَدَأَ بِذِكْرِ الَّذِي لَا بُدّ مِنْهُ، وَعَطَفَ بِاَلَّذِي قَدْ يَقَع أَحْيَانًا.
وَيُقَوِّي هَذَا : الْعَطْفُ بِأَوْ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْن رَاتِبًا لَكَانَ الْعَطْف بِالْوَاوِ.
جَوَاب رَابِع : إِنَّمَا قُدِّمَتْ الْوَصِيَّة إِذْ هِيَ حَظّ مَسَاكِينَ وَضُعَفَاء، وَأُخِّرَ الدَّيْن إِذْ هُوَ حَظّ غَرِيم يَطْلُبهُ بِقُوَّةٍ وَسُلْطَانٍ وَلَهُ فِيهِ مَقَال.
جَوَاب خَامِس : لَمَّا كَانَتْ الْوَصِيَّة يُنْشِئهَا مِنْ قَبْل نَفْسه قَدَّمَهَا، وَالدَّيْن ثَابِت مُؤَدًّى ذَكَرَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ.
وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا تَعَلَّقَ الشَّافِعِيّ بِذَلِكَ فِي تَقْدِيم دَيْن الزَّكَاة وَالْحَجّ عَلَى الْمِيرَاث فَقَالَ : إِنَّ الرَّجُل إِذَا فَرَّطَ فِي زَكَاته وَجَبَ أَخْذ ذَلِكَ مِنْ رَأْس مَاله.
وَهَذَا ظَاهِر بِبَادِئِ الرَّأْي ; لِأَنَّهُ حَقّ مِنْ الْحُقُوق فَيَلْزَم أَدَاؤُهُ عَنْهُ بَعْد الْمَوْت كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَا سِيَّمَا وَالزَّكَاة مَصْرِفهَا إِلَى الْآدَمِيّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك : إِنْ أَوْصَى بِهَا أُدِّيَتْ مِنْ ثُلُثه، وَإِنْ سَكَتَ عَنْهَا لَمْ يَخْرُج عَنْهُ شَيْء.
قَالُوا : لِأَنَّ ذَلِكَ مُوجِب لِتَرْكِ الْوَرَثَة فُقَرَاء ; إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَعَمَّد تَرْك الْكُلّ حَتَّى إِذَا مَاتَ اِسْتَغْرَقَ ذَلِكَ جَمِيع مَاله فَلَا يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ حَقّ.
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر مُضْمَر، تَقْدِيره : هُمْ الْمَقْسُوم عَلَيْهِمْ وَهُمْ الْمُعْطُونَ.
لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
قِيلَ : فِي الدُّنْيَا بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَة ; كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَر ( إِنَّ الرَّجُل لَيُرْفَع بِدُعَاءِ وَلَده مِنْ بَعْده ).
وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح ( إِذَا مَاتَ الرَّجُل اِنْقَطَعَ عَمَله إِلَّا مِنْ ثَلَاث - فَذَكَرَ - أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ ).
وَقِيلَ :( فِي الْآخِرَة ; فَقَدْ يَكُون الِابْن أَفْضَل فَيَشْفَع فِي أَبِيهِ ) ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن.
وَقَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ الِابْن إِذَا كَانَ أَرْفَع مِنْ دَرَجَة أَبِيهِ فِي الْآخِرَة سَأَلَ اللَّه فَرَفَعَ إِلَيْهِ أَبَاهُ، وَكَذَلِكَ الْأَب إِذَا كَانَ أَرْفَعَ مِنْ اِبْنه ; وَسَيَأْتِي فِي " الطُّور " بَيَانه.
وَقِيلَ : فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ; قَالَ اِبْن زَيْد.
وَاللَّفْظ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
" فَرِيضَة " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر الْمُؤَكِّد، إِذْ مَعْنَى " يُوصِيكُمْ " يَفْرِض عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ مَكِّيّ وَغَيْره : هِيَ حَال مُؤَكِّدَة ; وَالْعَامِل " يُوصِيكُمْ " وَذَلِكَ ضَعِيف.
وَالْآيَة مُتَعَلِّقَة بِمَا تَقَدَّمَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ عَرَّفَ الْعِبَاد أَنَّهُمْ كُفُوا مُؤْنَة الِاجْتِهَاد فِي إِيصَاء الْقَرَابَة مَعَ اِجْتِمَاعهمْ فِي الْقَرَابَة، أَيْ إِنَّ الْآبَاء وَالْأَبْنَاء يَنْفَع بَعْضهمْ بَعْضًا فِي الدُّنْيَا بِالتَّنَاصُرِ وَالْمُوَاسَاة، وَفِي الْآخِرَة بِالشَّفَاعَةِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْآبَاء وَالْأَبْنَاء تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي جَمِيع الْأَقَارِب ; فَلَوْ كَانَ الْقِسْمَة مَوْكُولَة إِلَى الِاجْتِهَاد لِوُجُوبِ النَّظَر فِي غِنَى كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ.
وَعِنْد ذَلِكَ يَخْرُج الْأَمْر عَنْ الضَّبْط إِذْ قَدْ يَخْتَلِف الْأَمْر، فَبَيَّنَ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ الْأَصْلَح لِلْعَبْدِ أَلَّا يُوَكَّل إِلَى اِجْتِهَاده فِي مَقَادِير الْمَوَارِيث، بَلْ بَيَّنَ الْمَقَادِير شَرْعًا.
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا
أَيْ بِقِسْمَةِ الْمَوَارِيث
حَكِيمًا
حَكَمَ قِسْمَتهَا وَبَيَّنَهَا لِأَهْلِهَا.
وَقَالَ الزَّجَّاج :" عَلِيمًا " أَيْ بِالْأَشْيَاءِ قَبْل خَلْقهَا " حَكِيمًا " فِيمَا يُقَدِّرُهُ وَيُمْضِيهِ مِنْهَا.
وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَال، وَالْخَبَر مِنْهُ بِالْمَاضِي كَالْخَبَرِ مِنْهُ بِالِاسْتِقْبَالِ.
وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا حِكْمَة وَعِلْمًا فَقِيلَ لَهُمْ : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَزَلْ عَلَى مَا رَأَيْتُمْ.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ " أَيْ نِكَاح أُمَّهَاتِكُمْ وَنِكَاح بَنَاتكُمْ ; فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة مَا يَحِلّ مِنْ النِّسَاء وَمَا يَحْرُم، كَمَا ذَكَرَ تَحْرِيم حَلِيلَة الْأَب.
فَحَرَّمَ اللَّه سَبْعًا مِنْ النَّسَب وَسِتًّا مِنْ رَضَاع وَصِهْر، وَأَلْحَقَتْ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ سَابِعَةً ; وَذَلِكَ الْجَمْع بَيْنَ الْمَرْأَة وَعَمَّتهَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاع.
وَثَبَتَتْ الرِّوَايَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : حَرُمَ مِنْ النَّسَب سَبْع وَمِنْ الصِّهْر سَبْع، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَة.
وَقَالَ عَمْرو بْن سَالِم مَوْلَى الْأَنْصَار مِثْل ذَلِكَ، وَقَالَ : السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى :" وَالْمُحْصَنَات ".
فَالسَّبْع الْمُحَرَّمَات مِنْ النَّسَب : الْأُمَّهَات وَالْبَنَات وَالْأَخَوَات وَالْعَمَّات وَالْخَالَات، وَبَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت.
وَالسَّبْع الْمُحَرَّمَات بِالصِّهْرِ وَالرَّضَاع : الْأُمَّهَات مِنْ الرَّضَاعَة وَالْأَخَوَات مِنْ الرَّضَاعَة، وَأُمَّهَات النِّسَاء وَالرَّبَائِب وَحَلَائِل الْأَبْنَاء وَالْجَمْع بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَالسَّابِعَة " وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَائِكُمْ ".
قَالَ الطَّحَاوِيّ : وَكُلّ هَذَا مِنْ الْمُحْكَم الْمُتَّفَق عَلَيْهِ، وَغَيْر جَائِز نِكَاح وَاحِدَة مِنْهُنَّ بِإِجْمَاعٍ إِلَّا أُمَّهَات النِّسَاء اللَّوَاتِي لَمْ يَدْخُل بِهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ ; فَإِنَّ جُمْهُور السَّلَف ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْأُمّ تَحْرُم بِالْعَقْدِ عَلَى الِابْنَة، وَلَا تَحْرُم الِابْنَة إِلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ ; وَبِهَذَا قَوْل جَمِيع أَئِمَّة الْفَتْوَى بِالْأَمْصَارِ.
وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ السَّلَف : الْأُمّ وَالرَّبِيبَة سَوَاء، لَا تَحْرُم مِنْهُمَا وَاحِدَة إِلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُخْرَى.
قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْل :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ " أَيْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.
" وَرَبَائِبكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُوركُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ".
وَزَعَمُوا أَنَّ شَرْط الدُّخُول رَاجِع إِلَى الْأُمَّهَات وَالرَّبَائِب جَمِيعًا ; رَوَاهُ خِلَاس عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَجَابِر وَزَيْد بْن ثَابِت، وَهُوَ قَوْل اِبْن الزُّبَيْر وَمُجَاهِد.
قَالَ مُجَاهِد : الدُّخُول مُرَاد فِي النَّازِلَتَيْنِ ; وَقَوْل الْجُمْهُور مُخَالِف لِهَذَا وَعَلَيْهِ الْحُكْم وَالْفُتْيَا، وَقَدْ شَدَّدَ أَهْل الْعِرَاق فِيهِ حَتَّى قَالُوا : لَوْ وَطِئَهَا بِزِنًى أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ اِبْنَتهَا.
وَعِنْدنَا وَعِنْد الشَّافِعِيّ إِنَّمَا تَحْرُم بِالنِّكَاحِ الصَّحِيح ; وَالْحَرَام لَا يُحَرِّم الْحَلَال عَلَى مَا يَأْتِي.
وَحَدِيث خِلَاس عَنْ عَلِيّ لَا تَقُوم بِهِ حُجَّة، وَلَا تَصِحّ رِوَايَته عِنْد أَهْل الْعِلْم بِالْحَدِيثِ، وَالصَّحِيح عَنْهُ مِثْل قَوْل الْجَمَاعَة.
قَالَ اِبْن جُرَيْج : قُلْت لِعَطَاءِ الرَّجُل يَنْكِح الْمَرْأَة ثُمَّ لَا يَرَاهَا وَلَا يُجَامِعُهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا أَوَتَحِلُّ لَهُ أُمّهَا ؟ قَالَ : لَا، هِيَ مُرْسَلَة دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل.
فَقُلْت لَهُ : أَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقْرَأ :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ " ؟ قَالَ : لَا لَا.
وَرَوَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ " قَالَ : هِيَ مُبْهَمَة لَا تَحِلّ بِالْعَقْدِ عَلَى الِابْنَة ; وَكَذَلِكَ رَوَى مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت، وَفِيهِ :" فَقَالَ زَيْد لَا، الْأُمّ مُبْهَمَة لَيْسَ فِيهَا شَرْط وَإِنَّمَا الشَّرْط فِي الرَّبَائِب ".
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح ; لِدُخُولِ جَمِيع أُمَّهَات النِّسَاء فِي قَوْله تَعَالَى :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ ".
وَيُؤَيِّد هَذَا الْقَوْل مِنْ جِهَة الْإِعْرَاب أَنَّ الْخَبَرَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَامِل لَمْ يَكُنْ نَعْتُهُمَا وَاحِدًا ; فَلَا يَجُوز عِنْد النَّحْوِيِّينَ مَرَرْت بِنِسَائِك وَهَرَبْت مِنْ نِسَاء زَيْد الظَّرِيفَات، عَلَى أَنْ تَكُون " الظَّرِيفَات " نَعْتًا لِنِسَائِك وَنِسَاء زَيْد ; فَكَذَلِكَ الْآيَة لَا يَجُوز أَنْ يَكُون " اللَّاتِي " مِنْ نَعْتِهِمَا جَمِيعًا ; لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَانِ، وَلَكِنَّهُ يَجُوز عَلَى مَعْنَى أَعْنِي.
وَأَنْشَدَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ :إِنَّ بِهَا أَكْتَلَ أَوْ رِزَامَا | خُوَيْرَبَيْنِ يَنْقُفَانِ الْهَامَا |
خُوَيْرَبَيْنِ يَعْنِي لِصَّيْنِ، بِمَعْنَى أَعْنِي.
وَيَنْقُفَانِ : يَكْسِرَانِ ; نَقَفْت رَأْسَهُ كَسَرْته.
وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا نَكَحَ الرَّجُل الْمَرْأَة فَلَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج أُمَّهَا دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَوْ لَمْ يَدْخُل وَإِذَا تَزَوَّجَ الْأُمّ فَلَمْ يَدْخُل بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَ الْبِنْت ) أَخْرَجَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَثَبَتَ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْرِيم لَيْسَ صِفَة لِلْأَعْيَانِ، وَالْأَعْيَان لَيْسَتْ مَوْرِدًا لِلتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيم وَلَا مَصْدَرًا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّق التَّكْلِيف بِالْأَمْرِ وَالنَّهْي بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَرَكَة وَسُكُون ; لَكِنَّ الْأَعْيَان لَمَّا كَانَتْ مَوْرِدًا لِلْأَفْعَالِ أُضِيفَ الْأَمْر وَالنَّهْي وَالْحُكْم إِلَيْهَا وَعُلِّقَ بِهَا مَجَازًا عَلَى مَعْنَى الْكِنَايَة بِالْمَحَلِّ عَنْ الْفِعْل الَّذِي يَحِلّ بِهِ.
قَوْله تَعَالَى :" أُمَّهَاتكُمْ " تَحْرِيم الْأُمَّهَات عَامّ فِي كُلّ حَال لَا يَتَخَصَّص بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه ; وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ أَهْل الْعِلْم الْمُبْهَم، أَيْ لَا بَاب فِيهِ وَلَا طَرِيق إِلَيْهِ لِانْسِدَادِ التَّحْرِيم وَقُوَّتِهِ ; وَكَذَلِكَ تَحْرِيم الْبَنَات وَالْأَخَوَات وَمَنْ ذُكِرَ مِنْ الْمُحَرَّمَات.
وَالْأُمَّهَات جَمْع أُمَّهَة ; يُقَال : أُمّ وَأُمَّهَة بِمَعْنًى وَاحِد، وَجَاءَ الْقُرْآن بِهِمَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَة بَيَانُهُ.
وَقِيلَ : إِنَّ أَصْل أُمّ أُمَّهَة عَلَى وَزْن فُعَّلَة مِثْل قُبَّرَة وَحُمَّرَة لِطَيْرَيْنِ، فَسَقَطَتْ وَعَادَتْ فِي الْجَمْع.
قَالَ الشَّاعِر :
أُمَّهَتِي خِنْدِفٌ وَالدَّوْسُ أَبِي
وَقِيلَ : أَصْل الْأُمّ أُمَّة، وَأَنْشَدُوا :
تَقَبَّلْتهَا عَنْ أُمَّة لَك طَالَمَا | تَثُوبُ إِلَيْهَا فِي النَّوَائِبِ أَجْمَعَا |
وَيَكُون جَمْعُهَا أُمَّات.
قَالَ الرَّاعِي :كَانَتْ نَجَائِبُ مُنْذِرٍ وَمُحَرِّقٍ | أُمَّاتُهُنَّ وَطَرْقُهُنَّ فَحِيلَا |
فَالْأُمّ اِسْم لِكُلِّ أُنْثَى لَهَا عَلَيْك وِلَادَة ; فَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْأُمّ دِنْيَةً، وَأُمَّهَاتُهَا وَجَدَّاتُهَا وَأُمّ الْأَب وَجَدَّاتُهُ وَإِنْ عَلَوْنَ.
وَالْبِنْت اِسْم لِكُلِّ أُنْثَى لَك عَلَيْهَا وِلَادَة، وَإِنْ شِئْت قُلْت : كُلّ أُنْثَى يَرْجِع نَسَبُهَا إِلَيْك بِالْوِلَادَةِ بِدَرَجَةٍ أَوْ دَرَجَات ; فَيَدْخُل فِي ذَلِكَ بِنْت الصُّلْب وَبَنَاتهَا وَبَنَات الْأَبْنَاء وَإِنْ نَزَلْنَ.
وَالْأُخْت اِسْم لِكُلِّ أُنْثَى جَاوَرَتْك فِي أَصْلَيْك أَوْ فِي أَحَدِهِمَا وَالْبَنَات جَمْع بِنْت، وَالْأَصْل بُنَيَّة، وَالْمُسْتَعْمَل اِبْنَة وَبِنْت.
قَالَ الْفَرَّاء : كُسِرَتْ الْبَاء مِنْ بِنْت لِتَدُلَّ الْكَسْرَة عَلَى الْيَاء، وَضُمَّتْ الْأَلِف مِنْ أُخْت لِتَدُلّ عَلَى حَذْف الْوَاو، فَإِنَّ أَصْل أُخْت أَخَوَة، وَالْجَمْع أَخَوَات.
وَالْعَمَّة اِسْم لِكُلِّ أُنْثَى شَارَكَتْ أَبَاك أَوْ جَدَّك فِي أَصْلَيْهِ أَوْ فِي أَحَدهمَا.
وَإِنْ شِئْت قُلْت : كُلّ ذَكَر رَجَعَ نَسَبُهُ إِلَيْك فَأُخْتُهُ عَمَّتك.
وَقَدْ تَكُون الْعَمَّة مِنْ جِهَة الْأُمّ، وَهِيَ أُخْت أَبِ أُمّك.
وَالْخَالَة اِسْم لِكُلِّ أُنْثَى شَارَكَتْ أُمّك فِي أَصْلَيْهَا أَوْ فِي أَحَدهمَا.
وَإِنْ شِئْت قُلْت : كُلّ أُنْثَى رَجَعَ نَسَبُهَا إِلَيْك بِالْوِلَادَةِ فَأُخْتُهَا خَالَتُك.
وَقَدْ تَكُون الْخَالَة مِنْ جِهَة الْأَب وَهِيَ أُخْت أُمّ أَبِيك.
وَبِنْت الْأَخ اِسْم لِكُلِّ أُنْثَى لِأَخِيك عَلَيْهَا وِلَادَة بِوَاسِطَةٍ أَوْ مُبَاشَرَة ; وَكَذَلِكَ بِنْت الْأُخْت.
فَهَذِهِ السَّبْع الْمُحَرَّمَات مِنْ النَّسَب.
وَقَرَأَ نَافِع - فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر بْن أَبِي أُوَيْس - بِتَشْدِيدِ الْخَاء مِنْ الْأَخ إِذَا كَانَتْ فِيهِ الْأَلِف وَاللَّام مَعَ نَقْل الْحَرَكَة.
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَهِيَ فِي التَّحْرِيم مِثْل مَنْ ذَكَرْنَا ; قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَحْرُم مِنْ الرَّضَاع مَا يَحْرُم مِنْ النَّسَب ).
وَقَرَأَ عَبْد اللَّه " وَأُمَّهَاتكُمْ اللَّائِي " بِغَيْرِ تَاء ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيض " [ الطَّلَاق : ٤ ] قَالَ الشَّاعِر :
مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ حِسْبَةً | وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلَا |
" أَرْضَعْنَكُمْ " فَإِذَا أَرْضَعَتْ الْمَرْأَة طِفْلًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا أُمُّهُ، وَبِنْتُهَا لِأَنَّهَا أُخْتُهُ، وَأُخْتهَا لِأَنَّهَا خَالَته، وَأُمّهَا لِأَنَّهَا جَدَّته، وَبِنْت زَوْجهَا صَاحِب اللَّبَن لِأَنَّهَا أُخْتُهُ، وَأُخْتُهُ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ، وَأُمّه لِأَنَّهَا جَدَّته، وَبَنَات بَنِيهَا وَبَنَاتهَا لِأَنَّهُنَّ بَنَات إِخْوَته وَأَخَوَاته.
قَالَ أَبُو نُعَيْم عُبَيْد اللَّه بْن هِشَام الْحَلَبِيّ : سُئِلَ مَالِك عَنْ الْمَرْأَة أَيَحُجُّ مَعَهَا أَخُوهَا مِنْ الرَّضَاعَة ؟ قَالَ : نَعَمْ.
قَالَ أَبُو نُعَيْم : وَسُئِلَ مَالِك عَنْ اِمْرَأَة تَزَوَّجَتْ فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا.
ثُمَّ جَاءَتْ اِمْرَأَة فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا ; قَالَ : يُفَرَّق بَيْنهمَا، وَمَا أَخَذَتْ مِنْ شَيْء لَهُ فَهُوَ لَهَا، وَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ مَالِك : إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ مِثْل هَذَا فَأَمَرَ بِذَلِكَ ; فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّهَا اِمْرَأَة ضَعِيفَة ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَلَيْسَ يُقَال إِنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ أُخْتَه ) ؟
التَّحْرِيم بِالرَّضَاعِ إِنَّمَا يَحْصُل إِذَا اِتَّفَقَ الْإِرْضَاع فِي الْحَوْلَيْنِ ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة ".
وَلَا فَرْق بَيْنَ قَلِيل الرَّضَاع وَكَثِيره عِنْدَنَا إِذَا وَصَلَ إِلَى الْأَمْعَاء وَلَوْ مَصَّة وَاحِدَة.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيّ فِي الْإِرْضَاع شَرْطَيْنِ : أَحَدهمَا خَمْس رَضَعَات ; لِحَدِيثِ عَائِشَة قَالَتْ : كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَشْر رَضَعَات مَعْلُومَات يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَات، وَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأ مِنْ الْقُرْآن.
مَوْضِع الدَّلِيل مِنْهُ أَنَّهَا أَثْبَتَتْ أَنَّ الْعَشْر نُسِخْنَ بِخَمْسٍ، فَلَوْ تَعَلَّقَ التَّحْرِيم بِمَا دُون الْخَمْس لَكَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْخَمْسِ.
وَلَا يُقْبَل عَلَى هَذَا خَبَر وَاحِد وَلَا قِيَاس ; لِأَنَّهُ لَا يُنْسَخ بِهِمَا.
وَفِي حَدِيث سَهْلَة ( أَرْضِعِيهِ خَمْس رَضَعَات يَحْرُم بِهِنَّ ).
الشَّرْط الثَّانِي : أَنْ يَكُون فِي الْحَوْلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهُمَا لَمْ يَحْرُم ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" حَوْلَيْنِ كَامِلِينَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَة " [ الْبَقَرَة : ٢٣٣ ].
وَلَيْسَ بَعْد التَّمَام وَالْكَمَال شَيْء.
وَاعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَة بَعْد الْحَوْلَيْنِ سِتَّة أَشْهُر.
وَمَالِك الشَّهْر وَنَحْوه.
وَقَالَ زُفَر : مَا دَامَ يَجْتَزِئ بِاللَّبَنِ وَلَمْ يُفْطَم فَهُوَ رَضَاع وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاث سِنِينَ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إِذَا فُطِمَ لِسَنَةٍ وَاسْتَمَرَّ فِطَامُهُ فَلَيْسَ بَعْده رَضَاع.
وَانْفَرَدَ اللَّيْث بْن سَعْد مِنْ بَيْنَ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ رَضَاع الْكَبِير يُوجِب التَّحْرِيم ; وَهُوَ قَوْل عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ; وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلّ عَلَى رُجُوعه عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو حُصَيْن عَنْ أَبِي عَطِيَّة قَالَ : قَدِمَ رَجُل بِامْرَأَتِهِ مِنْ الْمَدِينَة فَوَضَعَتْ وَتَوَرَّمَ ثَدْيهَا، فَجَعَلَ يَمُصُّهُ وَيَمُجُّهُ فَدَخَلَ فِي بَطْنِهِ جَرْعَةٌ مِنْهُ ; فَسَأَلَ أَبَا مُوسَى فَقَالَ : بَانَتْ مِنْك، وَائْتِ اِبْن مَسْعُود فَأَخْبِرْهُ، فَفَعَلَ ; فَأَقْبَلَ بِالْأَعْرَابِيِّ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَقَالَ : أَرَضِيعًا تَرَى هَذَا الْأَشْمَط ! إِنَّمَا يَحْرُم مِنْ الرَّضَاع مَا يُنْبِت اللَّحْم وَالْعَظْم.
فَقَالَ الْأَشْعَرِيّ : لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْء وَهَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ.
فَقَوْله :" لَا تَسْأَلُونِي " يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ.
وَاحْتَجَّتْ عَائِشَة بِقِصَّةِ سَالِم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة وَأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْلَةَ بِنْت سُهَيْل :( أَرْضِعِيهِ ) خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأ وَغَيْره.
وَشَذَّتْ طَائِفَة فَاعْتَبَرَتْ عَشْر رَضَعَات ; تَمَسُّكًا بِأَنَّهُ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ : عَشْر رَضَعَات.
وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغهُمْ النَّاسِخ.
وَقَالَ دَاوُدُ : لَا يَحْرُم إِلَّا بِثَلَاثِ رَضَعَات ; وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تُحَرِّم الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَان ).
خَرَّجَهُ مُسْلِم.
وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عَائِشَة وَابْن الزُّبَيْر، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد، وَهُوَ تَمَسُّك بِدَلِيلِ الْخِطَاب، وَهُوَ مُخْتَلَف فِيهِ.
وَذَهَبَ مَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّة الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ الرَّضْعَة الْوَاحِدَة تُحَرِّم إِذَا تَحَقَّقَتْ كَمَا ذَكَرْنَا ; مُتَمَسِّكِينَ بِأَقَلّ مَا يَنْطَلِق عَلَيْهِ اِسْم الرَّضَاع.
وَعُضِّدَ هَذَا بِمَا وُجِدَ مِنْ الْعَمَل عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الصِّهْر ; بِعِلَّةِ أَنَّهُ مَعْنًى طَارِئ يَقْتَضِي تَأْبِيد التَّحْرِيم فَلَا يُشْتَرَط فِيهِ الْعَدَد كَالصِّهْرِ.
وَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد : وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ قَلِيل الرَّضَاع وَكَثِيره يُحَرِّم فِي الْمَهْد مَا يُفَطِّرُ الصَّائِم.
قَالَ أَبُو عُمَر.
لَمْ يَقِف اللَّيْث عَلَى الْخِلَاف فِي ذَلِكَ.
قُلْت : وَأَنَصُّ مَا فِي هَذَا الْبَاب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا تُحَرِّم الْمَصَّة وَلَا الْمَصَّتَانِ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه.
وَهُوَ يُفَسِّر مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :" وَأُمَّهَاتكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ " أَيْ أَرْضَعْنَكُمْ ثَلَاث رَضَعَات فَأَكْثَرَ ; غَيْر أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَل عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَتَحَقَّق وُصُولُهُ إِلَى جَوْف الرَّضِيع ; لِقَوْلِهِ :" عَشْر رَضَعَات مَعْلُومَات.
وَخَمْس رَضَعَات مَعْلُومَات ".
فَوَصْفُهَا بِالْمَعْلُومَاتِ إِنَّمَا هُوَ تَحَرُّز مِمَّا يُتَوَهَّم أَوْ يُشَكُّ فِي وُصُوله إِلَى الْجَوْف.
وَيُفِيد دَلِيل خِطَابه أَنَّ الرَّضَعَات إِذَا كَانَتْ غَيْر مَعْلُومَات لَمْ تُحَرِّم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيّ أَنَّ حَدِيث الْإِمْلَاجَة والْإمْلَاجَتَيْنِ لَا يَثْبُت ; لِأَنَّهُ مَرَّة يَرْوِيهِ اِبْن الزُّبَيْر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَرَّة يَرْوِيهِ عَنْ عَائِشَة، وَمَرَّة يَرْوِيهِ عَنْ أَبِيهِ ; وَمِثْل هَذَا الِاضْطِرَاب يُسْقِطُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة أَنَّهُ لَا يُحَرِّم إِلَّا سَبْع رَضَعَات.
وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا أَمَرَتْ أُخْتَهَا " أُمّ كُلْثُوم " أَنْ تُرْضِعَ سَالِمَ بْن عَبْد اللَّه عَشْر رَضَعَات.
وَرُوِيَ عَنْ حَفْصَة مِثْله، وَرُوِيَ عَنْهَا ثَلَاث، وَرُوِيَ عَنْهَا خَمْس ; كَمَا قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاق.
قَوْله تَعَالَى :" وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ " اِسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ نَفَى لَبَن الْفَحْل، وَهُوَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَأَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَقَالُوا : لَبَن الْفَحْل لَا يُحَرِّم شَيْئًا مِنْ قِبَلِ الرَّجُل.
وَقَالَ الْجُمْهُور : قَوْله تَعَالَى :" وَأُمَّهَاتكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْفَحْل أَبٌ ; لِأَنَّ اللَّبَن مَنْسُوب إِلَيْهِ فَإِنَّهُ دَرَّ بِسَبَبِ وَلَده.
وَهَذَا ضَعِيف ; فَإِنَّ الْوَلَد خُلِقَ مِنْ مَاء الرَّجُل وَالْمَرْأَة جَمِيعًا، وَاللَّبَن مِنْ الْمَرْأَة وَلَمْ يَخْرُج مِنْ الرَّجُل، وَمَا كَانَ مِنْ الرَّجُل إِلَّا وَطْء هُوَ سَبَب لِنُزُولِ الْمَاء مِنْهُ، وَإِذَا فُصِلَ الْوَلَد خَلَقَ اللَّه اللَّبَن مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون مُضَافًا إِلَى الرَّجُل بِوَجْهٍ مَا ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ حَقّ فِي اللَّبَن، وَإِنَّمَا اللَّبَن لَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَخْذ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَاس عَلَى الْمَاء.
وَقَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَحْرُم مِنْ الرَّضَاع مَا يَحْرُم مِنْ النَّسَب ) يَقْتَضِي التَّحْرِيم مِنْ الرَّضَاع، وَلَا يَظْهَر وَجْه نِسْبَة الرَّضَاع إِلَى الرَّجُل مِثْل ظُهُور نِسْبَة الْمَاء إِلَيْهِ وَالرَّضَاع مِنْهَا.
نَعَمْ، الْأَصْل فِيهِ حَدِيث الزُّهْرِيّ وَهِشَام بْن عُرْوَة عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْس جَاءَ يَسْتَأْذِن عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمّهَا مِنْ الرَّضَاعَة بَعْد أَنْ نَزَلَ الْحِجَاب.
قَالَتْ : فَأَبَيْت أَنْ آذَنَ لَهُ ; فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ فَقَالَ :( لِيَلِجْ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ عَمُّك تَرِبَتْ يَمِينُك ).
وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْس زَوْج الْمَرْأَة الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ; وَهَذَا أَيْضًا خَبَر وَاحِد.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون " أَفْلَحُ " مَعَ أَبِي بَكْر رَضِيعَيْ لِبَان فَلِذَلِكَ قَالَ :( لِيَلِجْ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمّك ).
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْل فِيهِ مُشْكِل وَالْعِلْم عِنْد اللَّه، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ، وَالِاحْتِيَاط فِي التَّحْرِيم أَوْلَى، مَعَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى :" وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ " يُقَوِّي قَوْلَ الْمُخَالِف.
وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ
وَهِيَ الْأُخْت لِأَبٍ وَأُمّ، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أُمّك بِلِبَانِ أَبِيك ; سَوَاء أَرْضَعَتْهَا مَعَك أَوْ وُلِدَتْ قَبْلَك أَوْ بَعْدَك.
وَالْأُخْت مِنْ الْأَب دُون الْأُمّ، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا زَوْجَة أَبِيك.
وَالْأُخْت مِنْ الْأُمّ دُون الْأَب، وَهِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أُمّك بِلِبَانِ رَجُل آخَر.
وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ
ثُمَّ ذَكَرَ التَّحْرِيم بِالْمُصَاهَرَةِ فَقَالَ تَعَالَى :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ " وَالصِّهْر أَرْبَع : أُمّ الْمَرْأَة وَابْنَتهَا وَزَوْجَة الْأَب وَزَوْجَة الِابْن.
فَأُمّ الْمَرْأَة تَحْرُم بِمُجَرَّدِ الْعَقْد الصَّحِيح عَلَى اِبْنَتهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمَعْنَى قَوْل :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ " أَيْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.
" وَرَبَائِبكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُوركُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ".
وَزَعَمُوا أَنَّ شَرْط الدُّخُول رَاجِع إِلَى الْأُمَّهَات وَالرَّبَائِب جَمِيعًا ; رَوَاهُ خِلَاس عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَجَابِر وَزَيْد بْن ثَابِت، وَهُوَ قَوْل اِبْن الزُّبَيْر وَمُجَاهِد.
قَالَ مُجَاهِد : الدُّخُول مُرَاد فِي النَّازِلَتَيْنِ ; وَقَوْل الْجُمْهُور مُخَالِف لِهَذَا وَعَلَيْهِ الْحُكْم وَالْفُتْيَا، وَقَدْ شَدَّدَ أَهْل الْعِرَاق فِيهِ حَتَّى قَالُوا : لَوْ وَطِئَهَا بِزِنًى أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ اِبْنَتهَا.
وَعِنْدَنَا وَعِنْد الشَّافِعِيّ إِنَّمَا تَحْرُمُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيح ; وَالْحَرَام لَا يُحَرِّمُ الْحَلَال عَلَى مَا يَأْتِي.
وَحَدِيث خِلَاس عَنْ عَلِيّ لَا تَقُوم بِهِ حُجَّة، وَلَا تَصِحّ رِوَايَتُهُ عِنْد أَهْل الْعِلْم بِالْحَدِيثِ، وَالصَّحِيح عَنْهُ مِثْل قَوْل الْجَمَاعَة.
قَالَ اِبْن جُرَيْج : قُلْت لِعَطَاءٍ : الرَّجُل يَنْكِح الْمَرْأَة ثُمَّ لَا يَرَاهَا وَلَا يُجَامِعُهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا أَوَتَحِلُّ لَهُ أُمّهَا ؟ قَالَ : لَا، هِيَ مُرْسَلَة دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل.
فَقُلْت لَهُ : أَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقْرَأ :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ " ؟ قَالَ : لَا لَا.
وَرَوَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ " قَالَ : هِيَ مُبْهَمَة لَا تَحِلّ بِالْعَقْدِ عَلَى الِابْنَة ; وَكَذَلِكَ رَوَى مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت، وَفِيهِ :" فَقَالَ زَيْد لَا، الْأُمّ مُبْهَمَة لَيْسَ فِيهَا شَرْط وَإِنَّمَا الشَّرْط فِي الرَّبَائِب ".
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح ; لِدُخُولِ جَمِيع أُمَّهَات النِّسَاء فِي قَوْله تَعَالَى :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ ".
وَيُؤَيِّد هَذَا الْقَوْل مِنْ جِهَة الْإِعْرَاب أَنَّ الْخَبَرَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَامِل لَمْ يَكُنْ نَعْتُهُمَا وَاحِدًا ; فَلَا يَجُوز عِنْد النَّحْوِيِّينَ مَرَرْت بِنِسَائِك وَهَرَبْت مِنْ نِسَاء زَيْد الظَّرِيفَات، عَلَى أَنْ تَكُون " الظَّرِيفَات " نَعْتًا لِنِسَائِك وَنِسَاء زَيْد ; فَكَذَلِكَ الْآيَة لَا يَجُوز أَنْ يَكُون " اللَّاتِي " مِنْ نَعْتِهِمَا جَمِيعًا ; لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَانِ، وَلَكِنَّهُ يَجُوز عَلَى مَعْنَى أَعْنِي.
وَأَنْشَدَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ : ش إِنَّ بِهَا أَكْتَلَ أَوْ رِزَامَا و خُوَيْرَبَيْنِ يَنْقُفَانِ الْهَامَا ش خُوَيْرَبَيْنِ يَعْنِي لِصَّيْنِ، بِمَعْنَى أَعْنِي.
وَيَنْقُفَانِ : يَكْسِرَانِ ; نَقَفْت رَأْسه كَسَرْته.
وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا نَكَحَ الرَّجُل الْمَرْأَة فَلَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج أُمّهَا دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَوْ لَمْ يَدْخُل وَإِذَا تَزَوَّجَ الْأُمّ فَلَمْ يَدْخُل بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَ الْبِنْت ) أَخْرَجَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَثَبَتَ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْرِيم لَيْسَ صِفَة لِلْأَعْيَانِ، وَالْأَعْيَان لَيْسَتْ مَوْرِدًا لِلتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيم وَلَا مَصْدَرًا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّق التَّكْلِيف بِالْأَمْرِ وَالنَّهْي بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَرَكَة وَسُكُون ; لَكِنَّ الْأَعْيَان لَمَّا كَانَتْ مَوْرِدًا لِلْأَفْعَالِ أُضِيفَ الْأَمْر وَالنَّهْي وَالْحُكْم إِلَيْهَا وَعُلِّقَ بِهَا مَجَازًا عَلَى مَعْنَى الْكِنَايَة بِالْمَحِلِّ عَنْ الْفِعْل الَّذِي يَحِلّ بِهِ.
وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
هَذَا مُسْتَقِلّ بِنَفْسِهِ.
وَلَا يَرْجِع قَوْله :" مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ " إِلَى الْفَرِيق الْأَوَّل، بَلْ هُوَ رَاجِع إِلَى الرَّبَائِب، إِذْ هُوَ أَقْرَب مَذْكُور كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالرَّبِيبَة : بِنْت اِمْرَأَة الرَّجُل مِنْ غَيْره ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُرَبِّيهَا فِي حِجْرِهِ فَهِيَ مَرْبُوبَة، فَعِيلَة بِمَعْنَى مَفْعُولَة.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَة تَحْرُم عَلَى زَوْج أُمّهَا إِذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الرَّبِيبَة فِي حِجْره.
وَشَذَّ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَهْل الظَّاهِر فَقَالُوا : لَا تَحْرُم عَلَيْهِ الرَّبِيبَة إِلَّا أَنْ تَكُون فِي حِجْر الْمُتَزَوِّج بِأُمِّهَا ; فَلَوْ كَانَتْ فِي بَلَد آخَر وَفَارَقَ الْأُمّ بَعْد الدُّخُول فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّج بِهَا ; وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ فَقَالُوا : حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى الرَّبِيبَة بِشَرْطَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنْ تَكُون فِي حِجْر الْمُتَزَوِّج بِأُمِّهَا.
وَالثَّانِي : الدُّخُول بِالْأُمِّ ; فَإِذَا عُدِمَ أَحَد الشَّرْطَيْنِ لَمْ يُوجَد التَّحْرِيم.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا اِبْنَة أَخِي مِنْ الرَّضَاعَة ) فَشَرَطَ الْحِجْر.
وَرَوَوْا عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب إِجَازَة ذَلِكَ.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر وَالطَّحَاوِيّ : أَمَّا الْحَدِيث عَنْ عَلِيّ فَلَا يَثْبُت ; لِأَنَّ رَاوِيَهُ إِبْرَاهِيم بْن عُبَيْد عَنْ مَالِك بْن أَوْس عَنْ عَلِيّ، وَإِبْرَاهِيم هَذَا لَا يُعْرَف، وَأَكْثَر أَهْل الْعِلْم قَدْ تَلَقَّوْهُ بِالدَّفْعِ وَالْخِلَاف.
قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَيَدْفَعُهُ قَوْله :( فَلَا تَعْرِضُنَّ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ ) فَعَمَّ.
وَلَمْ يَقُلْ : اللَّائِي فِي حِجْرِي، وَلَكِنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُنَّ فِي التَّحْرِيم.
قَالَ الطَّحَاوِيّ : وَإِضَافَتهنَّ إِلَى الْحُجُور إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الْأَغْلَب مِمَّا يَكُون عَلَيْهِ الرَّبَائِب ; لَا أَنَّهُنَّ لَا يَحْرُمْنَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
يَعْنِي بِالْأُمَّهَاتِ.
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
يَعْنِي فِي نِكَاح بَنَاتهنَّ إِذَا طَلَّقْتُمُوهُنَّ أَوْ مُتْنَ عَنْكُمْ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَة ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَتْ قَبْل أَنْ يَدْخُل بِهَا حَلَّ لَهُ نِكَاح اِبْنَتهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الدُّخُول بِالْأُمَّهَاتِ الَّذِي يَقَع بِهِ تَحْرِيم الرَّبَائِب ; فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الدُّخُول الْجِمَاع ; وَهُوَ قَوْل طَاوُس وَعَمْرو بْن دِينَار وَغَيْرهمَا.
وَاتَّفَقَ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمّهَا وَابْنَتهَا وَحَرُمَتْ عَلَى الْأَب وَالِابْن، وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النَّظَر ; فَقَالَ مَالِك : إِذَا نَظَرَ إِلَى شَعْرِهَا أَوْ صَدْرهَا أَوْ شَيْء مِنْ مَحَاسِنِهَا لِلَذَّةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمّهَا وَابْنَتهَا.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : إِذَا نَظَرَ إِلَى فَرْجِهَا لِلشَّهْوَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ اللَّمْس لِلشَّهْوَةِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيّ : يَحْرُم إِذَا نَظَرَ إِلَى فَرْجهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ لَمَسَهَا ; وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهْوَة.
وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى : لَا تَحْرُم بِالنَّظَرِ حَتَّى يَلْمِسَ ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ.
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ بِالنَّظَرِ يَقَع التَّحْرِيم أَنَّ فِيهِ نَوْعَ اِسْتِمْتَاع فَجَرَى مَجْرَى النِّكَاح ; إِذْ الْأَحْكَام تَتَعَلَّق بِالْمَعَانِي لَا بِالْأَلْفَاظِ.
وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يُقَال : إِنَّهُ نَوْع مِنْ الِاجْتِمَاع بِالِاسْتِمْتَاعِ ; فَإِنَّ النَّظَر اِجْتِمَاع وَلِقَاء، وَفِيهِ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ اِسْتِمْتَاع ; وَقَدْ بَالَغَ فِي ذَلِكَ الشُّعَرَاء فَقَالُوا :
أَلَيْسَ اللَّيْل يَجْمَعُ أُمّ عَمْرٍو | وَإِيَّانَا فَذَاكَ بِنَا تَدَانِ |
نَعَمْ، وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ | وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي |
فَكَيْفَ بِالنَّظَرِ وَالْمُجَالَسَة وَالْمُحَادَثَة وَاللَّذَّة.
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ
الْحَلَائِل جَمْع حَلِيلَة، وَهِيَ الزَّوْجَة.
سُمِّيَتْ حَلِيلَة لِأَنَّهَا تَحُلُّ مَعَ الزَّوْج حَيْثُ حَلَّ ;.
فَهِيَ فَعِيلَة بِمَعْنَى فَاعِلَة.
وَذَهَبَ الزَّجَّاج وَقَوْم إِلَى أَنَّهَا مِنْ لَفْظَة الْحَلَال ; فَهِيَ حَلِيلَة بِمَعْنَى مُحَلَّلَة.
وَقِيلَ : لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يَحُلُّ إِزَارَ صَاحِبِهِ.
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْآبَاء عَلَى الْأَبْنَاء، وَمَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْأَبْنَاء عَلَى الْآبَاء، كَانَ مَعَ الْعَقْد وَطْء أَوْ لَمْ يَكُنْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاء " وَقَوْله تَعَالَى :" وَحَلَائِلُ أَبِتَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابكُمْ " ; فَإِنْ نَكَحَ أَحَدهمَا نِكَاحًا فَاسِدًا حَرُمَ عَلَى الْآخَر الْعَقْد عَلَيْهَا كَمَا يَحْرُم بِالصَّحِيحِ ; لِأَنَّ النِّكَاح الْفَاسِد لَا يَخْلُو : إِمَّا أَنْ يَكُون مُتَّفَقًا عَلَى فَسَاده أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ.
فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَاده لَمْ يُوجِب حُكْمًا وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَيَتَعَلَّق بِهِ مِنْ الْحُرْمَة مَا يَتَعَلَّق بِالصَّحِيحِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون نِكَاحًا فَيَدْخُل تَحْت مُطْلَق اللَّفْظ.
وَالْفُرُوج إِذَا تَعَارَضَ فِيهَا التَّحْرِيم وَالتَّحْلِيل غَلَبَ التَّحْرِيم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاء الْأَمْصَار عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا وَطِئَ اِمْرَأَة بِنِكَاحٍ فَاسِد أَنَّهَا تَحْرُم عَلَى أَبِيهِ وَابْنه وَعَلَى أَجْدَاده وَوَلَد وَلَده.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء وَهِيَ الْمَسْأَلَة :
عَلَى أَنَّ عَقْد الشِّرَاء عَلَى الْجَارِيَة لَا يُحَرِّمهَا عَلَى أَبِيهِ وَابْنه ; فَإِذَا اِشْتَرَى الرَّجُل جَارِيَة فَلَمَسَ أَوْ قَبَّلَ حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنه، لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ; فَوَجَبَ تَحْرِيم ذَلِكَ تَسْلِيمًا لَهُمْ.
وَلَمَّا اِخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمهَا بِالنَّظَرِ دُون اللَّمْس لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِهِمْ.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَا يَصِحّ عَنْ أَحَد مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَاف مَا قُلْنَاهُ.
وَقَالَ يَعْقُوب وَمُحَمَّد : إِذَا نَظَرَ رَجُل فِي فَرْج اِمْرَأَة مِنْ شَهْوَة حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنه، وَتَحْرُم عَلَيْهِ أُمّهَا وَابْنَتهَا.
وَقَالَ مَالِك : إِذَا وَطِئَ الْأَمَة أَوْ قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدًا لِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَيْهَا، أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ بَاشَرَهَا أَوْ غَمَزَهَا تَلَذُّذًا فَلَا تَحِلّ لِابْنِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنَّمَا تَحْرُم بِاللَّمْسِ وَلَا تَحْرُم بِالنَّظَرِ دُون اللَّمْس ; وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ :
وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَطْء بِالزِّنَى هَلْ يُحَرِّم أَمْ لَا ; فَقَالَ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم : لَوْ أَصَابَ رَجُل اِمْرَأَة بِزِنًى لَمْ يَحْرُم عَلَيْهِ نِكَاحُهَا بِذَلِكَ ; وَكَذَلِكَ لَا تَحْرُم عَلَيْهِ اِمْرَأَته إِذَا زَنَى بِأُمِّهَا أَوْ بِابْنَتِهَا، وَحَسْبُهُ أَنْ يُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ، ثُمَّ يَدْخُل بِامْرَأَتِهِ.
وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ أَرَادَ نِكَاح أُمّهَا أَوْ اِبْنَتهَا لَمْ تَحْرُمَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
وَقَالَتْ طَائِفَة : تَحْرُم عَلَيْهِ.
رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْن ; وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيّ وَعَطَاء وَالْحَسَن وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي، وَرُوِيَ عَنْ مَالِك ; وَأَنَّ الزِّنَى يُحَرِّم الْأُمّ وَالِابْنَة وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَلَال، وَهُوَ قَوْل أَهْل الْعِرَاق.
وَالصَّحِيح مِنْ قَوْل مَالِك وَأَهْل الْحِجَاز : أَنَّ الزِّنَى لَا حُكْم لَهُ ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ :" وَأُمَّهَات نِسَائِكُمْ " وَلَيْسَتْ الَّتِي زَنَى بِهَا مِنْ أُمَّهَات نِسَائِهِ، وَلَا اِبْنَتهَا مِنْ رَبَائِبِهِ.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر.
لِأَنَّهُ لَمَّا اِرْتَفَعَ الصَّدَاق فِي الزِّنَى وَوُجُوب الْعِدَّة وَالْمِيرَاث وَلُحُوق الْوَلَد وَوُجُوب الْحَدّ اِرْتَفَعَ أَنْ يُحْكَم لَهُ بِحُكْمِ النِّكَاح الْجَائِز.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُل زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجهَا أَوْ اِبْنَتهَا فَقَالَ :( لَا يُحَرِّم الْحَرَامُ الْحَلَالَ إِنَّمَا يُحَرِّم مَا كَانَ بِنِكَاحٍ ).
وَمِنْ الْحُجَّة لِلْقَوْلِ الْآخَر إِخْبَار النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُرَيْج وَقَوْله :( يَا غُلَام مَنْ أَبُوك ) قَالَ : فُلَان الرَّاعِي.
فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الزِّنَى يُحَرِّم كَمَا يُحَرِّم الْوَطْء الْحَلَال ; فَلَا تَحِلّ أُمّ الْمَزْنِيّ بِهَا وَلَا بَنَاتهَا لِآبَاءِ الزَّانِي وَلَا لِأَوْلَادِهِ ; وَهِيَ رِوَايَة اِبْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة.
وَيُسْتَدَلّ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَة مِنْ مَاء الزِّنَى لَا تَحِلّ لِلزَّانِي بِأُمِّهَا، وَهُوَ الْمَشْهُور.
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا يَنْظُر اللَّه إِلَى رَجُل نَظَرَ إِلَى فَرْج اِمْرَأَة وَابْنَتِهَا ) وَلَمْ يَفْصِل بَيْنَ الْحَلَال وَالْحَرَام.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا يَنْظُر اللَّه إِلَى مَنْ كَشَفَ قِنَاعَ اِمْرَأَة وَابْنَتهَا ).
قَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّ الْقُبْلَة وَسَائِر وُجُوه الِاسْتِمْتَاع يَنْشُر الْحُرْمَة.
وَقَالَ عَبْد الْمَلِك الْمَاجِشُون : إِنَّهَا تَحِلّ ; وَهُوَ الصَّحِيح لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا " [ الْفُرْقَان : ٥٤ ] يَعْنِي بِالنِّكَاحِ الصَّحِيح، عَلَى مَا يَأْتِي فِي " الْفُرْقَان " بَيَانه.
وَوَجْه التَّمَسُّك مِنْ الْحَدِيث عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَى عَنْ جُرَيْج أَنَّهُ نَسَبَ اِبْن الزِّنَى لِلزَّانِي، وَصَدَّقَ اللَّه نِسْبَتَهُ بِمَا خَرَقَ لَهُ مِنْ الْعَادَة فِي نُطْقِ الصَّبِيّ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِذَلِكَ ; وَأَخْبَرَ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُرَيْج فِي مَعْرِض الْمَدْح وَإِظْهَار كَرَامَته ; فَكَانَتْ تِلْكَ النِّسْبَة صَحِيحَة بِتَصْدِيقِ اللَّه تَعَالَى وَبِإِخْبَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ; فَثَبَتَتْ الْبُنُوَّة وَأَحْكَامهَا.
فَإِنْ قِيلَ : فَيَلْزَم عَلَى هَذَا أَنْ تَجْرِيَ أَحْكَام الْبُنُوَّة وَالْأُبُوَّة مِنْ التَّوَارُث وَالْوِلَايَات وَغَيْر ذَلِكَ، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَوَارُث بَيْنَهُمَا فَلَمْ تَصِحّ تِلْكَ النِّسْبَة ؟
فَالْجَوَاب : إِنَّ ذَلِكَ مُوجِب مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَمَا اِنْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاع مِنْ الْأَحْكَام اِسْتَثْنَيْنَاهُ، وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى أَصْل ذَلِكَ الدَّلِيل، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَاب فِي مَسْأَلَة اللَّائِط ; فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ : لَا يَحْرُم النِّكَاح بِاللِّوَاطِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيّ : إِذَا لَعِبَ بِالصَّبِيِّ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمّه ; وَهُوَ قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل.
قَالَ : إِذَا تَلَوَّطَ بِابْنِ اِمْرَأَته أَوْ أَبِيهَا أَوْ أَخِيهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ اِمْرَأَته.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إِذَا لَاطَ بِغُلَامٍ وَوُلِدَ لِلْمَفْجُورِ بِهِ بِنْتٌ لَمْ يَجُزْ لِلْفَاجِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ; لِأَنَّهَا بِنْت مَنْ قَدْ دَخَلَ بِهِ.
وَهُوَ قَوْل أَحْمَد بْن حَنْبَل.
الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ
تَخْصِيص لِيُخْرِج عَنْهُ كُلّ مَنْ كَانَتْ الْعَرَب تَتَبَنَّاهُ مِمَّنْ لَيْسَ لِلصُّلْبِ.
وَلَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِمْرَأَة زَيْد بْن حَارِثَة قَالَ الْمُشْرِكُونَ : تَزَوَّجَ اِمْرَأَة اِبْنِهِ ! وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام تَبَنَّاهُ ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي " الْأَحْزَاب ".
وَحَرُمَتْ حَلِيلَة الِابْن مِنْ الرَّضَاع وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلصُّلْبِ - بِالْإِجْمَاعِ الْمُسْتَنِد إِلَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( يَحْرُم مِنْ الرَّضَاع مَا يَحْرُم مِنْ النَّسَب ).
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
مَوْضِع " أَنْ " رَفْع عَلَى الْعَطْف عَلَى " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ".
وَالْأُخْتَانِ لَفْظ يَعُمُّ الْجَمِيع بِنِكَاحٍ وَبِمِلْكِ يَمِين.
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى مَنْع جَمْعِهِمَا فِي عَقْد وَاحِد مِنْ النِّكَاح لِهَذِهِ الْآيَة، وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا تَعْرِضُنَّ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ ).
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِين ; فَذَهَبَ كَافَّة الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز الْجَمْع بَيْنهمَا بِالْمِلْكِ فِي الْوَطْء، وَإِنْ كَانَ يَجُوز الْجَمْع بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْك بِإِجْمَاعٍ ; وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة وَابْنَتُهَا صَفْقَة وَاحِدَة.
وَاخْتَلَفُوا فِي عَقْد النِّكَاح عَلَى أُخْت الْجَارِيَة الَّتِي وَطِئَهَا ; فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إِذَا وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِين لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج أُخْتهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : مِلْك الْيَمِين لَا يَمْنَع نِكَاح الْأُخْت.
قَالَ أَبُو عُمَر : مَنْ جَعَلَ عَقْد النِّكَاح كَالشِّرَاءِ أَجَازَهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ كَالْوَطْءِ لَمْ يُجِزْهُ.
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز الْعَقْد عَلَى أُخْت الزَّوْجَة ; لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى :" وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ " يَعْنِي الزَّوْجَتَيْنِ بِعَقْدِ النِّكَاح.
فَقِفْ عَلَى مَا اِجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ يَتَبَيَّنْ لَك الصَّوَاب إِنْ شَاءَ اللَّه.
وَاَللَّه أَعْلَم.
شَذَّ أَهْل الظَّاهِر فَقَالُوا : يَجُوز الْجَمْع بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِين فِي الْوَطْء ; كَمَا يَجُوز الْجَمْع بَيْنهمَا فِي الْمِلْك.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَان فِي الْأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْك الْيَمِين :" حَرَّمَتْهُمَا آيَة وَأَحَلَّتْهُمَا آيَة ".
ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق حَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ قَبِيصَة بْن ذُؤَيْب أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان سُئِلَ عَنْ الْأُخْتَيْنِ مِمَّا مَلَكَتْ الْيَمِين فَقَالَ : لَا آمُرك وَلَا أَنْهَاك أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ.
فَخَرَجَ السَّائِل فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَعْمَر : أَحْسَبُهُ قَالَ عَلِيّ - قَالَ : وَمَا سَأَلْت عَنْهُ عُثْمَان ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا سَأَلَهُ وَبِمَا أَفْتَاهُ ; فَقَالَ لَهُ : لَكِنِّي أَنْهَاك، وَلَوْ كَانَ لِي عَلَيْك سَبِيل ثُمَّ فَعَلْت لَجَعَلْتُك نَكَالًا.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس مِثْل قَوْل عُثْمَان.
وَالْآيَة الَّتِي أَحَلَّتْهُمَا قَوْله تَعَالَى :" وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ".
وَلَمْ يَلْتَفِتْ أَحَد مِنْ أَئِمَّة الْفَتْوَى إِلَى هَذَا الْقَوْل ; لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ تَأْوِيل كِتَاب اللَّه خِلَافَهُ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ تَحْرِيفُ التَّأْوِيلِ.
وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَة : عُمَر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَعَمَّار وَابْن عُمَر وَعَائِشَة وَابْن الزُّبَيْر ; وَهَؤُلَاءِ أَهْل الْعِلْم بِكِتَابِ اللَّه، فَمَنْ خَالَفَهُمْ فَهُوَ مُتَعَسِّف فِي التَّأْوِيل.
وَذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر أَنَّ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ حَرَّمَ الْجَمْع بَيْنهمَا بِالْوَطْءِ، وَأَنَّ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم كَرِهُوا ذَلِكَ، وَجَعَلَ مَالِكًا فِيمَنْ كَرِهَهُ.
وَلَا خِلَاف فِي جَوَاز جَمْعِهِمَا فِي الْمِلْك، وَكَذَلِكَ الْأُمّ وَابْنَتهَا.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيَجِيء مِنْ قَوْل إِسْحَاق أَنْ يُرْجَم الْجَامِع بَيْنهمَا بِالْوَطْءِ، وَتُسْتَقْرَأ الْكَرَاهِيَة مِنْ قَوْل مَالِك : إِنَّهُ إِذَا وَطِئَ وَاحِدَةً ثُمَّ وَطِئَ الْأُخْرَى وَقَفَ عَنْهُمَا حَتَّى يُحَرِّم إِحْدَاهُمَا ; فَلَمْ يُلْزِمْهُ حَدًّا.
قَالَ أَبُو عُمَر :( أَمَّا قَوْل عَلِيّ لَجَعَلْته نَكَالًا ) وَلَمْ يَقُلْ لَحَدَدْته حَدّ الزَّانِي ; فَلِأَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ آيَة أَوْ سُنَّة وَلَمْ يَطَأْ عِنْد نَفْسه حَرَامًا فَلَيْسَ بِزَانٍ بِإِجْمَاعٍ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُعْذَر بِجَهْلِهِ.
وَقَوْل بَعْض السَّلَف فِي الْجَمْع بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِين :( أَحَلَّتْهُمَا آيَة وَحَرَّمَتْهُمَا آيَة ) مَعْلُوم مَحْفُوظ ; فَكَيْفَ يُحَدُّ حَدَّ الزَّانِي مَنْ فَعَلَ مَا فِيهِ مِثْل هَذَا مِنْ الشُّبْهَة الْقَوِيَّة ؟ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء إِذَا كَانَ يَطَأ وَاحِدَة ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَطَأ الْأُخْرَى ; فَقَالَ عَلِيّ وَابْن عُمَر وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : لَا يَجُوز لَهُ وَطْء الثَّانِيَة حَتَّى يَحْرُم فَرْج الْأُخْرَى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْق، أَوْ بِأَنْ يُزَوِّجَهَا.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَفِيهِ قَوْل ثَانٍ لِقَتَادَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَطَأ وَاحِدَة وَأَرَادَ وَطْء الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يَنْوِي تَحْرِيم الْأُولَى عَلَى نَفْسه وَأَلَّا يَقْرَبَهَا، ثُمَّ يُمْسِك عَنْهُمَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَ الْأُولَى الْمُحَرَّمَة، ثُمَّ يَغْشَى الثَّانِيَة.
وَفِيهِ قَوْل ثَالِث : وَهُوَ إِذَا كَانَ عِنْده أُخْتَانِ فَلَا يَقْرَب وَاحِدَة مِنْهُمَا.
هَكَذَا قَالَ الْحَكَم وَحَمَّاد ; وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيّ.
وَمَذْهَب مَالِك : إِذَا كَانَ أُخْتَانِ عِنْد رَجُل بِمِلْكٍ فَلَهُ أَنْ يَطَأ أَيَّتَهمَا شَاءَ، وَالْكَفّ عَنْ الْأُخْرَى مَوْكُول إِلَى أَمَانَته.
فَإِنْ أَرَادَ وَطْء الْأُخْرَى فَيَلْزَمهُ أَنْ يُحَرِّم عَلَى نَفْسه فَرْج الْأُولَى بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ مِنْ إِخْرَاج عَنْ الْمِلْك : إِمَّا بِتَزْوِيجٍ أَوْ بَيْع أَوْ عِتْق إِلَى أَجَل أَوْ كِتَابَة أَوْ إِخْدَام طَوِيل.
فَإِنْ كَانَ يَطَأ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ وَثَبَ عَلَى الْأُخْرَى دُون أَنْ يُحَرِّم الْأُولَى وَقَفَ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ قُرْب إِحْدَاهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ الْأُخْرَى ; وَلَمْ يُوَكَّل ذَلِكَ إِلَى أَمَانَته ; لِأَنَّهُ مُتَّهَم فِيمَنْ قَدْ وَطِئَ ; وَلَمْ يَكُنْ قَبْلُ مُتَّهَمًا إِذْ كَانَ لَمْ يَطَأ إِلَّا الْوَاحِدَة.
وَمَذْهَب الْكُوفِيِّينَ فِي هَذَا الْبَاب : الثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه أَنَّهُ إِنْ وَطِئَ إِحْدَى أَمَتَيْهِ لَمْ يَطَأْ الْأُخْرَى ; فَإِنْ بَاعَ الْأُولَى أَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيْهِ أَمْسَكَ عَنْ الْأُخْرَى ; وَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا دَامَتْ أُخْتهَا فِي الْعِدَّة مِنْ طَلَاق أَوْ وَفَاة.
فَأَمَّا بَعْد اِنْقِضَاء الْعِدَّة فَلَا، حَتَّى يَمْلِكَ فَرْج الَّتِي يَطَأ غَيْره ; وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَالُوا : لِأَنَّ الْمِلْك الَّذِي مَنَعَ وَطْء الْجَارِيَة فِي الِابْتِدَاء مَوْجُود، فَلَا فَرْق بَيْنَ عَوْدَتهَا إِلَيْهِ وَبَيْنَ بَقَائِهَا فِي مِلْكه.
وَقَوْل مَالِك حَسَن ; لِأَنَّهُ تَحْرِيم صَحِيح فِي الْحَال وَلَا يَلْزَم مُرَاعَاة الْمَال ; وَحَسْبُهُ إِذَا حَرُمَ فَرْجُهَا عَلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ بِتَزْوِيجٍ أَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ فِي الْحَال.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْعِتْق ; لِأَنَّهُ لَا يُتَصَرَّف فِيهِ بِحَالٍ ; وَأَمَّا الْمُكَاتَبَة فَقَدْ تَعْجِز فَتَرْجِع إِلَى مِلْكه.
فَإِنْ كَانَ عِنْد رَجُل أَمَة يَطَؤُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتهَا فَفِيهَا فِي الْمَذْهَب ثَلَاثَة أَقْوَال فِي النِّكَاح.
الثَّالِث : فِي الْمُدَوَّنَة أَنَّهُ يُوقَف عَنْهُمَا إِذَا وَقَعَ عَقْد النِّكَاح حَتَّى يُحَرِّم إِحْدَاهُمَا مَعَ كَرَاهِيَة لِهَذَا النِّكَاح ; إِذْ هُوَ عَقْد فِي مَوْضِع لَا يَجُوز فِيهِ الْوَطْء.
وَفِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ مِلْك الْيَمِين لَا يَمْنَع النِّكَاح ; كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الشَّافِعِيّ.
وَفِي الْبَاب بِعَيْنِهِ قَوْل آخَر : أَنَّ النِّكَاح لَا يَنْعَقِد ; وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْأَوْزَاعِيّ.
وَقَالَ أَشْهَب فِي كِتَاب الِاسْتِبْرَاء : عَقْد النِّكَاح فِي الْوَاحِدَة تَحْرِيم لِفَرْجِ الْمَمْلُوكَة.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا طَلَّقَ زَوْجَته طَلَاقًا يَمْلِك رَجْعَتَهَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِح أُخْتهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّة الْمُطَلَّقَة.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَا يَمْلِك رَجْعَتهَا ; فَقَالَتْ طَائِفَة : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتهَا وَلَا رَابِعَة حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّة الَّتِي طَلَّقَ ; وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَزَيْد بْن ثَابِت، وَهُوَ مَذْهَب مُجَاهِد وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَالنَّخَعِيّ، وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَصْحَاب الرَّأْي.
وَقَالَتْ طَائِفَة : لَهُ أَنْ يَنْكِح أُخْتهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا ; وَرُوِيَ عَنْ عَطَاء، وَهِيَ أَثْبَتُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت أَيْضًا ; وَبِهِ قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن وَالْقَاسِم وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَوْل مَالِك وَبِهِ نَقُول.
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
" إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْله :" إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " فِي قَوْله :" وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاء إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ".
وَيَحْتَمِل مَعْنًى زَائِدًا وَهُوَ جَوَاز مَا سَلَفَ، وَأَنَّهُ إِذَا جَرَى الْجَمْع فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَ النِّكَاح صَحِيحًا، وَإِذَا جَرَى فِي الْإِسْلَام خُيِّرَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ; عَلَى مَا قَالَهُ مَالِك وَالشَّافِعِيّ، مِنْ غَيْر إِجْرَاء عُقُود الْكُفَّار عَلَى مُوجِب الْإِسْلَام وَمُقْتَضَى الشَّرْع ; وَسَوَاء عَقَدَ عَلَيْهِمَا عَقْدًا وَاحِدًا جَمَعَ بِهِ بَيْنهمَا أَوْ جَمَعَ بَيْنهمَا فِي عَقْدَيْنِ.
وَأَبُو حَنِيفَة يُبْطِل نِكَاحَهُمَا إِنْ جَمَعَ فِي عَقْد وَاحِد.
وَرَوَى هِشَام بْن عَبْد اللَّه عَنْ مُحَمَّد بْن الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَات كُلّهَا الَّتِي ذَكَرْت فِي هَذِهِ الْآيَة إِلَّا اِثْنَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا نِكَاح اِمْرَأَة الْأَب، وَالثَّانِيَة، الْجَمْع بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ :" وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاء إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ".
" وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " وَلَمْ يَذْكُر فِي سَائِر الْمُحَرَّمَات " إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ".
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ
قَوْله تَعَالَى :" وَالْمُحْصَنَات " عَطْف عَلَى الْمُحَرَّمَات وَالْمَذْكُورَات قَبْل.
وَالتَّحَصُّن : التَّمَنُّع ; وَمِنْهُ الْحِصْن لِأَنَّهُ يُمْتَنَع فِيهِ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة لَبُوس لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ " [ الْأَنْبِيَاء : ٨٠ ] أَيْ لِتَمْنَعَكُمْ ; وَمِنْهُ الْحِصَان لِلْفَرَسِ ( بِكَسْرِ الْحَاء ) لِأَنَّهُ يَمْنَع صَاحِبه مِنْ الْهَلَاك.
وَالْحَصَان ( بِفَتْحِ الْحَاء ) : الْمَرْأَة الْعَفِيفَة لِمَنْعِهَا نَفْسَهَا مِنْ الْهَلَاكِ.
وَحَصُنَتْ الْمَرْأَة تَحْصُن فَهِيَ حَصَانٌ ; مِثْل جَبُنَتْ فَهِيَ جَبَان.
وَقَالَ حَسَّان فِي عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا :
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ | وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ |
وَالْمَصْدَر الْحَصَانَة ( بِفَتْحِ الْحَاء ) وَالْحِصْن كَالْعِلْمِ.
فَالْمُرَاد بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا ذَوَات الْأَزْوَاج ; يُقَال : اِمْرَأَة مُحْصَنَة أَيْ مُتَزَوِّجَة، وَمُحْصَنَة أَيْ حُرَّة ; وَمِنْهُ " وَالْمُحْصَنَات مِنْ الْمُؤْمِنَات وَالْمُحْصَنَات مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " [ الْمَائِدَة : ٥ ].
وَمُحْصَنَة أَيْ عَفِيفة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" مُحْصَنَاتٍ غَيْر مُسَافِحَات " [ النِّسَاء : ٢٥ ] وَقَالَ :" مُحْصِنِينَ غَيْر مُسَافِحِينَ ".
وَمُحْصَنَة وَمُحَصَّنَة وَحَصَان أَيْ عَفِيفَة، أَيْ مُمْتَنِعَة مِنْ الْفِسْق، وَالْحُرِّيَّة تَمْنَع الْحُرَّة مِمَّا يَتَعَاطَاهُ الْعَبِيد.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات " [ النُّور : ٤ ] أَيْ الْحَرَائِر، وَكَانَ عُرْف الْإِمَاء فِي الْجَاهِلِيَّة الزِّنَى ; أَلَا تَرَى إِلَى قَوْل هِنْد بِنْت عُتْبَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَايَعَتْهُ :" وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّة " ؟ وَالزَّوْج أَيْضًا يَمْنَعُ زَوْجَهُ مِنْ أَنْ تَزَوَّجَ غَيْره ; فَبِنَاء ( ح ص ن ) مَعْنَاهُ الْمَنْع كَمَا بَيَّنَّا.
وَيُسْتَعْمَل الْإِحْصَان فِي الْإِسْلَام ; لِأَنَّهُ حَافِظ وَمَانِع، وَلَمْ يَرِد فِي الْكِتَاب وَوَرَدَ فِي السُّنَّة ; وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْإِيمَان قَيْدٌ لِفَتْكٍ ).
وَمِنْهُ قَوْل الْهُذَلِيّ :فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ مَالِكٍ | وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ |
وَقَالَ الشَّاعِر :قَالَتْ هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيث فَقُلْت لَا | يَأْبَى عَلَيْكِ اللَّه وَالْإِسْلَامُ |
وَمِنْهُ قَوْل سُحَيْم :
كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو قِلَابَةَ وَابْن زَيْد وَمَكْحُول وَالزُّهْرِيّ وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ : الْمُرَاد بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْمَسْبِيَّات ذَوَات الْأَزْوَاج خَاصَّة، أَيْ هُنَّ مُحَرَّمَات إِلَّا مَا مَلَكَتْ الْيَمِين بِالسَّبْيِ مِنْ أَرْض الْحَرْب، فَإِنَّ تِلْكَ حَلَال لِلَّذِي تَقَع فِي سَهْمه وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْج.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي أَنَّ السِّبَاء يَقْطَع الْعِصْمَة ; وَقَالَهُ اِبْن وَهْب وَابْن عَبْد الْحَكَم وَرَوَيَاهُ عَنْ مَالِك، وَقَالَ بِهِ أَشْهَب.
يَدُلّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاس فَلَقُوا الْعَدُوّ فَقَاتَلُوهُمْ وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا ; فَكَانَ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْل أَزْوَاجهنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ " وَالْمُحْصَنَات مِنْ النِّسَاء إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ ".
أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلَال إِذَا اِنْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ.
وَهَذَا نَصّ صَحِيح صَرِيح فِي أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَحَرُّج أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَطْء الْمَسْبِيَّات ذَوَات الْأَزْوَاج ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي جَوَابهمْ " إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ ".
وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي اِسْتِبْرَائِهَا بِمَاذَا يَكُون ; فَقَالَ الْحَسَن : كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَبْرِئُونَ الْمَسْبِيَّة بِحَيْضَةٍ ; وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ فِي سَبَايَا أَوْطَاس ( لَا تُوطَأ حَامِل حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِل حَتَّى تَحِيضَ ).
وَلَمْ يَجْعَل لِفِرَاشِ الزَّوْج السَّابِق أَثَرًا حَتَّى يُقَال إِنَّ الْمَسْبِيَّة مَمْلُوكَة وَلَكِنَّهَا كَانَتْ زَوْجَة زَالَ نِكَاحهَا فَتَعْتَدُّ عِدَّة الْإِمَاء، عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْحَسَن بْن صَالِح قَالَ : عَلَيْهَا الْعِدَّة حَيْضَتَانِ إِذَا كَانَ لَهَا زَوْج فِي دَار الْحَرْب.
وَكَافَّة الْعُلَمَاء رَأَوْا اِسْتِبْرَاءَهَا وَاسْتِبْرَاء الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا وَاحِدًا فِي أَنَّ الْجَمِيع بِحَيْضَةٍ وَاحِدَة.
وَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ لَا فَرْق بَيْنَ أَنْ يُسْبَى الزَّوْجَانِ مُجْتَمِعَيْنِ أَوْ مُتَفَرِّقَيْنِ.
وَرَوَى عَنْهُ اِبْن بُكَيْر أَنَّهُمَا إِنْ سُبِيَا جَمِيعًا وَاسْتُبْقِيَ الرَّجُل أُقِرَّا عَلَى نِكَاحِهِمَا ; فَرَأَى فِي هَذِهِ الرِّوَايَة أَنَّ اِسْتِبْقَاءَهُ إِبْقَاء لِمَا يَمْلِكُهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ عَهْد وَزَوْجَتُهُ مِنْ جُمْلَة مَا يَمْلِكُهُ، فَلَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ، وَبِهِ قَالَ اِبْن الْقَاسِم وَرَوَاهُ عَنْ مَالِك.
وَالصَّحِيح الْأَوَّل ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ ; وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :( إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ ) فَأَحَالَ عَلَى مِلْك الْيَمِين وَجَعَلَهُ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فَيَتَعَلَّق الْحُكْم بِهِ مِنْ حَيْثُ الْعُمُوم وَالتَّعْلِيل جَمِيعًا، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيل.
وَفِي الْآيَة قَوْل ثَانٍ قَالَهُ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن وَأُبَيّ بْن كَعْب وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة عِكْرِمَة : أَنَّ الْمُرَاد بِالْآيَةِ ذَوَات الْأَزْوَاج، أَيْ فَهُنَّ حَرَام إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُل الْأَمَة ذَات الزَّوْج فَإِنَّ بَيْعَهَا طَلَاقهَا وَالصَّدَقَة بِهَا طَلَاقهَا وَأَنْ تُورَث طَلَاقهَا وَتَطْلِيق الزَّوْج طَلَاقهَا.
قَالَ اِبْن مَسْعُود : فَإِذَا بِيعَتْ الْأَمَة وَلَهَا زَوْج فَالْمُشْتَرِي أَحَقّ بِبُضْعِهَا وَكَذَلِكَ الْمَسْبِيَّة ; كُلّ ذَلِكَ مُوجِب لِلْفُرْقَةِ بَيْنهَا وَبَيْنَ زَوْجهَا.
قَالُوا : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدّ أَنْ يَكُون بَيْع الْأَمَة طَلَاقًا لَهَا ; لِأَنَّ الْفَرْج مُحَرَّم عَلَى اِثْنَيْنِ فِي حَال وَاحِدَة بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
قُلْت : وَهَذَا يَرُدُّهُ حَدِيث بَرِيرَة ; لِأَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اِشْتَرَتْ بَرِيرَة وَأَعْتَقَتْهَا ثُمَّ خَيَّرَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ ذَات زَوْج ; وَفِي إِجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّ بَرِيرَة قَدْ خُيِّرَتْ تَحْت زَوْجِهَا مُغِيث بَعْد أَنْ اِشْتَرَتْهَا عَائِشَة فَأَعْتَقَتْهَا لَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْع الْأَمَة لَيْسَ طَلَاقَهَا ; وَعَلَى ذَلِكَ جَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْ أَهْل الرَّأْي وَالْحَدِيث، وَأَلَّا طَلَاق لَهَا إِلَّا الطَّلَاق.
وَقَدْ اِحْتَجَّ بَعْضهمْ بِعُمُومِ قَوْله :" إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " وَقِيَاسًا عَلَى الْمَسْبِيَّات.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيث بَرِيرَة يَخُصُّهُ وَيَرُدُّهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ خَاصّ بِالْمَسْبِيَّاتِ عَلَى حَدِيث أَبِي سَعِيد، وَهُوَ الصَّوَاب وَالْحَقّ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَفِي الْآيَة قَوْل ثَالِث : رَوَى الثَّوْرِيّ عَنْ مُجَاهِد عَنْ إِبْرَاهِيم قَالَ اِبْن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى :" وَالْمُحْصَنَات مِنْ النِّسَاء إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " قَالَ : ذَوَات الْأَزْوَاج مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : ذَوَات الْأَزْوَاج مِنْ الْمُشْرِكِينَ.
وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب " وَالْمُحْصَنَات مِنْ النِّسَاء " هُنَّ ذَوَات الْأَزْوَاج ; وَيَرْجِع ذَلِكَ إِلَى أَنَّ اللَّه حَرَّمَ الزِّنَى.
وَقَالَتْ طَائِفَة : الْمُحْصَنَات فِي هَذِهِ الْآيَة يُرَاد بِهِ الْعَفَائِف، أَيْ كُلّ النِّسَاء حَرَام.
وَأَلْبَسَهُنَّ اِسْم الْإِحْصَان مَنْ كَانَ مِنْهُنَّ ذَات زَوْج أَوْ غَيْر ذَات زَوْج ; إِذْ الشَّرَائِع فِي أَنْفُسِهَا تَقْتَضِي ذَلِكَ.
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
قَالُوا : مَعْنَاهُ بِنِكَاحٍ أَوْ شِرَاء.
هَذَا قَوْل أَبِي الْعَالِيَة وَعَبِيدَة السَّلْمَانِيّ وَطَاوُس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء، وَرَوَاهُ عَبِيدَة عَنْ عُمَر ; فَأَدْخَلُوا النِّكَاح تَحْت مِلْك الْيَمِين، وَيَكُون مَعْنَى الْآيَة عِنْدهمْ فِي قَوْله تَعَالَى :" إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ " يَعْنِي تَمْلِكُونَ عِصْمَتَهُنَّ بِالنِّكَاحِ وَتَمْلِكُونَ الرَّقَبَةَ بِالشِّرَاءِ، فَكَأَنَّهُنَّ كُلَّهُنَّ مِلْك يَمِين وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَزِنًى، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ.
وَقَدْ قَالَ اِبْن عَبَّاس :" الْمُحْصَنَات " الْعَفَائِف مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْل الْكِتَاب.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَبِهَذَا التَّأْوِيل يَرْجِع مَعْنَى الْآيَة إِلَى تَحْرِيم الزِّنَى ; وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِسَعِيدِ بْن جُبَيْر : أَمَا رَأَيْت اِبْن عَبَّاس حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَة فَلَمْ يَقُلْ فِيهَا شَيْئًا ؟ فَقَالَ سَعِيد : كَانَ اِبْن عَبَّاس لَا يَعْلَمهَا.
وَأَسْنَدَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَالَ : لَوْ أَعْلَم مَنْ يُفَسِّر لِي هَذِهِ الْآيَة لَضَرَبْت إِلَيْهِ أَكْبَاد الْإِبِل : قَوْله " وَالْمُحْصَنَات " إِلَى قَوْله " حَكِيمًا ".
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَا أَدْرِي كَيْفَ نُسِبَ هَذَا الْقَوْل إِلَى اِبْن عَبَّاس وَلَا كَيْفَ اِنْتَهَى مُجَاهِد إِلَى هَذَا الْقَوْل ؟
كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر الْمُؤَكَّد، أَيْ حُرِّمَتْ هَذِهِ النِّسَاء كِتَابًا مِنْ اللَّه عَلَيْكُمْ.
وَمَعْنَى " حُرِّمْت عَلَيْكُمْ " كَتَبَ اللَّه عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ الزَّجَّاج وَالْكُوفِيُّونَ : هُوَ نَصْب عَلَى الْإِغْرَاء، أَيْ اِلْزَمُوا كِتَاب اللَّه، أَوْ عَلَيْكُمْ كِتَاب اللَّه.
وَفِيهِ نَظَرٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ ; فَإِنَّ الْإِغْرَاء لَا يَجُوز فِيهِ تَقْدِيم الْمَنْصُوب عَلَى حَرْف الْإِغْرَاء، فَلَا يُقَال : زَيْدًا عَلَيْك، أَوْ زَيْدًا دُونَك ; بَلْ يُقَال : عَلَيْك زَيْدًا وَدُونَك عَمْرًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيح عَلَى أَنَّهُ يَكُون مَنْصُوبًا بِ " عَلَيْكُمْ " إِشَارَةً إِلَى مَا ثَبَتَ فِي الْقُرْآن مِنْ قَوْله تَعَالَى :" مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاع " [ النِّسَاء : ٣ ] وَفِي هَذَا بُعْد ; وَالْأَظْهَر أَنَّ قَوْله :" كِتَاب اللَّه عَلَيْكُمْ " إِنَّمَا هُوَ إِشَارَة إِلَى التَّحْرِيم الْحَاجِز بَيْنَ النَّاس وَبَيْنَ مَا كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُ.
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَعَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص " وَأُحِلَّ لَكُمْ " رَدًّا عَلَى " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ".
الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ رَدًّا عَلَى قَوْله تَعَالَى :" كِتَابَ اللَّه عَلَيْكُمْ ".
وَهَذَا يَقْتَضِي أَلَّا يَحْرُم مِنْ النِّسَاء إِلَّا مَنْ ذُكِرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَى لِسَان نَبِيِّهِ مَنْ لَمْ يُذْكَر فِي الْآيَة فَيُضَمُّ إِلَيْهَا، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " [ الْحَشْر : ٧ ].
رَوَى مُسْلِم وَغَيْره عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" لَا يُجْمَع بَيْنَ الْمَرْأَة وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَة وَخَالَتهَا ).
وَقَالَ اِبْن شِهَاب : فَنَرَى خَالَة أَبِيهَا وَعَمَّة أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَة، وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ تَحْرِيم الْجَمْع بَيْنَ الْمَرْأَة وَعَمَّتهَا وَخَالَتهَا مُتَلَقًّى مِنْ الْآيَة نَفْسهَا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى حَرَّمَ الْجَمْع بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَالْجَمْع بَيْنَ الْمَرْأَة وَعَمَّتِهَا فِي مَعْنَى الْجَمْع بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ; أَوْ لِأَنَّ الْخَالَة فِي مَعْنَى الْوَالِدَة وَالْعَمَّة فِي مَعْنَى الْوَالِد.
وَالصَّحِيح الْأَوَّل ; لِأَنَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة كَالشَّيْءِ الْوَاحِد ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَحْلَلْت لَكُمْ مَا وَرَاء مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَاب، وَمَا وَرَاء مَا أَكْمَلْت بِهِ الْبَيَان عَلَى لِسَان مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوْل اِبْن شِهَاب :" فَنَرَى خَالَة أَبِيهَا وَعَمَّة أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَة " إِنَّمَا صَارَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَمَلَ الْخَالَة وَالْعَمَّة عَلَى الْعُمُوم وَتَمَّ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْعَمَّة اِسْم لِكُلِّ أُنْثَى شَارَكَتْ أَبَاك فِي أَصْلَيْهِ أَوْ فِي أَحَدهمَا وَالْخَالَة كَذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا وَلَا الْعَمَّة عَلَى بِنْت أَخِيهَا وَلَا الْمَرْأَة عَلَى خَالَتهَا وَلَا الْخَالَة عَلَى بِنْت أُخْتهَا وَلَا تُنْكَح الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى ).
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُجْمَع بَيْنَ الْعَمَّة وَالْخَالَة وَبَيْنَ الْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ.
الرِّوَايَة " لَا يُجْمَع " بِرَفْعِ الْعَيْن عَلَى الْخَبَر عَلَى الْمَشْرُوعِيَّة فَيَتَضَمَّن النَّهْي عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيث مُجْمَع عَلَى الْعَمَل بِهِ فِي تَحْرِيم الْجَمْع بَيْنَ مَنْ ذُكِرَ فِيهِ بِالنِّكَاحِ.
وَأَجَازَ الْخَوَارِج الْجَمْع بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَبَيْنَ الْمَرْأَة وَعَمَّتهَا وَخَالَتهَا، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ لِأَنَّهُمْ مَرَقُوا مِنْ الدِّين وَخَرَجُوا مِنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَة.
وَقَوْله :( لَا يُجْمَع بَيْنَ الْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ ) فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى بَعْض أَهْل الْعِلْم وَتَحَيَّرَ فِي مَعْنَاهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى مَا يَبْعُد أَوْ لَا يَجُوز ; فَقَالَ : مَعْنَى بَيْنَ الْعَمَّتَيْنِ عَلَى الْمَجَاز، أَيْ بَيْنَ الْعَمَّة وَبِنْت أَخِيهَا ; فَقِيلَ لَهُمَا : عَمَّتَانِ، كَمَا قِيلَ : سُنَّة الْعُمَرَيْنِ أَبِي بَكْر وَعُمَر ; قَالَ : وَبَيْنَ الْخَالَتَيْنِ مِثْله.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا مِنْ التَّعَسُّف الَّذِي لَا يَكَاد يُسْمَع بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا مَعَ التَّعَسُّف أَنَّهُ يَكُون كَلَامًا مُكَرَّرًا لِغَيْرِ فَائِدَة ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى نَهَى أَنْ يُجْمَع بَيْنَ الْعَمَّة وَبِنْت أَخِيهَا وَبَيْنَ الْعَمَّتَيْنِ يَعْنِي بِهِ الْعَمَّة وَبِنْت أَخِيهَا صَارَ الْكَلَام مُكَرَّرًا لِغَيْرِ فَائِدَة ; وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُون وَبَيْنَ الْخَالَة، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَدِيث ; لِأَنَّ الْحَدِيث ( نَهَى أَنْ يُجْمَع بَيْنَ الْعَمَّة وَالْخَالَة ).
فَالْوَاجِب عَلَى لَفْظ الْحَدِيث أَلَّا يُجْمَع بَيْنَ اِمْرَأَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَمَّة الْأُخْرَى وَالْأُخْرَى خَالَة الْأُخْرَى.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى مَعْنًى صَحِيح، يَكُون رَجُل وَابْنه تَزَوَّجَا اِمْرَأَة وَابْنَتهَا ; تَزَوَّجَ الرَّجُل الْبِنْت وَتَزَوَّجَ الِابْن الْأُمّ فَوُلِدَ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا اِبْنَة مِنْ هَاتَيْنِ الزَّوْجَتَيْنِ ; فَابْنَة الْأَب عَمَّة اِبْنَة الِابْن، وَابْنَة الِابْن خَالَة اِبْنَة الْأَب.
وَأَمَّا الْجَمْع بَيْنَ الْخَالَتَيْنِ فَهَذَا يُوجِب أَنْ يَكُونَا اِمْرَأَتَيْنِ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا خَالَة الْأُخْرَى ; وَذَلِكَ أَنْ يَكُون رَجُل تَزَوَّجَ اِبْنَة رَجُل وَتَزَوَّجَ الْآخَر اِبْنَتَهُ، فَوُلِدَ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا اِبْنَة، فَابْنَة كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا خَالَة الْأُخْرَى.
وَأَمَّا الْجَمْع بَيْنَ الْعَمَّتَيْنِ فَيُوجِب أَلَّا يُجْمَع بَيْنَ اِمْرَأَتَيْنِ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَمَّة الْأُخْرَى ; وَذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّج رَجُل أُمّ رَجُل وَيَتَزَوَّج الْآخَر أُمّ الْآخَر، فَيُولَد لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا اِبْنَة فَابْنَة كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَمَّة الْأُخْرَى ; فَهَذَا مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَى لِسَان رَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآن.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ عَقَدَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ يَحْرُم الْجَمْع بَيْنَهُنَّ عَقْدًا حَسَنًا ; فَرَوَى مُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان عَنْ فُضَيْل بْن مَيْسَرَة عَنْ أَبِي جَرِير عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ : كُلّ اِمْرَأَتَيْنِ إِذَا جَعَلْت مَوْضِع إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج الْأُخْرَى فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بَاطِل.
فَقُلْت لَهُ : عَمَّنْ هَذَا ؟ قَالَ : عَنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : تَفْسِيره عِنْدَنَا أَنْ يَكُون مِنْ النَّسَب، وَلَا يَكُون بِمَنْزِلَةِ اِمْرَأَة وَابْنَة زَوْجهَا يُجْمَع بَيْنهمَا إِنْ شَاءَ.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا عَلَى مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَسَائِر فُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْ أَهْل الْحَدِيث وَغَيْرهمْ فِيمَا عَلِمْت لَا يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا الْأَصْل.
وَقَدْ كَرِهَ قَوْم مِنْ السَّلَف أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُل بَيْنَ اِبْنَة رَجُل وَامْرَأَته مِنْ أَجْل أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ كَانَ ذَكَرًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ نِكَاح الْأُخْرَى.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا بَأْس بِذَلِكَ، وَأَنَّ الْمُرَاعَى النَّسَب دُون غَيْره مِنْ الْمُصَاهَرَةِ ; ثُمَّ وَرَدَ فِي بَعْض الْأَخْبَار التَّنْبِيه عَلَى الْعِلَّة فِي مَنْع الْجَمْع بَيْنَ مَنْ ذُكِرَ، وَذَلِكَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ الْجَمْع مِنْ قَطْع الْأَرْحَام الْقَرِيبَة مِمَّا يَقَع بَيْنَ الضَّرَائِر مِنْ الشَّنَآن وَالشُّرُور بِسَبَبِ الْغَيْرَة ; فَرَوَى اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّج الرَّجُل الْمَرْأَة عَلَى الْعَمَّة أَوْ عَلَى الْخَالَة، وَقَالَ :( إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ ) ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّد الْأَصِيلِيّ فِي فَوَائِده وَابْن عَبْد الْبَرّ وَغَيْرهمَا.
وَمِنْ مَرَاسِيل أَبِي دَاوُدَ عَنْ حُسَيْن بْن طَلْحَة قَالَ : نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَح الْمَرْأَة عَلَى أَخَوَاتهَا مَخَافَة الْقَطِيعَة ; وَقَدْ طَرَدَ بَعْضُ السَّلَفِ هَذِهِ الْعِلَّةَ فَمَنَعَ الْجَمْع بَيْنَ الْمَرْأَة وَقَرِيبَتهَا، وَسَوَاء كَانَتْ بِنْت عَمّ أَوْ بِنْت خَال أَوْ بِنْت خَالَة ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ إِسْحَاق بْن طَلْحَة وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَعَطَاء فِي رِوَايَة اِبْن أَبِي نَجِيح، وَرَوَى عَنْهُ اِبْن جُرَيْج أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيح.
وَقَدْ نَكَحَ حَسَن بْن حُسَيْن بْن عَلِيّ فِي لَيْلَة وَاحِدَة اِبْنَةَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ وَابْنَة عُمَر بْن عَلِيّ فَجَمَعَ بَيْنَ اِبْنَتَيْ عَمّ ; ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق.
زَادَ اِبْن عُيَيْنَة : فَأَصْبَحَ نِسَاؤُهُمْ لَا يَدْرِينَ إِلَى أَيَّتِهِمَا يَذْهَبْنَ ; وَقَدْ كَرِهَ مَالِك هَذَا، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْده.
وَفِي سَمَاع اِبْن الْقَاسِم : سُئِلَ مَالِك عَنْ اِبْنَتَيْ الْعَمّ أَيُجْمَعُ بَيْنهمَا ؟ فَقَالَ : مَا أَعْلَمُهُ حَرَامًا.
قِيلَ لَهُ : أَفَتَكْرَهُهُ ؟ قَالَ : إِنَّ نَاسًا لَيَتَّقُونَهُ ; قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَهُوَ حَلَال لَا بَأْس بِهِ.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا أَعْلَم أَحَدًا أَبْطَلَ هَذَا النِّكَاح.
وَهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي جُمْلَة مَا أُبِيحَ بِالنِّكَاحِ غَيْر خَارِجَتَيْنِ مِنْهُ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّة وَلَا إِجْمَاع، وَكَذَلِكَ الْجَمْع بَيْنَ اِبْنَتَيْ عَمَّة وَابْنَتَيْ خَالَة.
وَقَالَ السُّدِّيّ فِي قَوْله تَعَالَى :" وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ " : يَعْنِي النِّكَاح فِيمَا دُون الْفَرْج.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَوَات الْمَحَارِم مِنْ أَقْرِبَائِكُمْ.
قَتَادَة : يَعْنِي بِذَلِكَ مِلْك الْيَمِين خَاصَّة.
أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
" أَنْ تَبْغَتُوا بِأَمْوَالِكُمْ " لَفْظ يَجْمَع التَّزَوُّج وَالسِّرَاء.
وَ " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب بَدَل مِنْ " مَا "، وَعَلَى قِرَاءَة حَمْزَة فِي مَوْضِع رَفْع ; وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى لِأَنْ، أَوْ بِأَنْ ; فَتُحْذَف اللَّام أَوْ الْبَاء فَيَكُون فِي مَوْضِع نَصْب.
و " مُحْصِنِينَ " نُصِبَ عَلَى الْحَال، وَمَعْنَاهُ مُتَعَفِّفِينَ عَنْ الزِّنَى.
" غَيْر مُسَافِحِينَ " أَيْ غَيْر زَانِينَ.
وَالسِّفَاح الزِّنَى، وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ سَفْح الْمَاء، أَيْ صَبُّهُ وَسَيَلَانه ; وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ الدِّفَاف فِي عُرْس :( هَذَا النِّكَاح لَا السِّفَاح وَلَا نِكَاح السِّرّ ).
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْله " مُحْصِنِينَ غَيْر مُسَافِحِينَ " يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الْإِحْصَان بِعَقْدِ النِّكَاح، تَقْدِيره اُطْلُبُوا مَنَافِع الْبُضْع بِأَمْوَالِكُمْ عَلَى وَجْه النِّكَاح لَا عَلَى وَجْه السِّفَاح ; فَيَكُون لِلْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْه عُمُوم.
وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال :" مُحْصِنِينَ " أَيْ الْإِحْصَان صِفَة لَهُنَّ، وَمَعْنَاهُ لِتَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى شَرْط الْإِحْصَان فِيهِنَّ ; وَالْوَجْه الْأَوَّل أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ جَرْيُ الْآيَة عَلَى عُمُومهَا وَالتَّعَلُّق بِمُقْتَضَاهَا فَهُوَ أَوْلَى ; وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الْوَجْه الثَّانِي أَنَّ الْمُسَافِحَات لَا يَحِلّ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ، وَذَلِكَ خِلَاف الْإِجْمَاع.
قَوْله تَعَالَى :" بِأَمْوَالِكُمْ " أَبَاحَ اللَّه تَعَالَى الْفُرُوج بِالْأَمْوَالِ وَلَمْ يَحْصُلْ، فَوَجَبَ إِذَا حَصَلَ بِغَيْرِ الْمَال أَلَّا تَقَعَ الْإِبَاحَة بِهِ ; لِأَنَّهَا عَلَى غَيْر الشَّرْط الْمَأْذُون فِيهِ، كَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَى خَمْر أَوْ خِنْزِير أَوْ مَا لَا يَصِحّ تَمَلُّكُهُ.
وَيَرُدّ عَلَى أَحْمَد قَوْله فِي أَنَّ الْعِتْق يَكُون صَدَاقًا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَسْلِيم مَال وَإِنَّمَا فِيهِ إِسْقَاط الْمِلْك مِنْ غَيْر أَنْ اِسْتَحَقَّتْ بِهِ تَسْلِيم مَال إِلَيْهَا ; فَإِنَّ الَّذِي كَانَ يَمْلِكهُ الْمَوْلَى مِنْ عِنْده لَمْ يَنْتَقِل إِلَيْهَا وَإِنَّمَا سَقَطَ.
فَإِذَا لَمْ يُسَلِّم الزَّوْج إِلَيْهَا شَيْئًا وَلَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَتْلَفَ بِهِ مِلْكَهُ، لَمْ يَكُنْ مَهْرًا.
وَهَذَا بَيِّنٌ مَعَ قَوْله تَعَالَى :" وَآتُوا النِّسَاء " [ النِّسَاء : ٤ ] وَذَلِكَ أَمْر يَقْتَضِي الْإِيجَاب، وَإِعْطَاء الْعِتْق لَا يَصِحّ.
وَقَوْله تَعَالَى :" فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْء مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ " [ النِّسَاء : ٤ ] وَذَلِكَ مُحَال فِي الْعِتْق، فَلَمْ يَبْقَ أَنْ يَكُون الصَّدَاق إِلَّا مَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" بِأَمْوَالِكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٤ ] اِخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ فِي قَدْر ذَلِكَ ; فَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيّ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى :" بِأَمْوَالِكُمْ " فِي جَوَاز الصَّدَاق بِقَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَهُوَ الصَّحِيح ; وَيُعَضِّدُهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث الْمَوْهُوبَة ( وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيد ).
وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( أَنْكِحُوا الْأَيَامَى ) ; ثَلَاثًا.
قِيلَ : مَا الْعَلَائِق بَيْنَهُمْ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ :( مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك ).
وَقَالَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ : سَأَلْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَدَاق النِّسَاء فَقَالَ :( هُوَ مَا اِصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَهْلُوهُمْ ).
وَرَوَى جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْطَى اِمْرَأَة مِلْء يَدَيْهِ طَعَامًا كَانَتْ بِهِ حَلَالًا ).
أَخْرَجَهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنه.
قَالَ الشَّافِعِيّ : كُلّ مَا جَازَ أَنْ يَكُون ثَمَنًا لِشَيْءٍ، أَوْ جَازَ أَنْ يَكُون أُجْرَة جَازَ أَنْ يَكُون صَدَاقًا، وَهَذَا قَوْل جُمْهُور أَهْل الْعِلْم.
وَجَمَاعَة أَهْل الْحَدِيث مِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَغَيْرهَا، كُلّهمْ أَجَازُوا الصَّدَاق بِقَلِيلِ الْمَال وَكَثِيره، وَهُوَ قَوْل عَبْد اللَّه بْن وَهْب صَاحِب مَالِك، وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَغَيْره.
قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : لَوْ أَصْدَقَهَا سَوْطًا حَلَّتْ بِهِ، وَأَنْكَحَ اِبْنَته مِنْ عَبْد اللَّه بْن وَدَاعَة بِدِرْهَمَيْنِ.
وَقَالَ رَبِيعَة : يَجُوز النِّكَاح بِدِرْهَمٍ.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا فِي تَعْلِيل لَهُ : وَكَانَ أَشْبَه الْأَشْيَاء بِذَلِكَ قَطْع مِنْ رُبُع دِينَار أَوْ ثَلَاثَة دَرَاهِم كَيْلًا.
قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا فِي تَعْلِيل لَهُ : وَكَانَ أَشْبَه الْأَشْيَاء بِذَلِكَ قَطْع الْيَد، لِأَنَّ الْبُضْع عُضْو وَالْيَد عُضْو يُسْتَبَاح بِمُقَدَّرٍ مِنْ الْمَال، وَذَلِكَ رُبُع دِينَار أَوْ ثَلَاثَة دَرَاهِم كَيْلًا ; فَرَدَّ مَالِك الْبُضْع إِلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى الْيَد.
قَالَ أَبُو عُمَر : قَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَة، فَقَاسَ الصَّدَاق عَلَى قَطْع الْيَد، وَالْيَد عِنْده لَا تُقْطَع إِلَّا فِي دِينَار ذَهَبًا أَوْ عَشَرَة دَرَاهِم كَيْلًا، وَلَا صَدَاق عِنْده أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ جَمَاعَة أَصْحَابه وَأَهْل مَذْهَبه، وَهُوَ قَوْل أَكْثَر أَهْل بَلَده فِي قَطْع الْيَد لَا فِي أَقَلّ الصَّدَاق.
وَقَدْ قَالَ الدَّرَاوَرْدِيّ لِمَالِكٍ إِذْ قَالَ لَا صَدَاق أَقَلّ مِنْ رُبُع دِينَار : تَعَرَّقْتَ فِيهَا يَا أَبَا عَبْد اللَّه أَيْ سَلَكْت فِيهَا سَبِيل أَهْل الْعِرَاق.
وَقَدْ اِحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة بِمَا رَوَاهُ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَا صَدَاق دُون عَشَرَة دَرَاهِم ) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَفِي سَنَدِهِ مُبَشِّر بْن عُبَيْد مَتْرُوك.
وَرُوِيَ عَنْ دَاوُدَ الْأَوْدِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَام : لَا يَكُون الْمَهْر أَقَلّ مِنْ عَشَرَة دَرَاهِم.
قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : لَقَّنَ غِيَاث بْن إِبْرَاهِيم دَاوُدَ الْأَوْدِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَلِيّ : لَا مَهْر أَقَلّ مِنْ عَشَرَة دَرَاهِم.
فَصَارَ حَدِيثًا.
وَقَالَ النَّخَعِيّ : أَقَلّه أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
سَعِيد بْن جُبَيْر : خَمْسُونَ دِرْهَمًا.
اِبْن شُبْرُمَة : خَمْسَة دَرَاهِم.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَا مَهْر أَقَلّ مِنْ خَمْسَة دَرَاهِم.
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً
الِاسْتِمْتَاع التَّلَذُّذ وَالْأُجُور الْمُهُور ; وَسُمِّيَ الْمَهْر أَجْرًا لِأَنَّهُ أَجْر الِاسْتِمْتَاع، وَهَذَا نَصّ عَلَى أَنَّ الْمَهْر يُسَمَّى أَجْرًا، وَذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ فِي مُقَابَلَة الْبُضْع ; لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْمَنْفَعَة يُسَمَّى أَجْرًا.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْقُود عَلَيْهِ فِي النِّكَاح مَا هُوَ : بَدَن الْمَرْأَة أَوْ مَنْفَعَة الْبُضْع أَوْ الْحِلّ ; ثَلَاثَة أَقْوَال، وَالظَّاهِر الْمَجْمُوع ; فَإِنَّ الْعَقْد يَقْتَضِي كُلّ ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الْآيَة ; فَقَالَ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : الْمَعْنَى فَمَا اِنْتَفَعْتُمْ وَتَلَذَّذْتُمْ بِالْجِمَاعِ مِنْ النِّسَاء بِالنِّكَاحِ الصَّحِيح " فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ " أَيْ مُهُورَهُنَّ، فَإِذَا جَامَعَهَا مَرَّة وَاحِدَة فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْر كَامِلًا إِنْ كَانَ مُسَمًّى، أَوْ مَهْر مِثْلهَا إِنْ لَمْ يُسَمَّ.
فَإِنْ كَانَ النِّكَاح فَاسِدًا فَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي النِّكَاح الْفَاسِد، هَلْ تَسْتَحِقّ بِهِ مَهْر الْمِثْل، أَوْ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ مَهْرًا صَحِيحًا ؟ فَقَالَ مَرَّة الْمَهْر الْمُسَمَّى، وَهُوَ ظَاهِر مَذْهَبه ; وَذَلِكَ أَنَّ مَا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ يَقِين، وَمَهْر الْمِثْل اِجْتِهَاد فَيَجِب أَنْ يُرْجَع إِلَى مَا تَيَقَّنَّاهُ ; لِأَنَّ الْأَمْوَال لَا تُسْتَحَقّ بِالشَّكِّ.
وَوَجْه قَوْله :" مَهْر الْمِثْل " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( أَيّمَا اِمْرَأَة نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْن وَلِيّهَا فَنِكَاحهَا بَاطِل فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْر مِثْلهَا بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجهَا ).
قَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَلَا يَجُوز أَنْ تُحْمَل الْآيَة عَلَى جَوَاز الْمُتْعَة ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ نِكَاح الْمُتْعَة وَحَرَّمَهُ ; وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" فَأَنْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ " وَمَعْلُوم أَنَّ النِّكَاح بِإِذْنِ الْأَهْلِينَ هُوَ النِّكَاح الشَّرْعِيّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ، وَنِكَاح الْمُتْعَة لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَالَ الْجُمْهُور : الْمُرَاد نِكَاح الْمُتْعَة الَّذِي كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَأُبَيّ وَابْن جُبَيْر " فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ " ثُمَّ نَهَى عَنْهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : نَسَخَتْهَا آيَة الْمِيرَاث ; إِذْ كَانَتْ الْمُتْعَة لَا مِيرَاث فِيهَا.
وَقَالَتْ عَائِشَة وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد : تَحْرِيمهَا وَنَسْخُهَا فِي الْقُرْآن ; وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى :" وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجهمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْر مَلُومِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ :
٥ - ٦ ].
وَلَيْسَتْ الْمُتْعَة نِكَاحًا وَلَا مِلْك يَمِين.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُتْعَة، قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَتْ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَلَمَّا نَزَلَ النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِدَّة وَالْمِيرَاث بَيْنَ الزَّوْج وَالْمَرْأَة نُسِخَتْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : نَسَخَ صَوْم رَمَضَان كُلّ صَوْم، وَنَسَخَتْ الزَّكَاة كُلّ صَدَقَة، وَنَسَخَ الطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ الْمُتْعَةَ، وَنَسَخَتْ الْأُضْحِيَّة كُلّ ذَبْح.
وَعَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : الْمُتْعَة مَنْسُوخَة نَسَخَهَا الطَّلَاق وَالْعِدَّة وَالْمِيرَاث.
وَرَوَى عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا كَانَتْ الْمُتْعَة إِلَّا رَحْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى رَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ وَلَوْلَا نَهْي عُمَر عَنْهَا مَا زَنَى إِلَّا شَقِيٌّ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء كَمْ مَرَّة أُبِيحَتْ وَنُسِخَتْ ; فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاء ; فَقُلْنَا : أَلَا نَسْتَخْصِي ؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَة بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَل.
قَالَ أَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ فِي صَحِيحه : قَوْلهمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَلَا نَسْتَخْصِي " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتْعَة كَانَتْ مَحْظُورَة قَبْل أَنْ أُبِيحَ لَهُمْ الِاسْتِمْتَاع، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَحْظُوره لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِمْ عَنْ هَذَا مَعْنًى، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الْغَزْو أَنْ يَنْكِحُوا الْمَرْأَة بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَل ثُمَّ نَهَى عَنْهَا عَام خَيْبَر، ثُمَّ أَذِنَ فِيهَا عَام الْفَتْح، ثُمَّ حَرَّمَهَا بَعْد ثَلَاث، فَهِيَ مُحَرَّمَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا مُتْعَة النِّسَاء فَهِيَ مِنْ غَرَائِب الشَّرِيعَة ; لِأَنَّهَا أُبِيحَتْ فِي صَدْر الْإِسْلَام ثُمَّ حُرِّمَتْ يَوْم خَيْبَر، ثُمَّ أُبِيحَتْ فِي غَزْوَة أَوْطَاس، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْد ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْر عَلَى التَّحْرِيم، وَلَيْسَ لَهَا أُخْت فِي الشَّرِيعَة إِلَّا مَسْأَلَة الْقِبْلَة، لِأَنَّ النَّسْخ طَرَأَ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ اِسْتَقَرَّتْ بَعْد ذَلِكَ.
وَقَالَ غَيْره مِمَّنْ جَمَعَ طُرُق الْأَحَادِيث فِيهَا : إِنَّهَا تَقْتَضِي التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم سَبْع مَرَّات ; فَرَوَى اِبْن أَبِي عَمْرَة أَنَّهَا كَانَتْ فِي صَدْر الْإِسْلَام.
وَرَوَى سَلَمَة بْن الْأَكْوَع أَنَّهَا كَانَتْ عَام أَوْطَاس.
وَمِنْ رِوَايَة عَلِيّ تَحْرِيمهَا يَوْم خَيْبَر.
وَمِنْ رِوَايَة الرَّبِيع بْن سَبْرَة إِبَاحَتهَا يَوْم الْفَتْح.
قُلْت : وَهَذِهِ الطُّرُق كُلّهَا فِي صَحِيح مُسْلِم ; وَفِي غَيْره عَنْ عَلِيّ نَهْيه عَنْهَا فِي غَزْوَة تَبُوك ; رَوَاهُ إِسْحَاق بْن رَاشِد عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيّ، وَلَمْ يُتَابِع إِسْحَاق بْن رَاشِد عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ اِبْن شِهَاب، قَالَهُ أَبُو عُمَر رَحِمَهُ اللَّه.
وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيث الرَّبِيع بْن سَبْرَة النَّهْي عَنْهَا فِي حَجَّة الْوَدَاع، وَذَهَبَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى أَنَّ هَذَا أَصَحّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ عَمْرو عَنْ الْحَسَن : مَا حَلَّتْ الْمُتْعَة قَطُّ إِلَّا ثَلَاثًا فِي عُمْرَة الْقَضَاء مَا حَلَّتْ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا.
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَبْرَة أَيْضًا ; فَهَذِهِ سَبْعَة مَوَاطِن أُحِلَّتْ فِيهَا الْمُتْعَة وَحُرِّمَتْ.
قَالَ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ : كُلّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِطْلَاقَهَا أَخْبَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي سَفَر، وَأَنَّ النَّهْي لَحِقَهَا فِي ذَلِكَ السَّفَر بَعْد ذَلِكَ، فَمَنَعَ مِنْهَا، وَلَيْسَ أَحَد مِنْهُمْ يُخْبِر أَنَّهَا كَانَتْ فِي حَضَرٍ ; وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود.
فَأَمَّا حَدِيث سَبْرَة الَّذِي فِيهِ إِبَاحَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا فِي حَجَّة الْوَدَاع فَخَارِج عَنْ مَعَانِيهَا كُلّهَا ; وَقَدْ اِعْتَبَرْنَا هَذَا الْحَرْف فَلَمْ نَجِدْهُ إِلَّا فِي رِوَايَة عَبْد الْعَزِيز بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز خَاصَّة، وَقَدْ رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش عَنْ عَبْد الْعَزِيز بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي فَتْح مَكَّة وَأَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَيْهِ الْعُزْبَةَ فَرَخَّصَ لَهُمْ فِيهَا، وَمُحَال أَنْ يَشْكُوا إِلَيْهِ الْعُزْبَة فِي حَجَّة الْوَدَاع ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا حَجُّوا بِالنِّسَاءِ، وَكَانَ تَزْوِيج النِّسَاء بِمَكَّة يُمْكِنُهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ كَمَا كَانُوا فِي الْغَزَوَات الْمُتَقَدِّمَة.
وَيَحْتَمِل أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَادَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْرِير مِثْل هَذَا فِي مَغَازِيهِ وَفِي الْمَوَاضِع الْجَامِعَة، ذَكَرَ تَحْرِيمهَا فِي حَجَّة الْوَدَاع ; لِاجْتِمَاعِ النَّاس حَتَّى يَسْمَعَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ، فَأَكَّدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا تَبْقَى شُبْهَة لِأَحَدٍ يَدَّعِي تَحْلِيلهَا ; وَلِأَنَّ أَهْل مَكَّة كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا كَثِيرًا.
رَوَى اللَّيْث بْن سَعْد عَنْ بُكَيْر بْن الْأَشَجّ عَنْ عَمَّار مَوْلَى الشَّرِيد قَالَ : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ الْمُتْعَة أَسِفَاح هِيَ أَمْ نِكَاح ؟ قَالَ : لَا سِفَاح وَلَا نِكَاح.
قُلْت : فَمَا هِيَ ؟ قَالَ : الْمُتْعَة كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى.
قُلْت : هَلْ عَلَيْهَا عِدَّة ؟ قَالَ : نَعَمْ حَيْضَة.
قُلْت : يَتَوَارَثَانِ، قَالَ : لَا.
قَالَ أَبُو عُمَر : لَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف أَنَّ الْمُتْعَة نِكَاح إِلَى أَجَل لَا مِيرَاث فِيهِ، وَالْفُرْقَة تَقَع عِنْد اِنْقِضَاء الْأَجَل مِنْ غَيْر طَلَاق.
وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة :" وَكَانَتْ الْمُتْعَة أَنْ يَتَزَوَّج الرَّجُل الْمَرْأَة بِشَاهِدَيْنِ وَإِذْن الْوَلِيّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ; وَعَلَى أَنْ لَا مِيرَاث بَيْنهمَا، وَيُعْطِيهَا مَا اِتَّفَقَا عَلَيْهِ ; فَإِذَا اِنْقَضَتْ الْمُدَّة فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيل وَيَسْتَبْرِئ رَحِمَهَا : لِأَنَّ الْوَلَد لَا حَقّ فِيهِ بِلَا شَكٍّ، فَإِنْ لَمْ تَحْمِل حَلَّتْ لِغَيْرِهِ.
وَفِي كِتَاب النَّحَّاس : فِي هَذَا خَطَأ وَأَنَّ الْوَلَد لَا يَلْحَق فِي نِكَاح الْمُتْعَة ".
قُلْت : هَذَا هُوَ الْمَفْهُوم مِنْ عِبَارَة النَّحَّاس ; فَإِنَّهُ قَالَ : وَإِنَّمَا الْمُتْعَة أَنْ يَقُول لَهَا : أَتَزَوَّجُك يَوْمًا - أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - عَلَى أَنَّهُ لَا عِدَّة عَلَيْكِ وَلَا مِيرَاث بَيْنَنَا وَلَا طَلَاق وَلَا شَاهِد يَشْهَد عَلَى ذَلِكَ ; وَهَذَا هُوَ الزِّنَى بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُبَحْ قَطُّ فِي الْإِسْلَام ; وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَر : لَا أَوُتَى بِرَجُلٍ تَزَوَّجَ مُتْعَة إِلَّا غَيَّبْته تَحْت الْحِجَارَة.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا إِذَا دَخَلَ فِي نِكَاح الْمُتْعَة هَلْ يُحَدُّ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَد أَوْ يُدْفَع الْحَدّ لِلشُّبْهَةِ وَيَلْحَق بِهِ الْوَلَد عَلَى قَوْلَيْنِ ; وَلَكِنْ يُعَذَّر وَيُعَاقَب.
وَإِذَا لَحِقَ الْيَوْم الْوَلَد فِي نِكَاح الْمُتْعَة فِي قَوْل بَعْض الْعُلَمَاء مَعَ الْقَوْل بِتَحْرِيمِهِ، فَكَيْفَ لَا يَلْحَق فِي ذَلِكَ الْوَقْت الَّذِي أُبِيحَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نِكَاح الْمُتْعَة كَانَ عَلَى حُكْم النِّكَاح الصَّحِيح، وَيُفَارِقُهُ فِي الْأَجَل وَالْمِيرَاث.
وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ نِكَاح الْمُتْعَة كَانَ بِلَا وَلِيّ وَلَا شُهُود.
وَفِيمَا حَكَاهُ ضَعْف ; لِمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ كَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول بِجَوَازِهَا، ثُمَّ ثَبَتَ رُجُوعه عَنْهَا، فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى تَحْرِيمهَا ; فَإِذَا فَعَلَهَا أَحَد رُجِمَ فِي مَشْهُور الْمَذْهَب.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنْ مَالِك : لَا يُرْجَم ; لِأَنَّ نِكَاح الْمُتْعَة لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنْ لِأَصْلٍ آخَر لِعُلَمَائِنَا غَرِيب اِنْفَرَدُوا بِهِ دُون سَائِر الْعُلَمَاء ; وَهُوَ أَنَّ مَا حَرُمَ بِالسُّنَّةِ هَلْ هُوَ مِثْل مَا حَرُمَ بِالْقُرْآنِ أَمْ لَا ؟ فَمِنْ رِوَايَة بَعْض الْمَدَنِيِّينَ عَنْ مَالِك أَنَّهُمَا لَيْسَا بِسَوَاءٍ ; وَهَذَا ضَعِيف.
وَقَالَ أَبُو بَكْر الطَّرْطُوسِيّ : وَلَمْ يُرَخِّص فِي نِكَاح الْمُتْعَة إِلَّا عِمْرَان بْن حُصَيْن وَابْن عَبَّاس وَبَعْض الصَّحَابَة وَطَائِفَة مِنْ أَهْل الْبَيْت.
وَفِي قَوْل اِبْن عَبَّاس يَقُول الشَّاعِر :
أَقُولُ لِلرَّكْبِ إِذْ طَالَ الثَّوَاء بِنَا | يَا صَاحِ هَلْ لَك فِي فُتْيَا اِبْن عَبَّاسِ |
فِي بَضَّةٍ رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ نَاعِمَةٍ | تَكُونُ مَثْوَاك حَتَّى مَرْجِع النَّاسِ |
وَسَائِر الْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالسَّلَف الصَّالِحِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة، وَأَنَّ الْمُتْعَة حَرَام.
وَقَالَ أَبُو عُمَر : أَصْحَاب اِبْن عَبَّاس مِنْ أَهْل مَكَّة وَالْيَمَن كُلّهمْ يَرَوْنَ الْمُتْعَة حَلَالًا عَلَى مَذْهَب اِبْن عَبَّاس وَحَرَّمَهَا سَائِر النَّاس.
وَقَالَ مَعْمَر : قَالَ الزُّهْرِيّ : اِزْدَادَ النَّاس لَهَا مَقْتًا حَتَّى قَالَ الشَّاعِر :
قَالَ الْمُحَدِّثُ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ | يَا صَاحِ هَلْ لَك فِي فُتْيَا اِبْن عَبَّاس |
كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه.
قَوْله تَعَالَى :" أُجُورهنَّ " يَعُمُّ الْمَال وَغَيْره، فَيَجُوز أَنْ يَكُون الصَّدَاق مَنَافِع أَعْيَان.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ فِي هَذَا الْعُلَمَاء ; فَمَنَعَهُ مَالِك وَالْمُزَنِيّ وَاللَّيْث وَأَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه ; إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَة قَالَ : إِذَا تَزَوَّجَ عَلَى ذَلِكَ فَالنِّكَاح جَائِز وَهُوَ فِي حُكْم مَنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا، وَلَهَا مَهْر مِثْلهَا إِنْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَة.
وَكَرِهَهُ اِبْن الْقَاسِم فِي كِتَاب مُحَمَّد وَأَجَازَهُ أَصْبَغ.
قَالَ اِبْن شَاسٍ : فَإِنْ وَقَعَ مَضَى فِي قَوْل أَكْثَر الْأَصْحَاب.
وَهِيَ رِوَايَة أَصْبَغ عَنْ اِبْن الْقَاسِم.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : النِّكَاح ثَابِت وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهَا مَا شَرَطَ لَهَا.
فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول فَفِيهَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّ لَهَا نِصْفَ أَجْر تَعْلِيم تِلْكَ السُّورَة، وَالْآخَر أَنَّ لَهَا نِصْفَ مَهْر مِثْلهَا.
وَقَالَ إِسْحَاق : النِّكَاح جَائِز.
قَالَ أَبُو الْحَسَن اللَّخْمِيّ : وَالْقَوْل بِجَوَازِ جَمِيع ذَلِكَ أَحْسَن.
وَالْإِجَارَة وَالْحَجّ كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَمْوَال الَّتِي تُتَمَلَّك وَتُبَاع وَتُشْتَرَى.
وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَالِك لِأَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَكُون الصَّدَاق مُعَجَّلًا، وَالْإِجَارَة وَالْحَجّ فِي مَعْنَى الْمُؤَجَّل.
اِحْتَجَّ أَهْل الْقَوْل الْأَوَّل بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" بِأَمْوَالِكُمْ " [ النِّسَاء : ١٠ ] وَتَحْقِيق الْمَال مَا تَتَعَلَّق بِهِ الْأَطْمَاع، وَيُعَدّ لِلِانْتِفَاعِ، وَمَنْفَعَة الرَّقَبَة فِي الْإِجَارَة وَمَنْفَعَة التَّعْلِيم لِلْعِلْمِ كُلّه لَيْسَ بِمَالٍ.
قَالَ الطَّحَاوِيّ : وَالْأَصْل الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ اِسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ سُورَة مِنْ الْقُرْآن سَمَّاهَا، بِدِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ الْإِجَارَات لَا تَجُوز إِلَّا لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ ; إِمَّا عَلَى عَمَلٍ بِعَيْنِهِ كَخِيَاطَةِ ثَوْب وَمَا أَشْبَهَهُ، وَإِمَّا عَلَى وَقْت مَعْلُوم ; وَكَانَ إِذَا اِسْتَأْجَرَهُ عَلَى تَعْلِيم سُورَة فَتِلْك إِجَارَة لَا عَلَى وَقْت مَعْلُوم وَلَا عَلَى عَمَل مَعْلُوم، وَإِنَّمَا اِسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يُعَلَّم، وَقَدْ يُفْهَم بِقَلِيلِ التَّعْلِيم وَكَثِيرِهِ فِي قَلِيل الْأَوْقَات وَكَثِيرهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ دَارَهُ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ سُورَة مِنْ الْقُرْآن لَمْ يَجُزْ لِلْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْإِجَارَات.
وَإِذَا كَانَ التَّعْلِيم لَا يُمْلَك بِهِ الْمَنَافِع وَلَا أَعْيَان الْأَمْوَال ثَبَتَ بِالنَّظَرِ أَنَّهُ لَا تُمْلَك بِهِ الْأَبْضَاع.
وَاَللَّه الْمُوَفِّق.
اِحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ سَهْل بْن سَعْد فِي حَدِيث الْمَوْهُوبَة، وَفِيهِ فَقَالَ :( اِذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآن ).
فِي رِوَايَة قَالَ :( اِنْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكهَا فَعَلِّمْهَا مِنْ الْقُرْآن ).
قَالُوا : فَقِي هَذَا دَلِيل عَلَى اِنْعِقَاد النِّكَاح وَتَأَخُّر الْمَهْر الَّذِي هُوَ التَّعْلِيم، وَهَذَا عَلَى الظَّاهِر مِنْ قَوْله :( بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآن ) فَإِنَّ الْبَاء لِلْعِوَضِ ; كَمَا تَقُول : خُذْ هَذَا بِهَذَا، أَيْ عِوَضًا مِنْهُ.
وَقَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى :( فَعَلِّمْهَا ) نَصّ فِي الْأَمْر بِالتَّعْلِيمِ، وَالْمَسَاق يَشْهَد بِأَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ النِّكَاح، وَلَا يُلْتَفَت لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ إِكْرَامًا لِلرَّجُلِ بِمَا حَفِظَهُ مِنْ الْقُرْآن، أَيْ لِمَا حَفِظَهُ، فَتَكُون الْبَاء بِمَعْنَى اللَّام ; فَإِنَّ الْحَدِيث الثَّانِي يُصَرِّح بِخِلَافِهِ فِي قَوْله :( فَعَلِّمْهَا مِنْ الْقُرْآن ).
وَلَا حُجَّة فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَة أَنَّهُ خَطَبَ أُمّ سُلَيْم فَقَالَتْ : إِنْ أَسْلَمَ تَزَوَّجْته.
فَأَسْلَمَ فَتَزَوَّجَهَا ; فَلَا يُعْلَم مَهْر كَانَ أَكْرَمَ مِنْ مَهْرهَا، كَانَ مَهْرُهَا الْإِسْلَام فَإِنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَصِل إِلَيْهَا مِنْهُ شَيْء بِخِلَافِ التَّعْلِيم وَغَيْره مِنْ الْمَنَافِع.
وَقَدْ زَوَّجَ شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام اِبْنَته مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى أَنْ يَرْعَى لَهُ غَنَمًا فِي صَدَاقهَا ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " الْقَصَص ".
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابه :( يَا فُلَان هَلْ تَزَوَّجْت ) ؟ قَالَ : لَا، وَلَيْسَ مَعِي مَا أَتَزَوَّج بِهِ.
قَالَ : أَلَيْسَ مَعَك " قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد " [ الْإِخْلَاص : ١ ] ؟ قَالَ : بَلَى ! قَالَ :( ثُلُث الْقُرْآن، أَلَيْسَ مَعَك آيَة الْكُرْسِيّ ) ؟ قَالَ : بَلَى ! قَالَ :( رُبْع الْقُرْآن، أَلَيْسَ مَعَك " إِذَا جَاءَ نَصْر اللَّه وَالْفَتْح " [ الْفَتْح : ١ ] ) ؟ قَالَ : بَلَى ! قَالَ :( رُبُع الْقُرْآن أَلَيْسَ مَعَك " إِذَا زُلْزِلَتْ " [ الزَّلْزَلَة : ١ ] ) ؟ قَالَ : بَلَى ! قَالَ :( رُبُع الْقُرْآن.
تَزَوَّجْ تَزَوَّجْ ).
قُلْت : وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيث سَهْل مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود، وَفِيهِ زِيَادَة تُبَيِّنُ، مَا اِحْتَجَّ بِهِ مَالِك وَغَيْره، وَفِيهِ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ يَنْكِحْ هَذِهِ ) ؟ فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُل فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُول اللَّه ; فَقَالَ :( أَلَك مَال ) ؟ قَالَ : لَا، يَا رَسُول اللَّه ; قَالَ :( فَهَلْ تَقْرَأ مِنْ الْقُرْآن شَيْئًا ) ؟.
قَالَ : نَعَمْ، سُورَة الْبَقَرَة، وَسُورَة الْمُفَصَّل.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قَدْ أَنْكَحْتُكهَا عَلَى أَنْ تُقْرِئَهَا وَتُعَلِّمَهَا وَإِذَا رَزَقَك اللَّه عَوَّضْتهَا ).
فَتَزَوَّجَهَا الرَّجُل عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا نَصّ - لَوْ صَحَّ - فِي أَنَّ التَّعْلِيم لَا يَكُون صَدَاقًا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : تَفَرَّدَ بِهِ عُتْبَة بْن السَّكَن وَهُوَ مَتْرُوك الْحَدِيث.
و " فَرِيضَة " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال، أَيْ مَفْرُوضَة.
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ
أَيْ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ فِي الْمَهْر ; فَإِنَّ ذَلِكَ سَائِغ عِنْد التَّرَاضِي بَعْد اِسْتِقْرَار الْفَرِيضَة.
وَالْمُرَاد إِبْرَاء الْمَرْأَة عَنْ الْمَهْر، أَوْ تَوْفِيَة الرَّجُل كُلّ الْمَهْر إِنْ طَلَّقَ قَبْل الدُّخُول.
وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْآيَة فِي الْمُتْعَة : هَذَا إِشَارَة إِلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَة فِي مُدَّة الْمُتْعَة فِي أَوَّل الْإِسْلَام ; فَإِنَّهُ كَانَ يَتَزَوَّج الرَّجُل الْمَرْأَة شَهْرًا عَلَى دِينَار مَثَلًا، فَإِذَا اِنْقَضَى الشَّهْر فَرُبَّمَا كَانَ يَقُول : زِيدِينِي فِي الْأَجَل أَزِدْك فِي الْمَهْر.
فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا عِنْد التَّرَاضِي.
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
قَالَ الزَّجَّاج :" عَلِيمًا " أَيْ بِالْأَشْيَاءِ قَبْل خَلْقهَا " حَكِيمًا " فِيمَا يُقَدِّرُهُ وَيُمْضِيهِ مِنْهَا.
وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَالْخَبَر مِنْهُ بِالْمَاضِي كَالْخَبَرِ مِنْهُ بِالِاسْتِقْبَالِ.
وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا حِكْمَة وَعِلْمًا فَقِيلَ لَهُمْ : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَزَلْ عَلَى مَا رَأَيْتُمْ.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ
نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى تَخْفِيف فِي النِّكَاح وَهُوَ نِكَاح الْأَمَة لِمَنْ لَمْ يَجِد الطَّوْلَ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الطَّوْل عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : السَّعَة وَالْغِنَى ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد وَمَالِك فِي الْمُدَوَّنَة.
يُقَال : طَالَ يَطُول طَوْلًا فِي الْإِفْضَال وَالْقُدْرَة.
وَفُلَان ذُو طَوْل أَيْ ذُو قُدْرَة فِي مَاله ( بِفَتْحِ الطَّاء ).
وَطُولًا ( بِضَمِّ الطَّاء ) فِي ضِدّ الْقِصَر.
وَالْمُرَاد هَهُنَا الْقُدْرَة عَلَى الْمَهْر فِي قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعِلْم، وَبِهِ يَقُول الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر.
قَالَ أَحْمَد بْن الْمُعَذَّل : قَالَ عَبْد الْمَلِك : الطَّوْل كُلّ مَا يُقْدَر بِهِ عَلَى النِّكَاح مِنْ نَقْد أَوْ عَرْض أَوْ دَيْن عَلَى مَلِيّ.
قَالَ : وَكُلّ مَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَإِجَارَتُهُ فَهُوَ طَوْل.
قَالَ : وَلَيْسَتْ الزَّوْجَة وَلَا الزَّوْجَتَانِ وَلَا الثَّلَاثَة طَوْلًا.
وَقَالَ : وَقَدْ سَمِعْت ذَلِكَ مِنْ مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَالَ عَبْد الْمَلِك : لِأَنَّ الزَّوْجَة لَا يُنْكَح بِهَا وَلَا يَصِل بِهَا إِلَى غَيْرهَا إِذْ لَيْسَتْ بِمَالٍ.
وَقَدْ سُئِلَ مَالِك عَنْ رَجُل يَتَزَوَّج أَمَة وَهُوَ مِمَّنْ يَجِد الطَّوْل ; فَقَالَ : أَرَى أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قِيلَ لَهُ : إِنَّهُ يَخَاف الْعَنَت.
قَالَ : السَّوْط يُضْرَب بِهِ.
ثُمَّ خَفَّفَهُ بَعْد ذَلِكَ.
الْقَوْل الثَّانِي : الطَّوْل الْحُرَّة.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي الْحُرَّة هَلْ هِيَ طَوْل أَمْ لَا ; فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَة : لَيْسَتْ الْحُرَّة بِطَوْلٍ تَمْنَع مِنْ نِكَاح الْأَمَة ; إِذَا لَمْ يَجِد سَعَة لِأُخْرَى وَخَافَ الْعَنَت.
وَقَالَ فِي كِتَاب مُحَمَّد مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحُرَّة بِمَثَابَةِ الطَّوْل.
قَالَ اللَّخْمِيّ : وَهُوَ ظَاهِر الْقُرْآن.
وَرُوِيَ نَحْو هَذَا عَنْ اِبْن حَبِيب، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَة.
فَيَقْتَضِي هَذَا أَنَّ مَنْ عِنْده حُرَّة فَلَا يَجُوز لَهُ نِكَاح الْأَمَة وَإِنْ عَدِمَ السَّعَة وَخَافَ الْعَنَت، لِأَنَّهُ طَالِب شَهْوَة وَعِنْدَهُ اِمْرَأَة، وَقَالَ بِهِ الطَّبَرِيّ وَاحْتَجَّ لَهُ.
قَالَ أَبُو يُوسُف : الطَّوْل هُوَ وُجُود الْحُرَّة تَحْتَهُ ; فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّة فَهُوَ ذُو طَوْل، فَلَا يَجُوز لَهُ نِكَاح الْأَمَة.
الْقَوْل الثَّالِث : الطَّوْل الْجَلَد وَالصَّبْر لِمَنْ أَحَبَّ أَمَة وَهَوِيَهَا حَتَّى صَارَ لِذَلِكَ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يَتَزَوَّج غَيْرهَا، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج الْأَمَة إِذَا لَمْ يَمْلِكْ هَوَاهَا وَخَافَ أَنْ يَبْغِيَ بِهَا وَإِنْ كَانَ يَجِد سَعَة فِي الْمَال لِنِكَاحِ حُرَّة ; هَذَا قَوْل قَتَادَة وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ.
فَيَكُون قَوْله تَعَالَى :" لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَت " عَلَى هَذَا التَّأْوِيل فِي صِفَة عَدَم الْجَلَد.
وَعَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل يَكُون تَزْوِيج الْأَمَة مُعَلَّقًا بِشَرْطَيْنِ : عَدَم السَّعَة فِي الْمَال، وَخَوْف الْعَنَت ; فَلَا يَصِحّ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا.
وَهَذَا هُوَ نَصّ مَذْهَب مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة مِنْ رِوَايَة اِبْن نَافِع وَابْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب وَابْن زِيَاد.
قَالَ مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون : لَا يَحِلّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْكِح أَمَة، وَلَا يُقَرَّانِ إِلَّا أَنْ يَجْتَمِع الشَّرْطَانِ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى.
وَقَالَهُ أَصْبَغ.
وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَطَاوُس وَالزُّهْرِيّ وَمَكْحُول، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَغَيْره.
فَإِنْ وَجَدَ الْمَهْر وَعَدِمَ النَّفَقَة فَقَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج أَمَة.
وَقَالَ أَصْبَغ : ذَلِكَ جَائِز ; إِذْ نَفَقَة الْأَمَة عَلَى أَهْلهَا إِذَا لَمْ يَضُمَّهَا إِلَيْهِ.
وَفِي الْآيَة قَوْل رَابِع : قَالَ مُجَاهِد : مِمَّا وَسَّعَ اللَّه عَلَى هَذِهِ الْأُمَّة نِكَاح الْأَمَة وَالنَّصْرَانِيَّة، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا.
وَقَالَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة أَيْضًا، وَلَمْ يَشْتَرِط خَوْف الْعَنَت ; إِذَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّة.
قَالُوا : لِأَنَّ كُلّ مَال يُمْكِنُ أَنْ يَتَزَوَّج بِهِ الْأَمَة يُمْكِنُ أَنْ يَتَزَوَّج بِهِ الْحُرَّة ; فَالْآيَة عَلَى هَذَا أَصْل فِي جَوَاز نِكَاح الْأَمَة مُطْلَقًا.
قَالَ مُجَاهِد : وَبِهِ يَأْخُذ سُفْيَان، وَذَلِكَ أَنِّي سَأَلْته عَنْ نِكَاح الْأَمَة فَحَدَّثَنِي عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى عَنْ الْمِنْهَال عَنْ عَبَّاد بْن عَبْد اللَّه عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : إِذَا نُكِحَتْ الْحُرَّة عَلَى الْأَمَة كَانَ لِلْحُرَّةِ يَوْمَانِ وَلِلْأَمَةِ يَوْم.
قَالَ : وَلَمْ يَرَ عَلِيّ بِهِ بَأْسًا.
وَحُجَّة هَذَا الْقَوْل عُمُوم قَوْله تَعَالَى :" وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٤ ].
وَقَوْله تَعَالَى :" وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا " إِلَى قَوْله :" ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَت مِنْكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٥ ] ; لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :" فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاث وَرُبَاع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة " [ النِّسَاء : ٣ ].
وَقَدْ اِتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَى أَنَّ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّج أَرْبَعًا وَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِل.
قَالُوا : وَكَذَلِكَ لَهُ تَزَوُّج الْأَمَة وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ غَيْر خَائِف لِلْعَنَتِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك فِي الَّذِي يَجِد طَوْلًا لِحُرَّةٍ أَنَّهُ يَتَزَوَّج أَمَة مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى طَوْل الْحُرَّة ; وَذَلِكَ ضَعِيف مِنْ قَوْله.
وَقَدْ قَالَ مَرَّة أُخْرَى : مَا هُوَ بِالْحَرَامِ الْبَيِّن، وَأُجَوِّزُهُ.
وَالصَّحِيح أَنَّهُ لَا يَجُوز لِلْحُرِّ الْمُسْلِم أَنْ يَنْكِح أَمَة غَيْر مُسْلِمَة بِحَالٍ، وَلَا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ الْمُسْلِمَة إِلَّا بِالشَّرْطَيْنِ الْمَنْصُوص عَلَيْهِمَا كَمَا بَيَّنَّا.
وَالْعَنَت الزِّنَى ; فَإِنْ عَدِمَ الطَّوْلَ وَلَمْ يَخْشَ الْعَنَت لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاح الْأَمَة، وَكَذَلِكَ إِنْ وَجَدَ الطَّوْل وَخَشِيَ الْعَنَت.
فَإِنْ قَدَرَ عَلَى طَوْل حُرَّة كِتَابِيَّة وَهِيَ الْمَسْأَلَة :
الثَّانِيَة: فَهَلْ يَتَزَوَّج الْأَمَة ; اِخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ : يَتَزَوَّج الْأَمَة فَإِنَّ الْأَمَة الْمُسْلِمَة لَا تَلْحَق بِالْكَافِرَةِ، فَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ حُرَّة مُشْرِكَة.
وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَقِيلَ : يَتَزَوَّج الْكِتَابِيَّة ; لِأَنَّ الْأَمَة وَإِنْ كَانَتْ تَفْضُلُهَا بِالْإِيمَانِ فَالْكَافِرَة تَفْضُلُهَا بِالْحُرِّيَّةِ وَهِيَ زَوْجَة.
وَأَيْضًا فَإِنَّ وَلَدهَا يَكُون حُرًّا لَا يُسْتَرَقُّ، وَوَلَد الْأَمَة يَكُون رَقِيقًا ; وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَمَشَّى عَلَى أَصْل الْمَذْهَب.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الرَّجُل يَتَزَوَّج الْحُرَّة عَلَى الْأَمَة وَلَمْ تَعْلَمْ بِهَا ; فَقَالَتْ طَائِفَة : النِّكَاح ثَابِت.
كَذَلِكَ قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ.
وَقِيلَ : لِلْحُرَّةِ الْخِيَار إِذَا عَلِمَتْ.
ثُمَّ فِي أَيّ شَيْء يَكُون لَهَا الْخِيَار ; فَقَالَ الزُّهْرِيّ وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق فِي أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ أَوْ تُفَارِقَهُ.
وَقَالَ عَبْد الْمَلِك : فِي أَنْ تُقِرَّ نِكَاح الْأَمَة أَوْ تَفْسَخَهُ.
وَقَالَ النَّخَعِيّ : إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرَّة عَلَى الْأَمَة فَارَقَ الْأَمَة إِلَّا أَنْ يَكُون لَهُ مِنْهَا وَلَد ; فَإِنْ كَانَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ مَسْرُوق : يُفْسَخ نِكَاح الْأَمَة ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَيِّتَةِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَة اِرْتَفَعَتْ الْإِبَاحَة.
فَإِنْ كَانَتْ تَحْته أَمَتَانِ عَلِمَتْ الْحُرَّة بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْأُخْرَى فَإِنَّهُ يَكُون لَهَا الْخِيَار.
أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ حُرَّة تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَمَة فَرَضِيَتْ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَمَة فَرَضِيَتْ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْرَى فَأَنْكَرَتْ كَانَ ذَلِكَ لَهَا ; فَكَذَلِكَ هَذِهِ إِذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالْأَمَتَيْنِ وَعَلِمَتْ بِوَاحِدَةٍ.
قَالَ اِبْن الْقَاسِم : قَالَ مَالِك : وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْخِيَار لِلْحُرَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل لِمَا قَالَتْ الْعُلَمَاء قَبْلِي.
يُرِيد سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَابْن شِهَاب وَغَيْرهمَا.
قَالَ مَالِك : وَلَوْلَا مَا قَالُوهُ لَرَأَيْته حَلَالًا ; لِأَنَّهُ فِي كِتَاب اللَّه حَلَال.
فَإِنْ لَمْ تَكْفِهِ الْحُرَّة وَاحْتَاجَ إِلَى أُخْرَى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَدَاقِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج الْأَمَة حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَرْبَع بِالتَّزْوِيجِ بِظَاهِرِ الْقُرْآن.
رَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك.
وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ : يُرَدّ نِكَاحه.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْأَوَّل أَصَحّ فِي الدَّلِيل، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْقُرْآن ; فَإِنَّ مَنْ رَضِيَ بِالسَّبَبِ الْمُحَقَّق رَضِيَ بِالْمُسَبَّبِ الْمُرَتَّب عَلَيْهِ، وَأَلَّا يَكُون لَهَا خِيَار ; لِأَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ لَهُ نِكَاحَ الْأَرْبَع ; وَعَلِمَتْ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نِكَاح حُرَّة تَزَوَّجَ أَمَة، وَمَا شَرَطَ اللَّه سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا كَمَا شَرَطَتْ عَلَى نَفْسهَا، وَلَا يُعْتَبَر فِي شُرُوط اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِلْمُهَا.
وَهَذَا غَايَة التَّحْقِيق فِي الْبَاب وَالْإِنْصَاف فِيهِ.
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
يُرِيد الْحَرَائِر ; يَدُلّ عَلَيْهِ التَّقْسِيم بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْإِمَاء فِي قَوْله :" مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَات ".
وَقَالَتْ فِرْقَة : مَعْنَاهُ الْعَفَائِف.
وَهُوَ ضَعِيف ; لِأَنَّ الْإِمَاء يَقَعْنَ تَحْتَهُ فَأَجَازُوا نِكَاح إِمَاء أَهْل الْكِتَاب، وَحَرَّمُوا الْبَغَايَا مِنْ الْمُؤْمِنَات وَالْكِتَابِيَّات.
وَهُوَ قَوْل اِبْن مَيْسَرَة وَالسُّدِّيّ.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا يَجُوز لِلْحُرِّ الَّذِي لَا يَجِد الطَّوْل وَيَخْشَى الْعَنَت مِنْ نِكَاح الْإِمَاء ; فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَابْن شِهَاب الزُّهْرِيّ وَالْحَارِث الْعُكْلِيّ : لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج أَرْبَعًا.
وَقَالَ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِح مِنْ الْإِمَاء أَكْثَر مِنْ اِثْنَتَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مِنْ الْإِمَاء إِلَّا وَاحِدَةً.
وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَمَسْرُوق وَجَمَاعَة ; وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَت مِنْكُمْ " وَهَذَا الْمَعْنَى يَزُول بِنِكَاحٍ وَاحِدَة.
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
أَيْ فَلْيَتَزَوَّجْ بِأَمَةِ الْغَيْر.
وَلَا خِلَاف بَيْنَ الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج أَمَة نَفْسه ; لِتَعَارُضِ الْحُقُوق وَاخْتِلَافِهَا.
مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
أَيْ الْمَمْلُوكَات، وَهِيَ جَمْع فَتَاة.
وَالْعَرَب تَقُول لِلْمَمْلُوكِ : فَتًى، وَلِلْمَمْلُوكَةِ فَتَاة.
وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح :( لَا يَقُولَنَّ أَحَدكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي ) وَسَيَأْتِي.
وَلَفْظ الْفَتَى وَالْفَتَاة يُطْلَق أَيْضًا عَلَى الْأَحْرَار فِي اِبْتِدَاء الشَّبَاب، فَأَمَّا فِي الْمَمَالِيك فَيُطْلَق فِي الشَّبَاب وَفِي الْكِبَر.
الْمُؤْمِنَاتِ
بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوز التَّزَوُّج بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّة، فَهَذِهِ الصِّفَة مُشْتَرَطَة عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه، وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه، وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالزُّهْرِيّ وَمَكْحُول وَمُجَاهِد.
وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِلْم مِنْهُمْ أَصْحَاب الرَّأْي : نِكَاح الْأَمَة الْكِتَابِيَّة جَائِز.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا أَعْلَم لَهُمْ سَلَفًا فِي قَوْلهمْ، إِلَّا أَبَا مَيْسَرَة عَمْرو بْن شُرَحْبِيل فَإِنَّهُ قَالَ : إِمَاء أَهْل الْكِتَاب بِمَنْزِلَةِ الْحَرَائِر مِنْهُنَّ.
قَالُوا : وَقَوْله " الْمُؤْمِنَات " عَلَى جِهَة الْوَصْف الْفَاضِل وَلَيْسَ بِشَرْطٍ أَلَّا يَجُوز غَيْرهَا ; وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى :" فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة " فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِل فَتَزَوَّجَ أَكْثَر مِنْ وَاحِدَة جَازَ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَل أَلَّا يَتَزَوَّج ; فَكَذَلِكَ هُنَا الْأَفْضَل أَلَّا يَتَزَوَّج إِلَّا مُؤْمِنَة، وَلَوْ تَزَوَّجَ غَيْر الْمُؤْمِنَة جَازَ.
وَاحْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحَرَائِر، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَع قَوْله :" الْمُؤْمِنَات " فِي الْحَرَائِر مِنْ نِكَاح الْكِتَابِيَّات فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَع قَوْله :" الْمُؤْمِنَات " فِي الْإِمَاء مِنْ نِكَاح إِمَاء الْكِتَابِيَّات.
وَقَالَ أَشْهَب فِي الْمُدَوَّنَة : جَائِز لِلْعَبْدِ الْمُسْلِم أَنْ يَتَزَوَّج أَمَة كِتَابِيَّة.
فَالْمَنْع عِنْده أَنْ يُفَضَّل الزَّوْج فِي الْحُرِّيَّة وَالدِّين مَعًا.
وَلَا خِلَاف بَيْنَ الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يَجُوز لِمُسْلِمٍ نِكَاح مَجُوسِيَّة وَلَا وَثَنِيَّة، وَإِذَا كَانَ حَرَامًا بِإِجْمَاعٍ نِكَاحُهُمَا فَكَذَلِكَ وَطْؤُهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِين قِيَاسًا وَنَظَرًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُس وَمُجَاهِد وَعَطَاء وَعَمْرو بْن دِينَار أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا بَأْس بِنِكَاحِ الْأَمَة الْمَجُوسِيَّة بِمِلْكِ الْيَمِين.
وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مَهْجُور لَمْ يَلْتَفِت إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار.
وَقَالُوا : لَا يَحِلّ أَنْ يَطَأهَا حَتَّى تُسْلِم.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى.
وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ
الْمَعْنَى أَنَّ اللَّه عَلِيم بِبَوَاطِن الْأُمُور وَلَكُمْ ظَوَاهِرهَا، وَكُلُّكُمْ بَنُو آدَم وَأَكْرَمُكُمْ عِنْد اللَّه أَتْقَاكُمْ، فَلَا تَسْتَنْكِفُوا مِنْ التَّزَوُّج بِالْإِمَاءِ عِنْد الضَّرُورَة، وَإِنْ كَانَتْ حَدِيثَة عَهْد بِسِبَاءٍ، أَوْ كَانَتْ خَرْسَاء وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَفِي اللَّفْظ تَنْبِيه عَلَى أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ إِيمَان أَمَة أَفْضَل مِنْ إِيمَان بَعْض الْحَرَائِر.
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
اِبْتِدَاء وَخَبَر ; كَقَوْلِك زَيْد فِي الدَّار.
وَالْمَعْنَى أَنْتُمْ بَنُو آدَم.
وَقِيلَ : أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ.
وَقِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير ; الْمَعْنَى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِح الْمُحْصَنَات الْمُؤْمِنَات فَلْيَنْكِحْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ : هَذَا فَتَاةَ هَذَا، وَهَذَا فَتَاةَ هَذَا.
فَبَعْضكُمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِير مَرْفُوع بِفِعْلِهِ وَهُوَ فَلْيَنْكِحْ.
وَالْمَقْصُود بِهَذَا الْكَلَام تَوْطِئَة نُفُوس الْعَرَب الَّتِي كَانَتْ تَسْتَهْجِن وَلَد الْأَمَة وَتُعَيِّرُهُ وَتُسَمِّيهِ الْهَجِين، فَلَمَّا جَاءَ الشَّرْع بِجَوَازِ نِكَاحهَا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ التَّهْجِين لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِنَّمَا اِنْحَطَّتْ الْأَمَة فَلَمْ يَجُزْ لِلْحُرِّ التَّزَوُّج بِهَا إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة ; لِأَنَّهُ تَسَبُّب إِلَى إِرْقَاق الْوَلَد، وَأَنَّ الْأَمَة لَا تَفْرُغ لِلزَّوْجِ عَلَى الدَّوَام، لِأَنَّهَا مَشْغُولَة بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى.
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
أَيْ بِوِلَايَةِ أَرْبَابهنَّ الْمَالِكِينَ وَإِذْنهمْ.
وَكَذَلِكَ الْعَبْد لَا يَنْكِح إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّده ; لِأَنَّ الْعَبْد مَمْلُوك لَا أَمْر لَهُ، وَبَدَنه كُلّه مُسْتَغْرَق، لَكِنَّ الْفَرْق بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْد إِذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْن سَيِّده فَإِنْ أَجَازَهُ السَّيِّد جَازَ ; هَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَاب الرَّأْي، وَهُوَ قَوْل الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَشُرَيْح وَالشَّعْبِيّ.
وَالْأَمَة إِذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إِذْن أَهْلهَا فُسِخَ وَلَمْ يَجُزْ بِإِجَازَةِ السَّيِّد ; لِأَنَّ نُقْصَان الْأُنُوثَة فِي الْأَمَة يَمْنَع مِنْ اِنْعِقَاد النِّكَاح أَلْبَتَّةَ.
وَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا نَكَحَ الْعَبْد بِغَيْرِ إِذْن سَيِّده فُسِخَ نِكَاحه ; هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد بْن عَلِيّ، قَالُوا : لَا تَجُوز إِجَازَة الْمَوْلَى إِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ ; لِأَنَّ الْعَقْد الْفَاسِد لَا تَصِحّ إِجَازَته، فَإِنْ أَرَادَ النِّكَاح اِسْتَقْبَلَهُ عَلَى سُنَّته.
وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز نِكَاح الْعَبْد بِغَيْرِ إِذْن سَيِّده.
وَقَدْ كَانَ اِبْن عُمَر يَعُدُّ الْعَبْد بِذَلِكَ زَانِيًا وَيَحُدُّهُ ; وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْر.
وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر، وَعَنْ مَعْمَر عَنْ أَيُّوب عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ أَخَذَ عَبْدًا لَهُ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنه فَضَرَبَهُ الْحَدَّ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَبْطَلَ صَدَاقهَا.
قَالَ : وَأَخْبَرَنَا اِبْن جُرَيْج عَنْ مُوسَى بْن عُقْبَة أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَرَى نِكَاح الْعَبْد بِغَيْرِ إِذْن وَلِيِّهِ زِنًى، وَيَرَى عَلَيْهِ الْحَدّ، وَيُعَاقِب الَّذِينَ أَنْكَحُوهُمَا.
قَالَ : وَأَخْبَرَنَا اِبْن جُرَيْج عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَقِيل قَالَ : سَمِعْت جَابِر بْن عَبْد اللَّه يَقُول : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَيّمَا عَبْدٍ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْن سَيِّده فَهُوَ عَاهِر ).
وَعَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُوَ نِكَاح حَرَام ; فَإِنْ نَكَحَ بِإِذْنِ سَيِّده فَالطَّلَاق بِيَدِ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْفَرْج.
قَالَ أَبُو عُمَر : عَلَى هَذَا مَذْهَب جَمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاق، وَلَمْ يُخْتَلَف عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الطَّلَاق بِيَدِ السَّيِّد ; وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَابِر بْن زَيْد وَفِرْقَة.
وَهُوَ عِنْد الْعُلَمَاء شُذُوذ لَا يُعَرَّج عَلَيْهِ، وَأَظُنّ اِبْن عَبَّاس تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّه تَعَالَى :" ضَرَبَ اللَّه مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِر عَلَى شَيْء " [ النَّحْل : ٧٥ ].
وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ نِكَاح الْعَبْد جَائِز بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ; فَإِنْ نَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا فَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فَلَا شَيْء لَهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ فَعَلَيْهِ الْمَهْر إِذَا عَتَقَ ; هَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ مَذْهَبه، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد لَا مَهْر عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِق.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ دَخَلَ عَلَيْهَا فَلَهَا الْمَهْر.
وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ : إِذَا كَانَ عَبْد بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَذِنَ لَهُ أَحَدهمَا فِي النِّكَاح فَنَكَحَ فَالنِّكَاح بَاطِل، فَأَمَّا الْأَمَة إِذَا آذَنَتْ أَهْلهَا فِي النِّكَاح فَأَذِنُوا جَازَ، وَإِنْ لَمْ تُبَاشِر الْعَقْد لَكِنْ تُوَلِّي مَنْ يَعْقِدُهُ عَلَيْهَا.
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
دَلِيل عَلَى وُجُوب الْمَهْر فِي النِّكَاح، وَأَنَّهُ لِلْأَمَةِ.
بِالْمَعْرُوفِ
مَعْنَاهُ بِالشَّرْعِ وَالسُّنَّة، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ أَحَقّ بِمُهُورِهِنَّ مِنْ السَّادَة، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك.
قَالَ فِي كِتَاب الرُّهُون : لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذ مَهْر أَمَته وَيَدَعَهَا بِلَا جِهَاز.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الصَّدَاق لِلسَّيِّدِ ; لِأَنَّهُ عِوَض فَلَا يَكُون لِلْأَمَةِ.
أَصْله إِجَازَة الْمَنْفَعَة فِي الرَّقَبَة، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ لِأَنَّ الْمَهْر وَجَبَ بِسَبَبِهَا.
وَذَكَرَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل فِي أَحْكَامِهِ : زَعَمَ بَعْض الْعِرَاقِيِّينَ إِذَا زَوَّجَ أَمَته مِنْ عَبْده فَلَا مَهْر.
وَهَذَا خِلَاف الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَأَطْنَبَ فِيهِ.
مُحْصَنَاتٍ
أَيْ عَفَائِف.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ " مُحْصِنَات " بِكَسْرِ الصَّاد فِي جَمِيع الْقُرْآن، إِلَّا فِي قَوْله تَعَالَى :" وَالْمُحْصَنَات مِنْ النِّسَاء " [ النِّسَاء : ٢٤ ].
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ فِي جَمِيع الْقُرْآن.
غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ
أَيْ غَيْر زَوَانٍ، أَيْ مُعْلِنَات بِالزِّنَى ; لِأَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّة كَانَ فِيهِمْ الزَّوَانِي فِي الْعَلَانِيَة، وَلَهُنَّ رَايَات مَنْصُوبَات كَرَايَةِ الْبَيْطَار.
وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ
أَصْدِقَاء عَلَى الْفَاحِشَة، وَاحِدهمْ خِدْن وَخَدِين، وَهُوَ الَّذِي يُخَادِنُكَ، وَرَجُل خُدَنَة، إِذَا اِتَّخَذَ أَخْذَانًا أَيْ أَصْحَابًا، عَنْ أَبِي زَيْد.
وَقِيلَ : الْمُسَافِحَة الْمُجَاهِرَة بِالزِّنَى، أَيْ الَّتِي تُكْرِي نَفْسهَا لِذَلِكَ.
وَذَات الْخِدْن هِيَ الَّتِي تَزْنِي سِرًّا.
وَقِيلَ : الْمُسَافِحَة الْمَبْذُولَة، وَذَات الْخِدْن الَّتِي تَزْنِي بِوَاحِدٍ.
وَكَانَتْ الْعَرَب تَعِيب الْإِعْلَان بِالزِّنَى، وَلَا تَعِيب اِتِّخَاذ الْأَخْدَان، ثُمَّ رَفَعَ الْإِسْلَام جَمِيع ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى :" وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ " [ الْأَنْعَام : ١٥١ ] ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
فَإِذَا أُحْصِنَّ
قِرَاءَة عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ بِفَتْحِ الْهَمْزَة.
الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا.
فَبِالْفَتْحِ مَعْنَاهُ أَسْلَمْنَ، وَبِالضَّمِّ زُوِّجْنَ.
فَإِذَا زَنَتْ الْأَمَة الْمُسْلِمَة جُلِدَتْ نِصْف جَلْد الْحُرَّة ; وَإِسْلَامُهَا هُوَ إِحْصَانُهَا فِي قَوْل الْجُمْهُور، اِبْن مَسْعُود وَالشَّعْبِيّ وَالزُّهْرِيّ وَغَيْرهمْ.
وَعَلَيْهِ فَلَا تُحَدّ كَافِرَة إِذَا زَنَتْ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر.
وَقَالَ آخَرُونَ : إِحْصَانهَا التَّزَوُّج بِحُرٍّ.
فَإِذَا زَنَتْ الْأَمَة الْمُسْلِمَة الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّج فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَقَتَادَة، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي الدَّرْدَاء، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْد.
قَالَ : وَفِي حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدّ الْأَمَة فَقَالَ : إِنَّ الْأَمَة أَلْقَتْ فَرْوَة رَأْسِهَا مِنْ وَرَاء الدَّار.
قَالَ الْأَصْمَعِيّ : الْفَرْوَة جِلْدَة الرَّأْس.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : وَهُوَ لَمْ يُرِدْ الْفَرْوَة بِعَيْنِهَا، وَكَيْفَ تُلْقِي جِلْدَة رَأْسِهَا مِنْ وَرَاء الدَّار، وَلَكِنَّ هَذَا مِثْل ! إِنَّمَا أَرَادَ بِالْفَرْوَةِ الْقِنَاع، يَقُول لَيْسَ عَلَيْهَا قِنَاع وَلَا حِجَاب، وَأَنَّهَا تَخْرُج إِلَى كُلّ مَوْضِع يُرْسِلهَا أَهْلهَا إِلَيْهِ، لَا تَقْدِر عَلَى الِامْتِنَاع مِنْ ذَلِكَ ; فَتَصِير حَيْثُ لَا تَقْدِر عَلَى الِامْتِنَاع مِنْ الْفُجُور، مِثْل رِعَايَة الْغَنَم وَأَدَاء الضَّرِيبَة وَنَحْو ذَلِكَ ; فَكَأَنَّهُ رَأَى أَنْ لَا حَدّ عَلَيْهَا إِذَا فَجَرَتْ ; لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَتْ فِرْقَة : إِحْصَانهَا التَّزَوُّج، إِلَّا أَنَّ الْحَدّ وَاجِب عَلَى الْأَمَة الْمُسْلِمَة غَيْر الْمُتَزَوِّجَة بِالسُّنَّةِ، كَمَا فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم أَنَّهُ قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه، الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن ؟ فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الْحَدّ.
قَالَ الزُّهْرِيّ : فَالْمُتَزَوِّجَة مَحْدُوده بِالْقُرْآنِ، وَالْمُسْلِمَة غَيْر الْمُتَزَوِّجَة مَحْدُودَة بِالْحَدِيثِ.
قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل فِي قَوْل مَنْ قَالَ " إِذَا أُحْصِنَّ " أَسْلَمْنَ : بُعْد ; لِأَنَّ ذِكْر الْإِيمَان قَدْ تَقَدَّمَ لَهُنَّ فِي قَوْله تَعَالَى :" مِنْ فَتَيَاتكُمْ الْمُؤْمِنَات ".
وَأَمَّا مَنْ قَالَ :" إِذَا أُحْصِنَّ " تَزَوَّجْنَ، وَأَنَّهُ لَا حَدّ عَلَى الْأَمَة حَتَّى تَتَزَوَّجَ ; فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى ظَاهِر الْقُرْآن وَأَحْسَبُهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا هَذَا الْحَدِيث.
وَالْأَمْر عِنْدَنَا أَنَّ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَقَدْ أُحْصِنَتْ مَجْلُودَة بِكِتَابِ اللَّه، وَإِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ مَجْلُودَة بِحَدِيثِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَجْم عَلَيْهَا ; لِأَنَّ الرَّجْم لَا يَتَنَصَّف.
قَالَ أَبُو عُمَر : ظَاهِر قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقْتَضِي أَلَّا حَدَّ عَلَى أَمَة وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَة إِلَّا بَعْد التَّزْوِيج، ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّة بِجَلْدِهَا وَإِنْ لَمْ تُحْصَنْ، فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَة بَيَان.
قُلْت : ظَهْر الْمُؤْمِن حِمًى لَا يُسْتَبَاح إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يَقِين مَعَ الِاخْتِلَاف، لَوْلَا مَا جَاءَ فِي صَحِيح السُّنَّة مِنْ الْجَلْد فِي ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر : وَإِنْ كَانُوا اِخْتَلَفُوا فِي رَجْمِهِمَا فَإِنَّهُمَا يُرْجَمَانِ إِذَا كَانَا مُحْصَنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ إِجْمَاع فَالْإِجْمَاع أَوْلَى.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ يُقِيم الْحَدّ عَلَيْهِمَا ; فَقَالَ اِبْن شِهَاب : مَضَتْ السُّنَّة أَنْ يَحُدَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ أَهْلُوهُمْ فِي الزِّنَى، إِلَّا أَنْ يُرْفَع أَمْرهمْ إِلَى السُّلْطَان فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْتَات عَلَيْهِ ; وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَلْيَحُدَّهَا الْحَدّ ).
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي خُطْبَته : يَا أَيّهَا النَّاس، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدّ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَن، فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيث عَهْد بِنِفَاسٍ، فَخَشِيت إِنْ أَنَا جَلَدْتهَا أَقْتُلُهَا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :( أَحْسَنْت ).
أَخْرَجَهُ مُسْلِم مَوْقُوفًا عَنْ عَلِيّ.
وَأَسْنَدَهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ فِيهِ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَقِيمُوا الْحُدُود عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ ) وَهَذَا نَصّ فِي إِقَامَة السَّادَةِ الْحُدُودَ عَلَى الْمَمَالِيك مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَن.
قَالَ مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : يَحُدّ الْمَوْلَى عَبْده فِي الزِّنَى وَشُرْب الْخَمْر وَالْقَذْف إِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُود بِذَلِكَ، وَلَا يَقْطَعُهُ فِي السَّرِقَة، وَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ الْإِمَام ; وَهُوَ قَوْل اللَّيْث.
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُمْ أَقَامُوا الْحُدُود عَلَى عَبِيدهمْ، مِنْهُمْ اِبْن عُمَر وَأَنَس، وَلَا مُخَالِف لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَة.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ : أَدْرَكْت بَقَايَا الْأَنْصَار يَضْرِبُونَ الْوَلِيدَة مِنْ وَلَائِدهمْ إِذَا زَنَتْ، فِي مَجَالِسهمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُقِيم الْحُدُود عَلَى الْعَبِيد وَالْإِمَاء السُّلْطَانُ دُون الْمَوْلَى فِي الزِّنَى وَسَائِر الْحُدُود ; وَهُوَ قَوْل الْحَسَن بْن حَيّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَحُدُّهُ الْمَوْلَى فِي كُلّ حَدّ وَيَقْطَعُهُ ; وَاحْتَجَّ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ : يَحُدّهُ فِي الزِّنَى ; وَهُوَ مُقْتَضَى الْأَحَادِيث، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي تَغْرِيب الْعَبِيد فِي هَذِهِ السُّورَة.
فَإِنْ زَنَتْ الْأَمَة ثُمَّ عَتَقَتْ قَبْل أَنْ يَحُدَّهَا سَيِّدهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيل إِلَى حَدّهَا، وَالسُّلْطَان يَجْلِدهَا إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْده ; فَإِنْ زَنَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهَا أَنْ يَجْلِدَهَا أَيْضًا لِحَقِّ الزَّوْج ; إِذْ قَدْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ.
وَهَذَا مَذْهَب مَالِك إِذَا لَمْ يَكُنْ الزَّوْج مِلْكًا لِلسَّيِّدِ، فَلَوْ كَانَ، جَازَ لِلسَّيِّدِ ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّهُمَا حَقّه.
فَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْد بِالزِّنَى وَأَنْكَرَهُ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْحَدّ يَجِب عَلَى الْعَبْد لِإِقْرَارِهِ، وَلَا اِلْتِفَات لِمَا أَنْكَرَهُ الْمَوْلَى، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاء.
وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّر وَأُمّ الْوَلَد وَالْمُكَاتَب وَالْمُعْتَق بَعْضه.
وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ ثُمَّ أُعْتِقَتْ حُدَّتْ حَدَّ الْإِمَاء ; وَإِذَا زَنَتْ وَهِيَ لَا تَعْلَم بِالْعِتْقِ ثُمَّ عَلِمَتْ وَقَدْ حُدَّتْ أُقِيمَ عَلَيْهَا تَمَام حَدّ الْحُرَّة ; ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر.
وَاخْتَلَفُوا فِي عَفْو السَّيِّد عَنْ عَبْده وَأُمَّته إِذَا زَنَيَا ; فَكَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ يَقُول : لَهُ أَنْ يَعْفُوَ.
وَقَالَ غَيْر الْحَسَن : لَا يَسَعُهُ إِلَّا إِقَامَة الْحَدّ، كَمَا لَا يَسَع السُّلْطَان أَنْ يَعْفُوَ عَنْ حَدّ إِذَا عَلِمَهُ، لَمْ يَسَع السَّيِّد كَذَلِكَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ أَمَته إِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدّ ; وَهَذَا عَلَى مَذْهَب أَبِي ثَوْر.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول.
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ
أَيْ الْجَلْد وَيَعْنِي بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا الْأَبْكَار الْحَرَائِر ; لِأَنَّ الثَّيِّب عَلَيْهَا الرَّجْم وَالرَّجْم لَا يَتَبَعَّض، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْبِكْرِ مُحْصَنَة وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَزَوِّجَة ; لِأَنَّ الْإِحْصَان يَكُون بِهَا ; كَمَا يُقَال : أُضْحِيَّة قَبْل أَنْ يُضَحَّى بِهَا ; وَكَمَا يُقَال لِلْبَقَرَةِ : مُثِيرَة قَبْل أَنْ تُثِير.
وَقِيلَ :" الْمُحْصَنَات " الْمُتَزَوِّجَات ; لِأَنَّ عَلَيْهَا الضَّرْبَ وَالرَّجْمَ فِي الْحَدِيث، وَالرَّجْم لَا يَتَبَعَّض فَصَارَ عَلَيْهِنَّ نِصْف الضَّرْب.
وَالْفَائِدَة فِي نُقْصَان حَدِّهِنَّ أَنَّهُنَّ أَضْعَفُ مِنْ الْحَرَائِر.
وَيُقَال : إِنَّهُنَّ لَا يَصِلْنَ إِلَى مُرَادهنَّ كَمَا تَصِل الْحَرَائِر.
وَقِيلَ : لِأَنَّ الْعُقُوبَة تَجِب عَلَى قَدْر النِّعْمَة ; أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" يَا نِسَاء النَّبِيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَاب ضِعْفَيْنِ " [ الْأَحْزَاب : ٣٠ ] فَلَمَّا كَانَتْ نِعْمَتُهُنَّ أَكْثَر جَعَلَ عُقُوبَتهنَّ أَشَدّ، وَكَذَلِكَ الْإِمَاء لَمَّا كَانَتْ نِعْمَتهنَّ أَقَلّ فَعُقُوبَتهنَّ أَقَلّ.
وَذَكَرَ فِي الْآيَة حَدّ الْإِمَاء خَاصَّة، وَلَمْ يَذْكُر حَدَّ الْعَبِيد ; وَلَكِنَّ حَدَّ الْعَبِيد وَالْإِمَاء سَوَاء ; خَمْسُونَ جَلْدَة فِي الزِّنَى، وَفِي الْقَذْف وَشُرْب الْخَمْر أَرْبَعُونَ ; لِأَنَّ حَدّ الْأَمَة إِنَّمَا نَقَصَ لِنُقْصَانِ الرِّقّ فَدَخَلَ الذُّكُور مِنْ الْعَبِيد فِي ذَلِكَ بِعِلَّةِ الْمَمْلُوكِيَّة، كَمَا دَخَلَ الْإِمَاء تَحْت قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْد ).
وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاء الْقِيَاس فِي مَعْنَى الْأَصْل ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات " [ النُّور : ٦ ] الْآيَة.
فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُحْصِنِينَ قَطْعًا ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " النُّور " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ بَيْع الْأَمَة الزَّانِيَة لَيْسَ بَيْعهَا بِوَاجِبٍ لَازِم عَلَى رَبّهَا، وَإِنْ اِخْتَارُوا لَهُ ذَلِكَ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرِّب عَلَيْهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَة فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْر ).
أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة.
وَقَالَ أَهْل الظَّاهِر بِوُجُوبِ بَيْعهَا فِي الرَّابِعَة.
مِنْهُمْ دَاوُدُ وَغَيْره ; لِقَوْلِهِ ( فَلْيَبِعْهَا ) وَقَوْله :( ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ ).
قَالَ اِبْن شِهَاب : فَلَا أَدْرِي بَعْد الثَّالِثَة أَوْ الرَّابِعَة ; وَالضَّفِير الْحَبْل.
فَإِذَا بَاعَهَا بِزِنَاهَا ; لِأَنَّهُ عَيْب فَلَا يَحِلّ أَنْ يَكْتُم.
فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كَانَ مَقْصُود الْحَدِيث إِبْعَاد الزَّانِيَة وَوَجَبَ عَلَى بَائِعهَا التَّعْرِيف بِزِنَاهَا فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَهَا ; لِأَنَّهَا مِمَّا قَدْ أُمِرْنَا بِإِبْعَادِهَا.
فَالْجَوَاب أَنَّهَا مَال وَلَا تُضَاع ; لِلنَّهْيِ عَنْ إِضَاعَة الْمَال، وَلَا تُسَيَّب ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِغْرَاء لَهَا بِالزِّنَى وَتَمْكِين مِنْهُ، وَلَا تُحْبَس دَائِمًا، فَإِنَّ فِيهِ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتهَا عَلَى سَيِّدهَا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا بَيْعهَا.
وَلَعَلَّ السَّيِّد الثَّانِي يُعِفُّهَا بِالْوَطْءِ أَوْ يُبَالِغ فِي التَّحَرُّز فَيَمْنَعهَا مِنْ ذَلِكَ.
وَعَلَى الْجُمْلَة فَعِنْد تَبَدُّل الْمُلَّاك تَخْتَلِف عَلَيْهَا الْأَحْوَال.
وَاَللَّه أَعْلَم.
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أَيْ الصَّبْر عَلَى الْعُزْبَة خَيْر مِنْ نِكَاح الْأَمَة، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِرْقَاق الْوَلَد، وَالْغَضّ مِنْ النَّفْس وَالصَّبْر عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق أَوْلَى مِنْ الْبَذَالَة.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَيّمَا حُرٍّ تَزَوَّجَ بِأَمَةٍ فَقَدْ أُرِقَّ نِصْفه.
يَعْنِي يَصِير وَلَده رَقِيقًا ; فَالصَّبْر عَنْ ذَلِكَ أَفْضَل لِكَيْلَا يَرِقَّ الْوَلَد.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : مَا نِكَاح الْأَمَة مِنْ الزِّنَى إِلَّا قَرِيب، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْر لَكُمْ "، أَيْ عَنْ نِكَاح الْإِمَاء.
وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم قَالَ : سَمِعْت أَنَس بْن مَالِك يَقُول : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :" مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّه طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّجْ الْحَرَائِر ).
وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ مِنْ حَدِيث يُونُس بْن مِرْدَاس، وَكَانَ خَادِمًا لِأَنَسٍ، وَزَادَ : فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( الْحَرَائِر صَلَاح الْبَيْت وَالْإِمَاء هَلَاك الْبَيْت - أَوْ قَالَ - فَسَاد الْبَيْت ).
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مِنْ الْمُحْكَم الْمُتَّفَق عَلَيْهِ، لَيْسَ مِنْهَا شَيْء مَنْسُوخ.
وَكَذَلِكَ هِيَ فِي جَمِيع الْكُتُب.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْ جِهَة الْعَقْل، وَإِنْ لَمْ يَنْزِل بِهِ الْكِتَاب.
وَقَدْ مَضَى مَعْنَى الْعُبُودِيَّة وَهِيَ التَّذَلُّل وَالِافْتِقَار، لِمَنْ لَهُ الْحُكْم وَالِاخْتِيَار ; فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى عِبَادَهُ بِالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالْإِخْلَاص فِيهِ، فَالْآيَة أَصْل فِي خُلُوص الْأَعْمَال لِلَّهِ تَعَالَى وَتَصْفِيَتهَا مِنْ شَوَائِب الرِّيَاء وَغَيْره ; قَالَ اللَّه تَعَالَى " فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا " [ الْكَهْف : ١١٠ ] حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : إِنَّهُ مَنْ تَطَهَّرَ تَبَرُّدًا أَوْ صَامَ مُحِمًّا لِمَعِدَتِهِ وَنَوَى مَعَ ذَلِكَ التَّقَرُّب لَمْ يُجْزِهِ ; لِأَنَّهُ مَزَجَ فِي نِيَّة التَّقَرُّب نِيَّة دُنْيَاوِيَّة وَلَيْسَ لِلَّهِ إِلَّا الْعَمَل الْخَالِص ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" أَلَا لِلَّهِ الدِّين الْخَالِص " [ الزُّمَر : ٣ ].
وَقَالَ تَعَالَى :" وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين " [ الْبَيِّنَة : ٥ ].
وَكَذَلِكَ إِذَا أَحَسَّ الرَّجُل بِدَاخِلٍ فِي الرُّكُوع وَهُوَ إِمَام لَمْ يَنْتَظِرْهُ ; لِأَنَّهُ يُخْرِجُ رُكُوعَهُ بِانْتِظَارِهِ عَنْ كَوْنه خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاء عَنْ الشِّرْك مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْته وَشِرْكَهُ ).
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يُجَاء يَوْم الْقِيَامَة بِصُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ فَتُنْصَب بَيْنَ يَدَيْ اللَّه تَعَالَى فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا فَتَقُول الْمَلَائِكَة وَعِزَّتِك مَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ - وَهُوَ أَعْلَم - إِنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِي وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْم مِنْ الْعَمَل إِلَّا مَا كَانَ اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي ).
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الضَّحَّاك بْن قَيْس الْفِهْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول أَنَا خَيْر شَرِيك فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي شَرِيكًا فَهُوَ لِشَرِيكِي يَا أَيّهَا النَّاس أَخْلِصُوا أَعْمَالكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّه لَا يَقْبَل إِلَّا مَا خَلَصَ لَهُ وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهَا شَيْء وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ وَلَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهَا شَيْء ).
مَسْأَلَة : إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَالُوا : الشِّرْك عَلَى ثَلَاث مَرَاتِب وَكُلّه مُحَرَّم.
وَأَصْله اِعْتِقَاد شَرِيك لِلَّهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَهُوَ الشِّرْك الْأَعْظَم وَهُوَ شِرْك الْجَاهِلِيَّة، وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء ".
[ النِّسَاء : ٤٨ ].
وَيَلِيهِ فِي الرُّتْبَة اِعْتِقَاد شَرِيك لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْفِعْل، وَهُوَ قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ مَوْجُودًا مَا غَيْر اللَّه تَعَالَى يَسْتَقِلُّ بِإِحْدَاثِ فِعْل وَإِيجَاده وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَهُ إِلَهًا كَالْقَدَرِيَّةِ مَجُوس هَذِهِ الْأُمَّة، وَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ اِبْن عُمَر كَمَا فِي حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
وَيَلِي هَذِهِ الرُّتْبَة الْإِشْرَاك فِي الْعِبَادَة وَهُوَ الرِّيَاء ; وَهُوَ أَنْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ الْعِبَادَات الَّتِي أَمَرَ اللَّه بِفِعْلِهَا لَهُ لِغَيْرِهِ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي سِيقَتْ الْآيَات وَالْأَحَادِيث لِبَيَانِ تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ مُبْطِل لِلْأَعْمَالِ وَهُوَ خَفِيّ لَا يَعْرِفُهُ كُلّ جَاهِلٍ غَبِيٍّ.
وَرَضِيَ اللَّه عَنْ الْمُحَاسِبِيّ فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي كِتَابه " الرِّعَايَة " وَبَيَّنَ إِفْسَاده لِلْأَعْمَالِ.
وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيد بْن أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيّ وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا جَمَعَ اللَّه الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة لِيَوْمٍ لَا رَيْب فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَل عَمِلَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابه مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه فَإِنَّ اللَّه أَغْنَى الشُّرَكَاء عَنْ الشِّرْك ).
وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَر الْمَسِيخ الدَّجَّال فَقَالَ :( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيخ الدَّجَّال ؟ ) قَالَ : فَقُلْنَا بَلَى يَا رَسُول اللَّه ; فَقَالَ :( الشِّرْك الْخَفِيّ أَنْ يَقُوم الرَّجُل يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاته لِمَا يَرَى مِنْ نَظَر رَجُل ).
وَفِيهِ عَنْ شَدَّاد بْن أَوْس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ أَخْوَف مَا أَتَخَوَّف عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ أَمَا إِنِّي لَسْت أَقُول يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّه وَشَهْوَةً خَفِيَّةً ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم.
وَسَيَأْتِي فِي آخِر الْكَهْف، وَفِيهِ بَيَان الشَّهْوَة الْخَفِيَّة.
وَرَوَى اِبْن لَهِيعَة عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشَّهْوَة الْخَفِيَّة فَقَالَ :( هُوَ الرَّجُل يَتَعَلَّم الْعِلْم يُحِبّ أَنْ يُجْلَس إِلَيْهِ ).
قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الرِّيَاء عَلَى ثَلَاثَة وُجُوه ; أَحَدهَا : أَنْ يَعْقِدَ فِي أَصْل فِعْله لِغَيْرِ اللَّه وَيُرِيدَ بِهِ أَنْ يُعْرَف أَنَّهُ لِلَّهِ، فَهَذَا صِنْف مِنْ النِّفَاق وَتَشَكُّكٌ فِي الْإِيمَان.
وَالْآخَر : يَدْخُل فِي الشَّيْء لِلَّهِ فَإِذَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْر اللَّه نَشِطَ، فَهَذَا إِذَا تَابَ يَزِيد أَنْ يُعِيد جَمِيع مَا عَمِلَ.
وَالثَّالِث : دَخَلَ فِي الْعَمَل بِالْإِخْلَاصِ وَخَرَجَ بِهِ لِلَّهِ فَعُرِفَ بِذَلِكَ وَمُدِحَ عَلَيْهِ وَسَكَنَ إِلَى مَدْحِهِمْ ; فَهَذَا الرِّيَاء الَّذِي نَهَى اللَّه عَنْهُ.
قَالَ سَهْل : قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ : الرِّيَاء أَنْ تَطْلُبَ ثَوَاب عَمَلِك فِي دَار الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا عَمَل الْقَوْم لِلْآخِرَةِ.
قِيلَ لَهُ : فَمَا دَوَاء الرِّيَاء ؟ قَالَ كِتْمَان الْعَمَل، قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ يُكْتَمُ الْعَمَل ؟ قَالَ : مَا كُلِّفْت إِظْهَاره مِنْ الْعَمَل فَلَا تَدْخُل فِيهِ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ، وَمَا لَمْ تُكَلَّف إِظْهَاره أَحَبَّ أَلَّا يَطَّلِع عَلَيْهِ إِلَّا اللَّه.
قَالَ : وَكُلّ عَمَل اِطَّلَعَ عَلَيْهِ الْخَلْق فَلَا تَعُدَّهُ مِنْ الْعَمَل.
وَقَالَ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ : مَا هُوَ بِعَاقِلٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْرِفَ مَكَانَهُ مِنْ عَمَلِهِ.
قُلْت : قَوْل سَهْل " وَالثَّالِث دَخَلَ فِي الْعَمَل بِالْإِخْلَاصِ " إِلَى آخِرِهِ، إِنْ كَانَ سُكُونُهُ وَسُرُوره إِلَيْهِمْ لِتَحْصُلَ مَنْزِلَتُهُ فِي قُلُوبهمْ فَيَحْمَدُوهُ وَيُجِلُّوهُ وَيَبَرُّوهُ وَيَنَال مَا يُرِيدُهُ مِنْهُمْ مِنْ مَال أَوْ غَيْره فَهَذَا مَذْمُوم ; لِأَنَّ قَلْبه مَغْمُور فَرَحًا بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ اِطَّلَعُوا عَلَيْهِ بَعْد الْفَرَاغ.
فَأَمَّا مَنْ أَطْلَعَ اللَّه عَلَيْهِ خَلْقَهُ وَهُوَ لَا يُحِبُّ اِطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهِ فَيُسَرّ بِصُنْعِ اللَّه وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ فَسُرُوره بِفَضْلِ اللَّه طَاعَةٌ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" قُلْ بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْر مِمَّا يَجْمَعُونَ " [ يُونُس : ٥٨ ].
وَبَسْط هَذَا وَتَتْمِيمُهُ فِي كِتَاب " الرِّعَايَة لِلْمُحَاسِبِيّ "، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ هُنَاكَ.
وَقَدْ سُئِلَ سَهْل عَنْ حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَنِّي أُسِرُّ الْعَمَل فَيُطَّلَع عَلَيْهِ فَيُعْجِبُنِي ) قَالَ : يُعْجِبهُ مِنْ جِهَة الشُّكْر لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ أَوْ نَحْو هَذَا.
فَهَذِهِ جُمْلَة كَافِيَة فِي الرِّيَاء وَخُلُوص الْأَعْمَال.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة ".
حَقِيقَة الْإِخْلَاص.
وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة أَنَّ مِنْ الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا عِتْقهمَا، وَيَأْتِي فِي " سُبْحَان " [ الْإِسْرَاء : ١ ] حُكْم بِرِّهِمَا مَعْنًى مُسْتَوْفًى.
وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة " إِحْسَانٌ " بِالرَّفْعِ أَيْ وَاجِب الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا.
الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، عَلَى مَعْنَى أَحْسِنُوا إِلَيْهِمَا إِحْسَانًا.
قَالَ الْعُلَمَاء : فَأَحَقّ النَّاس بَعْد الْخَالِق الْمَنَّان بِالشُّكْرِ وَالْإِحْسَان وَالْتِزَام الْبِرّ وَالطَّاعَة لَهُ وَالْإِذْعَان مَنْ قَرَنَ اللَّه الْإِحْسَان إِلَيْهِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَته وَشُكْرَهُ بِشُكْرِهِ وَهُمَا الْوَالِدَانِ ; فَقَالَ تَعَالَى :" أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك.
[ لُقْمَان : ١٤ ].
وَرَوَى شُعْبَة وَهُشَيْم الْوَاسِطِيَّانِ عَنْ يَعْلَى بْن عَطَاء عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( رِضَا الرَّبّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسُخْطه فِي سُخْط الْوَالِدَيْنِ ".
وَبِذِي الْقُرْبَى
عَطْف ذِي الْقُرْبَى عَلَى الْوَالِدَيْنِ.
وَالْقُرْبَى : بِمَعْنَى الْقَرَابَة، وَهُوَ مَصْدَر كَالرُّجْعَى وَالْعُقْبَى ; أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَات بِصِلَةِ أَرْحَامهمْ.
وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا مُفَصَّلًا فِي سُورَة " الْقِتَال " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَالْيَتَامَى
الْيَتَامَى عَطْف أَيْضًا، وَهُوَ جَمْع يَتِيم ; مِثْل نَدْمَى جَمْع نَدِيم.
وَالْيُتْم فِي بَنِي آدَم بِفَقْدِ الْأَب، وَفِي الْبَهَائِم بِفَقْدِ الْأُمّ.
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ أَنَّ الْيَتِيم يُقَال فِي بَنِي آدَم فِي فَقْد الْأُمّ ; وَالْأَوَّل الْمَعْرُوف.
وَأَصْله الِانْفِرَاد ; يُقَال : صَبِيٌّ يَتِيم، أَيْ مُنْفَرِد مِنْ أَبِيهِ.
وَبَيْت يَتِيم : أَيْ لَيْسَ قَبْله وَلَا بَعْده شَيْء مِنْ الشِّعْر.
وَدُرَّة يَتِيمَة : لَيْسَ لَهَا نَظِير.
وَقِيلَ : أَصْله الْإِبْطَاء ; فَسُمِّيَ بِهِ الْيَتِيم ; لِأَنَّ الْبِرّ يُبْطِئ عَنْهُ.
وَيُقَال : يَتُمَ يَيْتُم يُتْمًا ; مِثْل عَظُمَ يَعْظُم.
وَيَتِمَ يَيْتَم يَتْمًا وَيَتَمًا ; مِثْل سَمِعَ يَسْمَع، ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْفَرَّاء.
وَقَدْ أَيْتَمَهُ اللَّه.
وَيَدُلّ هَذَا عَلَى الرَّأْفَة بِالْيَتِيمِ وَالْحَضّ عَلَى كَفَالَته وَحِفْظ مَاله ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " النِّسَاء ".
وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كَافِل الْيَتِيم لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّة ).
وَأَشَارَ مَالِك بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ; رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
وَخَرَّجَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد مِنْ حَدِيث الْحَسَن بْن دِينَار أَبِي سَعِيد الْبَصْرِيّ وَهُوَ الْحَسَن بْن وَاصِل قَالَ حَدَّثَنَا الْأَسْوَد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ هِصَّان عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَا قَعَدَ يَتِيم مَعَ قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيَقْرَب قَصْعَتهمْ الشَّيْطَان ).
وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيث حُسَيْن بْن قَيْس وَهُوَ أَبُو عَلِيّ الرَّحَبِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنْ بَيْنَ مُلِمِّينَ إِلَى طَعَامه وَشَرَابه حَتَّى يُغْنِيَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ غَفَرْت لَهُ ذُنُوبه أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَل عَمَلًا لَا يُغْفَر وَمَنْ أَذْهَبَ اللَّه كَرِيمَتَيْهِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ غَفَرْت لَهُ ذُنُوبه - قَالُوا : وَمَا كَرِيمَتَاهُ ؟ قَالَ :- عَيْنَاهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاث بَنَات أَوْ ثَلَاث أَخَوَات فَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُتْنَ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبه أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَل عَمَلًا لَا يُغْفَر ) فَنَادَاهُ رَجُل مِنْ الْأَعْرَاب مِمَّنْ هَاجَرَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه أَوْ اِثْنَتَيْنِ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَوْ اِثْنَتَيْنِ ).
فَكَانَ اِبْن عَبَّاس إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيث قَالَ : هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ غَرَائِب الْحَدِيث وَغُرَرِهِ.
وَالْمَسَاكِينِ
" الْمَسَاكِين " عَطْف أَيْضًا أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِين، وَهُمْ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمْ الْحَاجَة وَأَذَلَّتْهُمْ.
وَهَذَا يَتَضَمَّن الْحَضّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْمُؤَاسَاة وَتَفَقُّد أَحْوَال الْمَسَاكِين وَالضُّعَفَاء.
رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَة وَالْمِسْكِين كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيل اللَّه - وَأَحْسَبهُ قَالَ - وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُر وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِر ).
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكَانَ طَاوُس يَرَى السَّعْي عَلَى الْأَخَوَات أَفْضَل مِنْ الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه.
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ
أَمَّا الْجَار فَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِحِفْظِهِ وَالْقِيَام بِحَقِّهِ وَالْوَصَاة بِرَعْيِ ذِمَّته فِي كِتَابه وَعَلَى لِسَان نَبِيّه.
أَلَا تَرَاهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ ذِكْرَهُ بَعْد الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَقَالَ تَعَالَى :" وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى " أَيْ الْقَرِيب.
" وَالْجَار الْجُنُب " أَيْ الْغَرِيب ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَة.
وَمِنْهُ فُلَان أَجْنَبِيّ، وَكَذَلِكَ الْجَنَابَة الْبُعْد.
وَأَنْشَدَ أَهْل اللُّغَة :فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ | فَإِنِّي اِمْرُؤٌ وَسْط الْقِبَابِ غَرِيبُ |
وَقَالَ الْأَعْشَى :أَتَيْت حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جَنَابَةٍ | فَكَانَ حُرَيْث عَنْ عَطَائِيَ جَامِدًا |
وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَالْمُفَضَّل " وَالْجَار الْجَنْب " بِفَتْحِ الْجِيم وَسُكُون النُّون وَهُمَا لُغَتَانِ ; يُقَال : جَنُبَ وَجَنَبَ وَأَجْنَبَ وَأَجْنَبِيّ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنهمَا قَرَابَة، وَجَمْعه أَجَانِب.
وَقِيلَ : عَلَى تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف، أَيْ وَالْجَار ذِي الْجَنْب أَيْ ذِي النَّاحِيَة.
وَقَالَ نَوْف الشَّامِيّ :" الْجَار ذِي الْقُرْبَى " الْمُسْلِم " وَالْجَار الْجُنُب " الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ.
قُلْت : وَعَلَى هَذَا فَالْوَصَاة بِالْجَارِ مَأْمُور بِهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَهُوَ الصَّحِيح.
وَالْإِحْسَان قَدْ يَكُون بِمَعْنَى الْمُوَاسَاة، وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى حُسْن الْعِشْرَة وَكَفّ الْأَذَى وَالْمُحَامَاة دُونه.
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَا زَالَ جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ).
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي شُرَيْح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِن وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِن وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِن ) قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَنْ ؟ قَالَ :( الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَاره بَوَائِقَهُ ) وَهَذَا عَامّ فِي كُلّ جَارٍ.
وَقَدْ أَكَّدَ عَلَيْهِ السَّلَام تَرْك إِذَايَتِهِ بِقَسَمِهِ ثَلَاث مَرَّات، وَأَنَّهُ لَا يُؤْمِن الْكَامِل مَنْ آذَى جَاره.
فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْذَر أَذَى جَاره، وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَى اللَّه وَرَسُوله عَنْهُ، وَيَرْغَب فِيمَا رَضِيَاهُ وَحَضَّا الْعِبَاد عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( الْجِيرَان ثَلَاثَة فَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق وَجَار لَهُ حَقَّانِ وَجَار لَهُ حَقّ وَاحِد فَأَمَّا الْجَار الَّذِي لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق فَالْجَار الْمُسْلِم الْقَرِيب لَهُ حَقّ الْجِوَار وَحَقّ الْقَرَابَة وَحَقّ الْإِسْلَام وَالْجَار الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَهُوَ الْجَار الْمُسْلِم فَلَهُ حَقّ الْإِسْلَام وَحَقّ الْجِوَار وَالْجَار الَّذِي لَهُ حَقّ وَاحِد هُوَ الْكَافِر لَهُ حَقّ الْجِوَار ).
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيّهمَا أُهْدِي، قَالَ :( إِلَى أَقْرَبهمَا مِنْك بَابًا ).
فَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث يُفَسِّر الْمُرَاد مِنْ قَوْله تَعَالَى :" وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى " وَأَنَّهُ الْقَرِيب الْمَسْكَن مِنْك.
" وَالْجَار الْجُنُب " هُوَ الْبَعِيد الْمَسْكَن مِنْك.
وَاحْتَجُّوا بِهَذَا عَلَى إِيجَاب الشُّفْعَة لِلْجَارِ، وَعَضَّدُوهُ وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( الْجَار أَحَقّ بِصَقَبِهِ ).
وَلَا حُجَّة فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّمَا سَأَلَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ تَبْدَأ بِهِ مِنْ جِيرَانهَا فِي الْهَدِيَّة فَأَخْبَرَهَا أَنَّ مَنْ قَرُبَ بَابه فَإِنَّهُ أَوْلَى بِهَا مِنْ غَيْره.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْجَار يَقَع عَلَى غَيْر اللَّصِيق.
وَقَدْ خَرَجَ أَبُو حَنِيفَة عَنْ ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : إِنَّ الْجَار اللَّصِيق إِذَا تَرَكَ الشُّفْعَة وَطَلَبَهَا الَّذِي يَلِيه وَلَيْسَ لَهُ جِدَار إِلَى الدَّار وَلَا طَرِيق لَا شُفْعَة فِيهِ لَهُ.
وَعَوَامّ الْعُلَمَاء يَقُولُونَ : إِنْ أَوْصَى الرَّجُل لِجِيرَانِهِ أُعْطِيَ اللَّصِيق وَغَيْره ; إِلَّا أَبَا حَنِيفَة فَإِنَّهُ فَارَقَ عَوَامّ الْعُلَمَاء وَقَالَ : لَا يُعْطَى إِلَّا اللَّصِيق وَحْده.
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي حَدّ الْجِيرَة ; فَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يَقُول : أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلّ نَاحِيَة ; وَقَالَهُ اِبْن شِهَاب.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي نَزَلْت مَحَلَّة قَوْم وَإِنَّ أَقْرَبهمْ إِلَيَّ جِوَارًا أَشَدّهمْ لِي أَذًى ; فَبَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْر وَعُمَر وَعَلِيًّا يَصِيحُونَ عَلَى أَبْوَاب الْمَسَاجِد : أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَار وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة مَنْ لَا يَأْمَن جَاره بَوَائِقَهُ.
وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : مَنْ سَمِعَ النِّدَاء فَهُوَ جَار.
وَقَالَتْ فِرْقَة : مَنْ سَمِعَ إِقَامَة الصَّلَاة فَهُوَ جَار ذَلِكَ الْمَسْجِد.
وَقَالَتْ فِرْقَة : مَنْ سَاكَنَ رَجُلًا فِي مَحَلَّة أَوْ مَدِينَة فَهُوَ جَار.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ " [ الْأَحْزَاب : ٦٠ ] إِلَى قَوْله :" ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا " فَجَعَلَ تَعَالَى اِجْتِمَاعَهُمْ فِي الْمَدِينَة جِوَارًا.
وَالْجِيرَة مَرَاتِب بَعْضهَا أَلْصَق مِنْ بَعْض، أَدْنَاهَا الزَّوْجَة ; كَمَا قَالَ :
أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّك طَالِقَهْ
وَمِنْ إِكْرَام الْجَار مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَا أَبَا ذَرّ إِذَا طَبَخْت مَرَقَة فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَك ).
فَحَضَّ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق ; لِمَا رَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ الْمَحَبَّة وَحُسْن الْعِشْرَة وَدَفْع الْحَاجَة وَالْمَفْسَدَة ; فَإِنَّ الْجَار قَدْ يَتَأَذَّى بِقُتَارِ قِدْرِ جَارِهِ، وَرُبَّمَا تَكُون لَهُ ذُرِّيَّة فَتَهِيجُ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ الشَّهْوَة، وَيَعْظُم عَلَى الْقَائِم عَلَيْهِمْ الْأَلَم وَالْكُلْفَة، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْقَائِم ضَعِيفًا أَوْ أَرْمَلَة فَتَعْظُم الْمَشَقَّة وَيَشْتَدّ مِنْهُمْ الْأَلَم وَالْحَسْرَة.
وَهَذِهِ كَانَتْ عُقُوبَة يَعْقُوب فِي فِرَاق يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَام فِيمَا قِيلَ.
وَكُلّ هَذَا يَنْدَفِع بِتَشْرِيكِهِمْ فِي شَيْء مِنْ الطَّبِيخ يُدْفَع إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَضَّ عَلَيْهِ السَّلَام الْجَار الْقَرِيب بِالْهَدِيَّةِ ; لِأَنَّهُ يَنْظُر إِلَى مَا يَدْخُل دَار جَاره وَمَا يَخْرُج مِنْهَا، فَإِذَا رَأَى ذَلِكَ أَحَبَّ أَنْ يُشَارِك فِيهِ ; وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَسْرَع إِجَابَة لِجَارِهِ عِنْدَمَا يَنُوبهُ مِنْ حَاجَة فِي أَوْقَات الْغَفْلَة وَالْغِرَّة ; فَلِذَلِكَ بَدَأَ بِهِ عَلَى مَنْ بَعْد بَابه وَإِنْ كَانَتْ دَاره أَقْرَب.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْعُلَمَاء : لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام " فَأَكْثِرْ مَاءَهَا " نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى تَيْسِير الْأَمْر عَلَى الْبَخِيل تَنْبِيهًا لَطِيفًا، وَجَعَلَ الزِّيَادَة فِيمَا لَيْسَ لَهُ ثَمَن وَهُوَ الْمَاء ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ : إِذَا طَبَخْت مَرَقَة فَأَكْثِرْ لَحْمَهَا ; إِذْ لَا يَسْهُل ذَلِكَ عَلَى كُلّ أَحَد.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِل :قِدْرِي وَقِدْرُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ | وَإِلَيْهِ قَبْلِي تُرْفَعُ الْقِدْرُ |
وَلَا يُهْدِي النَّزْرَ الْيَسِيرَ الْمُحْتَقَرَ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( ثُمَّ اُنْظُرْ أَهْل بَيْت مِنْ جِيرَانك فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ ) أَيْ بِشَيْءٍ يُهْدَى عُرْفًا ; فَإِنَّ الْقَلِيل وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُهْدَى فَقَدْ لَا يَقَع ذَلِكَ الْمَوْقِع، فَلَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ إِلَّا الْقَلِيل فَلْيُهْدِهِ وَلَا يَحْتَقِر، وَعَلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ قَبُولُهُ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( يَا نِسَاء الْمُؤْمِنَات لَا تَحْتَقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاع شَاة مُحْرَقًا ) أَخْرَجَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ.
وَكَذَا قَيَّدْنَاهُ ( يَا نِسَاء الْمُؤْمِنَات ) بِالرَّفْعِ عَلَى غَيْر الْإِضَافَة، وَالتَّقْدِير : يَا أَيّهَا النِّسَاء الْمُؤْمِنَات ; كَمَا تَقُول يَا رِجَال الْكِرَام ; فَالْمُنَادَى مَحْذُوف وَهُوَ يَا أَيّهَا، وَالنِّسَاء فِي التَّقْدِير النَّعْت لِأَيِّهَا، وَالْمُؤْمِنَات نَعْت لِلنِّسَاءِ.
قَدْ قِيلَ : فِيهِ : يَا نِسَاء الْمُؤْمِنَات بِالْإِضَافَةِ، وَالْأَوَّل أَكْثَر.
مِنْ إِكْرَام الْجَار أَلَّا يَمْنَع مِنْ غَرْزِ خَشَبَةٍ لَهُ إِرْفَاقًا بِهِ ; قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا يَمْنَع أَحَدكُمْ جَاره أَنْ يَغْرِز خَشَبَة فِي جِدَاره ).
ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْنَافكُمْ.
رُوِيَ " خُشُبَهُ وَخَشَبَةً " عَلَى الْجَمْع وَالْإِفْرَاد.
وَرُوِيَ " أَكْتَافهمْ " بِالتَّاءِ و " أَكْنَافهمْ " بِالنُّونِ.
وَمَعْنَى " لَأَرْمِيَنَّ بِهَا " أَيْ بِالْكَلِمَةِ وَالْقِصَّة.
وَهَلْ يُقْضَى بِهَذَا عَلَى الْوُجُوب أَوْ النَّدْب ؟ فِيهِ خِلَاف بَيْنَ الْعُلَمَاء.
فَذَهَبَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ النَّدْب إِلَى بِرّ الْجَار وَالتَّجَاوُز لَهُ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب ; بِدَلِيلِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا يَحِلّ مَال اِمْرِئِ مُسْلِم إِلَّا عَنْ طِيب نَفْس مِنْهُ ).
قَالُوا : وَمَعْنَى قَوْله ( لَا يَمْنَع أَحَدكُمْ جَاره ) هُوَ مِثْل مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( إِذَا اِسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ اِمْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِد فَلَا يَمْنَعْهَا ).
وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْد الْجَمِيع النَّدْب، عَلَى مَا يَرَاهُ الرَّجُل مِنْ الصَّلَاح وَالْخَيْر فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَجَمَاعَة أَهْل الْحَدِيث : إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب.
قَالُوا : وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة فَهِمَ فِيمَا سَمِعَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى الْوُجُوب مَا كَانَ لِيُوجِبَ عَلَيْهِمْ غَيْر وَاجِب.
وَهُوَ مَذْهَب عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; فَإِنَّهُ قَضَى عَلَى مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة لِلضَّحَّاكِ بْن خَلِيفَة فِي الْخَلِيج أَنْ يَمُرّ بِهِ فِي أَرْض مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة، فَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة : لَا وَاَللَّهِ.
فَقَالَ عُمَر : وَاَللَّه لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنك.
فَأَمَرَهُ عُمَر أَنْ يَمُرّ بِهِ فَفَعَلَ الضَّحَّاك ; رَوَاهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ.
وَزَعَمَ الشَّافِعِيّ فِي كِتَاب " الرَّدّ " أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَرْوِ عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة خِلَاف عُمَر فِي هَذَا الْبَاب ; وَأَنْكَرَ عَلَى مَالِك أَنَّهُ رَوَاهُ وَأَدْخَلَهُ فِي كِتَابه وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ وَرَدَّهُ بِرَأْيِهِ.
قَالَ أَبُو عُمَر : لَيْسَ كَمَا زَعَمَ الشَّافِعِيّ ; لِأَنَّ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة كَانَ رَأْيه فِي ذَلِكَ خِلَاف رَأْي عُمَر، وَرَأْي الْأَنْصَار أَيْضًا كَانَ خِلَافًا لِرَأْيِ عُمَر، وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف فِي قِصَّة الرَّبِيع وَتَحْوِيله - وَالرَّبِيع السَّاقِيَّة - وَإِذَا اِخْتَلَفَتْ الصَّحَابَة وَجَبَ الرُّجُوع إِلَى النَّظَر، وَالنَّظَر، يَدُلّ عَلَى أَنَّ دِمَاء الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالهمْ وَأَعْرَاضهمْ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض حَرَام إِلَّا مَا تَطِيب بِهِ النَّفْس خَاصَّة ; فَهَذَا هُوَ الثَّابِت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَدُلّ عَلَى الْخِلَاف فِي ذَلِكَ قَوْل أَبِي هُرَيْرَة : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاَللَّه لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهَا ; هَذَا أَوْ نَحْوه.
أَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : الْقَضَاء بِالْمِرْفَقِ خَارِج بِالسُّنَّةِ عَنْ مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا يَحِلّ مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا عَنْ طِيب نَفْس مِنْهُ ) لِأَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ التَّمْلِيك وَالِاسْتِهْلَاك وَلَيْسَ الْمِرْفَق مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنهمَا فِي الْحُكْم.
فَغَيْر وَاجِب أَنْ يُجْمَع بَيْنَ مَا فَرَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَكَى مَالِك أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَاضٍ يَقْضِي بِهِ يُسَمَّى أَبُو الْمُطَّلِب.
وَاحْتَجُّوا مِنْ الْأَثَر بِحَدِيثِ الْأَعْمَش عَنْ أَنَس قَالَ : اُسْتُشْهِدَ مِنَّا غُلَام يَوْم أُحُد فَجَعَلَتْ أُمُّهُ تَمْسَح التُّرَاب عَنْ وَجْهه وَتَقُول : أَبْشِرْ هَنِيئًا لَك الْجَنَّة ; فَقَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّم فِيمَا لَا يَعْنِيه وَيَمْنَع مَا لَا يَضُرُّهُ ).
وَالْأَعْمَش لَا يَصِحُّ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ أَنَس، وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَهُ أَبُو عُمَر.
وَرَدَّ حَدِيث جَمْع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَرَافِق الْجَار، وَهُوَ حَدِيث مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُول اللَّه، مَا حَقّ الْجَار ؟ قَالَ :( إِنْ اِسْتَقْرَضَك أَقْرَضْته وَإِنْ اِسْتَعَانَك أَعَنْته وَإِنْ اِحْتَاجَ أَعْطَيْته وَإِنْ مَرِضَ عُدْته وَإِنْ مَاتَ تَبِعْت جِنَازَته وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْر سَرَّك وَهَنَّيْتَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَة سَاءَتْك وَعَزَّيْته وَلَا تُؤْذِهِ بِنَارِ قِدْرك إِلَّا أَنْ تَعْرِف لَهُ مِنْهَا وَلَا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ لِتُشْرِف عَلَيْهِ وَتَسُدَّ عَلَيْهِ الرِّيح إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنْ اِشْتَرَيْت فَاكِهَة فَأَهْدِ لَهُ مِنْهَا وَإِلَّا فَأَدْخِلْهَا سِرًّا لَا يَخْرُج وَلَدك بِشَيْءٍ مِنْهُ يَغِيظُونَ بِهِ وَلَده وَهَلْ تَفْقَهُونَ مَا أَقُول لَكُمْ لَنْ يُؤَدِّيَ حَقّ الْجَار إِلَّا الْقَلِيل مِمَّنْ رَحِمَ اللَّه ) أَوْ كَلِمَة نَحْوهَا.
هَذَا حَدِيث جَامِع وَهُوَ حَدِيث حَسَن، فِي إِسْنَاده أَبُو الْفَضْل عُثْمَان بْن مَطَر الشَّيْبَانِيّ غَيْر مَرْضِيّ.
قَالَ الْعُلَمَاء : الْأَحَادِيث فِي إِكْرَام الْجَار جَاءَتْ مُطْلَقَة غَيْر مُقَيَّدَة حَتَّى الْكَافِر كَمَا بَيَّنَّا.
وَفِي الْخَبَر قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه أَنُطْعِمُهُمْ مِنْ لُحُوم النُّسُك ؟ قَالَ :( لَا تُطْعِمُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ نُسُك الْمُسْلِمِينَ ).
وَنَهْيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِطْعَام الْمُشْرِكِينَ مِنْ نُسُك الْمُسْلِمِينَ يَحْتَمِل النُّسُك الْوَاجِب فِي الذِّمَّة الَّذِي لَا يَجُوز لِلنَّاسِكِ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ وَلَا أَنْ يُطْعِمَهُ الْأَغْنِيَاء ; فَأَمَّا غَيْر الْوَاجِب الَّذِي يُجْزِيهِ إِطْعَام الْأَغْنِيَاء فَجَائِز أَنْ يُطْعِمَهُ أَهْل الذِّمَّة.
قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة عِنْد تَفْرِيق لَحْم الْأُضْحِيَّة :( اِبْدَئِي بِجَارِنَا الْيَهُودِيّ ).
وَرُوِيَ أَنَّ شَاة ذُبِحَتْ فِي أَهْل عَبْد اللَّه بْن عَمْرو فَلَمَّا جَاءَ قَالَ : أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيّ ؟ - ثَلَاث مَرَّات - سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( مَا زَالَ جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ).
وَقَرَأَ عَاصِم فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَضَّل عَنْهُ " وَالْجَار الْجَنْب " بِفَتْحِ الْجِيم وَسُكُون النُّون.
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : هُوَ عَلَى تَقْدِير حَذْف الْمُضَاف ; أَيْ وَالْجَار ذِي الْجَنْب أَيْ ذِي النَّاحِيَة.
وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش :
النَّاسُ جَنْبٌ وَالْأَمِيرُ جَنْبُ
وَالْجَنْب النَّاحِيَة، أَيْ الْمُتَنَحِّي عَنْ الْقَرَابَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ
أَيْ الرَّفِيق فِي السَّفَر.
وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُ رَجُل مِنْ أَصْحَابه وَهُمَا عَلَى رَاحِلَتَيْنِ فَدَخَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْضَة، فَقَطَعَ قَضِيبَيْنِ أَحَدهمَا مُعْوَجّ، فَخَرَجَ وَأَعْطَى لِصَاحِبِهِ الْقَوِيم ; فَقَالَ : كُنْت يَا رَسُول اللَّه أَحَقّ بِهَذَا ! فَقَالَ :( كَلَّا يَا فُلَان إِنَّ كُلّ صَاحِب يَصْحَب آخَر فَإِنَّهُ مَسْئُول عَنْ صَحَابَته وَلَوْ سَاعَة مِنْ نَهَار ).
وَقَالَ رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن : لِلسَّفَرِ مُرُوءَةٌ وَلِلْحَضَرِ مُرُوءَةٌ ; فَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فِي السَّفَر فَبَذْل الزَّاد، وَقِلَّة الْخِلَاف عَلَى الْأَصْحَاب، وَكَثْرَة الْمِزَاح فِي غَيْر مَسَاخِطِ اللَّه.
وَأَمَّا الْمُرُوءَة فِي الْحَضَر فَالْإِدْمَان إِلَى الْمَسَاجِد، وَتِلَاوَة الْقُرْآن وَكَثْرَة الْإِخْوَان فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَلِبَعْضِ بَنِي أَسَد - وَقِيلَ إِنَّهَا لِحَاتِمٍ الطَّائِيّ :
إِذَا مَا رَفِيقِي لَمْ يَكُنْ خَلْفَ نَاقَتِي | لَهُ مَرْكَب فَضْلًا فَلَا حَمَلَتْ رِجْلِي |
وَلَمْ يَكُ مِنْ زَادِي لَهُ شَطْرُ مِزْوَدِي | فَلَا كُنْت ذَا زَادٍ وَلَا كُنْت ذَا فَضْلِ |
شَرِيكَانِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ أَرَى | عَلَيَّ لَهُ فَضْلًا بِمَا نَالَ مِنْ فَضْلِي |
وَقَالَ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَابْن أَبِي لَيْلَى :" الصَّاحِب بِالْجَنْبِ " الزَّوْجَة.
اِبْن جُرَيْج : هُوَ الَّذِي يَصْحَبك وَيَلْزَمك رَجَاء نَفْعك.
وَالْأَوَّل أَصَحّ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَالضَّحَّاك.
وَقَدْ تَتَنَاوَل الْآيَة الْجَمِيع بِالْعُمُومِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَابْنِ السَّبِيلِ
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ الَّذِي يُجْتَاز بِك مَارًّا.
وَالسَّبِيل الطَّرِيق ; فَنُسِبَ الْمُسَافِر إِلَيْهِ لِمُرُورِهِ عَلَيْهِ وَلُزُومه إِيَّاهُ.
وَمِنْ الْإِحْسَان إِلَيْهِ إِعْطَاؤُهُ وَإِرْفَاقه وَهِدَايَته وَرُشْده.
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَمَالِيك، وَبَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَرَوَى مُسْلِم وَغَيْره عَنْ الْمَعْرُور بْن سُوَيْد قَالَ : مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْد وَعَلَى غُلَامه مِثْله، فَقُلْنَا : يَا أَبَا ذَرّ لَوْ جَمَعْت بَيْنهمَا كَانَتْ حُلَّة ; فَقَالَ : إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُل مِنْ إِخْوَانِي كَلَام، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّة فَعَيَّرْته بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :( يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك اِمْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة ) قُلْت : يَا رَسُول اللَّه، مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمّه.
قَالَ :( يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة هُمْ إِخْوَانكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّه تَحْت أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ).
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ رَكِبَ بَغْلَة ذَات يَوْم فَأَرْدَفَ غُلَامه خَلْفه، فَقَالَ لَهُ قَائِل : لَوْ أَنْزَلْته يَسْعَى خَلْف دَابَّتك ; فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : لَأَنْ يَسْعَى مَعِي ضِغْثَانِ مِنْ نَار يُحْرِقَانِ مِنِّي مَا أَحْرَقَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْعَى غُلَامِي خَلْفِي.
وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ لَايَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُ مِمَّا تَكْتَسُونَ وَمَنْ لَا يُلَايِمُكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْق اللَّه ).
لَايَمَكُمْ وَافَقَكُمْ.
وَالْمُلَايَمَة الْمُوَافَقَة.
وَرَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لِلْمَمْلُوكِ طَعَامه وَكِسْوَته وَلَا يُكَلَّف مِنْ الْعَمَل إِلَّا مَا يُطِيق ) وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا يَقُلْ أَحَدكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي بَلْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي ) وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام.
فَنَدَبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّادَة إِلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَا وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الْإِحْسَان وَإِلَى سُلُوك طَرِيق التَّوَاضُع حَتَّى لَا يَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَزِيَّة عَلَى عَبِيدِهِمْ، إِذْ الْكُلّ عَبِيد اللَّه وَالْمَال مَال اللَّه، لَكِنْ سَخَّرَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ، وَمَلَّكَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَتَنْفِيذًا لِلْحِكْمَةِ ; فَإِنْ أَطْعَمُوهُمْ أَقَلّ مِمَّا يَأْكُلُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَقَلّ مِمَّا يَلْبَسُونَ صِفَةً وَمِقْدَارًا جَازَ إِذَا قَامَ بِوَاجِبِهِ عَلَيْهِ.
وَلَا خِلَاف فِي ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَرَوَى مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَان لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ : أَعْطَيْت الرَّقِيق قُوتَهُمْ ؟ قَالَ لَا.
قَالَ : فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِس عَمَّنْ يَمْلِك قُوتَهُمْ ).
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( مَنْ ضَرَبَ عَبْده حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ ).
وَمَعْنَاهُ أَنْ يَضْرِبهُ قَدْر الْحَدّ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدّ.
وَجَاءَ عَنْ نَفَر مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُمْ اقْتَصُّوا لِلْخَادِمِ مِنْ الْوَلَد فِي الضَّرْب وَأَعْتَقُوا الْخَادِم لَمَّا لَمْ يُرِدْ الْقِصَاص وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَى أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدّ يَوْم الْقِيَامَة ثَمَانِينَ ).
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا يَدْخُل الْجَنَّة سَيِّئُ الْمَلَكَة ).
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( سُوء الْخُلُق شُؤْم وَحُسْن الْمَلَكَة نَمَاء وَصِلَة الرَّحِم تَزِيد فِي الْعُمُر وَالصَّدَقَة تَدْفَع مِيتَة السُّوء ).
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْبَاب أَيّهمَا أَفْضَل الْحُرّ أَوْ الْعَبْد ; فَرَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوك الْمُصْلِح أَجْرَانِ ) وَاَلَّذِي نَفْس أَبِي هُرَيْرَة بِيَدِهِ لَوْلَا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه وَالْحَجّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْت أَنْ أَمُوت وَأَنَا مَمْلُوك.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِنَّ الْعَبْد إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَة اللَّه فَلَهُ أَجْره مَرَّتَيْنِ ).
فَاسْتُدِلَّ بِهَذَا وَمَا كَانَ مِثْله مِنْ فَضْل الْعَبْد ; لِأَنَّهُ مُخَاطَب مِنْ جِهَتَيْنِ : مُطَالَب بِعِبَادَةِ اللَّه، مُطَالَب بِخِدْمَةِ سَيِّده.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُمَر يُوسُف بْن عَبْد الْبَرّ النَّمَرِيّ وَأَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد الْعَامِرِيّ الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ.
اِسْتَدَلَّ مَنْ فَضَّلَ الْحُرّ بِأَنْ قَالَ : الِاسْتِقْلَال بِأُمُورِ الدِّين وَالدُّنْيَا وَإِنَّمَا يَحْصُل بِالْأَحْرَارِ وَالْعَبْد كَالْمَفْقُودِ لِعَدَمِ اِسْتِقْلَال، وَكَالْآلَةِ الْمُصَرَّفَة بِالْقَهْرِ، وَكَالْبَهِيمَةِ الْمُسَخَّرَة بِالْجَبْرِ ; وَلِذَلِكَ سُلِبَ مَنَاصِب الشَّهَادَات وَمُعْظَم الْوِلَايَات، وَنَقَصَتْ حُدُودُهُ عَنْ حُدُود الْأَحْرَار إِشْعَارًا بِخِسَّةِ الْمِقْدَار، وَالْحُرّ وَإِنْ طُولِبَ مِنْ جِهَة وَاحِدَة فَوَظَائِفُهُ فِيهَا أَكْثَر، وَعَنَاؤُهُ أَعْظَم فَثَوَابه أَكْثَر.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو هُرَيْرَة بِقَوْلِهِ : لَوْلَا الْجِهَاد وَالْحَجّ ; أَيْ لَوْلَا النَّقْص الَّذِي يَلْحَق الْعَبْد لِفَوْتِ هَذِهِ الْأُمُور.
وَاَللَّه أَعْلَم.
رَوَى أَنَس بْن مَالِك عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( مَا زَالَ جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالنِّسَاءِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُحَرِّمُ طَلَاقَهُنَّ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالْمَمَالِيكِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مُدَّة إِذَا اِنْتَهَوْا إِلَيْهَا عَتَقُوا، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيت أَنْ يُحْفِيَ فَمِي - وَرُوِيَ حَتَّى كَادَ - وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِقِيَامِ اللَّيْل حَتَّى ظَنَنْت أَنَّ خِيَار أُمَّتِي لَا يَنَامُونَ لَيْلًا ).
ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ فِي تَفْسِيره.
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
أَيْ لَا يَرْضَى.
مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا
فَنَفَى سُبْحَانَهُ مَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَته ; أَيْ لَا يَظْهَر عَلَيْهِ آثَار نِعَمه فِي الْآخِرَة.
وَفِي هَذَا ضَرْب مِنْ التَّوَعُّد.
وَالْمُخْتَال ذُو الْخُيَلَاء أَيْ الْكِبْر.
وَالْفَخُور : الَّذِي يَعْدُدْ مَنَاقِبه كِبْرًا.
وَالْفَخْر : الْبَذَخ وَالتَّطَاوُل.
وَخَصَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّهُمَا تَحْمِلَانِ صَاحِبَيْهِمَا عَلَى الْأَنَفَة مِنْ الْقَرِيب الْفَقِير وَالْجَار الْفَقِير وَغَيْرهمْ مِمَّنْ ذُكِرَ فِي الْآيَة فَيُضِيع أَمْر اللَّه بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ
خَصَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذَا الْخِطَاب الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ الْخَمْر وَأَتْلَفَتْ عَلَيْهِمْ أَذْهَانهمْ فَخُصُّوا بِهَذَا الْخِطَاب ; إِذْ كَانَ الْكُفَّار لَا يَفْعَلُونَهَا صُحَاة وَلَا سُكَارَى.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر قَالَ عُمَر : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا ; فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة " يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْر وَالْمَيْسِر " [ الْبَقَرَة : ٢١٩ ] قَالَ : فَدُعِيَ عُمَر فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا ; فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاء " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " فَكَانَ مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاة يُنَادِي : أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ.
فَدُعِيَ عُمَر فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة :" فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : ٩١ ] قَالَ عُمَر : اِنْتَهَيْنَا.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : كَانَ النَّاس عَلَى أَمْر جَاهِلِيَّتهمْ حَتَّى يُؤْمَرُوا أَوْ يُنْهَوْا ; فَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا أَوَّل الْإِسْلَام حَتَّى نَزَلَتْ :" يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْر وَالْمَيْسِر قُلْ فِيهِمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافِع لِلنَّاسِ " [ الْبَقَرَة : ٢١٩ ].
قَالُوا : نَشْرَبهَا لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلْإِثْمِ ; فَشَرِبَهَا رَجُل فَتَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمْ فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ ; فَنَزَلَتْ :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى ".
فَقَالُوا : فِي غَيْر عَيْن الصَّلَاة.
فَقَالَ عُمَر : اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا ; فَنَزَلَتْ :" إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان " [ الْمَائِدَة : ٩١ ] الْآيَة.
فَقَالَ عُمَر : اِنْتَهَيْنَا، اِنْتَهَيْنَا.
ثُمَّ طَافَ مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا إِنَّ الْخَمْر قَدْ حُرِّمَتْ ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى : وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : صَنَعَ لَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْر، فَأَخَذَتْ الْخَمْر مِنَّا، وَحَضَرَتْ الصَّلَاة فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت :" قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ " [ الْكَافِرُونَ :
١ - ٢ ] وَنَحْنُ نَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ.
قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ".
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَوَجْه الِاتِّصَال وَالنَّظْم بِمَا قَبْله أَنَّهُ قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى :" وَاعْبُدُوا اللَّه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " [ النِّسَاء : ٣٦ ].
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْد الْإِيمَان الصَّلَاة الَّتِي هِيَ رَأْس الْعِبَادَات ; وَلِذَلِكَ يُقْتَلُ تَارِكهَا وَلَا يَسْقُط فَرْضهَا، وَانْجَرَّ الْكَلَام إِلَى ذِكْر شُرُوطهَا الَّتِي لَا تَصِحّ إِلَّا بِهَا.
وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالسُّكْرِ سُكْر الْخَمْر ; إِلَّا الضَّحَّاك فَإِنَّهُ قَالَ : الْمُرَاد سُكْر النَّوْم ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( إِذَا نَعَسَ أَحَدكُمْ فِي الصَّلَاة فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَب عَنْهُ النَّوْم، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِر فَيَسُبُّ نَفْسه ).
وَقَالَ عَبِيدَة السَّلْمَانِيّ :" وَأَنْتُمْ سُكَارَى " يَعْنِي إِذَا كُنْت حَاقِنًا ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدكُمْ وَهُوَ حَاقِن ) فِي رِوَايَة ( وَهُوَ ضَامٌّ بَيْنَ فَخِذَيْهِ ).
قُلْت : وَقَوْل الضَّحَّاك وَعَبِيدَة صَحِيح الْمَعْنَى ; فَإِنَّ الْمَطْلُوب مِنْ الْمُصَلِّي الْإِقْبَال عَلَى اللَّه تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَتَرْك الِالْتِفَات إِلَى غَيْره، وَالْخُلُوّ عَنْ كُلّ مَا يُشَوِّش عَلَيْهِ مِنْ نَوْم وَحُقْنَة وَجُوع، وَكُلّ مَا يَشْغَل الْبَال وَيُغَيِّر الْحَال.
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا حَضَرَ الْعَشَاء وَأُقِيمَتْ الصَّلَاة فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ ).
فَرَاعَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَال كُلّ مُشَوِّش يَتَعَلَّق بِهِ الْخَاطِر، حَتَّى يُقْبِل عَلَى عِبَادَة رَبّه بِفَرَاغِ قَلْبه وَخَالِص لُبِّهِ، فَيَخْشَع فِي صَلَاته.
وَيَدْخُل فِي هَذِهِ الْآيَة :" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتهمْ خَاشِعُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ :
١ - ٢ ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ قَوْله تَعَالَى : يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى " مَنْسُوخ بِآيَةِ الْمَائِدَة :" إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا " [ الْمَائِدَة : ٦ ] الْآيَة.
فَأُمِرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْل بِأَلَّا يُصَلُّوا سُكَارَى ; ثُمَّ أُمِرُوا بِأَنْ يُصَلُّوا عَلَى كُلّ حَال ; وَهَذَا قَبْل التَّحْرِيم.
وَقَالَ مُجَاهِد : نُسِخَتْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْر.
وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَة وَقَتَادَة، وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْبَاب لِحَدِيثِ عَلِيّ الْمَذْكُور.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَنَادَى مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس.
وَعَلَى قَوْل الضَّحَّاك وَعَبِيدَة الْآيَة مُحْكَمَة لَا نَسْخ فِيهَا.
قَوْله تَعَالَى :" لَا تَقْرَبُوا " إِذَا قِيلَ : لَا تَقْرَبْ بِفَتْحِ الرَّاء كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَلَبَّسْ بِالْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاء كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْهُ.
وَالْخِطَاب لِجَمَاعَةِ الْأُمَّة الصَّاحِينَ.
وَأَمَّا السَّكْرَان إِذَا عَدِمَ الْمَيْزَ لِسُكْرِهِ فَلَيْسَ بِمُخَاطَبٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لِذَهَابِ عَقْله ; وَإِنَّمَا هُوَ مُخَاطَب بِامْتِثَالِ مَا يَجِب عَلَيْهِ، وَبِتَكْفِيرِ مَا ضَيَّعَ فِي وَقْت سُكْره مِنْ الْأَحْكَام الَّتِي تَقَرَّرَ تَكْلِيفه إِيَّاهَا قَبْل السُّكْر.
قَوْله تَعَالَى :" الصَّلَاة " اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالصَّلَاةِ هُنَا ; فَقَالَتْ طَائِفَة : هِيَ الْعِبَادَة الْمَعْرُوفَة نَفْسهَا ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة ; وَلِذَلِكَ قَالَ " حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ".
وَقَالَتْ طَائِفَة : الْمُرَاد مَوَاضِع الصَّلَاة ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ، فَحُذِفَ الْمُضَاف.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى " لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ " [ الْحَجّ : ٤٠ ] فَسَمَّى مَوَاضِع الصَّلَاة صَلَاة.
وَيَدُلّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى :" وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَاز الْعُبُور لِلْجُنُبِ فِي الْمَسْجِد لَا الصَّلَاة فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " الْمُسَافِر إِذَا لَمْ يَجِد الْمَاء فَإِنَّهُ يَتَيَمَّم وَيُصَلِّي ; وَسَيَأْتِي بَيَانه.
وَقَالَتْ طَائِفَة : الْمُرَاد الْمَوْضِع وَالصَّلَاة مَعًا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ لَا يَأْتُونَ الْمَسْجِد إِلَّا لِلصَّلَاةِ وَلَا يُصَلُّونَ إِلَّا مُجْتَمِعِينَ، فَكَانَا مُتَلَازِمَيْنِ.
قَوْله تَعَالَى :" وَأَنْتُمْ سُكَارَى " اِبْتِدَاء وَخَبَر، جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ " تَقْرَبُوا ".
و " سُكَارَى " جَمْع سَكْرَان ; مِثْل كَسْلَان وَكُسَالَى.
وَقَرَأَ النَّخَعِيّ " سَكْرَى " بِفَتْحِ السِّين عَلَى مِثَال فَعْلَى، وَهُوَ تَكْسِير سَكْرَان ; وَإِنَّمَا كُسِرَ عَلَى سَكْرَى لِأَنَّ السُّكْر آفَة تَلْحَق الْعَقْل فَجَرَى مَجْرَى صَرْعَى وَبَابه.
وَقَرَأَ الْأَعْمَش " سُكْرَى " كَحُبْلَى فَهُوَ صِفَة مُفْرَدَة ; وَجَازَ الْإِخْبَار بِالصِّفَةِ الْمُفْرَدَة عَنْ الْجَمَاعَة عَلَى مَا يَسْتَعْمِلُونَهُ مِنْ الْإِخْبَار عَنْ الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ.
وَالسُّكْر : نَقِيض الصَّحْو ; يُقَال : سَكِرَ يَسْكَر سَكْرًا، مِنْ بَاب حَمِدَ يَحْمَد.
وَسَكِرَتْ عَيْنُهُ تَسْكُر أَيْ تَحَيَّرَتْ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا " [ الْحِجْر : ١٥ ].
وَسَكَّرْت الشَّقَّ سَدَدْته.
فَالسَّكْرَان قَدْ اِنْقَطَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْل.
وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل بَلْ نَصّ عَلَى أَنَّ الشُّرْب كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّل الْإِسْلَام حَتَّى يَنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى السُّكْر.
وَقَالَ قَوْم : السُّكْر مُحَرَّم فِي الْعَقْل وَمَا أُبِيحَ فِي شَيْء مِنْ الْأَدْيَان ; وَحَمَلُوا السُّكْر فِي هَذِهِ الْآيَة عَلَى النَّوْم.
وَقَالَ الْقَفَّال : يَحْتَمِل أَنَّهُ كَانَ أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ الشَّرَاب مَا يُحَرِّك الطَّبْع إِلَى السَّخَاء وَالشُّجَاعَة وَالْحَمِيَّة.
قُلْت : وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُود فِي أَشْعَارهمْ ; وَقَدْ قَالَ حَسَّان :
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا
وَقَدْ أَشْبَعْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة ".
قَالَ الْقَفَّال : فَأَمَّا مَا يُزِيل الْعَقْل حَتَّى يَصِير صَاحِبه فِي حَدّ الْجُنُون وَالْإِغْمَاء فَمَا أُبِيحَ قَصْده، بَلْ لَوْ اِتَّفَقَ مِنْ غَيْر قَصْد فَيَكُون مَرْفُوعًا عَنْ صَاحِبه.
قُلْت : هَذَا صَحِيح، وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي قِصَّة حَمْزَة.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة يَجْتَنِبُونَ الشُّرْب أَوْقَات الصَّلَوَات، فَإِذَا صَلَّوْا الْعِشَاء شَرِبُوهَا ; فَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي " الْمَائِدَة " فِي قَوْله تَعَالَى :" فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : ٩١ ].
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
أَيْ حَتَّى تَعْلَمُوهُ مُتَيَقِّنِينَ فِيهِ مِنْ غَيْر غَلَط.
وَالسَّكْرَان لَا يَعْلَم مَا يَقُول ; وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ السَّكْرَان لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَطَاوُس وَعَطَاء وَالْقَاسِم وَرَبِيعَة، وَهُوَ قَوْل اللَّيْث بْن سَعْد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَالْمُزَنِيّ ; وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ وَقَالَ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ طَلَاق الْمَعْتُوه لَا يَجُوز، وَالسَّكْرَان مَعْتُوه كَالْمُوَسْوَسِ مَعْتُوه بِالْوَسْوَاسِ.
وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْبَنْج فَذَهَبَ عَقْله أَنَّ طَلَاقه غَيْر جَائِز ; فَكَذَلِكَ مَنْ سَكِرَ مِنْ الشَّرَاب.
وَأَجَازَتْ طَائِفَة طَلَاقه ; وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَمُعَاوِيَة وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْل الشَّافِعِيّ.
وَأَلْزَمهُ مَالِك الطَّلَاق وَالْقَوَد فِي الْجِرَاح وَالْقَتْل، وَلَمْ يُلْزِمْهُ النِّكَاح وَالْبَيْع.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : أَفْعَال السَّكْرَان وَعُقُوده كُلّهَا ثَابِتَة كَأَفْعَالِ الصَّاحِي، إِلَّا الرِّدَّة فَإِنَّهُ إِذَا اِرْتَدَّ فَإِنَّهُ لَا تَبِينُ مِنْهُ اِمْرَأَته إِلَّا اِسْتِحْسَانًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف : يَكُون مُرْتَدًّا فِي حَال سُكْره ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُهُ فِي حَال سُكْره وَلَا يَسْتَتِيبُهُ.
وَقَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازَرِيّ : وَقَدْ رُوِيَتْ عِنْدنَا رِوَايَة شَاذَّة أَنَّهُ لَا يَلْزَم طَلَاق السَّكْرَان.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم : لَا يَلْزَمهُ طَلَاق وَلَا عَتَاق.
قَالَ اِبْن شَاسٍ : وَنَزَّلَ الشَّيْخ أَبُو الْوَلِيد الْخِلَاف عَلَى الْمُخَلِّط الَّذِي مَعَهُ بَقِيَّة مِنْ عَقْله إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِك الِاخْتِلَاط مِنْ نَفْسه فَيُخْطِئ وَيُصِيب.
قَالَ : فَأَمَّا السَّكْرَان الَّذِي لَا يَعْرِف الْأَرْض مِنْ السَّمَاء وَلَا الرَّجُل مِنْ الْمَرْأَة، فَلَا اِخْتِلَاف فِي أَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ فِي جَمِيع أَفْعَاله وَأَحْوَاله فِيمَا بَيْنه وَبَيْنَ النَّاس، وَفِيمَا بَيْنه وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى أَيْضًا ; إِلَّا فِيمَا ذَهَبَ وَقْته مِنْ الصَّلَوَات، فَقِيلَ : إِنَّهَا لَا تَسْقُط عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَجْنُون ; مِنْ أَجْل أَنَّهُ بِإِدْخَالِهِ السُّكْر عَلَى نَفْسه كَالْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتهَا.
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : حَدُّ السُّكْر اِخْتِلَال الْعَقْل ; فَإِذَا اُسْتُقْرِئَ فَخَلَّطَ فِي قِرَاءَته وَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يُعْرَفُ جُلِدَ.
وَقَالَ أَحْمَد : إِذَا تَغَيَّرَ عَقْله عَنْ حَال الصِّحَّة فَهُوَ سَكْرَان ; وَحُكِيَ عَنْ مَالِك نَحْوه.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : إِذَا خَلَّطَ فِي قِرَاءَته فَهُوَ سَكْرَان ; اِسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى :" حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ".
فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَم مَا يَقُول تَجَنَّبَ الْمَسْجِد مَخَافَة التَّلْوِيث ; وَلَا تَصِحّ صَلَاته وَإِنْ صَلَّى قَضَى.
وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَعْلَم مَا يَقُول فَأَتَى بِالصَّلَاةِ فَحُكْمُهُ حُكْم الصَّاحِي.
تَقُولُونَ وَلَا
عَطْف عَلَى مَوْضِع الْجُمْلَة الْمَنْصُوبَة فِي قَوْله :" حَتَّى تَعْلَمُوا " أَيْ لَا تُصَلُّوا وَقَدْ أَجْنَبْتُمْ.
وَيُقَال : تَجَنَّبْتُمْ وَأَجْنَبْتُمْ وَجَنَّبْتُمْ بِمَعْنًى.
وَلَفْظ الْجُنُب لَا يُؤَنَّث وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَع ; لِأَنَّهُ عَلَى وَزْن الْمَصْدَر كَالْبُعْدِ وَالْقُرْب.
وَرُبَّمَا خَفَّفُوهُ فَقَالُوا : جَنْب ; وَقَدْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ قَوْم.
وَقَالَ الْفَرَّاء : يُقَال جَنَبَ الرَّجُل وَأَجْنَبَ مِنْ الْجَنَابَة.
وَقِيلَ : يُجْمَع الْجُنُب فِي لُغَة عَلَى أَجْنَاب ; مِثْل عُنُق وَأَعْنَاق، وَطُنُب وَأَطْنَاب.
وَمَنْ قَالَ لِلْوَاحِدِ جَانِب قَالَ فِي الْجَمْع : جُنَّاب ; كَقَوْلِك : رَاكِب وَرُكَّاب.
وَالْأَصْل الْبُعْد ; كَأَنَّ الْجُنُب بَعُدَ بِخُرُوجِ الْمَاء الدَّافِق عَنْ حَال الصَّلَاة ; قَالَ :
فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ | فَإِنِّي اِمْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ |
وَرَجُل جُنُب : غَرِيب.
وَالْجَنَابَة مُخَالَطَة الرَّجُل الْمَرْأَة.
وَالْجُمْهُور مِنْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الْجُنُب هُوَ غَيْر الطَّاهِر مِنْ إِنْزَال أَوْ مُجَاوَزَة خِتَان.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْض الصَّحَابَة أَلَّا غُسْل إِلَّا مِنْ إِنْزَال ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّمَا الْمَاء مِنْ الْمَاء ) أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُول اللَّه، إِذَا جَامَعَ الرَّجُل الْمَرْأَة فَلَمْ يُنْزِلْ ؟ قَالَ :( يَغْسِل مَا مَسَّ الْمَرْأَة مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأ وَيُصَلِّي ).
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه : الْغُسْل أَحْوَطُ ; وَذَلِكَ الْآخَر إِنَّمَا بَيَّنَّاهُ لِاخْتِلَافِهِمْ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِي آخِره : قَالَ أَبُو الْعَلَاء بْن الشِّخِّيرِ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَخُ حَدِيثُهُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا يَنْسَخ الْقُرْآن بَعْضُهُ بَعْضًا.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق : هَذَا مَنْسُوخ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ : كَانَ هَذَا الْحُكْم فِي أَوَّل الْإِسْلَام ثُمَّ نُسِخَ.
قُلْت : عَلَى هَذَا جَمَاعَة الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاء الْأَمْصَار، وَأَنَّ الْغُسْل يَجِب بِنَفْسِ اِلْتِقَاء الْخِتَانَيْنِ.
وَقَدْ كَانَ فِيهِ خِلَاف بَيْنَ الصَّحَابَة ثُمَّ رَجَعُوا فِيهِ إِلَى رِوَايَة عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبهَا الْأَرْبَع وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ مِنْهُ وَجَبَ الْغُسْل ).
أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبهَا الْأَرْبَع ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْل ).
زَادَ مُسْلِم ( وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ).
وَقَالَ اِبْن الْقَصَّار : وَأَجْمَعَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَعْد خِلَاف مَنْ قَبْلهمْ عَلَى الْأَخْذ بِحَدِيثِ ( إِذَا اِلْتَقَى الْخِتَانَانِ ) وَإِذَا صَحَّ الْإِجْمَاع بَعْد الْخِلَاف كَانَ مُسْقِطًا لِلْخِلَافِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : لَا نَعْلَم أَحَدًا قَالَ بِهِ بَعْد خِلَاف الصَّحَابَة إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَعْمَش ثُمَّ بَعْده دَاوُدُ الْأَصْبَهَانِيّ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَمَلَ النَّاس عَلَى تَرْك الْأَخْذ بِحَدِيثِ ( الْمَاء مِنْ الْمَاء ) لَمَّا اِخْتَلَفُوا.
وَتَأَوَّلَهُ اِبْن عَبَّاس عَلَى الِاحْتِلَام ; أَيْ إِنَّمَا يَجِب الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ مِنْ إِنْزَال الْمَاء فِي الِاحْتِلَام.
وَمَتَى لَمْ يَكُنْ إِنْزَالٌ وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ يُجَامِع فَلَا غُسْل.
وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ كَافَّة الْعُلَمَاء.
جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي
يُقَال : عَبَرْت الطَّرِيق أَيْ قَطَعْته مِنْ جَانِب إِلَى جَانِب.
وَعَبَرْت النَّهَر عُبُورًا، وَهَذَا عَبَرَ النَّهَر أَيْ شَطَّهُ، وَيُقَال : عُبْر بِالضَّمِّ.
وَالْمَعْبَر مَا يُعْبَر عَلَيْهِ مِنْ سَفِينَة أَوْ قَنْطَرَة.
وَهَذَا عَابِر السَّبِيل أَيْ مَارّ الطَّرِيق.
وَنَاقَة عُبْرُ أَسْفَار : لَا تَزَال يُسَافَر عَلَيْهَا وَيُقْطَع بِهَا الْفَلَاة وَالْهَاجِرَة لِسُرْعَةِ مَشْيهَا.
قَالَ الشَّاعِر :عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ شِمِلَّةٌ | عُبْر الْهَوَاجِرِ كَالْهِزَفِّ الْخَاضِبِ |
وَعَبَرَ الْقَوْم مَاتُوا.
وَأَنْشَدَ :قَضَاءُ اللَّهِ يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ | وَيَلْعَبُ بِالْجَزُوعِ وَبِالصَّبُورِ |
فَإِنْ نَعْبُرْ فَإِنَّ لَنَا لُمَاتٍ | وَإِنْ نَغْبُرْ فَنَحْنُ عَلَى نُذُورِ |
يَقُول : إِنْ مُتْنَا فَلَنَا أَقْرَان، وَإِنْ بَقِينَا فَلَا بُدّ لَنَا مِنْ الْمَوْت ; حَتَّى كَأَنَّ عَلَيْنَا فِي إِتْيَانه نُذُورًا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَوْله :" إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَابْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَالْحَكَم : عَابِر السَّبِيل الْمُسَافِر.
وَلَا يَصِحّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَبَ الصَّلَاة وَهُوَ جُنُب إِلَّا بَعْد الِاغْتِسَال، إِلَّا الْمُسَافِر فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ ; وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَة ; لِأَنَّ الْغَالِب فِي الْمَاء لَا يُعْدَم فِي الْحَضَر ; فَالْحَاضِر يَغْتَسِل لِوُجُودِ الْمَاء، وَالْمُسَافِر يَتَيَمَّم إِذَا لَمْ يَجِدهُ.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي فِي الْجُنُب الْمُسَافِر يَمُرّ عَلَى مَسْجِد فِيهِ عَيْن مَاء يَتَيَمَّم الصَّعِيد وَيَدْخُل الْمَسْجِد وَيَسْتَقِي مِنْهَا ثُمَّ يُخْرِج الْمَاء مِنْ الْمَسْجِد.
وَرَخَّصَتْ طَائِفَة فِي دُخُول الْجُنُب الْمَسْجِد.
وَاحْتَجَّ بَعْضهمْ بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْمُؤْمِن لَيْسَ بِنَجِسٍ ).
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَابْن مَسْعُود وَعِكْرِمَة وَالنَّخَعِيّ : عَابِر السَّبِيل الْخَاطِر الْمُجْتَاز ; وَهُوَ قَوْل عَمْرو بْن دِينَار وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ.
وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يَمُرّ الْجُنُب فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَلَّا يَجِد بُدًّا فَيَتَيَمَّم وَيَمُرّ فِيهِ ; هَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيّ وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ.
وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق فِي الْجُنُب : إِذَا تَوَضَّأَ لَا بَأْس أَنْ يَجْلِس فِي الْمَسْجِد حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر.
وَرَوَى بَعْضهمْ فِي سَبَب الْآيَة أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَار كَانَتْ أَبْوَاب دُورهمْ شَارِعَةً فِي الْمَسْجِد، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدهمْ الْجَنَابَة اُضْطُرَّ إِلَى الْمُرُور فِي الْمَسْجِد.
قُلْت : وَهَذَا صَحِيح ; يُعَضِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَسْرَة بِنْت دَجَاجَة قَالَتْ : سَمِعْت عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا تَقُول : جَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوه بُيُوت أَصْحَابه شَارِعَة فِي الْمَسْجِد ; فَقَالَ :( وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوت عَنْ الْمَسْجِد ).
ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصْنَع الْقَوْم شَيْئًا رَجَاء أَنْ تَنْزِل لَهُمْ رُخْصَة فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ :( وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوت عَنْ الْمَسْجِد فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِد لِحَائِضٍ وَلَا جُنُب ).
وَفِي صَحِيح مُسْلِم :( لَا تَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِد خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْر ).
فَأَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْأَبْوَاب لِمَا كَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اِتِّخَاذ الْمَسْجِد طَرِيقًا وَالْعُبُور فِيهِ.
وَاسْتَثْنَى خَوْخَة أَبِي بَكْر إِكْرَامًا لَهُ وَخُصُوصِيَّةً ; لِأَنَّهُمَا كَانَا لَا يَفْتَرِقَانِ غَالِبًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِد وَلَا يَجْلِس فِيهِ إِلَّا عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَرَوَاهُ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ وَلَا يَصْلُح أَنْ يُجْنِب فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَنَا وَعَلِيّ ).
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ ; لِأَنَّ بَيْت عَلِيّ كَانَ فِي الْمَسْجِد، كَمَا كَانَ بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتَانِ لَمْ يَكُونَا فِي الْمَسْجِد وَلَكِنْ كَانَا مُتَّصِلَيْنِ بِالْمَسْجِدِ وَأَبْوَابهمَا كَانَتْ فِي الْمَسْجِد فَجَعَلَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِد فَقَالَ :( مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ ) الْحَدِيث.
وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَيْت عَلِيّ كَانَ فِي الْمَسْجِد مَا رَوَاهُ اِبْن شِهَاب عَنْ سَالِم بْن عَبْد اللَّه قَالَ : سَأَلَ رَجُل أَبِي عَنْ عَلِيّ وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَيّهمَا كَانَ خَيْرًا ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : هَذَا بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! وَأَشَارَ إِلَى بَيْت عَلِيّ إِلَى جَنْبه، لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِد غَيْرهمَا ; وَذَكَرَ الْحَدِيث.
فَلَمْ يَكُونَا يُجْنِبَانِ فِي الْمَسْجِد وَإِنَّمَا كَانَا يُجْنِبَانِ فِي بُيُوتهمَا، وَبُيُوتهمَا مِنْ الْمَسْجِد إِذْ كَانَ أَبْوَابهمَا فِيهِ ; فَكَانَا يَسْتَطْرِقَانِهِ فِي حَال الْجَنَابَة إِذَا خَرَجَا مِنْ بُيُوتِهِمَا.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَهُمَا ; وَقَدْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصَّ بِأَشْيَاء، فَيَكُون هَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ، ثُمَّ خَصَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَام فَرَخَّصَ لَهُ فِي مَا لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ لِغَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ أَبْوَاب بُيُوتهمْ فِي الْمَسْجِد، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِد أَبْوَاب بُيُوت غَيْر بَيْتَيْهِمَا ; حَتَّى أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّهَا إِلَّا بَاب عَلِيّ.
وَرَوَى عَمْرو بْن مَيْمُون عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( سُدُّوا الْأَبْوَاب إِلَّا بَاب عَلِيّ ) فَخَصَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنْ تُرِكَ بَابه فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ يُجْنِب فِي بَيْته وَبَيْته فِي الْمَسْجِد.
وَأَمَّا قَوْله :( لَا تَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِد خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْر ) فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَتْ - وَاَللَّه أَعْلَم - أَبْوَابًا تَطْلُع إِلَى الْمَسْجِد خَوْخَات، وَأَبْوَاب الْبُيُوت خَارِجَة مِنْ الْمَسْجِد ; فَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَام بِسَدِّ تِلْكَ الْخَوْخَات وَتَرْك خَوْخَة أَبِي بَكْر إِكْرَامًا لَهُ.
وَالْخَوْخَات كَالْكُوَى وَالْمَشَاكِي، وَبَاب عَلِيّ كَانَ بَاب الْبَيْت الَّذِي كَانَ يَدْخُل مِنْهُ وَيَخْرُج.
وَقَدْ فَسَّرَ اِبْن عُمَر ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِد غَيْرهمَا.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَطَاء بْن يَسَار أَنَّهُ قَالَ : كَانَ رِجَال مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَة فَيَتَوَضَّئُونَ وَيَأْتُونَ الْمَسْجِد فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ.
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اللُّبْث فِي الْمَسْجِد لِلْجُنُبِ جَائِز إِذَا تَوَضَّأَ ; وَهُوَ مَذْهَب أَحْمَد وَإِسْحَاق كَمَا ذَكَرْنَا.
فَالْجَوَاب أَنَّ الْوُضُوء لَا يَرْفَع حَدَثَ الْجَنَابَة، وَكُلّ مَوْضِع وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ وَأُكْرِمَ عَنْ النَّجَاسَة الظَّاهِرَة يَنْبَغِي أَلَّا يَدْخُلَهُ مَنْ لَا يُرْضَى لِتِلْكَ الْعِبَادَة، وَلَا يَصِحّ لَهُ أَنْ يَتَلَبَّس بِهَا.
وَالْغَالِب مِنْ أَحْوَالهمْ الْمَنْقُولَة أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَسِلُونَ فِي بُيُوتهمْ.
فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُل بِالْمُحْدِثِ.
قُلْنَا : ذَلِكَ يَكْثُر وُقُوعه فَيَشُقّ الْوُضُوء مِنْهُ ; وَفِي قَوْله تَعَالَى :" وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيل " مَا يُغْنِي وَيَكْفِي.
وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوز لَهُ اللُّبْث فِي الْمَسْجِد فَأَحْرَى أَلَّا يَجُوز لَهُ مَسُّ الْمُصْحَف وَلَا الْقِرَاءَة فِيهِ ; إِذْ هُوَ أَعْظَم حُرْمَة.
وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي " الْوَاقِعَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَيُمْنَع الْجُنُب عِنْد عُلَمَائِنَا مِنْ قِرَاءَة الْقُرْآن غَالِبًا إِلَّا الْآيَات الْيَسِيرَة لِلتَّعَوُّذِ.
وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يَقْرَأ الْجُنُب وَالْحَائِض شَيْئًا مِنْ الْقُرْآن ) أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث سُفْيَان عَنْ مِسْعَر، وَشُعْبَة عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْجُبهُ عَنْ قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء إِلَّا أَنْ يَكُون جُنُبًا.
قَالَ سُفْيَان : قَالَ لِي شُعْبَة : مَا أُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَحْسَنَ مِنْهُ.
وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر، حَدَّثَنَا شُعْبَة، عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة ; فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس، عَنْ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَقْرَأ أَحَدُنَا الْقُرْآن وَهُوَ جُنُب ; أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَرَوَى عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : كَانَ اِبْن رَوَاحَة مُضْطَجِعًا إِلَى جَنْب اِمْرَأَته فَقَامَ إِلَى جَارِيَة لَهُ فِي نَاحِيَة الْحُجْرَة فَوَقَعَ عَلَيْهَا ; وَفَزِعَتْ اِمْرَأَته فَلَمْ تَجِدْهُ فِي مَضْجَعِهِ، فَقَامَتْ فَخَرَجَتْ فَرَأَتْهُ عَلَى جَارِيَتِهِ، فَرَجَعَتْ إِلَى الْبَيْت فَأَخَذَتْ الشَّفْرَة ثُمَّ خَرَجَتْ، وَفَرَغَ فَقَامَ فَلَقِيَهَا تَحْمِلُ الشَّفْرَة فَقَالَ مَهْيَمْ ؟ قَالَتْ : مَهْيَمْ ! لَوْ أَدْرَكْتُك حَيْثُ رَأَيْتُك لَوَجَأْت بَيْنَ كَتِفَيْك بِهَذِهِ الشَّفْرَة.
قَالَ : وَأَيْنَ رَأَيْتنِي ؟ قَالَتْ : رَأَيْتُك عَلَى الْجَارِيَة ; فَقَالَ : مَا رَأَيْتنِي ; وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُنَا الْقُرْآنَ وَهُوَ جُنُب.
قَالَتْ : فَاقْرَأْ، وَكَانَتْ لَا تَقْرَأ الْقُرْآن، فَقَالَ :
أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ | كَمَا لَاحَ مَشْهُورٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ |
أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا | بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ |
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبُهُ عَنْ فِرَاشِهِ | إِذَا اِسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ |
فَقَالَتْ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَكَذَّبْت الْبَصَر.
ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ; فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سَبِيلٍ حَتَّى
نَهَى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الصَّلَاة إِلَّا بَعْد الِاغْتِسَال ; وَالِاغْتِسَال مَعْنًى مَعْقُول، وَلَفْظه عِنْد الْعَرَب مَعْلُوم، يُعَبَّر بِهِ عَنْ إِمْرَار الْيَد مَعَ الْمَاء عَلَى الْمَغْسُول ; وَلِذَلِكَ فَرَّقَتْ الْعَرَب بَيْنَ قَوْلهمْ : غَسَلْت الثَّوْب، وَبَيْنَ قَوْلهمْ : أَفَضْت عَلَيْهِ الْمَاء وَغَمَسْته فِي الْمَاء.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاء اِخْتَلَفُوا فِي الْجُنُب يَصُبُّ عَلَى جَسَده الْمَاء أَوْ يَنْغَمِس فِيهِ وَلَا يَتَدَلَّك ; فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَتَدَلَّك ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ الْجُنُب بِالِاغْتِسَالِ، كَمَا أَمَرَ الْمُتَوَضِّئ بِغَسْلِ وَجْهه وَيَدَيْهِ ; وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَضِّئِ بُدّ مِنْ إِمْرَار يَدَيْهِ مَعَ الْمَاء عَلَى وَجْهه وَيَدَيْهِ، فَكَذَلِكَ جَمِيع جَسَد الْجُنُب وَرَأْسهُ فِي حُكْم وَجْه الْمُتَوَضِّئ وَيَدَيْهِ.
وَهَذَا قَوْل الْمُزَنِيّ وَاخْتِيَاره.
قَالَ أَبُو الْفَرَج عَمْرو بْن مُحَمَّد الْمَالِكِيّ : وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُول مِنْ لَفْظ الْغُسْل ; لِأَنَّ الِاغْتِسَال فِي اللُّغَة هُوَ الِافْتِعَال، وَمَنْ لَمْ يَمُرَّ فَلَمْ يَفْعَل غَيْر صَبِّ الْمَاء لَا يُسَمِّيهِ أَهْل اللِّسَان غَاسِلًا، بَلْ يُسَمُّونَهُ صَابًّا لِلْمَاءِ وَمُنْغَمِسًا فِيهِ.
قَالَ : وَعَلَى نَحْو هَذَا جَاءَتْ الْآثَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( تَحْت كُلّ شَعْرَة جَنَابَة فَاغْسِلُوا الشَّعْر وَأَنْقُوا الْبَشَرَة ) قَالَ : وَإِنْقَاؤُهُ - وَاَللَّه أَعْلَم - لَا يَكُون إِلَّا بِتَتَبُّعِهِ ; عَلَى حَدّ مَا ذَكَرْنَا.
قُلْت : لَا حُجَّة فِيمَا اِسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ الْحَدِيث لِوَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ قَدْ خُولِفَ فِي تَأْوِيله ; قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ( وَأَنْقُوا الْبَشَرَة ) أَرَادَ غَسْل الْفَرْج وَتَنْظِيفه، وَأَنَّهُ كَنَّى بِالْبَشَرَةِ عَنْ الْفَرْج.
قَالَ اِبْن وَهْب : مَا رَأَيْت أَحَدًا أَعْلَم بِتَفْسِيرِ الْأَحَادِيث مِنْ اِبْن عُيَيْنَة.
الثَّانِي : أَنَّ الْحَدِيث أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ فِيهِ : وَهَذَا الْحَدِيث ضَعِيف ; كَذَا فِي رِوَايَة اِبْن دَاسَةَ.
وَفِي رِوَايَة اللُّؤْلُؤِيّ عَنْهُ : الْحَارِث بْن وَجِيه ضَعِيف، حَدِيثه مُنْكَر ; فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ، وَبَقِيَ الْمُعَوَّل عَلَى اللِّسَان كَمَا بَيَّنَّا.
وَيُعَضِّدهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ وَلَمْ يَغْسِلهُ ; رَوَتْهُ عَائِشَة، وَنَحْوه عَنْ أُمّ قَيْس بِنْت مِحْصَن ; أَخْرَجَهُمَا مُسْلِم.
وَقَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء : يُجْزِئ الْجُنُبَ صَبُّ الْمَاء وَالِانْغِمَاس فِيهِ إِذَا أَسْبَغَ وَعَمَّ وَإِنْ لَمْ يَتَدَلَّك ; عَلَى مُقْتَضَى حَدِيث مَيْمُونَة وَعَائِشَة فِي غُسْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَاهُمَا الْأَئِمَّة، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفِيض الْمَاء عَلَى جَسَده ; وَبِهِ قَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْفَرَج وَرَوَاهُ عَنْ مَالِك ; قَالَ : وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِمْرَارِ الْيَدَيْنِ فِي الْغُسْل لِأَنَّهُ لَا يَكَاد مَنْ لَمْ يُمِرَّ يَدَيْهِ عَلَيْهِ يَسْلَم مِنْ تَنَكُّب الْمَاء عَنْ بَعْض مَا يَجِب عَلَيْهِ مِنْ جَسَده.
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَعْجَب لِأَبِي الْفَرَج الَّذِي رَوَى وَحَكَى عَنْ صَاحِب الْمَذْهَب أَنَّ الْغُسْل دُون ذَلِكَ يُجْزِئ ! وَمَا قَالَهُ قَطُّ مَالِك نَصًّا وَلَا تَخْرِيجًا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْهَامه.
قُلْت : قَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِك نَصًّا ; قَالَ مَرْوَان بْن مُحَمَّد الظَّاهِرِيّ وَهُوَ ثقَة مِنْ ثِقَات الشَّامِيِّينَ : سَأَلْت مَالِك بْن أَنَس عَنْ رَجُل اِنْغَمَسَ فِي مَاء وَهُوَ جُنُب وَلَمْ يَتَوَضَّأ، قَالَ : مَضَتْ صَلَاته.
قَالَ أَبُو عُمَر : فَهَذِهِ الرِّوَايَة فِيهَا لَمْ يَتَدَلَّك وَلَا تَوَضَّأَ، وَقَدْ أَجْزَأَهُ عِنْد مَالِك.
وَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبه أَنَّهُ لَا يُجْزِئهُ حَتَّى يَتَدَلَّك ; قِيَاسًا عَلَى غَسْل الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ.
وَحُجَّة الْجَمَاعَة أَنَّ كُلّ مَنْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاء فَقَدْ اِغْتَسَلَ.
وَالْعَرَب تَقُول : غَسَلَتْنِي السَّمَاء.
وَقَدْ حَكَتْ عَائِشَة وَمَيْمُونَة صِفَة غُسْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرَا تَدَلُّكًا، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا تَرَكَهُ ; لِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّه مُرَادَهُ، وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ عَنْهُ ; كَمَا نُقِلَ تَخْلِيل أُصُول شَعْره بِالْمَاءِ وَغَرْفه عَلَى رَأْسه، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ صِفَة غُسْله وَوُضُوئِهِ عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَغَيْر نَكِير أَنْ يَكُون الْغُسْل فِي لِسَان الْعَرَب مَرَّة بِالْعَرْكِ وَمَرَّة بِالصَّبِّ وَالْإِفَاضَة ; وَإِذَا كَانَ هَذَا فَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُون اللَّه جَلَّ وَعَزَّ تَعَبَّدَ عِبَاده فِي الْوُضُوء بِإِمْرَارِ أَيْدِيهمْ عَلَى وُجُوههمْ مَعَ الْمَاء وَيَكُون ذَلِكَ غُسْلًا، وَأَنْ يُفِيضُوا الْمَاء عَلَى أَنْفُسهمْ فِي غُسْل الْجَنَابَة وَالْحَيْض، وَيَكُون ذَلِكَ غُسْلًا مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ غَيْر خَارِج مِنْ اللُّغَة، وَيَكُون كُلّ وَاحِد مِنْ الْأَمْرَيْنِ أَصْلًا فِي نَفْسه، لَا يَجِب أَنْ يُرَدَّ أَحَدهمَا إِلَى صَاحِبه ; لِأَنَّ الْأُصُول لَا يُرَدُّ بَعْضهَا إِلَى بَعْض قِيَاسًا - وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاء الْأُمَّة.
وَإِنَّمَا تُرَدّ الْفُرُوع قِيَاسًا عَلَى الْأُصُول.
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
حَدِيث مَيْمُونَة وَعَائِشَة يَرُدّ مَا رَوَاهُ شُعْبَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ إِذَا اِغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَة غَسَلَ يَدَيْهِ سَبْعًا وَفَرْجَهُ سَبْعًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كَانَتْ الصَّلَاة خَمْسِينَ، وَالْغُسْل مِنْ الْجَنَابَة سَبْع مِرَار، وَغَسْل الْبَوْل مِنْ الثَّوْب سَبْع مِرَار ; فَلَمْ يَزَلْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَل حَتَّى جُعِلَتْ الصَّلَاة خَمْسًا، وَالْغُسْل مِنْ الْجَنَابَة مَرَّة، وَالْغَسْل مِنْ الْبَوْل مَرَّة.
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَإِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث عَنْ اِبْن عُمَر فِيهِ ضَعْف وَلِينٌ، وَإِنْ كَانَ أَبُو دَاوُدَ قَدْ خَرَّجَهُ وَاَلَّذِي قَبْله عَنْ شُعْبَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس، وَشُعْبَة هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَيَرُدّهُمَا حَدِيث عَائِشَة وَمَيْمُونَة.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِمْرَار يَده عَلَى جَسَده فَقَدْ قَالَ سَحْنُون : يَجْعَل مَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْهُ، أَوْ يُعَالِجُهُ بِخِرْقَةٍ.
وَفِي الْوَاضِحَة : يُمِرّ يَدَيْهِ عَلَى مَا يُدْرِكهُ مِنْ جَسَده، ثُمَّ يُفِيض الْمَاء حَتَّى يَعُمّ مَا لَمْ تَبْلُغهُ يَدَاهُ.
وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي تَخْلِيل الْجُنُب لِحْيَتَهُ ; فَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَرَوَى أَشْهَب عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
قَالَ اِبْن عَبْد الْحَكَم : ذَلِكَ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا ; لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّل شَعْره فِي غُسْل الْجَنَابَة، وَذَلِكَ عَامّ وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَر فِيهِ شَعْر رَأْسه ; وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْعُلَمَاء.
وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّ اِسْتِيعَاب جَمِيع الْجَسَد فِي الْغُسْل وَاجِب، وَالْبَشَرَة الَّتِي تَحْت اللِّحْيَة مِنْ جُمْلَته ; فَوَجَبَ إِيصَال الْمَاء إِلَيْهَا وَمُبَاشَرَتهَا بِالْيَدِ.
وَإِنَّمَا اِنْتَقَلَ الْفَرْض إِلَى الشَّعْر فِي الطَّهَارَة الصُّغْرَى لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة عَلَى التَّخْفِيف، وَنِيَابَة الْأَبْدَال فِيهَا مِنْ غَيْر ضَرُورَة ; وَلِذَلِكَ جَازَ فِيهَا الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ وَلَمْ يَجُزْ فِي الْغُسْل.
قُلْت : وَيُعَضِّد هَذَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( تَحْت كُلّ شَعْرَة جَنَابَة ).
وَقَدْ بَالَغَ قَوْم فَأَوْجَبُوا الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" حَتَّى تَغْتَسِلُوا " مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة ; وَلِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَة الْوَجْه وَحُكْمهمَا حُكْم ظَاهِر الْوَجْه كَالْخَدِّ وَالْجَبِين، فَمَنْ تَرَكَهُمَا وَصَلَّى أَعَادَ كَمَنْ تَرَكَ لُمْعَة، وَمَنْ تَرَكَهُمَا فِي وُضُوئِهِ فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِك : لَيْسَتَا بِفَرْضٍ لَا فِي الْجَنَابَة وَلَا فِي الْوُضُوء ; لِأَنَّهُمَا بَاطِنَانِ فَلَا يَجِب كَدَاخِلِ الْجَسَد.
وَبِذَلِكَ قَالَ مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ وَاللَّيْث بْن سَعْد وَالْأَوْزَاعِيّ وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَحَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان : هُمَا فَرْض فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل جَمِيعًا ; وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَبَعْض أَصْحَاب دَاوُدَ.
وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ وَعَطَاء مِثْل هَذَا الْقَوْل.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَد أَيْضًا أَنَّ الْمَضْمَضَة سُنَّة وَالِاسْتِنْشَاق فَرْض ; وَقَالَ بِهِ بَعْض أَصْحَاب دَاوُدَ.
وَحُجَّة مَنْ لَمْ يُوجِبْهُمَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي كِتَابه، وَلَا أَوْجَبَهُمَا رَسُوله وَلَا اِتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَيْهِ ; وَالْفَرَائِض لَا تَثْبُت إِلَّا بِهَذِهِ الْوُجُوه.
اِحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُمَا بِالْآيَةِ، وَقَوْله تَعَالَى :" فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ " فَمَا وَجَبَ فِي الْوَاحِد مِنْ الْغُسْل وَجَبَ فِي الْآخَر، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحْفَظ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي وُضُوئِهِ وَلَا فِي غُسْله مِنْ الْجَنَابَة ; وَهُوَ الْمُبَيِّن عَنْ اللَّه مُرَادَهُ قَوْلًا وَعَمَلًا.
اِحْتَجَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْمَضْمَضَة وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا، وَأَفْعَالُهُ مَنْدُوب إِلَيْهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَفَعَلَ الِاسْتِنْشَاقَ وَأَمَرَ بِهِ ; وَأَمْره عَلَى الْوُجُوب أَبَدًا.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَلَا بُدّ فِي غُسْل الْجَنَابَة مِنْ النِّيَّة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" حَتَّى تَغْتَسِلُوا " وَذَلِكَ يَقْتَضِي النِّيَّة ; وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر، وَكَذَلِكَ الْوُضُوء وَالتَّيَمُّم.
وَعَضَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين " [ الْبَيِّنَة : ٥ ] وَالْإِخْلَاص النِّيَّة فِي التَّقَرُّب إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَالْقَصْد لَهُ بِأَدَاءِ مَا اِفْتَرَضَ عَلَى عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ) وَهَذَا عَمَل.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالْحَسَن : يُجْزِئ الْوُضُوء وَالتَّيَمُّم بِغَيْرِ نِيَّة.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : كُلّ طَهَارَة بِالْمَاءِ فَإِنَّهَا تُجْزِئ بِغَيْرِ نِيَّة، وَلَا يُجْزِئ التَّيَمُّم إِلَّا بِنِيَّةٍ ; قِيَاسًا عَلَى إِزَالَة النَّجَاسَة بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَاب بِغَيْرِ نِيَّة.
وَرَوَاهُ الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ مَالِك.
وَأَمَّا قَدْر الْمَاء الَّذِي يُغْتَسَل بِهِ ; فَرَوَى مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر عَنْ عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِل مِنْ إِنَاء هُوَ الْفَرَق مِنْ الْجَنَابَة.
" الْفَرَق " تُحَرَّك رَاؤُهُ وَتُسَكَّن.
قَالَ اِبْن وَهْب :" الْفَرَق " مِكْيَال مِنْ الْخَشَب، كَانَ اِبْن شِهَاب يَقُول : إِنَّهُ يَسَع خَمْسَة أَقْسَاط بِأَقْسَاطِ بَنِي أُمَيَّة.
وَقَدْ فَسَّرَ مُحَمَّد بْن عِيسَى الْأَعْشَى " الْفَرَق " فَقَالَ : ثَلَاثَة آصُع، قَالَ : وَهِيَ خَمْسَة أَقْسَاط، قَالَ : وَفِي الْخَمْسَة أَقْسَاط اِثْنَا عَشَرَ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم قَالَ سُفْيَان :" الْفَرَق " ثَلَاثَة آصُع.
وَعَنْ أَنَس قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد.
وَفِي رِوَايَة : يَغْتَسِل بِخَمْسَةِ مَكَاكِيك وَيَتَوَضَّأ بِمَكُّوكٍ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيث تَدُلّ عَلَى اِسْتِحْبَاب تَقْلِيل الْمَاء مِنْ غَيْر كَيْل وَلَا وَزْن، يَأْخُذ مِنْهُ الْإِنْسَان بِقَدْرِ مَا يَكْفِي وَلَا يُكْثِر مِنْهُ، فَإِنَّ الْإِكْثَار مِنْهُ سَرَف وَالسَّرَف مَذْمُوم.
وَمَذْهَب الْإِبَاضِيَّة الْإِكْثَار مِنْ الْمَاء، وَذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَان.
تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ
هَذِهِ آيَة التَّيَمُّم، نَزَلَتْ فِي عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف أَصَابَتْهُ جَنَابَة وَهُوَ جَرِيح ; فَرُخِّصَ لَهُ فِي أَنْ يَتَيَمَّم، ثُمَّ صَارَتْ الْآيَة عَامَّة فِي جَمِيع النَّاس.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدَمِ الصَّحَابَة الْمَاءَ فِي غَزْوَة " الْمُرَيْسِيع " حِينَ اِنْقَطَعَ الْعِقْد لِعَائِشَة.
أَخْرَجَ الْحَدِيث مَالِك مِنْ رِوَايَة عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة.
وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيّ هَذِهِ الْآيَة فِي كِتَاب التَّفْسِير : حَدَّثَنَا مُحَمَّد قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدَة، عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : هَلَكَتْ قِلَادَة لِأَسْمَاءَ فَبَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبهَا رِجَالًا، فَحَضَرَتْ الصَّلَاة وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوء وَلَمْ يَجِدُوا مَاء فَصَلُّوا وَهُمْ عَلَى غَيْر وُضُوء ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى آيَة التَّيَمُّم.
قُلْت : وَهَذِهِ الرِّوَايَة لَيْسَ فِيهَا ذِكْر لِلْمَوْضِعِ، وَفِيهَا أَنَّ الْقِلَادَة كَانَتْ لِأَسْمَاءَ ; خِلَاف حَدِيث مَالِك.
وَذَكَرَ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَة عَلِيّ بْن مُسْهِر عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاء قِلَادَة لَهَا وَهِيَ فِي سَفَر مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْسَلَّتْ مِنْهَا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَكَان يُقَال لَهُ الصُّلْصُل ; وَذَكَرَ الْحَدِيث.
فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ هِشَام أَنَّ الْقِلَادَة كَانَتْ لِأَسْمَاءَ، وَأَنَّ عَائِشَة اِسْتَعَارَتْهَا مِنْ أَسْمَاء.
وَهَذَا بَيَان لِحَدِيثِ مَالِك إِذَا قَالَ : اِنْقَطَعَ عِقْد لِعَائِشَةَ، وَلِحَدِيثِ الْبُخَارِيّ إِذْ قَالَ : هَلَكَتْ قِلَادَة لِأَسْمَاءَ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمَكَان يُقَال لَهُ الصُّلْصُل.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيّ، حَدَّثَنَا سُفْيَان، حَدَّثَنَا هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا سَقَطَتْ قِلَادَتهَا لَيْلَة الْأَبْوَاء، فَأَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ فِي طَلَبهَا، وَذَكَرَ الْحَدِيث.
فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ هِشَام أَيْضًا إِضَافَة الْقِلَادَة إِلَيْهَا، لَكِنَّ إِضَافَة مُسْتَعِير بِدَلِيلِ حَدِيث النَّسَائِيّ.
وَقَالَ فِي الْمَكَان :" الْأَبْوَاء " كَمَا قَالَ مَالِك، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ غَيْر شَكّ.
وَفِي حَدِيث مَالِك قَالَ : وَبَعَثْنَا الْبَعِير الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْد تَحْته.
وَجَاءَ فِي الْبُخَارِيّ : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهُ.
وَهَذَا كُلّه صَحِيح الْمَعْنَى، وَلَيْسَ اِخْتِلَاف النَّقَلَة فِي الْعِقْد وَالْقِلَادَة وَلَا فِي الْمَوْضِع مَا يَقْدَح فِي الْحَدِيث وَلَا يُوهِن شَيْئًا مِنْهُ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُرَاد مِنْ الْحَدِيث وَالْمَقْصُود بِهِ إِلَيْهِ هُوَ نُزُول التَّيَمُّم، وَقَدْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَات فِي أَمْر الْقِلَادَة.
وَأَمَّا قَوْله فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ : فَأَرْسَلَ رَجُلَيْنِ قِيلَ : أَحَدهمَا أُسَيْد بْن حُضَيْر.
وَلَعَلَّهُمَا الْمُرَاد بِالرِّجَالِ فِي حَدِيث الْبُخَارِيّ فَعَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْع، إِذْ أَقَلّ الْجَمْع اِثْنَانِ، أَوْ أَرْدَفَ فِي أَثَرهمَا غَيْرهمَا فَصَحَّ إِطْلَاق اللَّفْظ وَاَللَّه أَعْلَم.
فَبَعَثُوا فِي طَلَبهَا فَطَلَبُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فِي وِجْهَتِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَثَارُوا الْبَعِير فَوَجَدُوهُ تَحْته.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَة فَفَشَتْ فِيهِمْ ثُمَّ اُبْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ فَشَكَوْا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة.
وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِخِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَا ; فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا أَصَابَتْهُمْ الْجِرَاحَة فِي غَزْوَتهمْ تِلْكَ الَّتِي قَفَلُوا مِنْهَا إِذْ كَانَ فِيهَا قِتَال فَشَكَوْا، وَضَاعَ الْعِقْد وَنَزَلَتْ الْآيَة.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ ضَيَاع الْعِقْد كَانَ فِي غَزَاة بَنِي الْمُصْطَلِق.
وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِخِلَافٍ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي غَزَاة الْمُرَيْسِيع، إِذْ هِيَ غَزَاة وَاحِدَة ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا بَنِي الْمُصْطَلِق فِي شَعْبَان مِنْ السَّنَة السَّادِسَة مِنْ الْهِجْرَة، عَلَى مَا قَالَ خَلِيفَة بْن خَيَّاط وَأَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَة أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ.
وَقِيلَ : بَلْ نُمَيْلَةَ بْن عَبْد اللَّه اللَّيْثِيّ.
وَأَغَارَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِق وَهُمْ غَارُّونَ، وَهُمْ عَلَى مَاءٍ يُقَال لَهُ الْمُرَيْسِيع مِنْ نَاحِيَة قُدَيْد مِمَّا يَلِي السَّاحِل فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ وَسَبَى مَنْ سَبَى مِنْ النِّسَاء وَالذُّرِّيَّة وَكَانَ شِعَارهمْ يَوْمَئِذٍ : أَمِتْ أَمِتْ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِق جَمَعُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَلَقِيَهُمْ عَلَى مَاء.
فَهَذَا مَا جَاءَ فِي بَدْء التَّيَمُّم وَالسَّبَب فِيهِ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ آيَة الْمَائِدَة آيَة التَّيَمُّم، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ.
قَالَ أَبُو عُمَر : فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى آيَة التَّيَمُّم، وَهِيَ آيَة الْوُضُوء الْمَذْكُورَة فِي سُورَة " الْمَائِدَة "، أَوْ الْآيَة الَّتِي فِي سُورَة " النِّسَاء ".
لَيْسَ التَّيَمُّم مَذْكُورًا فِي غَيْر هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ.
قَوْله تَعَالَى :" مَرْضَى " الْمَرَض عِبَارَة عَنْ خُرُوج الْبَدَن عَنْ حَدّ الِاعْتِدَال وَالِاعْتِيَاد، إِلَى الِاعْوِجَاج وَالشُّذُوذ.
وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : كَثِير وَيَسِير ; فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَخَاف الْمَوْتَ لِبَرْدِ الْمَاءِ، أَوْ لِلْعِلَّةِ الَّتِي بِهِ، أَوْ يَخَاف فَوْت بَعْض الْأَعْضَاء، فَهَذَا يَتَيَمَّم بِإِجْمَاعٍ ; إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَعَطَاء أَنَّهُ يَتَطَهَّر وَإِنْ مَاتَ.
وَهَذَا مَرْدُود بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج " [ الْحَجّ : ٧٨ ] وَقَوْله تَعَالَى :" وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٩ ].
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر " قَالَ : إِذَا كَانَتْ بِالرَّجُلِ الْجِرَاحَة فِي سَبِيل اللَّه أَوْ الْقُرُوح أَوْ الْجُدَرِيّ فَيُجْنِب فَخَافَ أَنْ يَمُوت إِنْ اِغْتَسَلَ، تَيَمَّمَ.
وَعَنْ سَعْد بْن جُبَيْر أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : رُخِّصَ لِلْمَرِيضِ فِي التَّيَمُّم بِالصَّعِيدِ.
وَتَيَمَّمَ عَمْرو بْن الْعَاص لَمَّا خَافَ أَنْ يَهْلِك مِنْ شِدَّة الْبَرْد وَلَمْ يَأْمُرهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُسْلٍ وَلَا إِعَادَة.
فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا إِلَّا أَنَّهُ يَخَاف مَعَهُ حُدُوث عِلَّة أَوْ زِيَادَتهَا أَوْ بُطْء بُرْء فَهَؤُلَاءِ يَتَيَمَّمُونَ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمَذْهَب.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فِيمَا حَفِظْت.
قُلْت : قَدْ ذَكَرَ الْبَاجِيّ فِيهِ خِلَافًا ; قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن : مِثْل أَنْ يَخَاف الصَّحِيح نَزْلَة أَوْ حُمَّى، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمَرِيض يَخَاف زِيَادَة مَرَض ; وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَة.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز لَهُ التَّيَمُّم مَعَ وُجُود الْمَاء إِلَّا أَنْ يَخَاف التَّلَف ; وَرَوَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن عَنْ مَالِك.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ :" قَالَ الشَّافِعِيّ لَا يُبَاح التَّيَمُّم لِلْمَرِيضِ إِلَّا إِذَا خَافَ التَّلَف ; لِأَنَّ زِيَادَة الْمَرَض غَيْر مُتَحَقِّقَة ; لِأَنَّهَا قَدْ تَكُون وَقَدْ لَا تَكُون، وَلَا يَجُوز تَرْك الْفَرْض الْمُتَيَقَّن لِلْخَوْفِ الْمَشْكُوك.
قُلْنَا : قَدْ نَاقَضْت ; فَإِنَّك قُلْت إِذَا خَافَ التَّلَف مِنْ الْبَرْد تَيَمَّمَ ; فَكَمَا يُبِيح التَّيَمُّمَ خَوْفُ التَّلَف كَذَلِكَ، يُبِيحُهُ خَوْف الْمَرَض ; لِأَنَّ الْمَرَض مَحْذُور كَمَا أَنَّ التَّلَف مَحْذُور.
قَالَ : وَعَجَبًا لِلشَّافِعِيِّ يَقُول : لَوْ زَادَ الْمَاء عَلَى قَدْر قِيمَته حَبَّة لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ صِيَانَةً لِلْمَالِ وَيَلْزَمهُ التَّيَمُّم، وَهُوَ يَخَاف عَلَى بَدَنه الْمَرَض ! وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ كَلَام يُسَاوِي سَمَاعه ".
قُلْت : الصَّحِيح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ فِيمَا قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر عَبْد الرَّحِيم فِي تَفْسِيره : وَالْمَرَض الَّذِي يُبَاح لَهُ التَّيَمُّم هُوَ الَّذِي يَخَاف فِيهِ فَوْت الرُّوح أَوْ فَوَات بَعْض الْأَعْضَاء لَوْ اِسْتَعْمَلَ الْمَاء.
فَإِنْ خَافَ طُول الْمَرَض فَالْقَوْل الصَّحِيح لِلشَّافِعِيِّ : جَوَاز التَّيَمُّم.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ، عَنْ يَحْيَى بْن أَيُّوب، عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب، عَنْ عِمْرَان بْن أَبِي أَنَس، عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن جُبَيْر، عَنْ عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : اِحْتَلَمْت فِي لَيْلَة بَارِدَة فِي غَزْوَة ذَات السَّلَاسِل فَأَشْفَقْت إِنْ اِغْتَسَلْت أَنْ أَهْلِكَ ; فَتَيَمَّمْت ثُمَّ صَلَّيْت بِأَصْحَابِي الصُّبْح ; فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا عَمْرو :( صَلَّيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُب ) ؟ فَأَخْبَرْته بِاَلَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَال وَقُلْت : إِنِّي سَمِعْت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول :" وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّه كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " [ النِّسَاء : ٢٩ ] فَضَحِكَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى إِبَاحَة التَّيَمُّم مَعَ الْخَوْف لَا مَعَ الْيَقِين، وَفِيهِ إِطْلَاق اِسْم الْجُنُب عَلَى الْمُتَيَمِّم وَجَوَاز صَلَاة الْمُتَيَمِّم بِالْمُتَوَضِّئِينَ ; وَهَذَا أَحَد الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا ; وَهُوَ الصَّحِيح وَهُوَ الَّذِي أَقْرَأهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَقُرِئَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُصَلِّي ; لِأَنَّهُ أَنْقَصُ فَضِيلَة مِنْ الْمُتَوَضِّئ، وَحُكْم الْإِمَام أَنْ يَكُون أَعْلَى رُتْبَة ; وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يَؤُمّ الْمُتَيَمِّم الْمُتَوَضِّئِينَ ) إِسْنَاده ضَعِيف.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِر قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَر فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسه ثُمَّ اِحْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابه هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَة فِي التَّيَمُّم ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِد لَك رُخْصَة وَأَنْتَ تَقْدِر عَلَى الْمَاء ; فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ :( قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّه أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاء الْعِيّ السُّؤَال إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّم وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ - شَكَّ مُوسَى - عَلَى جُرْحه خِرْقَة ثُمَّ يَمْسَح عَلَيْهَا وَيَغْسِل سَائِر جَسَده ).
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ :" قَالَ أَبُو بَكْر هَذِهِ سُنَّة تَفَرَّدَ بِهَا أَهْل مَكَّة وَحَمَلَهَا أَهْل الْجَزِيرَة، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَطَاء عَنْ جَابِر غَيْر الزُّبَيْر بْن خَرِيق، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَخَالَفَهُ الْأَوْزَاعِيّ فَرَوَاهُ عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس وَهُوَ الصَّوَاب.
وَاخْتُلِفَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ عَطَاء، وَقِيلَ عَنْهُ : بَلَغَنِي عَنْ عَطَاء، وَأَرْسَلَ الْأَوْزَاعِيّ آخِرَهُ عَنْ عَطَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّوَاب.
وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : سَأَلْت أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْهُ فَقَالَا : رَوَاهُ اِبْن أَبِي الْعِشْرِينَ، عَنْ الْأَوْزَاعِيّ، عَنْ إِسْمَاعِيل بْن مُسْلِم، عَنْ عَطَاء، عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَأَسْنَدَ الْحَدِيث ".
وَقَالَ دَاوُدُ : كُلّ مَنْ اِنْطَلَقَ عَلَيْهِ اِسْم الْمَرِيض فَجَائِز لَهُ التَّيَمُّم ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ".
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل خَلَف، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْد عُلَمَاء الْأُمَّة لِمَنْ خَافَ مِنْ اِسْتِعْمَال الْمَاء أَوْ تَأَذِّيه بِهِ كَالْمَجْدُورِ وَالْمَحْصُوب، وَالْعِلَل الْمَخُوف عَلَيْهَا مِنْ الْمَاء ; كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
مَرْضَى أَوْ عَلَى
يَجُوز التَّيَمُّم بِسَبَبِ السَّفَر طَالَ أَوْ قَصُرَ عِنْد عَدَم الْمَاء، وَلَا يُشْتَرَط أَنْ يَكُون مِمَّا تُقْصَر فِيهِ الصَّلَاة ; هَذَا مَذْهَب مَالِك وَجُمْهُور الْعُلَمَاء.
وَقَالَ قَوْم : لَا يَتَيَمَّم إِلَّا فِي سَفَر تُقْصَر فِيهِ الصَّلَاة.
وَاشْتَرَطَ آخَرُونَ أَنْ يَكُون سَفَرَ طَاعَة.
وَهَذَا كُلّه ضَعِيف.
وَاَللَّه أَعْلَم.
أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم فِي السَّفَر حَسْبَمَا ذَكَرْنَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْحَضَر ; فَذَهَبَ مَالِك وَأَصْحَابه إِلَى أَنَّ التَّيَمُّم فِي الْحَضَر وَالسَّفَر جَائِز ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَمُحَمَّد.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز لِلْحَاضِرِ الصَّحِيح أَنْ يَتَيَمَّم إِلَّا أَنْ يَخَاف التَّلَف ; وَهُوَ قَوْل الطَّبَرِيّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ أَيْضًا وَاللَّيْث وَالطَّبَرِيّ : إِذَا عَدِمَ الْمَاء فِي الْحَضَر مَعَ خَوْف الْوَقْت الصَّحِيح وَالسَّقِيم تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ أَعَادَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَزُفَر : لَا يَجُوز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر لَا لِمَرَضٍ وَلَا لِخَوْفِ الْوَقْت وَقَالَ الْحَسَن وَعَطَاء : لَا يَتَيَمَّم الْمَرِيض إِذَا وَجَدَ الْمَاء، وَلَا غَيْر الْمَرِيض.
وَسَبَب الْخِلَاف اِخْتِلَافهمْ فِي مَفْهُوم الْآيَة ; فَقَالَ مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ : ذِكْر اللَّه تَعَالَى الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ فِي شَرْط التَّيَمُّم خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَب فِيمَنْ لَا يَجِد الْمَاء، وَالْحَاضِرُونَ الْأَغْلَب عَلَيْهِمْ وُجُودُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِمْ.
فَكُلّ مَنْ لَمْ يَجِد الْمَاء أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ مَانِعٌ أَوْ خَافَ فَوَاتَ وَقْت الصَّلَاة، تَيَمَّمَ الْمُسَافِر بِالنَّصِّ، وَالْحَاضِر بِالْمَعْنَى.
وَكَذَلِكَ الْمَرِيض بِالنَّصِّ وَالصَّحِيح بِالْمَعْنَى.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَهُ فِي الْحَضَر فَقَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ التَّيَمُّم رُخْصَة لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِر ; كَالْفِطْرِ وَقَصْر الصَّلَاة، وَلَمْ يُبِحْ التَّيَمُّم إِلَّا بِشَرْطَيْنِ، وَهُمَا الْمَرَض وَالسَّفَر ; فَلَا دُخُول لِلْحَاضِرِ الصَّحِيح فِي ذَلِكَ لِخُرُوجِهِ مِنْ شَرْط اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء الَّذِي مَنَعَهُ جُمْلَة مَعَ وُجُود الْمَاء فَقَالَ : إِنَّمَا شَرَطَهُ اللَّه تَعَالَى مَعَ عَدَم الْمَاء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا " فَلَمْ يُبِحْ التَّيَمُّم لِأَحَدٍ إِلَّا عِنْد فَقْد الْمَاء.
وَقَالَ أَبُو عُمَر : وَلَوْلَا قَوْل الْجُمْهُور وَمَا رُوِيَ مِنْ الْأَثَر لَكَانَ قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء صَحِيحًا ; وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ أَجَازَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّيَمُّم لِعَمْرِو بْن الْعَاص وَهُوَ مُسَافِر إِذْ خَافَ الْهَلَاك إِنْ اِغْتَسَلَ بِالْمَاءِ، فَالْمَرِيض أَحْرَى بِذَلِكَ.
قُلْت : وَمِنْ الدَّلِيل عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر إِذَا خَافَ فَوَات الصَّلَاة إِنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَاء الْكِتَاب وَالسُّنَّة :
أَمَّا الْكِتَاب فَقَوْله سُبْحَانَهُ :" أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " يَعْنِي الْمُقِيم إِذَا عَدِمَ الْمَاء تَيَمَّمَ.
نَصَّ عَلَيْهِ الْقُشَيْرِيّ عَبْد الرَّحِيم قَالَ : ثُمَّ يُقْطَع النَّظَر فِي وُجُوب الْقَضَاء ; لِأَنَّ عَدَم الْمَاء فِي الْحَضَر عُذْر نَادِر وَفِي الْقَضَاء قَوْلَانِ :
قُلْت : وَهَكَذَا نَصَّ أَصْحَابنَا فِيمَنْ تَيَمَّمَ فِي الْحَضَر، فَهَلْ يُعِيد إِذَا وَجَدَ الْمَاء أَمْ لَا ; الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّهُ لَا يُعِيد وَهُوَ الصَّحِيح.
وَقَالَ اِبْن حَبِيب وَمُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم.
يُعِيد أَبَدًا ; وَرَوَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ مَالِك.
وَقَالَ الْوَلِيد عَنْهُ : يَغْتَسِل وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْس.
وَأَمَّا السُّنَّة فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي الْجُهَيْم بْن الْحَارِث بْن الصِّمَّة الْأَنْصَارِيّ قَالَ : أَقْبَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْو " بِئْر جَمَل " فَلَقِيَهُ رَجُل فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَار فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظ " بِئْر ".
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر وَفِيهِ " ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُل السَّلَام وَقَالَ :( إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك السَّلَام إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْر ".
سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِط أَصْله مَا اِنْخَفَضَ مِنْ الْأَرْض، وَالْجَمْع الْغِيطَان أَوْ الْأَغْوَاط ; وَبِهِ سُمِّيَ غُوطَة دِمَشْق.
وَكَانَتْ الْعَرَب تَقْصِد هَذَا الصِّنْف مِنْ الْمَوَاضِع لِقَضَاءِ حَاجَتهَا تَسَتُّرًا عَنْ أَعْيُن النَّاس، ثُمَّ سُمِّيَ الْحَدَث الْخَارِج مِنْ الْإِنْسَان غَائِطًا لِلْمُقَارَنَةِ.
وَغَاطَ فِي الْأَرْض يَغُوط إِذَا غَابَ.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ :" مِنْ الْغَيْط " فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَصْله الْغَيْط فَخُفِّفَ، كَهَيِّنٍ وَمَيِّت وَشَبَهه.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ الْغَوْط ; بِدَلَالَةِ قَوْلهمْ تَغَوَّطَ إِذَا أَتَى الْغَائِط، فَقُلِبَتْ وَاو الْغَوْط يَاء ; كَمَا قَالُوا فِي لَا حَوْل لَا حَيْلَ.
و " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاو، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر وَجَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط فَتَيَمَّمُوا فَالسَّبَب الْمُوجِب لِلتَّيَمُّمِ عَلَى هَذَا هُوَ الْحَدَث لَا الْمَرَض وَالسَّفَر ; فَدَلَّ عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر كَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَالصَّحِيح فِي " أَوْ " أَنَّهَا عَلَى بَابهَا عِنْد أَهْل النَّظَر.
فَلِأَوْ مَعْنَاهَا، وَلِلْوَاوِ مَعْنَاهَا.
وَهَذَا عِنْدهمْ عَلَى الْحَذْف، وَالْمَعْنَى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى مَرَضًا لَا تَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى مَسِّ الْمَاء أَوْ عَلَى سَفَر وَلَمْ تَجِدُوا مَاء وَاحْتَجْتُمْ إِلَى الْمَاء.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
لَفْظ " الْغَائِط " يَجْمَع بِالْمَعْنَى جَمِيعَ الْأَحْدَاث النَّاقِضَة لِلطَّهَارَةِ الصُّغْرَى.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي حَصْرِهَا، وَأَنْبَلُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا ثَلَاثَة أَنْوَاع، لَا خِلَاف فِيهَا فِي مَذْهَبنَا : زَوَال الْعَقْل، خَارِج مُعْتَاد، مُلَامَسَة.
وَعَلَى مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة مَا خَرَجَ مِنْ الْجَسَد مِنْ النَّجَاسَات، وَلَا يُرَاعَى الْمَخْرَج وَلَا يُعَدّ اللَّمْس.
وَعَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَلَا يُرَاعَى الِاعْتِيَاد، وَيُعَدّ اللَّمْس.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ زَالَ عَقْله بِإِغْمَاءٍ أَوْ جُنُون أَوْ سُكْر فَعَلَيْهِ الْوُضُوء، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّوْم هَلْ هُوَ حَدَث كَسَائِرِ الْأَحْدَاث ؟ أَوْ لَيْسَ بِحَدَثٍ أَوْ مَظِنَّة حَدَثٍ ; ثَلَاثَة أَقْوَال : طَرَفَانِ وَوَاسِطَة.
الطَّرَف الْأَوَّل : ذَهَبَ الْمُزَنِيّ أَبُو إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل إِلَى أَنَّهُ حَدَثٌ، وَأَنَّ الْوُضُوء يَجِب بِقَلِيلِهِ وَكَثِيره كَسَائِرِ الْأَحْدَاث ; وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل مَالِك فِي الْمُوَطَّأ لِقَوْلِهِ : وَلَا يَتَوَضَّأ إِلَّا مِنْ حَدَث يَخْرُج مِنْ ذَكَر أَوْ دُبُر أَوْ نَوْم.
وَمُقْتَضَى حَدِيث صَفْوَان بْن عَسَّال أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ.
رَوَوْهُ جَمِيعًا مِنْ حَدِيث عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش فَقَالَ : أَتَيْت صَفْوَان بْن عَسَّال الْمُرَادِيّ فَقُلْت : جِئْتُك أَسْأَلُك عَنْ الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ; قَالَ : نَعَمْ كُنْت فِي الْجَيْش الَّذِي بَعَثَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنَا أَنْ نَمْسَح عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَا عَلَى طُهْر ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا، وَيَوْمًا وَلَيْلَة إِذَا أَقَمْنَا، وَلَا نَخْلَعَهُمَا مِنْ بَوْل وَلَا غَائِط وَلَا نَوْم وَلَا نَخْلَعهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَة.
فَفِي هَذَا الْحَدِيث وَقَوْل مَالِك التَّسْوِيَة بَيْنَ الْغَائِط وَالْبَوْل وَالنَّوْم.
قَالُوا : وَالْقِيَاس أَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَثِيره وَمَا غَلَبَ عَلَى الْعَقْل مِنْهُ حَدَثًا وَجَبَ أَنْ يَكُون قَلِيله كَذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وِكَاء السَّهِ الْعَيْنَانِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ ) وَهَذَا عَامّ.
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا الطَّرَف الْآخَر فَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النَّوْم عِنْده لَيْسَ بِحَدَثٍ عَلَى أَيِّ حَال كَانَ، حَتَّى يُحْدِثَ النَّائِم حَدَثًا غَيْر النَّوْم ; لِأَنَّهُ كَانَ يُوَكِّل مِنْ يَحْرُسُهُ إِذَا نَامَ.
فَإِنْ لَمْ يَخْرُج مِنْهُ حَدَثٌ قَامَ مِنْ نَوْمه وَصَلَّى ; وَرُوِيَ عَنْ عَبِيدَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَة مَحْمُود بْن خَالِد.
وَالْجُمْهُور عَلَى خِلَاف هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ.
فَأَمَّا جُمْلَة مَذْهَب مَالِك فَإِنَّ كُلّ نَائِم اِسْتَثْقَلَ نَوْمًا، وَطَالَ نَوْمه عَلَى أَيّ حَال كَانَ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء ; وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَة الْوَلِيد بْن مُسْلِم.
قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : فَإِنْ كَانَ النَّوْم خَفِيفًا لَا يُخَامِر الْقَلْب وَلَا يَغْمُرُهُ لَمْ يَضُرَّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا وُضُوء إِلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : مَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوء عَلَيْهِ ; وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك.
وَالصَّحِيح مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال مَشْهُور مَذْهَب مَالِك ; لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً يَعْنِي الْعِشَاء فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِد ثُمَّ اِسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اِسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ :( لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْأَرْض يَنْتَظِر الصَّلَاة غَيْرُكُمْ ) رَوَاهُ الْأَئِمَّة وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ ; وَهُوَ أَصَحّ مَا فِي هَذَا الْبَاب مِنْ جِهَة الْإِسْنَاد وَالْعَمَل.
وَأَمَّا مَا قَالَهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَصَفْوَان بْن عَسَّال فِي حَدِيثه فَمَعْنَاهُ : وَنَوْم ثَقِيل غَالِب عَلَى النَّفْس ; بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيث وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ.
وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى حَدِيث صَفْوَان وَكِيع عَنْ مِسْعَر عَنْ عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود فَقَالَ :( أَوْ رِيح ) بَدَل ( أَوْ نَوْم )، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَمْ يَقُلْ فِي هَذَا الْحَدِيث ( أَوْ رِيح ) غَيْر وَكِيع عَنْ مِسْعَر.
قُلْت : وَكِيع ثِقَة إِمَام أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة ; فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِحَدِيثِ صَفْوَان لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ النَّوْم حَدَثٌ.
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَة فَضَعِيف ; رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ وَهُوَ سَاجِد حَتَّى غَطَّ أَوْ نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه إِنَّك قَدْ نِمْت ! فَقَالَ :( إِنَّ الْوُضُوء لَا يَجِب إِلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إِذَا اِضْطَجَعَ اِسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ ).
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو خَالِد عَنْ قَتَادَة وَلَا يَصِحّ ; قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ : قَوْله :( الْوُضُوء عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ) هُوَ حَدِيث مُنْكَر لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا أَبُو خَالِد يَزِيد الدَّالَانِيّ عَنْ قَتَادَة، وَرَوَى أَوَّله جَمَاعَة عَنْ اِبْن عَبَّاس لَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ هَذَا.
وَقَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : هَذَا حَدِيث مُنْكَر لَمْ يَرْوِهِ أَحَد مِنْ أَصْحَاب قَتَادَة الثِّقَات، وَإِنَّمَا اِنْفَرَدَ بِهِ أَبُو خَالِدٍ الدَّالَانِيّ، وَأَنْكَرُوهُ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا نُقِلَ.
وَأَمَّا قَوْل الشَّافِعِيّ : عَلَى كُلّ نَائِم الْوُضُوء إِلَّا عَلَى الْجَالِس وَحْده، وَإِنَّ كُلّ مَنْ زَالَ عَنْ حَدّ الِاسْتِوَاء وَنَامَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوء ; فَهُوَ قَوْل الطَّبَرِيّ وَدَاوُد، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عُمَر ; لِأَنَّ الْجَالِس لَا يَكَاد يَسْتَثْقِل، فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّوْم الْخَفِيف.
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوء عَلَيْهِ وَمَنْ وَضَعَ جَنْبه فَعَلَيْهِ الْوُضُوء ).
وَأَمَّا الْخَارِج ; فَلَنَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَة قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع، عَنْ خَالِد، عَنْ عِكْرِمَة، عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : اِعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِمْرَأَة مِنْ أَزْوَاجه فَكَانَتْ تَرَى الدَّم وَالصُّفْرَة وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي.
فَهَذَا خَارِج عَلَى غَيْر الْمُعْتَاد، وَإِنَّمَا هُوَ عِرْق اِنْقَطَعَ فَهُوَ مَرَض ; وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيله مِمَّا يَخْرُج مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَلَا وُضُوء فِيهِ عِنْدنَا إِيجَابًا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَبِاَللَّهِ تَوْفِيقُنَا.
وَيُرَدّ عَلَى الْحَنَفِيّ حَيْثُ رَاعَى الْخَارِج النَّجِس.
فَصَحَّ وَوَضَحَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْن أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَا تَرَدَّدَ نَفَسٌ، وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ
قَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَابْن عَامِر " لَامَسْتُمْ ".
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ :" لَمَسْتُمْ " وَفِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : أَنْ يَكُون لَمَسْتُمْ جَامَعْتُمْ.
الثَّانِي : لَمَسْتُمْ بَاشَرْتُمْ.
الثَّالِث : يَجْمَع الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.
و " لَامَسْتُمْ " بِمَعْنَاهُ عِنْد أَكْثَر النَّاس، إِلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد أَنَّهُ قَالَ : الْأَوْلَى فِي اللُّغَة أَنْ يَكُون " لَامَسْتُمْ " بِمَعْنَى قَبَّلْتُمْ أَوْ نَظِيره ; لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا فِعْلًا.
قَالَ : و " لَمَسْتُمْ " بِمَعْنَى غَشِيتُمْ وَمَسِسْتُمْ، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ فِي هَذَا فِعْل.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حُكْم الْآيَة عَلَى مَذَاهِبَ خَمْسَةٍ ; فَقَالَتْ فِرْقَة : الْمُلَامَسَة هُنَا مُخْتَصَّة بِالْيَدِ، وَالْجُنُب لَا ذِكْر لَهُ إِلَّا مَعَ الْمَاء ; فَلَمْ يَدْخُل فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِقَوْلِهِ :" وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى " الْآيَة، فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى التَّيَمُّم، وَإِنَّمَا يَغْتَسِل الْجُنُب أَوْ يَدَع الصَّلَاة حَتَّى يَجِد الْمَاء ; رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عُمَر وَابْن مَسْعُود.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ عُمَر وَعَبْد اللَّه فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة أَحَد مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْ أَهْل الرَّأْي وَحَمَلَة الْآثَار ; وَذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم لِحَدِيثِ عَمَّار وَعِمْرَان بْن حُصَيْن وَحَدِيث أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَيَمُّم الْجُنُب.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة عَكْس هَذَا الْقَوْل، فَقَالَ : الْمُلَامَسَة هُنَا مُخْتَصَّة بِاللَّمْسِ الَّذِي هُوَ الْجِمَاع.
فَالْجُنُب يَتَيَمَّم وَاللَّامِس بِيَدِهِ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر ; فَلَيْسَ بِحَدَثٍ وَلَا هُوَ نَاقِض لِوُضُوئِهِ.
فَإِذَا قَبَّلَ الرَّجُل اِمْرَأَتَهُ لِلَذَّةٍ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ ; وَعَضَّدُوا هَذَا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاة وَلَمْ يَتَوَضَّأ.
قَالَ عُرْوَة : فَقُلْت لَهَا مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ ؟ فَضَحِكَتْ.
وَقَالَ مَالِك : الْمُلَامِس بِالْجِمَاعِ يَتَيَمَّم، وَالْمُلَامِس بِالْيَدِ يَتَيَمَّم إِذَا اِلْتَذَّ.
فَإِذَا لَمَسَهَا بِغَيْرِ شَهْوَة فَلَا وُضُوء ; وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَق، وَهُوَ مُقْتَضَى الْآيَة.
وَقَالَ عَلِيّ بْن زِيَاد : وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ثَوْب كَثِيف فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوء.
وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون : مَنْ تَعَمَّدَ مَسَّ اِمْرَأَته بِيَدِهِ لِمُلَاعَبَةٍ فَلْيَتَوَضَّأْ اِلْتَذَّ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى : وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ مِنْ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه أَنَّ الْوُضُوء إِنَّمَا يَجِب لِقَصْدِهِ اللَّذَّة دُون وُجُودهَا ; فَمَنْ قَصَدَ اللَّذَّة بِلَمْسِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء، اِلْتَذَّ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ ; وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْعُتْبِيَّة مِنْ رِوَايَة عِيسَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم.
وَأَمَّا الْإِنْعَاظ بِمُجَرَّدِهِ فَقَدْ رَوَى اِبْن نَافِع عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَا يُوجِب وُضُوءًا وَلَا غَسْلَ ذَكَرٍ حَتَّى يَكُون مَعَهُ لَمْسٌ أَوْ مَذْي.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق : مَنْ أَنْعَظَ إِنْعَاظًا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ; وَهَذَا قَوْل مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا أَفْضَى الرَّجُل بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنه إِلَى بَدَن الْمَرْأَة سَوَاء كَانَ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاء الْجَسَد تَعَلَّقَ نَقْض الطُّهْر بِهِ ; وَهُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود وَابْن عُمَر وَالزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إِذَا كَانَ اللَّمْس بِالْيَدِ نَقَضَ الطُّهْرَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْيَد لَمْ يَنْقُضْهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ " [ الْأَنْعَام : ٧ ].
فَهَذِهِ خَمْسَة مَذَاهِب أَسَدُّهَا مَذْهَب مَالِك ; وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عُمَر وَابْنه عَبْد اللَّه، وَهُوَ قَوْل عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّ الْمُلَامَسَة مَا دُون الْجِمَاع، وَأَنَّ الْوُضُوء يَجِب بِذَلِكَ ; وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَر الْفُقَهَاء.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ مَعْنَى الْآيَة ; فَإِنَّ قَوْله فِي أَوَّلهَا :" وَلَا جُنُبًا " أَفَادَ الْجِمَاع، وَإِنَّ قَوْله :" أَوْ جَاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِط " أَفَادَ الْحَدَث، وَإِنَّ قَوْله :" أَوْ لَامَسْتُمْ " أَفَادَ اللَّمْسَ وَالْقُبَلَ.
فَصَارَتْ ثَلَاث جُمَل لِثَلَاثَةِ أَحْكَام، وَهَذِهِ غَايَة فِي الْعِلْم وَالْإِعْلَام.
وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد بِاللَّمْسِ الْجِمَاع كَانَ تَكْرَارًا فِي الْكَلَام.
قُلْت : وَأَمَّا مَا اِسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَة مِنْ حَدِيث عَائِشَة فَحَدِيث مُرْسَل ; رَوَاهُ وَكِيع، عَنْ الْأَعْمَش عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَة.
قَالَ يَحْيَى بْن سَعِيد : وَذَكَرَ حَدِيث الْأَعْمَش عَنْ حَبِيب عَنْ عَمْرو فَقَالَ : أَمَّا أَنَّ سُفْيَان الثَّوْرِيّ كَانَ أَعْلَم النَّاس بِهَذَا، زَعَمَ أَنَّ حَبِيبًا لَمْ يَسْمَع مِنْ عُرْوَة شَيْئًا ; قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ.
فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ فَيَلْزَمُكُمْ قَبُوله وَالْعَمَل بِهِ.
قُلْنَا : تَرَكْنَاهُ لِظَاهِرِ الْآيَة وَعَمَل الصَّحَابَة.
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْمُلَامَسَة هِيَ الْجِمَاع وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
قُلْنَا : قَدْ خَالَفَهُ الْفَارُوق وَابْنه وَتَابَعَهُمَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَهُوَ كُوفِيّ، فَمَا لَكُمْ خَالَفْتُمُوهُ ؟ ! فَإِنْ قِيلَ : الْمُلَامَسَة مِنْ بَاب الْمُفَاعَلَة، وَلَا تَكُون إِلَّا مِنْ اِثْنَيْنِ، وَاللَّمْس بِالْيَدِ إِنَّمَا يَكُون مِنْ وَاحِد ; فَثَبَتَ أَنَّ الْمُلَامَسَة هِيَ الْجِمَاع.
قُلْنَا : الْمُلَامَسَة مُقْتَضَاهَا اِلْتِقَاء الْبَشَرَتَيْنِ، سَوَاء كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَاحِد أَوْ مِنْ اِثْنَيْنِ ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يُوصَف لَامِس وَمَلْمُوس.
جَوَاب آخَر : وَهُوَ أَنَّ الْمُلَامَسَة قَدْ تَكُون مِنْ وَاحِد ; وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع الْمُلَامَسَة، وَالثَّوْب مَلْمُوس وَلَيْسَ بِلَامِسٍ، وَقَدْ قَالَ اِبْن عُمَر مُخْبِرًا عَنْ نَفْسه " وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْت الِاحْتِلَام ".
وَتَقُول الْعَرَب : عَاقَبْت اللِّصّ وَطَارَقْت النَّعْل، وَهُوَ كَثِير.
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه سَبَب الْحَدَث، وَهُوَ الْمَجِيء مِنْ الْغَائِط ذَكَرَ سَبَب الْجَنَابَة وَهُوَ الْمُلَامَسَة، فَبَيَّنَ الْحَدَث وَالْجَنَابَة عِنْد عَدَم الْمَاء، كَمَا أَفَادَ بَيَان حُكْمهمَا عِنْد وُجُود الْمَاء.
قُلْنَا : لَا نَمْنَع حَمْل اللَّفْظ عَلَى الْجِمَاع وَاللَّمْس، وَيُفِيد الْحُكْمَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَقَدْ قُرِئَ " لَمَسْتُمْ " كَمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيّ مِنْ لَمْس الرَّجُل الْمَرْأَة بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ لَا حَائِل بَيْنه وَبَيْنهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَة وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء فَهُوَ ظَاهِر الْقُرْآن أَيْضًا ; وَكَذَلِكَ إِنْ لَمَسَتْهُ هِيَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء، إِلَّا الشَّعْر ; فَإِنَّهُ لَا وُضُوء لِمَنْ مَسَّ شَعْر اِمْرَأَته لِشَهْوَةٍ كَانَ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَة، وَكَذَلِكَ السِّنّ وَالظُّفُر، فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِف لِلْبَشَرَةِ.
وَلَوْ احْتَاطَ فَتَوَضَّأَ إِذَا مَسَّ شَعْرهَا كَانَ حَسَنًا.
وَلَوْ مَسَّهَا بِيَدِهِ أَوْ مَسَّتْهُ بِيَدِهَا مِنْ فَوْق الثَّوْب فَالْتَذَّ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْتَذَّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْء حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْبَشَرَة، وَسَوَاء فِي ذَلِكَ كَانَ مُتَعَمِّدًا أَوْ سَاهِيًا، كَانَتْ الْمَرْأَة حَيَّة أَوْ مَيِّتَة إِذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّة.
وَاخْتَلَفَ قَوْله إِذَا لَمَسَ صَبِيَّة صَغِيرَة أَوْ عَجُوزًا كَبِيرَة بِيَدِهِ أَوْ وَاحِدَة مِنْ ذَوَات مَحَارِمِهِ مِمَّنْ لَا يَحِلّ لَهُ نِكَاحهَا، فَمَرَّة قَالَ : يَنْتَقِض الْوُضُوء ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاء " فَلَمْ يُفَرِّق.
وَالثَّانِي لَا يُنْقَض ; لِأَنَّهُ لَا مَدْخَل لِلشَّهْوَةِ فِيهِنَّ.
قَالَ الْمَرْوَزِيّ : قَوْل الشَّافِعِيّ أَشْبَه بِظَاهِرِ الْكِتَاب ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ :" أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاء " وَلَمْ يَقُلْ بِشَهْوَةٍ وَلَا مِنْ غَيْر شَهْوَة ; وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الْوُضُوء مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الشَّهْوَة.
قَالَ : وَكَذَلِكَ عَامَّة التَّابِعِينَ.
قَالَ الْمَرْوَزِيّ : فَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك مِنْ مُرَاعَاة الشَّهْوَة وَاللَّذَّة مِنْ فَوْق الثَّوْب يُوجِب الْوُضُوء فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ اللَّيْث بْن سَعْد، وَلَا نَعْلَم أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ غَيْرهمَا.
قَالَ : وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ فِي النَّظَر ; لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْر لَامِس لِامْرَأَتِهِ، وَغَيْر مُمَاسٍّ لَهَا فِي الْحَقِيقَة، إِنَّمَا هُوَ لَامِس لِثَوْبِهَا.
وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ تَلَذَّذَ وَاشْتَهَى أَنْ يَلْمِس لَمْ يَجِب عَلَيْهِ وُضُوء ; فَكَذَلِكَ مَنْ لَمَسَ فَوْق الثَّوْب لِأَنَّهُ غَيْر مُمَاسٍّ لِلْمَرْأَةِ.
قُلْت : أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ مَالِكًا عَلَى قَوْله إِلَّا اللَّيْث بْن سَعْد، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ أَنَّ ذَلِكَ قَوْل إِسْحَاق وَأَحْمَد، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ كُلّهمْ قَالُوا : إِذَا لَمَسَ فَالْتَذَّ وَجَبَ الْوُضُوء، وَإِنْ لَمْ يَلْتَذَّ فَلَا وُضُوء.
وَأَمَّا قَوْله :" وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ فِي النَّظَر " فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيح الْخَبَر عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : كُنْت أَنَام بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَته، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلَيَّ، وَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا ثَانِيًا، قَالَتْ : وَالْبُيُوت يَوْمئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيح.
فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمُلَامِسَ، وَأَنَّهُ غَمَزَ رِجْلَيْ عَائِشَة ; كَمَا فِي رِوَايَة الْقَاسِم عَنْ عَائِشَة ( فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَ رِجْلَيَّ فَقَبَضْتهُمَا ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ.
فَهَذَا يَخُصّ عُمُوم قَوْله :" أَوْ لَامَسْتُمْ " فَكَانَ وَاجِبًا لِظَاهِرِ الْآيَة اِنْتِقَاض وُضُوء كُلّ مُلَامِس كَيْفَ لَامَسَ.
وَدَلَّتْ السُّنَّة الَّتِي هِيَ الْبَيَان لِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْوُضُوء عَلَى بَعْض الْمُلَامِسِينَ دُون بَعْض، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَلْتَذَّ وَلَمْ يَقْصِد.
وَلَا يُقَال : فَلَعَلَّهُ كَانَ عَلَى قَدَمَيْ عَائِشَة ثَوْب، أَوْ كَانَ يَضْرِب رِجْلَيْهَا بِكُمِّهِ ; فَإِنَّا نَقُول : حَقِيقَة الْغَمْز إِنَّمَا هُوَ بِالْيَدِ ; وَمِنْهُ غَمْزُك الْكَبْشَ أَيْ تَجُسُّهُ لِتَنْظُرَ أَهُوَ سَمِين أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا أَنْ يَكُون الْغَمْزُ الضَّرْبَ بِالْكُمِّ فَلَا.
وَالرِّجْل مِنْ النَّائِمِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا ظُهُورُهَا مِنْ النَّائِم ; لَا سِيَّمَا مَعَ اِمْتِدَاده وَضِيق حَاله.
فَهَذِهِ كَانَتْ الْحَال فِي ذَلِكَ الْوَقْت ; أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلهَا :( وَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا ) وَقَوْلهَا :( وَالْبُيُوت يَوْمئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيح ).
وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا عَنْهَا قَالَتْ :( كُنْت أَمُدّ رِجْلَيَّ فِي قِبْلَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَرَفَعْتهمَا، فَإِذَا قَامَ مَدَدْتهمَا ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ.
فَظَهَرَ أَنَّ الْغَمْز كَانَ عَلَى حَقِيقَته مَعَ الْمُبَاشَرَة.
وَدَلِيل آخَر - وَهُوَ مَا رَوَتْهُ عَائِشَة أَيْضًا رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : فَقَدْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة مِنْ الْفِرَاش فَالْتَمَسْته، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْن قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِد وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ ; الْحَدِيث.
فَلَمَّا وَضَعَتْ يَدهَا عَلَى قَدَمِهِ وَهُوَ سَاجِد وَتَمَادَى فِي سُجُوده كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوُضُوء لَا يَنْتَقِض إِلَّا عَلَى بَعْض الْمُلَامِسِينَ دُون بَعْض.
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ عَلَى قَدَمِهِ حَائِل كَمَا قَالَهُ الْمُزَنِيّ.
قِيلَ لَهُ : الْقَدَم قَدَم بِلَا حَائِل حَتَّى يَثْبُتَ الْحَائِل، وَالْأَصْل الْوُقُوف مَعَ الظَّاهِر ; بَلْ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا يَجْتَمِع مِنْهُ كَالنَّصِّ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اِسْتَكْرَهَ اِمْرَأَة فَمَسَّ خِتَانُهُ خِتَانَهَا وَهِيَ لَا تَلْتَذُّ لِذَلِكَ، أَوْ كَانَتْ نَائِمَة فَلَمْ تَلْتَذَّ وَلَمْ تَشْتَهِ أَنَّ الْغُسْل وَاجِب عَلَيْهَا ; فَكَذَلِكَ حُكْم مَنْ قَبَّلَ أَوْ لَامَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَة انْتَقَضَتْ طَهَارَته وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوء ; لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَسَّة وَاللَّمْسَة وَالْقُبْلَة الْفِعْل لَا اللَّذَّة.
قُلْنَا : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَعْمَش وَغَيْره قَدْ خَالَفَ فِيمَا اِدَّعَيْتُمُوهُ مِنْ الْإِجْمَاع.
سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ هَذَا اِسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلّ النِّزَاع فَلَا يَلْزَم ; وَقَدْ اِسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّة مَذْهَبنَا بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيّ - فِيمَا زَعَمْتُمْ إِنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ شَيْخُهُ مَالِك ; كَمَا هُوَ مَشْهُور عِنْدَنَا " إِذَا صَحَّ الْحَدِيث فَخُذُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي " وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيث بِذَلِكَ فَلِمَ لَا تَقُولُونَ بِهِ ؟ ! وَيَلْزَم عَلَى مَذْهَبكُمْ أَنَّ مَنْ ضَرَبَ اِمْرَأَته فَلَطَمَهَا بِيَدِهِ تَأْدِيبًا لَهَا وَإِغْلَاظًا عَلَيْهَا أَنْ يَنْتَقِض وُضُوءُهُ ; إِذْ الْمَقْصُود وُجُود الْفِعْل، وَهَذَا لَا يَقُولهُ أَحَد فِيمَا أَعْلَم، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَرَوَى الْأَئِمَّة مَالِك وَغَيْره أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَأُمَامَة بِنْت أَبِي الْعَاص اِبْنَة زَيْنَب بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَاتِقه، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُود أَعَادَهَا.
وَهَذَا يَرُدّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ : لَوْ لَمَسَ صَغِيرَة لَانْتَقَضَ طُهْره تَمَسُّكًا بِلَفْظِ النِّسَاء، وَهَذَا ضَعِيف ; فَإِنَّ لَمْس الصَّغِيرَة كَلَمْسِ الْحَائِط.
وَاخْتَلَفَ قَوْله فِي ذَوَات الْمَحَارِم لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِر اللَّذَّة، وَنَحْنُ اِعْتَبَرْنَا اللَّذَّة فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْم، وَهُوَ وُجُوب الْوُضُوء.
وَأَمَّا قَوْل الْأَوْزَاعِيّ فِي اِعْتِبَاره الْيَد خَاصَّة ; فَإِنَّ اللَّمْس أَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل بِالْيَدِ، فَقَصْره عَلَيْهِ دُون غَيْره مِنْ الْأَعْضَاء ; حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ الرَّجُل رِجْلَيْهِ فِي ثِيَاب اِمْرَأَتِهِ فَمَسَّ فَرْجَهَا أَوْ بَطْنَهَا لَا يَنْتَقِضُ لِذَلِكَ وُضُوءُهُ.
وَقَالَ فِي الرَّجُل يُقَبِّل اِمْرَأَته : إِنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي قُلْت يَتَوَضَّأ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأ لَمْ أَعِبْهُ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر : لَا وُضُوء عَلَى مَنْ قَبَّلَ اِمْرَأَته أَوْ بَاشَرَهَا أَوْ لَمَسَهَا.
وَهَذَا يُخَرَّج عَلَى مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة، وَاَللَّه أَعْلَم.
النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا
الْأَسْبَاب الَّتِي لَا يَجِد الْمُسَافِر مَعَهَا الْمَاء هِيَ إِمَّا عَدَمه جُمْلَةً أَوْ عَدَم بَعْضه، وَإِمَّا أَنْ يَخَاف فَوَات الرَّفِيق، أَوْ عَلَى الرَّحْل بِسَبَبِ طَلَبِهِ، أَوْ يَخَاف لُصُوصًا أَوْ سِبَاعًا، أَوْ فَوَات الْوَقْت، أَوْ عَطَشًا عَلَى نَفْسه أَوْ عَلَى غَيْره ; وَكَذَلِكَ لِطَبِيخٍ يَطْبُخهُ لِمَصْلَحَةِ بَدَنه ; فَإِذَا كَانَ أَحَد هَذِهِ الْأَشْيَاء تَيَمَّمَ وَصَلَّى.
وَيَتَرَتَّب عَدَمه لِلْمَرِيضِ بِأَلَّا يَجِد مَنْ يُنَاوِلُهُ، أَوْ يَخَاف مِنْ ضَرَره.
وَيَتَرَتَّب أَيْضًا عَدَمُهُ لِلصَّحِيحِ الْحَاضِر بِالْغَلَاءِ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَصْنَاف، أَوْ بِأَنْ يُسْجَن أَوْ يُرْبَط.
وَقَالَ الْحَسَن : يَشْتَرِي الرَّجُل الْمَاء بِمَالِهِ كُلّه وَيَبْقَى عَدِيمًا، وَهَذَا ضَعِيف، لِأَنَّ دِينَ اللَّه يُسْر.
وَقَالَتْ طَائِفَة : يَشْتَرِيه مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْقِيمَة الثُّلُث فَصَاعِدًا.
وَقَالَتْ طَائِفَة : يَشْتَرِي قِيمَة الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ وَالثَّلَاث وَنَحْو هَذَا ; وَهَذَا كُلّه فِي مَذْهَب مَالِك رَحِمَهُ اللَّه.
وَقِيلَ لِأَشْهَب : أَتُشْتَرَى الْقِرْبَة بِعَشَرَةِ دَرَاهِم ؟ فَقَالَ : مَا أَرَى ذَلِكَ عَلَى النَّاس.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ بِعَدَمِ الزِّيَادَة.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ طَلَب الْمَاء شَرْط فِي صِحَّة التَّيَمُّم أَمْ لَا ؟ فَظَاهِر مَذْهَب مَالِك أَنَّ ذَلِكَ شَرْط، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بْن نَصْر إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّة التَّيَمُّم ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ كَانَ يَكُون فِي السَّفَر عَلَى غَلْوَتَيْنِ مِنْ طَرِيقه فَلَا يُعْدَل إِلَيْهِ.
قَالَ إِسْحَاق : لَا يَلْزَمهُ الطَّلَب إِلَّا فِي مَوْضِعه، وَذَكَرَ حَدِيث اِبْن عُمَر، وَالْأَوَّل أَصَحّ وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك فِي الْمُوَطَّأ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَلَمْ تَجِدُوا مَاء " وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّيَمُّم لَا يُسْتَعْمَل إِلَّا بَعْد طَلَب الْمَاء.
وَأَيْضًا مِنْ جِهَة الْقِيَاس أَنَّ هَذَا بَدَل مَأْمُور بِهِ عِنْد الْعَجْز عَنْ مُبْدَله، فَلَا يُجْزِئ فِعْله إِلَّا مَعَ تَيَقُّن عَدَم مُبْدَله ; كَالصَّوْمِ مَعَ الْعِتْق فِي الْكَفَّارَة.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَعُدِمَ الْمَاء، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَغْلِب عَلَى ظَنّ الْمُكَلَّف الْيَأْس مِنْ وُجُوده فِي الْوَقْت، أَوْ يَغْلِب عَلَى ظَنّه وُجُوده وَيَقْوَى رَجَاؤُهُ لَهُ، أَوْ يَتَسَاوَى عِنْده الْأَمْرَانِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَحْوَال :
فَالْأَوَّل : يُسْتَحَبّ لَهُ التَّيَمُّم وَالصَّلَاة فِي أَوَّل الْوَقْت : لِأَنَّهُ إِذَا فَاتَتْهُ فَضِيلَة الْمَاء فَإِنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يُحْرِز فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت.
الثَّانِي : يَتَيَمَّم وَسَط الْوَقْت ; حَكَاهُ أَصْحَاب مَالِك عَنْهُ، فَيُؤَخِّر الصَّلَاة رَجَاء إِدْرَاك فَضِيلَة الْمَاء مَا لَمْ تَفُتْهُ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت، فَإِنَّ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت قَدْ تُدْرَك بِوَسَطِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ.
الثَّالِث : يُؤَخِّر الصَّلَاة إِلَى أَنْ يَجِد الْمَاء فِي آخِر الْوَقْت ; لِأَنَّ فَضِيلَة الْمَاء أَعْظَم مِنْ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت، لِأَنَّ فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت مُخْتَلَف فِيهَا، وَفَضِيلَة الْمَاء مُتَّفَق عَلَيْهَا، وَفَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت يَجُوز تَرْكهَا دُون ضَرُورَة وَلَا يَجُوز تَرْك فَضِيلَة الْمَاء إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالْوَقْت فِي ذَلِكَ هُوَ آخِر الْوَقْت الْمُخْتَار ; قَالَهُ اِبْن حَبِيب.
وَلَوْ عَلِمَ الْمَاء فِي آخِر الْوَقْت فَتَيَمَّمَ فِي أَوَّله وَصَلَّى فَقَدْ قَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُجْزِئهُ، فَإِنْ وَجَدَ الْمَاء أَعَادَ فِي الْوَقْت خَاصَّة.
وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون : إِنْ وَجَدَ الْمَاء بَعْدُ أَعَادَ أَبَدًا.
وَاَلَّذِي يُرَاعَى مِنْ وُجُود الْمَاء أَنْ يَجِد مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ، فَإِنْ وَجَدَ أَقَلّ مِنْ كِفَايَته تَيَمَّمَ وَلَمْ يَسْتَعْمِل مَا وَجَدَ مِنْهُ.
وَهَذَا قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ فَرْضه أَحَد الشَّيْئَيْنِ، إِمَّا الْمَاء وَإِمَّا التُّرَاب.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَاء مُغْنِيًا عَنْ التَّيَمُّم كَانَ غَيْر مَوْجُود شَرْعًا ; لِأَنَّ الْمَطْلُوب مِنْ وُجُوده الْكِفَايَة.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر : يَسْتَعْمِل مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاء وَيَتَيَمَّم ; لِأَنَّهُ وَاجِد مَاء فَلَمْ يَتَحَقَّق شَرْط التَّيَمُّم ; فَإِذَا اِسْتَعْمَلَهُ وَفَقَدَ الْمَاء تَيَمَّمَ لِمَا لَمْ يَجِد.
وَاخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيّ أَيْضًا فِيمَا إِذَا نَسِيَ الْمَاء فِي رَحْله فَتَيَمَّمَ ; وَالصَّحِيح أَنَّهُ يُعِيدُ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَاء عِنْده فَهُوَ وَاجِد وَإِنَّمَا فَرَّطَ.
وَالْقَوْل الْآخَر لَا يُعِيد ; وَهُوَ قَوْل مَالِك ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَلَمْ يَجِدْهُ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَة الْوُضُوء بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّر ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَلَمْ تَجِدُوا مَاء " فَقَالَ : هَذَا نَفْي فِي نَكِرَة، وَهُوَ يَعُمّ لُغَة ; فَيَكُون مُفِيدًا جَوَاز الْوُضُوء بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّر وَغَيْر الْمُتَغَيِّر ; لِانْطِلَاقِ اِسْم الْمَاء عَلَيْهِ.
قُلْنَا : النَّفْي فِي النَّكِرَة يَعُمّ كَمَا قُلْتُمْ، وَلَكِنْ فِي الْجِنْس، فَهُوَ عَامّ فِي كُلّ مَاء كَانَ مِنْ سَمَاء أَوْ نَهَر أَوْ عَيْن عَذْب أَوْ مِلْح.
فَأَمَّا غَيْر الْجِنْس وَهُوَ الْمُتَغَيِّر فَلَا يَدْخُل فِيهِ ; كَمَا لَا يَدْخُل فِيهِ مَاء الْبَاقِلَاء وَلَا مَاء الْوَرْد، وَسَيَأْتِي حُكْم الْمِيَاه فِي " الْفُرْقَان "، إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُضُوء وَالِاغْتِسَال لَا يَجُوز بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْرِبَة سِوَى النَّبِيذ عِنْد عَدَم الْمَاء ; وَقَوْله تَعَالَى :" فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا " يَرُدّهُ.
وَالْحَدِيث الَّذِي فِيهِ ذِكْر الْوُضُوء بِالنَّبِيذِ رَوَاهُ اِبْن مَسْعُود، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ ; لِأَنَّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو زَيْد، وَهُوَ مَجْهُول لَا يُعْرَف بِصُحْبَةِ عَبْد اللَّه ; قَالَهُ اِبْن الْمُنْذِر وَغَيْره.
وَسَيَأْتِي فِي " الْفُرْقَان " بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
الْمَاء الَّذِي يُبِيحُ عَدَمُهُ التَّيَمُّمَ هُوَ الطَّاهِر الْمُطَهِّر الْبَاقِي عَلَى أَوْصَاف خِلْقَته.
وَقَالَ بَعْض مَنْ أَلَّفَ فِي أَحْكَام الْقُرْآن لَمَّا قَالَ تَعَالَى :
﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا ﴾ فَإِنَّمَا أَبَاحَ التَّيَمُّم عِنْد عَدَم كُلّ جُزْء مِنْ مَاء ; لِأَنَّهُ لَفْظ مُنَكَّر يَتَنَاوَل كُلّ جُزْء مِنْهُ ; سَوَاء كَانَ مُخَالِطًا لِغَيْرِهِ أَوْ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ.
وَلَا يَمْتَنِع أَحَد أَنْ يَقُول فِي نَبِيذ التَّمْر مَاء ; فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّم مَعَ وُجُوده.
وَهَذَا مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه ; وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَخْبَارٍ ضَعِيفَة يَأْتِي ذِكْرهَا فِي سُورَة " الْفُرْقَان "، وَهُنَاكَ يَأْتِي الْقَوْل فِي الْمَاء إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
مَاءً
التَّيَمُّم مِمَّا خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة تَوْسِعَةً عَلَيْهَا ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فُضِّلْنَا عَلَى النَّاس بِثَلَاثٍ جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْض كُلّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا ) وَذَكَرَ الْحَدِيث، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر نُزُوله، وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْقِلَادَة حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر الْأَسْبَاب الَّتِي تُبِيحُهُ، وَالْكَلَام هَاهُنَا فِي مَعْنَاهُ لُغَة وَشَرْعًا، وَفِي صِفَته وَكَيْفِيَّته وَمَا يُتَيَمَّم بِهِ وَلَهُ، وَمَنْ يَجُوز لَهُ التَّيَمُّم، وَشُرُوط التَّيَمُّم إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامه.
فَالتَّيَمُّم لُغَة هُوَ الْقَصْد.
تَيَمَّمْت الشَّيْء قَصَدْته، وَتَيَمَّمْت الصَّعِيد تَعَمَّدْته، وَتَيَمَّمْتُهُ بِرُمْحِي وَسَهْمِي أَيْ قَصَدْته دُون مَنْ سِوَاهُ.
وَأَنْشَدَ الْخَلِيل : ش يَمَّمْته الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْت لَهُ و هَذِي الْبَسَالَةُ لَا لَعْبُ الزَّحَالِيقِ ش قَالَ الْخَلِيل : مَنْ قَالَ فِي هَذَا الْبَيْت أَمَّمْته فَقَدْ أَخْطَأَ ; لِأَنَّهُ قَالَ :" شَزْرًا " وَلَا يَكُون الشَّزْر إِلَّا مِنْ نَاحِيَة وَلَمْ يَقْصِد بِهِ أَمَامه.
وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس :تَيَمَّمْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلُهَا | بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالٍ |
وَقَالَ أَيْضًا :تَيَمَّمَتْ الْعَيْن الَّتِي عِنْد ضَارِج | يَفِيء عَلَيْهَا الظِّلّ عَرْمَضُهَا طَامِي |
آخَرُ :إِنِّي كَذَاك إِذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ | يَمَّمْت بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدَا |
وَقَالَ أَعْشَى بَاهِلَة :تَيَمَّمْت قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ | مِنْ الْأَرْض مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَزَنْ |
وَقَالَ حُمَيْد بْن ثَوْر :سَلْ الرَّبْع أَنَّى يَمَّمَتْ أُمّ طَارِق | وَهَلْ عَادَةٌ لِلرَّبْعِ أَنْ يَتَكَلَّمَا |
وَلِلشَّافِعِيِّ :عِلْمِي مَعِي حَيْثُمَا يَمَّمْت أَحْمِلُهُ | بَطْنِي وِعَاءٌ لَهُ لَا بَطْنُ صُنْدُوقِ |
قَالَ اِبْن السِّكِّيت : قَوْله تَعَالَى " فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا " أَيْ اِقْصِدُوا ; ثُمَّ كَثُرَ اِسْتِعْمَالُهُمْ لِهَذِهِ الْكَلِمَة حَتَّى صَارَ التَّيَمُّم مَسْح الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ بِالتُّرَابِ.
وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ فِي قَوْلهمْ :" قَدْ تَيَمَّمَ الرَّجُل " مَعْنَاهُ قَدْ مَسَحَ التُّرَاب عَلَى وَجْهه وَيَدَيْهِ.
قُلْت : وَهَذَا هُوَ التَّيَمُّم الشَّرْعِيّ، إِذَا كَانَ الْمَقْصُود بِهِ الْقُرْبَة.
وَيَمَّمْت الْمَرِيض فَتَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ.
وَرَجُل مُيَمَّم يَظْفَر بِكُلِّ مَا يَطْلُب ; عَنْ الشَّيْبَانِيّ.
وَأَنْشَدَ :إِنَّا وَجَدْنَا أَعْصُرَ بْنَ سَعْدِ | مُيَمَّمَ الْبَيْتِ رَفِيعَ الْمَجْدِ |
وَقَالَ آخَر :أَزْهَر لَمْ يُولَدْ بِنَجْمِ الشُّحِّ | مُيَمَّم الْبَيْت كَرِيم السِّنْحِ |
لَفْظ التَّيَمُّم ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه فِي " الْبَقَرَة " وَفِي هَذِهِ السُّورَة و " الْمَائِدَة " وَاَلَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَة هِيَ آيَة التَّيَمُّم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ مُعْضِلَة مَا وَجَدْت لِدَائِهَا مِنْ دَوَاء عِنْد أَحَد ; هُمَا آيَتَانِ فِيهِمَا ذِكْر التَّيَمُّم إِحْدَاهُمَا فِي " النِّسَاء " وَالْأُخْرَى فِي " الْمَائِدَة ".
فَلَا نَعْلَم أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَة بِقَوْلِهَا :" فَأَنْزَلَ اللَّه آيَة التَّيَمُّم ".
ثُمَّ قَالَ : وَحَدِيثهَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم قَبْل ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ.
قُلْت : أَمَّا قَوْله :" فَلَا نَعْلَم أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَة " فَهِيَ هَذِهِ الْآيَة عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله :" وَحَدِيثُهَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ " فِي صَحِيح وَلَا خِلَاف فِيهِ بَيْنَ أَهْل السِّيَر ; لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنَّ غُسْل الْجَنَابَة لَمْ يُفْتَرَضْ قَبْل الْوُضُوء، كَمَا أَنَّهُ مَعْلُوم عِنْد جَمِيع أَهْل السِّيَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاة بِمَكَّة لَمْ يُصَلِّ إِلَّا بِوُضُوءٍ مِثْل وُضُوئِنَا الْيَوْم.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آيَة الْوُضُوء إِنَّمَا نَزَلَتْ لِيَكُونَ فَرْضُهَا الْمُتَقَدِّم مَتْلُوًّا فِي التَّنْزِيل.
وَفِي قَوْله :" فَنَزَلَتْ آيَة التَّيَمُّم " وَلَمْ يَقُلْ آيَة الْوُضُوء مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي طَرَأَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْم فِي ذَلِكَ الْوَقْت حُكْم التَّيَمُّم لَا حُكْم الْوُضُوء ; وَهَذَا بَيِّنٌ لَا إِشْكَال فِيهِ.
التَّيَمُّم يَلْزَم كُلّ مُكَلَّف لَزِمَتْهُ الصَّلَاة إِذَا عَدِمَ الْمَاء وَدَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاة.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ وَالْمُزَنِيّ صَاحِب الشَّافِعِيّ : يَجُوز قَبْله ; لِأَنَّ طَلَب الْمَاء عِنْدهمْ لَيْسَ بِشَرْطٍ قِيَاسًا عَلَى النَّافِلَة ; فَلَمَّا جَازَ التَّيَمُّم لِلنَّافِلَةِ دُون طَلَب الْمَاء جَازَ أَيْضًا لِلْفَرِيضَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنْ السُّنَّة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِي ذَرّ :( الصَّعِيد الطَّيِّب وَضُوء الْمُسْلِم وَلَوْ لَمْ يَجِد الْمَاء عَشْر حِجَج ).
فَسَمَّى عَلَيْهِ السَّلَام الصَّعِيد وَضُوءًا كَمَا يُسَمَّى الْمَاء ; فَحُكْمه إِذًا حُكْم الْمَاء.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى :" فَلَمْ تَجِدُوا مَاء " وَلَا يُقَال : لَمْ يَجِد الْمَاء إِلَّا لِمَنْ طَلَبَ وَلَمْ يَجِد.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى ; وَلِأَنَّهَا طَهَارَة ضَرُورَة كَالْمُسْتَحَاضَةِ ; وَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاة تَيَمَّمْت وَصَلَّيْت ).
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عَلِيّ وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم لَا يَرْفَع الْجَنَابَة وَلَا الْحَدَث، وَأَنَّ الْمُتَيَمِّم لَهُمَا إِذَا وَجَدَ الْمَاء عَادَ جُنُبًا كَمَا كَانَ أَوْ مُحْدِثًا ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِي ذَرّ :( إِذَا وَجَدْت الْمَاء فَأَمِسَّهُ جِلْدَك ) إِلَّا شَيْء رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن، رَوَاهُ اِبْن جُرَيْج وَعَبْد الْحَمِيد بْن جُبَيْر بْن شَيْبَة عَنْهُ ; وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن حَرْمَلَة عَنْهُ قَالَ فِي الْجُنُب الْمُتَيَمِّم يَجِد الْمَاء وَهُوَ عَلَى طَهَارَته : لَا يَحْتَاج إِلَى غُسْل وَلَا وُضُوء حَتَّى يُحْدِث.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيمَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء فِي الْوَقْت أَنَّهُ يَتَوَضَّأ وَيُعِيد تِلْكَ الصَّلَاة.
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَهَذَا تَنَاقُض وَقِلَّة رَوِيَّة.
وَلَمْ يَكُنْ أَبُو سَلَمَة عِنْدهمْ يَفْقَهُ كَفِقْهِ أَصْحَابه التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمْ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلَاة بَطَلَ تَيَمُّمُهُ ; وَعَلَيْهِ اِسْتِعْمَال الْمَاء.
وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَفَرَغَ مِنْ صَلَاته، وَقَدْ كَانَ اِجْتَهَدَ فِي طَلَبه الْمَاء وَلَمْ يَكُنْ فِي رَحْله أَنَّ صَلَاته تَامَّة ; لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضه كَمَا أُمِرَ.
فَغَيْر جَائِز أَنْ تُوجَب عَلَيْهِ الْإِعَادَة بِغَيْرِ حُجَّة.
وَمِنْهُمْ مَنْ اِسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يُعِيد فِي الْوَقْت إِذَا تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ.
وَرُوِيَ عَنْ طَاوُس وَعَطَاء وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَمَكْحُول وَابْن سِيرِينَ وَالزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة كُلّهمْ يَقُول : يُعِيد الصَّلَاة.
وَاسْتَحَبَّ الْأَوْزَاعِيّ ذَلِكَ وَقَالَ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ ; لِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَر فَحَضَرَتْ الصَّلَاة وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاء فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاء فِي الْوَقْت فَأَعَادَ أَحَدهمَا الصَّلَاة بِالْوُضُوءِ وَلَمْ يُعِدْ الْآخَر، ثُمَّ أَتَيَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ :( أَصَبْت السُّنَّة وَأَجْزَأَتْك صَلَاتُك ) وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ :( لَك الْأَجْر مَرَّتَيْنِ ).
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ : وَغَيْر اِبْن نَافِع يَرْوِيه عَنْ اللَّيْث عَنْ عَمِيرَة بْن أَبِي نَاجِيَة عَنْ بَكْر بْن سَوَادَةَ عَنْ عَطَاء عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْر أَبِي سَعِيد فِي هَذَا الْإِسْنَاد لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِيهِ : ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء بَعْدُ فِي الْوَقْت.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء إِذَا وَجَدَ الْمَاء بَعْد دُخُول فِي الصَّلَاة ; فَقَالَ مَالِك : لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْع الصَّلَاة وَاسْتِعْمَال الْمَاء وَلْيُتِمَّ صَلَاته وَلْيَتَوَضَّأْ لِمَا يَسْتَقْبِل ; وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَجَمَاعَة مِنْهُمْ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَالْمُزَنِيّ : يَقْطَع وَيَتَوَضَّأ وَيَسْتَأْنِف الصَّلَاة لِوُجُودِ الْمَاء.
وَحُجَّتهمْ أَنَّ التَّيَمُّم لَمَّا بَطَلَ بِوُجُودِ الْمَاء قَبْل الصَّلَاة فَكَذَلِكَ يَبْطُل مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَإِذَا بَطَلَ بَعْضهَا بَطَلَ كُلّهَا ; لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ بِالشُّهُورِ لَا يَبْقَى عَلَيْهَا إِلَّا أَقَلّهَا ثُمَّ تَحِيض أَنَّهَا تَسْتَقْبِل عِدَّتهَا بِالْحَيْضِ.
قَالُوا : وَاَلَّذِي يَطْرَأ عَلَيْهِ الْمَاء وَهُوَ فِي الصَّلَاة كَذَلِكَ قِيَاسًا وَنَظَرًا.
وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى :" وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالكُمْ " [ مُحَمَّد : ٣٣ ].
وَقَدْ اِتَّفَقَ الْجَمِيع عَلَى جَوَاز الدُّخُول فِي الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ عِنْد عَدَم الْمَاء، وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعهَا إِذَا رُئِيَ الْمَاء ; وَلَمْ تَثْبُت سُنَّة بِقَطْعِهَا وَلَا إِجْمَاع.
وَمِنْ حُجَّتهمْ أَيْضًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْم فِي ظِهَار أَوْ قَتْل فَصَامَ مِنْهُ أَكْثَره ثُمَّ وَجَدَ رَقَبَة لَا يُلْغِي صَوْمه وَلَا يَعُود إِلَى الرَّقَبَة.
وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ لَا يَقْطَعهَا وَلَا يَعُود إِلَى الْوُضُوء بِالْمَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُصَلِّي بِهِ صَلَوَات أَمْ يَلْزَم التَّيَمُّم لِكُلِّ صَلَاة فَرْض وَنَفْل ; فَقَالَ شَرِيك بْن عَبْد اللَّه الْقَاضِي : يَتَيَمَّم لِكُلِّ صَلَاة نَافِلَة وَفَرِيضَة.
وَقَالَ مَالِك : لِكُلِّ فَرِيضَة ; لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَغِي الْمَاء لِكُلِّ صَلَاة، فَمَنْ اِبْتَغَى الْمَاء فَلَمْ يَجِدْهُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّم.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالْحَسَن بْن حَيّ وَدَاوُد : يُصَلِّي مَا شَاءَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد مَا لَمْ يُحْدِث ; لِأَنَّهُ طَاهِر مَا لَمْ يَجِد الْمَاء ; وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَب الْمَاء إِذَا يَئِسَ مِنْهُ.
وَمَا قُلْنَاهُ أَصَحّ ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ عَلَى كُلّ قَائِم إِلَى الصَّلَاة طَلَب الْمَاء، وَأَوْجَبَ عِنْد عَدَمه التَّيَمُّم لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاة قَبْل خُرُوج الْوَقْت، فَهِيَ طَهَارَة ضَرُورَة نَاقِصَة بِدَلِيلِ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى بُطْلَانهَا بِوُجُودِ الْمَاء وَإِنْ لَمْ يُحْدِث ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّهَارَة بِالْمَاءِ.
وَقَدْ يَنْبَنِي هَذَا الْخِلَاف أَيْضًا فِي جَوَاز التَّيَمُّم قَبْل دُخُول الْوَقْت ; فَالشَّافِعِيّ وَأَهْل الْمَقَالَة الْأُولَى لَا يُجَوِّزُونَهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى " فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا " ظَهَرَ مِنْهُ تَعَلُّق أَجْزَاء التَّيَمُّم بِالْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَة قَبْل الْوَقْت.
وَعَلَى هَذَا لَا يُصَلِّي فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد، وَهَذَا بَيِّنٌ.
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ صَلَّى صَلَاتَيْ فَرْض بِتَيَمُّمٍ وَاحِد ; فَرَوَى يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ اِبْن الْقَاسِم : يُعِيد الثَّانِيَة مَا دَامَ فِي الْوَقْت.
وَرَوَى أَبُو زَيْد بْن أَبِي الْغَمْر عَنْهُ : يُعِيد أَبَدًا.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون يُعِيد الثَّانِيَة أَبَدًا.
وَهَذَا الَّذِي يُنَاظِر عَلَيْهِ أَصْحَابنَا ; لِأَنَّ طَلَب الْمَاء شَرْط.
وَذَكَرَ اِبْن عَبْدُوس أَنَّ اِبْن نَافِع رَوَى عَنْ مَالِك فِي الَّذِي يَجْمَع بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَنَّهُ يَتَيَمَّم لِكُلِّ صَلَاة.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَج فِيمَنْ ذَكَرَ صَلَوَات : إِنْ قَضَاهُنَّ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَذَلِكَ جَائِز لَهُ.
وَهَذَا عَلَى أَنَّ طَلَب الْمَاء لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَالْأَوَّل أَصَحّ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
الصَّعِيد : وَجْه الْأَرْض كَانَ عَلَيْهِ تُرَاب أَوْ لَمْ يَكُنْ ; قَالَهُ الْخَلِيل وَابْن الْأَعْرَابِيّ وَالزَّجَّاج.
قَالَ الزَّجَّاج : لَا أَعْلَم فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْل اللُّغَة، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُزُرًا " [ الْكَهْف : ٨ ] أَيْ أَرْضًا غَلِيظَة لَا تُنْبِت شَيْئًا.
وَقَالَ تَعَالَى " فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا " [ الْكَهْف : ٤٠ ].
وَمِنْهُ قَوْل ذِي الرُّمَّة :كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ | دَبَّابَةٌ فِي عِظَام الرَّأْسِ خُرْطُومُ |
وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا لِأَنَّهُ نِهَايَة مَا يُصْعَد إِلَيْهِ مِنْ الْأَرْض.
وَجَمْع الصَّعِيد صُعُدَات ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوس فِي الصُّعُدَات ).
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهِ مِنْ أَجْل تَقْيِيده بِالطَّيِّبِ ; فَقَالَتْ طَائِفَة : يَتَيَمَّم بِوَجْهِ الْأَرْض كُلّه تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمْلًا أَوْ حِجَارَة أَوْ مَعْدِنًا أَوْ سَبْخَة.
هَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَالطَّبَرِيّ.
و " طَيِّبًا " مَعْنَاهُ طَاهِرًا.
وَقَالَتْ فُرْقَة :" طَيِّبًا " حَلَالًا ; وَهَذَا قَلِق.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف : الصَّعِيد التُّرَاب الْمُنْبِت وَهُوَ الطَّيِّب ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَالْبَلَد الطَّيِّب يَخْرُج نَبَاته بِإِذْنِ رَبّه " [ الْأَعْرَاف : ٥٨ ] فَلَا يَجُوز التَّيَمُّم عِنْدهمْ عَلَى غَيْره.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَقَع الصَّعِيد إِلَّا عَلَى تُرَاب ذِي غُبَار.
وَذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ سُئِلَ أَيّ الصَّعِيد أَطْيَب ؟ فَقَالَ : الْحَرْث.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَفِي قَوْل اِبْن عَبَّاس هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الصَّعِيد يَكُون غَيْر أَرْض الْحَرْث.
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هُوَ التُّرَاب خَاصَّة.
وَفِي كِتَاب الْخَلِيل : تَيَمَّمْ بِالصَّعِيدِ، أَيْ خُذْ مِنْ غُبَاره ; حَكَاهُ اِبْن فَارِس.
وَهُوَ يَقْتَضِي التَّيَمُّم بِالتُّرَابِ فَإِنَّ الْحَجَر الصَّلْد لَا غُبَار عَلَيْهِ.
وَقَالَ اِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيّ أَنْ يَعْلَق التُّرَاب بِالْيَدِ وَيَتَيَمَّم بِهِ نَقْلًا إِلَى أَعْضَاء التَّيَمُّم، كَالْمَاءِ يُنْقَل إِلَى أَعْضَاء الْوُضُوء.
قَالَ اِلْكِيَا : وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظ الصَّعِيد لَيْسَ نَصًّا فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ، إِلَّا أَنَّ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( جُعِلْت لِيَ الْأَرْض مَسْجِدًا وَتُرَابهَا طَهُورًا ) بَيَّنَ ذَلِكَ.
قُلْت : فَاسْتَدَلَّ أَصْحَاب هَذِهِ الْمَقَالَة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( وَجُعِلَتْ تَرِبَتْهَا لَنَا طَهُورًا ) وَقَالُوا : هَذَا مِنْ بَاب الْمُطْلَق وَالْمُقَيَّد وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَاب النَّصّ عَلَى بَعْض أَشْخَاص الْعُمُوم، كَمَا قَالَ تَعَالَى :" فِيهِمَا فَاكِهَة وَنَخْل وَرُمَّان " [ الرَّحْمَن : ٦٨ ] وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " الْبَقَرَة " عِنْد قَوْله " وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ " [ الْبَقَرَة : ٩٨ ].
وَقَدْ حَكَى أَهْل اللُّغَة أَنَّ الصَّعِيد اِسْم لِوَجْهِ الْأَرْض كَمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ نَصّ الْقُرْآن كَمَا بَيَّنَّا، وَلَيْسَ بَعْد بَيَان اللَّه بَيَان.
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجُنُبِ :( عَلَيْك بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيك ) وَسَيَأْتِي.
فَ " صَعِيدًا " عَلَى هَذَا ظَرْف مَكَان.
وَمَنْ جَعَلَهُ لِلتُّرَابِ فَهُوَ مَفْعُول بِهِ بِتَقْدِيرِ حَذْف الْبَاء أَيْ بِصَعِيدٍ.
و " طَيِّبًا " نَعْت لَهُ.
وَمَنْ جَعَلَ " طَيِّبًا " بِمَعْنَى حَلَالًا نَصَبَهُ عَلَى الْحَال أَوْ الْمَصْدَر.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ مَكَان الْإِجْمَاع مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ الرَّجُل عَلَى تُرَاب مُنْبِت طَاهِر غَيْر مَنْقُول وَلَا مَغْصُوب.
وَمَكَان الْإِجْمَاع فِي الْمَنْع أَنْ يَتَيَمَّم الرَّجُل عَلَى الذَّهَب الصِّرْف وَالْفِضَّة وَالْيَاقُوت وَالزُّمُرُّد وَالْأَطْعِمَة كَالْخُبْزِ وَاللَّحْم وَغَيْرهمَا، أَوْ عَلَى النَّجَاسَات.
وَاخْتُلِفَ فِي غَيْر هَذَا كَالْمَعَادِنِ ; فَأُجِيزَ وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَغَيْره.
وَمُنِعَ وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَغَيْره.
وَقَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : وَيَجُوز عِنْد مَالِك التَّيَمُّم عَلَى الْحَشِيش إِذَا كَانَ دُون الْأَرْض، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي التَّيَمُّم عَلَى الثَّلْج فَفِي الْمُدَوَّنَة وَالْمَبْسُوط جَوَازُهُ ; وَفِي غَيْرهمَا مَنْعه.
وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَب فِي التَّيَمُّم عَلَى الْعُود ; فَالْجُمْهُور عَلَى الْمَنْع.
وَفِي مُخْتَصَر الْوَقَار أَنَّهُ جَائِز.
وَقِيلَ : بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُون مُنْفَصِلًا أَوْ مُتَّصِلًا فَأُجِيزَ عَلَى الْمُتَّصِل وَمُنِعَ فِي الْمُنْفَصِل.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى شَجَرَة ثُمَّ مَسَحَ بِهَا أَجْزَأَهُ.
قَالَ : وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ : يَجُوز بِالْأَرْضِ وَكُلّ مَا عَلَيْهَا مِنْ الشَّجَر وَالْحَجَر وَالْمَدَر وَغَيْرهَا، حَتَّى قَالَا : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْجَمَد وَالثَّلْج أَجْزَأَهُ.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَأَمَّا التُّرَاب الْمَنْقُول مِنْ طِين أَوْ غَيْره فَجُمْهُور الْمَذْهَب عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم بِهِ، وَفِي الْمَذْهَب الْمَنْع وَهُوَ فِي غَيْر الْمَذْهَب أَكْثَر، وَأَمَّا مَا طُبِخَ كَالْجَصِّ وَالْآجُرّ فَفِيهِ فِي الْمَذْهَب قَوْلَانِ : الْإِجَازَة وَالْمَنْع ; وَفِي التَّيَمُّم عَلَى الْجِدَار خِلَاف.
قُلْت : وَالصَّحِيح الْجَوَاز لِحَدِيثِ أَبِي جُهَيْم بْن الْحَارِث بْن الصِّمَّة الْأَنْصَارِيّ قَالَ : أَقْبَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْو بِئْر جَمَل فَلَقِيَهُ رَجُل فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَار فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ.
وَهُوَ دَلِيل عَلَى صِحَّة التَّيَمُّم بِغَيْرِ التُّرَاب كَمَا يَقُول مَالِك وَمَنْ وَافَقَهُ.
وَيَرُدّ عَلَى الشَّافِعِيّ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي أَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ تُرَاب طَاهِر ذُو غُبَار يَعْلَق بِالْيَدِ.
وَذَكَرَ النَّقَّاش عَنْ اِبْن عُلَيَّة وَابْن كَيْسَان أَنَّهُمَا أَجَازَا التَّيَمُّم بِالْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَان.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خَطَأ بَحْت مِنْ جِهَات.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَجَمَاعَة الْعُلَمَاء عَلَى إِجَازَة التَّيَمُّم بِالسِّبَاخِ إِلَّا إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِيمَنْ أَدْرَكَهُ التَّيَمُّم وَهُوَ فِي طِين قَالَ : يَأْخُذ مِنْ الطِّين فَيَطْلِي بِهِ بَعْض جَسَده، فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد : يَجُوز التَّيَمُّم بِغُبَارِ اللِّبَد.
قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَة التَّيَمُّم بِالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخ وَالنُّورَة وَالْجَصّ وَالْجَوْهَر الْمَسْحُوق.
قَالَ : فَإِذَا تَيَمَّمَ بِسِحَالَةِ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالصُّفْر وَالنُّحَاس وَالرَّصَاص لَمْ يُجْزِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْس الْأَرْض.
طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
الْمَسْح لَفْظ مُشْتَرَك يَكُون بِمَعْنَى الْجِمَاع، يُقَال : مَسَحَ الرَّجُل الْمَرْأَة إِذَا جَامَعَهَا.
وَالْمَسْح : مَسْح الشَّيْء بِالسَّيْفِ وَقَطْعه.
وَمَسَحَتْ الْإِبِل يَوْمهَا إِذَا سَارَتْ.
وَالْمَسْحَاء الْمَرْأَة الرَّسْحَاء الَّتِي لَا اِسْت لَهَا.
وَبِفُلَانٍ مَسْحَة مِنْ جَمَال.
وَالْمُرَاد هُنَا بِالْمَسْحِ عِبَارَة عَنْ جَرّ الْيَد عَلَى الْمَمْسُوح خَاصَّة، فَإِنْ كَانَ بِآلَةٍ فَهُوَ عِبَارَة عَنْ نَقْل الْآلَة إِلَى الْيَد وَجَرِّهَا عَلَى الْمَمْسُوح، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى فِي آيَة الْمَائِدَة :" فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ " [ الْمَائِدَة : ٦ ].
فَقَوْله " مِنْهُ " يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ نَقْل التُّرَاب إِلَى مَحِلّ التَّيَمُّم.
وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَلَا نَشْتَرِطُهُ نَحْنُ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْض وَرَفَعَهُمَا نَفَخَ فِيهِمَا ; وَفِي رِوَايَة : نَفَضَ.
وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى عَدَم اِشْتِرَاط الْآلَة ; يُوَضِّحهُ تَيَمُّمه عَلَى الْجِدَار.
قَالَ الشَّافِعِيّ : لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدّ فِي مَسْح الرَّأْس بِالْمَاءِ مِنْ بَلَل يُنْقَل إِلَى الرَّأْس، فَكَذَلِكَ الْمَسْح بِالتُّرَابِ لَا بُدّ مِنْ النَّقْل.
وَلَا خِلَاف فِي أَنَّ حُكْم الْوَجْه فِي التَّيَمُّم وَالْوُضُوء الِاسْتِيعَاب وَتَتَبُّع مَوَاضِعه ; وَأَجَازَ بَعْضهمْ أَلَّا يُتَتَبَّع كَالْغُضُونِ فِي الْخُفَّيْنِ وَمَا بَيْنَ الْأَصَابِع فِي الرَّأْس، وَهُوَ فِي الْمَذْهَب قَوْل مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة ; حَكَاهُ اِبْن عَطِيَّة.
وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ " فَبَدَأَ بِالْوَجْهِ قَبْل الْيَدَيْنِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُور.
وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث عَمَّار فِي " بَاب التَّيَمُّم ضَرْبَة " ذَكَرَ الْيَدَيْنِ قَبْل الْوَجْه.
وَقَالَهُ بَعْض أَهْل الْعِلْم قِيَاسًا عَلَى تَنْكِيس الْوُضُوء.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْنَ يَبْلُغ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْيَدَيْنِ ; فَقَالَ اِبْن شِهَاب : إِلَى الْمَنَاكِب.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق.
وَفِي مُصَنَّف أَبِي دَاوُدَ عَنْ الْأَعْمَش أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ إِلَى أَنْصَاف ذِرَاعَيْهِ.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَلَمْ يَقُلْ أَحَد بِهَذَا الْحَدِيث فِيمَا حَفِظْت.
وَقِيلَ : يَبْلُغ بِهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوء.
وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابهمَا وَالثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي سَلَمَة وَاللَّيْث كُلّهمْ يَرَوْنَ بُلُوغ الْمِرْفَقَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَرْضًا وَاجِبًا.
وَبِهِ قَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم وَابْن نَافِع، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي.
قَالَ اِبْن نَافِع : مَنْ تَيَمَّمَ إِلَى الْكُوعَيْنِ أَعَادَ الصَّلَاة أَبَدًا وَقَالَ مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة : يُعِيد فِي الْوَقْت.
وَرَوَى التَّيَمُّم إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عُمَر وَبِهِ كَانَ يَقُول.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : سُئِلَ قَتَادَة عَنْ التَّيَمُّم فِي السَّفَر فَقَالَ : كَانَ اِبْن عُمَر يَقُول إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ.
وَكَانَ الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ يَقُولَانِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ.
قَالَ : وَحَدَّثَنِي مُحَدِّث عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبْزَى عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ).
قَالَ أَبُو إِسْحَاق : فَذَكَرْته لِأَحْمَد بْن حَنْبَل فَعَجِبَ مِنْهُ وَقَالَ مَا أَحْسَنَهُ !.
وَقَالَتْ طَائِفَة : يَبْلُغ بِهِ إِلَى الْكُوعَيْنِ وَهُمَا الرُّسْغَانِ.
رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَالْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَالشَّعْبِيّ فِي رِوَايَة، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَدَاوُد بْن عَلِيّ وَالطَّبَرِيّ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِك وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم.
وَقَالَ مَكْحُول : اِجْتَمَعْت أَنَا وَالزُّهْرِيّ فَتَذَاكَرْنَا التَّيَمُّم فَقَالَ الزُّهْرِيّ : الْمَسْح إِلَى الْآبَاط.
فَقُلْت : عَمَّنْ أَخَذْت هَذَا ؟ فَقَالَ : عَنْ كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول :" فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ " فَهِيَ يَد كُلّهَا.
قُلْت لَهُ : فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول :" وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا " [ الْمَائِدَة : ٣٨ ] فَمِنْ أَيْنَ تُقْطَع الْيَد ؟ قَالَ : فَخَصَمْته.
وَحُكِيَ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيّ أَنَّ الْكُوعَيْنِ فَرْض وَالْآبَاط فَضِيلَة.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : هَذَا قَوْل لَا يُعَضِّدهُ قِيَاس وَلَا دَلِيل، وَإِنَّمَا عَمَّمَ قَوْم لَفْظ الْيَد فَأَوْجَبُوهُ مِنْ الْمَنْكِب : وَقَاسَ قَوْم عَلَى الْوُضُوء فَأَوْجَبُوهُ مِنْ الْمَرَافِق وَهَهُنَا جُمْهُور الْأُمَّة، وَوَقَفَ قَوْم مَعَ الْحَدِيث فِي الْكُوعَيْنِ، وَقِيسَ أَيْضًا عَلَى الْقَطْع إِذْ هُوَ حُكْم شَرْعِيّ وَتَطْهِير كَمَا هَذَا تَطْهِير، وَوَقَفَ قَوْم مَعَ حَدِيث عَمَّار فِي الْكَفَّيْنِ.
وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيّ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْضًا هَلْ يَكْفِي فِي التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ مَالِك فِي الْمُدَوَّنَة أَنَّ التَّيَمُّم بِضَرْبَتَيْنِ : ضَرْبَة لِلْوَجْهِ وَضَرْبَة لِلْيَدَيْنِ ; وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ، وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَابْن أَبِي سَلَمَة.
وَرَوَاهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ اِبْن أَبِي الْجَهْم : التَّيَمُّم بِضَرْبَةٍ وَاحِدَة.
وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيّ فِي الْأَشْهَر عَنْهُ ; وَهُوَ قَوْل عَطَاء وَالشَّعْبِيّ فِي رِوَايَة.
وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَالطَّبَرِيّ.
وَهُوَ أَثْبَت مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيث عَمَّار.
قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : إِنْ تَيَمَّمَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَة أَجْزَأَهُ.
وَقَالَ اِبْن نَافِع : يُعِيد أَبَدًا.
قَالَ أَبُو عُمَر وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَن بْن حَيّ : ضَرْبَتَانِ ; يَمْسَح بِكُلِّ ضَرْبَة مِنْهُمَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ.
وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَد مِنْ أَهْل الْعِلْم غَيْرهمَا.
قَالَ أَبُو عُمَر : لَمَّا اِخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي كَيْفِيَّة التَّيَمُّم وَتَعَارَضَتْ كَانَ الْوَاجِب فِي ذَلِكَ الرُّجُوع إِلَى ظَاهِر الْكِتَاب، وَهُوَ يَدُلّ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَة لِلْوَجْهِ، وَلِلْيَدَيْنِ أُخْرَى إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوء وَاتِّبَاعًا لِفِعْلِ اِبْن عُمَر ; فَإِنَّهُ مَنْ لَا يُدْفَع عِلْمه بِكِتَابِ اللَّه.
وَلَوْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْء وَجَبَ الْوُقُوف عِنْده.
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا
أَيْ لَمْ يَزَلْ كَائِنًا يَقْبَل الْعَفْو وَهُوَ السَّهْل، وَيَغْفِر الذَّنْب أَيْ يَسْتُر عُقُوبَتَهُ فَلَا يُعَاقِب.