تفسير سورة سورة النساء من كتاب تفسير المنار
المعروف بـتفسير المنار
.
لمؤلفه
محمد رشيد رضا
.
المتوفي سنة 1354 هـ
ﰡ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: افْتَتَحَ - سُبْحَانَهُ - السُّورَةَ بِتَذْكِيرِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ هَذَا تَمْهِيدًا وَبَرَاعَةَ مَطْلَعٍ لِمَا فِي السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْقَرَابَةِ بِالنَّسَبِ، وَالْمُصَاهَرَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَنْكِحَةِ، وَالْمَوَارِيثِ، فَبَيَّنَ الْقَرَابَةَ الْعَامَّةَ بِالْإِجْمَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَرْحَامَ، وَشَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا.
وَسُمِّيَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِنَّ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ عَامٌّ لَيْسَ خَاصًّا بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ مَكَّةَ كَمَا فَعَلَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) لَاسِيَّمَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فِيهَا شَكٌّ، هَلْ هِيَ مَدَنِيَّةٌ أَمْ مَكِّيَّةٌ. وَلَفَظُ النَّاسِ اسْمٌ لِجِنْسِ الْبَشَرِ، قِيلَ: أَصْلُهُ " أُنَاسٌ " فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ عِنْدَ إِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ.
أَقُولُ: وَقَدْ عَزَا الرَّازِيُّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مَكَّةَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ -، وَقَالَ: وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَأَيَّدَهُ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: كَوْنِ اللَّامِ فِي النَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَكَوْنِ جَمِيعِهِمْ مَخْلُوقِينَ، وَمَأْمُورِينَ بِالتَّقْوَى. وَأَذْكُرُ أَنَّ أَقْدَمَ عِبَارَةٍ سَمِعْتُهَا فِي التَّفْسِيرِ فَوَعَيْتُهَا وَأَنَا صَغِيرٌ عَنْ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللهُ - هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ يُنَادِي أَهْلَ مَكَّةَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُنَادِ الْكُفَّارَ بِوَصْفِ الْكُفْرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [٦٦: ٧] وَهَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا يُنَادَوْنَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ كَلِمَةَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَثِيرَةٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَالْأَعْرَافِ، وَيُونُسَ، وَالْحَجِّ، وَالنَّمْلِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَوَرَدَتْ أَيْضًا فِي الْبَقَرَةِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْحُجُرَاتِ مِنَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ، فَخِطَابُ أَهْلِ مَكَّةَ فِيهَا هُوَ الْغَالِبُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعُمُّ غَيْرَهُمْ، وَوُرُودُهَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: افْتَتَحَ - سُبْحَانَهُ - السُّورَةَ بِتَذْكِيرِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ هَذَا تَمْهِيدًا وَبَرَاعَةَ مَطْلَعٍ لِمَا فِي السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْقَرَابَةِ بِالنَّسَبِ، وَالْمُصَاهَرَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَنْكِحَةِ، وَالْمَوَارِيثِ، فَبَيَّنَ الْقَرَابَةَ الْعَامَّةَ بِالْإِجْمَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَرْحَامَ، وَشَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا.
وَسُمِّيَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِنَّ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ عَامٌّ لَيْسَ خَاصًّا بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ مَكَّةَ كَمَا فَعَلَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) لَاسِيَّمَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فِيهَا شَكٌّ، هَلْ هِيَ مَدَنِيَّةٌ أَمْ مَكِّيَّةٌ. وَلَفَظُ النَّاسِ اسْمٌ لِجِنْسِ الْبَشَرِ، قِيلَ: أَصْلُهُ " أُنَاسٌ " فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ عِنْدَ إِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ.
أَقُولُ: وَقَدْ عَزَا الرَّازِيُّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مَكَّةَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ -، وَقَالَ: وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَأَيَّدَهُ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: كَوْنِ اللَّامِ فِي النَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَكَوْنِ جَمِيعِهِمْ مَخْلُوقِينَ، وَمَأْمُورِينَ بِالتَّقْوَى. وَأَذْكُرُ أَنَّ أَقْدَمَ عِبَارَةٍ سَمِعْتُهَا فِي التَّفْسِيرِ فَوَعَيْتُهَا وَأَنَا صَغِيرٌ عَنْ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللهُ - هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ يُنَادِي أَهْلَ مَكَّةَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُنَادِ الْكُفَّارَ بِوَصْفِ الْكُفْرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [٦٦: ٧] وَهَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا يُنَادَوْنَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ كَلِمَةَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَثِيرَةٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَالْأَعْرَافِ، وَيُونُسَ، وَالْحَجِّ، وَالنَّمْلِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَوَرَدَتْ أَيْضًا فِي الْبَقَرَةِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْحُجُرَاتِ مِنَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ، فَخِطَابُ أَهْلِ مَكَّةَ فِيهَا هُوَ الْغَالِبُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعُمُّ غَيْرَهُمْ، وَوُرُودُهَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ
264
يُرَادُ بِهِ خِطَابُ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ابْتِدَاءً، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي فَاتِحَةِ النِّسَاءِ: إِنَّهَا خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، بَلْ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ نَحْوًا مِمَّا رَوَيْنَاهُ آنِفًا عَنِ الْوَالِدِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ النَّاقِلُونَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْخِطَابِ حَتَّى غَلِطَ فِيهِ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَإِنْ حَقَّقَ فِي الْإِتْقَانِ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: اتَّقُوا رَبَّكُمْ قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ كَثِيرًا، وَآخِرُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِتَقْوَى رَبِّ النَّاسِ وَمُغَذِّيهِمْ بِنِعَمِهِ، وَبَيْنَ وَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ الْخَلْقَ أَثَرُ الْقُدْرَةِ، وَمَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَّقَى وَيُحْذَرَ عِصْيَانُهُ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ أَحْكَامِ الْيَتَامَى، وَنَحْوِهَا كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خَافُوا اللهَ، وَاتَّقُوا اعْتِدَاءَ مَا وَضَعَهُ لَكُمْ مِنْ حُدُودِ الْأَعْمَالِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ أَقْرِبَاءُ يَجْمَعُكُمْ نَسَبٌ وَاحِدٌ، وَتَرْجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَعْطِفُوا عَلَى الضَّعِيفِ كَالْيَتِيمِ الَّذِي فَقَدَ وَالِدَهُ، وَتُحَافِظُوا عَلَى حُقُوقِهِ.
أَقُولُ: وَفِي ذِكْرِ لَفْظِ الرَّبِّ هُنَا مَا هُوَ دَاعِيَةٌ لِهَذَا الِاسْتِعْطَافِ، أَيْ رَبُّوا الْيَتِيمَ وَصِلُوا الرَّحِمَ كَمَا رَبَّاكُمْ خَالِقُكُمْ بِنِعَمِهِ وَحَبَاكُمْ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمَ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالظَّاهِرِ، فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ نِدَاءٍ مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، أَوْ قُرَيْشٍ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا جَازَ أَنْ يَفْهَمَ مِنْهُ
بَنُو قُرَيْشٍ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ قُرَيْشٌ أَوْ عَدْنَانُ، وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ عَامَّةً جَازَ أَنْ يَفْهَمُوا مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ يَعْرُبُ أَوْ قَحْطَانُ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ أَهْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَيْ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَفْهَمُ مِنْهُ مَا تَعْتَقِدُهُ، فَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ يَفْهَمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمُ، وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْبَشَرِ أَبًا يَحْمِلُونَ النَّفْسَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ (وَالْأَصْنَافُ الْكُبْرَى هِيَ الْأَبْيَضُ الْقُوقَاسِيُّ، وَالْأَصْفَرُ الْمَغُولِيُّ، وَالْأَسْوَدُ الزِّنْجِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبَعْضُ فُرُوعِ هَذَا تَكَادُ تَكُونُ أُصُولًا كَالْأَحْمَرِ الْحَبَشِيِّ، وَالْهِنْدِيِّ الْأَمِرِيكِيِّ، وَالْمَلَقِيِّ).
قَالَ: وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمَ قَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً بِالتَّنْكِيرِ: وَكَانَ الْمُنَاسِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولَ: وَبَثَّ مِنْهُمَا جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَيْفَ يَنُصُّ عَلَى نَفْسٍ مَعْهُودَةٍ وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ.
وَهَذَا الْعَهْدُ لَيْسَ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْرِفُونَ آدَمَ وَلَا حَوَّاءَ وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِمَا. وَهَذَا النَّسَبُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ مَثَلًا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنِ الْعِبْرَانِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلْبَشَرِ تَارِيخًا مُتَّصِلًا بِآدَمَ، وَحَدَّدُوا لَهُ زَمَنًا قَرِيبًا. وَأَهْلُ الصِّينِ يَنْسِبُونَ الْبَشَرَ إِلَى أَبٍ آخَرَ، وَيَذْهَبُونَ بِتَارِيخِهِ إِلَى زَمَنٍ أَبْعَدَ مِنَ الزَّمَنِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعِبْرَانِيُّونَ. وَالْعِلْمُ وَالْبَحْثُ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ أَحْكَامِ الْيَتَامَى، وَنَحْوِهَا كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خَافُوا اللهَ، وَاتَّقُوا اعْتِدَاءَ مَا وَضَعَهُ لَكُمْ مِنْ حُدُودِ الْأَعْمَالِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ أَقْرِبَاءُ يَجْمَعُكُمْ نَسَبٌ وَاحِدٌ، وَتَرْجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَعْطِفُوا عَلَى الضَّعِيفِ كَالْيَتِيمِ الَّذِي فَقَدَ وَالِدَهُ، وَتُحَافِظُوا عَلَى حُقُوقِهِ.
أَقُولُ: وَفِي ذِكْرِ لَفْظِ الرَّبِّ هُنَا مَا هُوَ دَاعِيَةٌ لِهَذَا الِاسْتِعْطَافِ، أَيْ رَبُّوا الْيَتِيمَ وَصِلُوا الرَّحِمَ كَمَا رَبَّاكُمْ خَالِقُكُمْ بِنِعَمِهِ وَحَبَاكُمْ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمَ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالظَّاهِرِ، فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ نِدَاءٍ مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، أَوْ قُرَيْشٍ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا جَازَ أَنْ يَفْهَمَ مِنْهُ
بَنُو قُرَيْشٍ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ قُرَيْشٌ أَوْ عَدْنَانُ، وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ عَامَّةً جَازَ أَنْ يَفْهَمُوا مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ يَعْرُبُ أَوْ قَحْطَانُ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ أَهْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَيْ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَفْهَمُ مِنْهُ مَا تَعْتَقِدُهُ، فَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ يَفْهَمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمُ، وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْبَشَرِ أَبًا يَحْمِلُونَ النَّفْسَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ (وَالْأَصْنَافُ الْكُبْرَى هِيَ الْأَبْيَضُ الْقُوقَاسِيُّ، وَالْأَصْفَرُ الْمَغُولِيُّ، وَالْأَسْوَدُ الزِّنْجِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبَعْضُ فُرُوعِ هَذَا تَكَادُ تَكُونُ أُصُولًا كَالْأَحْمَرِ الْحَبَشِيِّ، وَالْهِنْدِيِّ الْأَمِرِيكِيِّ، وَالْمَلَقِيِّ).
قَالَ: وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمَ قَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً بِالتَّنْكِيرِ: وَكَانَ الْمُنَاسِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولَ: وَبَثَّ مِنْهُمَا جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَيْفَ يَنُصُّ عَلَى نَفْسٍ مَعْهُودَةٍ وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ.
وَهَذَا الْعَهْدُ لَيْسَ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْرِفُونَ آدَمَ وَلَا حَوَّاءَ وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِمَا. وَهَذَا النَّسَبُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ مَثَلًا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنِ الْعِبْرَانِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلْبَشَرِ تَارِيخًا مُتَّصِلًا بِآدَمَ، وَحَدَّدُوا لَهُ زَمَنًا قَرِيبًا. وَأَهْلُ الصِّينِ يَنْسِبُونَ الْبَشَرَ إِلَى أَبٍ آخَرَ، وَيَذْهَبُونَ بِتَارِيخِهِ إِلَى زَمَنٍ أَبْعَدَ مِنَ الزَّمَنِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعِبْرَانِيُّونَ. وَالْعِلْمُ وَالْبَحْثُ
265
فِي آثَارِ الْبَشَرِ مِمَّا يَطْعَنُ فِي تَارِيخِ الْعِبْرَانِيِّينَ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نُكَلَّفُ تَصْدِيقَ تَارِيخِ الْيَهُودِ، وَإِنْ عَزَوْهُ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ لَا ثِقَةَ عِنْدِنَا بِأَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُ بَقِيَ كَمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى.
قَالَ: نَحْنُ لَا نَحْتَجُّ عَلَى مَا وَرَاءَ مُدْرَكَاتِ الْحِسِّ، وَالْعَقْلِ إِلَّا بِالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّنَا نَقِفُ عِنْدَ هَذَا الْوَحْيِ لَا نَزِيدُ، وَلَا نَنْقُصُ كَمَا قُلْنَا مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَقَدْ أَبْهَمَ اللهُ - تَعَالَى - هَهُنَا أَمْرَ النَّفْسِ الَّتِي خُلِقَ النَّاسُ مِنْهَا، وَجَاءَ بِهَا نَكِرَةً فَنَدَعُهَا عَلَى إِبْهَامِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ مَا يَقُولُهُ الْبَاحِثُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ أَبًا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَارِدٍ عَلَى كِتَابِنَا كَمَا يَرِدُ عَلَى كِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا حَمَلَ بَاحِثِيهِمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - وَوَحْيِهِ.
وَمَا وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ [٧: ٢٦] لَا يُنَافِي هَذَا، وَلَا يُعَدُّ نَصًّا قَاطِعًا فِي كَوْنِ جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ أَبْنَائِهِ، إِذْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ
مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ آدَمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَهُ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَفْسَدُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ.
وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ: إِذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَرُّوا النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هُنَا بِآدَمَ فَهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ وَلَا مِنْ ظَاهِرِهَا بَلْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [٧: ١٨٩] الْآيَةَ. فَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا ثَلَاثَةَ تَأْوِيلَاتٍ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ عَنِ الْقَفَّالِ، وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ. وَالْمُرَادُ: خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ إلخ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ قُصَيٌّ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ آدَمُ. وَأَجَابَ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِهِ هُوَ وَزَوْجُهُ بِالشِّرْكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَوْجِيهُ كَوْنِ قِصَّةِ آدَمَ نَفْسِهَا مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ الَّذِي حَمَلَ الْقَفَّالُ عَلَيْهِ آيَةَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِيَّةِ، وَالصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ آدَمَ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَنَا آدَمُونَ كَثِيرُونَ، قَالَ فِي رُوحِ الْمَعَانِي: وَذَكَرَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأَخْبَارِ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ خَبَرًا طَوِيلًا نَقَلَ فِيهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ قَبْلَ أَبِينَا آدَمَ ثَلَاثِينَ آدَمَ بَيْنَ كُلِّ آدَمَ، وَآدَمَ أَلْفُ سَنَةٍ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بَقِيَتْ خَرَابًا بَعْدَهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ عُمِّرَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ خُلِقَ أَبُونَا آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَرَوَى ابْنُ بَابَوَيْهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنِ الصَّادِقِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكَ تَرَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ بَشَرًا غَيْرَكُمْ، بَلَى، وَاللهِ لَقَدْ خَلَقَ أَلْفَ أَلْفَ
قَالَ: نَحْنُ لَا نَحْتَجُّ عَلَى مَا وَرَاءَ مُدْرَكَاتِ الْحِسِّ، وَالْعَقْلِ إِلَّا بِالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّنَا نَقِفُ عِنْدَ هَذَا الْوَحْيِ لَا نَزِيدُ، وَلَا نَنْقُصُ كَمَا قُلْنَا مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَقَدْ أَبْهَمَ اللهُ - تَعَالَى - هَهُنَا أَمْرَ النَّفْسِ الَّتِي خُلِقَ النَّاسُ مِنْهَا، وَجَاءَ بِهَا نَكِرَةً فَنَدَعُهَا عَلَى إِبْهَامِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ مَا يَقُولُهُ الْبَاحِثُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ أَبًا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَارِدٍ عَلَى كِتَابِنَا كَمَا يَرِدُ عَلَى كِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا حَمَلَ بَاحِثِيهِمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - وَوَحْيِهِ.
وَمَا وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ [٧: ٢٦] لَا يُنَافِي هَذَا، وَلَا يُعَدُّ نَصًّا قَاطِعًا فِي كَوْنِ جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ أَبْنَائِهِ، إِذْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ
مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ آدَمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَهُ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَفْسَدُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ.
وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ: إِذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَرُّوا النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هُنَا بِآدَمَ فَهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ وَلَا مِنْ ظَاهِرِهَا بَلْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [٧: ١٨٩] الْآيَةَ. فَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا ثَلَاثَةَ تَأْوِيلَاتٍ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ عَنِ الْقَفَّالِ، وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ. وَالْمُرَادُ: خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ إلخ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ قُصَيٌّ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ آدَمُ. وَأَجَابَ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِهِ هُوَ وَزَوْجُهُ بِالشِّرْكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَوْجِيهُ كَوْنِ قِصَّةِ آدَمَ نَفْسِهَا مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ الَّذِي حَمَلَ الْقَفَّالُ عَلَيْهِ آيَةَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِيَّةِ، وَالصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ آدَمَ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَنَا آدَمُونَ كَثِيرُونَ، قَالَ فِي رُوحِ الْمَعَانِي: وَذَكَرَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأَخْبَارِ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ خَبَرًا طَوِيلًا نَقَلَ فِيهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ قَبْلَ أَبِينَا آدَمَ ثَلَاثِينَ آدَمَ بَيْنَ كُلِّ آدَمَ، وَآدَمَ أَلْفُ سَنَةٍ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بَقِيَتْ خَرَابًا بَعْدَهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ عُمِّرَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ خُلِقَ أَبُونَا آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَرَوَى ابْنُ بَابَوَيْهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنِ الصَّادِقِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكَ تَرَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ بَشَرًا غَيْرَكُمْ، بَلَى، وَاللهِ لَقَدْ خَلَقَ أَلْفَ أَلْفَ
266
آدَمَ أَنْتُمْ فِي آخِرِ أُولَئِكَ الْآدَمِيِّينَ، وَقَالَ الْمِيثَمُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ لِلنَّهْجِ: وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ أَنَّهُ قَالَ: قَدِ انْقَضَى قَبْلَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَبُونَا أَلْفُ أَلْفِ آدَمَ، أَوْ أَكْثَرُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْأَكْبَرُ - قُدِّسَ سِرُّهُ - فِي فُتُوحَاتِهِ مَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّ قَبْلَ آدَمَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ آدَمَ غَيْرَهُ. وَفِي كِتَابِ الْخَصَائِصِ (لِابْنِ بَابَوَيْهِ كَمَا فِي الْهَامِشِ) مَا يَكَادُ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعَدُّدُ أَيْضًا الْآنَ، حَيْثُ رَوَى فِيهِ عَنِ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ عَالَمٍ، كُلُّ عَالَمٍ مِنْهُمْ أَكْبَرُ مِنْ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعِ
أَرَضِينَ، مَا يَرَى عَالَمٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَالَمًا غَيْرَهُمْ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُقُولٌ أُخْرَى فِي الْفُتُوحَاتِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ الْقَوْلُ بِكُفْرِ مَنْ يَقُولُ بِتَعَدُّدِ آدَمَ. وَهَذَا مِنْ جُرْأَتِهِ، وَجُرْأَةِ أَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَهَجَّمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَوْهَى الشُّبُهَاتِ.
لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ آدَمَ، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْأَبَ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ أَمْ لَا، لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُعَارَضَةِ الْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالتَّارِيخِيَّةِ لَهُ وَمِنْ تَنْكِيرِ مَا بَثَّهُ مِنْهَا، وَمِنْ زَوْجِهَا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْأَخِيرِ بِأَنَّ التَّنْكِيرَ لِمَنْ وُلِدَ مِنْهُمَا مُبَاشَرَةً كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَثَّ مِنْهُمَا كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَبَثَّ مِنْ هَؤُلَاءِ سَائِرَ النَّاسِ، وَعَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ غَيْرَ قَطْعِيٍّ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ أُصُولِيٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرِ هُنَا هَذَا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ، الْبَادِي الْبَشَرَةِ، الْمُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِنْسَانِ، وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ لَا يُرَدُّ عَلَى الْقُرْآنِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ، وَمَنِ اقْتَنَعَ بِقَوْلِهِمْ مِنْ أَنَّ لِلْبَشَرِ عِدَّةَ آبَاءٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ سَلَائِلُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَرُدُّ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تَرِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ آدَمَ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ كُلِّهِمْ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَنْفِي هَذَا الِاعْتِقَادَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ إِثْبَاتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَقَدْ صَرَّحْنَا بِهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ فَهِمَ مِنْ دَرْسِهِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يُنَافِي هَذَا الِاعْتِقَادَ، أَيِ اعْتِقَادَ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ هَذَا تَصْرِيحًا، وَلَا تَلْوِيحًا، وَإِنَّمَا بَيَّنَ أَنَّ ثُبُوتَ مَا يَقُولُهُ الْبَاحِثُونَ فِي الْعُلُومِ، وَآثَارِ الْبَشَرِ، وَعَادِيَّاتِهِمْ وَالْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَنَّ لِلْبَشَرِ عِدَّةَ أُصُولٍ، وَمِنْ كَوْنِ آدَمَ لَيْسَ أَبًا لَهُمْ كُلِّهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ، وَلَا يُنَاقِضُهُ، وَيُمْكِنُ لِمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا بِالْقُرْآنِ بَلْ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا خَلَا مِنْ نَصٍّ قَاطِعٍ يُؤَيِّدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ الشَّائِعَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ - وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ - جَاءَ فِي ذَلِكَ بِمَا لَمْ تَسْتَطِعِ الْيَهُودُ أَنْ تُعَارِضَهُ مِنْ قَبْلُ بِدَعْوَى مُخَالَفَتِهِ
أَرَضِينَ، مَا يَرَى عَالَمٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَالَمًا غَيْرَهُمْ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُقُولٌ أُخْرَى فِي الْفُتُوحَاتِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ الْقَوْلُ بِكُفْرِ مَنْ يَقُولُ بِتَعَدُّدِ آدَمَ. وَهَذَا مِنْ جُرْأَتِهِ، وَجُرْأَةِ أَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَهَجَّمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَوْهَى الشُّبُهَاتِ.
لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ آدَمَ، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْأَبَ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ أَمْ لَا، لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُعَارَضَةِ الْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالتَّارِيخِيَّةِ لَهُ وَمِنْ تَنْكِيرِ مَا بَثَّهُ مِنْهَا، وَمِنْ زَوْجِهَا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْأَخِيرِ بِأَنَّ التَّنْكِيرَ لِمَنْ وُلِدَ مِنْهُمَا مُبَاشَرَةً كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَثَّ مِنْهُمَا كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَبَثَّ مِنْ هَؤُلَاءِ سَائِرَ النَّاسِ، وَعَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ غَيْرَ قَطْعِيٍّ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ أُصُولِيٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرِ هُنَا هَذَا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ، الْبَادِي الْبَشَرَةِ، الْمُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِنْسَانِ، وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ لَا يُرَدُّ عَلَى الْقُرْآنِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ، وَمَنِ اقْتَنَعَ بِقَوْلِهِمْ مِنْ أَنَّ لِلْبَشَرِ عِدَّةَ آبَاءٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ سَلَائِلُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَرُدُّ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تَرِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ آدَمَ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ كُلِّهِمْ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَنْفِي هَذَا الِاعْتِقَادَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ إِثْبَاتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَقَدْ صَرَّحْنَا بِهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ فَهِمَ مِنْ دَرْسِهِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يُنَافِي هَذَا الِاعْتِقَادَ، أَيِ اعْتِقَادَ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ هَذَا تَصْرِيحًا، وَلَا تَلْوِيحًا، وَإِنَّمَا بَيَّنَ أَنَّ ثُبُوتَ مَا يَقُولُهُ الْبَاحِثُونَ فِي الْعُلُومِ، وَآثَارِ الْبَشَرِ، وَعَادِيَّاتِهِمْ وَالْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَنَّ لِلْبَشَرِ عِدَّةَ أُصُولٍ، وَمِنْ كَوْنِ آدَمَ لَيْسَ أَبًا لَهُمْ كُلِّهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ، وَلَا يُنَاقِضُهُ، وَيُمْكِنُ لِمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا بِالْقُرْآنِ بَلْ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا خَلَا مِنْ نَصٍّ قَاطِعٍ يُؤَيِّدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ الشَّائِعَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ - وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ - جَاءَ فِي ذَلِكَ بِمَا لَمْ تَسْتَطِعِ الْيَهُودُ أَنْ تُعَارِضَهُ مِنْ قَبْلُ بِدَعْوَى مُخَالَفَتِهِ
267
لِكُتُبِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْبَاحِثُونَ أَنْ يُعَارِضُوهُ مِنْ بَعْدُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ. وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يَقُولُ الَّذِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِيمَنْ يُوقِنُ بِدَلَائِلَ قَامَتْ عِنْدَهُ بِأَنَّ الْبَشَرَ مِنْ عِدَّةِ أُصُولٍ؟ هَلْ يَقُولُونَ
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَرْكُ يَقِينِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيمَانُهُ، وَلَا يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ، وَإِنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، وَأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ يُعَارِضُ يَقِينَهُ! ؟
هَذَا وَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ لَفْظِ النَّفْسِ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمُسَلَّمَاتِ - أَنَّهَا هِيَ الْمَاهِيَّةُ، أَوِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي كَانَ بِهَا الْإِنْسَانُ هُوَ هَذَا الْكَائِنُ الْمُمْتَازُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، أَيْ خَلَقَكُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ بُدِئَتْ بِآدَمَ - كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ - أَوْ بُدِئَتْ بِغَيْرِهِ وَانْقَرَضُوا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ وَالصُّوفِيَّةِ، أَوْ بُدِئَتْ بِعِدَّةِ أُصُولٍ انْبَثَّ مِنْهَا عِدَّةُ أَصْنَافٍ كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ، وَلَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُصُولُ أَوِ الْأَصْلُ مِمَّا ارْتَقَى عَنْ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ خُلِقَ مُسْتَقِلًّا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [٢٣: ١٢] الْآيَاتِ، وَسَنُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِهَا، أَوْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ مَا يُفِيدُهُ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ كَيْفِيَّةِ تَكْوِينِهِ.
عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكُلُّ قَوْلٍ يَصِحُّ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ هُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ هِيَ الْإِنْسَانِيَّةُ الَّتِي كَانُوا بِهَا نَاسًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَّفِقُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى خَيْرِ النَّاسِ، وَبِرِّهِمْ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ عَلَى كَوْنِهَا هِيَ الْحَقِيقَةُ الْجَامِعَةُ لَهُمْ، فَتَرَاهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِنْسَانِ يَقُولُونَ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَصْنَافِ: إِنَّهُمْ إِخْوَتُنَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَيَعُدُّونَ الْإِنْسَانِيَّةَ مَنَاطَ الْوَحْدَةِ، وَدَاعِيَةَ الْأُلْفَةِ وَالتَّعَاطُفِ بَيْنَ الْبَشَرِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَاهُمْ آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوِ الْقِرْدُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَذْكِيرِ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْكَلَامِ فِي حُقُوقِ الْأَيْتَامِ، وَالْأَرْحَامِ ; وَلَيْسَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا لِبَيَانِ مَسَائِلِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ بِالتَّفْصِيلِ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَنْحَلُّ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْإِشْكَالِ اللَّفْظِيِّ بِأَوْضَحَ مِمَّا حَلُّوهُ بِهِ.
أَمَّا حَقِيقَةُ النَّفْسِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا الْإِنْسَانُ وَتَتَحَقَّقُ وَحْدَةُ جِنْسِهِ عَلَى كَثْرَةِ أَصْنَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا اخْتَلَفَ فِيهَا مَنْ قَبْلَهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
هِيَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهَا بِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ الْحَيَاةُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ هِيَ جَوْهَرٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَادِّيٌّ، وَبَعْضُهُمْ إِنَّهُ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمَادَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْبَدَنِ، وَقِيلَ:
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَرْكُ يَقِينِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيمَانُهُ، وَلَا يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ، وَإِنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، وَأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ يُعَارِضُ يَقِينَهُ! ؟
هَذَا وَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ لَفْظِ النَّفْسِ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمُسَلَّمَاتِ - أَنَّهَا هِيَ الْمَاهِيَّةُ، أَوِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي كَانَ بِهَا الْإِنْسَانُ هُوَ هَذَا الْكَائِنُ الْمُمْتَازُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، أَيْ خَلَقَكُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ بُدِئَتْ بِآدَمَ - كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ - أَوْ بُدِئَتْ بِغَيْرِهِ وَانْقَرَضُوا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ وَالصُّوفِيَّةِ، أَوْ بُدِئَتْ بِعِدَّةِ أُصُولٍ انْبَثَّ مِنْهَا عِدَّةُ أَصْنَافٍ كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ، وَلَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُصُولُ أَوِ الْأَصْلُ مِمَّا ارْتَقَى عَنْ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ خُلِقَ مُسْتَقِلًّا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [٢٣: ١٢] الْآيَاتِ، وَسَنُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِهَا، أَوْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ مَا يُفِيدُهُ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ كَيْفِيَّةِ تَكْوِينِهِ.
عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكُلُّ قَوْلٍ يَصِحُّ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ هُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ هِيَ الْإِنْسَانِيَّةُ الَّتِي كَانُوا بِهَا نَاسًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَّفِقُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى خَيْرِ النَّاسِ، وَبِرِّهِمْ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ عَلَى كَوْنِهَا هِيَ الْحَقِيقَةُ الْجَامِعَةُ لَهُمْ، فَتَرَاهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِنْسَانِ يَقُولُونَ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَصْنَافِ: إِنَّهُمْ إِخْوَتُنَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَيَعُدُّونَ الْإِنْسَانِيَّةَ مَنَاطَ الْوَحْدَةِ، وَدَاعِيَةَ الْأُلْفَةِ وَالتَّعَاطُفِ بَيْنَ الْبَشَرِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَاهُمْ آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوِ الْقِرْدُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَذْكِيرِ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْكَلَامِ فِي حُقُوقِ الْأَيْتَامِ، وَالْأَرْحَامِ ; وَلَيْسَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا لِبَيَانِ مَسَائِلِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ بِالتَّفْصِيلِ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَنْحَلُّ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْإِشْكَالِ اللَّفْظِيِّ بِأَوْضَحَ مِمَّا حَلُّوهُ بِهِ.
أَمَّا حَقِيقَةُ النَّفْسِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا الْإِنْسَانُ وَتَتَحَقَّقُ وَحْدَةُ جِنْسِهِ عَلَى كَثْرَةِ أَصْنَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا اخْتَلَفَ فِيهَا مَنْ قَبْلَهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
هِيَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهَا بِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ الْحَيَاةُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ هِيَ جَوْهَرٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَادِّيٌّ، وَبَعْضُهُمْ إِنَّهُ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمَادَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْبَدَنِ، وَقِيلَ:
268
جِسْمٌ مُودَعٌ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ فَقِيلَ: هِيَ النَّفْسُ، وَقِيلَ غَيْرُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْوَقْفِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْكَلَامِ فِي حَقِيقَةِ الرُّوحِ، كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ نُقِلَتْ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَالْفَلْسَفَةِ، وَالتَّصَوُّفِ، وَلَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا بِمَذْهَبِهِ فِيهَا، وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْجِسْمِ هُوَ الْحَيَاةُ مَنْقُولٌ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَتْبَاعِهِ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْأَشَاعِرَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الرُّوحَ صُورَةٌ كَالْجَسَدِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَعْرِيفِ الرُّوحِ، وَشَرْحِ حَقِيقَتِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّهُ جِسْمٌ مُخَالِفٌ بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَحْسُوسِ، وَهُوَ جِسْمٌ نُورَانِيٌّ عُلْوِيٌّ خَفِيفٌ حَيٌّ مُتَحَرِّكٌ، يَنْفُذُ فِي جَوْهَرِ الْأَعْضَاءِ، وَيَسْرِي فِيهَا سَرَيَانَ الْمَاءِ فِي الْوَرْدِ، وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي الزَّيْتُونِ، وَالنَّارِ فِي الْفَحْمِ، فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ صَالِحَةً لِقَبُولِ الْآثَارِ الْفَائِضَةِ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْجِسْمِ اللَّطِيفِ مُشَابِكًا لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَفَادَهَا هَذِهِ الْآثَارَ الْفَائِضَةَ عَلَيْهَا مِنَ الْحِسِّ، وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْأَجْزَاءِ الْغَلِيظَةِ عَلَيْهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْآثَارِ فَارَقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ، وَانْفَصَلَ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ. اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ أَقْوَى النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الرُّوحِ، أَوِ النَّفْسِ - وَهُمَا يُطْلَقَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ - هِيَ أَنَّ الْعَقْلَ، وَالْحِفْظَ، وَالذُّكْرَ (بِالضَّمِّ) أَيِ الذَّاكِرَةَ، لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْجَسَدِ، أَوْ أَجْزَاءِ مَاهِيَّتِهِ، وَهِيَ أُمُورٌ ثَابِتَةٌ قَطْعًا، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَنْشَأٍ وُجُودِيٍّ غَيْرِ هَذَا الْجَسَدِ الْكَثِيفِ، حَتَّى إِنَّ الدِّمَاغَ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُهَا تَنْحَلُّ دَقَائِقُهُ حَتَّى يَنْدَثِرَ، وَيَزُولَ، ثُمَّ يَتَجَدَّدَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَتَبْقَى الْمُدْرَكَاتُ مَحْفُوظَةً فِي النَّفْسِ تَفِيضُهَا عَلَى الدِّمَاغِ الْجَدِيدِ بَعْدَ زَوَالِ مَا قَبْلَهُ فَيَتَذَكَّرُهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ عَبَّرَ الْأَقْدَمُونَ عَنْ مَنْشَئِهَا الْوُجُودِيِّ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَطِيفًا خَفِيًّا لِلَطَافَتِهِ بِالنَّفْسِ (بِسُكُونِ الْفَاءِ)، وَبِالرُّوحِ (بِضَمِّ الرَّاءِ) وَهُمَا قَرِيبَا الْمَعْنَى يَدُلَّانِ عَلَى أَلْطَفِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ كُلِّ النَّاسِ، فَالرُّوحُ (بِالضَّمِّ)، وَالرَّوْحُ (بِالْفَتْحِ) الَّذِي هُوَ التَّنَفُّسُ وَاحِدٌ فِي الْأَصْلِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ مَادَّةِ الرِّيحِ، فَإِنَّ
يَاءَ الرِّيحِ وَاوٌ قُلِبَتْ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، فَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ الَّذِي هُوَ مَنْشَأُ الْإِدْرَاكِ وَالْحَيَاةِ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِ أَلْطَفِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُدْرَكَةِ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْوَاضِعُونَ لِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي هِيَ أَلْطَفُ مِنَ الرِّيحِ، وَالنَّفْسِ كَالْأَيْدُرُوجِينِ وَالْكَهْرَبَاءِ لَأَطْلَقُوا لَفْظَهُمَا أَوْ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنْهُمَا عَلَى مَنْشَأِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ، وَسَبَبِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِقِي الْمَرْكَبَاتِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ (التِّرَامِ)، وَغَيْرَهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنِ التَّيَّارِ الْكَهْرَبَائِيِّ الَّذِي تَسِيرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْكَبَاتُ بِالنَّفَسِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ) فَالتَّسْمِيَةُ لَا تُعَيِّنُ حَقِيقَةَ الْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاضِعِينَ تَخَيَّلُوا مَنْشَأَ الْحَيَاةِ شَيْئًا فِي مُنْتَهَى اللَّطَافَةِ، وَالْخَفَاءِ مَعَ قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَعْرِيفِ الرُّوحِ، وَشَرْحِ حَقِيقَتِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّهُ جِسْمٌ مُخَالِفٌ بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَحْسُوسِ، وَهُوَ جِسْمٌ نُورَانِيٌّ عُلْوِيٌّ خَفِيفٌ حَيٌّ مُتَحَرِّكٌ، يَنْفُذُ فِي جَوْهَرِ الْأَعْضَاءِ، وَيَسْرِي فِيهَا سَرَيَانَ الْمَاءِ فِي الْوَرْدِ، وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي الزَّيْتُونِ، وَالنَّارِ فِي الْفَحْمِ، فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ صَالِحَةً لِقَبُولِ الْآثَارِ الْفَائِضَةِ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْجِسْمِ اللَّطِيفِ مُشَابِكًا لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَفَادَهَا هَذِهِ الْآثَارَ الْفَائِضَةَ عَلَيْهَا مِنَ الْحِسِّ، وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْأَجْزَاءِ الْغَلِيظَةِ عَلَيْهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْآثَارِ فَارَقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ، وَانْفَصَلَ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ. اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ أَقْوَى النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الرُّوحِ، أَوِ النَّفْسِ - وَهُمَا يُطْلَقَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ - هِيَ أَنَّ الْعَقْلَ، وَالْحِفْظَ، وَالذُّكْرَ (بِالضَّمِّ) أَيِ الذَّاكِرَةَ، لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْجَسَدِ، أَوْ أَجْزَاءِ مَاهِيَّتِهِ، وَهِيَ أُمُورٌ ثَابِتَةٌ قَطْعًا، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَنْشَأٍ وُجُودِيٍّ غَيْرِ هَذَا الْجَسَدِ الْكَثِيفِ، حَتَّى إِنَّ الدِّمَاغَ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُهَا تَنْحَلُّ دَقَائِقُهُ حَتَّى يَنْدَثِرَ، وَيَزُولَ، ثُمَّ يَتَجَدَّدَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَتَبْقَى الْمُدْرَكَاتُ مَحْفُوظَةً فِي النَّفْسِ تَفِيضُهَا عَلَى الدِّمَاغِ الْجَدِيدِ بَعْدَ زَوَالِ مَا قَبْلَهُ فَيَتَذَكَّرُهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ عَبَّرَ الْأَقْدَمُونَ عَنْ مَنْشَئِهَا الْوُجُودِيِّ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَطِيفًا خَفِيًّا لِلَطَافَتِهِ بِالنَّفْسِ (بِسُكُونِ الْفَاءِ)، وَبِالرُّوحِ (بِضَمِّ الرَّاءِ) وَهُمَا قَرِيبَا الْمَعْنَى يَدُلَّانِ عَلَى أَلْطَفِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ كُلِّ النَّاسِ، فَالرُّوحُ (بِالضَّمِّ)، وَالرَّوْحُ (بِالْفَتْحِ) الَّذِي هُوَ التَّنَفُّسُ وَاحِدٌ فِي الْأَصْلِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ مَادَّةِ الرِّيحِ، فَإِنَّ
يَاءَ الرِّيحِ وَاوٌ قُلِبَتْ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، فَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ الَّذِي هُوَ مَنْشَأُ الْإِدْرَاكِ وَالْحَيَاةِ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِ أَلْطَفِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُدْرَكَةِ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْوَاضِعُونَ لِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي هِيَ أَلْطَفُ مِنَ الرِّيحِ، وَالنَّفْسِ كَالْأَيْدُرُوجِينِ وَالْكَهْرَبَاءِ لَأَطْلَقُوا لَفْظَهُمَا أَوْ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنْهُمَا عَلَى مَنْشَأِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ، وَسَبَبِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِقِي الْمَرْكَبَاتِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ (التِّرَامِ)، وَغَيْرَهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنِ التَّيَّارِ الْكَهْرَبَائِيِّ الَّذِي تَسِيرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْكَبَاتُ بِالنَّفَسِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ) فَالتَّسْمِيَةُ لَا تُعَيِّنُ حَقِيقَةَ الْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاضِعِينَ تَخَيَّلُوا مَنْشَأَ الْحَيَاةِ شَيْئًا فِي مُنْتَهَى اللَّطَافَةِ، وَالْخَفَاءِ مَعَ قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ
269
وَعِظَمِ آثَارِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَلَاسِفَةُ هُمُ الَّذِينَ بَحَثُوا كَعَادَتِهِمْ عَنْ حَقِيقَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا يَزَالُونَ يَبْحَثُونَ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [١٧: ٨٥] أَيْ إِنَّ قِلَّةَ مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ لَا يُمَكِّنُكُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ، وَأَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنَ الْعِلْمِ أَكْثَرَ مِمَّا أُوتِيَ أُولَئِكَ السَّائِلُونَ جَازَ أَنْ يَعْرِفُوهَا، لَمْ أَرَ مُوَضِّحًا، أَوْ مُقَرِّبًا لِمَعْنَى الرُّوحِ وَالنَّفْسِ فِي الْإِنْسَانِ كَالتَّمْثِيلِ بِالْكَهْرَبَائِيَّةِ، فَالْمَادِّيُّ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ لَا رُوحَ إِلَّا هَذَا الْعَرَضُ الَّذِي يُسَمَّى الْحَيَاةَ، يُشَبِّهُ الْجَسَدَ بِالْبَطَّارِيَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَيَقُولُ: إِنَّهَا بِوَضْعِهَا الْخَاصِّ وَبِمَا يُودَعُ فِيهَا مِنَ الْمَوَادِّ تَتَوَلَّدُ فِيهَا الْكَهْرَبَائِيَّةُ، فَإِذَا زَالَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فُقِدَتْ، وَكَذَلِكَ تَتَوَلَّدُ الْحَيَاةُ فِي الْبَدَنِ بِتَرْكِيبِ مِزَاجِهِ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ وَبِزَوَالِهَا تَزُولُ. وَيَقُولُ الْمُعْتَقِدُ اسْتِقْلَالَ الْأَرْوَاحِ: إِنَّ الْجَسَدَ يُشْبِهُ الْمَرْكَبَةَ الْكَهْرَبَائِيَّةَ، وَشِبْهَهَا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تُدَارُ بِالْكَهْرَبَاءِ، تُوَجَّهُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَعْمَلِ الْمُوَلِّدِ لَهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْآلَةُ عَلَى وَضْعٍ خَاصٍّ فِي أَجْزَائِهَا، وَأَدَوَاتِهَا كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِقَبُولِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَيْهَا، وَأَدَاءِ وَظِيفَتِهَا فِيهَا، وَإِنْ فُقِدَ مِنْهَا بَعْضُ الْأَدَوَاتِ الرَّئِيسِيَّةِ، أَوِ اخْتَلَّ وَضْعُهَا الْخَاصُّ، فَارَقَتْهَا الْكَهْرَبَائِيَّةُ، وَلَمْ تَعُدْ تَعْمَلُ بِهَا.
عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْكَهْرَبَاءَ قُوَّةٌ تَعْرِضُ لِلْمَادَّةِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي ذَاتِهَا، فَصَارُوا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ يُرَجِّحُونَ أَنَّهَا هِيَ أَصْلُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا أَيْ إِنَّهَا مَوْجُودَةٌ
بِذَاتِهَا، وَكُلُّ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى مَوْجُودَةٌ بِهَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الرُّوحِيِّينَ: إِنَّ الرُّوحَ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ الثَّابِتَةُ، وَإِنَّ قِوَامَ الْجَسَدِ بِهَا، فَهِيَ الْحَافِظَةُ لِوُجُودِهِ وَالْمُنَظِّمَةُ لِشُئُونِهِ الْحَيَوِيَّةِ، فَإِذَا فَارَقَتْهُ انْحَلَّ وَعَادَ إِلَى بَسَائِطِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ، وَالظَّوَاهِرِ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ الْجَدِيدُ فِي الْكَهْرَبَائِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ أَهْلِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَرُبَّمَا كَانَ سُلَّمًا مُوَصِّلًا إِلَيْهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْمَبْحَثِ فَنَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ، وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ لِهَذَا الْعَهْدِ فِي مَوْضِعٍ أَلْيَقَ بِهِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا فَمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَظْهَرُ بِطَرِيقِ الِاسْتِخْدَامِ بِحَمْلِ النَّفْسِ عَلَى الْجِنْسِ، وَإِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ بِجَعْلِ الْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ يُنَاسِبُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، أَيْ وَحَّدَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ خَلَقَ لَهَا زَوْجَهَا مِنْ جِنْسِهَا. وَمَعْنَاهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ لِتِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ آدَمُ زَوْجًا مِنْهَا وَهِيَ حَوَّاءُ، قَالُوا: إِنَّهُ خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِهِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ نَائِمٌ، وَذَلِكَ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ قَارِئِ الْقُرْآنِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَهُوَ: أَنَّ مَعْنَى " خَلَقَ مِنْهَا
عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْكَهْرَبَاءَ قُوَّةٌ تَعْرِضُ لِلْمَادَّةِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي ذَاتِهَا، فَصَارُوا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ يُرَجِّحُونَ أَنَّهَا هِيَ أَصْلُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا أَيْ إِنَّهَا مَوْجُودَةٌ
بِذَاتِهَا، وَكُلُّ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى مَوْجُودَةٌ بِهَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الرُّوحِيِّينَ: إِنَّ الرُّوحَ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ الثَّابِتَةُ، وَإِنَّ قِوَامَ الْجَسَدِ بِهَا، فَهِيَ الْحَافِظَةُ لِوُجُودِهِ وَالْمُنَظِّمَةُ لِشُئُونِهِ الْحَيَوِيَّةِ، فَإِذَا فَارَقَتْهُ انْحَلَّ وَعَادَ إِلَى بَسَائِطِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ، وَالظَّوَاهِرِ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ الْجَدِيدُ فِي الْكَهْرَبَائِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ أَهْلِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَرُبَّمَا كَانَ سُلَّمًا مُوَصِّلًا إِلَيْهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْمَبْحَثِ فَنَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ، وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ لِهَذَا الْعَهْدِ فِي مَوْضِعٍ أَلْيَقَ بِهِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا فَمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَظْهَرُ بِطَرِيقِ الِاسْتِخْدَامِ بِحَمْلِ النَّفْسِ عَلَى الْجِنْسِ، وَإِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ بِجَعْلِ الْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ يُنَاسِبُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، أَيْ وَحَّدَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ خَلَقَ لَهَا زَوْجَهَا مِنْ جِنْسِهَا. وَمَعْنَاهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ لِتِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ آدَمُ زَوْجًا مِنْهَا وَهِيَ حَوَّاءُ، قَالُوا: إِنَّهُ خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِهِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ نَائِمٌ، وَذَلِكَ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ قَارِئِ الْقُرْآنِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَهُوَ: أَنَّ مَعْنَى " خَلَقَ مِنْهَا
270
زَوْجَهَا " خَلَقَهُ مِنْ جِنْسِهَا، فَكَانَ مِثْلَهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١] وَقَوْلُهُ: وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [١٦: ٧٢] وَقَوْلُهُ: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [٤٢: ١١] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [٩: ١٢٨] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [٣: ١٦٤] وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةِ الْجُمُعَةِ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ عِبَارَةِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَعِبَارَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، وَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ فَهُوَ غَيْرُ مُلْجَأٍ إِلَى إِلْصَاقِ ذَلِكَ بِالْآيَةِ، وَجَعْلِهِ تَفْسِيرًا لَهَا، وَإِخْرَاجِهَا عَنْ أُسْلُوبِ أَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ.
هَذَا وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهَا الْأُنْثَى ; وَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا حَيْثُ وَرَدَتْ، وَذَكَّرَ زَوْجَهَا الَّذِي خُلِقَ مِنْهَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ، فَقَالَ: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [٧: ١٨٩] وَعَلَيْهِ يَظْهَرُ افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِهَا، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالنِّسَاءِ أَكْثَرُ، وَأَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا هُوَ ثَابِتٌ إِلَى الْيَوْمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِنَ التَّوَالُدِ الْبِكْرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ إِنَاثَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الدُّنْيَا تَلِدُ عِدَّةَ بُطُونٍ بِدُونِ تَلْقِيحٍ مِنَ الذُّكُورِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ تَلْقِيحٌ لِبَعْضِ أُصُولِهَا، وَخَلْقُ زَوْجِهَا مِنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا ذَاتِهَا وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ كَانَتْ جَامِعَةً لِأَعْضَاءِ الذُّكُورَةِ، وَالْأُنُوثَةِ كَالدُّودَةِ الْوَحِيدَةِ، ثُمَّ ارْتَقَتْ، فَصَارَ أَفْرَادُهَا زَوْجَيْنِ، قَالَ بِهَذَا، وَذَاكَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ الْعَصْرِيِّينَ، وَمَحَلُّ تَحْقِيقِهِ تَفْسِيرُ آيَةٍ أُخْرَى.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهَيْنِ فِي عَطْفِ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ أَنْشَأَهَا، وَابْتَدَأَهَا وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى شَعْبُكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا إلخ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَكُمْ قَالَ: وَالْمَعْنَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ آدَمَ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ الْمُفَرَّعِ مِنْهُ، وَخَلَقَ مِنْهَا أُمَّكُمْ حَوَّاءَ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً غَيْرَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْفَائِتَةِ لِلْحَصْرِ. أَقُولُ: وَفِيهِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ وَنِسَاءً كَثِيرًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَكَّرَ " رِجَالًا "، " وَنِسَاءً "، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: كَثِيرًا إِشَارَةً إِلَى كَثْرَةِ الْأَنْوَاعِ، وَإِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمَا آدَمَ وَحَوَّاءَ بَلْ كُلَّ زَوْجَيْنِ، وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ خَلْقِ الزَّوْجِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ النَّاسِ لَا يَقْتَضِي تَأَخُّرَهُ عَنْهُ فِي الزَّمَنِ ; فَإِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَلَا يُنَافِي كَوْنَ
هَذَا وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهَا الْأُنْثَى ; وَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا حَيْثُ وَرَدَتْ، وَذَكَّرَ زَوْجَهَا الَّذِي خُلِقَ مِنْهَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ، فَقَالَ: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [٧: ١٨٩] وَعَلَيْهِ يَظْهَرُ افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِهَا، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالنِّسَاءِ أَكْثَرُ، وَأَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا هُوَ ثَابِتٌ إِلَى الْيَوْمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِنَ التَّوَالُدِ الْبِكْرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ إِنَاثَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الدُّنْيَا تَلِدُ عِدَّةَ بُطُونٍ بِدُونِ تَلْقِيحٍ مِنَ الذُّكُورِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ تَلْقِيحٌ لِبَعْضِ أُصُولِهَا، وَخَلْقُ زَوْجِهَا مِنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا ذَاتِهَا وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ كَانَتْ جَامِعَةً لِأَعْضَاءِ الذُّكُورَةِ، وَالْأُنُوثَةِ كَالدُّودَةِ الْوَحِيدَةِ، ثُمَّ ارْتَقَتْ، فَصَارَ أَفْرَادُهَا زَوْجَيْنِ، قَالَ بِهَذَا، وَذَاكَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ الْعَصْرِيِّينَ، وَمَحَلُّ تَحْقِيقِهِ تَفْسِيرُ آيَةٍ أُخْرَى.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهَيْنِ فِي عَطْفِ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ أَنْشَأَهَا، وَابْتَدَأَهَا وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى شَعْبُكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا إلخ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَكُمْ قَالَ: وَالْمَعْنَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ آدَمَ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ الْمُفَرَّعِ مِنْهُ، وَخَلَقَ مِنْهَا أُمَّكُمْ حَوَّاءَ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً غَيْرَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْفَائِتَةِ لِلْحَصْرِ. أَقُولُ: وَفِيهِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ وَنِسَاءً كَثِيرًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَكَّرَ " رِجَالًا "، " وَنِسَاءً "، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: كَثِيرًا إِشَارَةً إِلَى كَثْرَةِ الْأَنْوَاعِ، وَإِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمَا آدَمَ وَحَوَّاءَ بَلْ كُلَّ زَوْجَيْنِ، وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ خَلْقِ الزَّوْجِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ النَّاسِ لَا يَقْتَضِي تَأَخُّرَهُ عَنْهُ فِي الزَّمَنِ ; فَإِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَلَا يُنَافِي كَوْنَ
271
الْكَلَامِ مُرَتَّبًا مُتَنَاسِقًا كَمَا تَطْلُبُ الْبَلَاغَةُ، فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ. يَقُولُ: إِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا إِجْمَالٌ فَصَّلَهُ بِبَيَانِ كَوْنِهِ خَلَقَ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّفْسِ زَوْجًا لَهَا، وَجَعَلَ النَّسْلَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَجَمِيعُ سَلَائِلِ الْبَشَرِ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ زَوْجَيْنِ ذَكَرٍ، وَأُنْثَى اهـ. وَيَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ آيَةُ الزُّمَرِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [٣٩: ٦] وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِمَا يُذْكَرُ فِي مَحَلِّهِ.
وَيَرُدُّ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَرَأْيِ الْجُمْهُورِ أَنَّ بَثَّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَعًا
يُنَافِي كَوْنَهُمْ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيُنَاقِضُهُ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى جَعْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ عِبَارَةً عَنِ الْجِنْسِ، وَالْحَقِيقَةِ الْجَامِعَةِ، فَكَوْنُهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يُنَافِي كَوْنَ هَذَا الْجِنْسِ خُلِقَ زَوْجَيْنِ ذَكَرًا، وَأُنْثَى، وَكَوْنَهُ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، بَلْ وَلَا جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ، عَنِ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَهُوَ كَوْنُ الزَّوْجِ خُلِقَ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّفْسِ خَلْقًا مُسْتَقِلًّا دُونَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الزَّوْجَ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ ذَاتِهَا بِخَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَ، وَنَفْسَ الْأَمْرِ أَنَّ النَّاسَ مَخْلُوقُونَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَهُمَا نَفْسَانِ ثِنْتَانِ سَوَاءٌ خُلِقَتَا مُسْتَقِلَّتَيْنِ، أَوْ خُلِقَتْ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [٤٩: ١٣] الْآيَةَ، وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَسْهَلُ، إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ نَفْسَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مَخْلُوقَةٌ مِنَ الْأُخْرَى صَارُوا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِالْعَسِيرِ، فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ فِيهِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّخْلِيقِ وَالْإِيجَادِ وَقَعَ بِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَحَّ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَأَيْضًا فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا أَيْضًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ مِنَ التُّرَابِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِهَا مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَمِثْلُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ قَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ " تَسَاءَلُونَ " بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَأَصْلُهُ: تَتَسَاءَلُونَ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَخْرَجِ، وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَصِيحٌ مَعْهُودٌ عَنِ الْعَرَبِ فِي صِيغَةِ تَتَفَاعَلُونَ.
وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا اللهَ الَّذِي يَسْأَلُ بِهِ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِأَنْ يَقُولَ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَقْضِيَ هَذِهِ الْحَاجَةَ، يَرْجُو بِذَلِكَ إِجَابَةَ سُؤَالِهِ. فَمَعْنَى سُؤَالِهِ بِاللهِ سُؤَالُهُ بِإِيمَانِهِ بِهِ وَتَعْظِيمِهِ إِيَّاهُ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِ، أَيْ أَسْأَلُكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالْأَرْحَامَ فَقَدْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
مَعْطُوفٌ عَلَى الِاسْمِ الْكَرِيمِ، أَيْ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ
وَيَرُدُّ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَرَأْيِ الْجُمْهُورِ أَنَّ بَثَّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَعًا
يُنَافِي كَوْنَهُمْ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيُنَاقِضُهُ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى جَعْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ عِبَارَةً عَنِ الْجِنْسِ، وَالْحَقِيقَةِ الْجَامِعَةِ، فَكَوْنُهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يُنَافِي كَوْنَ هَذَا الْجِنْسِ خُلِقَ زَوْجَيْنِ ذَكَرًا، وَأُنْثَى، وَكَوْنَهُ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، بَلْ وَلَا جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ، عَنِ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَهُوَ كَوْنُ الزَّوْجِ خُلِقَ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّفْسِ خَلْقًا مُسْتَقِلًّا دُونَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الزَّوْجَ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ ذَاتِهَا بِخَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَ، وَنَفْسَ الْأَمْرِ أَنَّ النَّاسَ مَخْلُوقُونَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَهُمَا نَفْسَانِ ثِنْتَانِ سَوَاءٌ خُلِقَتَا مُسْتَقِلَّتَيْنِ، أَوْ خُلِقَتْ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [٤٩: ١٣] الْآيَةَ، وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَسْهَلُ، إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ نَفْسَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مَخْلُوقَةٌ مِنَ الْأُخْرَى صَارُوا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِالْعَسِيرِ، فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ فِيهِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّخْلِيقِ وَالْإِيجَادِ وَقَعَ بِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَحَّ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَأَيْضًا فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا أَيْضًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ مِنَ التُّرَابِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِهَا مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَمِثْلُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ قَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ " تَسَاءَلُونَ " بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَأَصْلُهُ: تَتَسَاءَلُونَ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَخْرَجِ، وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَصِيحٌ مَعْهُودٌ عَنِ الْعَرَبِ فِي صِيغَةِ تَتَفَاعَلُونَ.
وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا اللهَ الَّذِي يَسْأَلُ بِهِ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِأَنْ يَقُولَ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَقْضِيَ هَذِهِ الْحَاجَةَ، يَرْجُو بِذَلِكَ إِجَابَةَ سُؤَالِهِ. فَمَعْنَى سُؤَالِهِ بِاللهِ سُؤَالُهُ بِإِيمَانِهِ بِهِ وَتَعْظِيمِهِ إِيَّاهُ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِ، أَيْ أَسْأَلُكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالْأَرْحَامَ فَقَدْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
مَعْطُوفٌ عَلَى الِاسْمِ الْكَرِيمِ، أَيْ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ
272
تَقْطَعُوهَا، أَوِ اتَّقُوا إِضَاعَةَ حَقِّ الْأَرْحَامِ بِأَنْ تَصِلُوهَا، وَلَا تَقْطَعُوهَا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي (بِهِ)، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَجَوَّزَ الْوَاحِدِيُّ نَصْبَهُ بِالْإِغْرَاءِ كَالْقَوْلِ الْمَأْثُورِ عَنْ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) : يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ. أَيِ الْزَمِ الْجَبَلَ وَلُذْ بِهِ. وَالْمَعْنَى: وَاحْفَظُوا الْأَرْحَامَ، وَأَدُّوا حُقُوقَهَا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ بِالْجَرِّ، قِيلَ: إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْجَارِّ، أَيْ وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ، وَقَدْ سُمِعَ عَطْفُ الِاسْمِ الْمُظْهَرِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُمْ:
وَقَوْلُهُمْ:
وَقَدِ اعْتَرَضَ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى حَمْزَةَ فِي قِرَاءَتِهِ هَذِهِ ; لِأَنَّ مَا وَرَدَ قَلِيلًا عَنِ الْعَرَبِ لَا يَعُدُّونَهُ فَصِيحًا، وَلَا يَجْعَلُونَهُ قَاعِدَةً بَلْ يُسَمُّونَهُ شَاذًّا، وَهَذَا مِنَ اصْطِلَاحَاتِهِمْ، وَمِثْلُ هَذِهِ اللُّغَاتِ الَّتِي لَمْ يُنْقَلْ مِنْهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ قَدْ تَكُونُ فَصِيحَةً وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ النُّحَاةَ مَفْتُنُونَ بِقَوَاعِدِهِمْ، وَقَدْ نَبَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي تَحْكِيمِهَا فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا قَوَاعِدَهُمْ حُجَّةً عَلَى عَرَبِيٍّ مَا، وَقَالَ هُنَا: إِنَّ الْأَرْحَامَ إِمَّا مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَإِمَّا مَجْرُورٌ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي (بِهِ) وَهُوَ جَائِزٌ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَقَالَ الرَّازِيُّ هُنَا: وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ النُّحَاةِ أَنَّهُمْ يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ. وَلَا يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَهَا بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَمُجَاهِدٍ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ.
هَذَا، وَإِنَّ الْمُنْكِرِينَ عَلَى حَمْزَةَ جَاهِلُونَ بِالْقِرَاءَاتِ، وَرِوَايَاتِهَا مُتَعَصِّبُونَ لِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ، وَالْكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ مِثْلَ هَذَا الْعَطْفِ مَقِيسًا، وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُمْ هَذَا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَطَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الِانْتِصَارِ لَهُ.
وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَهُ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا مُخِلٌّ بِالْبَلَاغَةِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهِ تَقْرِيرًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ كَمَا يُتَسَاءَلُ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَهَذَا مِمَّا
مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذِكْرَ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا مِنْ مَقَامِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى هُنَا ; لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ تَمْهِيدٌ لِحِفْظِ حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ، وَالْتِزَامِ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّورَةُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ أَرْجَعَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ إِلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ بِجَعْلِ نَصْبِ (وَالْأَرْحَامَ) بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ:
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا | وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ غُوطٌ نَفَانِفُ |
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا | فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ |
هَذَا، وَإِنَّ الْمُنْكِرِينَ عَلَى حَمْزَةَ جَاهِلُونَ بِالْقِرَاءَاتِ، وَرِوَايَاتِهَا مُتَعَصِّبُونَ لِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ، وَالْكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ مِثْلَ هَذَا الْعَطْفِ مَقِيسًا، وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُمْ هَذَا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَطَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الِانْتِصَارِ لَهُ.
وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَهُ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا مُخِلٌّ بِالْبَلَاغَةِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهِ تَقْرِيرًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ كَمَا يُتَسَاءَلُ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَهَذَا مِمَّا
مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذِكْرَ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا مِنْ مَقَامِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى هُنَا ; لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ تَمْهِيدٌ لِحِفْظِ حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ، وَالْتِزَامِ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّورَةُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ أَرْجَعَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ إِلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ بِجَعْلِ نَصْبِ (وَالْأَرْحَامَ) بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ:
273
تَسَاءَلُونَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأُجِيبَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَ مَمْنُوعًا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْحَلِفُ الَّذِي يُعْتَقَدُ وُجُوبُ الْبِرِّ بِهِ لَا مَا قُصِدَ بِهِ مَحْضُ التَّأْكِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي التَّأْكِيدِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ كَالتَّأْكِيدِ بِأَنَّ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ هُوَ قَسَمًا بِهَا، وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّ السُّؤَالَ بِاللهِ غَيْرُ الْقَسَمِ بِاللهِ، وَالسُّؤَالَ بِالرَّحِمِ غَيْرُ الْحَلِفِ بِهَا. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي حَرَّرَ فِيهَا مَسْأَلَةَ التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ، فَقَالَ، وَأَجَادَ، وَحَقَّقَ كَعَادَتِهِ جَزَاهُ اللهُ عَنْ دِينِهِ، وَنَفْسِهِ خَيْرَ الْجَزَاءِ مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا السُّؤَالُ بِالْمَخْلُوقِ إِذَا كَانَتْ فِيهِ بَاءُ السَّبَبِ (فَهِيَ) لَيْسَتْ بَاءَ الْقَسَمِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ : لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لِأَبَرَّهُ وَقَالَ: رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ، كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ "، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكَذَلِكَ (حَدِيثُ) أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ، وَالْآخَرُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ...
" وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقْسِمُ عَلَى غَيْرِهِ لَيَفْعَلُ كَذَا، فَإِنْ حَنِثَهُ، وَلَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ لَا عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ الْحَانِثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، فَهَذَا سُؤَالٌ وَلَيْسَ بِقَسَمٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يُجِبْ إِلَى سُؤَالِهِ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ:
مُؤْمِنُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ، وَقَدْ يُجِيبُ اللهُ دُعَاءَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ اللهَ الرِّزْقَ فَيَرْزُقُهُمْ، وَيَسْقِيهِمْ، وَإِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضُوا، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا.
" وَأَمَّا الَّذِينَ يُقْسِمُونَ عَلَى اللهِ فَيَبَرُّ قَسَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ، فَالسُّؤَالُ كَقَوْلِ السَّائِلِ لِلَّهِ: " أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ " فَهَذَا سُؤَالُ اللهِ - تَعَالَى - بِأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِقْسَامًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَفْعَالَهُ هِيَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، فَمَغْفِرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، وَعَفْوُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْعَفُوِّ.
ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا سُئِلَ الْمَسْئُولُ بِشَيْءٍ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ سُئِلَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْئُولِ،
" وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقْسِمُ عَلَى غَيْرِهِ لَيَفْعَلُ كَذَا، فَإِنْ حَنِثَهُ، وَلَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ لَا عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ الْحَانِثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، فَهَذَا سُؤَالٌ وَلَيْسَ بِقَسَمٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يُجِبْ إِلَى سُؤَالِهِ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ:
مُؤْمِنُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ، وَقَدْ يُجِيبُ اللهُ دُعَاءَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ اللهَ الرِّزْقَ فَيَرْزُقُهُمْ، وَيَسْقِيهِمْ، وَإِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضُوا، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا.
" وَأَمَّا الَّذِينَ يُقْسِمُونَ عَلَى اللهِ فَيَبَرُّ قَسَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ، فَالسُّؤَالُ كَقَوْلِ السَّائِلِ لِلَّهِ: " أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ " فَهَذَا سُؤَالُ اللهِ - تَعَالَى - بِأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِقْسَامًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَفْعَالَهُ هِيَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، فَمَغْفِرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، وَعَفْوُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْعَفُوِّ.
ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا سُئِلَ الْمَسْئُولُ بِشَيْءٍ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ سُئِلَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْئُولِ،
274
فَإِذَا قَالَ: " أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " كَانَ كَوْنُهُ مَحْمُودًا مَنَّانًا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَمُنَّ عَلَى عَبْدِهِ السَّائِلِ، وَكَوْنُهُ مَحْمُودًا هُوَ يُوجِبُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، وَحَمْدُ الْعَبْدِ لَهُ سَبَبُ إِجَابَةِ دُعَائِهِ ; لِهَذَا أَمَرَ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَقُولَ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، أَيِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ، فَالسَّمَاعُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، وَالْقَبُولِ.
ثُمَّ قَالَ: " وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ لِغَيْرِهِ أَسْأَلُكَ بِاللهِ فَإِنَّمَا سَأَلَهُ بِإِيمَانِهِ بِاللهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُحِبُّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْخَلْقِ لَاسِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ كَفَّ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ، وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي حَضِّ الْفَاعِلِ، فَلَا سَبَبَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِمُسَبِّبِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَلَّمَ الْخَارِجَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: " وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا، وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً، وَلَكِنْ خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سَخَطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ "، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا، فَحَقُّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ، وَحَقُّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ، فَهُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهُمْ، كَمَا يُسْأَلُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [٤٢: ٢٦] وَكَمَا يُسْأَلُ بِوَعْدِهِ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ يَقْتَضِي إِنْجَازَ مَا وَعَدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [٣: ١٩٣] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [٢٣: ١٠٩، ١١٠] وَيُشْبِهُ هَذَا مُنَاشَدَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ يَقُولُ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي وَكَذَلِكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ " أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - غَضِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ مُوسَى يَسْأَلُ رَبَّهُ، وَيَذْكُرُ مَا وَعَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ " فَإِنَّهُ سَأَلَهُ بِسَابِقِ وَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ. وَمِنَ السُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سُؤَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَوْا إِلَى غَارٍ فَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ، وَيَرْضَاهُ مَحَبَّةً تَقْتَضِي إِجَابَةَ صَاحِبِهِ: هَذَا سَأَلَ بِبِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ، وَهَذَا سَأَلَ بِعِفَّتِهِ التَّامَّةِ، وَهَذَا سَأَلَ بِأَمَانَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَقْتَ السَّحَرِ: " اللهُمَّ أَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُكَ، وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُكَ، وَهَذَا سَحَرُ فَاغْفِرْ لِي "، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الصَّفَا: " اللهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ "، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا.
" فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَسْأَلُكَ بِكَذَا نَوْعَانِ، فَإِنَّ الْبَاءَ قَدْ تَكُونُ لِلْقَسَمِ، وَقَدْ تَكُونُ
ثُمَّ قَالَ: " وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ لِغَيْرِهِ أَسْأَلُكَ بِاللهِ فَإِنَّمَا سَأَلَهُ بِإِيمَانِهِ بِاللهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُحِبُّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْخَلْقِ لَاسِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ كَفَّ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ، وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي حَضِّ الْفَاعِلِ، فَلَا سَبَبَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِمُسَبِّبِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَلَّمَ الْخَارِجَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: " وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا، وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً، وَلَكِنْ خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سَخَطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ "، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا، فَحَقُّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ، وَحَقُّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ، فَهُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهُمْ، كَمَا يُسْأَلُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [٤٢: ٢٦] وَكَمَا يُسْأَلُ بِوَعْدِهِ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ يَقْتَضِي إِنْجَازَ مَا وَعَدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [٣: ١٩٣] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [٢٣: ١٠٩، ١١٠] وَيُشْبِهُ هَذَا مُنَاشَدَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ يَقُولُ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي وَكَذَلِكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ " أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - غَضِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ مُوسَى يَسْأَلُ رَبَّهُ، وَيَذْكُرُ مَا وَعَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ " فَإِنَّهُ سَأَلَهُ بِسَابِقِ وَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ. وَمِنَ السُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سُؤَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَوْا إِلَى غَارٍ فَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ، وَيَرْضَاهُ مَحَبَّةً تَقْتَضِي إِجَابَةَ صَاحِبِهِ: هَذَا سَأَلَ بِبِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ، وَهَذَا سَأَلَ بِعِفَّتِهِ التَّامَّةِ، وَهَذَا سَأَلَ بِأَمَانَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَقْتَ السَّحَرِ: " اللهُمَّ أَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُكَ، وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُكَ، وَهَذَا سَحَرُ فَاغْفِرْ لِي "، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الصَّفَا: " اللهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ "، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا.
" فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَسْأَلُكَ بِكَذَا نَوْعَانِ، فَإِنَّ الْبَاءَ قَدْ تَكُونُ لِلْقَسَمِ، وَقَدْ تَكُونُ
275
لِلسَّبَبِ، فَقَدْ تَكُونُ قَسَمًا بِهِ عَلَى اللهِ، وَقَدْ تَكُونُ سُؤَالًا بِسَبَبِهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَسَمُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، فَكَيْفَ عَلَى الْخَالِقِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ السُّؤَالُ بِالْمُعَظَّمِ كَالسُّؤَالِ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. فَنَقُولُ: قَوْلُ السَّائِلِ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، وَغَيْرِهِمْ، أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ، أَوْ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ جَاهٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةٌ، وَجَاهٌ، وَحُرْمَةٌ يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ اللهُ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُعَظِّمَ أَقْدَارَهُمْ، وَيَقْبَلَ شَفَاعَتَهُمْ إِذَا شَفَعُوا مَعَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [٢: ٢٥٥] وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُمْ، وَاقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا سُنَّ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهِ كَانَ سَعِيدًا، وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُمُ الَّذِي بَلَّغُوهُ عَنِ اللهِ كَانَ سَعِيدًا، وَلَكِنْ لَيْسَ نَفْسُ مُجَرَّدِ قَدْرِهِمْ، وَجَاهِهِمْ مِمَّا يَقْتَضِي إِجَابَةَ دُعَائِهِ إِذَا سَأَلَ اللهَ بِهِمْ حَتَّى يَسْأَلَ اللهَ بِذَلِكَ، بَلْ جَاهُهُمْ يَنْفَعُهُ إِذَا اتَّبَعَهُمْ،
وَأَطَاعَهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ عَنِ اللهِ، أَوْ تَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا سَنُّوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا إِذَا دَعَوْا لَهُ، وَشَفَعُوا فِيهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دُعَاءٌ، وَلَا شَفَاعَةٌ، وَلَا مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَشْفَعًا بِجَاهِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ بِجَاهِهِمْ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللهِ، بَلْ يَكُونُ قَدْ سَأَلَ بِأَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ سَبَبًا لِنَفْعِهِ، وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِمُطَاعٍ كَبِيرٍ: أَسْأَلُكَ بِطَاعَةِ فُلَانٍ لَكَ وَبِحُبِّكَ لَهُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَبِجَاهِهِ عِنْدَكَ الَّذِي أَوْجَبَتْهُ طَاعَتُهُ لَكَ، كَانَ قَدْ سَأَلَهُ بِأَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ. فَكَذَلِكَ إِحْسَانُ اللهِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ، وَتَعْظِيمُهُ لِأَقْدَارِهِمْ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لَهُ، وَطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ إِجَابَةَ دُعَاءِ مَنْ يَسْأَلُ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ إِجَابَةَ دُعَائِهِ بِسَبَبٍ مِنْهُ لِطَاعَتِهِ لَهُمْ، أَوْ سَبَبٍ مِنْهُمْ لِشَفَاعَتِهِمْ لَهُ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا وَهَذَا فَلَا سَبَبَ اهـ.
ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْسَامَ عَلَى اللهِ - سُبْحَانَهُ - بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِمَخْلُوقٍ أَصْلًا. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِشَفَاعَةِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَجَائِزٌ. وَالْأَعْمَى كَانَ قَدْ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَمَا طَلَبَ الصَّحَابَةُ مِنْهُ الِاسْتِسْقَاءَ، وَقَوْلُهُ: " أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لِي ; وَلِهَذَا كَانَ تَمَامُ الْحَدِيثِ " اللهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ "، فَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ بِاللهِ وَحْدَهُ
وَأَطَاعَهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ عَنِ اللهِ، أَوْ تَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا سَنُّوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا إِذَا دَعَوْا لَهُ، وَشَفَعُوا فِيهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دُعَاءٌ، وَلَا شَفَاعَةٌ، وَلَا مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَشْفَعًا بِجَاهِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ بِجَاهِهِمْ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللهِ، بَلْ يَكُونُ قَدْ سَأَلَ بِأَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ سَبَبًا لِنَفْعِهِ، وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِمُطَاعٍ كَبِيرٍ: أَسْأَلُكَ بِطَاعَةِ فُلَانٍ لَكَ وَبِحُبِّكَ لَهُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَبِجَاهِهِ عِنْدَكَ الَّذِي أَوْجَبَتْهُ طَاعَتُهُ لَكَ، كَانَ قَدْ سَأَلَهُ بِأَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ. فَكَذَلِكَ إِحْسَانُ اللهِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ، وَتَعْظِيمُهُ لِأَقْدَارِهِمْ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لَهُ، وَطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ إِجَابَةَ دُعَاءِ مَنْ يَسْأَلُ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ إِجَابَةَ دُعَائِهِ بِسَبَبٍ مِنْهُ لِطَاعَتِهِ لَهُمْ، أَوْ سَبَبٍ مِنْهُمْ لِشَفَاعَتِهِمْ لَهُ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا وَهَذَا فَلَا سَبَبَ اهـ.
ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْسَامَ عَلَى اللهِ - سُبْحَانَهُ - بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِمَخْلُوقٍ أَصْلًا. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِشَفَاعَةِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَجَائِزٌ. وَالْأَعْمَى كَانَ قَدْ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَمَا طَلَبَ الصَّحَابَةُ مِنْهُ الِاسْتِسْقَاءَ، وَقَوْلُهُ: " أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لِي ; وَلِهَذَا كَانَ تَمَامُ الْحَدِيثِ " اللهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ "، فَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ بِاللهِ وَحْدَهُ
276
لَا بِالرَّحِمِ، وَتَسَاؤُلُهُمْ بِاللهِ - تَعَالَى - يَتَضَمَّنُ إِقْسَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِاللهِ وَتَعَاهُدَهُمْ بِاللهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ قَوْلُهُمْ: أَسْأَلُكَ بِاللهِ وَبِالرَّحِمِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ سُؤَالِهِمْ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى جَوَازِهِ، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَسْأَلُكَ بِالرَّحِمِ لَيْسَ إِقْسَامًا بِالرَّحِمِ، وَالْقَسَمُ هُنَا لَا يَسُوغُ لَكِنْ بِسَبَبِ الرَّحِمِ، أَيْ لِأَنَّ الرَّحِمَ تُوجِبُ لِأَصْحَابِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقًا، كَسُؤَالِ الثَّلَاثَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَكَسُؤَالِنَا بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَفَاعَتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رَوَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ إِذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ جَعْفَرٍ أَعْطَاهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ، فَإِنَّ الْإِقْسَامَ بِغَيْرِ جَعْفَرٍ أَعْظَمُ، بَلْ مِنْ بَابِ حَقِّ
الرَّحِمِ ; لِأَنَّ حَقَّ اللهِ إِنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبِ جَعْفَرٍ، وَجَعْفَرٌ حَقُّهُ عَلَى عَلِيٍّ " اهـ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَرَبَّاكُمْ بِنِعَمِهِ، اتَّقُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا حُدُودَهُ فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ لَكُمْ لِإِصْلَاحِ شَأْنِكُمْ، فَإِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكُنْتُمْ جِنْسًا وَاحِدًا، تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ بِتَعَاوُنِ أَفْرَادِهِ، وَاتِّحَادِهِمْ، وَحِفْظِ بَعْضِهِمْ حُقُوقَ بَعْضٍ. فَتَقْوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهَا شُكْرٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَفِيهَا تَرْقِيَةٌ لِوَحْدَتِكُمُ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَعُرُوجٌ لِلْكَمَالِ فِيهَا. وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ فِي حُقُوقِ الرَّحِمِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ حُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِأَنْ تَصِلُوا الْأَرْحَامَ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِوَصْلِهَا، ، وَتَحْذَرُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ قَطْعِهَا، اتَّقُوهُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي تَقْوَاهُ مِنَ الْخَيْرِ لَكُمُ الَّذِي يُذَكِّرُكُمْ بِهِ تَسَاؤُلُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ، وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْأَعْلَى عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَبِحُقُوقِ الرَّحِمِ، وَمَا فِي هَذَا التَّسَاؤُلِ مِنْ الِاسْتِعْطَافِ، وَالْإِيلَافِ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي هَاتَيْنِ الرَّابِطَتَيْنِ بَيْنَكُمْ: رَابِطَةِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَتَعْظِيمِ اسْمِهِ، وَرَابِطَةِ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ ; فَإِنَّكُمْ إِذَا فَرَّطْتُمْ فِي ذَلِكَ أَفْسَدْتُمْ فِطْرَتَكُمْ، فَتَفْسَدُ الْبُيُوتُ وَالْعَشَائِرُ، وَالشُّعُوبُ، وَالْقَبَائِلُ. إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا أَيْ مُشْرِفًا عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَمَنَاشِئِهَا مِنْ نُفُوسِكُمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَحْوَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُشَرِّعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُصْلِحُ شَأْنَكُمْ وَيَعُدُّكُمْ بِهِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. " الرَّقِيبُ ": وَصْفٌ بِمَعْنَى الرَّاقِبِ مِنْ: رَقَبَهُ إِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، وَمِنْهُ الْمَرْقَبُ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُشْرِفُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا دُونَهُ. وَأُطْلِقَ بِمَعْنَى الْحِفْظِ، لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَبِهِ فَسَّرَهُ هُنَا مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَّرَنَا هُنَا بِمُرَاقَبَتِهِ لَنَا لِتَنْبِيهِنَا إِلَى الْإِخْلَاصِ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ تَذَكَّرَ أَنَّ اللهَ مُشْرِفٌ عَلَيْهِ مُرَاقِبٌ لِأَعْمَالِهِ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَّقِيَهُ، وَيَلْتَزِمَ حُدُودَهُ.
الرَّحِمِ ; لِأَنَّ حَقَّ اللهِ إِنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبِ جَعْفَرٍ، وَجَعْفَرٌ حَقُّهُ عَلَى عَلِيٍّ " اهـ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَرَبَّاكُمْ بِنِعَمِهِ، اتَّقُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا حُدُودَهُ فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ لَكُمْ لِإِصْلَاحِ شَأْنِكُمْ، فَإِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكُنْتُمْ جِنْسًا وَاحِدًا، تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ بِتَعَاوُنِ أَفْرَادِهِ، وَاتِّحَادِهِمْ، وَحِفْظِ بَعْضِهِمْ حُقُوقَ بَعْضٍ. فَتَقْوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهَا شُكْرٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَفِيهَا تَرْقِيَةٌ لِوَحْدَتِكُمُ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَعُرُوجٌ لِلْكَمَالِ فِيهَا. وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ فِي حُقُوقِ الرَّحِمِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ حُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِأَنْ تَصِلُوا الْأَرْحَامَ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِوَصْلِهَا، ، وَتَحْذَرُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ قَطْعِهَا، اتَّقُوهُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي تَقْوَاهُ مِنَ الْخَيْرِ لَكُمُ الَّذِي يُذَكِّرُكُمْ بِهِ تَسَاؤُلُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ، وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْأَعْلَى عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَبِحُقُوقِ الرَّحِمِ، وَمَا فِي هَذَا التَّسَاؤُلِ مِنْ الِاسْتِعْطَافِ، وَالْإِيلَافِ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي هَاتَيْنِ الرَّابِطَتَيْنِ بَيْنَكُمْ: رَابِطَةِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَتَعْظِيمِ اسْمِهِ، وَرَابِطَةِ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ ; فَإِنَّكُمْ إِذَا فَرَّطْتُمْ فِي ذَلِكَ أَفْسَدْتُمْ فِطْرَتَكُمْ، فَتَفْسَدُ الْبُيُوتُ وَالْعَشَائِرُ، وَالشُّعُوبُ، وَالْقَبَائِلُ. إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا أَيْ مُشْرِفًا عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَمَنَاشِئِهَا مِنْ نُفُوسِكُمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَحْوَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُشَرِّعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُصْلِحُ شَأْنَكُمْ وَيَعُدُّكُمْ بِهِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. " الرَّقِيبُ ": وَصْفٌ بِمَعْنَى الرَّاقِبِ مِنْ: رَقَبَهُ إِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، وَمِنْهُ الْمَرْقَبُ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُشْرِفُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا دُونَهُ. وَأُطْلِقَ بِمَعْنَى الْحِفْظِ، لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَبِهِ فَسَّرَهُ هُنَا مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَّرَنَا هُنَا بِمُرَاقَبَتِهِ لَنَا لِتَنْبِيهِنَا إِلَى الْإِخْلَاصِ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ تَذَكَّرَ أَنَّ اللهَ مُشْرِفٌ عَلَيْهِ مُرَاقِبٌ لِأَعْمَالِهِ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَّقِيَهُ، وَيَلْتَزِمَ حُدُودَهُ.
277
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا وَآتُوا: أَعْطُوا، الْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَهُوَ مِنَ النَّاسِ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ السِّنَّ الَّتِي يَسْتَغْنِي فِيهَا عَنْ كَفَالَتِهِ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ مَنْ فَقَدَ أُمَّهُ صَغِيرًا ; لِأَنَّ إِنَاثَ الْحَيَوَانِ هِيَ الَّتِي تَكْفُلُ صِغَارَهَا. وَكُلُّ مُنْفَرِدٍ يَتِيمٌ، وَمِنْهُ الدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ جَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَالَى مَا يَعُدُّونَهُ بِهِ مِقْيَاسًا ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ " يَتِيمٍ " قَدْ جُمِعَ هَذَا الْجَمْعَ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ إِلَى آخِرِ مَا قَالُوا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَيْ لَا تَأْخُذُوا الْخَبِيثَ فَتَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنَ الطَّيِّبِ. يُقَالُ تَبَدَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ. وَاسْتَبْدَلَهُ بِهِ إِذَا أَخَذَ الْأَوَّلَ بَدَلًا مِنَ الثَّانِي الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ، أَوْ فِي شَرَفِ الْحُصُولِ وَمَظِنَّتِهِ، يُسْتَعْمَلَانِ دَائِمًا بِالتَّعَدِّي إِلَى الْمَأْخُوذِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَإِلَى الْمَتْرُوكِ بِالْبَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [٢: ٦١] وَأَمَّا التَّبْدِيلُ فَيُسْتَعْمَلُ بِالْوَجْهَيْنِ. وَالْخَبِيثُ مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخَسَاسَةً مَحْسُوسًا كَانَ أَوْ مَعْقُولًا، مِنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ وَهُوَ صَدَؤُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَأَصْلُهُ الرَّدِيءُ الدُّخْلَةُ الْجَارِي مَجْرَى خَبَثِ الْحَدِيدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِلَ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْكَذِبَ فِي الْمَقَالِ، وَالْقَبِيحَ فِي الْفِعَالِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ. قَالَ: وَأَصْلُ (الطَّيِّبِ) مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ وَمَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ.
أَقُولُ: وَهُوَ كَمُقَابِلِهِ يُوصَفُ بِهِ الشَّخْصُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [٢٤: ٢٦] وَالْأَشْيَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا وَآتُوا: أَعْطُوا، الْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَهُوَ مِنَ النَّاسِ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ السِّنَّ الَّتِي يَسْتَغْنِي فِيهَا عَنْ كَفَالَتِهِ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ مَنْ فَقَدَ أُمَّهُ صَغِيرًا ; لِأَنَّ إِنَاثَ الْحَيَوَانِ هِيَ الَّتِي تَكْفُلُ صِغَارَهَا. وَكُلُّ مُنْفَرِدٍ يَتِيمٌ، وَمِنْهُ الدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ جَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَالَى مَا يَعُدُّونَهُ بِهِ مِقْيَاسًا ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ " يَتِيمٍ " قَدْ جُمِعَ هَذَا الْجَمْعَ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ إِلَى آخِرِ مَا قَالُوا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَيْ لَا تَأْخُذُوا الْخَبِيثَ فَتَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنَ الطَّيِّبِ. يُقَالُ تَبَدَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ. وَاسْتَبْدَلَهُ بِهِ إِذَا أَخَذَ الْأَوَّلَ بَدَلًا مِنَ الثَّانِي الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ، أَوْ فِي شَرَفِ الْحُصُولِ وَمَظِنَّتِهِ، يُسْتَعْمَلَانِ دَائِمًا بِالتَّعَدِّي إِلَى الْمَأْخُوذِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَإِلَى الْمَتْرُوكِ بِالْبَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [٢: ٦١] وَأَمَّا التَّبْدِيلُ فَيُسْتَعْمَلُ بِالْوَجْهَيْنِ. وَالْخَبِيثُ مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخَسَاسَةً مَحْسُوسًا كَانَ أَوْ مَعْقُولًا، مِنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ وَهُوَ صَدَؤُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَأَصْلُهُ الرَّدِيءُ الدُّخْلَةُ الْجَارِي مَجْرَى خَبَثِ الْحَدِيدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا | فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ |
أَقُولُ: وَهُوَ كَمُقَابِلِهِ يُوصَفُ بِهِ الشَّخْصُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [٢٤: ٢٦] وَالْأَشْيَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
[٧: ١٥٧] وَقَوْلُهُ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [- ٧: ٥٨] وَالْأَعْمَالُ، وَمِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهَا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْعَمَلَ الْخَبِيثَ بِالْعَمَلِ الطَّيِّبِ أَنْ تَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنْهُ. وَمِنْهُ مَثَلُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ (١٤: ٢٤ - ٢٦). وَ (الْحُوبُ) : الْإِثْمُ، وَمَصْدَرُهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَذَكَرَ الرَّاغِبُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ كَلِمَةُ " حُوبٍ " لِزَجْرِ الْإِبِلِ. قَالَ: وَفُلَانٌ يَتَحَوَّبُ مِنْ كَذَا أَيْ يَتَأَثَّمُ. وَقَوْلُهُمْ: أَلْحَقَ اللهُ بِهِ أَيِ الْمَسْكَنَةَ وَالْحَاجَةَ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ الْحَاجَةُ الَّتِي تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى ارْتِكَابِ الْإِثْمِ، وَالْحَوْبَاءُ قِيلَ: هِيَ النَّفْسُ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ النَّفْسُ الْمُرْتَكِبَةُ لِلْحُوبِ اهـ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) تَفْسِيرُهُ بِالْإِثْمِ وَبِالظُّلْمِ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ الْإِثْمُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْأَعْشَى:
وَحَابَ يَحُوبُ حُوبًا وَحَابًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُمَا كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُهُ التَّحَوُّبُ وَهُوَ التَّوَجُّعُ، فَالْحُوبُ: ارْتِكَابُ مَا يُتَوَجَّعُ مِنْهُ. وَتُقسِطُوا تَعْدِلُوا مِنَ الْإِقْسَاطِ، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ، وَيُقَالُ قَسَطَ إِذَا جَارَ. قَالَ - تَعَالَى -: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [٤٩: ٩] وَقَالَ: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [٧٢: ١٥ وَكِلَاهُمَا مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَقَالَ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ] ٧: ٢٩ [وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [٤: ١٣٥] وَالْقِسْطُ فِي الْأَصْلِ: النَّصِيبُ بِالْعَدْلِ. وَقَالُوا: قَسَطَ فُلَانٌ بِوَزْنِ جَلَسَ إِذَا أَخَذَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وَنَصِيبَهُ. وَقَالُوا: أَقْسَطَ إِذَا أَعْطَى غَيْرَهُ قِسْطَهُ وَنَصِيبَهُ. كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَقْسَطَ لِلسَّلْبِ، فَقَسَطَ بِمَعْنَى: عَدَلَ، وَأَقْسَطَ بِمَعْنَى: أَزَالَ الْقِسْطَ فَلَمْ يُقِمْهُ، كَمَا يُقَالُ فِي شَكَا وَأَشْكَى، فَإِنَّ أَشْكَاهُ بِمَعْنَى أَزَالَ شَكْوَاهُ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: كَأَنَّ الْهَمْزَةَ لِلسَّلْبِ.
فَانْكِحُوا مَعْنَاهُ: فَتَزَوَّجُوا، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى مَا يُقْصَدُ مِنَ الْعَقْدِ، وَلَوْ بِدُونِهِ. وَقَوْلُهُ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مَعْنَاهُ: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، فَتِلْكَ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ مَعْدُولَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْمُكَرَّرَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ حَسُنَ اخْتِيَارُ الْأَلْفَاظِ الْمَعْدُولَةِ الدَّالَّةِ عَلَى
الْعَدَدِ الْمُكَرَّرِ، وَكَانَتْ مِنَ الْإِيجَازِ لِيُصِيبَ كُلَّ مَنْ يُرِيدُ الْجَمْعَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُخَاطَبِينَ ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، أَوْ ثَلَاثًا فَقَطْ، أَوْ أَرْبَعًا فَقَطْ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ غَايَةٌ فِي التَّعَدُّدِ بِشَرْطِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا تَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَلَوْ أَفْرَدْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى. أَيْ
[٧: ١٥٧] وَقَوْلُهُ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [- ٧: ٥٨] وَالْأَعْمَالُ، وَمِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهَا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْعَمَلَ الْخَبِيثَ بِالْعَمَلِ الطَّيِّبِ أَنْ تَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنْهُ. وَمِنْهُ مَثَلُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ (١٤: ٢٤ - ٢٦). وَ (الْحُوبُ) : الْإِثْمُ، وَمَصْدَرُهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَذَكَرَ الرَّاغِبُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ كَلِمَةُ " حُوبٍ " لِزَجْرِ الْإِبِلِ. قَالَ: وَفُلَانٌ يَتَحَوَّبُ مِنْ كَذَا أَيْ يَتَأَثَّمُ. وَقَوْلُهُمْ: أَلْحَقَ اللهُ بِهِ أَيِ الْمَسْكَنَةَ وَالْحَاجَةَ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ الْحَاجَةُ الَّتِي تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى ارْتِكَابِ الْإِثْمِ، وَالْحَوْبَاءُ قِيلَ: هِيَ النَّفْسُ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ النَّفْسُ الْمُرْتَكِبَةُ لِلْحُوبِ اهـ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) تَفْسِيرُهُ بِالْإِثْمِ وَبِالظُّلْمِ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ الْإِثْمُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْأَعْشَى:
فَإِنِّي وَمَا كَلَّفْتُمُونِي مِنْ أَمْرِكُمْ | لِيُعْلَمَ مَنْ أَمْسَى أَعَقَّ وَأَحْوَبَا |
فَانْكِحُوا مَعْنَاهُ: فَتَزَوَّجُوا، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى مَا يُقْصَدُ مِنَ الْعَقْدِ، وَلَوْ بِدُونِهِ. وَقَوْلُهُ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مَعْنَاهُ: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، فَتِلْكَ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ مَعْدُولَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْمُكَرَّرَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ حَسُنَ اخْتِيَارُ الْأَلْفَاظِ الْمَعْدُولَةِ الدَّالَّةِ عَلَى
الْعَدَدِ الْمُكَرَّرِ، وَكَانَتْ مِنَ الْإِيجَازِ لِيُصِيبَ كُلَّ مَنْ يُرِيدُ الْجَمْعَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُخَاطَبِينَ ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، أَوْ ثَلَاثًا فَقَطْ، أَوْ أَرْبَعًا فَقَطْ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ غَايَةٌ فِي التَّعَدُّدِ بِشَرْطِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا تَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَلَوْ أَفْرَدْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى. أَيْ
279
لَوْ قُلْتَ لِلْجَمْعِ: اقْتَسِمُوا الْمَالَ الْكَثِيرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْكَلَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ دِرْهَمَيْنِ فَقَطْ لَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ.
قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ جَاءَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ دُونَ " أَوْ "؟ قُلْتُ كَمَا جَاءَ بِالْوَاوِ فِي الْمِثَالِ الَّذِي حَذَوْتُهُ لَكَ، وَلَوْ ذَهَبْتَ تَقُولُ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، أَوْ أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهَا فَيَجْعَلُوا بَعْضَ الْقَسْمِ عَلَى تَثْنِيَةٍ وَبَعْضَهُ عَلَى تَثْلِيثٍ، وَبَعْضَهُ عَلَى تَرْبِيعٍ، وَذَهَبَ مَعْنَى تَجْوِيزِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْوَاوُ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْوَاوَ دَلَّتْ عَلَى إِطْلَاقِ أَنْ يَأْخُذَ النَّاكِحُونَ مَنْ أَرَادُوا نِكَاحَهَا مِنَ النِّسَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ إِنْ شَاءُوا مُخْتَلِفِينَ فِي تِلْكَ الْأَعْدَادِ، وَإِنْ شَاءُوا وَمُتَّفِقِينَ فِيهَا مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهُوَ يَنْقُلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ دَلَالَةِ الْعِبَارَةِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الْوَاحِدِ بَيْنَ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَهُوَ مَجْمُوعُ ٢ و٣ و٤ وَبَعْضٌ آخَرُ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ ١٨ وَهُوَ مَجْمُوعُ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثٍ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٍ أَرْبَعٍ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: وَزِّعْ هَذَا الْمَالَ عَلَى الْفُقَرَاءِ قِرْشَيْنِ قِرْشَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، مَعْنَاهُ أَعْطِ بَعْضَهُمُ اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَبَعْضَهُمْ ثَلَاثَةً فَقَطْ، وَبَعْضَهُمْ أَرْبَعَةً فَقَطْ، وَلِلْمُوَزِّعِ الْخِيَارُ فِي التَّخْصِيصِ، وَلَا يُجَوِّزُ لَهُ هَذَا النَّصُّ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ ٩ قُرُوشٍ، وَلَا ١٨ قِرْشًا. وَاسْتِدْلَالُ بَعْضِهِمْ عَلَى صِحَّةِ مَا قِيلَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَعَقْدِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ ; لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَتَعُولُوا تَجُورُوا، وَأَصْلُ الْعَوْلِ: الْمَيْلُ، يَقُولُونَ: عَالَ الْمِيزَانُ إِذَا مَالَ، وَمِيزَانٌ عَائِلٌ. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ. وَيُرْوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَيُقَالُ عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ: إِذَا مَانَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ أَرَادَ لِئَلَّا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْآيَةِ.
وَصَدُقَاتِهِنَّ جَمْعُ - صَدُقَةٍ بِضَمِّ الدَّالِّ - وَهُوَ الصَّدَاقُ بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا أَيْ مَا تُعْطَى الْمَرْأَةُ مِنْ مَهْرِهَا، وَإِيتَاءُ النِّسَاءِ صَدُقَاتِهِنَّ يَحْتَمِلُ الْمُنَاوَلَةَ بِالْفِعْلِ، وَيَحْتَمِلُ الِالْتِزَامَ وَالتَّخْصِيصَ، يُقَالُ: أَصْدَقَهَا، وَأَمْهَرَهَا بِكَذَا إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ.
وَقَوْلُهُ: نِحْلَةً رُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرُهَا بِالْفَرِيضَةِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ وَالْهِبَةِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَالٌ تَأْخُذُهُ بِلَا عِوَضٍ مَالِيٍّ، وَجَعَلَهَا الرَّاغِبُ مُشْتَقَّةً مِنَ النَّحْلِ كَأَنَّهَا عَطِيَّةٌ كَمَا يَجْنِي النَّحْلُ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُعَارِضُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ فَرْضِيَّةِ الْمَهْرِ، وَعَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهُ بِدُونِ رِضَا الْمَرْأَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قُلْنَا إِنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْأَهْلِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْأَزْوَاجِ
قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ جَاءَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ دُونَ " أَوْ "؟ قُلْتُ كَمَا جَاءَ بِالْوَاوِ فِي الْمِثَالِ الَّذِي حَذَوْتُهُ لَكَ، وَلَوْ ذَهَبْتَ تَقُولُ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، أَوْ أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهَا فَيَجْعَلُوا بَعْضَ الْقَسْمِ عَلَى تَثْنِيَةٍ وَبَعْضَهُ عَلَى تَثْلِيثٍ، وَبَعْضَهُ عَلَى تَرْبِيعٍ، وَذَهَبَ مَعْنَى تَجْوِيزِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْوَاوُ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْوَاوَ دَلَّتْ عَلَى إِطْلَاقِ أَنْ يَأْخُذَ النَّاكِحُونَ مَنْ أَرَادُوا نِكَاحَهَا مِنَ النِّسَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ إِنْ شَاءُوا مُخْتَلِفِينَ فِي تِلْكَ الْأَعْدَادِ، وَإِنْ شَاءُوا وَمُتَّفِقِينَ فِيهَا مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهُوَ يَنْقُلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ دَلَالَةِ الْعِبَارَةِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الْوَاحِدِ بَيْنَ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَهُوَ مَجْمُوعُ ٢ و٣ و٤ وَبَعْضٌ آخَرُ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ ١٨ وَهُوَ مَجْمُوعُ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثٍ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٍ أَرْبَعٍ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: وَزِّعْ هَذَا الْمَالَ عَلَى الْفُقَرَاءِ قِرْشَيْنِ قِرْشَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، مَعْنَاهُ أَعْطِ بَعْضَهُمُ اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَبَعْضَهُمْ ثَلَاثَةً فَقَطْ، وَبَعْضَهُمْ أَرْبَعَةً فَقَطْ، وَلِلْمُوَزِّعِ الْخِيَارُ فِي التَّخْصِيصِ، وَلَا يُجَوِّزُ لَهُ هَذَا النَّصُّ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ ٩ قُرُوشٍ، وَلَا ١٨ قِرْشًا. وَاسْتِدْلَالُ بَعْضِهِمْ عَلَى صِحَّةِ مَا قِيلَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَعَقْدِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ ; لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَتَعُولُوا تَجُورُوا، وَأَصْلُ الْعَوْلِ: الْمَيْلُ، يَقُولُونَ: عَالَ الْمِيزَانُ إِذَا مَالَ، وَمِيزَانٌ عَائِلٌ. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ. وَيُرْوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَيُقَالُ عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ: إِذَا مَانَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ أَرَادَ لِئَلَّا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْآيَةِ.
وَصَدُقَاتِهِنَّ جَمْعُ - صَدُقَةٍ بِضَمِّ الدَّالِّ - وَهُوَ الصَّدَاقُ بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا أَيْ مَا تُعْطَى الْمَرْأَةُ مِنْ مَهْرِهَا، وَإِيتَاءُ النِّسَاءِ صَدُقَاتِهِنَّ يَحْتَمِلُ الْمُنَاوَلَةَ بِالْفِعْلِ، وَيَحْتَمِلُ الِالْتِزَامَ وَالتَّخْصِيصَ، يُقَالُ: أَصْدَقَهَا، وَأَمْهَرَهَا بِكَذَا إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ.
وَقَوْلُهُ: نِحْلَةً رُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرُهَا بِالْفَرِيضَةِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ وَالْهِبَةِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَالٌ تَأْخُذُهُ بِلَا عِوَضٍ مَالِيٍّ، وَجَعَلَهَا الرَّاغِبُ مُشْتَقَّةً مِنَ النَّحْلِ كَأَنَّهَا عَطِيَّةٌ كَمَا يَجْنِي النَّحْلُ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُعَارِضُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ فَرْضِيَّةِ الْمَهْرِ، وَعَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهُ بِدُونِ رِضَا الْمَرْأَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قُلْنَا إِنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْأَهْلِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْأَزْوَاجِ
280
وَهُوَ يَتَسَلْسَلُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [٤: ٣٦] الْآيَةَ ; وَلِذَلِكَ افْتَتَحَهَا بِالتَّذْكِيرِ بِالْقَرَابَةِ، وَالْأُخُوَّةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْأُمَّةِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ طَفِقَ يُبَيِّنُ حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ مِنَ النَّاسِ كَالْيَتَامَى، وَالنِّسَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ، وَيَأْمُرُ بِالْتِزَامِهَا، فَقَالَ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَالْيَتِيمُ لُغَةً: مَنْ مَاتَ أَبُوهُ مُطْلَقًا، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَمَتَى بَلَغَ زَالَ يُتْمُهُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ سَفِيهٌ، فَإِنَّهُ يَبْقَى حُكْمُ الْيَتِيمِ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ الْحَجْرُ. وَمَعْنَى إِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ هُوَ جَعْلُهَا لَهُمْ خَاصَّةً، وَعَدَمُ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْبَاطِلِ، أَيْ أَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يَزُولَ يُتْمُهُمْ بِالرُّشْدِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى فَعِنْدَ ذَلِكَ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَا بَقِيَ لَهُمْ بَعْدَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ فِي زَمَنِ الْيُتْمِ وَالْقُصُورِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي إِعْطَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ فِي حَالَتَيِ الْيُتْمِ، وَالرُّشْدِ، كُلُّ حَالَةٍ بِحَسَبِهَا، وَتِلْكَ خَاصَّةٌ بِحَالِ الرُّشْدِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ تَجَوُّزٌ كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ نَفَقَةَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِيتَاءُ مَالٍ لِلْيَتِيمِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ وَجَعْلُهُ خَاصَّةً، وَعَدَمُ هَضْمِ شَيْءٍ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْيَتِيمَ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ الْمُرَادُ بِالْخَبِيثِ: الْحَرَامُ، وَبِالطَّيِّبِ: الْحَلَالُ، أَيْ لَا تَتَمَتَّعُوا بِمَالِ الْيَتِيمِ فِي الْمَوَاضِعِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي مِنْ شَأْنِكُمْ أَنْ تَتَمَتَّعُوا فِيهَا بِأَمْوَالِكُمْ، يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ التَّمَتُّعُ بِمَالِ نَفْسِهِ فِي الطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ،
فَإِذَا عَرَضَ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي هُوَ قَيِّمٌ وَوَصِيٌّ عَلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَمْتَعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَقَدْ جَعَلَ مَالَ الْيَتِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَدَلًا مِنْ مَالِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى التَّبَدُّلِ وَالِاسْتِبْدَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ أَيْ تَأْكُلُوهَا مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلْوَلِيِّ مَالٌ يَضُمُّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَكْلَهُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَضْمُومٍ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ بِالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَقِيلَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ جَوَازُ أَكْلِ الْوَصِيِّ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ.
أَقُولُ: وَمُرَادُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِنَفْيِ التَّجَوُّزِ مِنَ الْآيَةِ يَعُمُّ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَمْوَالِ سَالِمَةً لَهُمْ، وَعَدَمِ اغْتِيَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِيتَائِهِمْ إِيَّاهَا هُوَ تَسْلِيمُهُمْ إِيَّاهَا بَعْدَ الرُّشْدِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْيَتَامَى بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ - كَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ وَكُتُبِ الْأُصُولِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى دَسِّهِ فِي هَذِهِ - وَقِيلَ: أَكْلُ أَمْوَالِهِمْ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى هُوَ خَلْطُهَا بِهَا، وَتَقَدَّمَ حُكْمُ مُخَالَطَتِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ آيَةَ ٢٢٠ مِنْهَا فِي ص٢٧١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢.
فَإِذَا عَرَضَ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي هُوَ قَيِّمٌ وَوَصِيٌّ عَلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَمْتَعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَقَدْ جَعَلَ مَالَ الْيَتِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَدَلًا مِنْ مَالِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى التَّبَدُّلِ وَالِاسْتِبْدَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ أَيْ تَأْكُلُوهَا مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلْوَلِيِّ مَالٌ يَضُمُّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَكْلَهُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَضْمُومٍ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ بِالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَقِيلَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ جَوَازُ أَكْلِ الْوَصِيِّ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ.
أَقُولُ: وَمُرَادُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِنَفْيِ التَّجَوُّزِ مِنَ الْآيَةِ يَعُمُّ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَمْوَالِ سَالِمَةً لَهُمْ، وَعَدَمِ اغْتِيَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِيتَائِهِمْ إِيَّاهَا هُوَ تَسْلِيمُهُمْ إِيَّاهَا بَعْدَ الرُّشْدِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْيَتَامَى بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ - كَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ وَكُتُبِ الْأُصُولِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى دَسِّهِ فِي هَذِهِ - وَقِيلَ: أَكْلُ أَمْوَالِهِمْ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى هُوَ خَلْطُهَا بِهَا، وَتَقَدَّمَ حُكْمُ مُخَالَطَتِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ آيَةَ ٢٢٠ مِنْهَا فِي ص٢٧١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢.
281
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَبَدُّلِ الْخَبِيثِ بِالطَّيِّبِ، وَالْأَظْهَرُ فِيهِ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِيمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَخْذِ الْجَيِّدِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَوَضْعِ الرَّدِيءِ بَدَلَهُ، وَأَخْذِ السَّمِينِ مِنْهُ، وَإِعْطَائِهِ الْهَزِيلَ، وَنَسَبَهُ الرَّازِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ، قَالَ: وَطَعَنَ فِيهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لَا تَبَدُّلٌ.
وَعَبَّرَ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّصَرُّفُ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ شَائِعٌ مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [٢: ١٨٨] وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَأْخُذُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا أَيْ إِنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، أَوْ تَبَدُّلَ الْخَبِيثِ بِالطَّيِّبِ مِنْهُ،
أَوْ مَا ذُكِرَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ - وَكَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ - كَانَ فِي حُكْمِ اللهِ حُوبًا كَبِيرًا أَيْ إِثْمًا عَظِيمًا.
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا هَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ السُّورَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّسَاءِ بِمُنَاسَبَةِ الْيَتَامَى، وَقِيلَ: بِالْيَتَامَى بِأَنْفُسِهِمْ أَصَالَةً، وَأَمْوَالِهِمْ تَبَعًا، وَمَا قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْوَالِ خَاصَّةً. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَالتَّفْسِيرِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ خَالَتَهُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ: " يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا يُشْرِكُهَا فِي مَالِهِ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا، وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ ". قَالَ عُرْوَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: " ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ ; فَأَنْزَلَ اللهُ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [٤: ١٢٧] قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ ".
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ عَنْهَا، قَالَتْ: " أُنْزِلَتْ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْيَتِيمَةُ وَهُوَ وَلِيُّهَا، وَوَارِثُهَا، وَلَهَا مَالٌ، وَلَيْسَ لَهَا أَحَدٌ يُخَاصِمُ دُونَهَا فَلَا يَنْكِحُهَا لِمَالِهَا فَيَضْرِبُهَا، وَيُسِيءُ صُحْبَتَهَا، فَقَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يَقُولُ: خُذْ مَا أَحْلَلْتُ لَكُمْ وَدَعْ هَذِهِ الَّتِي تَضْرِبُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أُخْرَى عَنْهَا فِيمَا يُحَالُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَعَبَّرَ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّصَرُّفُ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ شَائِعٌ مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [٢: ١٨٨] وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَأْخُذُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا أَيْ إِنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، أَوْ تَبَدُّلَ الْخَبِيثِ بِالطَّيِّبِ مِنْهُ،
أَوْ مَا ذُكِرَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ - وَكَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ - كَانَ فِي حُكْمِ اللهِ حُوبًا كَبِيرًا أَيْ إِثْمًا عَظِيمًا.
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا هَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ السُّورَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّسَاءِ بِمُنَاسَبَةِ الْيَتَامَى، وَقِيلَ: بِالْيَتَامَى بِأَنْفُسِهِمْ أَصَالَةً، وَأَمْوَالِهِمْ تَبَعًا، وَمَا قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْوَالِ خَاصَّةً. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَالتَّفْسِيرِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ خَالَتَهُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ: " يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا يُشْرِكُهَا فِي مَالِهِ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا، وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ ". قَالَ عُرْوَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: " ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ ; فَأَنْزَلَ اللهُ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [٤: ١٢٧] قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ ".
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ عَنْهَا، قَالَتْ: " أُنْزِلَتْ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْيَتِيمَةُ وَهُوَ وَلِيُّهَا، وَوَارِثُهَا، وَلَهَا مَالٌ، وَلَيْسَ لَهَا أَحَدٌ يُخَاصِمُ دُونَهَا فَلَا يَنْكِحُهَا لِمَالِهَا فَيَضْرِبُهَا، وَيُسِيءُ صُحْبَتَهَا، فَقَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يَقُولُ: خُذْ مَا أَحْلَلْتُ لَكُمْ وَدَعْ هَذِهِ الَّتِي تَضْرِبُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أُخْرَى عَنْهَا فِيمَا يُحَالُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
282
قَالَتْ: " أُنْزِلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ
تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَعْضُلُهَا، فَلَا يَتَزَوَّجُهَا وَلَا يُزَوِّجُهَا غَيْرَهُ ".
أَقُولُ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَسُوقَةً فِي الْأَصْلِ لِلْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ حَقِّ يَتَامَى النِّسَاءِ فِي أَمْوَالِهِنَّ، وَأَنْفُسِهِنَّ، وَالْمُرَادُ بِالْيَتَامَى فِيهَا النِّسَاءُ، وَبِالنِّسَاءِ غَيْرُ الْيَتَامَى، أَيْ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أَيْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي يَتَامَى النِّسَاءِ فَتُعَامِلُوهُنَّ كَمَا تُعَامِلُونَ غَيْرَهُنَّ فِي الْمَهْرِ، وَغَيْرِهِ، أَوْ أَحْسَنَ، فَاتْرُكُوا التَّزَوُّجَ بِهِنَّ، وَتَزَوَّجُوا مَا حَلَّ لَكُمْ، أَوْ مَا رَاقَ لَكُمْ، وَحَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ غَيْرِهِنَّ. قَالَ رَبِيعَةُ: اتْرُكُوهُنَّ، فَقَدْ أَحْلَلْتُ لَكُمْ أَرْبَعًا. أَيْ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِهِنَّ حَتَّى لَا يَظْلِمُوهُنَّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ قَوْلَ عَائِشَةَ بِالْمَعْنَى مُخْتَصَرًا: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِذَا أَرَدْتُمُ التَّزَوُّجَ بِالْيَتِيمَةِ وَخِفْتُمْ أَنْ تُسَهِّلَ عَلَيْكُمُ الزَّوْجِيَّةُ أَنْ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهَا فَاتْرُكُوا التَّزَوُّجَ بِهَا، وَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الرَّشِيدَاتِ.
أَقُولُ: وَالرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَقْوَالِ عَائِشَةَ ظَاهِرٌ وَلَا يَظْهَرُ عَلَى رِوَايَةِ الْعَضْلِ، وَهُوَ مَنْعُهُنَّ مِنَ التَّزَوُّجِ إِلَّا أَنْ كَانُوا يَعْتَذِرُونَ عَنِ الْعَضْلِ بِإِرَادَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ، وَيَمْطُلُونَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَا أَيَّدَهُ بِالرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ حَذَرًا عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى أَنْ يُتْلِفَهَا أَوْلِيَاؤُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَزَوَّجُ الْعَشْرَ مِنَ النِّسَاءِ، وَالْأَكْثَرَ، وَالْأَقَلَّ، فَإِذَا صَارَ مُعْدَمًا مَالَ عَلَى مَالِ يَتِيمِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ فَأَنْفَقَهُ، أَوْ تَزَوَّجَ بِهِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ خِفْتُمْ عَلَى أَمْوَالِ أَيْتَامِكُمْ أَنْ تُنْفِقُوهَا فَلَا تَعْدِلُوا فِيهَا مِنْ أَجْلِ حَاجَتِكُمْ إِلَيْهَا لِمَا يَلْزَمُكُمْ مِنْ مُؤَنِ نِسَائِكُمْ، فَلَا تَجَاوَزُوا فِيمَا تَنْكِحُونَ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَإِنْ خِفْتُمْ أَيْضًا مِنَ الْأَرْبَعِ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ، فَاقْتَصِرُوا عَلَى الْوَاحِدَةِ، أَوْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ثُمَّ رُوِيَ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا، وَيَتَغَايَرُونَ فِي الْكَثْرَةِ، وَيُغِيرُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَتَزَوَّجُ بِمَالِ الْيَتِيمِ مَا شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَصَرَ الرِّجَالَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ أَجْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى.
أَقُولُ: إِنَّ الْإِفْضَاءَ بِذَلِكَ إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَدْ جُعِلَ حُجَّةً عَلَى تَقْلِيلِ التَّزَوُّجِ
لِظُهُورِ قُبْحِهِ، وَفِي ذَلِكَ التَّعَدُّدِ مِنَ الْمَضَرَّاتِ الْآنَ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْآيَةِ وَجْهًا ثَالِثًا فَقَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَتَحَوَّبُونَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَلَا يَتَحَوَّبُونَ فِي النِّسَاءِ أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِنَّ، فَقِيلَ لَهُمْ كَمَا
تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَعْضُلُهَا، فَلَا يَتَزَوَّجُهَا وَلَا يُزَوِّجُهَا غَيْرَهُ ".
أَقُولُ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَسُوقَةً فِي الْأَصْلِ لِلْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ حَقِّ يَتَامَى النِّسَاءِ فِي أَمْوَالِهِنَّ، وَأَنْفُسِهِنَّ، وَالْمُرَادُ بِالْيَتَامَى فِيهَا النِّسَاءُ، وَبِالنِّسَاءِ غَيْرُ الْيَتَامَى، أَيْ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أَيْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي يَتَامَى النِّسَاءِ فَتُعَامِلُوهُنَّ كَمَا تُعَامِلُونَ غَيْرَهُنَّ فِي الْمَهْرِ، وَغَيْرِهِ، أَوْ أَحْسَنَ، فَاتْرُكُوا التَّزَوُّجَ بِهِنَّ، وَتَزَوَّجُوا مَا حَلَّ لَكُمْ، أَوْ مَا رَاقَ لَكُمْ، وَحَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ غَيْرِهِنَّ. قَالَ رَبِيعَةُ: اتْرُكُوهُنَّ، فَقَدْ أَحْلَلْتُ لَكُمْ أَرْبَعًا. أَيْ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِهِنَّ حَتَّى لَا يَظْلِمُوهُنَّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ قَوْلَ عَائِشَةَ بِالْمَعْنَى مُخْتَصَرًا: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِذَا أَرَدْتُمُ التَّزَوُّجَ بِالْيَتِيمَةِ وَخِفْتُمْ أَنْ تُسَهِّلَ عَلَيْكُمُ الزَّوْجِيَّةُ أَنْ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهَا فَاتْرُكُوا التَّزَوُّجَ بِهَا، وَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الرَّشِيدَاتِ.
أَقُولُ: وَالرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَقْوَالِ عَائِشَةَ ظَاهِرٌ وَلَا يَظْهَرُ عَلَى رِوَايَةِ الْعَضْلِ، وَهُوَ مَنْعُهُنَّ مِنَ التَّزَوُّجِ إِلَّا أَنْ كَانُوا يَعْتَذِرُونَ عَنِ الْعَضْلِ بِإِرَادَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ، وَيَمْطُلُونَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَا أَيَّدَهُ بِالرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ حَذَرًا عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى أَنْ يُتْلِفَهَا أَوْلِيَاؤُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَزَوَّجُ الْعَشْرَ مِنَ النِّسَاءِ، وَالْأَكْثَرَ، وَالْأَقَلَّ، فَإِذَا صَارَ مُعْدَمًا مَالَ عَلَى مَالِ يَتِيمِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ فَأَنْفَقَهُ، أَوْ تَزَوَّجَ بِهِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ خِفْتُمْ عَلَى أَمْوَالِ أَيْتَامِكُمْ أَنْ تُنْفِقُوهَا فَلَا تَعْدِلُوا فِيهَا مِنْ أَجْلِ حَاجَتِكُمْ إِلَيْهَا لِمَا يَلْزَمُكُمْ مِنْ مُؤَنِ نِسَائِكُمْ، فَلَا تَجَاوَزُوا فِيمَا تَنْكِحُونَ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَإِنْ خِفْتُمْ أَيْضًا مِنَ الْأَرْبَعِ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ، فَاقْتَصِرُوا عَلَى الْوَاحِدَةِ، أَوْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ثُمَّ رُوِيَ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا، وَيَتَغَايَرُونَ فِي الْكَثْرَةِ، وَيُغِيرُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَتَزَوَّجُ بِمَالِ الْيَتِيمِ مَا شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَصَرَ الرِّجَالَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ أَجْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى.
أَقُولُ: إِنَّ الْإِفْضَاءَ بِذَلِكَ إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَدْ جُعِلَ حُجَّةً عَلَى تَقْلِيلِ التَّزَوُّجِ
لِظُهُورِ قُبْحِهِ، وَفِي ذَلِكَ التَّعَدُّدِ مِنَ الْمَضَرَّاتِ الْآنَ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْآيَةِ وَجْهًا ثَالِثًا فَقَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَتَحَوَّبُونَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَلَا يَتَحَوَّبُونَ فِي النِّسَاءِ أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِنَّ، فَقِيلَ لَهُمْ كَمَا
283
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الْيَتَامَى، فَكَذَلِكَ فَخَافُوا فِي النِّسَاءِ أَلَّا تَعْدِلُوا فِيهِنَّ، وَلَا تَنْكِحُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ، وَلَا تَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ خِفْتُمْ أَيْضًا أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الزِّيَادَةِ عَنِ الْوَاحِدَةِ فَلَا تَنْكِحُوا إِلَّا مَا لَا تَخَافُونَ أَنْ تَجُورُوا فِيهِنَّ مِنْ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْكِحُونَ عَشْرًا مِنَ النِّسَاءِ الْأَيَامَى، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ شَأْنَ الْيَتِيمِ، فَتَفَقَّدُوا مِنْ دِينِهِمْ شَأْنَ الْيَتِيمِ، وَتَرَكُوا مَا كَانُوا يَنْكِحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (أَيْ لَمْ يَتَفَقَّدُوهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَتَأَثَّمُوا مِمَّا فِيهِ مِنْ ظُلْمِ النِّسَاءِ) فَقَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَنَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَنْكِحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكِحُونَ عَشْرًا مِنَ النِّسَاءِ، وَنِسَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَنَّهُ وَعَظَهُمْ فِي الْيَتَامَى، وَفِي النِّسَاءِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ، وَمُجَاهِدٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ابْنُ جَرِيرٍ) : وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهَا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ فَخَافُوا فِي النِّسَاءِ فَلَا تَنْكِحُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مَا لَا تَخَافُونَ أَنْ تَجُورُوا فِيهِ مِنْهُنَّ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ، فَإِنْ خِفْتُمُ الْجَوْرَ فِي الْوَاحِدَةِ أَيْضًا فَلَا تَنْكِحُوهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلَّا تَجُورُوا عَلَيْهِنَّ.
قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - افْتَتَحَ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَخَلَطَهَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ. ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِنِ اتَّقَوُا اللهَ فِي ذَلِكَ فَتَحَرَّجُوا فِيهِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّقَاءِ اللهِ، وَالتَّحَرُّجِ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِمْ ظَنُّ التَّحَرُّجِ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، وَأَعْلَمَهُمْ كَيْفَ التَّخَلُّصُ لَهُمْ مِنَ الْجَوْرِ فِيهِنَّ كَمَا عَرَّفَهُمُ الْمُخَلِّصَ مِنَ الْجَوْرِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَقَالَ: انْكِحُوا إِنْ أَمِنْتُمُ الْجَوْرَ فِي النِّسَاءِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا أَبَحْتُ لَكُمْ مِنْهُنَّ، وَحَلَّلْتُهُ، مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ إلخ. مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ آنِفًا، ثُمَّ قَالَ:
فَفِي الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَتَعْدِلُوا فِيهَا، فَكَذَلِكَ فَخَافُوا أَلَّا تُقْسِطُوا فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ فَلَا تَتَزَوَّجُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مَا أَمِنْتُمْ مَعَهُ الْجَوْرَ إلخ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى هُوَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مَعَ ضَمِيمَةِ قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعْدِلُوا فَإِنَّ هَذَا أَفْهَمُ أَنَّ اللَّازِمَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِقْسَاطُ فِي النِّسَاءِ، وَالتَّحْذِيرُ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ابْنُ جَرِيرٍ) : وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهَا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ فَخَافُوا فِي النِّسَاءِ فَلَا تَنْكِحُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مَا لَا تَخَافُونَ أَنْ تَجُورُوا فِيهِ مِنْهُنَّ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ، فَإِنْ خِفْتُمُ الْجَوْرَ فِي الْوَاحِدَةِ أَيْضًا فَلَا تَنْكِحُوهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلَّا تَجُورُوا عَلَيْهِنَّ.
قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - افْتَتَحَ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَخَلَطَهَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ. ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِنِ اتَّقَوُا اللهَ فِي ذَلِكَ فَتَحَرَّجُوا فِيهِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّقَاءِ اللهِ، وَالتَّحَرُّجِ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِمْ ظَنُّ التَّحَرُّجِ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، وَأَعْلَمَهُمْ كَيْفَ التَّخَلُّصُ لَهُمْ مِنَ الْجَوْرِ فِيهِنَّ كَمَا عَرَّفَهُمُ الْمُخَلِّصَ مِنَ الْجَوْرِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَقَالَ: انْكِحُوا إِنْ أَمِنْتُمُ الْجَوْرَ فِي النِّسَاءِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا أَبَحْتُ لَكُمْ مِنْهُنَّ، وَحَلَّلْتُهُ، مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ إلخ. مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ آنِفًا، ثُمَّ قَالَ:
فَفِي الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَتَعْدِلُوا فِيهَا، فَكَذَلِكَ فَخَافُوا أَلَّا تُقْسِطُوا فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ فَلَا تَتَزَوَّجُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مَا أَمِنْتُمْ مَعَهُ الْجَوْرَ إلخ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى هُوَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مَعَ ضَمِيمَةِ قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعْدِلُوا فَإِنَّ هَذَا أَفْهَمُ أَنَّ اللَّازِمَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِقْسَاطُ فِي النِّسَاءِ، وَالتَّحْذِيرُ
284
مِنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ عَدَمُ الْإِقْسَاطِ فِيهِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُخَافَ كَمَا يُخَافُ عَدَمُ الْإِقْسَاطِ فِي الْيَتَامَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ تُغْضِبُ اللهَ، وَتُوجِبُ سَخَطَهُ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِأَوْضَحَ مِمَّا بَيَّنَهُ هُوَ بِهِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ فِي النِّسَاءِ، وَتَقْلِيلُ الْعَدَدِ الَّذِي يُنْكَحُ مِنْهُنَّ مَعَ الثِّقَةِ بِالْعَدْلِ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَسْأَلَةِ فِي ذَاتِهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَتْهُ عَائِشَةُ - وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ - فَمَسْأَلَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ جَاءَتْ بِالتَّبَعِ لَا بِالْأَصَالَةِ. وَكَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ مَنْعُهُمْ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى لِيُنْفِقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمُ الْكَثِيرَاتِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْوُجُوهِ، وَإِنْ قَالَ الرَّازِيُّ إِنَّهُ أَقْرَبُهَا.
وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْمَعَانِي مِنْ قَبِيلِ رَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ مِنْ مَعَانِيهِ، وَاسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، وَالَّذِي يُقَرِّرُهُ كَاتِبُ هَذَا الْكَلَامِ فِي دُرُوسِ التَّفْسِيرِ
دَائِمًا هُوَ أَنْ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ، وَالْجُمَلِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُرْشِدَةً إِلَى إِبْطَالِ كُلِّ تِلْكَ الضَّلَالَاتِ وَالْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّةُ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، وَأَمْرِ النِّسَاءِ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْيَتَامَى بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالتَّزَوُّجِ بِهِنَّ طَمَعًا فِي أَمْوَالِهِنَّ يَأْكُلُهَا الرَّجُلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ عَضْلِهِنَّ لِيَبْقَى الْوَلِيُّ مُتَمَتِّعًا بِمَا لَهُنَّ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ الزَّوْجُ، وَمَنْ ظَلَمَ النِّسَاءَ بِتَزَوُّجِ الْكَثِيرَاتِ مِنْهُنَّ مَعَ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَهِمَهُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ هُنَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَ ذِكْرُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْيَتَامَى، وَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَلَوْ بِوَاسِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَقَالَ: إِنْ أَحْسَسْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمُ الْخَوْفَ مِنْ أَكْلِ مَالِ الزَّوْجَةِ الْيَتِيمَةِ فَعَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَزَوَّجُوا بِهَا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ لَكُمْ مَنْدُوحَةً عَنِ الْيَتَامَى بِمَا أَبَاحَهُ لَكُمْ مِنَ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِنَّ إِلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَلَكِنْ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، أَوِ الزَّوْجَتَيْنِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَلْتَزِمُوا وَاحِدَةً فَقَطْ، وَالْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ يَصْدُقُ بِالظَّنِّ وَالشَّكِّ فِيهِ، بَلْ يَصْدُقُ بِتَوَهُّمِهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَغْتَفِرُ الْوَهْمَ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو مِنْهُ عِلْمٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَالَّذِي يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً، أَوْ أَكْثَرَ هُوَ الَّذِي يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ، بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ ذَلِكَ، وَيَكُونُ التَّرَدُّدُ فِيهِ ضَعِيفًا.
قَالَ: وَلَمَّا قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ فِي النِّسَاءِ، وَتَقْلِيلُ الْعَدَدِ الَّذِي يُنْكَحُ مِنْهُنَّ مَعَ الثِّقَةِ بِالْعَدْلِ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَسْأَلَةِ فِي ذَاتِهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَتْهُ عَائِشَةُ - وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ - فَمَسْأَلَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ جَاءَتْ بِالتَّبَعِ لَا بِالْأَصَالَةِ. وَكَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ مَنْعُهُمْ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى لِيُنْفِقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمُ الْكَثِيرَاتِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْوُجُوهِ، وَإِنْ قَالَ الرَّازِيُّ إِنَّهُ أَقْرَبُهَا.
وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْمَعَانِي مِنْ قَبِيلِ رَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ مِنْ مَعَانِيهِ، وَاسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، وَالَّذِي يُقَرِّرُهُ كَاتِبُ هَذَا الْكَلَامِ فِي دُرُوسِ التَّفْسِيرِ
دَائِمًا هُوَ أَنْ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ، وَالْجُمَلِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُرْشِدَةً إِلَى إِبْطَالِ كُلِّ تِلْكَ الضَّلَالَاتِ وَالْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّةُ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، وَأَمْرِ النِّسَاءِ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْيَتَامَى بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالتَّزَوُّجِ بِهِنَّ طَمَعًا فِي أَمْوَالِهِنَّ يَأْكُلُهَا الرَّجُلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ عَضْلِهِنَّ لِيَبْقَى الْوَلِيُّ مُتَمَتِّعًا بِمَا لَهُنَّ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ الزَّوْجُ، وَمَنْ ظَلَمَ النِّسَاءَ بِتَزَوُّجِ الْكَثِيرَاتِ مِنْهُنَّ مَعَ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَهِمَهُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ هُنَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَ ذِكْرُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْيَتَامَى، وَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَلَوْ بِوَاسِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَقَالَ: إِنْ أَحْسَسْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمُ الْخَوْفَ مِنْ أَكْلِ مَالِ الزَّوْجَةِ الْيَتِيمَةِ فَعَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَزَوَّجُوا بِهَا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ لَكُمْ مَنْدُوحَةً عَنِ الْيَتَامَى بِمَا أَبَاحَهُ لَكُمْ مِنَ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِنَّ إِلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَلَكِنْ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، أَوِ الزَّوْجَتَيْنِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَلْتَزِمُوا وَاحِدَةً فَقَطْ، وَالْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ يَصْدُقُ بِالظَّنِّ وَالشَّكِّ فِيهِ، بَلْ يَصْدُقُ بِتَوَهُّمِهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَغْتَفِرُ الْوَهْمَ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو مِنْهُ عِلْمٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَالَّذِي يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً، أَوْ أَكْثَرَ هُوَ الَّذِي يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ، بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ ذَلِكَ، وَيَكُونُ التَّرَدُّدُ فِيهِ ضَعِيفًا.
قَالَ: وَلَمَّا قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا
285
أَيْ أَقْرَبُ مِنْ عَدَمِ الْجَوْرِ، وَالظُّلْمِ، فَجَعَلَ الْبُعْدَ مِنَ الْجَوْرِ سَبَبًا فِي التَّشْرِيعِ وَهَذَا مُؤَكِّدٌ لِاشْتِرَاطِ الْعَدْلِ، وَوُجُوبِ تَحَرِّيهِ، وَمُنَبِّهٌ إِلَى أَنَّ الْعَدْلَ عَزِيزٌ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [٤: ١٢٩] وَقَدْ يُحْمَلُ هَذَا عَلَى الْعَدْلُ فِي مَيْلِ الْقَلْبِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ مُنْتِجًا عَدَمَ جَوَازِ التَّعَدُّدِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَمَا كَانَ يَظْهَرُ وَجْهُ قَوْلِهِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَاللهُ يَغْفِرُ لِلْعَبْدِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ طَاقَتِهِ مِنْ مَيْلِ قَلْبِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمِيلُ فِي آخِرِ عَهْدِهِ إِلَى عَائِشَةَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ نِسَائِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخُصُّهَا بِشَيْءٍ دُونَهُنَّ. أَيْ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ وَإِذْنِهِنَّ، وَكَانَ
يَقُولُ: اللهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ أَيْ مِنْ مَيْلِ الْقَلْبِ.
قَالَ: فَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَتَيْنِ عَلِمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ مُضَيَّقٌ فِيهِ أَشَدَّ التَّضْيِيقِ كَأَنَّهُ ضَرُورَةٌ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُبَاحُ لِمُحْتَاجِهَا بِشَرْطِ الثِّقَةِ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالْأَمْنِ مِنَ الْجَوْرِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ مَعَ هَذَا التَّضْيِيقِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّعَدُّدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَفَاسِدِ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُرَبِّيَ أُمَّةً فَشَا فِيهَا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ زَوْجَتَانِ لِزَوْجٍ وَاحِدٍ لَا تَسْتَقِيمُ لَهُ حَالٌ، وَلَا يَقُومُ فِيهِ نِظَامٌ، بَلْ يَتَعَاوَنُ الرَّجُلُ مَعَ زَوْجَاتِهِ عَلَى إِفْسَادِ الْبَيْتِ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدُوٌّ لِلْآخَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ الْأَوْلَادُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَمَفْسَدَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ تَنْتَقِلُ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَى الْبُيُوتِ، وَمِنَ الْبُيُوتِ إِلَى الْأُمَّةِ.
قَالَ: كَانَ لِلتَّعَدُّدِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَوَائِدُ أَهَمُّهَا صِلَةُ النَّسَبِ، وَالصِّهْرِ الَّذِي تَقْوَى بِهِ الْعَصَبِيَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الضَّرَرِ مِثْلُ مَا لَهُ الْآنَ ; لِأَنَّ الدِّينَ كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي نُفُوسِ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ، وَكَانَ أَذَى الضَّرَّةِ لَا يَتَجَاوَزُ ضَرَّتَهَا. أَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّ الضَّرَرَ يَنْتَقِلُ مِنْ كُلِّ ضَرَّةٍ إِلَى وَلَدِهَا إِلَى وَالِدِهِ إِلَى سَائِرِ أَقَارِبِهِ، فَهِيَ تُغْرِي بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَالْبَغْضَاءَ: تُغْرِي وَلَدَهَا بِعَدَاوَةِ إِخْوَتِهِ، وَتُغْرِي زَوْجَهَا بِهَضْمِ حُقُوقِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ بِحَمَاقَتِهِ يُطِيعُ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، فَيَدِبُّ الْفَسَادُ فِي الْعَائِلَةِ كُلِّهَا، وَلَوْ شِئْتَ تَفْصِيلَ الرَّزَايَا وَالْمَصَائِبِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لَأَتَيْتُ بِمَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الْمُؤْمِنِينَ، فَمِنْهَا: السَّرِقَةُ، وَالزِّنَا، وَالْكَذِبُ، وَالْخِيَانَةُ، وَالْجُبْنُ، وَالتَّزْوِيرُ، بَلْ مِنْهَا الْقَتْلُ، حَتَّى قَتَلَ الْوَلَدُ وَالِدَهُ، وَالْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَالزَّوْجَةُ زَوْجَهَا، وَالزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، كُلُّ ذَلِكَ وَاقِعٌ ثَابِتٌ فِي الْمَحَاكِمِ ; وَنَاهِيكَ بِتَرْبِيَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ قِيمَةَ الزَّوْجِ وَلَا قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَهِيَ جَاهِلَةٌ بِنَفْسِهَا، وَجَاهِلَةٌ بِدِينِهَا، لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إِلَّا خُرَافَاتٍ وَضَلَالَاتٍ تَلَقَّفَتْهَا مِنْ أَمْثَالِهَا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا كُلُّ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَكُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فَلَوْ تَرَبَّى النِّسَاءُ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً صَحِيحَةً يَكُونُ بِهَا الدِّينُ هُوَ صَاحِبَ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى، عَلَى قُلُوبِهِنَّ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَى الْغَيْرَةِ لَمَا كَانَ هُنَالِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ ضَرَرُهُ قَاصِرًا عَلَيْهِنَّ فِي الْغَالِبِ. أَمَّا وَالْأَمْرُ عَلَى مَا نَرَى، وَنَسْمَعُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْبِيَةِ الْأُمَّةِ مَعَ فُشُوِّ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِيهَا،
يَقُولُ: اللهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ أَيْ مِنْ مَيْلِ الْقَلْبِ.
قَالَ: فَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَتَيْنِ عَلِمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ مُضَيَّقٌ فِيهِ أَشَدَّ التَّضْيِيقِ كَأَنَّهُ ضَرُورَةٌ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُبَاحُ لِمُحْتَاجِهَا بِشَرْطِ الثِّقَةِ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالْأَمْنِ مِنَ الْجَوْرِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ مَعَ هَذَا التَّضْيِيقِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّعَدُّدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَفَاسِدِ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُرَبِّيَ أُمَّةً فَشَا فِيهَا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ زَوْجَتَانِ لِزَوْجٍ وَاحِدٍ لَا تَسْتَقِيمُ لَهُ حَالٌ، وَلَا يَقُومُ فِيهِ نِظَامٌ، بَلْ يَتَعَاوَنُ الرَّجُلُ مَعَ زَوْجَاتِهِ عَلَى إِفْسَادِ الْبَيْتِ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدُوٌّ لِلْآخَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ الْأَوْلَادُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَمَفْسَدَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ تَنْتَقِلُ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَى الْبُيُوتِ، وَمِنَ الْبُيُوتِ إِلَى الْأُمَّةِ.
قَالَ: كَانَ لِلتَّعَدُّدِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَوَائِدُ أَهَمُّهَا صِلَةُ النَّسَبِ، وَالصِّهْرِ الَّذِي تَقْوَى بِهِ الْعَصَبِيَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الضَّرَرِ مِثْلُ مَا لَهُ الْآنَ ; لِأَنَّ الدِّينَ كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي نُفُوسِ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ، وَكَانَ أَذَى الضَّرَّةِ لَا يَتَجَاوَزُ ضَرَّتَهَا. أَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّ الضَّرَرَ يَنْتَقِلُ مِنْ كُلِّ ضَرَّةٍ إِلَى وَلَدِهَا إِلَى وَالِدِهِ إِلَى سَائِرِ أَقَارِبِهِ، فَهِيَ تُغْرِي بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَالْبَغْضَاءَ: تُغْرِي وَلَدَهَا بِعَدَاوَةِ إِخْوَتِهِ، وَتُغْرِي زَوْجَهَا بِهَضْمِ حُقُوقِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ بِحَمَاقَتِهِ يُطِيعُ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، فَيَدِبُّ الْفَسَادُ فِي الْعَائِلَةِ كُلِّهَا، وَلَوْ شِئْتَ تَفْصِيلَ الرَّزَايَا وَالْمَصَائِبِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لَأَتَيْتُ بِمَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الْمُؤْمِنِينَ، فَمِنْهَا: السَّرِقَةُ، وَالزِّنَا، وَالْكَذِبُ، وَالْخِيَانَةُ، وَالْجُبْنُ، وَالتَّزْوِيرُ، بَلْ مِنْهَا الْقَتْلُ، حَتَّى قَتَلَ الْوَلَدُ وَالِدَهُ، وَالْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَالزَّوْجَةُ زَوْجَهَا، وَالزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، كُلُّ ذَلِكَ وَاقِعٌ ثَابِتٌ فِي الْمَحَاكِمِ ; وَنَاهِيكَ بِتَرْبِيَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ قِيمَةَ الزَّوْجِ وَلَا قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَهِيَ جَاهِلَةٌ بِنَفْسِهَا، وَجَاهِلَةٌ بِدِينِهَا، لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إِلَّا خُرَافَاتٍ وَضَلَالَاتٍ تَلَقَّفَتْهَا مِنْ أَمْثَالِهَا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا كُلُّ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَكُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فَلَوْ تَرَبَّى النِّسَاءُ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً صَحِيحَةً يَكُونُ بِهَا الدِّينُ هُوَ صَاحِبَ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى، عَلَى قُلُوبِهِنَّ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَى الْغَيْرَةِ لَمَا كَانَ هُنَالِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ ضَرَرُهُ قَاصِرًا عَلَيْهِنَّ فِي الْغَالِبِ. أَمَّا وَالْأَمْرُ عَلَى مَا نَرَى، وَنَسْمَعُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْبِيَةِ الْأُمَّةِ مَعَ فُشُوِّ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِيهَا،
286
فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا الْحَنَفِيَّةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ بِيَدِهِمُ الْأَمْرُ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمُ
الْحُكْمُ، فَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الدِّينَ أُنْزِلَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَخَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مِنْ أُصُولِهِ مَنْعَ الضَّرَرِ، وَالضِّرَارِ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَى شَيْءٍ مَفْسَدَةٌ فِي زَمَنٍ لَمْ تَكُنْ تَلْحَقُهُ فِيمَا قَبْلَهُ فَشَكَّ فِي وُجُوبِ تَغَيُّرِ الْحُكْمِ، وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ: يَعْنِي عَلَى قَاعِدَةِ (دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ). قَالَ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ.
هَذَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ الْأَوَّلِ الَّذِي فَسَّرَ فِيهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ فِي الدَّرْسِ الثَّانِي: تَقَدَّمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مُضَيَّقَةٌ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهَا مَا يَصْعُبُ تَحَقُّقُهُ فَكَأَنَّهُ نَهَى عَنْ كَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا، أَوْ فَاسِدًا، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ عَارِضَةٌ لَا تَقْتَضِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ، فَقَدْ يَخَافُ الظُّلْمَ، وَلَا يَظْلِمُ، ثُمَّ يَتُوبُ فَيَعْدِلُ فَيَعِيشُ عِيشَةً حَلَالًا.
قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَاحِدَةً أَيْ فَالْزَمُوا زَوْجًا وَاحِدَةً، أَوْ أَمْسِكُوا زَوْجًا وَاحِدَةً مَعَ الْعَدْلِ - وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا كَثِيرَاتٍ - أَوِ الْزَمُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاكْتَفُوا بِالتَّسَرِّي بِهِنَّ بِغَيْرِ شَرْطٍ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْعَوْلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ، فَإِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْفِرَاشِ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذْ لَا حَقَّ لَهُنَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَهُنَّ الْحَقُّ فِي الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ. وَهَذَا لَا يُفِيدُ حِلَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي التَّمَتُّعِ بِالْجَوَارِي الْمَمْلُوكَاتِ بِحَقٍّ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، مَهْمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَمَا شُوهِدَ، وَلَا يَزَالُ يُشَاهَدُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ إِلَى الْآنَ انْتَهَى كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي سَمِعْتُ مِنْهُ أَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الزِّيَادَةِ فِي الْإِمَاءِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عِنْدِي.
أَقُولُ: هَذَا، وَإِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ الطَّبِيعِيِّ فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ يَكُونُ بِهَا كَمَا تَكُونُ بِهِ زَوْجًا، وَلَكِنَّهُ ضَرُورَةٌ تَعْرِضُ لِلِاجْتِمَاعِ، وَلَاسِيَّمَا فِي الْأُمَمِ الْحَرْبِيَّةِ كَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَهُوَ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، وَاشْتُرِطَ فِيهِ عَدَمُ الْجَوْرِ، وَالظُّلْمِ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبَاحِثُ أُخْرَى كَبَحْثِ حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ، وَالْعَدَدِ، وَبَحْثِ إِمْكَانِ مَنْعِ الْحُكَّامِ لِمَفَاسِدِ التَّعَدُّدِ بِالتَّضْيِيقِ فِيهِ إِذَا عَمَّ ضَرَرُهُ كَمَا هِيَ الْحَالُ فِي الْبِلَادِ
الْمِصْرِيَّةِ كَمَا يُقَالُ، فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ يَكْثُرُونَ هُنَا مَا لَا يَكْثُرُونَ فِي بِلَادِ الشَّامِ، وَبِلَادِ التُّرْكِ مَعَ كَوْنِ الْأَخْلَاقِ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْهَا هُنَاكَ فِي الْغَالِبِ. وَلَنَا فِي حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ فَتْوَى نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ هَذَا نَصُّهَا.
الْحُكْمُ، فَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الدِّينَ أُنْزِلَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَخَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مِنْ أُصُولِهِ مَنْعَ الضَّرَرِ، وَالضِّرَارِ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَى شَيْءٍ مَفْسَدَةٌ فِي زَمَنٍ لَمْ تَكُنْ تَلْحَقُهُ فِيمَا قَبْلَهُ فَشَكَّ فِي وُجُوبِ تَغَيُّرِ الْحُكْمِ، وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ: يَعْنِي عَلَى قَاعِدَةِ (دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ). قَالَ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ.
هَذَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ الْأَوَّلِ الَّذِي فَسَّرَ فِيهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ فِي الدَّرْسِ الثَّانِي: تَقَدَّمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مُضَيَّقَةٌ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهَا مَا يَصْعُبُ تَحَقُّقُهُ فَكَأَنَّهُ نَهَى عَنْ كَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا، أَوْ فَاسِدًا، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ عَارِضَةٌ لَا تَقْتَضِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ، فَقَدْ يَخَافُ الظُّلْمَ، وَلَا يَظْلِمُ، ثُمَّ يَتُوبُ فَيَعْدِلُ فَيَعِيشُ عِيشَةً حَلَالًا.
قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَاحِدَةً أَيْ فَالْزَمُوا زَوْجًا وَاحِدَةً، أَوْ أَمْسِكُوا زَوْجًا وَاحِدَةً مَعَ الْعَدْلِ - وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا كَثِيرَاتٍ - أَوِ الْزَمُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاكْتَفُوا بِالتَّسَرِّي بِهِنَّ بِغَيْرِ شَرْطٍ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْعَوْلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ، فَإِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْفِرَاشِ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذْ لَا حَقَّ لَهُنَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَهُنَّ الْحَقُّ فِي الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ. وَهَذَا لَا يُفِيدُ حِلَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي التَّمَتُّعِ بِالْجَوَارِي الْمَمْلُوكَاتِ بِحَقٍّ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، مَهْمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَمَا شُوهِدَ، وَلَا يَزَالُ يُشَاهَدُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ إِلَى الْآنَ انْتَهَى كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي سَمِعْتُ مِنْهُ أَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الزِّيَادَةِ فِي الْإِمَاءِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عِنْدِي.
أَقُولُ: هَذَا، وَإِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ الطَّبِيعِيِّ فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ يَكُونُ بِهَا كَمَا تَكُونُ بِهِ زَوْجًا، وَلَكِنَّهُ ضَرُورَةٌ تَعْرِضُ لِلِاجْتِمَاعِ، وَلَاسِيَّمَا فِي الْأُمَمِ الْحَرْبِيَّةِ كَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَهُوَ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، وَاشْتُرِطَ فِيهِ عَدَمُ الْجَوْرِ، وَالظُّلْمِ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبَاحِثُ أُخْرَى كَبَحْثِ حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ، وَالْعَدَدِ، وَبَحْثِ إِمْكَانِ مَنْعِ الْحُكَّامِ لِمَفَاسِدِ التَّعَدُّدِ بِالتَّضْيِيقِ فِيهِ إِذَا عَمَّ ضَرَرُهُ كَمَا هِيَ الْحَالُ فِي الْبِلَادِ
الْمِصْرِيَّةِ كَمَا يُقَالُ، فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ يَكْثُرُونَ هُنَا مَا لَا يَكْثُرُونَ فِي بِلَادِ الشَّامِ، وَبِلَادِ التُّرْكِ مَعَ كَوْنِ الْأَخْلَاقِ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْهَا هُنَاكَ فِي الْغَالِبِ. وَلَنَا فِي حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ فَتْوَى نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ هَذَا نَصُّهَا.
287
(حِكْمَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ) (س ٢٠ مِنْ نَجِيبٍ أَفَنْدِي قِنَاوِيٍّ أَحَدِ طَلَبَةِ الطِّبِّ فِي أَمْرِيكَا: يَسْأَلُنِي كَثِيرٌ مِنْ أَطِبَّاءِ الْأَمِرِيكَانِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَيَقُولُونَ: كَيْفَ يَجْمَعُ الْمُسْلِمُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ نِسْوَةٍ؟ فَأَجَبْتُهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَهِمْتُ مِنَ الْآيَةِ مُدَافَعَةً عَنْ دِينِي وَقُلْتُ: إِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّهُ عِنْدَمَا يَتَزَوَّجُ الْجَدِيدَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكْرَهَ الْقَدِيمَةَ، فَكَيْفَ يَعْدِلُ بَيْنَهُمَا، وَاللهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، فَالْأَحْسَنُ وَاحِدَةٌ، هَذَا مَا قُلْتُهُ وَرُبَّمَا أَقْنَعَهُمْ، وَلَكِنْ أُرِيدُ مِنْكُمُ التَّفْسِيرَ وَتَوْضِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا قَوْلُكُمْ فِي الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا؟.
(ج) إِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ يَرَوْنَ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الْأَزْوَاجِ أَكْبَرَ قَادِحٍ فِي الْإِسْلَامِ مُتَأَثِّرِينَ بِعَادَاتِهِمْ، وَتَقْلِيدِهِمُ الدِّينِيِّ، وَغُلُوِّهِمْ فِي تَعْظِيمِ النِّسَاءِ، وَبِمَا يَسْمَعُونَ وَيَعْلَمُونَ عَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ عِدَّةَ زَوْجَاتٍ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ الْحَيَوَانِيِّ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِمَا قَيَّدَ الْقُرْآنُ بِهِ جَوَازَ ذَلِكَ، وَبِمَا يُعْطِيهِ النَّظَرُ مِنْ فَسَادِ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ، وَزَوْجَاتٍ لَهُنَّ أَوْلَادٌ يَتَحَاسَدُونَ، وَيَتَنَازَعُونَ، وَيَتَبَاغَضُونَ. وَلَا يَكْفِي مِثْلُ هَذَا النَّظَرِ لِلْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ كُبْرَى كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ لَا بُدَّ قَبْلَ الْحُكْمِ مِنَ النَّظَرِ فِي طَبِيعَةِ الرَّجُلِ، وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ، وَالْغَرَضِ مِنْهَا، وَفِي عَدَدِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ فِي الْأُمَمِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَعِيشَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ، وَكَفَالَةِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، أَوِ الْعَكْسِ، أَوِ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِنَفْسِهِ، وَفِي تَارِيخِ النُّشُوءِ الْبَشَرِيِّ لِيُعْلَمَ هَلْ كَانَ النَّاسُ فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ يَكْتَفُونَ بِأَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَنْظُرُ هَلْ جَعَلَ الْقُرْآنُ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَمْرًا دِينِيًّا مَطْلُوبًا، أَمْ رُخْصَةً تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِشُرُوطٍ مُضَيَّقٍ فِيهَا؟
أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ أَعْرَفُ النَّاسِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ طَبِيعَةِ الرَّجُلِ
وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ، وَأَهَمِّ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا، وَمِمَّا نَعْلَمُ نَحْنُ بِالْإِجْمَالِ أَنَّ الرَّجُلَ بِطَبِيعَتِهِ أَكْثَرُ طَلَبًا لِلْأُنْثَى مِنْهَا لَهُ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ رَجُلٌ عِنِّينٌ لَا يَطْلُبُ النِّسَاءَ بِطَبِيعَتِهِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَطْلُبْنَ الرِّجَالَ بِطَبِيعَتِهِنَّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُغْرَمَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَحْبُوبَةً مِنَ الرَّجُلِ، وَكَثِيرَةُ التَّفَكُّرِ فِي الْحُظْوَةِ عِنْدَهُ لَوُجِدَ فِي النِّسَاءِ مِنَ الزَّاهِدَاتِ فِي التَّزَوُّجِ أَضْعَافُ مَا يُوجَدُ الْآنَ. وَهَذَا الْغَرَامُ فِي الْمَرْأَةِ هُوَ غَيْرُ الْمَيْلِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ الطَّبِيعِيَّةِ فِيهَا، وَفِي الرَّجُلِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْعَجُوزَ، وَالَّتِي لَا تَرْجُو زَوَاجًا عَلَى التَّزَيُّنِ بِمِثْلِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْعَذْرَاءُ الْمُعَرِّضَةُ، وَالسَّبَبُ عِنْدِي فِي هَذَا مُعْظَمُهُ اجْتِمَاعِيٌّ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي طَبِيعَةِ النِّسَاءِ، وَاعْتِقَادِهِنَّ الْقُرُونَ الطَّوِيلَةَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى حِمَايَةِ الرِّجَالِ، وَكَفَالَتِهِمْ وَكَوْنِ عِنَايَةِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى قَدْرِ حُظْوَتِهَا عِنْدَهُ، وَمَيْلِهِ إِلَيْهَا، أَحَسَّ النِّسَاءُ بِهَذَا فِي الْأَجْيَالِ الْفِطْرِيَّةِ فَعَمَلْنَ لَهُ حَتَّى صَارَ مَلَكَةً مَوْرُوثَةً فِيهِنَّ حَتَّى
(ج) إِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ يَرَوْنَ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الْأَزْوَاجِ أَكْبَرَ قَادِحٍ فِي الْإِسْلَامِ مُتَأَثِّرِينَ بِعَادَاتِهِمْ، وَتَقْلِيدِهِمُ الدِّينِيِّ، وَغُلُوِّهِمْ فِي تَعْظِيمِ النِّسَاءِ، وَبِمَا يَسْمَعُونَ وَيَعْلَمُونَ عَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ عِدَّةَ زَوْجَاتٍ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ الْحَيَوَانِيِّ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِمَا قَيَّدَ الْقُرْآنُ بِهِ جَوَازَ ذَلِكَ، وَبِمَا يُعْطِيهِ النَّظَرُ مِنْ فَسَادِ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ، وَزَوْجَاتٍ لَهُنَّ أَوْلَادٌ يَتَحَاسَدُونَ، وَيَتَنَازَعُونَ، وَيَتَبَاغَضُونَ. وَلَا يَكْفِي مِثْلُ هَذَا النَّظَرِ لِلْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ كُبْرَى كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ لَا بُدَّ قَبْلَ الْحُكْمِ مِنَ النَّظَرِ فِي طَبِيعَةِ الرَّجُلِ، وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ، وَالْغَرَضِ مِنْهَا، وَفِي عَدَدِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ فِي الْأُمَمِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَعِيشَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ، وَكَفَالَةِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، أَوِ الْعَكْسِ، أَوِ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِنَفْسِهِ، وَفِي تَارِيخِ النُّشُوءِ الْبَشَرِيِّ لِيُعْلَمَ هَلْ كَانَ النَّاسُ فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ يَكْتَفُونَ بِأَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَنْظُرُ هَلْ جَعَلَ الْقُرْآنُ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَمْرًا دِينِيًّا مَطْلُوبًا، أَمْ رُخْصَةً تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِشُرُوطٍ مُضَيَّقٍ فِيهَا؟
أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ أَعْرَفُ النَّاسِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ طَبِيعَةِ الرَّجُلِ
وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ، وَأَهَمِّ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا، وَمِمَّا نَعْلَمُ نَحْنُ بِالْإِجْمَالِ أَنَّ الرَّجُلَ بِطَبِيعَتِهِ أَكْثَرُ طَلَبًا لِلْأُنْثَى مِنْهَا لَهُ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ رَجُلٌ عِنِّينٌ لَا يَطْلُبُ النِّسَاءَ بِطَبِيعَتِهِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَطْلُبْنَ الرِّجَالَ بِطَبِيعَتِهِنَّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُغْرَمَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَحْبُوبَةً مِنَ الرَّجُلِ، وَكَثِيرَةُ التَّفَكُّرِ فِي الْحُظْوَةِ عِنْدَهُ لَوُجِدَ فِي النِّسَاءِ مِنَ الزَّاهِدَاتِ فِي التَّزَوُّجِ أَضْعَافُ مَا يُوجَدُ الْآنَ. وَهَذَا الْغَرَامُ فِي الْمَرْأَةِ هُوَ غَيْرُ الْمَيْلِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ الطَّبِيعِيَّةِ فِيهَا، وَفِي الرَّجُلِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْعَجُوزَ، وَالَّتِي لَا تَرْجُو زَوَاجًا عَلَى التَّزَيُّنِ بِمِثْلِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْعَذْرَاءُ الْمُعَرِّضَةُ، وَالسَّبَبُ عِنْدِي فِي هَذَا مُعْظَمُهُ اجْتِمَاعِيٌّ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي طَبِيعَةِ النِّسَاءِ، وَاعْتِقَادِهِنَّ الْقُرُونَ الطَّوِيلَةَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى حِمَايَةِ الرِّجَالِ، وَكَفَالَتِهِمْ وَكَوْنِ عِنَايَةِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى قَدْرِ حُظْوَتِهَا عِنْدَهُ، وَمَيْلِهِ إِلَيْهَا، أَحَسَّ النِّسَاءُ بِهَذَا فِي الْأَجْيَالِ الْفِطْرِيَّةِ فَعَمَلْنَ لَهُ حَتَّى صَارَ مَلَكَةً مَوْرُوثَةً فِيهِنَّ حَتَّى
288
إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُبْغِضُ الرَّجُلَ، وَيُؤْلِمُهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهَا، وَيَمْتَهِنَهَا، وَإِنَّهُنَّ لَيَأْلَمْنَ أَنْ يَرَيْنَ رَجُلًا - وَلَوْ شَيْخًا كَبِيرًا أَوْ رَاهِبًا مُتَبَتِّلًا - لَا يَمِيلُ إِلَى النِّسَاءِ، وَلَا يَخْضَعُ لِسِحْرِهِنَّ، وَيَسْتَجِيبُ لِرُقْيَتِهِنَّ. وَنَتِيجَةُ هَذَا أَنَّ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِي الرَّجُلِ أَقْوَى مِنْهَا فِي الْمَرْأَةِ، فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ أُولَى.
ثُمَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي مَيْلِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى إِلَى الْآخَرِ الْمَيْلَ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الزَّوَاجِ هِيَ التَّنَاسُلُ الَّذِي يُحْفَظُ بِهِ النَّوْعُ، كَمَا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي شَهْوَةِ التَّغَذِّي هِيَ حِفْظُ الشَّخْصِ. وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِلنَّسْلِ نِصْفَ الْعُمُرِ الطَّبِيعِيِّ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قُوَّةَ الْمَرْأَةِ تَضْعُفُ عَنِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ فِي الْغَالِبِ، فَيَنْقَطِعُ دَمُ حَيْضِهَا وَبُوَيْضَاتُ التَّنَاسُلِ مِنْ رَحِمِهَا، وَالْحِكْمَةُ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالْأَطِبَّاءُ أَعْلَمُ بِتَفْصِيلِهَا، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ نِصْفُ عُمُرِ الرِّجَالِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْأُمَّةِ مُعَطَّلًا مِنَ النَّسْلِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الزَّوَاجِ، إِذَا فُرِضَ أَنَّ الرَّجُلَ يَقْتَرِنُ بِمَنْ تُسَاوِيهِ فِي السِّنِّ، وَقَدْ يَضِيعُ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَاشَ الْعُمُرَ الطَّبِيعِيَّ كَمَا يَضِيعُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَضِيعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عُمُرِهِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ، وَهُوَ فِي سِنِّ الْخَمْسِينَ بِمَنْ هِيَ فِي الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ يَضِيعُ عَلَيْهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَرَضٍ،
أَوْ هَرَمٍ عَاجِلٍ، أَوْ مَوْتٍ قَبْلَ بُلُوغِ السِّنِّ الطَّبِيعِيِّ يَطْرَأُ مِثْلُهُ عَلَى النِّسَاءِ قَبْلَ سِنِّ الْيَأْسِ، وَقَدْ لَاحَظَ هَذَا الْفَرْقَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَالَ: لَوْ تَرَكْنَا رَجُلًا وَاحِدًا مَعَ مِائَةِ امْرَأَةٍ سَنَةً وَاحِدَةً لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِ فِي السَّنَةِ مِائَةُ إِنْسَانٍ، وَأَمَّا إِذَا تَرَكْنَا مِائَةَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةً كَامِلَةً فَأَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِمْ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَا تُنْتِجُ أَحَدًا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ يُفْسِدُ حَرْثَ الْآخَرِ. وَمَنْ لَاحَظَ عِظَمَ شَأْنِ كَثْرَةِ النَّسْلِ فِي سُنَّةِ الطَّبِيعَةِ، وَفِي حَالِ الْأُمَمِ يَظْهَرُ لَهُ عِظَمُ شَأْنِ هَذَا الْفَرْقِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَانِيَةٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَوَالِيدَ مِنَ الْإِنَاثِ أَكْثَرُ مِنَ الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ تَرَى الرِّجَالَ عَلَى كَوْنِهِمْ أَقَلَّ مِنَ النِّسَاءِ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنِ التَّزَوُّجِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلنِّسَاءِ، وَمُعْظَمُ ذَلِكَ فِي الْجُنْدِيَّةِ وَالْحُرُوبِ، وَفِي الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الزَّوَاجِ، وَنَفَقَاتِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي أَصْلِ نِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَفِيمَا جَرَتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ الشُّعُوبِ، وَالْأُمَمِ إِلَّا مَا شَذَّ، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ الْمُسْتَعِدِّ لِلزَّوَاجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ اضْطَرَّتِ الْحَالُ إِلَى تَعْطِيلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ النَّسْلِ الَّذِي تَطْلُبُهُ الطَّبِيعَةُ وَالْأُمَّةُ مِنْهُنَّ وَإِلَى إِلْزَامِهِنَّ مُجَاهَدَةَ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِي طَبِيعَتِهِنَّ، وَذَلِكَ يُحْدِثُ أَمْرَاضًا بَدَنِيَّةً، وَعَقْلِيَّةً كَثِيرَةً يُمْسِي بِهَا أُولَئِكَ الْمِسْكِينَاتُ
ثُمَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي مَيْلِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى إِلَى الْآخَرِ الْمَيْلَ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الزَّوَاجِ هِيَ التَّنَاسُلُ الَّذِي يُحْفَظُ بِهِ النَّوْعُ، كَمَا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي شَهْوَةِ التَّغَذِّي هِيَ حِفْظُ الشَّخْصِ. وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِلنَّسْلِ نِصْفَ الْعُمُرِ الطَّبِيعِيِّ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قُوَّةَ الْمَرْأَةِ تَضْعُفُ عَنِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ فِي الْغَالِبِ، فَيَنْقَطِعُ دَمُ حَيْضِهَا وَبُوَيْضَاتُ التَّنَاسُلِ مِنْ رَحِمِهَا، وَالْحِكْمَةُ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالْأَطِبَّاءُ أَعْلَمُ بِتَفْصِيلِهَا، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ نِصْفُ عُمُرِ الرِّجَالِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْأُمَّةِ مُعَطَّلًا مِنَ النَّسْلِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الزَّوَاجِ، إِذَا فُرِضَ أَنَّ الرَّجُلَ يَقْتَرِنُ بِمَنْ تُسَاوِيهِ فِي السِّنِّ، وَقَدْ يَضِيعُ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَاشَ الْعُمُرَ الطَّبِيعِيَّ كَمَا يَضِيعُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَضِيعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عُمُرِهِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ، وَهُوَ فِي سِنِّ الْخَمْسِينَ بِمَنْ هِيَ فِي الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ يَضِيعُ عَلَيْهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَرَضٍ،
أَوْ هَرَمٍ عَاجِلٍ، أَوْ مَوْتٍ قَبْلَ بُلُوغِ السِّنِّ الطَّبِيعِيِّ يَطْرَأُ مِثْلُهُ عَلَى النِّسَاءِ قَبْلَ سِنِّ الْيَأْسِ، وَقَدْ لَاحَظَ هَذَا الْفَرْقَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَالَ: لَوْ تَرَكْنَا رَجُلًا وَاحِدًا مَعَ مِائَةِ امْرَأَةٍ سَنَةً وَاحِدَةً لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِ فِي السَّنَةِ مِائَةُ إِنْسَانٍ، وَأَمَّا إِذَا تَرَكْنَا مِائَةَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةً كَامِلَةً فَأَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِمْ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَا تُنْتِجُ أَحَدًا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ يُفْسِدُ حَرْثَ الْآخَرِ. وَمَنْ لَاحَظَ عِظَمَ شَأْنِ كَثْرَةِ النَّسْلِ فِي سُنَّةِ الطَّبِيعَةِ، وَفِي حَالِ الْأُمَمِ يَظْهَرُ لَهُ عِظَمُ شَأْنِ هَذَا الْفَرْقِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَانِيَةٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَوَالِيدَ مِنَ الْإِنَاثِ أَكْثَرُ مِنَ الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ تَرَى الرِّجَالَ عَلَى كَوْنِهِمْ أَقَلَّ مِنَ النِّسَاءِ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنِ التَّزَوُّجِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلنِّسَاءِ، وَمُعْظَمُ ذَلِكَ فِي الْجُنْدِيَّةِ وَالْحُرُوبِ، وَفِي الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الزَّوَاجِ، وَنَفَقَاتِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي أَصْلِ نِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَفِيمَا جَرَتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ الشُّعُوبِ، وَالْأُمَمِ إِلَّا مَا شَذَّ، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ الْمُسْتَعِدِّ لِلزَّوَاجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ اضْطَرَّتِ الْحَالُ إِلَى تَعْطِيلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ النَّسْلِ الَّذِي تَطْلُبُهُ الطَّبِيعَةُ وَالْأُمَّةُ مِنْهُنَّ وَإِلَى إِلْزَامِهِنَّ مُجَاهَدَةَ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِي طَبِيعَتِهِنَّ، وَذَلِكَ يُحْدِثُ أَمْرَاضًا بَدَنِيَّةً، وَعَقْلِيَّةً كَثِيرَةً يُمْسِي بِهَا أُولَئِكَ الْمِسْكِينَاتُ
289
عَالَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَبَلَاءً فِيهَا بَعْدَ أَنْ كُنَّ نِعْمَةً لَهَا، أَوْ إِلَى إِبَاحَةِ أَعْرَاضِهِنَّ وَالرِّضَا بِالسِّفَاحِ.
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِنَّ - لَا سِيَّمَا إِذَا كُنَّ فَقِيرَاتٍ - مَا لَا يَرْضَى بِهِ ذُو إِحْسَاسٍ بَشَرِيٍّ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ هَذِهِ الْمَصَائِبَ قَدِ انْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ حَتَّى أَعْيَا النَّاسَ أَمْرُهَا، وَطَفِقَ أَهْلُ الْبَحْثِ يَنْظُرُونَ فِي طَرِيقِ عِلَاجِهَا فَظَهَرَ لِبَعْضِهِمْ أَنَّ الْعِلَاجَ الْوَحِيدَ هُوَ إِبَاحَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ.
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنِ ارْتَأَى هَذَا الرَّأْيَ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ، وَقَدْ نَقَلْنَا ذَلِكَ عَنْهُنَّ فِي مَقَالَةٍ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ (تُرَاجَعُ فِي ص٧٤١ مِنْهُ)، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا عَجِيبًا لِأَنَّ النِّسَاءَ يَنْفِرْنَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ طَبْعًا، وَهُنَّ يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى الشُّعُورِ، وَالْوِجْدَانِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى
الْمَصْلَحَةِ، وَالْبُرْهَانِ، بَلْ إِنَّ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ صَارَتْ مَسْأَلَةً وِجْدَانِيَّةً عِنْدَ رِجَالِ الْإِفْرِنْجِ تَبَعًا لِنِسَائِهِمْ حَتَّى لَا تَجِدَ الْفَيْلَسُوفَ مِنْهُمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبْحَثَ فِي فَوَائِدِهَا، وَفِي وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا بَحْثَ بَرِيءٍ مِنَ الْغَرَضِ - طَالِبٍ كَشْفَ الْحَقِيقَةِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَالِثَةٌ.
وَأَنْتَقِلُ بِكَ مِنْ هَذَا إِلَى اكْتِنَاهِ حَالِ الْمَعِيشَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَأُشْرِفُ بِكَ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكَافِلَ لِلْمَرْأَةِ، وَسَيِّدَ الْمَنْزِلِ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ، وَعَقْلِهِ، وَكَوْنِهِ أَقْدَرَ عَلَى الْكَسْبِ، وَالدِّفَاعِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [٤: ٣٤] وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُدَبِّرَةَ الْمَنْزِلِ، وَمُرَبِّيَةَ الْأَوْلَادِ لِرِقَّتِهَا، وَصَبْرِهَا، وَكَوْنِهَا كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ وَاسِطَةً فِي الْإِحْسَاسِ وَالتَّعَقُّلِ بَيْنَ الرَّجُلِ، وَالطِّفْلِ، فَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً لِنَقْلِ الطِّفْلِ الذَّكَرِ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلرُّجُولَةِ وَلِجَعْلِ الْبِنْتِ كَمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اللُّطْفِ وَالدَّعَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِعَمَلِهَا الطَّبِيعِيِّ.
وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الْبَيْتَ مَمْلَكَةٌ صُغْرَى كَمَا أَنَّ مَجْمُوعَ الْبُيُوتِ هُوَ الْمَمْلَكَةُ الْكُبْرَى، فَلِلْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ إِدَارَةُ نِظَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ، وَلِلرَّجُلِ مَعَ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ إِدَارَةُ نِظَارَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْأَشْغَالِ الْعُمُومِيَّةِ، وَالْحَرْبِيَّةِ، وَالْخَارِجِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ نِظَامِ الْفِطْرَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَيِّمَةَ الْبَيْتِ، وَعَمَلُهَا مَحْصُورًا فِيهِ لِضَعْفِهَا عَنِ الْعَمَلِ الْآخَرِ بِطَبِيعَتِهَا، وَبِمَا يَعُوقُهَا مِنَ الْحَبَلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَمُدَارَاةِ الْأَطْفَالِ، وَكَانَتْ بِذَلِكَ عَالَةً عَلَى الرَّجُلِ كَانَ مِنَ الشَّطَطِ تَكْلِيفُهَا الْمَعِيشَةَ الِاسْتِقْلَالِيَّةَ بَلْهَ السِّيَادَةَ، وَالْقِيَامَ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَمَاذَا نَعْمَلُ، وَالنِّسَاءُ (قَدْ يَكُنَّ) أَكْثَرَ مِنَ الرِّجَالِ عَدَدًا؟ أَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُبَاحَ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَفَالَةُ عِدَّةِ نِسَاءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِي أَعْقَابِ الْحُرُوبِ الَّتِي تَجْتَاحُ الرِّجَالَ، وَتَدَعُ النِّسَاءَ لَا كَافِلَ لِلْكَثِيرِ مِنْهُنَّ وَلَا نَصِيرَ؟ وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ فِي خَارِجِ الْمَنْزِلِ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى أَعْمَالِهِ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّ الْمَنْزِلَ لَا يَشْمَلُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى مُسَاعَدَةٍ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَعْمَالِهَا الْكَثِيرَةِ كَمَا تَقْضِي قَوَاعِدُ عِلْمِ
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِنَّ - لَا سِيَّمَا إِذَا كُنَّ فَقِيرَاتٍ - مَا لَا يَرْضَى بِهِ ذُو إِحْسَاسٍ بَشَرِيٍّ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ هَذِهِ الْمَصَائِبَ قَدِ انْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ حَتَّى أَعْيَا النَّاسَ أَمْرُهَا، وَطَفِقَ أَهْلُ الْبَحْثِ يَنْظُرُونَ فِي طَرِيقِ عِلَاجِهَا فَظَهَرَ لِبَعْضِهِمْ أَنَّ الْعِلَاجَ الْوَحِيدَ هُوَ إِبَاحَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ.
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنِ ارْتَأَى هَذَا الرَّأْيَ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ، وَقَدْ نَقَلْنَا ذَلِكَ عَنْهُنَّ فِي مَقَالَةٍ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ (تُرَاجَعُ فِي ص٧٤١ مِنْهُ)، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا عَجِيبًا لِأَنَّ النِّسَاءَ يَنْفِرْنَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ طَبْعًا، وَهُنَّ يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى الشُّعُورِ، وَالْوِجْدَانِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى
الْمَصْلَحَةِ، وَالْبُرْهَانِ، بَلْ إِنَّ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ صَارَتْ مَسْأَلَةً وِجْدَانِيَّةً عِنْدَ رِجَالِ الْإِفْرِنْجِ تَبَعًا لِنِسَائِهِمْ حَتَّى لَا تَجِدَ الْفَيْلَسُوفَ مِنْهُمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبْحَثَ فِي فَوَائِدِهَا، وَفِي وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا بَحْثَ بَرِيءٍ مِنَ الْغَرَضِ - طَالِبٍ كَشْفَ الْحَقِيقَةِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَالِثَةٌ.
وَأَنْتَقِلُ بِكَ مِنْ هَذَا إِلَى اكْتِنَاهِ حَالِ الْمَعِيشَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَأُشْرِفُ بِكَ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكَافِلَ لِلْمَرْأَةِ، وَسَيِّدَ الْمَنْزِلِ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ، وَعَقْلِهِ، وَكَوْنِهِ أَقْدَرَ عَلَى الْكَسْبِ، وَالدِّفَاعِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [٤: ٣٤] وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُدَبِّرَةَ الْمَنْزِلِ، وَمُرَبِّيَةَ الْأَوْلَادِ لِرِقَّتِهَا، وَصَبْرِهَا، وَكَوْنِهَا كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ وَاسِطَةً فِي الْإِحْسَاسِ وَالتَّعَقُّلِ بَيْنَ الرَّجُلِ، وَالطِّفْلِ، فَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً لِنَقْلِ الطِّفْلِ الذَّكَرِ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلرُّجُولَةِ وَلِجَعْلِ الْبِنْتِ كَمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اللُّطْفِ وَالدَّعَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِعَمَلِهَا الطَّبِيعِيِّ.
وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الْبَيْتَ مَمْلَكَةٌ صُغْرَى كَمَا أَنَّ مَجْمُوعَ الْبُيُوتِ هُوَ الْمَمْلَكَةُ الْكُبْرَى، فَلِلْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ إِدَارَةُ نِظَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ، وَلِلرَّجُلِ مَعَ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ إِدَارَةُ نِظَارَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْأَشْغَالِ الْعُمُومِيَّةِ، وَالْحَرْبِيَّةِ، وَالْخَارِجِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ نِظَامِ الْفِطْرَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَيِّمَةَ الْبَيْتِ، وَعَمَلُهَا مَحْصُورًا فِيهِ لِضَعْفِهَا عَنِ الْعَمَلِ الْآخَرِ بِطَبِيعَتِهَا، وَبِمَا يَعُوقُهَا مِنَ الْحَبَلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَمُدَارَاةِ الْأَطْفَالِ، وَكَانَتْ بِذَلِكَ عَالَةً عَلَى الرَّجُلِ كَانَ مِنَ الشَّطَطِ تَكْلِيفُهَا الْمَعِيشَةَ الِاسْتِقْلَالِيَّةَ بَلْهَ السِّيَادَةَ، وَالْقِيَامَ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَمَاذَا نَعْمَلُ، وَالنِّسَاءُ (قَدْ يَكُنَّ) أَكْثَرَ مِنَ الرِّجَالِ عَدَدًا؟ أَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُبَاحَ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَفَالَةُ عِدَّةِ نِسَاءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِي أَعْقَابِ الْحُرُوبِ الَّتِي تَجْتَاحُ الرِّجَالَ، وَتَدَعُ النِّسَاءَ لَا كَافِلَ لِلْكَثِيرِ مِنْهُنَّ وَلَا نَصِيرَ؟ وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ فِي خَارِجِ الْمَنْزِلِ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى أَعْمَالِهِ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّ الْمَنْزِلَ لَا يَشْمَلُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى مُسَاعَدَةٍ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَعْمَالِهَا الْكَثِيرَةِ كَمَا تَقْضِي قَوَاعِدُ عِلْمِ
290
الِاقْتِصَادِ فِي تَوْزِيعِ الْأَعْمَالِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْ يُسَاعِدُهَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الرِّجَالِ لِمَا فِي ذَلِكَ
مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَمِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ عِدَّةُ نِسَاءٍ مَصْلَحَتُهُنَّ عِمَارَتُهُ - كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ رَابِعَةٌ.
وَإِذَا رَجَعْتَ مَعِي إِلَى الْبَحْثِ فِي تَارِيخِ النُّشُوءِ فِي الزَّوَاجِ، وَالْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ)، أَوْ فِي الِازْدِوَاجِ، وَالْإِنْتَاجِ تَجِدُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكْثَرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَحَلٍّ لِبَيَانِ السَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ فِي ذَلِكَ، بَلْ ثَبَتَ بِالْبَحْثِ أَنَّ الْقَبَائِلَ الْمُتَوَحِّشَةَ كَانَ فِيهَا النِّسَاءُ حَقًّا مُشَاعًا لِلرِّجَالِ بِحَسَبِ التَّرَاضِي، وَكَانَتِ الْأُمُّ هِيَ رَئِيسَةَ الْبَيْتِ إِذِ الْأَبُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فِي الْغَالِبِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كُلَّمَا ارْتَقَى يَشْعُرُ بِضَرَرِ هَذَا الشُّيُوعِ، وَالِاخْتِلَاطِ، وَيَمِيلُ إِلَى الِاخْتِصَاصِ، فَكَانَ أَوَّلَ اخْتِصَاصٍ فِي الْقَبِيلَةِ أَنْ يَكُونَ نِسَاؤُهَا لِرِجَالِهَا دُونَ رِجَالِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى، وَمَا زَالُوا يَرْتَقُونَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بِعِدَّةِ نِسَاءٍ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ حَسَبَ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ، فَانْتَقَلَ بِهَذَا تَارِيخُ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) إِلَى دَوْرٍ جَدِيدٍ صَارَ فِيهِ الْأَبُ عَمُودَ النَّسَبِ، وَأَسَاسَ الْبَيْتِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ، وَالْإِنْكِلِيزِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُتُبٍ لَهُمْ فِي تَارِيخِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ)، وَمِنْ هُنَا يَذْهَبُ الْإِفْرِنْجُ إِلَى أَنَّ نِهَايَةَ الِارْتِقَاءِ هُوَ أَنْ يُخَصَّ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنْ مَاذَا يَقُولُونَ فِي الْعَوَارِضِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تُلْجِئُ إِلَى أَنْ يَكْفُلَ الرَّجُلُ عِدَّةً مِنَ النِّسَاءِ لِمَصْلَحَتِهِنَّ، وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَلِاسْتِعْدَادِهِ الطَّبِيعِيِّ لِذَلِكَ، وَلِيُخْبِرُونَا هَلْ رَضِيَ الرِّجَالُ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَقَنَعُوا بِالزَّوَاجِ الْفَرْدِيِّ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الْيَوْمِ؟ أَيُوجَدُ فِي أُورُبَّا فِي كُلِّ مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا يَزْنِي؟ كَلَّا. إِنَّ الرَّجُلَ بِمُقْتَضَى طَبِيعَتِهِ، وَمَلَكَاتِهِ الْوِرَاثِيَّةِ لَا يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِذِ الْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِغِشْيَانِ الرَّجُلِ إِيَّاهَا، كَمَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِثَمَرَةِ هَذَا الْغِشْيَانِ وَفَائِدَتِهِ، وَهُوَ النَّسْلُ فَدَاعِيَةُ الْغِشْيَانِ فِي الرَّجُلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَكِنَّ قَبُولَهُ مِنَ الْمَرْأَةِ مَحْصُورٌ فِي أَوْقَاتٍ، وَمَمْنُوعٌ فِي غَيْرِهَا، فَالدَّاعِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْمَرْأَةِ لِقَبُولِ الرَّجُلِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ اعْتِدَالِ الْفِطْرَةِ عَقِبَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْحَيْضِ وَحَالِ الْحَمْلِ وَالْإِثْقَالِ فَتَأْبَى طَبِيعَتُهَا ذَلِكَ. وَأَظُنُّ أَنَّهُ لَوْلَا تَوْطِينُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى إِرْضَاءِ الرَّجُلِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُ، وَلَوْلَا مَا يُحْدِثُهُ
التَّذَكُّرُ وَالتَّخَيُّلُ لِلَذَّةٍ وَقَعَتْ فِي إِبَّانِهَا مِنَ التَّعَمُّلِ لِاسْتِعَادَتِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَالْعَادَاتِ الْعُمُومِيَّةِ لَكَانَ النِّسَاءُ يَأْبَيْنَ الرِّجَالَ فِي أَكْثَرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ الَّتِي لَا يَكُنَّ فِيهَا مُسْتَعِدَّاتٍ لِلْعُلُوقِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْإِنْتَاجِ، وَمِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ يُعْلَمُ أَنَّ اكْتِفَاءَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُنْدَفِعًا بِطَبِيعَتِهِ إِلَى الْإِفْضَاءِ إِلَيْهَا فِي أَيَّامٍ طَوِيلَةٍ هِيَ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَعِدَّةٍ لِقَبُولِهِ أَظْهَرُهَا أَيَّامُ الْحَيْضِ، وَالْإِثْقَالِ بِالْحَمْلِ، وَالنِّفَاسِ، وَأَقَلُّهَا ظُهُورًا أَيَّامُ الرَّضَاعِ لَا سِيَّمَا الْأَيَّامُ الْأُولَى، وَالْأَخِيرَةُ مِنْ
مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَمِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ عِدَّةُ نِسَاءٍ مَصْلَحَتُهُنَّ عِمَارَتُهُ - كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ رَابِعَةٌ.
وَإِذَا رَجَعْتَ مَعِي إِلَى الْبَحْثِ فِي تَارِيخِ النُّشُوءِ فِي الزَّوَاجِ، وَالْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ)، أَوْ فِي الِازْدِوَاجِ، وَالْإِنْتَاجِ تَجِدُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكْثَرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَحَلٍّ لِبَيَانِ السَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ فِي ذَلِكَ، بَلْ ثَبَتَ بِالْبَحْثِ أَنَّ الْقَبَائِلَ الْمُتَوَحِّشَةَ كَانَ فِيهَا النِّسَاءُ حَقًّا مُشَاعًا لِلرِّجَالِ بِحَسَبِ التَّرَاضِي، وَكَانَتِ الْأُمُّ هِيَ رَئِيسَةَ الْبَيْتِ إِذِ الْأَبُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فِي الْغَالِبِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كُلَّمَا ارْتَقَى يَشْعُرُ بِضَرَرِ هَذَا الشُّيُوعِ، وَالِاخْتِلَاطِ، وَيَمِيلُ إِلَى الِاخْتِصَاصِ، فَكَانَ أَوَّلَ اخْتِصَاصٍ فِي الْقَبِيلَةِ أَنْ يَكُونَ نِسَاؤُهَا لِرِجَالِهَا دُونَ رِجَالِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى، وَمَا زَالُوا يَرْتَقُونَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بِعِدَّةِ نِسَاءٍ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ حَسَبَ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ، فَانْتَقَلَ بِهَذَا تَارِيخُ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) إِلَى دَوْرٍ جَدِيدٍ صَارَ فِيهِ الْأَبُ عَمُودَ النَّسَبِ، وَأَسَاسَ الْبَيْتِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ، وَالْإِنْكِلِيزِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُتُبٍ لَهُمْ فِي تَارِيخِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ)، وَمِنْ هُنَا يَذْهَبُ الْإِفْرِنْجُ إِلَى أَنَّ نِهَايَةَ الِارْتِقَاءِ هُوَ أَنْ يُخَصَّ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنْ مَاذَا يَقُولُونَ فِي الْعَوَارِضِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تُلْجِئُ إِلَى أَنْ يَكْفُلَ الرَّجُلُ عِدَّةً مِنَ النِّسَاءِ لِمَصْلَحَتِهِنَّ، وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَلِاسْتِعْدَادِهِ الطَّبِيعِيِّ لِذَلِكَ، وَلِيُخْبِرُونَا هَلْ رَضِيَ الرِّجَالُ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَقَنَعُوا بِالزَّوَاجِ الْفَرْدِيِّ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الْيَوْمِ؟ أَيُوجَدُ فِي أُورُبَّا فِي كُلِّ مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا يَزْنِي؟ كَلَّا. إِنَّ الرَّجُلَ بِمُقْتَضَى طَبِيعَتِهِ، وَمَلَكَاتِهِ الْوِرَاثِيَّةِ لَا يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِذِ الْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِغِشْيَانِ الرَّجُلِ إِيَّاهَا، كَمَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِثَمَرَةِ هَذَا الْغِشْيَانِ وَفَائِدَتِهِ، وَهُوَ النَّسْلُ فَدَاعِيَةُ الْغِشْيَانِ فِي الرَّجُلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَكِنَّ قَبُولَهُ مِنَ الْمَرْأَةِ مَحْصُورٌ فِي أَوْقَاتٍ، وَمَمْنُوعٌ فِي غَيْرِهَا، فَالدَّاعِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْمَرْأَةِ لِقَبُولِ الرَّجُلِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ اعْتِدَالِ الْفِطْرَةِ عَقِبَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْحَيْضِ وَحَالِ الْحَمْلِ وَالْإِثْقَالِ فَتَأْبَى طَبِيعَتُهَا ذَلِكَ. وَأَظُنُّ أَنَّهُ لَوْلَا تَوْطِينُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى إِرْضَاءِ الرَّجُلِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُ، وَلَوْلَا مَا يُحْدِثُهُ
التَّذَكُّرُ وَالتَّخَيُّلُ لِلَذَّةٍ وَقَعَتْ فِي إِبَّانِهَا مِنَ التَّعَمُّلِ لِاسْتِعَادَتِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَالْعَادَاتِ الْعُمُومِيَّةِ لَكَانَ النِّسَاءُ يَأْبَيْنَ الرِّجَالَ فِي أَكْثَرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ الَّتِي لَا يَكُنَّ فِيهَا مُسْتَعِدَّاتٍ لِلْعُلُوقِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْإِنْتَاجِ، وَمِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ يُعْلَمُ أَنَّ اكْتِفَاءَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُنْدَفِعًا بِطَبِيعَتِهِ إِلَى الْإِفْضَاءِ إِلَيْهَا فِي أَيَّامٍ طَوِيلَةٍ هِيَ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَعِدَّةٍ لِقَبُولِهِ أَظْهَرُهَا أَيَّامُ الْحَيْضِ، وَالْإِثْقَالِ بِالْحَمْلِ، وَالنِّفَاسِ، وَأَقَلُّهَا ظُهُورًا أَيَّامُ الرَّضَاعِ لَا سِيَّمَا الْأَيَّامُ الْأُولَى، وَالْأَخِيرَةُ مِنْ
291
أَيَّامِ طُهْرِهَا. وَقَدْ يُنَازَعُ فِي هَذِهِ لِغَلَبَةِ الْعَادَةِ فِيهَا عَلَى الطَّبِيعَةِ، وَأَمَّا اكْتِفَاءُ الْمَرْأَةِ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ فِي طَبِيعَتِهَا، وَلَا لِمَصْلَحَةِ النَّسْلِ، بَلْ هُوَ الْمُوَافِقُ لِذَلِكَ إِذْ لَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ فِي حَالٍ مُسْتَعِدَّةً فِيهَا لِمُلَامَسَةِ الرَّجُلِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ مَا دَامَا فِي اعْتِدَالِ مِزَاجِهِمَا، وَلَا نَذْكُرُ الْمَرَضَ ; لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَآدَابِهَا أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا شُغْلٌ بِتَمْرِيضِ الْآخَرِ فِي وَقْتِ مُصَابِهِ عَنِ السَّعْيِ وَرَاءَ لَذَّتِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ مُحَقِّقِي الْأُورُبِّيِّينَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْأَزْوَاجِ الَّذِي وُجِدَ فِي بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْمُتَوَحِّشَةِ كَانَ سَبَبُهُ قِلَّةَ الْبَنَاتِ لِوَأْدِ الرِّجَالِ إِيَّاهُنَّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ خَامِسَةٌ.
بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَجِلْ طَرْفَكَ مَعِي فِي تَارِيخِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تَجِدْ أَنَّهَا كَانَتْ قَدِ ارْتَفَعَتْ إِلَى أَنْ صَارَ فِيهَا الزَّوَاجُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْأَصْلُ فِي تَكْوِينِ الْبُيُوتِ، وَالرَّجُلُ هُوَ عَمُودُ الْبَيْتِ، وَأَصْلُ النَّسَبِ، وَلَكِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا بِعَدَدٍ، وَلَا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ، وَكَانَ اخْتِلَافُ عِدَّةِ رِجَالٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يُعَدُّ مِنَ الزِّنَا الْمَذْمُومِ، وَكَانَ الزِّنَا عَلَى كَثْرَتِهِ يَكَادُ يَكُونُ خَاصًّا بِالْإِمَاءِ، وَقَلَّمَا يَأْتِيهِ الْحَرَائِرُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَتَبَضَّعَ مِنْ رَجُلٍ يُعْجِبُهَا ابْتِغَاءَ نَجَابَةِ الْوَلَدِ، وَالزِّنَا لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا، وَلَا عَارًا صُدُورُهُ مِنَ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُعَابُ مِنْ حَرَائِرِ النِّسَاءِ. وَقَدْ حَظَرَ الْإِسْلَامُ الزِّنَا عَلَى الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا حَتَّى الْإِمَاءِ، فَكَانَ يَصْعُبُ جِدًّا عَلَى الرِّجَالِ قَبُولُ الْإِسْلَامِ، وَالْعَمَلُ بِهِ مَعَ هَذَا الْحَجْرِ بِدُونِ إِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتُبِيحَ الزِّنَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ مُبَاحٌ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَادِسَةٌ.
وَلَا تَنْسَ مَعَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ غَايَةَ التَّرَقِّي فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسَعَادَةِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) أَنْ يَكُونَ تَكَوُّنُ الْبَيْتِ مِنْ زَوْجَيْنِ فَقَطْ يُعْطِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ مِيثَاقًا غَلِيظًا عَلَى الْحُبِّ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالثِّقَةِ، وَالِاخْتِصَاصِ، حَتَّى إِذَا مَا رُزِقَا أَوْلَادًا كَانَتْ
عِنَايَتُهُمَا مُتَّفِقَةً عَلَى حُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ لِيَكُونُوا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُمَا، وَيَكُونَا قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ فِي الْوِفَاقِ، وَالْوِئَامِ، وَالْحُبِّ، وَالْإِخْلَاصِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَابِعَةٌ.
إِذَا أَنْعَمْتَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا وَعَرَفْتَ فَرْعَهَا، وَأَصْلَهَا تَتَجَلَّى لَكَ هَذِهِ النَّتِيجَةُ، أَوِ النَّتَائِجُ، وَهِيَ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْحَيَاةِ الدِّينِيَّةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ فِي بَابِهِ، وَالْكَمَالِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُرَبَّى النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَقْتَنِعُوا بِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَحُولُ دُونَ أَخْذِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِهِ، وَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى كَفَالَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِأَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِمَصْلَحَةِ الْأَفْرَادِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ كَأَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ عَاقِرٍ فَيَضْطَرُّ إِلَى غَيْرِهَا لِأَجْلِ النَّسْلِ، وَيَكُونُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، أَوْ مَصْلَحَتِهِمَا مَعًا أَلَّا يُطَلِّقَهَا، وَتَرْضَى بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهَا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَلِكًا، أَوْ أَمِيرًا، أَوْ تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي سِنِّ الْيَأْسِ وَيَرَى الرَّجُلُ أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِلْإِعْقَابِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ غَيْرِ وَاحِدَةٍ، وَكِفَايَةِ أَوْلَادِ كَثِيرِينَ، وَتَرْبِيَتِهِمْ، أَوْ يَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكْفِي لِإِحْصَانِهِ
بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَجِلْ طَرْفَكَ مَعِي فِي تَارِيخِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تَجِدْ أَنَّهَا كَانَتْ قَدِ ارْتَفَعَتْ إِلَى أَنْ صَارَ فِيهَا الزَّوَاجُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْأَصْلُ فِي تَكْوِينِ الْبُيُوتِ، وَالرَّجُلُ هُوَ عَمُودُ الْبَيْتِ، وَأَصْلُ النَّسَبِ، وَلَكِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا بِعَدَدٍ، وَلَا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ، وَكَانَ اخْتِلَافُ عِدَّةِ رِجَالٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يُعَدُّ مِنَ الزِّنَا الْمَذْمُومِ، وَكَانَ الزِّنَا عَلَى كَثْرَتِهِ يَكَادُ يَكُونُ خَاصًّا بِالْإِمَاءِ، وَقَلَّمَا يَأْتِيهِ الْحَرَائِرُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَتَبَضَّعَ مِنْ رَجُلٍ يُعْجِبُهَا ابْتِغَاءَ نَجَابَةِ الْوَلَدِ، وَالزِّنَا لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا، وَلَا عَارًا صُدُورُهُ مِنَ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُعَابُ مِنْ حَرَائِرِ النِّسَاءِ. وَقَدْ حَظَرَ الْإِسْلَامُ الزِّنَا عَلَى الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا حَتَّى الْإِمَاءِ، فَكَانَ يَصْعُبُ جِدًّا عَلَى الرِّجَالِ قَبُولُ الْإِسْلَامِ، وَالْعَمَلُ بِهِ مَعَ هَذَا الْحَجْرِ بِدُونِ إِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتُبِيحَ الزِّنَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ مُبَاحٌ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَادِسَةٌ.
وَلَا تَنْسَ مَعَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ غَايَةَ التَّرَقِّي فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسَعَادَةِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) أَنْ يَكُونَ تَكَوُّنُ الْبَيْتِ مِنْ زَوْجَيْنِ فَقَطْ يُعْطِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ مِيثَاقًا غَلِيظًا عَلَى الْحُبِّ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالثِّقَةِ، وَالِاخْتِصَاصِ، حَتَّى إِذَا مَا رُزِقَا أَوْلَادًا كَانَتْ
عِنَايَتُهُمَا مُتَّفِقَةً عَلَى حُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ لِيَكُونُوا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُمَا، وَيَكُونَا قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ فِي الْوِفَاقِ، وَالْوِئَامِ، وَالْحُبِّ، وَالْإِخْلَاصِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَابِعَةٌ.
إِذَا أَنْعَمْتَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا وَعَرَفْتَ فَرْعَهَا، وَأَصْلَهَا تَتَجَلَّى لَكَ هَذِهِ النَّتِيجَةُ، أَوِ النَّتَائِجُ، وَهِيَ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْحَيَاةِ الدِّينِيَّةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ فِي بَابِهِ، وَالْكَمَالِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُرَبَّى النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَقْتَنِعُوا بِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَحُولُ دُونَ أَخْذِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِهِ، وَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى كَفَالَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِأَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِمَصْلَحَةِ الْأَفْرَادِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ كَأَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ عَاقِرٍ فَيَضْطَرُّ إِلَى غَيْرِهَا لِأَجْلِ النَّسْلِ، وَيَكُونُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، أَوْ مَصْلَحَتِهِمَا مَعًا أَلَّا يُطَلِّقَهَا، وَتَرْضَى بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهَا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَلِكًا، أَوْ أَمِيرًا، أَوْ تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي سِنِّ الْيَأْسِ وَيَرَى الرَّجُلُ أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِلْإِعْقَابِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ غَيْرِ وَاحِدَةٍ، وَكِفَايَةِ أَوْلَادِ كَثِيرِينَ، وَتَرْبِيَتِهِمْ، أَوْ يَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكْفِي لِإِحْصَانِهِ
292
لِأَنَّ مِزَاجَهُ يَدْفَعُهُ إِلَى كَثْرَةِ الْإِفْضَاءِ وَمِزَاجَهَا بِالْعَكْسِ، أَوْ تَكُونُ فَارِكًا مِنْشَاصًا (أَيْ تَكْرَهُ الزَّوْجَ)، أَوْ يَكُونُ زَمَنُ حَيْضِهَا طَوِيلًا يَنْتَهِي إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي الشَّهْرِ، وَيَرَى نَفْسَهُ مُضْطَرًّا إِلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: التَّزَوُّجِ بِثَانِيَةٍ، أَوِ الزِّنَا الَّذِي يُضِيعُ الدِّينَ، وَالْمَالَ، وَالصِّحَّةَ، وَيَكُونُ شَرًّا عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ ضَمِّ وَاحِدَةٍ إِلَيْهَا مَعَ الْعَدْلِ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ فِي الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ اسْتُبِيحَ الزِّنَا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا التَّعَدُّدُ بِالْمَرَّةِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَدُّدُ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ كَأَنْ تَكْثُرَ فِيهَا النِّسَاءُ كَثْرَةً فَاحِشَةً كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي مِثْلِ الْبِلَادِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَفِي كُلِّ بِلَادٍ تَقَعُ فِيهَا حَرْبٌ مُجْتَاحَةٌ تَذْهَبُ بِالْأُلُوفِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، فَيَزِيدُ عَدَدُ النِّسَاءِ زِيَادَةً فَاحِشَةً تَضْطَرُّهُنَّ إِلَى الْكَسْبِ، وَالسَّعْيِ فِي حَاجِ الطَّبِيعَةِ، وَلَا بِضَاعَةَ لِأَكْثَرِهِنَّ فِي الْكَسْبِ سِوَى أَبْضَاعِهِنَّ، وَإِذَا هُنَّ بَذَلْنَهَا فَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ مَا وَرَاءَ بَذْلِهَا مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا كَافِلَ لَهَا إِذَا اضْطُرَّتْ إِلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ نَفْسِهَا، وَأَوَدِ وَلَدٍ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ، وَلَاسِيَّمَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ وَمُدَّةِ الرَّضَاعَةِ بَلِ الطُّفُولِيَّةِ كُلِّهَا، وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ بِوُجُوبِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي حَالِ الْبَنَاتِ اللَّوَاتِي يَشْتَغِلْنَ فِي الْمَعَامِلِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْعُمُومِيَّةِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُنَّ مِنْ هَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشَّقَاءِ، وَالْبَلَاءِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُبِيحُ
تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ هِيَ ضَرُورَاتٌ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَكَانَ الرِّجَالُ إِنَّمَا يَنْدَفِعُونَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ فِي الْغَالِبِ إِرْضَاءً لِلشَّهْوَةِ لَا عَمَلًا بِالْمَصْلَحَةِ، وَكَانَ الْكَمَالُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ - جُعِلَ التَّعَدُّدُ فِي الْإِسْلَامِ رُخْصَةً لَا وَاجِبًا، وَلَا مَنْدُوبًا لِذَاتِهِ، وَقُيِّدَ بِالشَّرْطِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَأَكَّدَتْهُ تَأْكِيدًا مُكَرَّرًا فَتَأَمَّلْهَا.
قَالَ - تَعَالَى -: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ فِي حُقُوقِ الْأَيْتَامِ، وَلَمَّا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِالْيَتِيمَةِ الْغَنِيَّةِ لِيَتَمَتَّعَ بِمَالِهَا، وَيَهْضِمَ حُقُوقَهَا لِضَعْفِهَا حَذَّرَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ النِّسَاءَ أَمَامَكُمْ كَثِيرَاتٌ، فَإِذَا لَمْ تَثِقُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِالْقِسْطِ فِي الْيَتَامَى إِذَا تَزَوَّجْتُمْ بِهِنَّ فَعَلَيْكُمْ بِغَيْرِهِنَّ، فَذَكَرَ مَسْأَلَةَ التَّعَدُّدِ بِشَرْطِهَا ضِمْنًا لَا اسْتِقْلَالًا (عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ)، وَالْإِفْرِنْجُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا مَسْأَلَةً مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ فِي الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ إِنَّ الِاكْتِفَاءَ بِوَاحِدَةٍ أَدْنَى، وَأَقْرَبُ لِعَدَمِ الْعَوْلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ، وَالْمَيْلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، مِنْ " عَالَ الْمِيزَانُ إِذَا مَالَ "، وَهُوَ الْأَرْجَحُ فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ، فَأَكَّدَ أَمْرَ الْعَدْلِ، وَجَعَلَ مُجَرَّدَ تَوَقُّعِ الْإِنْسَانِ عَدَمَ الْعَدْلِ مِنْ نَفْسِهِ كَافٍ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّعَدُّدِ. وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ يَتَزَوَّجُ بِثَانِيَةٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَغَرَضٍ صَحِيحٍ يَأْمَنُ الْجَوْرَ ; لِذَلِكَ كَانَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّ الذَّوَّاقِينَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا لِمُجَرَّدِ التَّنَقُّلِ فِي التَّمَتُّعِ يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَدُّدُ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ كَأَنْ تَكْثُرَ فِيهَا النِّسَاءُ كَثْرَةً فَاحِشَةً كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي مِثْلِ الْبِلَادِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَفِي كُلِّ بِلَادٍ تَقَعُ فِيهَا حَرْبٌ مُجْتَاحَةٌ تَذْهَبُ بِالْأُلُوفِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، فَيَزِيدُ عَدَدُ النِّسَاءِ زِيَادَةً فَاحِشَةً تَضْطَرُّهُنَّ إِلَى الْكَسْبِ، وَالسَّعْيِ فِي حَاجِ الطَّبِيعَةِ، وَلَا بِضَاعَةَ لِأَكْثَرِهِنَّ فِي الْكَسْبِ سِوَى أَبْضَاعِهِنَّ، وَإِذَا هُنَّ بَذَلْنَهَا فَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ مَا وَرَاءَ بَذْلِهَا مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا كَافِلَ لَهَا إِذَا اضْطُرَّتْ إِلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ نَفْسِهَا، وَأَوَدِ وَلَدٍ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ، وَلَاسِيَّمَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ وَمُدَّةِ الرَّضَاعَةِ بَلِ الطُّفُولِيَّةِ كُلِّهَا، وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ بِوُجُوبِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي حَالِ الْبَنَاتِ اللَّوَاتِي يَشْتَغِلْنَ فِي الْمَعَامِلِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْعُمُومِيَّةِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُنَّ مِنْ هَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشَّقَاءِ، وَالْبَلَاءِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُبِيحُ
تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ هِيَ ضَرُورَاتٌ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَكَانَ الرِّجَالُ إِنَّمَا يَنْدَفِعُونَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ فِي الْغَالِبِ إِرْضَاءً لِلشَّهْوَةِ لَا عَمَلًا بِالْمَصْلَحَةِ، وَكَانَ الْكَمَالُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ - جُعِلَ التَّعَدُّدُ فِي الْإِسْلَامِ رُخْصَةً لَا وَاجِبًا، وَلَا مَنْدُوبًا لِذَاتِهِ، وَقُيِّدَ بِالشَّرْطِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَأَكَّدَتْهُ تَأْكِيدًا مُكَرَّرًا فَتَأَمَّلْهَا.
قَالَ - تَعَالَى -: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ فِي حُقُوقِ الْأَيْتَامِ، وَلَمَّا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِالْيَتِيمَةِ الْغَنِيَّةِ لِيَتَمَتَّعَ بِمَالِهَا، وَيَهْضِمَ حُقُوقَهَا لِضَعْفِهَا حَذَّرَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ النِّسَاءَ أَمَامَكُمْ كَثِيرَاتٌ، فَإِذَا لَمْ تَثِقُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِالْقِسْطِ فِي الْيَتَامَى إِذَا تَزَوَّجْتُمْ بِهِنَّ فَعَلَيْكُمْ بِغَيْرِهِنَّ، فَذَكَرَ مَسْأَلَةَ التَّعَدُّدِ بِشَرْطِهَا ضِمْنًا لَا اسْتِقْلَالًا (عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ)، وَالْإِفْرِنْجُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا مَسْأَلَةً مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ فِي الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ إِنَّ الِاكْتِفَاءَ بِوَاحِدَةٍ أَدْنَى، وَأَقْرَبُ لِعَدَمِ الْعَوْلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ، وَالْمَيْلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، مِنْ " عَالَ الْمِيزَانُ إِذَا مَالَ "، وَهُوَ الْأَرْجَحُ فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ، فَأَكَّدَ أَمْرَ الْعَدْلِ، وَجَعَلَ مُجَرَّدَ تَوَقُّعِ الْإِنْسَانِ عَدَمَ الْعَدْلِ مِنْ نَفْسِهِ كَافٍ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّعَدُّدِ. وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ يَتَزَوَّجُ بِثَانِيَةٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَغَرَضٍ صَحِيحٍ يَأْمَنُ الْجَوْرَ ; لِذَلِكَ كَانَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّ الذَّوَّاقِينَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا لِمُجَرَّدِ التَّنَقُّلِ فِي التَّمَتُّعِ يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ
293
عَلَى ظُلْمِ الْأُولَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَزَوَّجُ لِأَجْلِ أَنْ يَغِيظَهَا، وَيُهِينَهَا، وَلَا شَّكَّ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ فِي الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ خَرَابُ الْبُيُوتِ، بَلْ وَخَرَابُ الْأُمَمِ، وَالنَّاسُ عَنْهُ غَافِلُونَ بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ.
هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا الْآنَ فِي الْجَوَابِ كَتَبْنَاهُ بِقَلَمِ الْعَجَلَةِ عَلَى أَنَّنَا كُنَّا قَدْ أَرْجَأْنَا الْجَوَابَ لِنُمْعِنَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنُرَاجِعَ كِتَابًا، أَوْ رِسَالَةً فِي مَوْضُوعِهَا لِأَحَدِ عُلَمَاءِ أَلْمَانْيَا قِيلَ لَنَا: إِنَّهَا تُرْجِمَتْ، وَطُبِعَتْ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ بَقِيَ فِي نَفْسِ السَّائِلِ الشَّيْءُ فَلْيُرَاجِعْنَا فِيهِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ اهـ.
وَكَتَبْنَا فِي الرَّدِّ عَلَى لُورْدِ كُرُومَرْ فِي (ص٢٢٥ م ١٠) مِنَ الْمَنَارِ مَا نَصُّهُ: طَالَمَا انْتَقَدَ الْأُورُبِّيُّونَ عَلَى الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ مَشْرُوعِيَّةَ الطَّلَاقِ، وَتَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ،
وَهُمَا لَمْ يُطْلَبَا، وَلَمْ يُحْمَدَا فِيهِ، وَإِنَّمَا أُجِيزَا ; لِأَنَّهُمَا مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، فَشَرَعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ كِتَابُهُمُ (الْإِنْجِيلُ) إِلَّا لِعِلَّةِ الزِّنَا، وَأَمَّا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ تَعْرِضُ الضَّرُورَةُ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ مَصْلَحَةِ النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ كَأَنْ تَغْتَالَ الْحَرْبُ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ، فَيَكْثُرُ مَنْ لَا كَافِلَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ فَيَكُونُ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَكُنَّ ضَرَائِرَ، وَلَا يَكُنَّ فَوَاجِرَ يَأْكُلْنَ بِأَعْرَاضِهِنَّ، وَيُعَرِّضْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِذَلِكَ لِمَصَائِبَ تَرْزَحُهُنَّ أَثْقَالُهَا، وَقَدْ أَنْشَأَ الْقَوْمُ يَعْرِفُونَ وَجْهَ الْحَاجَةِ بَلِ الضَّرُورَةِ إِلَى هَذَا كَمَا عَرَفُوا وَجْهَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَقَامَ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَاءِ الْإِنْكِلِيزِ الْكَاتِبَاتِ الْفَاضِلَاتِ يُطَالِبْنَ فِي الْجَرَائِدِ بِإِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ رَحْمَةً بِالْعَامِلَاتِ الْفَقِيرَاتِ، وَبِالْبَغَايَا الْمُضْطَرَّاتِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي الْمَنَارِ تَرْجَمَةُ بَعْضِ مَا كَتَبَتْ إِحْدَاهُنَّ فِي جَرِيدَةِ (لندن ثروت) مُسْتَحْسِنَةً رَأْيَ الْعَالِمِ (تومس) فِي أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِتَقْلِيلِ الْبَنَاتِ الشَّارِدَاتِ إِلَّا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، وَمَا كَتَبَتِ الْفَاضِلَةُ " مس أني رود " فِي جَرِيدَةِ (الاسترن ميل) وَالْكَاتِبَةُ " اللادي كوك " فِي جَرِيدَةِ (الايكو) فِي ذَلِكَ (رَاجِعْ ص٤٨١ م ٤).
إِنَّ قَاعِدَةَ الْيُسْرِ فِي الْأُمُورِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأَسَاسِيَّةِ لِبِنَاءِ الْإِسْلَامِ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [٢: ١٨٥] وَمَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [٥: ٦] وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَحْرِيمُ أَمْرٍ تُلْجِئُ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، أَوِ الْخَاصَّةُ (كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَقَالَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَغَيْرِهَا) وَهُوَ مِمَّا يَشُقُّ امْتِثَالُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَاسِيَّمَا عَلَى مَنِ اعْتَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِيهِ كَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ السُّكُوتُ عَنْهُ وَتَرْكُ النَّاسِ وَشَأْنَهُمْ فِيهِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَلَّلَ الْعَدَدُ، وَيُقَيَّدَ بِقَيْدٍ ثَقِيلٍ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَهُوَ شَرْطٌ يَعِزُّ تَحَقُّقُهُ، وَمَنْ فَقِهَهُ، وَاخْتَبَرَ حَالَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ يَتَجَلَّى لَهُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَمْ يَلْتَزِمِ الشَّرْطَ، وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَزَوَاجُهُ غَيْرُ إِسْلَامِيٍّ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى فِيهَا بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأُورُبِّيِّينَ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ كَمَا يَعْتَرِفُ بِهِ بَعْضُ فُضَلَائِهِمْ، وَفُضْلَيَاتِهِمُ
الْآنَ: وَأَمَّا
هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا الْآنَ فِي الْجَوَابِ كَتَبْنَاهُ بِقَلَمِ الْعَجَلَةِ عَلَى أَنَّنَا كُنَّا قَدْ أَرْجَأْنَا الْجَوَابَ لِنُمْعِنَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنُرَاجِعَ كِتَابًا، أَوْ رِسَالَةً فِي مَوْضُوعِهَا لِأَحَدِ عُلَمَاءِ أَلْمَانْيَا قِيلَ لَنَا: إِنَّهَا تُرْجِمَتْ، وَطُبِعَتْ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ بَقِيَ فِي نَفْسِ السَّائِلِ الشَّيْءُ فَلْيُرَاجِعْنَا فِيهِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ اهـ.
وَكَتَبْنَا فِي الرَّدِّ عَلَى لُورْدِ كُرُومَرْ فِي (ص٢٢٥ م ١٠) مِنَ الْمَنَارِ مَا نَصُّهُ: طَالَمَا انْتَقَدَ الْأُورُبِّيُّونَ عَلَى الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ مَشْرُوعِيَّةَ الطَّلَاقِ، وَتَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ،
وَهُمَا لَمْ يُطْلَبَا، وَلَمْ يُحْمَدَا فِيهِ، وَإِنَّمَا أُجِيزَا ; لِأَنَّهُمَا مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، فَشَرَعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ كِتَابُهُمُ (الْإِنْجِيلُ) إِلَّا لِعِلَّةِ الزِّنَا، وَأَمَّا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ تَعْرِضُ الضَّرُورَةُ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ مَصْلَحَةِ النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ كَأَنْ تَغْتَالَ الْحَرْبُ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ، فَيَكْثُرُ مَنْ لَا كَافِلَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ فَيَكُونُ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَكُنَّ ضَرَائِرَ، وَلَا يَكُنَّ فَوَاجِرَ يَأْكُلْنَ بِأَعْرَاضِهِنَّ، وَيُعَرِّضْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِذَلِكَ لِمَصَائِبَ تَرْزَحُهُنَّ أَثْقَالُهَا، وَقَدْ أَنْشَأَ الْقَوْمُ يَعْرِفُونَ وَجْهَ الْحَاجَةِ بَلِ الضَّرُورَةِ إِلَى هَذَا كَمَا عَرَفُوا وَجْهَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَقَامَ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَاءِ الْإِنْكِلِيزِ الْكَاتِبَاتِ الْفَاضِلَاتِ يُطَالِبْنَ فِي الْجَرَائِدِ بِإِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ رَحْمَةً بِالْعَامِلَاتِ الْفَقِيرَاتِ، وَبِالْبَغَايَا الْمُضْطَرَّاتِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي الْمَنَارِ تَرْجَمَةُ بَعْضِ مَا كَتَبَتْ إِحْدَاهُنَّ فِي جَرِيدَةِ (لندن ثروت) مُسْتَحْسِنَةً رَأْيَ الْعَالِمِ (تومس) فِي أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِتَقْلِيلِ الْبَنَاتِ الشَّارِدَاتِ إِلَّا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، وَمَا كَتَبَتِ الْفَاضِلَةُ " مس أني رود " فِي جَرِيدَةِ (الاسترن ميل) وَالْكَاتِبَةُ " اللادي كوك " فِي جَرِيدَةِ (الايكو) فِي ذَلِكَ (رَاجِعْ ص٤٨١ م ٤).
إِنَّ قَاعِدَةَ الْيُسْرِ فِي الْأُمُورِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأَسَاسِيَّةِ لِبِنَاءِ الْإِسْلَامِ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [٢: ١٨٥] وَمَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [٥: ٦] وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَحْرِيمُ أَمْرٍ تُلْجِئُ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، أَوِ الْخَاصَّةُ (كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَقَالَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَغَيْرِهَا) وَهُوَ مِمَّا يَشُقُّ امْتِثَالُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَاسِيَّمَا عَلَى مَنِ اعْتَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِيهِ كَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ السُّكُوتُ عَنْهُ وَتَرْكُ النَّاسِ وَشَأْنَهُمْ فِيهِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَلَّلَ الْعَدَدُ، وَيُقَيَّدَ بِقَيْدٍ ثَقِيلٍ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَهُوَ شَرْطٌ يَعِزُّ تَحَقُّقُهُ، وَمَنْ فَقِهَهُ، وَاخْتَبَرَ حَالَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ يَتَجَلَّى لَهُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَمْ يَلْتَزِمِ الشَّرْطَ، وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَزَوَاجُهُ غَيْرُ إِسْلَامِيٍّ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى فِيهَا بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأُورُبِّيِّينَ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ كَمَا يَعْتَرِفُ بِهِ بَعْضُ فُضَلَائِهِمْ، وَفُضْلَيَاتِهِمُ
الْآنَ: وَأَمَّا
294
الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا هِدَايَتَهُ، فَصَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَالْعِنَايَةِ بِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ مِنَّا إِلَى إِقْنَاعِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَضْلِ الْإِسْلَامِ، مَعَ بَقَاءِ أَهْلِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَخَازِي، وَالْآثَامِ، إِذْ لَوْ رَجَعُوا إِلَيْهِ لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ اهـ.
أَمَّا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ اقْتِرَاحِ بَعْضِ كَاتِبَاتِ الْإِفْرِنْجِ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ فَهُوَ مَا أَوْدَعْنَاهُ مَقَالَةً عُنْوَانُهَا (النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ) نُشِرَتْ فِي (ص٤٨١ م ٤) مِنَ الْمَنَارِ، وَهَاكَ الْمَقْصُودَ مِنْهَا:
لَمَّا تَنَبَّهَ أَهْلُ أُورُبَّا إِلَى إِصْلَاحِ شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَرْقِيَةِ مَعِيشَتِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ اعْتَنَوْا بِتَرْبِيَةِ النِّسَاءِ وَتَعْلِيمِهِنَّ، فَكَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي تَرْقِيَتِهِمْ، وَتَقَدُّمِهِمْ، وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْلُغُ كَمَالَهَا إِلَّا بِالتَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَعْنِي بِالْإِسْلَامِيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ لَا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ، وَلَا قَبْلَ الْيَوْمِ بِقُرُونٍ، فَقَدْ قُلْتُ آنِفًا: إِنَّهُمْ مَا رَعَوْا تَعَالِيمَ دِينِهِمْ حَقَّ رِعَايَتِهَا ; وَلِهَذَا وُجِدَتْ مَعَ التَّرْبِيَةِ الْأُورُبِّيَّةِ لِلنِّسَاءِ جَرَاثِيمُ الْفَسَادِ، وَنَمَتْ هَذِهِ الْجَرَاثِيمُ، فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا الْأَدْوَاءُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالْأَمْرَاضُ الْمَدَنِيَّةُ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُهَا بِشِدَّةٍ فِي الدَّوْلَةِ السَّابِقَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ فَرَنْسَا فَضَعُفَ نَسْلُهَا، وَقَلَّتْ مَوَالِيدُهَا قِلَّةً تُهَدِّدُهَا بِالِانْقِرَاضِ، وَالذَّنْبُ فِي ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ.
حَذَّرَ مِنْ مَغَبَّةِ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْعُقَلَاءُ، وَحَذَّرَ مِنْ عَوَاقِبِهِ الْكُتَّابُ الْأَذْكِيَاءُ، وَصَرَّحَ مَنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الدِّيَانَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِتَمَنِّي الرُّجُوعِ إِلَى تَعَالِيمِهَا الْمُرْضِيَةِ، وَفَضَائِلِهَا الْحَقِيقِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي أَضَلَّ الْمَرْأَةَ، وَأَفْسَدَ تَرْبِيَتَهَا، وَأَنَّ بَعْضَ فُضْلَيَاتِ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ صَرَّحَتْ بِتَمَنِّي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِيَكُونَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ قَيِّمٌ وَكَفِيلٌ مِنَ الرِّجَالِ.
جَاءَ فِي جَرِيدَةِ (لاغوص ويكلي ركورد) فِي الْعَدَدِ الصَّادِرِ فِي ٢٠ مِنْ إِبْرِيلَ (نِيسَانَ) سَنَةَ ١٩٠١ نَقْلًا عَنْ جَرِيدَةِ (لندن ثروت) بِقَلَمِ كَاتِبَةٍ فَاضِلَةٍ مَا تَرْجَمَتُهُ مُلَخَّصًا:
لَقَدْ كَثُرَتِ الشَّارِدَاتُ مِنْ بَنَاتِنَا، وَعَمَّ الْبَلَاءُ، وَقَلَّ الْبَاحِثُونَ عَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَإِذَا كُنْتُ امْرَأَةً تَرَانِي أَنْظُرُ إِلَى هَاتِيكَ الْبَنَاتِ، وَقَلْبِي يَتَقَطَّعُ شَفَقَةً عَلَيْهِنَّ، وَحُزْنًا، وَمَاذَا عَسَى يُفِيدُهُنَّ بَثِّي، وَحُزْنِي، وَتَوَجُّعِي، وَتَفَجُّعِي، وَإِنْ شَارَكَنِي فِيهِ النَّاسُ جَمِيعًا؟ لَا فَائِدَةَ إِلَّا فِي الْعَمَلِ بِمَا يَمْنَعُ هَذِهِ الْحَالَةَ الرَّجِسَةَ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْعَالِمِ الْفَاضِلِ (تُومَسْ)، فَإِنَّهُ رَأَى الدَّاءَ، وَوَصْفَ
لَهُ الدَّوَاءَ الْكَافِلَ لِلشِّفَاءِ وَهُوَ (الْإِبَاحَةُ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ)، وَبِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ يَزُولُ الْبَلَاءُ لَا مَحَالَةَ، وَتُصْبِحُ بَنَاتُنَا رَبَّاتِ بُيُوتٍ، فَالْبَلَاءُ كُلُّ الْبَلَاءِ فِي إِجْبَارِ الرَّجُلِ الْأُورُبِّيِّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا التَّحْدِيدُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ بَنَاتِنَا شَوَارِدَ، وَقَذَفَ بِهِنَّ إِلَى الْتِمَاسِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفَاقُمِ الشَّرِّ إِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ. أَيُّ ظَنٍّ وَخَرَصٍ يُحِيطُ بِعَدَدِ الرِّجَالِ الْمُتَزَوِّجِينَ الَّذِينَ لَهُمْ أَوْلَادٌ غَيْرُ شَرْعِيِّينَ أَصْبَحُوا كَلًّا، وَعَالَةً، وَعَارًا عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ؟ فَلَوْ كَانَ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ مُبَاحًا لَمَا حَاقَ بِأُولَئِكَ الْأَوْلَادِ وَبِأُمَّهَاتِهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْهُونِ، وَلَسَلِمَ عِرْضُهُنَّ، وَعِرْضُ أَوْلَادِهِنَّ، فَإِنَّ مُزَاحَمَةَ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ سَتُحِلُّ بِنَا الدَّمَارَ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ حَالَ خِلْقَتِهَا تُنَادِي بِأَنَّ عَلَيْهَا مَا لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ
أَمَّا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ اقْتِرَاحِ بَعْضِ كَاتِبَاتِ الْإِفْرِنْجِ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ فَهُوَ مَا أَوْدَعْنَاهُ مَقَالَةً عُنْوَانُهَا (النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ) نُشِرَتْ فِي (ص٤٨١ م ٤) مِنَ الْمَنَارِ، وَهَاكَ الْمَقْصُودَ مِنْهَا:
لَمَّا تَنَبَّهَ أَهْلُ أُورُبَّا إِلَى إِصْلَاحِ شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَرْقِيَةِ مَعِيشَتِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ اعْتَنَوْا بِتَرْبِيَةِ النِّسَاءِ وَتَعْلِيمِهِنَّ، فَكَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي تَرْقِيَتِهِمْ، وَتَقَدُّمِهِمْ، وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْلُغُ كَمَالَهَا إِلَّا بِالتَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَعْنِي بِالْإِسْلَامِيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ لَا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ، وَلَا قَبْلَ الْيَوْمِ بِقُرُونٍ، فَقَدْ قُلْتُ آنِفًا: إِنَّهُمْ مَا رَعَوْا تَعَالِيمَ دِينِهِمْ حَقَّ رِعَايَتِهَا ; وَلِهَذَا وُجِدَتْ مَعَ التَّرْبِيَةِ الْأُورُبِّيَّةِ لِلنِّسَاءِ جَرَاثِيمُ الْفَسَادِ، وَنَمَتْ هَذِهِ الْجَرَاثِيمُ، فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا الْأَدْوَاءُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالْأَمْرَاضُ الْمَدَنِيَّةُ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُهَا بِشِدَّةٍ فِي الدَّوْلَةِ السَّابِقَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ فَرَنْسَا فَضَعُفَ نَسْلُهَا، وَقَلَّتْ مَوَالِيدُهَا قِلَّةً تُهَدِّدُهَا بِالِانْقِرَاضِ، وَالذَّنْبُ فِي ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ.
حَذَّرَ مِنْ مَغَبَّةِ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْعُقَلَاءُ، وَحَذَّرَ مِنْ عَوَاقِبِهِ الْكُتَّابُ الْأَذْكِيَاءُ، وَصَرَّحَ مَنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الدِّيَانَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِتَمَنِّي الرُّجُوعِ إِلَى تَعَالِيمِهَا الْمُرْضِيَةِ، وَفَضَائِلِهَا الْحَقِيقِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي أَضَلَّ الْمَرْأَةَ، وَأَفْسَدَ تَرْبِيَتَهَا، وَأَنَّ بَعْضَ فُضْلَيَاتِ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ صَرَّحَتْ بِتَمَنِّي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِيَكُونَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ قَيِّمٌ وَكَفِيلٌ مِنَ الرِّجَالِ.
جَاءَ فِي جَرِيدَةِ (لاغوص ويكلي ركورد) فِي الْعَدَدِ الصَّادِرِ فِي ٢٠ مِنْ إِبْرِيلَ (نِيسَانَ) سَنَةَ ١٩٠١ نَقْلًا عَنْ جَرِيدَةِ (لندن ثروت) بِقَلَمِ كَاتِبَةٍ فَاضِلَةٍ مَا تَرْجَمَتُهُ مُلَخَّصًا:
لَقَدْ كَثُرَتِ الشَّارِدَاتُ مِنْ بَنَاتِنَا، وَعَمَّ الْبَلَاءُ، وَقَلَّ الْبَاحِثُونَ عَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَإِذَا كُنْتُ امْرَأَةً تَرَانِي أَنْظُرُ إِلَى هَاتِيكَ الْبَنَاتِ، وَقَلْبِي يَتَقَطَّعُ شَفَقَةً عَلَيْهِنَّ، وَحُزْنًا، وَمَاذَا عَسَى يُفِيدُهُنَّ بَثِّي، وَحُزْنِي، وَتَوَجُّعِي، وَتَفَجُّعِي، وَإِنْ شَارَكَنِي فِيهِ النَّاسُ جَمِيعًا؟ لَا فَائِدَةَ إِلَّا فِي الْعَمَلِ بِمَا يَمْنَعُ هَذِهِ الْحَالَةَ الرَّجِسَةَ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْعَالِمِ الْفَاضِلِ (تُومَسْ)، فَإِنَّهُ رَأَى الدَّاءَ، وَوَصْفَ
لَهُ الدَّوَاءَ الْكَافِلَ لِلشِّفَاءِ وَهُوَ (الْإِبَاحَةُ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ)، وَبِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ يَزُولُ الْبَلَاءُ لَا مَحَالَةَ، وَتُصْبِحُ بَنَاتُنَا رَبَّاتِ بُيُوتٍ، فَالْبَلَاءُ كُلُّ الْبَلَاءِ فِي إِجْبَارِ الرَّجُلِ الْأُورُبِّيِّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا التَّحْدِيدُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ بَنَاتِنَا شَوَارِدَ، وَقَذَفَ بِهِنَّ إِلَى الْتِمَاسِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفَاقُمِ الشَّرِّ إِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ. أَيُّ ظَنٍّ وَخَرَصٍ يُحِيطُ بِعَدَدِ الرِّجَالِ الْمُتَزَوِّجِينَ الَّذِينَ لَهُمْ أَوْلَادٌ غَيْرُ شَرْعِيِّينَ أَصْبَحُوا كَلًّا، وَعَالَةً، وَعَارًا عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ؟ فَلَوْ كَانَ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ مُبَاحًا لَمَا حَاقَ بِأُولَئِكَ الْأَوْلَادِ وَبِأُمَّهَاتِهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْهُونِ، وَلَسَلِمَ عِرْضُهُنَّ، وَعِرْضُ أَوْلَادِهِنَّ، فَإِنَّ مُزَاحَمَةَ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ سَتُحِلُّ بِنَا الدَّمَارَ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ حَالَ خِلْقَتِهَا تُنَادِي بِأَنَّ عَلَيْهَا مَا لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ
295
مَا لَيْسَ عَلَيْهَا، وَبِإِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ تُصْبِحُ كُلُّ امْرَأَةٍ رَبَّةَ بَيْتٍ، وَأُمَّ أَوْلَادٍ شَرْعِيِّينَ ".
وَنَشَرَتِ الْكَاتِبَةُ الشَّهِيرَةُ (مِسْ أَنِي رُودْ) مَقَالَةً مُفِيدَةً فِي جَرِيدَةِ (الاسترن ميل) فِي الْعَدَدِ الصَّادِرِ مِنْهَا فِي ١٠ مِنْ مَايُو (أَيَارَ) سَنَةَ ١٩٠١ نَقْتَطِفُ مِنْهَا مَا يَأْتِي لِتَأْيِيدِ مَا تَقَدَّمَ: " لَأَنْ يَشْتَغِلَ بَنَاتُنَا فِي الْبُيُوتِ خَوَادِمَ أَوْ كَالْخَوَادِمِ خَيْرٌ، وَأَخَفُّ بَلَاءً مِنَ اشْتِغَالِهِنَّ فِي الْمَعَامِلِ، حَيْثُ تُصْبِحُ الْبِنْتُ مُلَوَّثَةً بِأَدْرَانٍ تَذْهَبُ بِرَوْنَقِ حَيَاتِهَا إِلَى الْأَبَدِ. أَلَا لَيْتَ بِلَادَنَا كَبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا الْحِشْمَةُ، وَالْعَفَافُ، وَالطَّهَارَةُ رِدْءٌ، الْخَادِمَةُ وَالرَّقِيقُ يَتَنَعَّمَانِ بِأَرْغَدِ عَيْشٍ، وَيُعَامَلَانِ كَمَا يُعَامَلُ أَوْلَادُ الْبَيْتِ، وَلَا تُمَسُّ الْأَعْرَاضُ بِسُوءٍ. نَعَمْ إِنَّهُ لَعَارٌ عَلَى بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ تَجْعَلَ بَنَاتِهَا مَثَلًا لِلرَّذَائِلِ بِكَثْرَةِ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، فَمَا بَالُنَا لَا نَسْعَى وَرَاءَ مَا يَجْعَلُ الْبِنْتَ تَعْمَلُ بِمَا يُوَافِقُ فِطْرَتَهَا الطَّبِيعِيَّةَ مِنَ الْقِيَامِ فِي الْبَيْتِ، وَتَرْكِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ لِلرِّجَالِ سَلَامَةً لِشَرَفِهَا ".
وَقَالَتِ الْكَاتِبَةُ الشَّهِيرَةُ (اللِّادِي كُوكْ) بِجَرِيدَةِ (ألايكو) مَا تَرْجَمَتُهُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ: " إِنَّ الِاخْتِلَاطَ يَأْلَفُهُ الرِّجَالُ ; وَلِهَذَا طَمِعَتِ الْمَرْأَةُ بِمَا يُخَالِفُ فِطْرَتَهَا وَعَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ الِاخْتِلَاطِ تَكُونُ كَثْرَةُ أَوْلَادِ الزِّنَا، وَهُنَا الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَالرَّجُلُ الَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ يَتْرُكُهَا، وَشَأْنَهَا تَتَقَلَّبُ عَلَى مَضْجَعِ الْفَاقَةِ، وَالْعَنَاءِ، وَتَذُوقُ مَرَارَةَ الذُّلِّ، وَالْمَهَانَةِ، وَالِاضْطِهَادِ، بَلْ وَالْمَوْتِ أَيْضًا، أَمَّا الْفَاقَةُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ وَثِقَلَهُ، وَالْوَحَمَ وَدُوَارَهُ مِنْ
مَوَانِعِ الْكَسْبِ الَّذِي تُحَصِّلُ بِهِ قُوتَهَا، وَأَمَّا الْعَنَاءُ فَهُوَ أَنَّهَا تُصْبِحُ شِرِّيرَةً حَائِرَةً لَا تَدْرِي مَاذَا تَصْنَعُ بِنَفْسِهَا، وَأَمَّا الذُّلُّ وَالْعَارُ فَأَيُّ عَارٍ بَعْدَ هَذَا؟ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَكَثِيرًا مَا تَبْخَعُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِالِانْتِحَارِ وَغَبَرِهِ.
هَذَا وَالرَّجُلُ لَا يُلِمُّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ، وَعَلَيْهَا التَّبِعَةُ مَعَ أَنَّ عَوَامِلَ الِاخْتِلَاطِ كَانَتْ مِنَ الرَّجُلِ.
" أَمَا آنَ لَنَا أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا يُخَفِّفُ - إِذَا لَمْ نَقُلْ عَمَّا يُزِيلُ - هَذِهِ الْمَصَائِبَ الْعَائِدَةَ بِالْعَارِ عَلَى الْمَدَنِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ؟ أَمَا آنَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ طُرُقًا تَمْنَعُ قَتْلَ أُلُوفٍ مِنَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا ذَنْبَ لَهُمْ بَلِ الذَّنْبُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي أَغْرَى الْمَرْأَةَ الْمَحْبُوبَةَ عَلَى رِقَّةِ الْقَلْبِ الْمُقْتَضِي تَصْدِيقَ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْوُعُودِ، وَيُمَنِّي بِهِ مِنَ الْأَمَانِيِّ حَتَّى إِذَا قَضَى مِنْهَا وَطَرًا تَرَكَهَا وَشَأْنَهَا تُقَاسِي الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
" يَا أَيُّهَا الْوَالِدَانِ لَا يَغُرَّنَّكُمَا بَعْضُ دُرَيْهِمَاتٍ تَكْسِبُهَا بَنَاتُكُمَا بِاشْتِغَالِهِنَّ فِي الْمَعَامِلِ، وَنَحْوِهَا، وَمَصِيرُهُنَّ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، عَلِّمُوهُنَّ الِابْتِعَادَ عَنِ الرِّجَالِ، أَخْبِرُوهُنَّ بِعَاقِبَةِ الْكَيْدِ الْكَامِنِ لَهُنَّ بِالْمِرْصَادِ، لَقَدْ دَلَّنَا الْإِحْصَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَلَاءَ النَّاتِجَ مِنْ حَمْلِ الزِّنَا يَعْظُمُ، وَيَتَفَاقَمُ حَيْثُ يَكْثُرُ اخْتِلَاطُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ أَكْثَرَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ الزِّنَا مِنَ الْمُشْتَغِلَاتِ فِي الْمَعَامِلِ، وَالْخَادِمَاتِ فِي الْبُيُوتِ، وَكَثِيرٍ مِنَ السَّيِّدَاتِ الْمُعَرَّضَاتِ لِلْأَنْظَارِ، وَلَوْلَا الْأَطِبَّاءُ الَّذِينَ يُعْطُونَ
وَنَشَرَتِ الْكَاتِبَةُ الشَّهِيرَةُ (مِسْ أَنِي رُودْ) مَقَالَةً مُفِيدَةً فِي جَرِيدَةِ (الاسترن ميل) فِي الْعَدَدِ الصَّادِرِ مِنْهَا فِي ١٠ مِنْ مَايُو (أَيَارَ) سَنَةَ ١٩٠١ نَقْتَطِفُ مِنْهَا مَا يَأْتِي لِتَأْيِيدِ مَا تَقَدَّمَ: " لَأَنْ يَشْتَغِلَ بَنَاتُنَا فِي الْبُيُوتِ خَوَادِمَ أَوْ كَالْخَوَادِمِ خَيْرٌ، وَأَخَفُّ بَلَاءً مِنَ اشْتِغَالِهِنَّ فِي الْمَعَامِلِ، حَيْثُ تُصْبِحُ الْبِنْتُ مُلَوَّثَةً بِأَدْرَانٍ تَذْهَبُ بِرَوْنَقِ حَيَاتِهَا إِلَى الْأَبَدِ. أَلَا لَيْتَ بِلَادَنَا كَبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا الْحِشْمَةُ، وَالْعَفَافُ، وَالطَّهَارَةُ رِدْءٌ، الْخَادِمَةُ وَالرَّقِيقُ يَتَنَعَّمَانِ بِأَرْغَدِ عَيْشٍ، وَيُعَامَلَانِ كَمَا يُعَامَلُ أَوْلَادُ الْبَيْتِ، وَلَا تُمَسُّ الْأَعْرَاضُ بِسُوءٍ. نَعَمْ إِنَّهُ لَعَارٌ عَلَى بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ تَجْعَلَ بَنَاتِهَا مَثَلًا لِلرَّذَائِلِ بِكَثْرَةِ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، فَمَا بَالُنَا لَا نَسْعَى وَرَاءَ مَا يَجْعَلُ الْبِنْتَ تَعْمَلُ بِمَا يُوَافِقُ فِطْرَتَهَا الطَّبِيعِيَّةَ مِنَ الْقِيَامِ فِي الْبَيْتِ، وَتَرْكِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ لِلرِّجَالِ سَلَامَةً لِشَرَفِهَا ".
وَقَالَتِ الْكَاتِبَةُ الشَّهِيرَةُ (اللِّادِي كُوكْ) بِجَرِيدَةِ (ألايكو) مَا تَرْجَمَتُهُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ: " إِنَّ الِاخْتِلَاطَ يَأْلَفُهُ الرِّجَالُ ; وَلِهَذَا طَمِعَتِ الْمَرْأَةُ بِمَا يُخَالِفُ فِطْرَتَهَا وَعَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ الِاخْتِلَاطِ تَكُونُ كَثْرَةُ أَوْلَادِ الزِّنَا، وَهُنَا الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَالرَّجُلُ الَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ يَتْرُكُهَا، وَشَأْنَهَا تَتَقَلَّبُ عَلَى مَضْجَعِ الْفَاقَةِ، وَالْعَنَاءِ، وَتَذُوقُ مَرَارَةَ الذُّلِّ، وَالْمَهَانَةِ، وَالِاضْطِهَادِ، بَلْ وَالْمَوْتِ أَيْضًا، أَمَّا الْفَاقَةُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ وَثِقَلَهُ، وَالْوَحَمَ وَدُوَارَهُ مِنْ
مَوَانِعِ الْكَسْبِ الَّذِي تُحَصِّلُ بِهِ قُوتَهَا، وَأَمَّا الْعَنَاءُ فَهُوَ أَنَّهَا تُصْبِحُ شِرِّيرَةً حَائِرَةً لَا تَدْرِي مَاذَا تَصْنَعُ بِنَفْسِهَا، وَأَمَّا الذُّلُّ وَالْعَارُ فَأَيُّ عَارٍ بَعْدَ هَذَا؟ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَكَثِيرًا مَا تَبْخَعُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِالِانْتِحَارِ وَغَبَرِهِ.
هَذَا وَالرَّجُلُ لَا يُلِمُّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ، وَعَلَيْهَا التَّبِعَةُ مَعَ أَنَّ عَوَامِلَ الِاخْتِلَاطِ كَانَتْ مِنَ الرَّجُلِ.
" أَمَا آنَ لَنَا أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا يُخَفِّفُ - إِذَا لَمْ نَقُلْ عَمَّا يُزِيلُ - هَذِهِ الْمَصَائِبَ الْعَائِدَةَ بِالْعَارِ عَلَى الْمَدَنِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ؟ أَمَا آنَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ طُرُقًا تَمْنَعُ قَتْلَ أُلُوفٍ مِنَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا ذَنْبَ لَهُمْ بَلِ الذَّنْبُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي أَغْرَى الْمَرْأَةَ الْمَحْبُوبَةَ عَلَى رِقَّةِ الْقَلْبِ الْمُقْتَضِي تَصْدِيقَ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْوُعُودِ، وَيُمَنِّي بِهِ مِنَ الْأَمَانِيِّ حَتَّى إِذَا قَضَى مِنْهَا وَطَرًا تَرَكَهَا وَشَأْنَهَا تُقَاسِي الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
" يَا أَيُّهَا الْوَالِدَانِ لَا يَغُرَّنَّكُمَا بَعْضُ دُرَيْهِمَاتٍ تَكْسِبُهَا بَنَاتُكُمَا بِاشْتِغَالِهِنَّ فِي الْمَعَامِلِ، وَنَحْوِهَا، وَمَصِيرُهُنَّ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، عَلِّمُوهُنَّ الِابْتِعَادَ عَنِ الرِّجَالِ، أَخْبِرُوهُنَّ بِعَاقِبَةِ الْكَيْدِ الْكَامِنِ لَهُنَّ بِالْمِرْصَادِ، لَقَدْ دَلَّنَا الْإِحْصَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَلَاءَ النَّاتِجَ مِنْ حَمْلِ الزِّنَا يَعْظُمُ، وَيَتَفَاقَمُ حَيْثُ يَكْثُرُ اخْتِلَاطُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ أَكْثَرَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ الزِّنَا مِنَ الْمُشْتَغِلَاتِ فِي الْمَعَامِلِ، وَالْخَادِمَاتِ فِي الْبُيُوتِ، وَكَثِيرٍ مِنَ السَّيِّدَاتِ الْمُعَرَّضَاتِ لِلْأَنْظَارِ، وَلَوْلَا الْأَطِبَّاءُ الَّذِينَ يُعْطُونَ
296
الْأَدْوِيَةَ لِلْإِسْقَاطِ لِرَأَيْنَا أَضْعَافَ مَا نَرَى الْآنَ، لَقَدْ أَدَّتْ بِنَا هَذِهِ الْحَالُ إِلَى حَدٍّ مِنَ الدَّنَاءَةِ لَمْ يَكُنْ تَصَوُّرُهَا فِي الْإِمْكَانِ حَتَّى أَصْبَحَ رِجَالُ مُقَاطَعَاتٍ مِنْ بِلَادِنَا لَا يَقْبَلُونَ الْبِنْتَ زَوْجَةً مَا لَمْ تَكُنْ مُجَرَّبَةً أَيْ عِنْدَهَا أَوْلَادٌ مِنَ الزِّنَا يُنْتَفَعُ بِشُغْلِهِمْ! ! وَهَذَا غَايَةُ الْهُبُوطِ بِالْمَدَنِيَّةِ، فَكَمْ قَاسَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ مَرَارَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَتَّى قَدَرَتْ عَلَى كَفَالَتِهِمْ وَالَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى أُولَئِكَ الْأَطْفَالِ، وَلَا يَتَعَهَّدُهُمْ بِشَيْءٍ، وَيْلَاهُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ التَّعِيسَةِ، تُرَى مَنْ كَانَ مُعِينًا لَهَا فِي الْوَحَمِ وَدُوَارِهِ، وَالْحَمْلِ وَأَثْقَالِهِ، وَالْوَضْعِ وَآلَامِهِ، وَالْفِصَالِ وَمَرَارَتِهِ؟ " اهـ.
ذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ فِي وَجْهِ الْحَاجَةِ تَارَةً وَالضَّرُورَةِ تَارَةً إِلَى تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَيُزَادُ عَلَيْهِ مَا عُلِمَ مِنْهُ ضِمْنًا مِنْ كَثْرَةِ النَّسْلِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، وَطَبْعًا، فَإِذَا كَانَ مَنْعُ التَّعَدُّدِ لَاسِيَّمَا فِي أَعْقَابِ الْحُرُوبِ، وَكَثْرَةُ النِّسَاءِ يُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَهُوَ مِمَّا يُقَلِّلُ النَّسْلَ كَانَ مِمَّا يَلِيقُ
بِالشَّرِيعَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُرَغِّبَةِ فِي كَثْرَةِ النَّسْلِ وَالْمُشَدِّدَةِ فِي مَنْعِ الزِّنَا أَنْ تُبِيحَ التَّعَدُّدَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ مَعَ التَّشْدِيدِ فِي مَنْعِ مَضَرَّاتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا بِأَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَفْرِيقْيَا، وَغَيْرِهَا، وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَهْمَا كَانَ مِنْ ضَرَرِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فَهُوَ لَا يَبْلُغُ ضَرَرَ قِلَّةِ النَّسْلِ الَّذِي مُنِيَتْ بِهِ فَرَنْسَا بِانْتِشَارِ الزِّنَا وَقِلَّةِ الزَّوَاجِ، وَسَتَتْبَعُهَا إِنْكِلْتِرَا، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَلَى شَاكِلَتِهِمَا فِي التَّسَاهُلِ فِي الْفِسْقِ، أَمَّا مَنْعُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِذَا فَشَا ضَرَرُهُ، وَكَثُرَتْ مَفَاسِدُهُ، وَثَبَتَ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ أَنَّ الْجُمْهُورَ لَا يَعْدِلُونَ فِيهِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بَلْهَ الضَّرُورَةَ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ وَجْهٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمْحَةِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُبَاحَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ مَا دَامَتِ الْمَفْسَدَةُ قَائِمَةً بِهِ، وَالْمَصْلَحَةُ بِخِلَافِهِ، بَلْ مَنَعَ عُمَرُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي عَامِ الرَّمَادَةِ أَنْ يُحَدَّ سَارِقٌ ; وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ أُخْرَى لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَيَانِهَا، وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَتْوَى فِي ذَلِكَ ذَكَرْنَاهَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ.
لَكِنَّ الْإِفْرِنْجَ يُبَالِغُونَ فِي وَصْفِ مَفَاسِدِ التَّعَدُّدِ، وَكَذَا الْمُتَفَرْنِجُونَ كَدَأْبِ النَّاسِ فِي التَّسْلِيمِ لِلْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ، وَالتَّقْلِيدِ لَهَا. وَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا قَالَهُ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى التَّعَدُّدِ إِلَّا لِتَنْفِيرِ الذَّوَّاقِينَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا، وَيُطَلِّقُونَ كَثِيرًا لِمَحْضِ التَّنَقُّلِ فِي اللَّذَّةِ، وَالْإِغْرَاقِ فِي طَاعَةِ الشَّهْوَةِ مَعَ عَدَمِ التَّهْذِيبِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ.
أَلَا إِنَّ التَّهْذِيبَ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْإِنْسَانُ قِيمَةَ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ التَّعَدُّدَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَهَذِهِ الْحَيَاةُ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١] قَلَّمَا تَتَحَقَّقُ عَلَى كَمَالِهَا مَعَ التَّعَدُّدِ لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ; وَلِذَلِكَ يَقِلُّ فِي الْمَذْهَبَيْنِ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، وَإِنَّنِي لَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي فِي مِصْرَ وَسُورِيَةَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدَةٍ.
ذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ فِي وَجْهِ الْحَاجَةِ تَارَةً وَالضَّرُورَةِ تَارَةً إِلَى تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَيُزَادُ عَلَيْهِ مَا عُلِمَ مِنْهُ ضِمْنًا مِنْ كَثْرَةِ النَّسْلِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، وَطَبْعًا، فَإِذَا كَانَ مَنْعُ التَّعَدُّدِ لَاسِيَّمَا فِي أَعْقَابِ الْحُرُوبِ، وَكَثْرَةُ النِّسَاءِ يُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَهُوَ مِمَّا يُقَلِّلُ النَّسْلَ كَانَ مِمَّا يَلِيقُ
بِالشَّرِيعَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُرَغِّبَةِ فِي كَثْرَةِ النَّسْلِ وَالْمُشَدِّدَةِ فِي مَنْعِ الزِّنَا أَنْ تُبِيحَ التَّعَدُّدَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ مَعَ التَّشْدِيدِ فِي مَنْعِ مَضَرَّاتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا بِأَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَفْرِيقْيَا، وَغَيْرِهَا، وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَهْمَا كَانَ مِنْ ضَرَرِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فَهُوَ لَا يَبْلُغُ ضَرَرَ قِلَّةِ النَّسْلِ الَّذِي مُنِيَتْ بِهِ فَرَنْسَا بِانْتِشَارِ الزِّنَا وَقِلَّةِ الزَّوَاجِ، وَسَتَتْبَعُهَا إِنْكِلْتِرَا، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَلَى شَاكِلَتِهِمَا فِي التَّسَاهُلِ فِي الْفِسْقِ، أَمَّا مَنْعُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِذَا فَشَا ضَرَرُهُ، وَكَثُرَتْ مَفَاسِدُهُ، وَثَبَتَ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ أَنَّ الْجُمْهُورَ لَا يَعْدِلُونَ فِيهِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بَلْهَ الضَّرُورَةَ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ وَجْهٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمْحَةِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُبَاحَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ مَا دَامَتِ الْمَفْسَدَةُ قَائِمَةً بِهِ، وَالْمَصْلَحَةُ بِخِلَافِهِ، بَلْ مَنَعَ عُمَرُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي عَامِ الرَّمَادَةِ أَنْ يُحَدَّ سَارِقٌ ; وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ أُخْرَى لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَيَانِهَا، وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَتْوَى فِي ذَلِكَ ذَكَرْنَاهَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ.
لَكِنَّ الْإِفْرِنْجَ يُبَالِغُونَ فِي وَصْفِ مَفَاسِدِ التَّعَدُّدِ، وَكَذَا الْمُتَفَرْنِجُونَ كَدَأْبِ النَّاسِ فِي التَّسْلِيمِ لِلْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ، وَالتَّقْلِيدِ لَهَا. وَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا قَالَهُ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى التَّعَدُّدِ إِلَّا لِتَنْفِيرِ الذَّوَّاقِينَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا، وَيُطَلِّقُونَ كَثِيرًا لِمَحْضِ التَّنَقُّلِ فِي اللَّذَّةِ، وَالْإِغْرَاقِ فِي طَاعَةِ الشَّهْوَةِ مَعَ عَدَمِ التَّهْذِيبِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ.
أَلَا إِنَّ التَّهْذِيبَ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْإِنْسَانُ قِيمَةَ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ التَّعَدُّدَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَهَذِهِ الْحَيَاةُ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١] قَلَّمَا تَتَحَقَّقُ عَلَى كَمَالِهَا مَعَ التَّعَدُّدِ لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ; وَلِذَلِكَ يَقِلُّ فِي الْمَذْهَبَيْنِ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، وَإِنَّنِي لَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي فِي مِصْرَ وَسُورِيَةَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدَةٍ.
297
وَقَدْ صَدَقَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا تَرْبِيَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ لَقَلَّ ضَرَرُ التَّعَدُّدِ فِينَا حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَ غَيْرَةَ الضَّرَائِرِ، بَلْ أَعْرِفُ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ، وَالِاخْتِبَارِ الشَّخْصِيِّ أَنَّ بَعْضَ الضَّرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ قَدْ عِشْنَ مَعِيشَةَ الْوِفَاقِ وَالْمَحَبَّةِ، وَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُنَادِي الْأُخْرَى " يَا أُخْتِي "، وَقَدْ تَزَوَّجَ كَبِيرُ قَرْيَةٍ فِي لُبْنَانَ فَلَمْ يُولَدْ لَهُ فَتَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْأُولَى، وَرِضَاهَا ابْتِغَاءَ النَّسْلِ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا، وَكَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَتَا مُتَحَابَّتَيْنِ كَالْأُخْتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تَعْتَنِي بِتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَخِدْمَتِهِ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ عِنَايَةَ أُمِّهِ بِهِ كَانَتْ أَقَلَّ، وَمَاتَ الرَّجُلُ عَنْهُمَا فَلَمْ تَتَفَرَّقَا مِنْ بَعْدِهِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا عَدْلُهُ وَتَدَيُّنُهُمَا. نَعَمْ إِنَّ الْوِفَاقَ صَارَ مِنَ النَّادِرِ، وَيَصْدُقُ عَلَى أَكْثَرِ الضَّرَائِرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَقَالَةٌ فِي حُكْمِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَشُرُوطِهِ، وَمَضَارِّهِ الْمُشَاهَدَةِ بِمِصْرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ نَشَرَهَا فِي جَرِيدَةِ الْوَقَائِعِ الرَّسْمِيَّةِ فِي ٩ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ١٢٩٨ نَنْشُرُهَا هُنَا اسْتِيفَاءً لِلْبَحْثِ وَهِيَ.
((حُكْمُ الشَّرِيعَةِ فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ)) قَدْ أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ لِلرَّجُلِ الِاقْتِرَانَ بِأَرْبَعٍ مِنَ النِّسْوَةِ إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِرَانُ بِغَيْرِ وَاحِدَةٍ قَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إِعْطَاءَ كُلٍّ مِنْهُنَّ حَقَّهَا اخْتَلَّ نِظَامُ الْمَنْزِلِ، وَسَاءَتْ مَعِيشَةُ الْعَائِلَةِ، إِذِ الْعِمَادُ الْقَوِيمُ لِتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ هُوَ بَقَاءُ الِاتِّحَادِ، وَالتَّآلُفِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ. وَالرَّجُلُ إِذَا خَصَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ دُونَ الْبَاقِيَاتِ، وَلَوْ بِشَيْءٍ زَهِيدٍ كَأَنْ يَسْتَقْضِيَهَا حَاجَةً فِي يَوْمِ الْأُخْرَى امْتَعَضَتْ تِلْكَ الْأُخْرَى، وَسَئِمَتِ الرَّجُلَ لِتَعَدِّيهِ عَلَى حُقُوقِهَا بِتَزَلُّفِهِ إِلَى مَنْ لَا حَقَّ لَهَا، وَتَبَدَّلَ الِاتِّحَادُ بِالنَّفْرَةِ، وَالْمَحَبَّةُ بِالْبُغْضِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَاعَةُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْعُلَمَاءُ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ يَجْمَعُونَ
بَيْنَ النِّسْوَةِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِ اللهِ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يَأْتُونَ حُجْرَةَ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَى إِلَّا بِإِذْنِهَا.
فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَتَا مُتَحَابَّتَيْنِ كَالْأُخْتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تَعْتَنِي بِتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَخِدْمَتِهِ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ عِنَايَةَ أُمِّهِ بِهِ كَانَتْ أَقَلَّ، وَمَاتَ الرَّجُلُ عَنْهُمَا فَلَمْ تَتَفَرَّقَا مِنْ بَعْدِهِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا عَدْلُهُ وَتَدَيُّنُهُمَا. نَعَمْ إِنَّ الْوِفَاقَ صَارَ مِنَ النَّادِرِ، وَيَصْدُقُ عَلَى أَكْثَرِ الضَّرَائِرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَزَوَّجْتُ اثْنَتَيْنِ لِفَرْطِ جَهْلِي | وَقَدْ حَازَ الْبَلَا زَوْجُ اثْنَتَيْنِ |
فَقُلْتُ أَعِيشُ بَيْنَهُمَا خَرُوفًا | أُنَعَّمُ بَيْنَ أَكْرَمِ نَعْجَتَيْنِ |
فَجَاءَ الْأَمْرُ عَكْسَ الْقَصْدِ دَوْمًا | عَذَابٌ دَائِمٌ بِبَلِيَّتَيْنِ |
لِهَذِي لَيْلَةٌ وَلِتِلْكَ أُخْرَى | نِقَارٌ دَائِمٌ فِي اللَّيْلَتَيْنِ |
رِضَا هَذَى يُهَيِّجُ سُخْطَ هَذِي | فَلَا أَخْلُو مِنْ إِحْدَى السَّخْطَتَيْنِ |
((حُكْمُ الشَّرِيعَةِ فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ)) قَدْ أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ لِلرَّجُلِ الِاقْتِرَانَ بِأَرْبَعٍ مِنَ النِّسْوَةِ إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِرَانُ بِغَيْرِ وَاحِدَةٍ قَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إِعْطَاءَ كُلٍّ مِنْهُنَّ حَقَّهَا اخْتَلَّ نِظَامُ الْمَنْزِلِ، وَسَاءَتْ مَعِيشَةُ الْعَائِلَةِ، إِذِ الْعِمَادُ الْقَوِيمُ لِتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ هُوَ بَقَاءُ الِاتِّحَادِ، وَالتَّآلُفِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ. وَالرَّجُلُ إِذَا خَصَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ دُونَ الْبَاقِيَاتِ، وَلَوْ بِشَيْءٍ زَهِيدٍ كَأَنْ يَسْتَقْضِيَهَا حَاجَةً فِي يَوْمِ الْأُخْرَى امْتَعَضَتْ تِلْكَ الْأُخْرَى، وَسَئِمَتِ الرَّجُلَ لِتَعَدِّيهِ عَلَى حُقُوقِهَا بِتَزَلُّفِهِ إِلَى مَنْ لَا حَقَّ لَهَا، وَتَبَدَّلَ الِاتِّحَادُ بِالنَّفْرَةِ، وَالْمَحَبَّةُ بِالْبُغْضِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَاعَةُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْعُلَمَاءُ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ يَجْمَعُونَ
بَيْنَ النِّسْوَةِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِ اللهِ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يَأْتُونَ حُجْرَةَ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَى إِلَّا بِإِذْنِهَا.
298
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُطَافُ بِهِ وَهُوَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ عَلَى بُيُوتِ زَوْجَاتِهِ مَحْمُولًا عَلَى الْأَكْتَافِ حِفْظًا لِلْعَدْلِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالْإِقَامَةِ فِي بَيْتِ إِحْدَاهُنَّ خَاصَّةً، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ إِحْدَى نِسَائِهِ سَأَلَ: فِي أَيِّ بَيْتٍ أَكُونُ غَدًا؟ فَعَلِمَ نِسَاؤُهُ أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ نَوْبَةِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ فِي الْمُقَامِ عِنْدَهَا مُدَّةَ الْمَرَضِ، فَقَالَ: هَلْ رَضِيتُنَّ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ، فَلَمْ يُقِمْ فِي بَيْتِ عَائِشَة حَتَّى عَلِمَ رِضَاهُنَّ. وَهَذَا الْوَاجِبُ الَّذِي حَافَظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى نَصَائِحِهِ، وَوَصَايَاهُ، فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ آخِرَ مَا أَوْصَى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثٌ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِنَّ حَتَّى لَجْلَجَ لِسَانُهُ، وَخَفِيَ كَلَامُهُ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، اللهَ اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ فِي أَيْدِيكُمْ - أَيْ أُسَرَاءُ - أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ وَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ دُونَ الْأُخْرَى - وَفِي رِوَايَةٍ، وَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا - جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَذِرُ عَنْ مَيْلِهِ الْقَلْبِيِّ بِقَوْلِهِ: اللهُمَّ هَذَا - أَيِ الْعَدْلُ فِي الْبَيَاتِ وَالْعَطَاءِ - جُهْدِي فِيمَا أَمْلِكُ وَلَا طَاقَةَ لِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ - يَعْنِي الْمَيْلَ الْقَلْبِيَّ - وَكَانَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا.
وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَسْمِ فِي الْبَيْتُوتَةِ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ، وَفِيهَا، وَفِي الْعَطَاءِ أَعْنِي النَّفَقَةَ عِنْدَ غَالِبِهِمْ حَتَّى قَالُوا: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ أَنْ يُطَوِّفَهُ عَلَى نِسَائِهِ. وَقَالُوا لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الدُّخُولُ عِنْدَ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَى إِلَّا لِضَرُورَةٍ مُبِيحَةٍ غَايَتَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهَا مِنْ خَارِجِ الْبَابِ، وَالسُّؤَالُ عَنْ حَالِهَا بِدُونِ دُخُولٍ، وَصَرَّحَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ بِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ عِنْدَ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ دُونَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ بِحُجْرَتِهَا، وَلَا يَذْهَبَ إِلَى ضَرَّتِهَا إِلَّا لِمَانِعِ بَرْدٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ ظَاهِرَ آيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَنَّ الْعَدْلَ فَرْضٌ فِي الْبَيْتُوتَةِ، وَفِي الْمَلْبُوسِ، وَالْمَأْكُولِ، وَالصُّحْبَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فَحْلٍ
وَعِنِّينٍ، وَمَجْبُوبٍ، وَمَرِيضٍ وَصَحِيحٍ. وَقَالُوا: إِنَّ الْعَدْلَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ شَرْعًا إِذْ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهَا. وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَعْدِلْ وَرُفِعَ إِلَى الْقَاضِي وَجَبَ نَهْيُهُ، وَزَجْرُهُ، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ بِالضَّرْبِ لَا بِالْحَبْسِ ; وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مُحَافَظَةً عَلَى الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ مِنَ الزَّوَاجِ، وَهُوَ التَّعَاوُنُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ السُّلُوكِ فِيهَا.
أَفَبَعْدَ الْوَعِيدِ الشَّرْعِيِّ، وَذَاكَ الْإِلْزَامِ الدَّقِيقِ الْحَتْمِيِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، وَلَا تَحْوِيلًا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ تَوَهُّمِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسْوَةِ فَضْلًا عَنْ تَحَقُّقِهِ؟ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَنَا الْجَمْعُ بَيْنَ نِسْوَةٍ لَا يَحْمِلُنَا عَلَى جَمْعِهِنَّ إِلَّا قَضَاءُ شَهْوَةٍ فَانِيَةٍ، وَاسْتِحْصَالُ لَذَّةٍ وَقْتِيَّةٍ غَيْرَ مُبَالِينَ بِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، فَإِنَّا نَرَى أَنَّهُ إِنْ
وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَسْمِ فِي الْبَيْتُوتَةِ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ، وَفِيهَا، وَفِي الْعَطَاءِ أَعْنِي النَّفَقَةَ عِنْدَ غَالِبِهِمْ حَتَّى قَالُوا: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ أَنْ يُطَوِّفَهُ عَلَى نِسَائِهِ. وَقَالُوا لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الدُّخُولُ عِنْدَ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَى إِلَّا لِضَرُورَةٍ مُبِيحَةٍ غَايَتَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهَا مِنْ خَارِجِ الْبَابِ، وَالسُّؤَالُ عَنْ حَالِهَا بِدُونِ دُخُولٍ، وَصَرَّحَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ بِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ عِنْدَ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ دُونَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ بِحُجْرَتِهَا، وَلَا يَذْهَبَ إِلَى ضَرَّتِهَا إِلَّا لِمَانِعِ بَرْدٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ ظَاهِرَ آيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَنَّ الْعَدْلَ فَرْضٌ فِي الْبَيْتُوتَةِ، وَفِي الْمَلْبُوسِ، وَالْمَأْكُولِ، وَالصُّحْبَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فَحْلٍ
وَعِنِّينٍ، وَمَجْبُوبٍ، وَمَرِيضٍ وَصَحِيحٍ. وَقَالُوا: إِنَّ الْعَدْلَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ شَرْعًا إِذْ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهَا. وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَعْدِلْ وَرُفِعَ إِلَى الْقَاضِي وَجَبَ نَهْيُهُ، وَزَجْرُهُ، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ بِالضَّرْبِ لَا بِالْحَبْسِ ; وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مُحَافَظَةً عَلَى الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ مِنَ الزَّوَاجِ، وَهُوَ التَّعَاوُنُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ السُّلُوكِ فِيهَا.
أَفَبَعْدَ الْوَعِيدِ الشَّرْعِيِّ، وَذَاكَ الْإِلْزَامِ الدَّقِيقِ الْحَتْمِيِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، وَلَا تَحْوِيلًا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ تَوَهُّمِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسْوَةِ فَضْلًا عَنْ تَحَقُّقِهِ؟ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَنَا الْجَمْعُ بَيْنَ نِسْوَةٍ لَا يَحْمِلُنَا عَلَى جَمْعِهِنَّ إِلَّا قَضَاءُ شَهْوَةٍ فَانِيَةٍ، وَاسْتِحْصَالُ لَذَّةٍ وَقْتِيَّةٍ غَيْرَ مُبَالِينَ بِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، فَإِنَّا نَرَى أَنَّهُ إِنْ
299
بَدَتْ لِإِحْدَاهُنَّ فُرْصَةٌ لِلْوِشَايَةِ عِنْدَ الزَّوْجِ فِي حَقِّ الْأُخْرَى صَرَفَتْ جُهْدَهَا مَا اسْتَطَاعَتْ فِي تَنْمِيقِهَا، وَإِتْقَانِهَا، وَتَحْلِفُ بِاللهِ إِنَّهَا لَصَادِقَةٌ فِيمَا افْتَرَتْ - وَمَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْكَاذِبَاتِ - فَيَعْتَقِدُ الرَّجُلُ أَنَّهَا أَخْلَصَتْ لَهُ النُّصْحَ لِفَرْطِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا، وَيُوسِعُ الْأُخْرَيَاتِ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَسَبًّا فَظِيعًا، وَيَسُومُهُنَّ طَرْدًا، وَنَهْرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيمَا أَلْقَى إِلَيْهِ ; إِذْ لَا هِدَايَةَ عِنْدَهُ تُرْشِدُهُ إِلَى تَمْيِيزِ صَحِيحِ الْقَوْلِ مِنْ فَاسِدِهِ، وَلَا نُورَ بَصِيرَةٍ يُوقِفُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَتَضْطَرِمُ نِيرَانُ الْغَيْظِ فِي أَفْئِدَةِ هَاتِيكَ النِّسْوَةِ، وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الزَّوْجِ، وَالْمَرْأَةِ الْوَاشِيَةِ، وَيَكْثُرُ الْعِرَاكُ، وَالْمُشَاجَرَةُ بَيْنَهُنَّ بَيَاضَ النَّهَارِ وَسَوَادَ اللَّيْلِ، وَفَضْلًا عَنِ اشْتِغَالِهِنَّ بِالشِّقَاقِ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَعْمَالِ الْمَنْزِلِ يُكْثِرْنَ مِنْ خِيَانَةِ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ وَأَمْتِعَتِهِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ ; فَإِنَّهُنَّ دَائِمًا يَتَوَقَّعْنَ مِنْهُ الطَّلَاقَ ; إِمَّا مِنْ خُبْثِ أَخْلَاقِهِنَّ، أَوْ مِنْ رَدَاءَةِ أَفْكَارِ الزَّوْجِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَكِلَاهُمَا لَا يَهْدَأُ لَهُ بَالٌ، وَلَا يَرِقُّ لَهُ عَيْشٌ.
وَمِنْ شِدَّةِ تَمَكُّنِّ الْغَيْرَةِ وَالْحِقْدِ فِي أَفْئِدَتِهِنَّ تَزْرَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي ضَمِيرِ وَلَدِهَا مَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَلَدِّ الْأَعْدَاءِ لِإِخْوَتِهِ أَوْلَادِ النِّسْوَةِ الْأُخْرَيَاتِ، فَإِنَّهَا دَائِمًا تَمْقُتُهُمْ، وَتَذْكُرُهُمْ بِالسُّوءِ عِنْدَهُ، وَهُوَ يَسْمَعُ، وَتُبَيِّنُ لَهُ امْتِيَازَهُمْ عَنْهُ عِنْدَ وَالِدِهِمْ، وَتُعَدِّدُ لَهُ وُجُوهَ الِامْتِيَازِ، فَكُلُّ ذَلِكَ وَمَا شَابَهَهُ إِنْ أُلْقِيَ إِلَى الْوَلَدِ حَالَ الطُّفُولَةِ يَفْعَلُ فِي نَفْسِهِ فِعْلًا لَا يَقْوَى عَلَى إِزَالَتِهِ بَعْدَ تَعَقُّلِهِ، فَيَبْقَى نَفُورًا مِنْ أَخِيهِ عَدُوًّا لَهُ (لَا نَصِيرًا،
وَظَهِيرًا لَهُ عَلَى اجْتِنَاءِ الْفَوَائِدِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَخِ).
وَإِنْ تَطَاوَلَ وَاحِدٌ مِنْ وَلَدِ تِلْكَ عَلَى آخَرَ مِنْ وَلَدِ هَذِهِ - وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا لَفَظَ إِنْ كَانَ خَيْرًا، أَوْ شَرًّا لِكَوْنِهِ صَغِيرًا - انْتَصَبَ سُوقُ الْعِرَاكِ بَيْنَ وَالِدَتَيْهِمَا، وَأَوْسَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ الْأُخْرَى بِمَا فِي وُسْعِهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْفُحْشِ وَمُسْتَهْجَنَاتِ السَّبِّ - وَإِنْ كُنَّ مِنَ الْمُخَدَّرَاتِ فِي بُيُوتِ الْمُعْتَبَرِينَ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْجِهَاتِ خُصُوصًا الرِّيفِيَّةَ، وَإِذَا دَخَلَ الزَّوْجُ عَلَيْهِنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَسَّرَ عَلَيْهِ إِطْفَاءُ الثَّوْرَةِ مِنْ بَيْنِهِنَّ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَلِينِ الْجَانِبِ ; إِذْ لَا يَسْمَعْنَ لَهُ أَمْرًا، وَلَا يَرْهَبْنَ مِنْهُ وَعِيدًا ; لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ مِنَ الْمُنَازَعَاتِ، وَالْمُشَاجَرَاتِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، أَوْ غَيْرِهَا الَّتِي أَفْضَتْ إِلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ، وَانْتِهَاكِ وَاجِبَاتِهِ عِنْدَهُنَّ، أَوْ لِكَوْنِهِ ضَعِيفَ الرَّأْيِ، أَحْمَقَ الطَّبْعِ، فَتَقُودُهُ تِلْكَ الْأَسْبَابُ إِلَى فَضِّ هَذِهِ الْمُشَاجَرَةِ بِطَلَاقِهِنَّ جَمِيعًا، أَوْ بِطَلَاقِ مَنْ هِيَ عِنْدَهُ أَقَلُّ مَنْزِلَةً فِي الْحُبِّ - وَلَوْ كَانَتْ أَمَّ أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ - فَتَخْرُجُ مِنَ الْمَنْزِلِ سَائِلَةَ الدَّمْعِ، حَزِينَةَ الْخَاطِرِ، حَامِلَةً مِنَ الْأَطْفَالِ عَدِيدًا فَتَأْوِي بِهِمْ إِلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا إِنْ كَانَ، ثُمَّ لَا يَمْضِي عَلَيْهَا بِضْعَةُ أَشْهُرٍ عِنْدَهُ إِلَّا سَئِمَهَا، فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ رَدِّ الْأَوْلَادِ إِلَى أَبِيهِمْ، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ زَوْجَتَهُ الْحَالِيَّةَ تُعَامِلُهُمْ بِأَسْوَأَ مِمَّا عُومِلُوا بِهِ مِنْ عَشِيرَةِ أَبِيهَا. وَلَا تَسَلْ عَنْ أُمِّ الْأَوْلَادِ إِذَا طُلِّقَتْ، وَلَيْسَ لَهَا مَنْ تَأْوِي إِلَيْهِ فَإِنَّ شَرْحَ مَا تُعَانِيهِ مِنْ أَلَمِ الْفَاقَةِ وَذُلِّ النَّفْسِ لَيْسَ يُحْزِنُ
وَمِنْ شِدَّةِ تَمَكُّنِّ الْغَيْرَةِ وَالْحِقْدِ فِي أَفْئِدَتِهِنَّ تَزْرَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي ضَمِيرِ وَلَدِهَا مَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَلَدِّ الْأَعْدَاءِ لِإِخْوَتِهِ أَوْلَادِ النِّسْوَةِ الْأُخْرَيَاتِ، فَإِنَّهَا دَائِمًا تَمْقُتُهُمْ، وَتَذْكُرُهُمْ بِالسُّوءِ عِنْدَهُ، وَهُوَ يَسْمَعُ، وَتُبَيِّنُ لَهُ امْتِيَازَهُمْ عَنْهُ عِنْدَ وَالِدِهِمْ، وَتُعَدِّدُ لَهُ وُجُوهَ الِامْتِيَازِ، فَكُلُّ ذَلِكَ وَمَا شَابَهَهُ إِنْ أُلْقِيَ إِلَى الْوَلَدِ حَالَ الطُّفُولَةِ يَفْعَلُ فِي نَفْسِهِ فِعْلًا لَا يَقْوَى عَلَى إِزَالَتِهِ بَعْدَ تَعَقُّلِهِ، فَيَبْقَى نَفُورًا مِنْ أَخِيهِ عَدُوًّا لَهُ (لَا نَصِيرًا،
وَظَهِيرًا لَهُ عَلَى اجْتِنَاءِ الْفَوَائِدِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَخِ).
وَإِنْ تَطَاوَلَ وَاحِدٌ مِنْ وَلَدِ تِلْكَ عَلَى آخَرَ مِنْ وَلَدِ هَذِهِ - وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا لَفَظَ إِنْ كَانَ خَيْرًا، أَوْ شَرًّا لِكَوْنِهِ صَغِيرًا - انْتَصَبَ سُوقُ الْعِرَاكِ بَيْنَ وَالِدَتَيْهِمَا، وَأَوْسَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ الْأُخْرَى بِمَا فِي وُسْعِهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْفُحْشِ وَمُسْتَهْجَنَاتِ السَّبِّ - وَإِنْ كُنَّ مِنَ الْمُخَدَّرَاتِ فِي بُيُوتِ الْمُعْتَبَرِينَ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْجِهَاتِ خُصُوصًا الرِّيفِيَّةَ، وَإِذَا دَخَلَ الزَّوْجُ عَلَيْهِنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَسَّرَ عَلَيْهِ إِطْفَاءُ الثَّوْرَةِ مِنْ بَيْنِهِنَّ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَلِينِ الْجَانِبِ ; إِذْ لَا يَسْمَعْنَ لَهُ أَمْرًا، وَلَا يَرْهَبْنَ مِنْهُ وَعِيدًا ; لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ مِنَ الْمُنَازَعَاتِ، وَالْمُشَاجَرَاتِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، أَوْ غَيْرِهَا الَّتِي أَفْضَتْ إِلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ، وَانْتِهَاكِ وَاجِبَاتِهِ عِنْدَهُنَّ، أَوْ لِكَوْنِهِ ضَعِيفَ الرَّأْيِ، أَحْمَقَ الطَّبْعِ، فَتَقُودُهُ تِلْكَ الْأَسْبَابُ إِلَى فَضِّ هَذِهِ الْمُشَاجَرَةِ بِطَلَاقِهِنَّ جَمِيعًا، أَوْ بِطَلَاقِ مَنْ هِيَ عِنْدَهُ أَقَلُّ مَنْزِلَةً فِي الْحُبِّ - وَلَوْ كَانَتْ أَمَّ أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ - فَتَخْرُجُ مِنَ الْمَنْزِلِ سَائِلَةَ الدَّمْعِ، حَزِينَةَ الْخَاطِرِ، حَامِلَةً مِنَ الْأَطْفَالِ عَدِيدًا فَتَأْوِي بِهِمْ إِلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا إِنْ كَانَ، ثُمَّ لَا يَمْضِي عَلَيْهَا بِضْعَةُ أَشْهُرٍ عِنْدَهُ إِلَّا سَئِمَهَا، فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ رَدِّ الْأَوْلَادِ إِلَى أَبِيهِمْ، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ زَوْجَتَهُ الْحَالِيَّةَ تُعَامِلُهُمْ بِأَسْوَأَ مِمَّا عُومِلُوا بِهِ مِنْ عَشِيرَةِ أَبِيهَا. وَلَا تَسَلْ عَنْ أُمِّ الْأَوْلَادِ إِذَا طُلِّقَتْ، وَلَيْسَ لَهَا مَنْ تَأْوِي إِلَيْهِ فَإِنَّ شَرْحَ مَا تُعَانِيهِ مِنْ أَلَمِ الْفَاقَةِ وَذُلِّ النَّفْسِ لَيْسَ يُحْزِنُ
300
الْقَلْبَ بِأَقَلَّ مِنَ الْحُزْنِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِمَا تُسَامُ بِهِ صِبْيَتُهَا مِنَ الطَّرْدِ، وَالتَّقْرِيعِ يَئِنُّونَ مِنَ الْجُوعِ، وَيَبْكُونَ مِنْ أَلَمِ الْمُعَامَلَةِ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاقِعٍ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ الْغَرَّاءَ كَلَّفَتِ الزَّوْجَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ، وَأَوْلَادِهِ مِنْهَا حَتَّى تُحْسِنَ تَرْبِيَتَهُمْ، وَعَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْحَضَانَةِ إِنْ خَرَجَتْ مِنْ عِلَّتِهَا وَتَزَوَّجَتْ. فَإِنَّ الزَّوْجَ وَإِنْ كَلَّفَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِذَلِكَ لَكِنْ لَا يَرْضَخُ لِأَحْكَامِهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يُكَلِّفُهُ نَفَقَاتٍ كَبِيرَةٍ إِلَّا مُكْرَهًا مَجْبُورًا، وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطَالِبَهُ بِحَقِّهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ، إِمَّا لِبُعْدِ مَرْكَزِهِ، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَتَتْرُكُ بَنِيهَا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مُدَّةَ أُسْبُوعٍ، أَوْ أُسْبُوعَيْنِ حَتَّى يَسْتَحْضِرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ، وَرُبَّمَا آبَتْ إِلَيْهِمْ حَامِلَةً صَكًّا بِالْتِزَامِهِ بِالدَّفْعِ لَهَا كُلَّ شَهْرٍ مَا أَوْجَبَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْبِضَ مِنْهُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ أَوْ يَذْهَبُ بِالْعَوَزِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ
مُصِرًّا عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ ; لِكَوْنِهِ مُتَحَقِّقًا مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُخَاطِرَ بِنَفْسِهَا إِلَى الْعَوْدَةِ لِلشِّكَايَةِ لِوَهْنِ قُوَاهَا، وَاشْتِغَالِهَا بِمَا يُذْهِبُ الْحَاجَةَ الْوَقْتِيَّةَ، أَوْ حَيَاءً مِنْ شِكَايَةِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْيَافِ يَعُدُّونَ مُطَالَبَةَ الْمَرْأَةِ بِنَفَقَتِهَا عَيْبًا فَظِيعًا، فَهِيَ تُفَضِّلُ الْبَقَاءَ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَتْعَابِ الشَّاقَّةِ طَلَبًا لِمَا تُقِيمُ بِهِ بِنْيَتَهَا هِيَ وَبَنِيهَا عَلَى الشِّكَايَةِ الَّتِي تُوجِبُ لَهَا الْعَارَ، وَرُبَّمَا لَمْ تَأْتِ بِالثَّمَرَةِ الْمَقْصُودَةِ. وَغَيْرُ خَفِيٍّ أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَرْأَةِ الْإِثْمَ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَمُعَانَاةَ الْبَلَايَا الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي أَقَلُّهَا ابْتِذَالُ مَاءِ الْوَجْهِ تُؤَثِّرُ فِي أَخْلَاقِهَا فَسَادًا، وَفِي طِبَاعِهَا قُبْحًا ; مِمَّا يَذْهَبُ بِكَمَالِهَا، وَيُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيرِهَا عِنْدَ الرَّاغِبِينَ فِي الزَّوَاجِ، وَلَرُبَّمَا أَدَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمُورُ إِلَى أَنْ تَبْقَى أَيِّمًا مُدَّةَ شَبَابِهَا تَتَجَرَّعُ غُصَصَ الْفَاقَةِ، وَالذُّلِّ، وَإِنْ خَطَبَهَا رَجُلٌ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا أَقَلَّ مَنْزِلَةً وَأَصْغَرَ قَدْرًا مِنْ بَعْلِهَا السَّابِقِ، أَوْ كَهْلًا قَلَّتْ رَغْبَةُ النِّسَاءِ فِيهِ، وَيَمْكُثُ زَمَنًا طَوِيلًا يُقَدِّمُ رِجْلًا، وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى خَشْيَةً عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَائِلَةِ زَوْجِهَا السَّالِفِ ; فَإِنَّهَا تُبْغِضُ أَيَّ شَخْصٍ يُرِيدُ زَوَاجَ امْرَأَتِهِ وَتُضْمِرُ لَهُ السُّوءَ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، كَأَنَّ مُطَلِّقَهَا يُرِيدُ أَنْ تَبْقَى أَيِّمًا إِلَى الْمَمَاتِ رَغْبَةً فِي نَكَالِهَا، وَإِسَاءَتِهَا إِنْ طَلَّقَهَا كَارِهًا لَهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ طَلَاقُهَا نَاشِئًا عَنْ حَمَاقَةِ الرَّجُلِ لِإِكْثَارِهِ مِنَ الْحَلِفِ بِهِ عِنْدَ أَدْنَى الْأَسْبَابِ، وَأَضْعَفِ الْمُقْتَضَيَاتِ - كَمَا هُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ الْآنَ - اشْتَدَّ حَنَقُهُ وَغَيْرَتُهُ عَلَيْهَا، وَتَمَنَّى لَوِ اسْتَطَاعَ سَبِيلًا إِلَى قَتْلِهَا، أَوْ قَتْلِ مَنْ يُرِيدُ الِاقْتِرَانَ بِهَا.
وَكَأَنِّي بِمَنْ يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، وَتِلْكَ الْمُعَاشَرَةَ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ، وَأَدْنِيَائِهِمْ، وَأَمَّا ذَوُو الْمَقَامَاتِ، وَأَهْلُ الْيَسَارِ فَلَا نُشَاهِدُ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مَالًا لُبَدًا عَلَى مُطَلَّقَاتِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ مِنْهَا، وَعَلَى نِسْوَتِهِمُ الْعَدِيدَاتِ فِي بُيُوتِهِمْ، فَلَا ضَيْرَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الزَّوَاجِ إِلَى الْحَدِّ الْجَائِزِ، وَالطَّلَاقِ إِذَا أَرَادُوا، بَلِ الْأَجْمَلُ وَالْأَلْيَقُ بِهِمْ
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاقِعٍ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ الْغَرَّاءَ كَلَّفَتِ الزَّوْجَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ، وَأَوْلَادِهِ مِنْهَا حَتَّى تُحْسِنَ تَرْبِيَتَهُمْ، وَعَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْحَضَانَةِ إِنْ خَرَجَتْ مِنْ عِلَّتِهَا وَتَزَوَّجَتْ. فَإِنَّ الزَّوْجَ وَإِنْ كَلَّفَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِذَلِكَ لَكِنْ لَا يَرْضَخُ لِأَحْكَامِهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يُكَلِّفُهُ نَفَقَاتٍ كَبِيرَةٍ إِلَّا مُكْرَهًا مَجْبُورًا، وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطَالِبَهُ بِحَقِّهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ، إِمَّا لِبُعْدِ مَرْكَزِهِ، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَتَتْرُكُ بَنِيهَا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مُدَّةَ أُسْبُوعٍ، أَوْ أُسْبُوعَيْنِ حَتَّى يَسْتَحْضِرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ، وَرُبَّمَا آبَتْ إِلَيْهِمْ حَامِلَةً صَكًّا بِالْتِزَامِهِ بِالدَّفْعِ لَهَا كُلَّ شَهْرٍ مَا أَوْجَبَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْبِضَ مِنْهُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ أَوْ يَذْهَبُ بِالْعَوَزِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ
مُصِرًّا عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ ; لِكَوْنِهِ مُتَحَقِّقًا مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُخَاطِرَ بِنَفْسِهَا إِلَى الْعَوْدَةِ لِلشِّكَايَةِ لِوَهْنِ قُوَاهَا، وَاشْتِغَالِهَا بِمَا يُذْهِبُ الْحَاجَةَ الْوَقْتِيَّةَ، أَوْ حَيَاءً مِنْ شِكَايَةِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْيَافِ يَعُدُّونَ مُطَالَبَةَ الْمَرْأَةِ بِنَفَقَتِهَا عَيْبًا فَظِيعًا، فَهِيَ تُفَضِّلُ الْبَقَاءَ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَتْعَابِ الشَّاقَّةِ طَلَبًا لِمَا تُقِيمُ بِهِ بِنْيَتَهَا هِيَ وَبَنِيهَا عَلَى الشِّكَايَةِ الَّتِي تُوجِبُ لَهَا الْعَارَ، وَرُبَّمَا لَمْ تَأْتِ بِالثَّمَرَةِ الْمَقْصُودَةِ. وَغَيْرُ خَفِيٍّ أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَرْأَةِ الْإِثْمَ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَمُعَانَاةَ الْبَلَايَا الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي أَقَلُّهَا ابْتِذَالُ مَاءِ الْوَجْهِ تُؤَثِّرُ فِي أَخْلَاقِهَا فَسَادًا، وَفِي طِبَاعِهَا قُبْحًا ; مِمَّا يَذْهَبُ بِكَمَالِهَا، وَيُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيرِهَا عِنْدَ الرَّاغِبِينَ فِي الزَّوَاجِ، وَلَرُبَّمَا أَدَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمُورُ إِلَى أَنْ تَبْقَى أَيِّمًا مُدَّةَ شَبَابِهَا تَتَجَرَّعُ غُصَصَ الْفَاقَةِ، وَالذُّلِّ، وَإِنْ خَطَبَهَا رَجُلٌ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا أَقَلَّ مَنْزِلَةً وَأَصْغَرَ قَدْرًا مِنْ بَعْلِهَا السَّابِقِ، أَوْ كَهْلًا قَلَّتْ رَغْبَةُ النِّسَاءِ فِيهِ، وَيَمْكُثُ زَمَنًا طَوِيلًا يُقَدِّمُ رِجْلًا، وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى خَشْيَةً عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَائِلَةِ زَوْجِهَا السَّالِفِ ; فَإِنَّهَا تُبْغِضُ أَيَّ شَخْصٍ يُرِيدُ زَوَاجَ امْرَأَتِهِ وَتُضْمِرُ لَهُ السُّوءَ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، كَأَنَّ مُطَلِّقَهَا يُرِيدُ أَنْ تَبْقَى أَيِّمًا إِلَى الْمَمَاتِ رَغْبَةً فِي نَكَالِهَا، وَإِسَاءَتِهَا إِنْ طَلَّقَهَا كَارِهًا لَهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ طَلَاقُهَا نَاشِئًا عَنْ حَمَاقَةِ الرَّجُلِ لِإِكْثَارِهِ مِنَ الْحَلِفِ بِهِ عِنْدَ أَدْنَى الْأَسْبَابِ، وَأَضْعَفِ الْمُقْتَضَيَاتِ - كَمَا هُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ الْآنَ - اشْتَدَّ حَنَقُهُ وَغَيْرَتُهُ عَلَيْهَا، وَتَمَنَّى لَوِ اسْتَطَاعَ سَبِيلًا إِلَى قَتْلِهَا، أَوْ قَتْلِ مَنْ يُرِيدُ الِاقْتِرَانَ بِهَا.
وَكَأَنِّي بِمَنْ يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، وَتِلْكَ الْمُعَاشَرَةَ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ، وَأَدْنِيَائِهِمْ، وَأَمَّا ذَوُو الْمَقَامَاتِ، وَأَهْلُ الْيَسَارِ فَلَا نُشَاهِدُ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مَالًا لُبَدًا عَلَى مُطَلَّقَاتِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ مِنْهَا، وَعَلَى نِسْوَتِهِمُ الْعَدِيدَاتِ فِي بُيُوتِهِمْ، فَلَا ضَيْرَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الزَّوَاجِ إِلَى الْحَدِّ الْجَائِزِ، وَالطَّلَاقِ إِذَا أَرَادُوا، بَلِ الْأَجْمَلُ وَالْأَلْيَقُ بِهِمْ
301
اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ قَاعِدَةً لِلنَّهْيِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّبِيِّ، وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْأُمَّةِ خُصُوصًا وَآيَةُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ لَمْ تُنْسَخْ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذًا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِمَدْلُولِهَا مَا دَامَ الْكِتَابُ.
نَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْمَقَالُ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْكَثِيرَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَذَوِي الْيَسَارِ يَطْرُدُونَ نِسَاءَهُمْ مَعَ أَوْلَادِهِنَّ، فَتُرَبَّى أَوْلَادُهُنَّ عِنْدَ أَقْوَامٍ غَيْرِ عَشِيرَتِهِمْ لَا يَعْتَنُونَ بِشَأْنِهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِمْ، وَكَثِيرًا مَا رَأَيْنَا الْآبَاءَ يَطْرُدُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَهُمْ كِبَارٌ مَرْضَاةً لِنِسَائِهِمُ الْجَدِيدَاتِ، وَيُسِيئُونَ إِلَى النِّسَاءِ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَحْمِلُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَلَى تَزَوُّجِ ثَانِيَةٍ إِلَّا إِرَادَةُ الْإِضْرَارِ بِالْأُولَى - وَهَذَا شَائِعٌ كَثِيرٌ - وَعَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِ أَنَّ ذَوِي الْيَسَارِ قَائِمُونَ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ النَّفَقَاتِ لَا يُمْكِنُنَا إِلَّا أَنْ نَقُولَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ: إِنَّ إِنْفَاقَهُمْ عَلَى النِّسْوَةِ، وَتَوْفِيَةَ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْقَسْمِ فِي الْمَبِيتِ لَيْسَ عَلَى نِسْبَةٍ عَادِلَةٍ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَى الرَّجُلِ لِزَوْجَاتِهِ، فَهَذِهِ النَّفَقَةُ تَسْتَوِي مَعَ عَدَمِهَا مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجَاتِ الْوَاجِبَةِ الرِّعَايَةِ كَمَا أَمَرَنَا بِهِ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ. فَإِذًا لَا تُمَيُّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا قَدِ ارْتَكَبَ مَا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ وَنَهَتْ عَنْهُ نَهْيًا شَدِيدًا، خُصُوصًا وَأَنَّ مَضَرَّاتِ اجْتِمَاعِ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ ; فَإِنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَبْقَى فِي بَيْتِ الْغَنِيِّ سَنَةً، أَوْ سَنَتَيْنِ بَلْ ثَلَاثًا بَلْ خَمْسًا بَلْ عَشْرًا لَا يَقْرَبُهَا الزَّوْجُ خَشْيَةَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ (مَنْ يَمِيلُ إِلَيْهَا مَيْلًا شَدِيدًا)، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِخَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا مِنْ بَأْسِهِ فَتَضْطَرُّ إِلَى فِعْلِ مَا لَا يَلِيقُ، وَبَقِيَّةُ الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ عَلَى عَدَاوَةِ إِخْوَانِهِمْ بَلْ وَأَبِيهِمْ أَيْضًا مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرَ مِنْهَا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ، وَلَا تَصِحُّ الْمُكَابَرَةُ فِي إِنْكَارِ هَذَا الْأَمْرِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ آثَارِهِ فِي غَالِبِ الْجِهَاتِ وَالنَّوَاحِي، وَتَطَايُرِ شَرِّهِ فِي أَكْثَرِ الْبِقَاعِ مِنْ بِلَادِنَا وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْطَارِ الْمَشْرِقِيَّةِ.
فَهَذِهِ مُعَامَلَةُ غَالِبِ النَّاسِ عِنْدَنَا مِنْ أَغْنِيَاءَ، وَفُقَرَاءَ فِي حَالَةِ التَّزَوُّجِ بِالْمُتَعَدِّدَاتِ ; كَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةَ اللهِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ بَلِ اتَّخَذُوهُ طَرِيقًا لِصَرْفِ الشَّهْوَةِ، وَاسْتِحْصَالِ اللَّذَّةِ لَا غَيْرَ، وَغَفَلُوا عَنِ الْقَصْدِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، وَهَذَا لَا تُجِيزُهُ الشَّرِيعَةُ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ. فَاللَّازِمُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ إِمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعَدْلِ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ - عَمَلًا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَأَمَّا آيَةُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِآيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ وَإِمَّا أَنْ يَتَبَصَّرُوا قَبْلَ طَلَبِ التَّعَدُّدِ فِي الزَّوْجَاتِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ
نَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْمَقَالُ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْكَثِيرَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَذَوِي الْيَسَارِ يَطْرُدُونَ نِسَاءَهُمْ مَعَ أَوْلَادِهِنَّ، فَتُرَبَّى أَوْلَادُهُنَّ عِنْدَ أَقْوَامٍ غَيْرِ عَشِيرَتِهِمْ لَا يَعْتَنُونَ بِشَأْنِهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِمْ، وَكَثِيرًا مَا رَأَيْنَا الْآبَاءَ يَطْرُدُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَهُمْ كِبَارٌ مَرْضَاةً لِنِسَائِهِمُ الْجَدِيدَاتِ، وَيُسِيئُونَ إِلَى النِّسَاءِ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَحْمِلُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَلَى تَزَوُّجِ ثَانِيَةٍ إِلَّا إِرَادَةُ الْإِضْرَارِ بِالْأُولَى - وَهَذَا شَائِعٌ كَثِيرٌ - وَعَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِ أَنَّ ذَوِي الْيَسَارِ قَائِمُونَ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ النَّفَقَاتِ لَا يُمْكِنُنَا إِلَّا أَنْ نَقُولَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ: إِنَّ إِنْفَاقَهُمْ عَلَى النِّسْوَةِ، وَتَوْفِيَةَ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْقَسْمِ فِي الْمَبِيتِ لَيْسَ عَلَى نِسْبَةٍ عَادِلَةٍ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَى الرَّجُلِ لِزَوْجَاتِهِ، فَهَذِهِ النَّفَقَةُ تَسْتَوِي مَعَ عَدَمِهَا مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجَاتِ الْوَاجِبَةِ الرِّعَايَةِ كَمَا أَمَرَنَا بِهِ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ. فَإِذًا لَا تُمَيُّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا قَدِ ارْتَكَبَ مَا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ وَنَهَتْ عَنْهُ نَهْيًا شَدِيدًا، خُصُوصًا وَأَنَّ مَضَرَّاتِ اجْتِمَاعِ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ ; فَإِنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَبْقَى فِي بَيْتِ الْغَنِيِّ سَنَةً، أَوْ سَنَتَيْنِ بَلْ ثَلَاثًا بَلْ خَمْسًا بَلْ عَشْرًا لَا يَقْرَبُهَا الزَّوْجُ خَشْيَةَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ (مَنْ يَمِيلُ إِلَيْهَا مَيْلًا شَدِيدًا)، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِخَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا مِنْ بَأْسِهِ فَتَضْطَرُّ إِلَى فِعْلِ مَا لَا يَلِيقُ، وَبَقِيَّةُ الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ عَلَى عَدَاوَةِ إِخْوَانِهِمْ بَلْ وَأَبِيهِمْ أَيْضًا مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرَ مِنْهَا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ، وَلَا تَصِحُّ الْمُكَابَرَةُ فِي إِنْكَارِ هَذَا الْأَمْرِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ آثَارِهِ فِي غَالِبِ الْجِهَاتِ وَالنَّوَاحِي، وَتَطَايُرِ شَرِّهِ فِي أَكْثَرِ الْبِقَاعِ مِنْ بِلَادِنَا وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْطَارِ الْمَشْرِقِيَّةِ.
فَهَذِهِ مُعَامَلَةُ غَالِبِ النَّاسِ عِنْدَنَا مِنْ أَغْنِيَاءَ، وَفُقَرَاءَ فِي حَالَةِ التَّزَوُّجِ بِالْمُتَعَدِّدَاتِ ; كَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةَ اللهِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ بَلِ اتَّخَذُوهُ طَرِيقًا لِصَرْفِ الشَّهْوَةِ، وَاسْتِحْصَالِ اللَّذَّةِ لَا غَيْرَ، وَغَفَلُوا عَنِ الْقَصْدِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، وَهَذَا لَا تُجِيزُهُ الشَّرِيعَةُ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ. فَاللَّازِمُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ إِمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعَدْلِ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ - عَمَلًا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَأَمَّا آيَةُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِآيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ وَإِمَّا أَنْ يَتَبَصَّرُوا قَبْلَ طَلَبِ التَّعَدُّدِ فِي الزَّوْجَاتِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ
302
شَرْعًا مِنَ الْعَدْلِ، وَحِفْظِ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَحِفْظِ النِّسَاءَ مِنَ الْغَوَائِلِ الَّتِي تُؤَدِّي بِهِنَّ إِلَى الْأَعْمَالِ غَيْرِ اللَّائِقَةِ، وَلَا يَحْمِلُوهُنَّ عَلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَبِأَوْلَادِهِمْ، وَلَا يُطَلِّقُوهُنَّ إِلَّا لِدَاعٍ وَمُقْتَضٍ شَرْعِيٍّ شَأْنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللهَ، وَيُوَقِّرُونَ شَرِيعَةَ الْعَدْلِ، وَيُحَافِظُونَ عَلَى حُرُمَاتِ النِّسَاءِ، وَحُقُوقِهِنَّ، وَيُعَاشِرُونَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُفَارِقُونَهُنَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَهَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلُ الْأَتْقِيَاءُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النِّسْوَةِ إِلَى الْحَدِّ الْمُبَاحِ شَرْعًا، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَلِيلًا فِي كُلِّ بَلَدٍ، وَإِقْلِيمٍ لَكِنَّ أَعْمَالَهُمْ وَاضِحَةُ الظُّهُورِ تَسْتَوْجِبُ لَهُمُ الثَّنَاءَ الْعَمِيمَ، وَالشُّكْرَ الْجَزِيلَ، وَتُقَرِّبُهُمْ مِنَ اللهِ الْعَادِلِ الْعَزِيزِ. انْتَهَى كَلَامُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَفِيهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ [٤: ١٢٩] وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ التَّعَدُّدَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَخِلَافُ الْكَمَالِ، وَيُنَافِي سُكُونَ النَّفْسِ، وَالْمَوَدَّةَ، وَالرَّحْمَةَ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ زَوَاجِ مَنْ لَمْ يُقِمْهَا وَبَيْنَ ازْدِوَاجِ الْعَجْمَاوَاتِ، وَنَزَوَانِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ مَعَ الثِّقَةِ بِمَا اشْتَرَطَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - فِيهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَمَرْتَبَةُ الْعَدْلِ دُونَ مَرْتَبَةِ سُكُونِ النَّفْسِ وَالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلَيْسَ وَرَاءَهُ إِلَّا ظُلْمُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ، وَامْرَأَتِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأُمَّتِهِ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
وَأَمَّا حِكْمَةُ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْهَا مَا هُوَ كَفَالَةُ بَعْضِ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْهَا مَا لَهُ سَبَبٌ سِيَاسِيٌّ، أَوْ عِلْمِيٌّ دِينِيٌّ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فَتْوَى فِي ذَلِكَ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ مِنَ الْمَنَارِ (ص٦٩٩) وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ.
(تَعَدُّدُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (س) مُصْطَفَى أَفَنْدِي رُشْدِي الْمِرْلِيُّ بِالزَّقَازِيقِ: مَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ مِمَّا أَبَاحَهُ الْقُرْآنُ الشَّرِيفُ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِأَرْبَعٍ فَمَا دُونَهَا وَتَعَيُّنُ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعَدْلِ؟
(ج) إِنَّ الْحِكْمَةَ الْعَامَّةَ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَالْقِيَامَ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالِاشْتِغَالَ بِسِيَاسَةٍ، وَمُدَافَعَةِ الْمُعْتَدِينَ دُونَ سِنِّ الشَّبَابِ، وَرَاحَةِ الْبَالِ هِيَ السِّيَاسَةُ الرَّشِيدَةُ، فَأَمَّا خَدِيجَةُ، وَهِيَ الزَّوْجُ الْأُولَى فَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهَا وَرَاءَ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ مَعْرُوفَةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ السُّؤَالِ.
وَقَدْ عَقَدَ بَعْدَ وَفَاتِهَا عَلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ وَكَانَتْ قَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ الْهَاجِرَاتِ لِأَهْلِيهِنَّ خَوْفَ
وَأَمَّا حِكْمَةُ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْهَا مَا هُوَ كَفَالَةُ بَعْضِ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْهَا مَا لَهُ سَبَبٌ سِيَاسِيٌّ، أَوْ عِلْمِيٌّ دِينِيٌّ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فَتْوَى فِي ذَلِكَ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ مِنَ الْمَنَارِ (ص٦٩٩) وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ.
(تَعَدُّدُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (س) مُصْطَفَى أَفَنْدِي رُشْدِي الْمِرْلِيُّ بِالزَّقَازِيقِ: مَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ مِمَّا أَبَاحَهُ الْقُرْآنُ الشَّرِيفُ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِأَرْبَعٍ فَمَا دُونَهَا وَتَعَيُّنُ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعَدْلِ؟
(ج) إِنَّ الْحِكْمَةَ الْعَامَّةَ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَالْقِيَامَ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالِاشْتِغَالَ بِسِيَاسَةٍ، وَمُدَافَعَةِ الْمُعْتَدِينَ دُونَ سِنِّ الشَّبَابِ، وَرَاحَةِ الْبَالِ هِيَ السِّيَاسَةُ الرَّشِيدَةُ، فَأَمَّا خَدِيجَةُ، وَهِيَ الزَّوْجُ الْأُولَى فَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهَا وَرَاءَ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ مَعْرُوفَةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ السُّؤَالِ.
وَقَدْ عَقَدَ بَعْدَ وَفَاتِهَا عَلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ وَكَانَتْ قَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ الْهَاجِرَاتِ لِأَهْلِيهِنَّ خَوْفَ
303
الْفِتْنَةِ، وَلَوْ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا (وَكَانَ ابْنَ عَمِّهَا) لَعَذَّبُوهَا وَفَتَنُوهَا فَكَفَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَافَأَهَا بِهَذِهِ الْمِنَّةِ الْعَظِيمَةِ.
ثُمَّ بَعْدَ شَهْرٍ عَقَدَ عَلَى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحِكْمَةِ فِي التَّزَوُّجِ بِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ بِبَدْرٍ، وَهِيَ إِكْرَامُ صَاحِبَيْهِ وَوَزِيرَيْهِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا)، وَإِقْرَارُ أَعْيُنِهِمَا بِهَذَا الشَّرَفِ الْعَظِيمِ، (كَمَا أَكْرَمَ عُثْمَانَ، وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بِبَنَاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَصْحَابِهِ، وَأَخْلَصُهُمْ خِدْمَةً لِدِينِهِ).
وَأَمَّا التَّزَوُّجُ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْلُو كُلَّ حِكْمَةٍ، وَهِيَ إِبْطَالُ تِلْكَ الْبِدَعِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ لَاحِقَةً بِبِدْعَةِ التَّبَنِّي كَتَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجَةِ الْمُتَبَنَّى بَعْدَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَشَرْنَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ مَقَالَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدُهُمَا لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، فَلْيُرَاجِعْهُمَا السَّائِلُ هُنَاكَ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْحِكْمَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِجُوَيْرِيَةَ، وَهِيَ بَرَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ سَيِّدِ قَوْمِهِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَسَرُوا مِنْ قَوْمِهَا مِائَتَيْ بَيْتٍ بِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْتِقَ الْمُسْلِمُونَ الْأَسْرَى فَتَزَوَّجَ بِسَيِّدَتِهِمْ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ: أَصْهَارُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْبَغِي أَسْرُهُمْ وَأَعْتَقُوهُمْ، فَأَسْلَمَ بَنُو الْمُصْطَلِقِ - لِذَلِكَ - أَجْمَعُونَ، وَصَارُوا عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُحَارِبِينَ لَهُمْ وَعَوْنًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَسَنٌ فِي سَائِرِ الْعَرَبِ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِزَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ فِي (أُحُدٍ)، وَحِكْمَتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِنْ فُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى كَانُوا يَدْعُونَهَا أُمَّ الْمَسَاكِينِ لِبِرِّهَا بِهِمْ، وَعِنَايَتِهَا بِشَأْنِهِمْ، فَكَافَأَهَا - عَلَيْهِ التَّحِيَّةُ
وَالسَّلَامُ - عَلَى فَضَائِلِهَا بَعْدَ مُصَابِهَا بِزَوْجِهَا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَدَعْهَا أَرْمَلَةً تُقَاسِي الذُّلَّ الَّذِي كَانَتْ تُجِيرُ مِنْهُ النَّاسَ، وَقَدْ مَاتَتْ فِي حَيَاتِهِ.
وَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا أُمَّ سَلَمَةَ (وَاسْمُهَا هِنْدٌ) وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا (عَبْدُ اللهِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ أَسَدِ ابْنُ عَمَّةِ الرَّسُولِ بَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ) أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَتُجِلُّهُ، حَتَّى إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ خَطَبَاهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَلَمَّا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَلِي اللهَ أَنْ يَأْجُرَكِ فِي مُصِيبَتِكِ وَيُخْلِفَكِ خَيْرًا قَالَتْ: وَمَنْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَمِنْ هُنَا يَعْلَمُ السَّائِلُ وَغَيْرُهُ مِقْدَارَ مُصَابِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْفَاضِلَةِ بِزَوْجِهَا، وَقَدْ رَأَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا عَزَاءَ لَهَا عَنْهُ إِلَّا بِهِ، فَخَطَبَهَا فَاعْتَذَرَتْ بِأَنَّهَا مُسِنَّةٌ وَأُمُّ أَيْتَامٍ، فَأَحْسَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَابَ - وَمَا كَانَ إِلَّا مُحْسِنًا - وَتَزَوَّجَ بِهَا، وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ
ثُمَّ بَعْدَ شَهْرٍ عَقَدَ عَلَى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحِكْمَةِ فِي التَّزَوُّجِ بِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ بِبَدْرٍ، وَهِيَ إِكْرَامُ صَاحِبَيْهِ وَوَزِيرَيْهِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا)، وَإِقْرَارُ أَعْيُنِهِمَا بِهَذَا الشَّرَفِ الْعَظِيمِ، (كَمَا أَكْرَمَ عُثْمَانَ، وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بِبَنَاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَصْحَابِهِ، وَأَخْلَصُهُمْ خِدْمَةً لِدِينِهِ).
وَأَمَّا التَّزَوُّجُ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْلُو كُلَّ حِكْمَةٍ، وَهِيَ إِبْطَالُ تِلْكَ الْبِدَعِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ لَاحِقَةً بِبِدْعَةِ التَّبَنِّي كَتَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجَةِ الْمُتَبَنَّى بَعْدَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَشَرْنَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ مَقَالَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدُهُمَا لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، فَلْيُرَاجِعْهُمَا السَّائِلُ هُنَاكَ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْحِكْمَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِجُوَيْرِيَةَ، وَهِيَ بَرَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ سَيِّدِ قَوْمِهِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَسَرُوا مِنْ قَوْمِهَا مِائَتَيْ بَيْتٍ بِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْتِقَ الْمُسْلِمُونَ الْأَسْرَى فَتَزَوَّجَ بِسَيِّدَتِهِمْ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ: أَصْهَارُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْبَغِي أَسْرُهُمْ وَأَعْتَقُوهُمْ، فَأَسْلَمَ بَنُو الْمُصْطَلِقِ - لِذَلِكَ - أَجْمَعُونَ، وَصَارُوا عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُحَارِبِينَ لَهُمْ وَعَوْنًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَسَنٌ فِي سَائِرِ الْعَرَبِ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِزَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ فِي (أُحُدٍ)، وَحِكْمَتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِنْ فُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى كَانُوا يَدْعُونَهَا أُمَّ الْمَسَاكِينِ لِبِرِّهَا بِهِمْ، وَعِنَايَتِهَا بِشَأْنِهِمْ، فَكَافَأَهَا - عَلَيْهِ التَّحِيَّةُ
وَالسَّلَامُ - عَلَى فَضَائِلِهَا بَعْدَ مُصَابِهَا بِزَوْجِهَا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَدَعْهَا أَرْمَلَةً تُقَاسِي الذُّلَّ الَّذِي كَانَتْ تُجِيرُ مِنْهُ النَّاسَ، وَقَدْ مَاتَتْ فِي حَيَاتِهِ.
وَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا أُمَّ سَلَمَةَ (وَاسْمُهَا هِنْدٌ) وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا (عَبْدُ اللهِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ أَسَدِ ابْنُ عَمَّةِ الرَّسُولِ بَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ) أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَتُجِلُّهُ، حَتَّى إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ خَطَبَاهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَلَمَّا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَلِي اللهَ أَنْ يَأْجُرَكِ فِي مُصِيبَتِكِ وَيُخْلِفَكِ خَيْرًا قَالَتْ: وَمَنْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَمِنْ هُنَا يَعْلَمُ السَّائِلُ وَغَيْرُهُ مِقْدَارَ مُصَابِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْفَاضِلَةِ بِزَوْجِهَا، وَقَدْ رَأَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا عَزَاءَ لَهَا عَنْهُ إِلَّا بِهِ، فَخَطَبَهَا فَاعْتَذَرَتْ بِأَنَّهَا مُسِنَّةٌ وَأُمُّ أَيْتَامٍ، فَأَحْسَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَابَ - وَمَا كَانَ إِلَّا مُحْسِنًا - وَتَزَوَّجَ بِهَا، وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ
304
الزَّوَاجَ لَيْسَ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ الْمُبَاحِ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ لِفَضْلِهَا الَّذِي يَعْرِفُهُ الْمُتَأَمِّلُ بِجَوْدَةِ رَأْيِهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلِتَعْزِيَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا زَوَاجُهُ بِأُمِّ حَبِيبَةَ رَمْلَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ لَا تَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ عَرَفَ سِيرَتَهَا الشَّخْصِيَّةَ، وَعَرَفَ عَدَاوَةَ قَوْمِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَرَغْبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، كَانَتْ رَمْلَةُ عِنْدَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ، وَهَاجَرَتْ مَعَهُ إِلَى الْحَبَشَةِ الثَّانِيَةِ فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ، وَثَبَتَتْ هِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَانْظُرُوا إِلَى إِسْلَامِ امْرَأَةٍ يُكَافِحُ أَبُوهَا بِقَوْمِهِ النَّبِيَّ وَيَتَنَصَّرُ زَوْجُهَا، وَهِيَ مَعَهُ فِي هِجْرَةٍ مَعْرُوفٍ سَبَبُهَا، أَمِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ تُضَيَّعَ هَذِهِ الْمُؤْمِنَةُ الْمُوقِنَةُ بَيْنَ فِتْنَتَيْنِ؟ أَمْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَكْلُفَهَا مَنْ تَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ أَصْلَحُ لَهَا؟
كَذَلِكَ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي زَوَاجِ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ سَيِّدِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَدْ قُتِلَ أَبُوهَا مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَانَ أَخَذَهَا دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا سَيِّدَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، فَاسْتَحْسَنَ رَأْيَهُمْ، وَأَبَى أَنْ تُذَلَّ هَذِهِ السَّيِّدَةُ بِأَنْ تَكُونَ أَسِيرَةً عِنْدَ مَنْ تَرَاهُ دُونَهَا فَاصْطَفَاهَا، وَأَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، وَوَصَلَ سَبَبَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ
يُنْزِلُ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ.
وَآخِرُ أَزْوَاجِهِ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ (وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَسَمَّاهَا مَيْمُونَةَ)، وَالَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَيْهِ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا الثَّانِي أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهِيَ خَالَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَا أَدْرِي هَلْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي تَزَوُّجِهِ بِهَا تَشَعُّبُ قَرَابَتِهَا فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي مَخْزُومٍ أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ؟
وَجُمْلَةُ الْحِكْمَةِ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاعَى الْمَصْلَحَةَ فِي اخْتِيَارِ كُلِّ زَوْجٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ (عَلَيْهِنَّ الرِّضْوَانُ) فِي التَّشْرِيعِ، وَالتَّأْدِيبِ فَجَذَبَ إِلَيْهِ كِبَارَ الْقَبَائِلِ بِمُصَاهَرَتِهِمْ، وَعَلَّمَ أَتْبَاعَهُ احْتِرَامَ النِّسَاءِ وَإِكْرَامَ كَرَائِمِهِنَّ، وَالْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ، وَقَرَّرَ الْأَحْكَامَ بِذَلِكَ، وَتَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ تِسْعَ أُمَّهَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّمْنَ نِسَاءَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَلِيقُ بِهِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّمْنَهُ مِنَ النِّسَاءِ
وَأَمَّا زَوَاجُهُ بِأُمِّ حَبِيبَةَ رَمْلَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ لَا تَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ عَرَفَ سِيرَتَهَا الشَّخْصِيَّةَ، وَعَرَفَ عَدَاوَةَ قَوْمِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَرَغْبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، كَانَتْ رَمْلَةُ عِنْدَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ، وَهَاجَرَتْ مَعَهُ إِلَى الْحَبَشَةِ الثَّانِيَةِ فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ، وَثَبَتَتْ هِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَانْظُرُوا إِلَى إِسْلَامِ امْرَأَةٍ يُكَافِحُ أَبُوهَا بِقَوْمِهِ النَّبِيَّ وَيَتَنَصَّرُ زَوْجُهَا، وَهِيَ مَعَهُ فِي هِجْرَةٍ مَعْرُوفٍ سَبَبُهَا، أَمِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ تُضَيَّعَ هَذِهِ الْمُؤْمِنَةُ الْمُوقِنَةُ بَيْنَ فِتْنَتَيْنِ؟ أَمْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَكْلُفَهَا مَنْ تَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ أَصْلَحُ لَهَا؟
كَذَلِكَ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي زَوَاجِ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ سَيِّدِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَدْ قُتِلَ أَبُوهَا مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَانَ أَخَذَهَا دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا سَيِّدَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، فَاسْتَحْسَنَ رَأْيَهُمْ، وَأَبَى أَنْ تُذَلَّ هَذِهِ السَّيِّدَةُ بِأَنْ تَكُونَ أَسِيرَةً عِنْدَ مَنْ تَرَاهُ دُونَهَا فَاصْطَفَاهَا، وَأَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، وَوَصَلَ سَبَبَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ
يُنْزِلُ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ.
وَآخِرُ أَزْوَاجِهِ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ (وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَسَمَّاهَا مَيْمُونَةَ)، وَالَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَيْهِ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا الثَّانِي أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهِيَ خَالَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَا أَدْرِي هَلْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي تَزَوُّجِهِ بِهَا تَشَعُّبُ قَرَابَتِهَا فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي مَخْزُومٍ أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ؟
وَجُمْلَةُ الْحِكْمَةِ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاعَى الْمَصْلَحَةَ فِي اخْتِيَارِ كُلِّ زَوْجٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ (عَلَيْهِنَّ الرِّضْوَانُ) فِي التَّشْرِيعِ، وَالتَّأْدِيبِ فَجَذَبَ إِلَيْهِ كِبَارَ الْقَبَائِلِ بِمُصَاهَرَتِهِمْ، وَعَلَّمَ أَتْبَاعَهُ احْتِرَامَ النِّسَاءِ وَإِكْرَامَ كَرَائِمِهِنَّ، وَالْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ، وَقَرَّرَ الْأَحْكَامَ بِذَلِكَ، وَتَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ تِسْعَ أُمَّهَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّمْنَ نِسَاءَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَلِيقُ بِهِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّمْنَهُ مِنَ النِّسَاءِ
305
دُونَ الرِّجَالِ، وَلَوْ تَرَكَ وَاحِدَةً فَقَطْ لَمَا كَانَتْ تُغْنِي فِي الْأُمَّةِ غِنَاءَ التِّسْعِ، وَلَوْ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ بِتَعَدُّدِ الزَّوَاجِ مَا يُرِيدُهُ الْمُلُوكُ، وَالْأُمَرَاءُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالْحَلَالِ فَقَطْ لَاخْتَارَ حِسَانَ الْأَبْكَارِ عَلَى أُولَئِكَ الثَّيِّبَاتِ الْمُكْتَهِلَاتِ كَمَا
قَالَ لِمَنِ اخْتَارَ ثَيِّبًا: هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ، وَإِنَّ أَسْرَارَ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَى مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهَا كُلِّهَا أَفْكَارُ مِثْلِنَا اهـ.
وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ بِغَيْرِ حَصْرٍ، وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعَةً مِنْهُنَّ، وَيُسَرِّحَ الْأُخْرَيَاتِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُنَّ يُمْسِكُ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ أَوَّلًا إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَأْثُورُ فِي كُتُبِ السُّنَنِ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا - وَفِي لَفْظٍ آخَرَ - أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلَمِيِّ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسَدِيِّ حِينَ أَسْلَمَا، وَكَانَ عِنْدَ الْأَوَّلِ خَمْسٌ، وَعِنْدَ الثَّانِي ثَمَانٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِمْسَاكَ الْأَرْبَعِ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَالثِّقَةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِنَّ هُوَ عُمْدَةُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ، لَا لِأَنَّ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، بَلْ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُمْ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَذِكْرُ الْأَرْبَعِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْخَمْسِ فَأَكْثَرَ، فَلَمَّا حَتَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ أَلَّا يُمْسِكُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَاحْتِمَالِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ، وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأُصُولِ قَائِلُونَ بِجَوَازِ بَيَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ عَمَلِيَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَهِيَ أَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَوَّلَ ذَلِكَ الْمُجَوِّزُونَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ - كَبَعْضِ الشِّيعَةِ - بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِمُفَارَقَةِ مَا زَادَ عَنِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُنَّ كَانَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ الذَّاتِيِّ كَالنَّسَبِ الْقَرِيبِ وَالرَّضَاعِ.
وَهُوَ تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قِيلَ فِي الِاحْتِمَالِ لَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْتَرْ أَرْبَعًا أَوْ
أَمْسِكْ أَرْبَعًا، فَالِاخْتِيَارُ وَتَنْكِيرُ لَفْظِ أَرْبَعٍ كُلٌّ مِنْهُمَا يَأْبَى مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ لَا يَتِمُّ مَعَ مُخَالَفَةِ الشِّيعَةِ فِي ذَلِكَ، أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا مَا قَالُوا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ ; لِأَنَّ الرِّقَّ خِلَافُ مَقْصِدِ الشَّرْعِ
قَالَ لِمَنِ اخْتَارَ ثَيِّبًا: هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ، وَإِنَّ أَسْرَارَ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَى مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهَا كُلِّهَا أَفْكَارُ مِثْلِنَا اهـ.
وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ بِغَيْرِ حَصْرٍ، وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعَةً مِنْهُنَّ، وَيُسَرِّحَ الْأُخْرَيَاتِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُنَّ يُمْسِكُ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ أَوَّلًا إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَأْثُورُ فِي كُتُبِ السُّنَنِ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا - وَفِي لَفْظٍ آخَرَ - أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلَمِيِّ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسَدِيِّ حِينَ أَسْلَمَا، وَكَانَ عِنْدَ الْأَوَّلِ خَمْسٌ، وَعِنْدَ الثَّانِي ثَمَانٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِمْسَاكَ الْأَرْبَعِ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَالثِّقَةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِنَّ هُوَ عُمْدَةُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ، لَا لِأَنَّ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، بَلْ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُمْ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَذِكْرُ الْأَرْبَعِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْخَمْسِ فَأَكْثَرَ، فَلَمَّا حَتَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ أَلَّا يُمْسِكُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَاحْتِمَالِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ، وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأُصُولِ قَائِلُونَ بِجَوَازِ بَيَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ عَمَلِيَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَهِيَ أَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَوَّلَ ذَلِكَ الْمُجَوِّزُونَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ - كَبَعْضِ الشِّيعَةِ - بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِمُفَارَقَةِ مَا زَادَ عَنِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُنَّ كَانَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ الذَّاتِيِّ كَالنَّسَبِ الْقَرِيبِ وَالرَّضَاعِ.
وَهُوَ تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قِيلَ فِي الِاحْتِمَالِ لَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْتَرْ أَرْبَعًا أَوْ
أَمْسِكْ أَرْبَعًا، فَالِاخْتِيَارُ وَتَنْكِيرُ لَفْظِ أَرْبَعٍ كُلٌّ مِنْهُمَا يَأْبَى مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ لَا يَتِمُّ مَعَ مُخَالَفَةِ الشِّيعَةِ فِي ذَلِكَ، أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا مَا قَالُوا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ ; لِأَنَّ الرِّقَّ خِلَافُ مَقْصِدِ الشَّرْعِ
306
وَخِلَافُ الْأَصْلِ، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي مُخَاطَبَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ مِنَ الْأَزْوَاجِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ لِلْوُجُوبِ، فَالزَّوَاجُ وَاجِبٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ أَعْظَمَ سُنَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي رَغَّبَ فِيهَا دِينُ الْفِطْرَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: النُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ (مَا) عَلَى " مَنْ " فِي قَوْلِهِ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَهِيَ إِرَادَةُ الْوَصْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَانْكِحُوا أَيَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهِنَّ مِنَ الثَّيِّبَاتِ وَالْأَبْكَارِ وَذَوَاتِ الْجَمَالِ وَذَوَاتِ الْمَالِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ كَلِمَةُ " مَا " أَوْ تَغْلِبُ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ لَا الْوَصْفُ. فَيَقُولُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَاتِهِ، وَشَخْصِهِ وَتَقُولُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ فَأُنْزِلْنَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يَأْبَاهُ هَذَا الْمَقَامُ الَّذِي قُرِّرَ فِيهِ تَكْرِيمُهُنَّ، وَحِفْظُ حُقُوقِهِنَّ، وَحُرِّمَ فِيهِ ظُلْمُهُنَّ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَ (أَوْ) فِيهِ لِلتَّسْوِيَةِ يَعْنِي إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَأَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالتَّسَرِّي. وَظَاهِرُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَاحِدَةَ يَطْلُبُ فِي نِكَاحِهَا الْعَدْلَ، فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فِي مُعَامَلَتِهَا لَجَأَ إِلَى التَّسَرِّي، وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ الْجَمَاهِيرُ الْعَجْزَ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْحُرَّةِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ لَا فِي التَّسَرِّي بِهَا، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [٤: ٢٥] الْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً هَذَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ يُرَجِّحُ كَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِيهِنَّ لَا أَنَّ حُكْمَ تَعَدُّدِهِنَّ فِي الزَّوْجِيَّةِ جَاءَ عَرَضًا وَتَبَعًا لِأَحْكَامِ الْيَتَامَى مِنْهُنَّ، أَيْ وَأَعْطُوا النِّسَاءَ اللَّوَاتِي تَعْقِدُونَ عَلَيْهِنَّ
مُهُورَهُنَّ نِحْلَةً، أَيْ عَطَاءَ نِحْلَةٍ، أَيْ فَرِيضَةً لَازِمَةً عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيحٍ: فَرِيضَةً مُسَمَّاةً، وَقِيلَ: دِيَانَةً مِنَ النِّحْلَةِ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النِّحْلَةَ: الْمَهْرُ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ النِّحْلَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْحُلُهُ الْإِنْسَانُ وَيُعْطِيهِ هِبَةً عَنْ طِيبِ نَفْسٍ بِدُونِ مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا. قَالَ:
الصَّدُقَاتُ: جَمْعُ صَدُقَةٍ بِضَمِّ الدَّالِّ، وَفِيهِ لُغَاتٌ، مِنْهَا الصَّدَاقُ: وَهُوَ مَا يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ فِي هَذَا الْعَطَاءِ مَعْنَى أَعْلَى مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي لَاحَظَهُ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَنَّ الصَّدَاقَ وَالْمَهْرَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ عَنِ الْبِضْعِ، وَالثَّمَنِ لَهُ، كَلَّا إِنَّ الصِّلَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَعْلَى، وَأَشْرَفُ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَفَرَسِهِ، أَوْ جَارِيَتِهِ،
وَمِنْهَا: أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ لِلْوُجُوبِ، فَالزَّوَاجُ وَاجِبٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ أَعْظَمَ سُنَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي رَغَّبَ فِيهَا دِينُ الْفِطْرَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: النُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ (مَا) عَلَى " مَنْ " فِي قَوْلِهِ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَهِيَ إِرَادَةُ الْوَصْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَانْكِحُوا أَيَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهِنَّ مِنَ الثَّيِّبَاتِ وَالْأَبْكَارِ وَذَوَاتِ الْجَمَالِ وَذَوَاتِ الْمَالِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ كَلِمَةُ " مَا " أَوْ تَغْلِبُ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ لَا الْوَصْفُ. فَيَقُولُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَاتِهِ، وَشَخْصِهِ وَتَقُولُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ فَأُنْزِلْنَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يَأْبَاهُ هَذَا الْمَقَامُ الَّذِي قُرِّرَ فِيهِ تَكْرِيمُهُنَّ، وَحِفْظُ حُقُوقِهِنَّ، وَحُرِّمَ فِيهِ ظُلْمُهُنَّ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَ (أَوْ) فِيهِ لِلتَّسْوِيَةِ يَعْنِي إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَأَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالتَّسَرِّي. وَظَاهِرُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَاحِدَةَ يَطْلُبُ فِي نِكَاحِهَا الْعَدْلَ، فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فِي مُعَامَلَتِهَا لَجَأَ إِلَى التَّسَرِّي، وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ الْجَمَاهِيرُ الْعَجْزَ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْحُرَّةِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ لَا فِي التَّسَرِّي بِهَا، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [٤: ٢٥] الْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً هَذَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ يُرَجِّحُ كَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِيهِنَّ لَا أَنَّ حُكْمَ تَعَدُّدِهِنَّ فِي الزَّوْجِيَّةِ جَاءَ عَرَضًا وَتَبَعًا لِأَحْكَامِ الْيَتَامَى مِنْهُنَّ، أَيْ وَأَعْطُوا النِّسَاءَ اللَّوَاتِي تَعْقِدُونَ عَلَيْهِنَّ
مُهُورَهُنَّ نِحْلَةً، أَيْ عَطَاءَ نِحْلَةٍ، أَيْ فَرِيضَةً لَازِمَةً عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيحٍ: فَرِيضَةً مُسَمَّاةً، وَقِيلَ: دِيَانَةً مِنَ النِّحْلَةِ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النِّحْلَةَ: الْمَهْرُ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ النِّحْلَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْحُلُهُ الْإِنْسَانُ وَيُعْطِيهِ هِبَةً عَنْ طِيبِ نَفْسٍ بِدُونِ مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا. قَالَ:
الصَّدُقَاتُ: جَمْعُ صَدُقَةٍ بِضَمِّ الدَّالِّ، وَفِيهِ لُغَاتٌ، مِنْهَا الصَّدَاقُ: وَهُوَ مَا يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ فِي هَذَا الْعَطَاءِ مَعْنَى أَعْلَى مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي لَاحَظَهُ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَنَّ الصَّدَاقَ وَالْمَهْرَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ عَنِ الْبِضْعِ، وَالثَّمَنِ لَهُ، كَلَّا إِنَّ الصِّلَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَعْلَى، وَأَشْرَفُ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَفَرَسِهِ، أَوْ جَارِيَتِهِ،
307
وَلِذَلِكَ قَالَ: نِحْلَةً فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ هُوَ أَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْمَحَبَّةِ، وَصِلَةِ الْقُرْبَى، وَتَوْثِيقِ عُرَى الْمَوَدَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَأَنَّهُ وَاجِبُ حَتْمٍ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ كَمَا يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَالْمُسْتَأْجِرُ، وَتَرَى عُرْفَ النَّاسِ جَارِيًا عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا الْعَطَاءِ بَلْ يَشْفَعُهُ الزَّوْجُ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ.
أَقُولُ: الْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لِلْأَزْوَاجِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ الْيَتَامَى، وَغَيْرَ الْيَتَامَى، وَيَأْمُرُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُعْطُوهُنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ مُهُورِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ بِالنِّيَابَةِ عَنْهُنَّ، وَكَانَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُزَوِّجُهَا وَيَأْخُذُ صَدَاقَهَا لِنَفْسِهِ دُونَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُعْطِي الرَّجُلَ أُخْتَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ أُخْتَهُ فَلَا يُصِيبُ الْأُخْتَيْنِ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ جُمْلَةً، فَالزَّوْجُ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ وَأَنَّهُ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَالْوَلِيُّ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ لِمَنْفَعَةٍ لَهُ، وَلَا أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا إِذَا هُوَ قَبَضَهُ مِنَ الزَّوْجِ بِاسْمِهَا إِلَّا أَنْ تَسْمَحَ هِيَ لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ بِرِضَاهَا، وَاخْتِيَارِهَا، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ إِنْ طَابَتْ نُفُوسُهُنَّ بِإِعْطَائِكُمْ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ وَلَوْ كُلَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ: (مِنْهُ) لِلْبَيَانِ، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَا يَجُوزُ هِبَتُهُ كُلِّهِ، وَلَا أَخْذُهُ إِنْ هِيَ وَهَبَتْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ اللَّيْثُ.
فَأَعْطَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، وَلَا إِلْجَاءٍ بِسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَلَا إِخْجَالٍ بِالْخِلَابَةِ وَالْخُدْعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ وَلَا خَدِيعَةٍ - فَكُلُوهُ أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا، مِنْ هَنُوءِ الطَّعَامِ وَمَرُوئِهِ إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا غَصَصَ فِيهِ، وَلَا تَنْغِيصَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَنِيءُ مَا يَسْتَلِذُّهُ الْآكِلُ، وَالْمَرِيءُ مَا تَجْمُلُ عَاقِبَتُهُ كَأَنْ يَسْهُلَ هَضْمُهُ، وَتَحْسُنَ تَغْذِيَتُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ - رَاجِعْ ص١٦٠ ج٢ [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]- وَبِكَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا لَا تَبِعَةَ فِيهِ، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْ مَالِ امْرَأَتِهِ إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْسَهَا طَيِّبَةٌ بِهِ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا فَحَمَلَهَا الْخَجَلُ أَوِ الْخَوْفُ عَلَى إِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ. وَعَلَامَاتُ الرِّضَا، وَطِيبِ النَّفْسِ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّابِسُونَ لِبَاسَ الصَّالِحِينَ الْمُتَحَلَّوْنَ بِعُقُودِ السِّبَحِ الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ شِفَاهَهُمْ وَيَلُوكُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يُسَمُّونَهُ ذِكْرًا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ أَمْوَالِ نِسَائِهِمْ إِذَا أَعْطَيْنَهَا، أَوْ أَجَزْنَ أَخْذَهَا بِالتَّرْهِيبِ، أَوِ الْخِدَاعِ، أَوِ الْخَجَلِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُنَّ أَعْطَيْنَنَا، وَلَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [٤: ٢٠] فَإِذَا شَدَّدَ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي طَوْرِ الْمُفَارَقَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي طَوْرِ الِاجْتِمَاعِ وَالْمُعَاشَرَةِ؟.
أَقُولُ: الْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لِلْأَزْوَاجِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ الْيَتَامَى، وَغَيْرَ الْيَتَامَى، وَيَأْمُرُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُعْطُوهُنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ مُهُورِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ بِالنِّيَابَةِ عَنْهُنَّ، وَكَانَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُزَوِّجُهَا وَيَأْخُذُ صَدَاقَهَا لِنَفْسِهِ دُونَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُعْطِي الرَّجُلَ أُخْتَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ أُخْتَهُ فَلَا يُصِيبُ الْأُخْتَيْنِ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ جُمْلَةً، فَالزَّوْجُ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ وَأَنَّهُ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَالْوَلِيُّ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ لِمَنْفَعَةٍ لَهُ، وَلَا أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا إِذَا هُوَ قَبَضَهُ مِنَ الزَّوْجِ بِاسْمِهَا إِلَّا أَنْ تَسْمَحَ هِيَ لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ بِرِضَاهَا، وَاخْتِيَارِهَا، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ إِنْ طَابَتْ نُفُوسُهُنَّ بِإِعْطَائِكُمْ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ وَلَوْ كُلَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ: (مِنْهُ) لِلْبَيَانِ، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَا يَجُوزُ هِبَتُهُ كُلِّهِ، وَلَا أَخْذُهُ إِنْ هِيَ وَهَبَتْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ اللَّيْثُ.
فَأَعْطَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، وَلَا إِلْجَاءٍ بِسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَلَا إِخْجَالٍ بِالْخِلَابَةِ وَالْخُدْعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ وَلَا خَدِيعَةٍ - فَكُلُوهُ أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا، مِنْ هَنُوءِ الطَّعَامِ وَمَرُوئِهِ إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا غَصَصَ فِيهِ، وَلَا تَنْغِيصَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَنِيءُ مَا يَسْتَلِذُّهُ الْآكِلُ، وَالْمَرِيءُ مَا تَجْمُلُ عَاقِبَتُهُ كَأَنْ يَسْهُلَ هَضْمُهُ، وَتَحْسُنَ تَغْذِيَتُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ - رَاجِعْ ص١٦٠ ج٢ [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]- وَبِكَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا لَا تَبِعَةَ فِيهِ، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْ مَالِ امْرَأَتِهِ إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْسَهَا طَيِّبَةٌ بِهِ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا فَحَمَلَهَا الْخَجَلُ أَوِ الْخَوْفُ عَلَى إِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ. وَعَلَامَاتُ الرِّضَا، وَطِيبِ النَّفْسِ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّابِسُونَ لِبَاسَ الصَّالِحِينَ الْمُتَحَلَّوْنَ بِعُقُودِ السِّبَحِ الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ شِفَاهَهُمْ وَيَلُوكُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يُسَمُّونَهُ ذِكْرًا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ أَمْوَالِ نِسَائِهِمْ إِذَا أَعْطَيْنَهَا، أَوْ أَجَزْنَ أَخْذَهَا بِالتَّرْهِيبِ، أَوِ الْخِدَاعِ، أَوِ الْخَجَلِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُنَّ أَعْطَيْنَنَا، وَلَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [٤: ٢٠] فَإِذَا شَدَّدَ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي طَوْرِ الْمُفَارَقَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي طَوْرِ الِاجْتِمَاعِ وَالْمُعَاشَرَةِ؟.
308
أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ طَوْرَ الْمُفَارَقَةِ هُوَ طَوْرُ مُغَاضَبَةٍ، فَفِي الطَّبْعِ دَاعِيَةٌ لِلْمُشَاحَّةِ فِيهِ، وَأَمَّا طَوْرُ عَقْدِ الْمُصَاهَرَةِ فَهُوَ طَوْرُ الرَّغْبَةِ، وَالتَّحَبُّبِ، وَإِظْهَارِ الزَّوْجِ أَهْلِيَّتَهُ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ كَفَالَةِ الْمَرْأَةِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ غَلَبَ حُبُّ الدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارِ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى عَلَى الْعَوَاطِفِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَحُبِّ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، فَصَارَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَقْوَامُهُمَا يُمَاكِسُونَ فِي الْمَهْرِ كَمَا يُمَاكِسُونَ فِي سِلَعِ التِّجَارَةِ وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ بَاطِنَ الْمَرْأَةِ فِيهَا مَعْلُومٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ، فَيَدَّعِي الْأَخْذَ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَاللهُ - تَعَالَى - لَمْ يَقُلْ (فَإِنْ أَعْطَيْنَكُمْ) حَتَّى يُقَالَ حَصَلَ الْعَطَاءُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَإِنَّمَا نَاطَ الْحِلَّ بِطِيبِ نُفُوسِهِنَّ عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ طِيبُ النَّفْسِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ لَمَا نَاطَ - سُبْحَانَهُ - الْحُكْمَ بِهِ، فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ: إِذَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ أَكْلِ مَا تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ هُوَ أَنْ
يَكُونَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، وَتَعْلَمُونَ أَنَّهَا إِنَّمَا أَعْطَتْ مَا أَعْطَتْ كَارِهَةً أَوْ مُكْرَهَةً لِمَا اتَّخَذْتُمُوهُ مِنَ الْوَسَائِلِ، فَكَيْفَ تُخَادِعُونَ رَبَّكُمْ وَتُكَابِرُونَ أَنْفُسَكُمْ؟
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا
الْمُفْرَدَاتُ: (السَّفُهَاءُ) جَمْعُ سَفِيهٍ مِنَ السَّفَهِ وَالسَّفَاهَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ السَّفَهَ هُوَ الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ، وَالْفِكْرِ، أَوِ الْأَخْلَاقِ. وَأَصْلُهُ الِاضْطِرَابُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: السَّفَهُ خِفَّةٌ فِي الْبَدَنِ، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ سَفِيهٌ: كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ، وَثَوْبٌ سَفِيهٌ: رَدِيءُ النَّسْجِ. وَاسْتُعْمِلَ فِي خِفَّةِ النَّفْسِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ بَاطِنَ الْمَرْأَةِ فِيهَا مَعْلُومٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ، فَيَدَّعِي الْأَخْذَ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَاللهُ - تَعَالَى - لَمْ يَقُلْ (فَإِنْ أَعْطَيْنَكُمْ) حَتَّى يُقَالَ حَصَلَ الْعَطَاءُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَإِنَّمَا نَاطَ الْحِلَّ بِطِيبِ نُفُوسِهِنَّ عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ طِيبُ النَّفْسِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ لَمَا نَاطَ - سُبْحَانَهُ - الْحُكْمَ بِهِ، فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ: إِذَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ أَكْلِ مَا تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ هُوَ أَنْ
يَكُونَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، وَتَعْلَمُونَ أَنَّهَا إِنَّمَا أَعْطَتْ مَا أَعْطَتْ كَارِهَةً أَوْ مُكْرَهَةً لِمَا اتَّخَذْتُمُوهُ مِنَ الْوَسَائِلِ، فَكَيْفَ تُخَادِعُونَ رَبَّكُمْ وَتُكَابِرُونَ أَنْفُسَكُمْ؟
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا
الْمُفْرَدَاتُ: (السَّفُهَاءُ) جَمْعُ سَفِيهٍ مِنَ السَّفَهِ وَالسَّفَاهَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ السَّفَهَ هُوَ الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ، وَالْفِكْرِ، أَوِ الْأَخْلَاقِ. وَأَصْلُهُ الِاضْطِرَابُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: السَّفَهُ خِفَّةٌ فِي الْبَدَنِ، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ سَفِيهٌ: كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ، وَثَوْبٌ سَفِيهٌ: رَدِيءُ النَّسْجِ. وَاسْتُعْمِلَ فِي خِفَّةِ النَّفْسِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.
309
ثُمَّ جَعْلُ السَّفَهِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ السُّفَهَاءِ هُنَا، وَمَثَّلَ لِلسَّفَهِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا [٧٢: ٤]. فَالسُّفَهَاءُ هُنَا هُمُ الْمُبَذِّرُونَ أَمْوَالَهُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَهَا فِيمَا لَا يَنْبَغِي وَيُسِيئُونَ التَّصَرُّفَ بِإِنْمَائِهَا وَتَثْمِيرِهَا - قِيَامًا تَقُومُ بِهَا أُمُورُ مَعَايِشِكُمْ فَتَحُولُ دُونَ وُقُوعِكُمْ فِي الْفَقْرِ، وَقَرَأَهَا نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ (قِيَمًا)، وَهُوَ بِمَعْنَى قِيَامًا كَمَا يَأْتِي. قَالَ الرَّاغِبُ الْقِيَامَ وَالْقِوَامُ: اسْمٌ لِمَا يَقُومُ بِهِ الشَّيْءُ، أَيْ يَثْبُتُ، كَالْعِمَادِ، وَالسِّنَادِ لِمَا يَعْمِدُ بِهِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ. وَفُسِّرَتْ فِي الْكَشَّافِ بِقَوْلِهِ: أَيْ تَقُومُونَ بِهَا، وَتَتَعَيَّشُونَ، وَلَوْ ضَيَّعْتُمُوهَا لَضِعْتُمْ قَالَ: وَقُرِئَ (قِيَمًا) بِمَعْنَى قِيَامًا كَمَا جَاءَ عِوَذًا بِمَعْنَى عِيَاذًا - وَارْزُقُوهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَهُوَ الْعَطَاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّصِيبِ مِنَ الشَّيْءِ، وَقَدْ يُخَصُّ بِالطَّعَامِ، قِيلَ: وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا لِمُقَابَلَتِهِ بِالْكِسْوَةِ. كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْمُرْضِعَاتِ:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [٢: ٢٣٣] وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَعَمُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَوْلُهُ: آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا مَعْنَاهُ أَبْصَرْتُمْ مِنْهُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الرُّشْدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا إِبْصَارَ إِينَاسٍ، وَهُوَ الِاسْتِيضَاحُ، وَاسْتَعْبَرَ لِلتَّبْيِينِ كَمَا فِي الْكَشَّافِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرُّشْدَ الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالْحِفْظُ لِلْمَالِ إِسْرَافًا وَبِدَارًا مَصْدَرَانِ لِـ أَسْرَفَ وَبَادَرَ، فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَغَلَبَ فِي الْأَمْوَالِ، وَيُقَابِلُهُ الْقَتْرُ، وَهُوَ النَّقْصُ فِي النَّفَقَةِ عَمَّا يَنْبَغِي، قَالَ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [٢٠: ٦٧] يُقَالُ: قَتَرَ - يَقْتُرُ بِوَزْنِ نَصَرَ يَنْصُرُ، وَقَتَّرَ يُقَتِّرُ - بِالتَّشْدِيدِ - وَالْقَوَامُ كَالْقِيَامِ: هُوَ الْقَصْدُ بَيْنَهُمَا الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَعِيشَةُ وَتَثْبُتُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبِدَارُ: الْمُبَادَرَةُ أَيِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: بَادَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ وَبَدَرْتُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْبَرُوا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، أَيْ كِبَرُهُمْ فِي السِّنِّ، يُقَالُ: كَبِرَ يَكْبَرُ - بِوَزْنِ عَلِمَ يَعْلَمُ، إِذَا كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَأَمَّا كَبُرَ يَكْبُرُ - بِضَمِّ الْبَاءِ - فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، فَهُوَ كَعَظُمَ يَعْظُمُ حِسًّا، أَوْ مَعْنًى فَلْيَسْتَعْفِفْ فَلْيَعِفَّ مُبَالِغًا فِي الْعِفَّةِ، أَوْ فَلْيُطَالِبْ نَفْسَهُ بِالْعِفَّةِ وَيَحْمِلْهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الشَّهَوَاتِ، أَوْ مَلَكَةٍ فِي النَّفْسِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَطَلَبُهَا يَكُونُ بِالتَّعَفُّفِ وَهُوَ تَكَلُّفُ الْعِفَّةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، حَتَّى تَسْتَحْكِمَ الْمَلَكَةُ فِي النَّفْسِ بِالتَّكْرَارِ، وَالْمُمَارَسَةِ كَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ، وَالْمَلَكَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ بِالتَّرْبِيَةِ.
الْمَعْنَى: اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ بِالسُّفَهَاءِ هُنَا. فَقِيلَ: هُمُ الْيَتَامَى، وَالنِّسَاءُ. وَقِيلَ: النِّسَاءُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ لِلْمُخَاطَبِينَ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ سَفِيهٍ مِنْ صَغِيرٍ، وَكَبِيرٍ، وَذَكَرٍ، وَأُنْثَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَجَعَلَ الْخِطَابَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ لِيَشْمَلَ النَّهْيُ كُلَّ مَالٍ يُعْطَى لِأَيِّ سَفِيهٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [٢: ١٨٨]- ص١٥٧ ج ٢ [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [٢: ٢٣٣] وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَعَمُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَوْلُهُ: آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا مَعْنَاهُ أَبْصَرْتُمْ مِنْهُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الرُّشْدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا إِبْصَارَ إِينَاسٍ، وَهُوَ الِاسْتِيضَاحُ، وَاسْتَعْبَرَ لِلتَّبْيِينِ كَمَا فِي الْكَشَّافِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرُّشْدَ الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالْحِفْظُ لِلْمَالِ إِسْرَافًا وَبِدَارًا مَصْدَرَانِ لِـ أَسْرَفَ وَبَادَرَ، فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَغَلَبَ فِي الْأَمْوَالِ، وَيُقَابِلُهُ الْقَتْرُ، وَهُوَ النَّقْصُ فِي النَّفَقَةِ عَمَّا يَنْبَغِي، قَالَ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [٢٠: ٦٧] يُقَالُ: قَتَرَ - يَقْتُرُ بِوَزْنِ نَصَرَ يَنْصُرُ، وَقَتَّرَ يُقَتِّرُ - بِالتَّشْدِيدِ - وَالْقَوَامُ كَالْقِيَامِ: هُوَ الْقَصْدُ بَيْنَهُمَا الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَعِيشَةُ وَتَثْبُتُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبِدَارُ: الْمُبَادَرَةُ أَيِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: بَادَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ وَبَدَرْتُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْبَرُوا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، أَيْ كِبَرُهُمْ فِي السِّنِّ، يُقَالُ: كَبِرَ يَكْبَرُ - بِوَزْنِ عَلِمَ يَعْلَمُ، إِذَا كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَأَمَّا كَبُرَ يَكْبُرُ - بِضَمِّ الْبَاءِ - فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، فَهُوَ كَعَظُمَ يَعْظُمُ حِسًّا، أَوْ مَعْنًى فَلْيَسْتَعْفِفْ فَلْيَعِفَّ مُبَالِغًا فِي الْعِفَّةِ، أَوْ فَلْيُطَالِبْ نَفْسَهُ بِالْعِفَّةِ وَيَحْمِلْهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الشَّهَوَاتِ، أَوْ مَلَكَةٍ فِي النَّفْسِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَطَلَبُهَا يَكُونُ بِالتَّعَفُّفِ وَهُوَ تَكَلُّفُ الْعِفَّةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، حَتَّى تَسْتَحْكِمَ الْمَلَكَةُ فِي النَّفْسِ بِالتَّكْرَارِ، وَالْمُمَارَسَةِ كَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ، وَالْمَلَكَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ بِالتَّرْبِيَةِ.
الْمَعْنَى: اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ بِالسُّفَهَاءِ هُنَا. فَقِيلَ: هُمُ الْيَتَامَى، وَالنِّسَاءُ. وَقِيلَ: النِّسَاءُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ لِلْمُخَاطَبِينَ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ سَفِيهٍ مِنْ صَغِيرٍ، وَكَبِيرٍ، وَذَكَرٍ، وَأُنْثَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَجَعَلَ الْخِطَابَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ لِيَشْمَلَ النَّهْيُ كُلَّ مَالٍ يُعْطَى لِأَيِّ سَفِيهٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [٢: ١٨٨]- ص١٥٧ ج ٢ [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ
310
السَّابِقَةِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَبِإِيتَاءِ النِّسَاءِ صَدُقَاتِهِنَّ أَيْ مُهُورِهِنَّ، وَأَتَى فِي قَوْلِهِ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا بِشَرْطٍ لِلْإِيتَاءِ يَعُمُّ الْأَمْرَيْنِ السَّابِقَيْنِ ; أَيْ أَعْطُوا كُلَّ يَتِيمٍ مَالَهُ إِذَا بَلَغَ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ صَدَاقَهَا إِلَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا سَفِيهًا لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ أَنْ تُعْطُوهُ إِيَّاهُ لِئَلَّا يُضَيِّعَهُ، وَيَجِبُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لَهُ، أَوْ يَرْشُدَ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَمْوَالَكُمُ وَلَمْ يَقُلْ أَمْوَالَهُمْ مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ،
وَالْمَالَ لِلسُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي وِلَايَتِهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا ضَاعَ هَذَا الْمَالُ وَلَمْ يَبْقَ لِلسَّفِيهِ مِنْ مَالِهِ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ إِضَاعَةُ مَالِ السَّفِيهِ مُفْضِيَةً إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْوَلِيِّ، فَكَأَنَّ مَالَهُ عَيْنُ مَالِهِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ إِذَا رَشَدُوا وَأَمْوَالُهُمْ مَحْفُوظَةٌ لَهُمْ، وَتَصَرَّفُوا فِيهَا تَصَرُّفَ الرَّاشِدِينَ، وَأَنْفَقُوا مِنْهَا فِي الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَإِنَّهُ يُصِيبُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ حَظٌّ مِنْهَا.
ثَالِثًا: التَّكَافُلُ فِي الْأُمَّةِ، وَاعْتِبَارُ مَصْلَحَةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا عَيْنُ مُصْلَحَةِ الْآخَرِينَ، كَمَا قُلْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى.
وَذَهَبَ (الْجَلَالُ) إِلَى أَنَّهُ أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمُ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ - وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ - وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ السُّفَهَاءَ هُنَا هُمْ أَوْلَادُ الْمُخَاطَبِينَ الصِّغَارُ إِلَّا لِحَيْرَتِهِ فِي هَذِهِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: أَمْوَالَكُمُ وَقَوْلِهِ: لَكُمْ وَعَدَمِ ظُهُورِ النُّكْتَةِ لَهُ فِي إِيثَارِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
أَقُولُ: وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِجَوَابَيْنِ تَبَعًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بَلْ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا التَّصَرُّفَ فِيهِ، قَالَ: وَيَكْفِي لِحُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْجَلَالُ. ثَانِيهِمَا قَوْلُهُ: إِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِجْرَاءً لِلْوَحْدَةِ بِالنَّوْعِ مَجْرَى الْوَحْدَةِ بِالشَّخْصِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [٩: ١٢٨] وَقَوْلُهُ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤: ٢٥] وَقَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [٢: ٥٤] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [٢: ٨٥] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ مَا كَانَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا وَكَانَ الْكُلُّ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَكَذَا هَاهُنَا الْمَالُ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَنْتَفِعُ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ ; فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ حَسُنَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ اهـ.
أَقُولُ: وَهَذَا أَوْسَعُ مِمَّا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي النَّوْعِ
وَالْمَالَ لِلسُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي وِلَايَتِهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا ضَاعَ هَذَا الْمَالُ وَلَمْ يَبْقَ لِلسَّفِيهِ مِنْ مَالِهِ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ إِضَاعَةُ مَالِ السَّفِيهِ مُفْضِيَةً إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْوَلِيِّ، فَكَأَنَّ مَالَهُ عَيْنُ مَالِهِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ إِذَا رَشَدُوا وَأَمْوَالُهُمْ مَحْفُوظَةٌ لَهُمْ، وَتَصَرَّفُوا فِيهَا تَصَرُّفَ الرَّاشِدِينَ، وَأَنْفَقُوا مِنْهَا فِي الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَإِنَّهُ يُصِيبُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ حَظٌّ مِنْهَا.
ثَالِثًا: التَّكَافُلُ فِي الْأُمَّةِ، وَاعْتِبَارُ مَصْلَحَةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا عَيْنُ مُصْلَحَةِ الْآخَرِينَ، كَمَا قُلْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى.
وَذَهَبَ (الْجَلَالُ) إِلَى أَنَّهُ أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمُ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ - وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ - وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ السُّفَهَاءَ هُنَا هُمْ أَوْلَادُ الْمُخَاطَبِينَ الصِّغَارُ إِلَّا لِحَيْرَتِهِ فِي هَذِهِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: أَمْوَالَكُمُ وَقَوْلِهِ: لَكُمْ وَعَدَمِ ظُهُورِ النُّكْتَةِ لَهُ فِي إِيثَارِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
أَقُولُ: وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِجَوَابَيْنِ تَبَعًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بَلْ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا التَّصَرُّفَ فِيهِ، قَالَ: وَيَكْفِي لِحُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْجَلَالُ. ثَانِيهِمَا قَوْلُهُ: إِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِجْرَاءً لِلْوَحْدَةِ بِالنَّوْعِ مَجْرَى الْوَحْدَةِ بِالشَّخْصِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [٩: ١٢٨] وَقَوْلُهُ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤: ٢٥] وَقَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [٢: ٥٤] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [٢: ٨٥] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ مَا كَانَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا وَكَانَ الْكُلُّ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَكَذَا هَاهُنَا الْمَالُ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَنْتَفِعُ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ ; فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ حَسُنَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ اهـ.
أَقُولُ: وَهَذَا أَوْسَعُ مِمَّا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي النَّوْعِ
311
كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْمِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ اتَّحَدَتْ مَصَالِحُهُمْ بِمَصَالِحِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي النَّظَائِرِ، وَالشَّوَاهِدِ الَّتِي أَوْرَدَهَا، فَإِنَّ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقَتْلٍ، أَيْ قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي النَّوْعِ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أُمَّةٌ لَهَا مِلَّةٌ تَرْتَبِطُ بِهَا مَصَالِحُهُمْ فَخَالَفُوهَا فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ لِتَكَافُلِهِمْ بِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الذَّنْبِ، وَعَدَمِ التَّنَاهِي عَنْهُ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَتَلُوا قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ نَوْعِ
الْبَشَرِ لَمَا كَانُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْأَمْرِ، وَلَمَا قِيلَ لَهُمْ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَالرَّاجِحُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ قَوْمُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتِ الْبَعْثَةُ عَامَّةً كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي تَكْلِيفِهِمُ اتِّبَاعَهُ وَفِي كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ.
فَلَا بُدَّ فِي إِقَامَةِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ، أَوِ الْقَوْمِيَّةِ، أَوِ الْأَهْلِيَّةِ مَقَامَ الْوَحْدَةِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ اشْتِرَاكِ أَفْرَادِ النَّوْعِ، أَوِ الْقَوْمِ، أَوِ الْأَهْلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، كَمَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَوْجِيهِ إِسْنَادِ مَا فَعَلَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَأْثِيرِ أَعْمَالِ السَّلَفِ فِي الْخَلَفِ بِالْوِرَاثَةِ وَالْقُدْوَةِ، وَلَوْ جُعِلَتِ الْوَحْدَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ وَحْدَةَ الْقَرَابَةِ وَالْكَفَالَةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ الْوَحْدَةِ الْأُمِّيَّةِ، وَالْقَوْمِيَّةِ الَّتِي قَالَ بِهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَكَانَ الْمَعْنَى أَظْهَرَ، كَمَا أَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ فِي الْأَمْوَالِ مُطَّرِدٌ تَظْهَرُ فِيهِ الْوَحْدَةُ دَائِمًا، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ جَعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَتَكَافُلِهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِنَظَائِرِهَا الْكَثِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرِدَاتِ مَعْنَى جَعْلِ الْأَمْوَالِ قِيَامًا لِلنَّاسِ تَقُومُ وَتَثْبُتُ بِهَا مَنَافِعُهُمْ وَمَرَافِقُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَيَبْلُغَ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى الِاقْتِصَادِ، وَبَيَانِ فَائِدَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ السُّفَهَاءِ، وَبَيَانِ غَائِلَتِهِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهِ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنَافِعَكُمْ وَمَرَافِقَكُمُ الْخَاصَّةَ وَمَصَالِحَكُمُ الْعَامَّةَ لَا تَزَالُ قَائِمَةً ثَابِتَةً مَا دَامَتْ أَمْوَالُكُمْ فِي أَيْدِي الرَّاشِدِينَ الْمُقْتَصِدِينَ مِنْكُمُ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ تَثْمِيرَهَا وَتَوْفِيرَهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَ الْمَصْلَحَةِ فِي إِنْفَاقِ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْهَا، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي أَيْدِي السُّفَهَاءِ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ الْحُدُودَ الْمَشْرُوعَةَ، وَالْمَعْقُولَةَ يَتَدَاعَى مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ سَالِمًا، وَيَسْقُطُ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ قَائِمًا، فَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الِاقْتِصَادِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأَمْوَالِ كَالْأُمُورِ كُلِّهَا ; وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:
الْبَشَرِ لَمَا كَانُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْأَمْرِ، وَلَمَا قِيلَ لَهُمْ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَالرَّاجِحُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ قَوْمُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتِ الْبَعْثَةُ عَامَّةً كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي تَكْلِيفِهِمُ اتِّبَاعَهُ وَفِي كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ.
فَلَا بُدَّ فِي إِقَامَةِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ، أَوِ الْقَوْمِيَّةِ، أَوِ الْأَهْلِيَّةِ مَقَامَ الْوَحْدَةِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ اشْتِرَاكِ أَفْرَادِ النَّوْعِ، أَوِ الْقَوْمِ، أَوِ الْأَهْلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، كَمَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَوْجِيهِ إِسْنَادِ مَا فَعَلَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَأْثِيرِ أَعْمَالِ السَّلَفِ فِي الْخَلَفِ بِالْوِرَاثَةِ وَالْقُدْوَةِ، وَلَوْ جُعِلَتِ الْوَحْدَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ وَحْدَةَ الْقَرَابَةِ وَالْكَفَالَةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ الْوَحْدَةِ الْأُمِّيَّةِ، وَالْقَوْمِيَّةِ الَّتِي قَالَ بِهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَكَانَ الْمَعْنَى أَظْهَرَ، كَمَا أَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ فِي الْأَمْوَالِ مُطَّرِدٌ تَظْهَرُ فِيهِ الْوَحْدَةُ دَائِمًا، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ جَعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَتَكَافُلِهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِنَظَائِرِهَا الْكَثِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرِدَاتِ مَعْنَى جَعْلِ الْأَمْوَالِ قِيَامًا لِلنَّاسِ تَقُومُ وَتَثْبُتُ بِهَا مَنَافِعُهُمْ وَمَرَافِقُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَيَبْلُغَ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى الِاقْتِصَادِ، وَبَيَانِ فَائِدَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ السُّفَهَاءِ، وَبَيَانِ غَائِلَتِهِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهِ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنَافِعَكُمْ وَمَرَافِقَكُمُ الْخَاصَّةَ وَمَصَالِحَكُمُ الْعَامَّةَ لَا تَزَالُ قَائِمَةً ثَابِتَةً مَا دَامَتْ أَمْوَالُكُمْ فِي أَيْدِي الرَّاشِدِينَ الْمُقْتَصِدِينَ مِنْكُمُ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ تَثْمِيرَهَا وَتَوْفِيرَهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَ الْمَصْلَحَةِ فِي إِنْفَاقِ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْهَا، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي أَيْدِي السُّفَهَاءِ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ الْحُدُودَ الْمَشْرُوعَةَ، وَالْمَعْقُولَةَ يَتَدَاعَى مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ سَالِمًا، وَيَسْقُطُ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ قَائِمًا، فَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الِاقْتِصَادِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأَمْوَالِ كَالْأُمُورِ كُلِّهَا ; وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:
312
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [٢٥: ٦٧] فَهَذِهِ الْآيَةُ شَارِحَةٌ لِلَّفْظِ قِيَامًا فِي الْآيَةِ
الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ نَهَانَا الْقُرْآنُ عَنِ التَّبْذِيرِ حَتَّى فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ وَالتَّصَدُّقِ الْمُؤَكَّدِ وَجَعَلَ الْمُبَذِّرَ كَالشَّيْطَانِ مُبَالِغًا فِي الْكُفْرِ، وَبَيَّنَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُتَوَسِّعِ فِي النَّفَقَةِ إِلَى حَدِّ الْإِسْرَافِ كَمَا فِي آيَاتِ ٢٦ - ٢٩ مِنَ السُّورَةِ ١٧ (الْإِسْرَاءِ).
وَفِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ فَمِنْهَا مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ "، رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ "، وَغَيْرُهُمْ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى: " مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَتِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " مَنِ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللهُ وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللهُ " إلخ. رَوَاهُ الْبَّزَّارُ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْغَنِيِّ حَدِيثُ سَعْدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: " إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْحَفِيَّ "، وَحَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى إلخ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا.
فَإِذَا جَرَى لَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْحِكَمِ حَتَّى صِرْنَا أَشَدَّ الْأُمَمِ إِسْرَافًا، وَتَبْذِيرًا، وَإِضَاعَةً لِلْأَمْوَالِ، وَجَهْلًا بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، وَتَثْمِيرِهَا، وَإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ بِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي أَزْمِنَةِ التَّارِيخِ مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ قِيَامِ مَصَالِحِ الْأُمَمِ، وَمَرَافِقِهَا، وَعَظَمَةِ شَأْنِهَا عَلَى الْمَالِ حَتَّى إِنَّ الْأُمَمَ الْجَاهِلَةَ بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ، الَّتِي لَيْسَ فِي أَيْدِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ قَدْ صَارَتْ مُسْتَذَلَّةً، وَمُسْتَعْبَدَةً لِلْأُمَمِ الْغَنِيَّةِ بِالْبَرَاعَةِ فِي الْكَسْبِ، وَالْإِحْسَانِ فِي الِاقْتِصَادِ؟
وَمَاذَا جَرَى لِتِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي يَقُولُ لَهَا كِتَابُهَا الدِّينِيُّ كَمَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى " (١٩: ٢٣) إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ [٢٤] وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ "، وَيَقُولَ كَمَا فِي
(٦: ٢٤) مِنْهُ: " لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا لِلَّهِ وَالْمَالِ [٢٥] لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ " إلخ. وَفِي (١٠: ٩) مِنْهُ: " لَا تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً " - مَاذَا جَرَى لَهَا فِي دِينِهَا حَتَّى صَارَتْ أَبْرَعَ الْخَلْقِ فِي فُنُونِ الثَّرْوَةِ، وَالِاقْتِصَادِ، وَأَبْعَدَهَا عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ، وَسَادَتْ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ عَلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْأَرْضِ؟ أَلَا وَهِيَ أُمَمُ الْإِفْرِنْجَةِ.
الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ نَهَانَا الْقُرْآنُ عَنِ التَّبْذِيرِ حَتَّى فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ وَالتَّصَدُّقِ الْمُؤَكَّدِ وَجَعَلَ الْمُبَذِّرَ كَالشَّيْطَانِ مُبَالِغًا فِي الْكُفْرِ، وَبَيَّنَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُتَوَسِّعِ فِي النَّفَقَةِ إِلَى حَدِّ الْإِسْرَافِ كَمَا فِي آيَاتِ ٢٦ - ٢٩ مِنَ السُّورَةِ ١٧ (الْإِسْرَاءِ).
وَفِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ فَمِنْهَا مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ "، رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ "، وَغَيْرُهُمْ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى: " مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَتِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " مَنِ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللهُ وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللهُ " إلخ. رَوَاهُ الْبَّزَّارُ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْغَنِيِّ حَدِيثُ سَعْدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: " إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْحَفِيَّ "، وَحَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى إلخ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا.
فَإِذَا جَرَى لَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْحِكَمِ حَتَّى صِرْنَا أَشَدَّ الْأُمَمِ إِسْرَافًا، وَتَبْذِيرًا، وَإِضَاعَةً لِلْأَمْوَالِ، وَجَهْلًا بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، وَتَثْمِيرِهَا، وَإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ بِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي أَزْمِنَةِ التَّارِيخِ مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ قِيَامِ مَصَالِحِ الْأُمَمِ، وَمَرَافِقِهَا، وَعَظَمَةِ شَأْنِهَا عَلَى الْمَالِ حَتَّى إِنَّ الْأُمَمَ الْجَاهِلَةَ بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ، الَّتِي لَيْسَ فِي أَيْدِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ قَدْ صَارَتْ مُسْتَذَلَّةً، وَمُسْتَعْبَدَةً لِلْأُمَمِ الْغَنِيَّةِ بِالْبَرَاعَةِ فِي الْكَسْبِ، وَالْإِحْسَانِ فِي الِاقْتِصَادِ؟
وَمَاذَا جَرَى لِتِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي يَقُولُ لَهَا كِتَابُهَا الدِّينِيُّ كَمَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى " (١٩: ٢٣) إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ [٢٤] وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ "، وَيَقُولَ كَمَا فِي
(٦: ٢٤) مِنْهُ: " لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا لِلَّهِ وَالْمَالِ [٢٥] لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ " إلخ. وَفِي (١٠: ٩) مِنْهُ: " لَا تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً " - مَاذَا جَرَى لَهَا فِي دِينِهَا حَتَّى صَارَتْ أَبْرَعَ الْخَلْقِ فِي فُنُونِ الثَّرْوَةِ، وَالِاقْتِصَادِ، وَأَبْعَدَهَا عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ، وَسَادَتْ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ عَلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْأَرْضِ؟ أَلَا وَهِيَ أُمَمُ الْإِفْرِنْجَةِ.
313
وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مَدَنِيَّةً إِسْلَامِيَّةً مَعَ مُخَالَفَتِنَا لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ، كَمَا خَالَفَهُ جَمَاهِيرُنَا فِي أَكْثَرِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ؟ وَكَيْفَ جَازَ أَنْ تُسَمَّى مَدَنِيَّتُهُمْ مَدَنِيَّةً مَسِيحِيَّةً مَعَ بِنَاءِ تَعَالِيمِ الْمَسِيحِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَبُغْضِ الْمَالِ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا غَيْرَهُمْ، وَهُمْ لَهَا مُخَالِفُونَ، وَعَنْهَا مُعْرِضُونَ! ! !
أَمَّا السَّبَبُ فِيمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي دُنْيَانَا، وَمُخَالَفَةِ نَصِّ كِتَابِنَا فَهُوَ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ، وَهُوَ أَنَّنَا أَخَذْنَا بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْنَا، وَتَرَكْنَا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، وَنَبَذْنَاهُ وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَأَخَذْنَا فِي الْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ الَّتِي هِيَ رُوحُ حَيَاةِ الْأُمَمِ بِأَقْوَالِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ لَبَسُوا عَلَيْنَا بِلِبَاسِ الصَّالِحِينَ، فَنَفَثُوا فِي الْأُمَّةِ سُمُومَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّزْهِيدِ، وَالْحَثِّ عَلَى إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَكْثَرُهُمْ إِنْفَاقَ كَسْبِ الْكَاسِبِينَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ كُسَالَى لَا يَكْسِبُونَ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ بِحُبِّ اللهِ مَشْغُولُونَ!
حَتَّى صَارَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ جَمِيعِ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ إِدْرَارُ الْمَالِ وَالرِّزْقِ عَلَى عُلَمَاءِ الدِّينِ، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ " الصَّالِحِينَ "، فَهُمْ يَأْكُلُونَ مَالَ الْأُمَّةِ بِدِينِهِمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّ لَهُمُ الْفَضْلَ عَلَيْهَا بِقَبُولِهِ مِنْهَا، وَإِنْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ تَحْرِيضٌ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، وَتَعْرِيفٌ بِقِيمَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُبَذِّرَ أَمْوَالَهُ، وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَعْرَفِ النَّاسِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ وُجُوهِ الْحَلَالِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذَا مَا نَسْمَعُهُ مِنْ خُطَبَاءِ مَسَاجِدِنَا مِنْ تَزْهِيدِ النَّاسِ وَغَلِّ أَيْدِيهِمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِالْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُ يَعْدِلُ عَنِ
الْكَسْبِ الشَّرِيفِ إِلَى الْكَسْبِ الْمَرْذُولِ مِنَ الْغِشِّ، وَالْحِيلَةِ، وَالْخِدَاعِ ; ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَيَّالٌ بِطَبْعِهِ إِلَى الرَّاحَةِ، فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ مِنَ الْخُطَبَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْمَعْرُوفِينَ بِالصُّلَحَاءِ عِبَارَاتِ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُرْضِي بِهَا مَيْلَهُ إِلَى الرَّاحَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْكَسْبِ فَيَخْتَارُ أَقَلَّهُ سَعْيًا، وَأَخَفَّهُ مُؤْنَةً، وَهُوَ أَخَسُّهُ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ الشَّرَفِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّزْهِيدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسَاقُ لِأَجْلِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، بَلْ إِنَّ خُطَبَاءَنَا، وَوُعَّاظَنَا قَدْ زَهَّدُوا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَقَطَعُوهُنَّ عَنِ الْآخِرَةِ فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِجَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِمَا يَعِظُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَارِفِ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْجَمْعَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ أَمَّا مَنْ فَسَّرُوا
أَمَّا السَّبَبُ فِيمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي دُنْيَانَا، وَمُخَالَفَةِ نَصِّ كِتَابِنَا فَهُوَ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ، وَهُوَ أَنَّنَا أَخَذْنَا بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْنَا، وَتَرَكْنَا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، وَنَبَذْنَاهُ وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَأَخَذْنَا فِي الْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ الَّتِي هِيَ رُوحُ حَيَاةِ الْأُمَمِ بِأَقْوَالِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ لَبَسُوا عَلَيْنَا بِلِبَاسِ الصَّالِحِينَ، فَنَفَثُوا فِي الْأُمَّةِ سُمُومَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّزْهِيدِ، وَالْحَثِّ عَلَى إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَكْثَرُهُمْ إِنْفَاقَ كَسْبِ الْكَاسِبِينَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ كُسَالَى لَا يَكْسِبُونَ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ بِحُبِّ اللهِ مَشْغُولُونَ!
وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا | أَفَاوِيقَ حَتَّى مَا تُدِرُّ لَهَا ثُعْلُ |
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ تَحْرِيضٌ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، وَتَعْرِيفٌ بِقِيمَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُبَذِّرَ أَمْوَالَهُ، وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَعْرَفِ النَّاسِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ وُجُوهِ الْحَلَالِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذَا مَا نَسْمَعُهُ مِنْ خُطَبَاءِ مَسَاجِدِنَا مِنْ تَزْهِيدِ النَّاسِ وَغَلِّ أَيْدِيهِمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِالْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُ يَعْدِلُ عَنِ
الْكَسْبِ الشَّرِيفِ إِلَى الْكَسْبِ الْمَرْذُولِ مِنَ الْغِشِّ، وَالْحِيلَةِ، وَالْخِدَاعِ ; ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَيَّالٌ بِطَبْعِهِ إِلَى الرَّاحَةِ، فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ مِنَ الْخُطَبَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْمَعْرُوفِينَ بِالصُّلَحَاءِ عِبَارَاتِ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُرْضِي بِهَا مَيْلَهُ إِلَى الرَّاحَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْكَسْبِ فَيَخْتَارُ أَقَلَّهُ سَعْيًا، وَأَخَفَّهُ مُؤْنَةً، وَهُوَ أَخَسُّهُ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ الشَّرَفِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّزْهِيدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسَاقُ لِأَجْلِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، بَلْ إِنَّ خُطَبَاءَنَا، وَوُعَّاظَنَا قَدْ زَهَّدُوا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَقَطَعُوهُنَّ عَنِ الْآخِرَةِ فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِجَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِمَا يَعِظُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَارِفِ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْجَمْعَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ أَمَّا مَنْ فَسَّرُوا
314
السُّفَهَاءَ بِأَوْلَادِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنِسَائِهِمْ مَعًا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلُوا إِضَافَةَ أَمْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَيْهِمْ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَقَالُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِذَا امْتَنَعَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ وِلْدَانَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ خَشْيَةَ أَنْ يُبَذِّرُوهَا، وَيُتْلِفُوهَا، وَهِيَ قِيَامُكُمْ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ مَعَاشِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَوَلَّوْا أَنْتُمْ إِصْلَاحَهَا، وَتَثْمِيرَهَا، وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا فِي طَعَامِهِمْ، وَكِسْوَتِهِمْ، فَهِيَ فِي وُجُوبِ إِنْفَاقِ الرَّجُلِ عَلَى زَوْجِهِ وَأَوْلَادِهِ الْقَاصِرِينَ الَّذِينَ لَا يُحْسِنُونَ الْكَسْبَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمَنْ قَالُوا إِنَّ الْكَلَامَ فِي السُّفَهَاءِ عَامَّةً، وَفِي حِفْظِ الْأَوْلِيَاءِ لِأَمْوَالِهِمْ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهَا يَا أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ عُهِدَ إِلَيْكُمْ حِفْظُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ، وَتَثْمِيرُهَا حَتَّى كَأَنَّهَا - بِهَذَا التَّصَرُّفِ وَبِارْتِبَاطِ مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا بِمَصَالِحِكُمْ، وَبِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ وَالْعَشِيرَةِ وَوَحْدَتِهَا - أَمْوَالُكُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُنْفِقُوا عَلَى السُّفَهَاءِ، فَتُقَدِّمُوا لَهُمْ كِفَايَتَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ، وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالُوا: إِنَّ لَفْظَ السُّفَهَاءِ عَامٌّ فِي أَوْلَادِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنِسَائِهِمْ، وَالْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ، وَلَفْظَ أَمْوَالِكُمْ عَامٌّ فِيمَا هُوَ لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَمَا هُوَ لِلسُّفَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ - وَقُلْنَا إِنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ - جَعَلُوا مَعْنَاهَا شَامِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ مِنَ السُّفَهَاءِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِهِ أَيْ مَالِ نَفْسِهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: اجْعَلُوهَا
مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَتَرَبَحُوا ; حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ فَلَا يَأْكُلُهَا الْإِنْفَاقُ اهـ. أَيْ إِنَّ مَا يُنْفَقُ مِنْ أَصْلِهِ، وَصُلْبِهِ يَنْقُصُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَذْهَبَ كُلُّهُ، وَتَبِعَ الْكَشَّافَ فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرِّزْقُ يَعُمُّ وُجُوهَ الْإِنْفَاقِ كُلَّهَا كَالْأَكْلِ، وَالْمَبِيتِ، وَالزَّوَاجِ، وَالْكِسْوَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَاكْسُوهُمْ فَخَصَّ الْكِسْوَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَسَاهَلُونَ فِيهَا أَحْيَانًا، وَتَخْصِيصُ (الْجَلَالِ) - أَيْ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ نَقَلَ هُوَ عَنْهُمْ - الرِّزْقَ بِالْإِطْعَامِ لَا يَصِحُّ اهـ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الرِّزْقَ مِنَ الْعِبَادِ هُوَ الْإِجْرَاءُ الْمُوَظَّفُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ رَزَقَ عِيَالَهُ أَيْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ اهـ. يَعْنِي أَنَّ كُلَّ النَّفَقَاتِ الْمُرَتَّبَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ تُسَمَّى رِزْقًا، وَهُوَ مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ أَخَصُّ مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ هُوَ جَعْلُهُمُ الرِّزْقَ هُنَا شَامِلًا لِأَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ بِالنَّصِّ حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الطَّعَامُ، وَالْكِسْوَةُ دُونَ الْإِيوَاءِ، وَالتَّرْبِيَةِ، وَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا بِتَعْلِيمِهِمْ مَا يَجِبُ عِلْمُهُ وَمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، نَقَلَهُ الرَّازِيُّ، عَنِ الزَّجَّاجِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَعْدُ الْجَمِيلُ لِلسَّفِيهِ بِإِعْطَائِهِ مَالَهُ عِنْدَ الرُّشْدِ. وَقِيلَ: بَلْ وَعْدُهُ بِزِيَادَةِ الْإِدْرَارِ عَلَيْهِ وَالتَّوْسِعَةِ عِنْدَ زِيَادَةِ رِبْحِ الْمَالِ وَغَلَبَتِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ. وَفَصَّلَ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَبِيًّا (أَيْ صَغِيرًا وَلَوْ أُنْثَى)
وَمَنْ قَالُوا إِنَّ الْكَلَامَ فِي السُّفَهَاءِ عَامَّةً، وَفِي حِفْظِ الْأَوْلِيَاءِ لِأَمْوَالِهِمْ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهَا يَا أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ عُهِدَ إِلَيْكُمْ حِفْظُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ، وَتَثْمِيرُهَا حَتَّى كَأَنَّهَا - بِهَذَا التَّصَرُّفِ وَبِارْتِبَاطِ مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا بِمَصَالِحِكُمْ، وَبِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ وَالْعَشِيرَةِ وَوَحْدَتِهَا - أَمْوَالُكُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُنْفِقُوا عَلَى السُّفَهَاءِ، فَتُقَدِّمُوا لَهُمْ كِفَايَتَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ، وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالُوا: إِنَّ لَفْظَ السُّفَهَاءِ عَامٌّ فِي أَوْلَادِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنِسَائِهِمْ، وَالْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ، وَلَفْظَ أَمْوَالِكُمْ عَامٌّ فِيمَا هُوَ لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَمَا هُوَ لِلسُّفَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ - وَقُلْنَا إِنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ - جَعَلُوا مَعْنَاهَا شَامِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ مِنَ السُّفَهَاءِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِهِ أَيْ مَالِ نَفْسِهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: اجْعَلُوهَا
مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَتَرَبَحُوا ; حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ فَلَا يَأْكُلُهَا الْإِنْفَاقُ اهـ. أَيْ إِنَّ مَا يُنْفَقُ مِنْ أَصْلِهِ، وَصُلْبِهِ يَنْقُصُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَذْهَبَ كُلُّهُ، وَتَبِعَ الْكَشَّافَ فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرِّزْقُ يَعُمُّ وُجُوهَ الْإِنْفَاقِ كُلَّهَا كَالْأَكْلِ، وَالْمَبِيتِ، وَالزَّوَاجِ، وَالْكِسْوَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَاكْسُوهُمْ فَخَصَّ الْكِسْوَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَسَاهَلُونَ فِيهَا أَحْيَانًا، وَتَخْصِيصُ (الْجَلَالِ) - أَيْ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ نَقَلَ هُوَ عَنْهُمْ - الرِّزْقَ بِالْإِطْعَامِ لَا يَصِحُّ اهـ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الرِّزْقَ مِنَ الْعِبَادِ هُوَ الْإِجْرَاءُ الْمُوَظَّفُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ رَزَقَ عِيَالَهُ أَيْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ اهـ. يَعْنِي أَنَّ كُلَّ النَّفَقَاتِ الْمُرَتَّبَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ تُسَمَّى رِزْقًا، وَهُوَ مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ أَخَصُّ مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ هُوَ جَعْلُهُمُ الرِّزْقَ هُنَا شَامِلًا لِأَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ بِالنَّصِّ حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الطَّعَامُ، وَالْكِسْوَةُ دُونَ الْإِيوَاءِ، وَالتَّرْبِيَةِ، وَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا بِتَعْلِيمِهِمْ مَا يَجِبُ عِلْمُهُ وَمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، نَقَلَهُ الرَّازِيُّ، عَنِ الزَّجَّاجِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَعْدُ الْجَمِيلُ لِلسَّفِيهِ بِإِعْطَائِهِ مَالَهُ عِنْدَ الرُّشْدِ. وَقِيلَ: بَلْ وَعْدُهُ بِزِيَادَةِ الْإِدْرَارِ عَلَيْهِ وَالتَّوْسِعَةِ عِنْدَ زِيَادَةِ رِبْحِ الْمَالِ وَغَلَبَتِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ. وَفَصَّلَ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَبِيًّا (أَيْ صَغِيرًا وَلَوْ أُنْثَى)
315
فَالْوَلِيُّ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ، وَهُوَ خَازِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا زَالَ صِبَاهُ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ سَفِيهًا، وَعَظَهُ، وَنَصَحَهُ، وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ عَاقِبَتَهُ الْفَقْرُ، وَالِاحْتِيَاجُ إِلَى الْخَلْقِ إِلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ الْكَرِيمَةُ، وَتَأْلَفُهُ، وَيُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ وَهُوَ: مَا تُنْكِرُهُ وَتَمُجُّهُ. فَالْمَعْرُوفُ هُنَا: يَشْمَلُ تَطْيِيبَ الْقُلُوبِ بِإِفْهَامِ السَّفِيهِ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَيْهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَيَشْمَلُ النُّصْحَ، وَالْإِرْشَادَ، وَتَعْلِيمَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ، وَمَا يَعُدُّهُ لِلرُّشْدِ، فَإِنَّ السَّفَهَ كَثِيرًا مَا يَكُونُ عَارِضًا لِلشَّخْصِ لَا فِطْرِيًّا، فَإِذَا عُولِجَ بِالنُّصْحِ وَالتَّأْدِيبِ
حَسُنَتْ حَالُهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَمَرَ اللهُ أَوْلِيَاءَ السُّفَهَاءِ بِهِ زِيَادَةً عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَثْمِيرِهَا، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْهَا.
أَقُولُ: فَأَيْنَ مَكَانُ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ نَعْرِفُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي سَفَهِهِمْ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْبَابِ الرُّشْدِ لِيَبْقَوْا مُتَمَتِّعِينَ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ؟
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرْطَ أَوِ الصِّفَةَ الَّتِي يَجِبُ بِهَا إِيتَاءُ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَمَا أَمَرَ فِي آيَةِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَانَ مُجْمَلًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ، وَوَقْتِهِ، وَمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ابْتِلَاءِ الْيَتِيمِ: كَيْفَ يَكُونُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْطَى شَيْئًا مِنَ الْمَالِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ فَيُرَى تَصَرُّفُهُ كَيْفَ يَكُونُ؟ فَإِنْ أَحْسَنَ فِيهِ كَانَ رَاشِدًا، وَإِلَّا كَانَ سَفَهُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِعْطَاءَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، فَمَنْ أَعْطَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ وَمُجَازِفًا بِالْمَالِ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يُحْضِرَهُ الْوَلِيُّ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةَ، وَيُطْلِعَهُ عَلَى كَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَيَسْأَلَهُ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ، فَإِذَا رَأَى أَجْوِبَتَهُ سَدِيدَةً، وَرَأْيَهُ صَالِحًا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ رَشُدَ.
وَاعْتُرِضَ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يُغْنِي عَنِ الْفِعْلِ شَيْئًا، فَإِنَّ قَلِيلًا مِنَ النَّبَاهَةِ يَكْفِي لِإِحْسَانِ الْجَوَابِ إِنْ قِيلَ لَهُ مَا تَقُولُ فِي ثَمَنِ هَذَا؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ نُسَمِّيهِمْ أَذْكِيَاءَ وَمُتَعَلِّمِينَ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ فِي الزِّرَاعَةِ عَنْ عِلْمٍ يَقُولُ: يَنْبَغِي كَذَا مِنَ السَّمَادِ وَكَذَا مِنَ السَّقْيِ وَالْعَذْقِ، فَإِذَا أُرْسِلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَكُلِّفَ الْعَمَلَ يَنَامُ مُعْظَمَ النَّهَارِ، وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا، أَوْ يَعْمَلُ فَيُسِيءُ الْعَمَلَ، وَلَا يُحْسِنُهُ، بَلْ تَرَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَخْلَاقِ وَكَيْفِيَّةِ مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَيُحْسِنُ الْقَوْلَ كَمَا يَنْبَغِي وَلَكِنَّهُ يُسِيءُ فِي الْمُعَامَلَةِ فَيَكُونُ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ، فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي قَدْ غَفَلَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُقَلَاءُ وَهِيَ أَنَّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّجْرِبَةِ بَوْنًا شَاسِعًا، فَكَمَا رَأَيْنَا أُنَاسًا مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الْكَلَامِ السُّفَهَاءِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِينَ إِذَا سَأَلْتَهُمْ عَنْ طُرُقِ
حَسُنَتْ حَالُهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَمَرَ اللهُ أَوْلِيَاءَ السُّفَهَاءِ بِهِ زِيَادَةً عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَثْمِيرِهَا، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْهَا.
أَقُولُ: فَأَيْنَ مَكَانُ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ نَعْرِفُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي سَفَهِهِمْ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْبَابِ الرُّشْدِ لِيَبْقَوْا مُتَمَتِّعِينَ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ؟
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرْطَ أَوِ الصِّفَةَ الَّتِي يَجِبُ بِهَا إِيتَاءُ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَمَا أَمَرَ فِي آيَةِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَانَ مُجْمَلًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ، وَوَقْتِهِ، وَمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ابْتِلَاءِ الْيَتِيمِ: كَيْفَ يَكُونُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْطَى شَيْئًا مِنَ الْمَالِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ فَيُرَى تَصَرُّفُهُ كَيْفَ يَكُونُ؟ فَإِنْ أَحْسَنَ فِيهِ كَانَ رَاشِدًا، وَإِلَّا كَانَ سَفَهُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِعْطَاءَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، فَمَنْ أَعْطَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ وَمُجَازِفًا بِالْمَالِ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يُحْضِرَهُ الْوَلِيُّ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةَ، وَيُطْلِعَهُ عَلَى كَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَيَسْأَلَهُ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ، فَإِذَا رَأَى أَجْوِبَتَهُ سَدِيدَةً، وَرَأْيَهُ صَالِحًا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ رَشُدَ.
وَاعْتُرِضَ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يُغْنِي عَنِ الْفِعْلِ شَيْئًا، فَإِنَّ قَلِيلًا مِنَ النَّبَاهَةِ يَكْفِي لِإِحْسَانِ الْجَوَابِ إِنْ قِيلَ لَهُ مَا تَقُولُ فِي ثَمَنِ هَذَا؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ نُسَمِّيهِمْ أَذْكِيَاءَ وَمُتَعَلِّمِينَ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ فِي الزِّرَاعَةِ عَنْ عِلْمٍ يَقُولُ: يَنْبَغِي كَذَا مِنَ السَّمَادِ وَكَذَا مِنَ السَّقْيِ وَالْعَذْقِ، فَإِذَا أُرْسِلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَكُلِّفَ الْعَمَلَ يَنَامُ مُعْظَمَ النَّهَارِ، وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا، أَوْ يَعْمَلُ فَيُسِيءُ الْعَمَلَ، وَلَا يُحْسِنُهُ، بَلْ تَرَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَخْلَاقِ وَكَيْفِيَّةِ مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَيُحْسِنُ الْقَوْلَ كَمَا يَنْبَغِي وَلَكِنَّهُ يُسِيءُ فِي الْمُعَامَلَةِ فَيَكُونُ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ، فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي قَدْ غَفَلَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُقَلَاءُ وَهِيَ أَنَّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّجْرِبَةِ بَوْنًا شَاسِعًا، فَكَمَا رَأَيْنَا أُنَاسًا مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الْكَلَامِ السُّفَهَاءِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِينَ إِذَا سَأَلْتَهُمْ عَنْ طُرُقِ
316
الِاقْتِصَادِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَتَدْبِيرِ الثَّرْوَةِ أَجَابُوكَ
أَحْسَنَ جَوَابٍ مَبْنِيٍّ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّجَارِبِ، وَإِنْعَامِ النَّظَرِ، ثُمَّ هُمْ يُسَفَّهُونَ فِي عَمَلِهِمْ وَيُبَذِّرُونَ الْأَمْوَالَ تَبْذِيرًا يُسَارِعُونَ فِيهِ إِلَى الْفَقْرِ، أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ رَجُلًا تَرَكَ لَهُ وَالِدُهُ ثَرْوَةً قُدِّرَتْ قِيمَتُهَا بِمِلْيُونِ جُنَيْهٍ (أَيْ بِأَلْفِ أَلْفِ جُنَيْهٍ) فَأَتْلَفَهَا بِإِسْرَافِهِ، وَهُوَ الْآنَ يَطْلُبُ إِعَانَةً مِنَ الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ! !
قَالَ: فَالرَّأْيُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ، وَأَصْوَبُ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ عَلَيْهِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَمْنُوعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالرُّشْدِ هُوَ إِعْطَاءُ الْيَتِيمِ مَالَهُ كُلَّهُ لِيَسْتَقِلَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَأَمَّا إِعْطَاؤُهُ طَائِفَةً مِنْهُ لِيَتَصَرَّفَ فِيهَا تَحْتَ مُرَاقَبَةِ الْوَلِيِّ ابْتِلَاءً وَاخْتِيَارًا لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ بَلْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ: وَحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ ابْتَلُوا الْيَتَامَى إِلَى ابْتِدَاءِ الْبُلُوغِ، وَكَوْنُهَا ابْتِدَائِيَّةً لَا يُنَافِي كَوْنَهَا لِلْغَايَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَا يُفَارِقُهَا، وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ وَالَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْمُفْرَدِ فِي الْإِعْرَابِ، فَسَمَّوُا الْأُولَى الِابْتِدَائِيَّةَ وَهِيَ الَّتِي لَا تَجُرُّ الْمُفْرَدَ، وَسَمَّوُا الثَّانِيَةَ الْجَارَّةَ وَهِيَ الَّتِي تَجُرُّ الْمُفْرَدَ. وَالْغَايَةُ فِي الْأُولَى هِيَ مَفْهُومُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَيِ ابْتَلُوهُمْ إِلَى ابْتِدَاءِ الْحَدِّ الَّذِي يَبْلُغُونَ فِيهِ سِنَّ النِّكَاحِ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَمِرُّوا عَلَى الِابْتِلَاءِ إِلَى أَنْ تَأْنَسُوا مِنْهُمُ الرُّشْدَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْطَى مَالَهُ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَرْشُدْ، وَجُمْلَةُ فَإِنْ آنَسْتُمْ جَوَابُ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا.
أَقُولُ: إِنَّ بُلُوغَ النِّكَاحِ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى السِّنِّ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْمَرْءُ مُسْتَعِدًّا لِلزَّوَاجِ، وَهُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ، فَفِي هَذِهِ السِّنِّ تُطَالِبُهُ بِأَهَمِّ سُنَنِهَا وَهِيَ سُنَّةُ الْإِنْتَاجِ، وَالنَّسْلِ فَتَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجًا، وَأَبًا وَرَبَّ بَيْتٍ وَرَئِيسَ عَشِيرَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ لَهُ إِلَّا بِالْمَالِ، فَوَجَبَ حِينَئِذٍ إِيتَاؤُهُ مَالَهُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ سَفِيهًا، وَخِيفَ أَنْ يُضَيِّعَ مَالَهُ فَيَعْجِزُ عَمَّا تُطَالِبُهُ بِهِ الْفِطْرَةُ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. وَفِي هَذِهِ السِّنِّ يُكَلَّفُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْأُخْرَوِيُّ، فَالرُّشْدُ حُسْنُ التَّصَرُّفِ وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ فِيهِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ صِحَّةِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِحَسَبِهِ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَمْرُ الدُّنْيَا خَاصَّةً، وَقَدْ يُرَادُ أَمْرُ الدِّينِ خَاصَّةً ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْفَاسِقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي
دِينِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ، لِأَنَّ الرُّشْدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَعْنِي بِهِ إِلَّا أَمْرَ الدُّنْيَا. وَقَدْ يُقَالُ إِذَا كَانَ فَسِقُهُ مِمَّا يَتَنَاوَلُ الْأُمُورَ الْمَالِيَّةَ كَمَنْعِ الْحُقُوقِ، وَإِتْلَافِ الْمَالِ بِالْإِسْرَافِ فِي الْخُمُورِ، وَالْفُجُورِ وَجَبَ الْحَجْرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ خَاصَّةً كَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ مَثَلًا فَلَا يَجِبُ الْحَجْرُ.
نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ الْخِلَافَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الرُّشْدِ، كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: هُوَ الْعَقْلُ، وَقَوْلِ قَتَادَةَ: هُوَ الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ حُسْنُ الْحَالِ
أَحْسَنَ جَوَابٍ مَبْنِيٍّ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّجَارِبِ، وَإِنْعَامِ النَّظَرِ، ثُمَّ هُمْ يُسَفَّهُونَ فِي عَمَلِهِمْ وَيُبَذِّرُونَ الْأَمْوَالَ تَبْذِيرًا يُسَارِعُونَ فِيهِ إِلَى الْفَقْرِ، أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ رَجُلًا تَرَكَ لَهُ وَالِدُهُ ثَرْوَةً قُدِّرَتْ قِيمَتُهَا بِمِلْيُونِ جُنَيْهٍ (أَيْ بِأَلْفِ أَلْفِ جُنَيْهٍ) فَأَتْلَفَهَا بِإِسْرَافِهِ، وَهُوَ الْآنَ يَطْلُبُ إِعَانَةً مِنَ الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ! !
قَالَ: فَالرَّأْيُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ، وَأَصْوَبُ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ عَلَيْهِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَمْنُوعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالرُّشْدِ هُوَ إِعْطَاءُ الْيَتِيمِ مَالَهُ كُلَّهُ لِيَسْتَقِلَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَأَمَّا إِعْطَاؤُهُ طَائِفَةً مِنْهُ لِيَتَصَرَّفَ فِيهَا تَحْتَ مُرَاقَبَةِ الْوَلِيِّ ابْتِلَاءً وَاخْتِيَارًا لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ بَلْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ: وَحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ ابْتَلُوا الْيَتَامَى إِلَى ابْتِدَاءِ الْبُلُوغِ، وَكَوْنُهَا ابْتِدَائِيَّةً لَا يُنَافِي كَوْنَهَا لِلْغَايَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَا يُفَارِقُهَا، وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ وَالَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْمُفْرَدِ فِي الْإِعْرَابِ، فَسَمَّوُا الْأُولَى الِابْتِدَائِيَّةَ وَهِيَ الَّتِي لَا تَجُرُّ الْمُفْرَدَ، وَسَمَّوُا الثَّانِيَةَ الْجَارَّةَ وَهِيَ الَّتِي تَجُرُّ الْمُفْرَدَ. وَالْغَايَةُ فِي الْأُولَى هِيَ مَفْهُومُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَيِ ابْتَلُوهُمْ إِلَى ابْتِدَاءِ الْحَدِّ الَّذِي يَبْلُغُونَ فِيهِ سِنَّ النِّكَاحِ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَمِرُّوا عَلَى الِابْتِلَاءِ إِلَى أَنْ تَأْنَسُوا مِنْهُمُ الرُّشْدَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْطَى مَالَهُ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَرْشُدْ، وَجُمْلَةُ فَإِنْ آنَسْتُمْ جَوَابُ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا.
أَقُولُ: إِنَّ بُلُوغَ النِّكَاحِ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى السِّنِّ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْمَرْءُ مُسْتَعِدًّا لِلزَّوَاجِ، وَهُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ، فَفِي هَذِهِ السِّنِّ تُطَالِبُهُ بِأَهَمِّ سُنَنِهَا وَهِيَ سُنَّةُ الْإِنْتَاجِ، وَالنَّسْلِ فَتَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجًا، وَأَبًا وَرَبَّ بَيْتٍ وَرَئِيسَ عَشِيرَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ لَهُ إِلَّا بِالْمَالِ، فَوَجَبَ حِينَئِذٍ إِيتَاؤُهُ مَالَهُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ سَفِيهًا، وَخِيفَ أَنْ يُضَيِّعَ مَالَهُ فَيَعْجِزُ عَمَّا تُطَالِبُهُ بِهِ الْفِطْرَةُ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. وَفِي هَذِهِ السِّنِّ يُكَلَّفُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْأُخْرَوِيُّ، فَالرُّشْدُ حُسْنُ التَّصَرُّفِ وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ فِيهِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ صِحَّةِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِحَسَبِهِ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَمْرُ الدُّنْيَا خَاصَّةً، وَقَدْ يُرَادُ أَمْرُ الدِّينِ خَاصَّةً ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْفَاسِقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي
دِينِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ، لِأَنَّ الرُّشْدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَعْنِي بِهِ إِلَّا أَمْرَ الدُّنْيَا. وَقَدْ يُقَالُ إِذَا كَانَ فَسِقُهُ مِمَّا يَتَنَاوَلُ الْأُمُورَ الْمَالِيَّةَ كَمَنْعِ الْحُقُوقِ، وَإِتْلَافِ الْمَالِ بِالْإِسْرَافِ فِي الْخُمُورِ، وَالْفُجُورِ وَجَبَ الْحَجْرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ خَاصَّةً كَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ مَثَلًا فَلَا يَجِبُ الْحَجْرُ.
نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ الْخِلَافَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الرُّشْدِ، كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: هُوَ الْعَقْلُ، وَقَوْلِ قَتَادَةَ: هُوَ الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ حُسْنُ الْحَالِ
317
وَالصَّلَاحُ فِي الْأَمْوَالِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِمَعْنَى الرُّشْدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْعَقْلُ وَإِصْلَاحُ الْمَالِ ; لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَحَوْزَ مَا فِي يَدِهِ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فِي دِينِهِ - إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ هَذَا وَإِيضَاحِهِ.
وَتَنْكِيرُ الرُّشْدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَهُوَ لِبَيَانِ نَوْعٍ مِنَ الرُّشْدِ يُنَافِي الْإِسْرَافَ فِي الْمَالِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا مَا.
وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا أَيْ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى مُسْرِفِينَ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهَا، وَلَا مُبَادِرِينَ كِبَرَهُمْ إِلَيْهَا، أَيْ مُسَابِقِينَ الْكِبَرَ فِي السِّنِّ الَّذِي يَأْخُذُونَهَا بِهِ مِنْ أَيْدِيكُمْ فَتَكُونُوا طَالِبِينَ لِأَكْلِ هَذَا الْمَالِ كَمَا يَطْلُبُهُ كِبَرُ سِنِّ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ السَّابِقُ هُوَ الَّذِي يَظْفَرُ بِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِسْرَافًا وَبِدَارًا هُوَ كَالْأَمْرِ قَبْلَهُ تَفْصِيلٌ لِلْآيَةِ النَّاهِيَةِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَى أَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ. وَقَدْ قَيَّدَ النَّهْيَ هُنَا بِالْإِسْرَافِ وَهُوَ صَرْفُ مَالِ الْيَتِيمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَلَوْ عَلَى الْيَتِيمِ نَفْسِهِ. وَسَمَّى هَذَا أَكْلًا لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ، وَالْأَكْلُ يُطْلَقُ عَلَى إِضَاعَةِ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّ ضَمَّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ لَا يُسَمَّى إِسْرَافًا، وَقَيَّدَهُ أَيْضًا بِالْبِدَارِ وَالْمُسَابَقَةِ لِكِبَرِ الْيَتِيمِ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ الضَّعِيفَ الذِّمَّةِ يَسْتَعْجِلُ بِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ الَّتِي لَهُ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ لِئَلَّا تَفُوتَهُ إِذَا كَبِرَ الْيَتِيمُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَهَاتَانِ الْحَالَانِ: الْإِسْرَافُ وَبِدَارٌ وَمُسَابَقَةُ كِبَرِ الْيَتِيمِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ، هُمَا مِنْ مَوَاضِعِ الضَّعْفِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، فَنَبَّهَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمَا، وَنَهَى عَنْهُمَا لِيُرَاقِبَ الْوَلِيُّ رَبَّهُ فِيهِمَا إِذَا عَرَضَتَا لَهُ.
أَقُولُ: إِنَّ مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَيْنِ، وَوَقَفَ عَلَى تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِمَا يَرَى أَنَّهُمَا مِمَّا يَعْرِضُ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَمُخَادَعَةُ النَّفْسِ لِلْإِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي حَدِّ الْإِسْرَافِ، وَخَفَاءِ وِجْهِ مَنْفَعَةِ الْوَلِيِّ فِي الْمُسَابَقَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَا كَانَ مَوْضِعَ خِلَافٍ، وَخَفَاءٍ لَا يُنْكِرُهُ، وَلَا يَنْتَقِدُهُ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ يَسْهُلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلَ مَا فَعَلَهُ الْوَلِيُّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ وُضِعَ فِي مَحَلِّهِ، وَعُمِلَ فِي وَقْتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا قَدْ تَغُشُّ الْوَلِيَّ فِيهِ نَفْسُهُ حَتَّى يُصَدِّقَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْبَاطِنِ، وَيَكْتَفِي بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ أَحَدٌ مِرَاءً ظَاهِرًا تَتَّضِحُ فِيهِ خِيَانَتُهُ ; فَلِأَجْلِ هَذَا، وَذَاكَ صَرَّحَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ لِيَتَدَبَّرَهُ أُولُو الْأَلْبَابِ.
أَمَّا الْأَكْلُ مِنْهَا بِغَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مُبَادَرَةٍ خَوْفَ أَخْذِهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ - كَمَا هُوَ شَأْنُ الْخَائِنِ - فَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ غَنِيًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ فَلْيَعِفَّ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ لِيُطَالِبْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْهَا عَلَى الْعَفِّ عَنْهُ نَزَاهَةً وَشَرَفَ
وَتَنْكِيرُ الرُّشْدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَهُوَ لِبَيَانِ نَوْعٍ مِنَ الرُّشْدِ يُنَافِي الْإِسْرَافَ فِي الْمَالِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا مَا.
وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا أَيْ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى مُسْرِفِينَ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهَا، وَلَا مُبَادِرِينَ كِبَرَهُمْ إِلَيْهَا، أَيْ مُسَابِقِينَ الْكِبَرَ فِي السِّنِّ الَّذِي يَأْخُذُونَهَا بِهِ مِنْ أَيْدِيكُمْ فَتَكُونُوا طَالِبِينَ لِأَكْلِ هَذَا الْمَالِ كَمَا يَطْلُبُهُ كِبَرُ سِنِّ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ السَّابِقُ هُوَ الَّذِي يَظْفَرُ بِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِسْرَافًا وَبِدَارًا هُوَ كَالْأَمْرِ قَبْلَهُ تَفْصِيلٌ لِلْآيَةِ النَّاهِيَةِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَى أَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ. وَقَدْ قَيَّدَ النَّهْيَ هُنَا بِالْإِسْرَافِ وَهُوَ صَرْفُ مَالِ الْيَتِيمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَلَوْ عَلَى الْيَتِيمِ نَفْسِهِ. وَسَمَّى هَذَا أَكْلًا لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ، وَالْأَكْلُ يُطْلَقُ عَلَى إِضَاعَةِ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّ ضَمَّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ لَا يُسَمَّى إِسْرَافًا، وَقَيَّدَهُ أَيْضًا بِالْبِدَارِ وَالْمُسَابَقَةِ لِكِبَرِ الْيَتِيمِ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ الضَّعِيفَ الذِّمَّةِ يَسْتَعْجِلُ بِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ الَّتِي لَهُ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ لِئَلَّا تَفُوتَهُ إِذَا كَبِرَ الْيَتِيمُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَهَاتَانِ الْحَالَانِ: الْإِسْرَافُ وَبِدَارٌ وَمُسَابَقَةُ كِبَرِ الْيَتِيمِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ، هُمَا مِنْ مَوَاضِعِ الضَّعْفِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، فَنَبَّهَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمَا، وَنَهَى عَنْهُمَا لِيُرَاقِبَ الْوَلِيُّ رَبَّهُ فِيهِمَا إِذَا عَرَضَتَا لَهُ.
أَقُولُ: إِنَّ مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَيْنِ، وَوَقَفَ عَلَى تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِمَا يَرَى أَنَّهُمَا مِمَّا يَعْرِضُ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَمُخَادَعَةُ النَّفْسِ لِلْإِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي حَدِّ الْإِسْرَافِ، وَخَفَاءِ وِجْهِ مَنْفَعَةِ الْوَلِيِّ فِي الْمُسَابَقَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَا كَانَ مَوْضِعَ خِلَافٍ، وَخَفَاءٍ لَا يُنْكِرُهُ، وَلَا يَنْتَقِدُهُ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ يَسْهُلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلَ مَا فَعَلَهُ الْوَلِيُّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ وُضِعَ فِي مَحَلِّهِ، وَعُمِلَ فِي وَقْتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا قَدْ تَغُشُّ الْوَلِيَّ فِيهِ نَفْسُهُ حَتَّى يُصَدِّقَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْبَاطِنِ، وَيَكْتَفِي بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ أَحَدٌ مِرَاءً ظَاهِرًا تَتَّضِحُ فِيهِ خِيَانَتُهُ ; فَلِأَجْلِ هَذَا، وَذَاكَ صَرَّحَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ لِيَتَدَبَّرَهُ أُولُو الْأَلْبَابِ.
أَمَّا الْأَكْلُ مِنْهَا بِغَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مُبَادَرَةٍ خَوْفَ أَخْذِهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ - كَمَا هُوَ شَأْنُ الْخَائِنِ - فَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ غَنِيًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ فَلْيَعِفَّ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ لِيُطَالِبْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْهَا عَلَى الْعَفِّ عَنْهُ نَزَاهَةً وَشَرَفَ
318
نَفْسٍ. وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَصْرِفُ بَعْضَ وَقْتِهِ، أَوْ كُلَّهُ فِي تَثْمِيرِهِ، وَحِفْظِهِ فَلْيَأْكُلْ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يُبِيحُهُ الشَّرْعُ وَلَا يَسْتَنْكِرُهُ أَهْلُ الْمُرُوءَةِ، وَالْفَضْلِ، وَلَا يَعُدُّونَهُ طَمَعًا، وَلَا خِيَانَةً.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْفُقَهَاءُ فِي الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَذِنَ اللهُ بِهِ لِلْوَلِيِّ الْفَقِيرِ فَقِيلَ: هُوَ الْقَرْضُ يَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وَعِبَارَةُ الْأَخِيرِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ: إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَسْتَقْرِضْ مِنْهُ ; فَإِنْ وَجَدَ مَيْسَرَةً فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَقْرَضَ مِنْهُ فَذَلِكَ أَكْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ مِثْلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَزَادَ: وَإِنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يُوسِرْ يَتَحَلَّلُهُ مِنَ الْيَتِيمِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَتَحَلَّلُهُ مِنْ وَلِيِّهِ ; وَهُوَ يَعْنِي وَلِيَّهُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ كَمَا يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا قَضَاهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْكُلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. وَوَضَّحَهُ السُّدِّيُّ، فَقَالَ: يَأْكُلُ مَعَهُ بِأَصَابِعِهِ لَا يُسْرِفُ
فِي الْأَكْلِ، وَلَا يَلْبَسُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَدُكَ مَعَ أَيْدِيهِمْ، وَلَا تَتَّخِذْ مِنْهُ قَلَنْسُوَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ: هُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَوَارَى الْعَوْرَةَ. أَيْ قَدْرَ الضَّرُورَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْكِسْوَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَلَّةِ الْمَالِ كَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ، وَصُوفِهَا، وَثَمَرَاتِ الشَّجَرِ، وَغَلَّةِ الزَّرْعِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ رَقَبَةِ الْمَالِ شَيْئًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَأْخُذُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: يَضَعُ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ كَقَدْرِ خِدْمَتِهِ وَقَدْرِ عَمَلِهِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَتَوَلَّى تَدْبِيرَ أَمْوَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: إِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَيْسَ مَالًا لِلْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَسْتَقْرِضُ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْأُجَرَاءِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِهَا حَالُ غِنًى وَلَا حَالُ فَقْرٍ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْقَرْضُ وَالْأُجْرَةُ، وَلَا يُبَاحُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ بِلَا غَوْصٍ كَسَائِرِ أَمْوَالِ النَّاسِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَمْوَالِ الْمَجَانِينِ وَالْمَعَاتِيهِ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَكْلِ لَا يَظْهَرُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَقَدْ يَظْهَرُ فِي الْأُجْرَةِ.
وَأَقُولُ: مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَيْسَ لِي مَالٌ، وَإِنِّي وَلِيُّ يَتِيمٍ، فَقَالَ: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْيَتِيمَ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْوَلِيِّ كَوَلَدِهِ وَالْخَيْرُ لَهُ فِي تَرْبِيَتِهِ أَنْ يُخَالِطَهُ الْوَلِيُّ هُوَ وَأَهْلُهُ فِي الْمُؤَاكَلَةِ، وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَنِيًّا، وَلَا طَمَعَ لَهُ فِي مَالِهِ كَانَ الْيَتِيمُ هُوَ الرَّابِحُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ، وَإِنْ كَانَ يُصْرَفُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْفُقَهَاءُ فِي الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَذِنَ اللهُ بِهِ لِلْوَلِيِّ الْفَقِيرِ فَقِيلَ: هُوَ الْقَرْضُ يَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وَعِبَارَةُ الْأَخِيرِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ: إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَسْتَقْرِضْ مِنْهُ ; فَإِنْ وَجَدَ مَيْسَرَةً فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَقْرَضَ مِنْهُ فَذَلِكَ أَكْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ مِثْلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَزَادَ: وَإِنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يُوسِرْ يَتَحَلَّلُهُ مِنَ الْيَتِيمِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَتَحَلَّلُهُ مِنْ وَلِيِّهِ ; وَهُوَ يَعْنِي وَلِيَّهُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ كَمَا يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا قَضَاهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْكُلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. وَوَضَّحَهُ السُّدِّيُّ، فَقَالَ: يَأْكُلُ مَعَهُ بِأَصَابِعِهِ لَا يُسْرِفُ
فِي الْأَكْلِ، وَلَا يَلْبَسُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَدُكَ مَعَ أَيْدِيهِمْ، وَلَا تَتَّخِذْ مِنْهُ قَلَنْسُوَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ: هُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَوَارَى الْعَوْرَةَ. أَيْ قَدْرَ الضَّرُورَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْكِسْوَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَلَّةِ الْمَالِ كَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ، وَصُوفِهَا، وَثَمَرَاتِ الشَّجَرِ، وَغَلَّةِ الزَّرْعِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ رَقَبَةِ الْمَالِ شَيْئًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَأْخُذُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: يَضَعُ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ كَقَدْرِ خِدْمَتِهِ وَقَدْرِ عَمَلِهِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَتَوَلَّى تَدْبِيرَ أَمْوَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: إِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَيْسَ مَالًا لِلْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَسْتَقْرِضُ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْأُجَرَاءِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِهَا حَالُ غِنًى وَلَا حَالُ فَقْرٍ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْقَرْضُ وَالْأُجْرَةُ، وَلَا يُبَاحُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ بِلَا غَوْصٍ كَسَائِرِ أَمْوَالِ النَّاسِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَمْوَالِ الْمَجَانِينِ وَالْمَعَاتِيهِ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَكْلِ لَا يَظْهَرُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَقَدْ يَظْهَرُ فِي الْأُجْرَةِ.
وَأَقُولُ: مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَيْسَ لِي مَالٌ، وَإِنِّي وَلِيُّ يَتِيمٍ، فَقَالَ: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْيَتِيمَ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْوَلِيِّ كَوَلَدِهِ وَالْخَيْرُ لَهُ فِي تَرْبِيَتِهِ أَنْ يُخَالِطَهُ الْوَلِيُّ هُوَ وَأَهْلُهُ فِي الْمُؤَاكَلَةِ، وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَنِيًّا، وَلَا طَمَعَ لَهُ فِي مَالِهِ كَانَ الْيَتِيمُ هُوَ الرَّابِحُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ، وَإِنْ كَانَ يُصْرَفُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ
319
إِصَابَةِ بَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الْغَنِيِّ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ، وَثَمَرِهِ مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ بَيْنَ الْخُلَطَاءِ غَيْرَ مُصِيبٍ مِنْ رَقَبَةِ الْمَالِ شَيْئًا، وَلَا مُتَأَثِّلٍ لِنَفْسِهِ مِنْهُ عَقَارًا، وَلَا مَالًا آخَرَ، وَلَا مُسْتَخْدِمًا مَالَهُ فِي مَصَالِحِهِ وَمَرَافِقِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ آكِلًا بِالْمَعْرُوفِ، هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [٢: ٢٢٠] فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ [ص٢٧١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَيْ لِيُعْرَفَ أَمْرُ رُشْدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ
وَلِتَظْهَرَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِكُمْ وَلِتُحْسَمَ مَادَّةُ النِّزَاعِ بَيْنَكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَفَعَ إِلَى الْيَتِيمِ مَالَهُ (أَيْ عِنْدَ بُلُوغِ رُشْدِهِ) فَلْيَدْفَعْهُ إِلَيْهِ بِالشُّهُودِ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -. وَهَذَا الْإِشْهَادُ وَاجِبٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ مَنْدُوبٌ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ أَمْرُ إِرْشَادٍ لَا أَمْرَ وُجُوبٍ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَوَامِرَ الْمَارَّةَ كُلَّهَا لِلْإِيجَابِ الْقَطْعِيِّ، وَالنَّوَاهِيَ كُلَّهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِثْلُ مَا سَبَقَهُ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ هُوَ أَنَّ النَّاسَ تَهَاوَنُوا بِأَمْرِ الْإِشْهَادِ وَأَهْمَلُوهُ مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ، فَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَى الْفُقَهَاءِ التَّأْوِيلَ، وَرَأَوْهُ أَوْلَى مِنْ تَأْثِيمِ النَّاسِ وَجَعْلِ أَكْثَرِهِمْ مُخَالِفِينَ لِمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّ الْإِشْهَادَ حَتْمٌ، وَأَنَّ تَرْكَهُ يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ، وَالتَّخَاصُمِ، وَالتَّقَاضِي كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي زَمَنٍ مَا مُسْتَمْسِكِينَ بِعُرْوَةِ الدِّينِ اسْتِمْسَاكًا عَامًّا، وَكَانَ الْيَتَامَى يُحْسِنُونَ الظَّنَّ فِي الْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَتَّهِمُونَهُمْ، وَأَنَّ الْإِشْهَادَ لَمْ يَكُنْ مُحَتَّمًا عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ هَذَا. أَفَلَيْسَ هَذَا الزَّمَنُ الْمَعْلُومُ مُخَالِفًا لِذَلِكَ الزَّمَنِ الْمَجْهُولِ مُخَالَفَةً تَقْتَضِي أَنْ يُجْعَلَ الْإِشْهَادُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ لِقَطْعِ عِرْقِ الْخِصَامِ وَنُزُوعِ النَّفْسِ إِلَى النِّزَاعِ وَالْمُشَاغَبَةِ؟
وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا أَيْ وَكَفَى بِاللهِ رَقِيبًا عَلَيْكُمْ وَشَهِيدًا يُحَاسِبُكُمْ عَلَى مَا أَظْهَرْتُمْ وَمَا أَسْرَرْتُمْ، أَوْ كَفَى بِاللهِ كَافِيًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ. الْحَسْبُ (بِسُكُونِ السِّينِ) فِي الْأَصْلِ: الْكِفَايَةُ، وَفَسَّرَ الرَّاغِبُ الْحَسِيبَ: بِالرَّقِيبِ، وَفَسَّرَهُ السُّدِّيُّ: بِالشَّهِيدِ، فَهَلْ هَذَانِ مَعْنَيَانِ مُسْتَقِلَّانِ أَمْ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَسِيبُ: هُوَ الْمُرَاقِبُ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِهَذَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ الْقَاطِعِ لِعِرْقِ النِّزَاعِ لِيَدُلَّنَا عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ - وَإِنْ حَصَلَ، وَكَانَ يُسْقِطُ الدَّعْوَى عِنْدَ الْقَاضِي بِالْمَالِ - لَا يُسْقِطُ الْحَقَّ
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَيْ لِيُعْرَفَ أَمْرُ رُشْدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ
وَلِتَظْهَرَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِكُمْ وَلِتُحْسَمَ مَادَّةُ النِّزَاعِ بَيْنَكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَفَعَ إِلَى الْيَتِيمِ مَالَهُ (أَيْ عِنْدَ بُلُوغِ رُشْدِهِ) فَلْيَدْفَعْهُ إِلَيْهِ بِالشُّهُودِ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -. وَهَذَا الْإِشْهَادُ وَاجِبٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ مَنْدُوبٌ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ أَمْرُ إِرْشَادٍ لَا أَمْرَ وُجُوبٍ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَوَامِرَ الْمَارَّةَ كُلَّهَا لِلْإِيجَابِ الْقَطْعِيِّ، وَالنَّوَاهِيَ كُلَّهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِثْلُ مَا سَبَقَهُ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ هُوَ أَنَّ النَّاسَ تَهَاوَنُوا بِأَمْرِ الْإِشْهَادِ وَأَهْمَلُوهُ مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ، فَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَى الْفُقَهَاءِ التَّأْوِيلَ، وَرَأَوْهُ أَوْلَى مِنْ تَأْثِيمِ النَّاسِ وَجَعْلِ أَكْثَرِهِمْ مُخَالِفِينَ لِمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّ الْإِشْهَادَ حَتْمٌ، وَأَنَّ تَرْكَهُ يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ، وَالتَّخَاصُمِ، وَالتَّقَاضِي كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي زَمَنٍ مَا مُسْتَمْسِكِينَ بِعُرْوَةِ الدِّينِ اسْتِمْسَاكًا عَامًّا، وَكَانَ الْيَتَامَى يُحْسِنُونَ الظَّنَّ فِي الْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَتَّهِمُونَهُمْ، وَأَنَّ الْإِشْهَادَ لَمْ يَكُنْ مُحَتَّمًا عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ هَذَا. أَفَلَيْسَ هَذَا الزَّمَنُ الْمَعْلُومُ مُخَالِفًا لِذَلِكَ الزَّمَنِ الْمَجْهُولِ مُخَالَفَةً تَقْتَضِي أَنْ يُجْعَلَ الْإِشْهَادُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ لِقَطْعِ عِرْقِ الْخِصَامِ وَنُزُوعِ النَّفْسِ إِلَى النِّزَاعِ وَالْمُشَاغَبَةِ؟
وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا أَيْ وَكَفَى بِاللهِ رَقِيبًا عَلَيْكُمْ وَشَهِيدًا يُحَاسِبُكُمْ عَلَى مَا أَظْهَرْتُمْ وَمَا أَسْرَرْتُمْ، أَوْ كَفَى بِاللهِ كَافِيًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ. الْحَسْبُ (بِسُكُونِ السِّينِ) فِي الْأَصْلِ: الْكِفَايَةُ، وَفَسَّرَ الرَّاغِبُ الْحَسِيبَ: بِالرَّقِيبِ، وَفَسَّرَهُ السُّدِّيُّ: بِالشَّهِيدِ، فَهَلْ هَذَانِ مَعْنَيَانِ مُسْتَقِلَّانِ أَمْ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَسِيبُ: هُوَ الْمُرَاقِبُ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِهَذَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ الْقَاطِعِ لِعِرْقِ النِّزَاعِ لِيَدُلَّنَا عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ - وَإِنْ حَصَلَ، وَكَانَ يُسْقِطُ الدَّعْوَى عِنْدَ الْقَاضِي بِالْمَالِ - لَا يُسْقِطُ الْحَقَّ
320
عِنْدَ اللهِ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ خَائِنًا ; إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ - تَعَالَى - مَا يَخْفَى عَلَى الشُّهُودِ وَالْحُكَّامِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَوْصِيَاءَ الْخُبَثَاءَ الَّذِينَ نَعْرِفُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَ اللهِ فِي ذَلِكَ قَطُّ ; فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمُ الْخِيَانَةُ وَأَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَالسُّفَهَاءِ وَالْأَوْقَافِ بِالْحِيَلِ حَتَّى إِنَّهُ يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُولَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ عَشَرَةُ أَشْخَاصٍ يَصْلُحُونَ لِلْوِصَايَةِ عَلَى الْيَتِيمِ، أَوِ السَّفِيهِ، وَالْوَقْفِ، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ عَلَى الْوَقْفِ كَالْوِصَايَةِ عَلَى الْيَتِيمِ. فَانْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِاخْتِبَارِ الْيَتِيمِ، وَدَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ رُشْدَهُ، وَمِنَ النَّهْيِ
عَنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهُ بِطُرُقِ الْإِسْرَافِ وَمُبَادَرَةِ كِبَرِهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ، ثُمَّ التَّنْبِيهِ إِلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - الَّتِي تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ عَنْهُ: أَنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبَاءَ الدَّاخِلَةَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَى بِاللهِ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى كَفَى اللهُ حَسِيبًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْفَاعِلَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ، وَالْبَاءَ حَرْفُ جَرٍّ أَصْلِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَطْبِيقِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعُوهَا - أَوْ قَالَ قَعَّدُوهَا - وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى مَعَ وُجُودِ الْبَاءِ هُوَ غَيْرُ الْمَعْنَى مَعَ عَدَمِهَا، فَلَهَا مَعْنًى فِي الْكَلَامِ كَيْفَمَا أُعْرِبَتْ، وَإِنَّ (كَفَى) فِعْلٌ لَيْسَ لَهُ فَاعِلٌ، وَالْجَارَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ أَشَدُّ مَنْ يُرَاقِبُ وَيُحَاسِبُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ فَرَائِدِ الْبَلَاغَةِ الْمَسْمُوعَةِ الَّتِي لَا تُحْتَذَى، وَلَا يُؤْتَى بِمِثْلٍ لَهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ النَّادِرِ مِثْلُهَا فِي حُسْنِهَا، فَلَا يُمْكِنُ تَطْبِيقُهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ الدَّائِرِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْفَهَاهَةِ عَلَى السَّوَاءِ.
أَقُولُ: وَيَحْسُنُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا مَا قَالَهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْغَايَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُوَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ النَّحْوِيَّةَ، وَنَحْوَهَا (كَقَوَاعِدِ الْبَيَانِ)، وُضِعَتْ بَعْدَ وَضْعِ اللُّغَةِ لَا قَبْلَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً شَامِلَةً لِكُلِّ كَلَامٍ. وَلَكِنَّ النُّحَاةَ حَاوَلُوا إِدْخَالَ كُلِّ الْكَلَامِ فِي قَوَاعِدِهِمْ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ النَّادِرِ الِاسْتِعْمَالِ: إِنَّهُ وَرَدَ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي وَضَعْنَاهَا فَهُوَ نَظْمٌ سَمَاعِيٌّ يُحْفَظُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ الشَّائِعِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الْقَوَاعِدُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شَاذٌّ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ بُلَدَاءِ الْأَعْرَابِ لَا حُسْنَ فِيهِ، وَقِسْمٌ كَالدُّرَرِ الْيَتِيمَةِ انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ، فَكَانَ لَهُ أَحْسَنُ تَأْثِيرٍ فِي الْكَلَامِ، وَيُوجَدُ كُلٌّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ فِي كُلِّ لُغَةٍ، وَمَا يُوجَدُ مِنْهُ فِي كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ أَعْلَاهُ، وَأَبْلَغُهُ.
عَنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهُ بِطُرُقِ الْإِسْرَافِ وَمُبَادَرَةِ كِبَرِهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ، ثُمَّ التَّنْبِيهِ إِلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - الَّتِي تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ عَنْهُ: أَنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبَاءَ الدَّاخِلَةَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَى بِاللهِ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى كَفَى اللهُ حَسِيبًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْفَاعِلَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ، وَالْبَاءَ حَرْفُ جَرٍّ أَصْلِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَطْبِيقِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعُوهَا - أَوْ قَالَ قَعَّدُوهَا - وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى مَعَ وُجُودِ الْبَاءِ هُوَ غَيْرُ الْمَعْنَى مَعَ عَدَمِهَا، فَلَهَا مَعْنًى فِي الْكَلَامِ كَيْفَمَا أُعْرِبَتْ، وَإِنَّ (كَفَى) فِعْلٌ لَيْسَ لَهُ فَاعِلٌ، وَالْجَارَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ أَشَدُّ مَنْ يُرَاقِبُ وَيُحَاسِبُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ فَرَائِدِ الْبَلَاغَةِ الْمَسْمُوعَةِ الَّتِي لَا تُحْتَذَى، وَلَا يُؤْتَى بِمِثْلٍ لَهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ النَّادِرِ مِثْلُهَا فِي حُسْنِهَا، فَلَا يُمْكِنُ تَطْبِيقُهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ الدَّائِرِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْفَهَاهَةِ عَلَى السَّوَاءِ.
أَقُولُ: وَيَحْسُنُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا مَا قَالَهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْغَايَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُوَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ النَّحْوِيَّةَ، وَنَحْوَهَا (كَقَوَاعِدِ الْبَيَانِ)، وُضِعَتْ بَعْدَ وَضْعِ اللُّغَةِ لَا قَبْلَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً شَامِلَةً لِكُلِّ كَلَامٍ. وَلَكِنَّ النُّحَاةَ حَاوَلُوا إِدْخَالَ كُلِّ الْكَلَامِ فِي قَوَاعِدِهِمْ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ النَّادِرِ الِاسْتِعْمَالِ: إِنَّهُ وَرَدَ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي وَضَعْنَاهَا فَهُوَ نَظْمٌ سَمَاعِيٌّ يُحْفَظُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ الشَّائِعِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الْقَوَاعِدُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شَاذٌّ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ بُلَدَاءِ الْأَعْرَابِ لَا حُسْنَ فِيهِ، وَقِسْمٌ كَالدُّرَرِ الْيَتِيمَةِ انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ، فَكَانَ لَهُ أَحْسَنُ تَأْثِيرٍ فِي الْكَلَامِ، وَيُوجَدُ كُلٌّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ فِي كُلِّ لُغَةٍ، وَمَا يُوجَدُ مِنْهُ فِي كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ أَعْلَاهُ، وَأَبْلَغُهُ.
321
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا
لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا
الْمُفْرَدَاتُ: وَلْيَخْشَ أَمْرٌ مِنَ الْخَشْيَةِ، وَهِيَ كَمَا فِي الْمَعَاجِمِ الْخَوْفُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: هِيَ خَوْفٌ يَشُوبُهُ تَعْظِيمٌ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ بِمَا يُخْشَى مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ خُصَّ الْعُلَمَاءُ بِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [٣٥: ٢٨].
وَأَقُولُ: إِنَّ الْقَيْدَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَظْهَرُ فِي كُلِّ الشَّوَاهِدِ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَنْتَرَةَ خَوْفٌ مَشُوبٌ بِتَعْظِيمٍ وَلَا عِلْمٍ فِيمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:
فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ فَرْقٌ فَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْخَشْيَةُ هِيَ الْخَوْفُ فِي مَحَلِّ الْأَمَلِ. وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَرْفُ الْخَشْيَةِ يَجِدُ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا، وَلَعَلَّ أَصْلَ الْخَشْيَةِ مِنْ مَادَّةِ خَشَتِ النَّخْلَةُ تَخْشُو إِذَا جَاءَ تَمْرُهَا دَقَلًا (رَدِيئًا)، وَهِيَ مِمَّا يُرْجَى مِنْهَا الْجَيِّدُ. وَلَمْ يَرِدْ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ مَفْعُولٍ وَلْيَخْشَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالتَّلَبُّسِ بِالْخَشْيَةِ كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى [٨٠: ٨، ٩] أَوْ حَذَفَ الْمَفْعُولَ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصَوُّرِهِ إِلَى كُلِّ مَا يُخْشَى فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لِيَسْتَشْعِرُوا خَوْفًا مِنْ مَعَرَّتِهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِيَخْشَوُا اللهَ.
قَوْلًا سَدِيدًا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّدِيدُ هُوَ الْعَدْلُ وَالصَّوَابُ. وَهُوَ لَا يَكُونُ مِنَ الْمُتَدَيِّنِ
لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا
الْمُفْرَدَاتُ: وَلْيَخْشَ أَمْرٌ مِنَ الْخَشْيَةِ، وَهِيَ كَمَا فِي الْمَعَاجِمِ الْخَوْفُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: هِيَ خَوْفٌ يَشُوبُهُ تَعْظِيمٌ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ بِمَا يُخْشَى مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ خُصَّ الْعُلَمَاءُ بِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [٣٥: ٢٨].
وَأَقُولُ: إِنَّ الْقَيْدَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَظْهَرُ فِي كُلِّ الشَّوَاهِدِ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَنْتَرَةَ خَوْفٌ مَشُوبٌ بِتَعْظِيمٍ وَلَا عِلْمٍ فِيمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:
وَلَقَدْ خَشِيتُ بِأَنْ أَمُوتَ وَلَمْ تَكُنْ | لِلْحَرْبِ دَائِرَةٌ عَلَى ابْنَيْ ضَمْضَمِ |
قَوْلًا سَدِيدًا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّدِيدُ هُوَ الْعَدْلُ وَالصَّوَابُ. وَهُوَ لَا يَكُونُ مِنَ الْمُتَدَيِّنِ
إِلَّا مُوَافِقًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ. وَقَالُوا: سَدَّ قَوْلُهُ يَسِدُّ " بِكَسْرِ السِّينِ " إِذَا كَانَ سَدِيدًا، وَهُوَ يَسِدُّ فِي الْقَوْلِ إِسْدَادًا: يُصِيبُ السَّدَادَ " بِالْفَتْحِ ": وَهُوَ الْقَصْدُ وَالصَّوَابُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَالسِّدَادُ " بِكَسْرٍ ": الْبُلْغَةُ، وَمَا يُسَدُّ بِهِ الشَّيْءُ كَالثَّغْرِ، وَالْقَارُورَةِ. وَقَوْلُهُمْ: " سَدَادٌ مِنْ عَوَزٍ " وَرَدَ بِفَتْحِ السِّينِ وَبِكَسْرِهَا، وَهُوَ الْأَفْصَحُ. وَإِذَا كَانَ السَّدِيدُ
مَأْخُوذًا مِنْ سَدِّ الثَّغْرِ، وَنَحْوِهِ فَالْقَوْلُ السَّدِيدُ: هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تُدْرَأُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ، وَتُحْفَظُ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا أَنَّ سَدَادَ الثَّغْرِ يَمْنَعُ اسْتِطْرَاقَ شَيْءٍ مِنْهُ يَضُرُّ مَا وَرَاءَهُ.
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ (وَسَيُصَلَّوْنَ) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِصْلَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا مِنَ الصِّلِيِّ. يُقَالُ: صَلَى اللَّحْمَ صَلْيًا " بِوَزْنٍ رَمَاهُ رَمْيًا " شَوَاهُ. فَإِذَا رَمَاهُ فِي النَّارِ يُرِيدُ إِحْرَاقَهُ يُقَالُ: أَصْلَاهُ إِصْلَاءً، وَصَلَّاهُ تَصْلِيَةً، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى الثُّلَاثِيِّ، وَالرُّبَاعِيِّ وَاحِدًا، كُلٌّ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ وَفِي الْإِلْقَاءِ لِأَجْلِ الْإِحْرَاقِ، وَالْإِفْسَادِ. وَصَلَّى يَدَهُ بِالنَّارِ: سَخَّنَهَا، وَأَدْفَأَهَا، وَاصْطَلَى: اسْتَدْفَأَ. وَأَصْلَاهُ النَّارَ وَصَلَّاهُ إِيَّاهَا: أَدْخَلَهُ إِيَّاهَا، وَأَصْلَاهُ فِيهَا أَدْخَلَهُ فِيهَا، وَصَلَيْتُ النَّارَ قَاسَيْتُ حَرَّهَا. وَالصَّلَى - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - وَالصِّلَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ -: الْوَقُودُ. وَيُطْلَقُ الصِّلَاءُ عَلَى الشِّوَاءِ أَيْ مَا يُشْوَى، قَالَ السَّيِّدَ الْأَلُوسِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ أَصْلَ الصِّلِيِّ الْقُرْبُ مِنَ النَّارِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الدُّخُولِ مَجَازًا - اهـ. وَ (السَّعِيرُ) النَّارُ الْمُسْتَعِرَةُ أَيِ الْمُشْتَعِلَةُ، يُقَالُ: سَعَرْتُ النَّارَ سَعْرًا وَسَعَّرْتُهَا تَسْعِيرًا أَشْعَلْتُهَا، قَالَ الرَّازِيُّ: وَالسَّعِيرُ مَعْدُولٌ عَنْ مَسْعُورَةٍ كَمَا عُدِلَ كَفٌّ خَضِيبٌ عَنْ مَخْضُوبَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: سَعِيرًا لِأَنَّ الْمُرَادَ نَارٌ مِنَ النِّيرَانِ مُبْهَمَةٌ لَا يَعْرِفُ غَايَةَ شِدَّتِهَا إِلَّا اللهُ. اهـ. فَهُوَ يَعْنِي أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّهْوِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ أَيْ يَصْلَوْنَ أَوْ يُصْلِيهِمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ سَعِيرًا خَاصًّا مِنَ السَّعْرِ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا مَنْ هَضَمَ حُقُوقَ الْيَتَامَى، وَأَكَلَ أَمْوَالَهُمْ ظُلْمًا.
الْمَعْنَى أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، وَلَا الصِّغَارَ الذُّكُورَ حَتَّى يُدْرِكُوا، فَمَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ، وَابْنًا صَغِيرًا، فَجَاءَ ابْنَا عَمِّهِ خَالِدٌ، وَعُرْفُطَةُ - وَهُمَا عَصَبَتُهُ - فَأَخَذَا مِيرَاثَهُ كُلَّهُ فَأَتَتِ امْرَأَتُهُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فَنَزَلَتْ " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَطَرِيقُ الْكَلْبِيِّ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ هِيَ أَوْهَى الطُّرُقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَضْعَفُهَا، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُمِّ كُجَّةَ، وَابْنَةِ كُجَّةَ، وَثَعْلَبَةَ، وَأَوْسِ بْنِ سُوَيْدٍ، وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانَ أَحَدُهُمْ
مَأْخُوذًا مِنْ سَدِّ الثَّغْرِ، وَنَحْوِهِ فَالْقَوْلُ السَّدِيدُ: هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تُدْرَأُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ، وَتُحْفَظُ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا أَنَّ سَدَادَ الثَّغْرِ يَمْنَعُ اسْتِطْرَاقَ شَيْءٍ مِنْهُ يَضُرُّ مَا وَرَاءَهُ.
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ (وَسَيُصَلَّوْنَ) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِصْلَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا مِنَ الصِّلِيِّ. يُقَالُ: صَلَى اللَّحْمَ صَلْيًا " بِوَزْنٍ رَمَاهُ رَمْيًا " شَوَاهُ. فَإِذَا رَمَاهُ فِي النَّارِ يُرِيدُ إِحْرَاقَهُ يُقَالُ: أَصْلَاهُ إِصْلَاءً، وَصَلَّاهُ تَصْلِيَةً، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى الثُّلَاثِيِّ، وَالرُّبَاعِيِّ وَاحِدًا، كُلٌّ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ وَفِي الْإِلْقَاءِ لِأَجْلِ الْإِحْرَاقِ، وَالْإِفْسَادِ. وَصَلَّى يَدَهُ بِالنَّارِ: سَخَّنَهَا، وَأَدْفَأَهَا، وَاصْطَلَى: اسْتَدْفَأَ. وَأَصْلَاهُ النَّارَ وَصَلَّاهُ إِيَّاهَا: أَدْخَلَهُ إِيَّاهَا، وَأَصْلَاهُ فِيهَا أَدْخَلَهُ فِيهَا، وَصَلَيْتُ النَّارَ قَاسَيْتُ حَرَّهَا. وَالصَّلَى - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - وَالصِّلَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ -: الْوَقُودُ. وَيُطْلَقُ الصِّلَاءُ عَلَى الشِّوَاءِ أَيْ مَا يُشْوَى، قَالَ السَّيِّدَ الْأَلُوسِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ أَصْلَ الصِّلِيِّ الْقُرْبُ مِنَ النَّارِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الدُّخُولِ مَجَازًا - اهـ. وَ (السَّعِيرُ) النَّارُ الْمُسْتَعِرَةُ أَيِ الْمُشْتَعِلَةُ، يُقَالُ: سَعَرْتُ النَّارَ سَعْرًا وَسَعَّرْتُهَا تَسْعِيرًا أَشْعَلْتُهَا، قَالَ الرَّازِيُّ: وَالسَّعِيرُ مَعْدُولٌ عَنْ مَسْعُورَةٍ كَمَا عُدِلَ كَفٌّ خَضِيبٌ عَنْ مَخْضُوبَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: سَعِيرًا لِأَنَّ الْمُرَادَ نَارٌ مِنَ النِّيرَانِ مُبْهَمَةٌ لَا يَعْرِفُ غَايَةَ شِدَّتِهَا إِلَّا اللهُ. اهـ. فَهُوَ يَعْنِي أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّهْوِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ أَيْ يَصْلَوْنَ أَوْ يُصْلِيهِمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ سَعِيرًا خَاصًّا مِنَ السَّعْرِ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا مَنْ هَضَمَ حُقُوقَ الْيَتَامَى، وَأَكَلَ أَمْوَالَهُمْ ظُلْمًا.
الْمَعْنَى أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، وَلَا الصِّغَارَ الذُّكُورَ حَتَّى يُدْرِكُوا، فَمَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ، وَابْنًا صَغِيرًا، فَجَاءَ ابْنَا عَمِّهِ خَالِدٌ، وَعُرْفُطَةُ - وَهُمَا عَصَبَتُهُ - فَأَخَذَا مِيرَاثَهُ كُلَّهُ فَأَتَتِ امْرَأَتُهُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فَنَزَلَتْ " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَطَرِيقُ الْكَلْبِيِّ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ هِيَ أَوْهَى الطُّرُقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَضْعَفُهَا، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُمِّ كُجَّةَ، وَابْنَةِ كُجَّةَ، وَثَعْلَبَةَ، وَأَوْسِ بْنِ سُوَيْدٍ، وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانَ أَحَدُهُمْ
323
زَوْجَهَا، وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُوُفِّيَ زَوْجِي، وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ فَلَمْ نُوَرَّثْ، فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَرْكَبُ فَرَسًا، وَلَا تَحْمِلُ كَلًّا، وَلَا تَنْكِئُ عَدُوًّا، يُكْسَبُ عَلَيْهَا، وَلَا تَكْتَسِبُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ، زَادَ ابْنُ زَيْدٍ: وَلَا الصِّغَارِ - لَمْ يَذْكُرُوا وَاقِعَةً مُعَيَّنَةً.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَدِيدٌ، وَهُوَ انْصِرَافٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ثَلَاثِ آيَاتٍ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إلخ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى لَا يَزَالُ مُتَّصِلًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ التَّفْصِيلَ فِي حُرْمَةِ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَأَمَرَ بِإِعْطَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ إِذَا رَشَدُوا، ذَكَرَ أَنَّ الْمَالَ الْمَوْرُوثَ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْأَوْلِيَاءُ لِلْيَتَامَى يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ خِلَافًا لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ، فَهَذَا تَفْصِيلٌ آخَرُ فِي الْمَالِ نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي الْإِعْطَاءِ وَوَقْتِهِ، وَشَرْطِهِ. وَمَالُ الْيَتَامَى إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: إِذَا كَانَ لِلْيَتَامَى مَالٌ مِمَّا تَرَكَهُ لَهَا الْوَالِدَانِ، وَالْأَقْرَبُونَ فَهُمْ فِيهِ عَلَى الْفَرِيضَةِ لَا فَرْقَ فِي شَرِكَةِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِيهِ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَعَنَى بِقَوْلِهِ: نَصِيبًا مَفْرُوضًا أَنَّهُ حَقٌّ مُعَيَّنٌ مَقْطُوعٌ بِهِ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُصَهُمْ مِنْهُ شَيْئًا.
وَأَقُولُ - زِيَادَةً فِي إِيضَاحِ رَأْيِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ -: إِنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ كَانَتْ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ هَضْمِ حَقِّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ، وَبَيَانِ حُقُوقِ الْيَتَامَى، وَالزَّوْجَاتِ، وَمَنْعِ ظُلْمِهِنَّ، فَمَنَعَ فِيهَا أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ بِالِاسْتِبْدَالِ الَّذِي يُؤْخَذُ فِيهِ جِيِّدُ الْيَتِيمِ وَيُعْطَى رَدِيئًا بَدَلَهُ، وَمَنَعَ أَكْلَ مُهُورِ النِّسَاءِ، أَوْ عَضْلَهُنَّ لِلتَّمَتُّعِ بِأَمْوَالِهِنَّ، أَوْ تَزْوِيجَهُنَّ بِغَيْرِ مَهْرٍ، أَوْ الِاسْتِكْثَارَ مِنْهُنَّ لِأَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ ظُلْمِهِنَّ - فَكَمَا حَرَّمَ هَذَا كُلَّهُ فِيمَا تَقَدَّمَ حَرَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعَ تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ - فَالْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى، وَالنِّسَاءِ وَمَنْعِ
الظُّلْمِ الَّذِي كَانَ يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمَا. وَذُكِرَ بِلَفْظِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ عَامٌّ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: نَصِيبًا مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِمَعْنَى أَعْنِي نَصِيبًا مَفْرُوضًا، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ كَقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ كَأَنَّهُ قَالَ قِسْمَةً مَفْرُوضَةً. كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ انْتِصَابَهُ عَلَى الْحَالِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أَيْ إِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ - الَّتِي يَتْرُكُهَا الْمُوَرِّثُ لِوَرَثَتِهِ، أَوْ قِسْمَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ الرُّشْدِ أَوِ الْوَصِيَّةِ - أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِلْوَارِثِينَ، أَوِ الْمُوصَى لَهُمْ، وَمِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَانْفَحُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي أَصَابَكُمْ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا كَدْحٍ، وَقُولُوا
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَدِيدٌ، وَهُوَ انْصِرَافٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ثَلَاثِ آيَاتٍ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إلخ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى لَا يَزَالُ مُتَّصِلًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ التَّفْصِيلَ فِي حُرْمَةِ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَأَمَرَ بِإِعْطَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ إِذَا رَشَدُوا، ذَكَرَ أَنَّ الْمَالَ الْمَوْرُوثَ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْأَوْلِيَاءُ لِلْيَتَامَى يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ خِلَافًا لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ، فَهَذَا تَفْصِيلٌ آخَرُ فِي الْمَالِ نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي الْإِعْطَاءِ وَوَقْتِهِ، وَشَرْطِهِ. وَمَالُ الْيَتَامَى إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: إِذَا كَانَ لِلْيَتَامَى مَالٌ مِمَّا تَرَكَهُ لَهَا الْوَالِدَانِ، وَالْأَقْرَبُونَ فَهُمْ فِيهِ عَلَى الْفَرِيضَةِ لَا فَرْقَ فِي شَرِكَةِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِيهِ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَعَنَى بِقَوْلِهِ: نَصِيبًا مَفْرُوضًا أَنَّهُ حَقٌّ مُعَيَّنٌ مَقْطُوعٌ بِهِ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُصَهُمْ مِنْهُ شَيْئًا.
وَأَقُولُ - زِيَادَةً فِي إِيضَاحِ رَأْيِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ -: إِنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ كَانَتْ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ هَضْمِ حَقِّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ، وَبَيَانِ حُقُوقِ الْيَتَامَى، وَالزَّوْجَاتِ، وَمَنْعِ ظُلْمِهِنَّ، فَمَنَعَ فِيهَا أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ بِالِاسْتِبْدَالِ الَّذِي يُؤْخَذُ فِيهِ جِيِّدُ الْيَتِيمِ وَيُعْطَى رَدِيئًا بَدَلَهُ، وَمَنَعَ أَكْلَ مُهُورِ النِّسَاءِ، أَوْ عَضْلَهُنَّ لِلتَّمَتُّعِ بِأَمْوَالِهِنَّ، أَوْ تَزْوِيجَهُنَّ بِغَيْرِ مَهْرٍ، أَوْ الِاسْتِكْثَارَ مِنْهُنَّ لِأَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ ظُلْمِهِنَّ - فَكَمَا حَرَّمَ هَذَا كُلَّهُ فِيمَا تَقَدَّمَ حَرَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعَ تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ - فَالْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى، وَالنِّسَاءِ وَمَنْعِ
الظُّلْمِ الَّذِي كَانَ يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمَا. وَذُكِرَ بِلَفْظِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ عَامٌّ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: نَصِيبًا مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِمَعْنَى أَعْنِي نَصِيبًا مَفْرُوضًا، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ كَقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ كَأَنَّهُ قَالَ قِسْمَةً مَفْرُوضَةً. كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ انْتِصَابَهُ عَلَى الْحَالِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أَيْ إِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ - الَّتِي يَتْرُكُهَا الْمُوَرِّثُ لِوَرَثَتِهِ، أَوْ قِسْمَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ الرُّشْدِ أَوِ الْوَصِيَّةِ - أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِلْوَارِثِينَ، أَوِ الْمُوصَى لَهُمْ، وَمِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَانْفَحُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي أَصَابَكُمْ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا كَدْحٍ، وَقُولُوا
324
لَهُمْ قَوْلًا حَسَنًا تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ وَتَسْتَحْسِنُهُ وَلَا تُنْكِرُهُ الْأَذْوَاقُ السَّلِيمَةُ وَلَا تَمُجُّهُ، وَالْمُرَادُ بِذَوِي الْقُرْبِ - الَّذِينَ يَحْضُرُونَ قِسْمَةَ الْوَرَثَةِ - مَنْ لَا يَرِثُ مِنْهُمْ، وَقَرِيبُ الْوَارِثِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا، فَالْأَخُ مِنَ الْأَبِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِأَخِ الْمَيِّتِ الشَّقِيقِ وَهُوَ لَا يَرِثُ، وَكَذَلِكَ الْعَمُّ وَالْخَالُ وَالْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ يُعَدُّونَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِلْوَارِثِ الَّذِي لَا يَرِثُونَ مَعَهُ، وَقَدْ يَسْرِي إِلَى نُفُوسِهِمُ الْحَسَدُ فَيَنْبَغِي التَّوَدُّدُ إِلَيْهِمْ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ بِإِعْطَائِهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْرُوثِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَلَوْ بِصِفَةِ الْهِبَةِ، أَوِ الْهَدِيَّةِ، أَوْ إِعْدَادِ طَعَامٍ لَهُمْ يَوْمَ الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَشُكْرِ النِّعَمِ. وَوَجْهُ إِعْطَاءِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ظَاهِرٌ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ لِأَرْبَابِ الْمَالِ الَّذِينَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَ الْيَتَامَى الَّذِينَ رَشَدُوا كَانَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعِظَهُمْ وَيُرْشِدَهُمْ إِلَى مَا يَنْبَغِي فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِ أَرْبَابِ الْمَالِ. وَالْأَدَبُ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْكِتَابُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هُوَ اعْتِبَارُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَى الْوَارِثِينَ عَفْوًا بِغَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ، وَلَا سَعْيٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْخَلُوا بِهِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ مِنْ أُمَّتِهِمْ، وَيَتْرُكُوهُمْ يَذْهَبُونَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ مُضْطَرِبِي النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْحِرْمَانُ مَدْعَاةَ حَسَدِهِ لِلْوَارِثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمَعْرُوفِ: فَهُوَ مَا تَطِيبُ بِهِ نُفُوسُ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ عِنْدَمَا يَأْخُذُونَ مَا يُفَاضُ
عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَثْقُلَ عَلَى عَزِيزِ النَّفْسِ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُهُ، وَيَرْضَى الطَّامِعُ فِي أَكْثَرِ مِمَّا أُعْطِيَ بِمَا أُعْطِيَ، فَإِنَّ مِنَ الْفُقَرَاءِ مَنْ يُظْهِرُ اسْتِقْلَالَ مَا نَالَهُ، وَاسْتِكْثَارَ مَا نَالَ سِوَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاطَفَ مِثْلُ هَذَا، وَلَا يُغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ.
قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنْ يَتَضَايَقُوا، وَيَتَبَرَّمُوا مِنْ حُضُورِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَغَيْرِهِمْ مَجْلِسَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (أَنَّ كَمَا أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يُحِبُّونَ أَنْ يَحْضُرُوا وَيَعْرِفُوا مَا نَالَ ذَوِي قُرْبَاهُمْ) وَمَنْ كَانَ كَارِهًا لِشَيْءٍ تَظْهَرُ كَرَاهَتُهُ لَهُ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، فَعَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْأَدَبَ فِي الْحَدِيثِ لِنُهَذِّبَ بِهِ هَذِهِ السَّجِيَّةَ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [٧٠: ١٩] الْآيَاتِ.
قَالَ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ لِلنَّدْبِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَحُدِّدَ، وَقُدِّرَ كَمَا حُدِّدَتِ الْمَوَارِيثُ، وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلٍ ; فَقَدْ يَجِبُ الْعَطَاءُ وَيُوكَلُ الْأَمْرُ فِي الْمِقْدَارِ إِلَى الْمُعْطِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَهَجَرَهُ النَّاسُ كَمَا هَجَرُوا الْعَمَلَ بِآيَةِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ دُخُولِ الْبُيُوتِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ نَدْبٌ أَوْ مَنْسُوخٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ: وَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ رَأْيًا، وَمَذْهَبًا وَيُحَاوِلَ جَرَّ الْقُرْآنِ إِلَيْهِ، وَتَحْوِيلَهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ بِإِخْرَاجِ الْأَلْفَاظِ عَنْ ظَوَاهِرِ مَعَانِيهَا الْمُتَبَادِرَةِ مِنْهَا، وَإِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَا أَنْ فَوَّضَ أَمْرَ مِقْدَارِ مَا نُعْطِيهِ إِلَيْنَا وَجَعَلَهُ مِمَّا يَتَفَاضَلُ فِيهِ الْأَسْخِيَاءُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ لِأَرْبَابِ الْمَالِ الَّذِينَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَ الْيَتَامَى الَّذِينَ رَشَدُوا كَانَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعِظَهُمْ وَيُرْشِدَهُمْ إِلَى مَا يَنْبَغِي فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِ أَرْبَابِ الْمَالِ. وَالْأَدَبُ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْكِتَابُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هُوَ اعْتِبَارُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَى الْوَارِثِينَ عَفْوًا بِغَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ، وَلَا سَعْيٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْخَلُوا بِهِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ مِنْ أُمَّتِهِمْ، وَيَتْرُكُوهُمْ يَذْهَبُونَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ مُضْطَرِبِي النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْحِرْمَانُ مَدْعَاةَ حَسَدِهِ لِلْوَارِثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمَعْرُوفِ: فَهُوَ مَا تَطِيبُ بِهِ نُفُوسُ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ عِنْدَمَا يَأْخُذُونَ مَا يُفَاضُ
عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَثْقُلَ عَلَى عَزِيزِ النَّفْسِ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُهُ، وَيَرْضَى الطَّامِعُ فِي أَكْثَرِ مِمَّا أُعْطِيَ بِمَا أُعْطِيَ، فَإِنَّ مِنَ الْفُقَرَاءِ مَنْ يُظْهِرُ اسْتِقْلَالَ مَا نَالَهُ، وَاسْتِكْثَارَ مَا نَالَ سِوَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاطَفَ مِثْلُ هَذَا، وَلَا يُغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ.
قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنْ يَتَضَايَقُوا، وَيَتَبَرَّمُوا مِنْ حُضُورِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَغَيْرِهِمْ مَجْلِسَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (أَنَّ كَمَا أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يُحِبُّونَ أَنْ يَحْضُرُوا وَيَعْرِفُوا مَا نَالَ ذَوِي قُرْبَاهُمْ) وَمَنْ كَانَ كَارِهًا لِشَيْءٍ تَظْهَرُ كَرَاهَتُهُ لَهُ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، فَعَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْأَدَبَ فِي الْحَدِيثِ لِنُهَذِّبَ بِهِ هَذِهِ السَّجِيَّةَ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [٧٠: ١٩] الْآيَاتِ.
قَالَ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ لِلنَّدْبِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَحُدِّدَ، وَقُدِّرَ كَمَا حُدِّدَتِ الْمَوَارِيثُ، وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلٍ ; فَقَدْ يَجِبُ الْعَطَاءُ وَيُوكَلُ الْأَمْرُ فِي الْمِقْدَارِ إِلَى الْمُعْطِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَهَجَرَهُ النَّاسُ كَمَا هَجَرُوا الْعَمَلَ بِآيَةِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ دُخُولِ الْبُيُوتِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ نَدْبٌ أَوْ مَنْسُوخٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ: وَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ رَأْيًا، وَمَذْهَبًا وَيُحَاوِلَ جَرَّ الْقُرْآنِ إِلَيْهِ، وَتَحْوِيلَهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ بِإِخْرَاجِ الْأَلْفَاظِ عَنْ ظَوَاهِرِ مَعَانِيهَا الْمُتَبَادِرَةِ مِنْهَا، وَإِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَا أَنْ فَوَّضَ أَمْرَ مِقْدَارِ مَا نُعْطِيهِ إِلَيْنَا وَجَعَلَهُ مِمَّا يَتَفَاضَلُ فِيهِ الْأَسْخِيَاءُ.
325
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ: أَنَّ مَا أُمِرْنَا أَنْ نَرْزُقَهُمْ مِنْهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ هُوَ الْأَعْيَانُ الْمَنْقُولَةُ، وَأَمَّا الْأَرْضُ وَالرَّقِيقُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَرْضَخَ مِنْهُ بِشَيْءٍ بَلْ يَكْتَفِي حِينَئِذٍ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ، أَوْ بِإِطْعَامٍ كَمَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الرِّزْقِ هُنَا وَسَيَأْتِي.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالضَّحَّاكِ قَالَا: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَضْعَفِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَصَرَّحَ
مُجَاهِدٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ مَا طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ مَدَنِيَّاتٍ تَرَكَهُنَّ النَّاسُ، هَذِهِ الْآيَةُ، وَآيَةُ الِاسْتِئْذَانِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٢٤: ٥٨] وَهَذِهِ الْآيَةُ: يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [٤٩: ١٣] اهـ. وَخَصَّهَا بَعْضُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِقِسْمَةِ الْوَصِيَّةِ لِأُولِي قُرْبَى الْمُوصِي ; وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ فَهِمُوا كَمَا فَهِمَ مَنْ قَالَ بِالنَّسْخِ أَنَّ أُولِي الْقُرْبَى هُمُ الْوَارِثُونَ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِرِزْقِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَسْخِ هَذَا الْأَمْرِ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِقِسْمَةِ الْوَصِيَّةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ - مِمَّا قَدَّمْنَاهُ - أَنَّهُ يَشْمَلُ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَقِسْمَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ رُشْدِهِمْ، وَقِسْمَةَ الْوَصَايَا، وَهِيَ فِي التَّرِكَةِ أَظْهَرُ لِاتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ فِيمَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ - أَيِ الرِّزْقَ وَالْعَطَاءَ - لِأُولِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ إِنْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمِيرَاثِ صَغِيرًا، وَقَسَّمَ عَلَيْهِ الْمِيرَاثَ وَلِيُّ مَالِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لِوَلِيِّ مَالِهِ أَنْ يُقَسِّمَ مِنْ مَالِهِ وَوَصِيَّتِهِ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، لَكِنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا. قَالُوا: وَالَّذِي أَمَرَهُ اللهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا هُوَ وَلِيُّ مَالِ الْيَتِيمِ، إِذَا قَسَّمَ مَالَ الْيَتِيمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُرَكَاءِ الْيَتِيمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ مَالِهِ أَحَدُ الْوَرَثَةِ، فَيُعْطِيهِمْ مِنْ نَصِيبِهِ، وَيُعْطِيهِمْ مَنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي مَالِهِ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ، قَالُوا: فَأَمَّا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ فَالَّذِي يُوَلَّى عَلَى مَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ مَالِهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهُ شَيْئًا. اهـ. وَسَاقَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي أَمْوَالِ الصِّغَارِ، وَالْكِبَارِ لِأُولِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ كِبَارًا تَوَلَّوْا عِنْدَ الْقِسْمَةِ إِعْطَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا تَوَلَّى ذَلِكَ وَلِيُّ مَالِهِمْ اهـ. وَأَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَلَكِنَّهُمَا تَأَوَّلَا الرِّزْقَ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ، فَكَانَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَأْمُرَانِ بِذَبْحِ شَاةٍ، وَصُنْعِ طَعَامٍ لِمَنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ مِمَّنْ ذُكِرَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْضُرُونَ فَيُعْطَوْنَ الشَّيْءَ وَالثَّوْبَ الْخَلِقَ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالضَّحَّاكِ قَالَا: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَضْعَفِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَصَرَّحَ
مُجَاهِدٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ مَا طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ مَدَنِيَّاتٍ تَرَكَهُنَّ النَّاسُ، هَذِهِ الْآيَةُ، وَآيَةُ الِاسْتِئْذَانِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٢٤: ٥٨] وَهَذِهِ الْآيَةُ: يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [٤٩: ١٣] اهـ. وَخَصَّهَا بَعْضُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِقِسْمَةِ الْوَصِيَّةِ لِأُولِي قُرْبَى الْمُوصِي ; وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ فَهِمُوا كَمَا فَهِمَ مَنْ قَالَ بِالنَّسْخِ أَنَّ أُولِي الْقُرْبَى هُمُ الْوَارِثُونَ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِرِزْقِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَسْخِ هَذَا الْأَمْرِ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِقِسْمَةِ الْوَصِيَّةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ - مِمَّا قَدَّمْنَاهُ - أَنَّهُ يَشْمَلُ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَقِسْمَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ رُشْدِهِمْ، وَقِسْمَةَ الْوَصَايَا، وَهِيَ فِي التَّرِكَةِ أَظْهَرُ لِاتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ فِيمَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ - أَيِ الرِّزْقَ وَالْعَطَاءَ - لِأُولِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ إِنْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمِيرَاثِ صَغِيرًا، وَقَسَّمَ عَلَيْهِ الْمِيرَاثَ وَلِيُّ مَالِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لِوَلِيِّ مَالِهِ أَنْ يُقَسِّمَ مِنْ مَالِهِ وَوَصِيَّتِهِ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، لَكِنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا. قَالُوا: وَالَّذِي أَمَرَهُ اللهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا هُوَ وَلِيُّ مَالِ الْيَتِيمِ، إِذَا قَسَّمَ مَالَ الْيَتِيمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُرَكَاءِ الْيَتِيمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ مَالِهِ أَحَدُ الْوَرَثَةِ، فَيُعْطِيهِمْ مِنْ نَصِيبِهِ، وَيُعْطِيهِمْ مَنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي مَالِهِ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ، قَالُوا: فَأَمَّا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ فَالَّذِي يُوَلَّى عَلَى مَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ مَالِهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهُ شَيْئًا. اهـ. وَسَاقَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي أَمْوَالِ الصِّغَارِ، وَالْكِبَارِ لِأُولِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ كِبَارًا تَوَلَّوْا عِنْدَ الْقِسْمَةِ إِعْطَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا تَوَلَّى ذَلِكَ وَلِيُّ مَالِهِمْ اهـ. وَأَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَلَكِنَّهُمَا تَأَوَّلَا الرِّزْقَ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ، فَكَانَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَأْمُرَانِ بِذَبْحِ شَاةٍ، وَصُنْعِ طَعَامٍ لِمَنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ مِمَّنْ ذُكِرَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْضُرُونَ فَيُعْطَوْنَ الشَّيْءَ وَالثَّوْبَ الْخَلِقَ.
326
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ فِي الْآيَةِ مِنَ السَّلَفِ أَوْجَبُوا رِزْقَ مَنْ حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ مِمَّنْ ذَكَرَتْهُمُ الْآيَةُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا قِيلَ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّمَا يُرْزَقُونَ مِنْ مَالِ الْكَبِيرِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلِيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُطَالَبِينَ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْمُطَالَبُونَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُعَلِّلَةً لِلْأَمْرِ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي تِلْكَ مُتَّصِلَةً بِهَا مُبَاشَرَةً، ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى بَعْضُ حَاضِرِي الْقِسْمَةِ عَنْ رِزْقِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَهَا. وَهَذَا يَكْثُرُ فِي النَّاسِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ الْوُجَهَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَحَبَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُوهِمُ الْغَيْرَةَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُذَكِّرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحُولُونَ دُونَ عَمَلِ الْبِرِّ بِأَنْ يَخَافُوا اللهَ أَنْ يَتْرُكُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَرَثَةً ضُعَفَاءَ يَحْتَاجُونَ مَا يَحْتَاجُهُ حَاضِرُو الْقِسْمَةِ وَطَالِبُو الْبِرِّ مِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَيُعَامَلُوا بِالْحِرْمَانِ وَالْقَسْوَةِ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ بِمِثْلِ مَا يُحِبُّونَ أَنْ تُعَامَلَ بِهِ ذُرِّيَّتُهُمْ إِذَا تَرَكُوهُمْ ضِعَافًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى الْيَتَامَى، فَهُوَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ بِابْتِلَائِهِمْ، وَاخْتِبَارِهِمْ بِالْعَمَلِ لِيُعْرَفَ رُشْدُهُمْ أَمَرَهُمْ بِإِحْسَانِ الْقَوْلِ لَهُمْ أَيْضًا ; فَإِنَّ الْيَتِيمَ يَجْرَحُهُ أَقَلُّ قَوْلٍ يُهِينُ وَلَاسِيَّمَا ذِكْرُ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ بِسُوءٍ. وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَسَاهُلِ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا حَافِظِينَ لِلْأَمْوَالِ مُحْسِنِينَ فِي الْمُعَامَلَةِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ يَتِيمٌ فِي بَيْتٍ إِلَّا وَيُمْتَهَنُ وَيُقْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَذِكْرِ وَالِدَيْهِ بِمَا يَشِينُهُمَا ; وَلِذَلِكَ وَرَدَ التَّأْكِيدُ بِالْوَصِيَّةِ بِالْيَتَامَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَقُولُ: وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْهَا - لِاخْتِيَارِهِ أَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي قِسْمَةِ الْوَصَايَا - أَنَّهَا فِي الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مُوصِيًا يُوصِي فِي مَالِهِ، وَيَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَأْمُرُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَخَافُوا عَلَى ذُرِّيَّةِ هَذَا الرَّجُلِ مِثْلَ مَا يَخَافُونَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ تَرَكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا فَلَا يَقُولُوا فِي الْوَصِيَّةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَضُرَّ بِذُرِّيَّةِ الْمُوصِي كَالتَّرْغِيبِ فِي تَكْثِيرِ الْوَصِيَّةِ لِلْغُرَبَاءِ، بَلْ يَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا بِأَنْ يُرَغِّبُوهُ فِيمَا يَرْضَوْنَ مِثْلَهُ لِأَنْفُسِهِمْ،
وَلِذُرِّيَّتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ فِي وُلَاةِ الْيَتَامَى يَأْمُرُهُمُ اللهُ بِأَنْ يُحْسِنُوا مُعَامَلَتَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمُ الضِّعَافِ لَوْ تَرَكُوهُمْ وَمَاتُوا عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: " يَعْنِي بِذَلِكَ الرَّجُلَ يَمُوتُ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ ضِعَافٌ يَخَافُ عَلَيْهِمُ الْعَيْلَةَ (أَيِ الْفَقْرَ) وَالضَّيْعَةَ، وَيَخَافُ بَعْدَهُ أَلَّا يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَلِيهِمْ، يَقُولُ: فَإِنْ وَلِيَ مِثْلَ ذُرِّيَّتِهِ ضِعَافًا يَتَامَى فَلْيُحْسِنْ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَأْكُلْ أَمْوَالَهُمْ إِسْرَافًا وَبِدَارًا خَشْيَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يَكْفِيهِمْ أَمْرَ ذُرِّيَّتِهِمْ بَعْدَهُمْ "، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا قَالَهُ
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلِيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُطَالَبِينَ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْمُطَالَبُونَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُعَلِّلَةً لِلْأَمْرِ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي تِلْكَ مُتَّصِلَةً بِهَا مُبَاشَرَةً، ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى بَعْضُ حَاضِرِي الْقِسْمَةِ عَنْ رِزْقِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَهَا. وَهَذَا يَكْثُرُ فِي النَّاسِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ الْوُجَهَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَحَبَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُوهِمُ الْغَيْرَةَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُذَكِّرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحُولُونَ دُونَ عَمَلِ الْبِرِّ بِأَنْ يَخَافُوا اللهَ أَنْ يَتْرُكُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَرَثَةً ضُعَفَاءَ يَحْتَاجُونَ مَا يَحْتَاجُهُ حَاضِرُو الْقِسْمَةِ وَطَالِبُو الْبِرِّ مِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَيُعَامَلُوا بِالْحِرْمَانِ وَالْقَسْوَةِ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ بِمِثْلِ مَا يُحِبُّونَ أَنْ تُعَامَلَ بِهِ ذُرِّيَّتُهُمْ إِذَا تَرَكُوهُمْ ضِعَافًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى الْيَتَامَى، فَهُوَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ بِابْتِلَائِهِمْ، وَاخْتِبَارِهِمْ بِالْعَمَلِ لِيُعْرَفَ رُشْدُهُمْ أَمَرَهُمْ بِإِحْسَانِ الْقَوْلِ لَهُمْ أَيْضًا ; فَإِنَّ الْيَتِيمَ يَجْرَحُهُ أَقَلُّ قَوْلٍ يُهِينُ وَلَاسِيَّمَا ذِكْرُ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ بِسُوءٍ. وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَسَاهُلِ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا حَافِظِينَ لِلْأَمْوَالِ مُحْسِنِينَ فِي الْمُعَامَلَةِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ يَتِيمٌ فِي بَيْتٍ إِلَّا وَيُمْتَهَنُ وَيُقْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَذِكْرِ وَالِدَيْهِ بِمَا يَشِينُهُمَا ; وَلِذَلِكَ وَرَدَ التَّأْكِيدُ بِالْوَصِيَّةِ بِالْيَتَامَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَقُولُ: وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْهَا - لِاخْتِيَارِهِ أَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي قِسْمَةِ الْوَصَايَا - أَنَّهَا فِي الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مُوصِيًا يُوصِي فِي مَالِهِ، وَيَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَأْمُرُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَخَافُوا عَلَى ذُرِّيَّةِ هَذَا الرَّجُلِ مِثْلَ مَا يَخَافُونَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ تَرَكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا فَلَا يَقُولُوا فِي الْوَصِيَّةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَضُرَّ بِذُرِّيَّةِ الْمُوصِي كَالتَّرْغِيبِ فِي تَكْثِيرِ الْوَصِيَّةِ لِلْغُرَبَاءِ، بَلْ يَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا بِأَنْ يُرَغِّبُوهُ فِيمَا يَرْضَوْنَ مِثْلَهُ لِأَنْفُسِهِمْ،
وَلِذُرِّيَّتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ فِي وُلَاةِ الْيَتَامَى يَأْمُرُهُمُ اللهُ بِأَنْ يُحْسِنُوا مُعَامَلَتَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمُ الضِّعَافِ لَوْ تَرَكُوهُمْ وَمَاتُوا عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: " يَعْنِي بِذَلِكَ الرَّجُلَ يَمُوتُ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ ضِعَافٌ يَخَافُ عَلَيْهِمُ الْعَيْلَةَ (أَيِ الْفَقْرَ) وَالضَّيْعَةَ، وَيَخَافُ بَعْدَهُ أَلَّا يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَلِيهِمْ، يَقُولُ: فَإِنْ وَلِيَ مِثْلَ ذُرِّيَّتِهِ ضِعَافًا يَتَامَى فَلْيُحْسِنْ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَأْكُلْ أَمْوَالَهُمْ إِسْرَافًا وَبِدَارًا خَشْيَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يَكْفِيهِمْ أَمْرَ ذُرِّيَّتِهِمْ بَعْدَهُمْ "، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا قَالَهُ
327
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَعْنَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ كَمَا بَيَّنَ هُنَاكَ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْوَرَثَةِ بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ مَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْأَقَارِبِ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى أَنْ يَتَّقُوا اللهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ رِزْقِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ مُؤَكِّدًا لِمِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ.
وَفِيهَا قَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَنْ يَتَبَصَّرُوا فِي أَمْرِ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلَا يُسْرِفُوا فِي الْوَصِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحِبُّ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالثُّلُثِ إِلَّا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَقَالَ: " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ; لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " أَيْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ فِي ذُرِّيَّتِهِمْ، وَلْيَقُولُوا فِي تَقْرِيرِ الْوَصِيَّةِ قَوْلًا سَدِيدًا، أَيْ قَرِيبًا مِنَ الْعَدْلِ، وَالْمَصْلَحَةِ، بَعِيدًا مِنَ اسْتِطْرَاقِ الْمَضَرَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَشْمَلَ كُلَّ مَا ذُكِرَ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: لِيَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ - أَوْ لِيَخْشَ الْعَاقِبَةَ، أَوِ اللهَ - الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا بَعْدَهُمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا أَنْ يُسِيءَ النَّاسُ مُعَامَلَتَهُمْ وَيُهِينُوهُمْ فَلَا يَقُولُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِذُرِّيَّةِ أَحَدٍ، بَلْ لِيَقُولُوا قَوْلًا مُحْكَمًا يَسُدُّ مَنَافِذَ الضَّرَرِ فَكَمَا يُدِينُ الْمَرْءُ يُدَانُ.
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا أَيْ ظَالِمِينَ فِي أَكْلِهَا أَوْ أَكْلًا عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ وَهَضْمِ الْحَقِّ لَا أَكْلًا بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، أَوِ اقْتِرَاضًا، أَوْ تَقْدِيرًا لِأُجْرَةِ الْعَمَلِ كَمَا أَذِنَ اللهُ لِلْفَقِيرِ فِي آيَةٍ سَابِقَةٍ، وَكَمَا أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ بِدَلَائِلَ
أُخْرَى إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أَيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ، فَقَدْ شَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الظَّرْفِيَّةِ كَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْمَظْرُوفُ مَالِئًا لِلظَّرْفِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْبُطُونِ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَمْثِيلِ الْوَاقِعِ بِكَمَالِ هَيْئَتِهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [٤٨: ١١].
نَارًا أَيْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِعَذَابِ النَّارِ أَوْ مَا يُشْبِهُ النَّارَ فِي ضَرَرِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ أَفْوَاهَهُمْ تُمْلَأُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمْرًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُمْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ يُجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرٌ مِنْ نَارٍ فَيُقْذَفُ فِي أَجْوَافِهِمْ، أَيْ مُثِّلَ لَهُ عَذَابُهُمْ بِمَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِجَعْلِ أَكْلِ النَّارِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِجَعْلِ يَأْكُلُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لِلْحَالِ بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وَهُوَ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَحُجَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَلْيَ السَّعِيرِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دُخُولِ النَّارِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَكْلُ النَّارِ لِمَنْ يَأْكُلُهَا بَعْدَ دُخُولِهَا، أَيْ دُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا ; لِأَنَّ جُلَّ الْعَذَابِ فِيهَا يَكُونُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ لَكَانَ لَفْظُهَا هَكَذَا: " فَسَيَأْكُلُونَ نَارًا وَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا " فَالْأَكْلُ عَذَابُ بَاطِنِ الْبَدَنِ لِأَنَّ مُعْظَمَ اغْتِيَالِ الْمَالِ يَكُونُ لِلْأَكْلِ، وَالصِّلِيُّ عَذَابُ ظَاهِرِهِ فَهُوَ جَزَاءُ اللِّبَاسِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَكِنَّهُ
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْوَرَثَةِ بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ مَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْأَقَارِبِ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى أَنْ يَتَّقُوا اللهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ رِزْقِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ مُؤَكِّدًا لِمِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ.
وَفِيهَا قَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَنْ يَتَبَصَّرُوا فِي أَمْرِ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلَا يُسْرِفُوا فِي الْوَصِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحِبُّ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالثُّلُثِ إِلَّا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَقَالَ: " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ; لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " أَيْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ فِي ذُرِّيَّتِهِمْ، وَلْيَقُولُوا فِي تَقْرِيرِ الْوَصِيَّةِ قَوْلًا سَدِيدًا، أَيْ قَرِيبًا مِنَ الْعَدْلِ، وَالْمَصْلَحَةِ، بَعِيدًا مِنَ اسْتِطْرَاقِ الْمَضَرَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَشْمَلَ كُلَّ مَا ذُكِرَ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: لِيَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ - أَوْ لِيَخْشَ الْعَاقِبَةَ، أَوِ اللهَ - الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا بَعْدَهُمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا أَنْ يُسِيءَ النَّاسُ مُعَامَلَتَهُمْ وَيُهِينُوهُمْ فَلَا يَقُولُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِذُرِّيَّةِ أَحَدٍ، بَلْ لِيَقُولُوا قَوْلًا مُحْكَمًا يَسُدُّ مَنَافِذَ الضَّرَرِ فَكَمَا يُدِينُ الْمَرْءُ يُدَانُ.
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا أَيْ ظَالِمِينَ فِي أَكْلِهَا أَوْ أَكْلًا عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ وَهَضْمِ الْحَقِّ لَا أَكْلًا بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، أَوِ اقْتِرَاضًا، أَوْ تَقْدِيرًا لِأُجْرَةِ الْعَمَلِ كَمَا أَذِنَ اللهُ لِلْفَقِيرِ فِي آيَةٍ سَابِقَةٍ، وَكَمَا أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ بِدَلَائِلَ
أُخْرَى إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أَيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ، فَقَدْ شَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الظَّرْفِيَّةِ كَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْمَظْرُوفُ مَالِئًا لِلظَّرْفِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْبُطُونِ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَمْثِيلِ الْوَاقِعِ بِكَمَالِ هَيْئَتِهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [٤٨: ١١].
نَارًا أَيْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِعَذَابِ النَّارِ أَوْ مَا يُشْبِهُ النَّارَ فِي ضَرَرِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ أَفْوَاهَهُمْ تُمْلَأُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمْرًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُمْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ يُجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرٌ مِنْ نَارٍ فَيُقْذَفُ فِي أَجْوَافِهِمْ، أَيْ مُثِّلَ لَهُ عَذَابُهُمْ بِمَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِجَعْلِ أَكْلِ النَّارِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِجَعْلِ يَأْكُلُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لِلْحَالِ بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وَهُوَ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَحُجَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَلْيَ السَّعِيرِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دُخُولِ النَّارِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَكْلُ النَّارِ لِمَنْ يَأْكُلُهَا بَعْدَ دُخُولِهَا، أَيْ دُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا ; لِأَنَّ جُلَّ الْعَذَابِ فِيهَا يَكُونُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ لَكَانَ لَفْظُهَا هَكَذَا: " فَسَيَأْكُلُونَ نَارًا وَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا " فَالْأَكْلُ عَذَابُ بَاطِنِ الْبَدَنِ لِأَنَّ مُعْظَمَ اغْتِيَالِ الْمَالِ يَكُونُ لِلْأَكْلِ، وَالصِّلِيُّ عَذَابُ ظَاهِرِهِ فَهُوَ جَزَاءُ اللِّبَاسِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَكِنَّهُ
328
لَمَّا ذَكَرَ يَأْكُلُونَ غُفْلًا مِنْ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ " يَصْلَوْنَ " مَقْرُونًا بِالسِّينِ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ الِاسْتِقْبَالِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ الْآنَ مَالَا خَيْرَ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ ; لِأَنَّهُ فِي قُبْحِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ كَالنَّارِ، أَوْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُجْزَوْنَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْمَجَازُ فِي أَكْلِ النَّارِ فَقَالَ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وَلَمْ أَرَ أَحَدًا حَقَّقَ هَذَا الْبَحْثَ وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي الْآيَةِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.
يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
329
أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِيمَا قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَوَائِلِ السُّورَةِ بِإِعْطَاءِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا لَا يُحْسِنُ تَثْمِيرَ الْمَالِ وَلَا حِفْظَهُ، فَيُثَمِّرُهُ لَهُ الْوَلِيُّ وَيَحْفَظُهُ لَهُ إِلَى أَنْ يَرْشُدَ، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَبْطَلَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِهِمْ. فَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ أَحْكَامَ الْمِيرَاثِ وَفَرَائِضِهِ، فَكَانَ بَيَانُهُ فِي هَاتَيْنِ، وَآيَةٌ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ بَعْدَ نُزُولِهَا فَبَطَلَ بِهَا، وَبِقَوْلِهِ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [٨: ٧٥] مَا كَانَ مِنْ نِظَامِ التَّوَارُثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
أَمَّا الْجَاهِلِيَّةُ فَكَانَتْ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَهَا ثَلَاثَةً:
أَحَدُهَا: النَّسَبُ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ، وَيُقَاتِلُونَ الْأَعْدَاءَ، وَيَأْخُذُونَ الْغَنَائِمَ لَيْسَ لِلضَّعِيفَيْنِ: الطِّفْلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ.
ثَانِيهَا: التَّبَنِّي، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَنَّى وَلَدَ غَيْرِهِ فَيَرِثُهُ،
وَيَكُونُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ التَّبَنِّيَ بِآيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَنَفَّذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِمُطَلَّقَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
ثَالِثُهَا: الْحَلِفُ وَالْعَهْدُ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي، وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ. فَإِذَا تَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتُرِطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَبْطُلْ إِلَّا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ جَعَلَ التَّوَارُثَ أَوَّلًا بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ الْبَعِيدَ، وَلَا يَرِثُهُ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَاخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَقَدْ نُسِخَ هَذَا، وَذَاكَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ أَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ ثَلَاثَةٌ: النَّسَبُ، وَالصِّهْرُ، وَالْوَلَاءُ، وَحِكْمَةُ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالرَّحِمِ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لِقِلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّنَاصُرِ، وَالتَّكَافُلِ بَيْنَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَتَرَكَ ذُو الْمَالِ مِنْهُمْ فِيهَا.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ قَدْ نُسِخَتْ أَيْضًا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ، وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُفَصِّلَتَيْنِ لِأَحْكَامِ الْإِرْثِ قَدْ جَعَلَتَا الْوَصِيَّةَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ، وَأَكَّدَتْ ذَلِكَ بِتَكْرَارِهِ عِنْدَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرَائِضِ فِيهَا، وَتَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَأْكِيدٌ يُنَافِي النَّسْخَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [٢: ١٨٠] الْآيَاتِ [
أَمَّا الْجَاهِلِيَّةُ فَكَانَتْ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَهَا ثَلَاثَةً:
أَحَدُهَا: النَّسَبُ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ، وَيُقَاتِلُونَ الْأَعْدَاءَ، وَيَأْخُذُونَ الْغَنَائِمَ لَيْسَ لِلضَّعِيفَيْنِ: الطِّفْلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ.
ثَانِيهَا: التَّبَنِّي، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَنَّى وَلَدَ غَيْرِهِ فَيَرِثُهُ،
وَيَكُونُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ التَّبَنِّيَ بِآيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَنَفَّذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِمُطَلَّقَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
ثَالِثُهَا: الْحَلِفُ وَالْعَهْدُ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي، وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ. فَإِذَا تَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتُرِطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَبْطُلْ إِلَّا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ جَعَلَ التَّوَارُثَ أَوَّلًا بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ الْبَعِيدَ، وَلَا يَرِثُهُ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَاخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَقَدْ نُسِخَ هَذَا، وَذَاكَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ أَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ ثَلَاثَةٌ: النَّسَبُ، وَالصِّهْرُ، وَالْوَلَاءُ، وَحِكْمَةُ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالرَّحِمِ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لِقِلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّنَاصُرِ، وَالتَّكَافُلِ بَيْنَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَتَرَكَ ذُو الْمَالِ مِنْهُمْ فِيهَا.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ قَدْ نُسِخَتْ أَيْضًا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ، وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُفَصِّلَتَيْنِ لِأَحْكَامِ الْإِرْثِ قَدْ جَعَلَتَا الْوَصِيَّةَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ، وَأَكَّدَتْ ذَلِكَ بِتَكْرَارِهِ عِنْدَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرَائِضِ فِيهَا، وَتَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَأْكِيدٌ يُنَافِي النَّسْخَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [٢: ١٨٠] الْآيَاتِ [
330
فِي ص١٠٨ - وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَأَعَادَ مَا قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ فَتَرَكْنَا إِعَادَتَهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالْإِحَالَةِ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّهِ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: " جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. فَقَالَ: يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ
فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ أَوَّلُ تَرِكَةٍ قُسِّمَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ عَامٌّ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأُمَّةِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ وَيُنَفِّذُونَ الْوَصِيَّةَ، وَلِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْآيَةَ، وَمَا بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْآيَةَ. وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ; إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا - وَمِنْهَا تِلْكَ الْآيَةُ الْمُجْمَلَةُ - فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَالتَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَيَجُوزُ عَلَى فَرْضِ التَّأْخِيرِ، وَالتَّرَاخِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى أَبْطَلَتْ هَضْمَ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالطِّفْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ. وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ نُزُولِهَا قَدْ كَثُرُوا وَكَثُرَ أَقَارِبُهُمْ مِنْهُمْ، وَاسْتَعَدُّوا بِذَلِكَ لِنَسْخِ أَسْبَابِ الْإِرْثِ الْأُولَى الْمُوَقَّتَةِ بِأَسْبَابِ الْإِرْثِ الدَّائِمَةِ فَلَمَّا اسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ نَزَلَ التَّفْصِيلُ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ.
يُوصِيكُمُ اللهُ مِنَ الْإِيصَاءِ وَالِاسْمُ الْوَصِيَّةُ، وَهِيَ كَمَا أَفْهَمُ مِنْ ذَوْقِ اللُّغَةِ، وَاسْتِعْمَالِ أَهْلِهَا فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهَا: مَا تَعْهَدُ بِهِ إِلَى غَيْرِكَ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ أَوِ الْبَعِيدِ، يَقُولُونَ: يُسَافِرُ فُلَانٌ إِلَى بَلَدِ كَذَا، وَأَوْصَيْتُهُ، أَوْ وَصَّيْتُهُ بِأَنْ يُحْضِرَ لِي مَعَهُ كَذَا، وَيَقُولُونَ: وَصَّيْتُ الْمُعَلِّمَ بِأَنْ يُرَاقِبَ آدَابَ الصَّبِيِّ وَيُؤَدِّبَهُ عَلَى مَا يُسِيءُ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ الْحَاضِرِ، أَوِ الْعَمَلِ أَوْصَيْتُ، وَلَا وَصَّيْتُ. وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ لَوْلَا أَنَّنِي رَأَيْتُ الرَّازِيَّ يَنْقُلُ عَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّ الْإِيصَاءَ بِمَعْنَى الْإِيصَالِ، يُقَالُ وَصَّى يَصِي مِنَ الثُّلَاثِيِّ
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: " جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. فَقَالَ: يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ
فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ أَوَّلُ تَرِكَةٍ قُسِّمَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ عَامٌّ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأُمَّةِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ وَيُنَفِّذُونَ الْوَصِيَّةَ، وَلِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْآيَةَ، وَمَا بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْآيَةَ. وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ; إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا - وَمِنْهَا تِلْكَ الْآيَةُ الْمُجْمَلَةُ - فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَالتَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَيَجُوزُ عَلَى فَرْضِ التَّأْخِيرِ، وَالتَّرَاخِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى أَبْطَلَتْ هَضْمَ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالطِّفْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ. وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ نُزُولِهَا قَدْ كَثُرُوا وَكَثُرَ أَقَارِبُهُمْ مِنْهُمْ، وَاسْتَعَدُّوا بِذَلِكَ لِنَسْخِ أَسْبَابِ الْإِرْثِ الْأُولَى الْمُوَقَّتَةِ بِأَسْبَابِ الْإِرْثِ الدَّائِمَةِ فَلَمَّا اسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ نَزَلَ التَّفْصِيلُ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ.
يُوصِيكُمُ اللهُ مِنَ الْإِيصَاءِ وَالِاسْمُ الْوَصِيَّةُ، وَهِيَ كَمَا أَفْهَمُ مِنْ ذَوْقِ اللُّغَةِ، وَاسْتِعْمَالِ أَهْلِهَا فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهَا: مَا تَعْهَدُ بِهِ إِلَى غَيْرِكَ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ أَوِ الْبَعِيدِ، يَقُولُونَ: يُسَافِرُ فُلَانٌ إِلَى بَلَدِ كَذَا، وَأَوْصَيْتُهُ، أَوْ وَصَّيْتُهُ بِأَنْ يُحْضِرَ لِي مَعَهُ كَذَا، وَيَقُولُونَ: وَصَّيْتُ الْمُعَلِّمَ بِأَنْ يُرَاقِبَ آدَابَ الصَّبِيِّ وَيُؤَدِّبَهُ عَلَى مَا يُسِيءُ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ الْحَاضِرِ، أَوِ الْعَمَلِ أَوْصَيْتُ، وَلَا وَصَّيْتُ. وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ لَوْلَا أَنَّنِي رَأَيْتُ الرَّازِيَّ يَنْقُلُ عَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّ الْإِيصَاءَ بِمَعْنَى الْإِيصَالِ، يُقَالُ وَصَّى يَصِي مِنَ الثُّلَاثِيِّ
331
بِمَعْنَى وَصَلَ يَصِلُ، وَأَوْصَى يُوصِي بِمَعْنَى أَوْصَلَ
يُوصِلُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي الْآيَةِ يُوصِلُكُمُ اللهُ إِلَى إِيفَاءَ حُقُوقِ أَوْلَادِكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ مَعْنَاهَا يَفْرِضُ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الرَّاغِبِ فَرَأَيْتُهُ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ التَّقَدُّمُ إِلَى الْغَيْرِ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْضٌ وَاصِيَةٌ مُتَّصِلَةُ النَّبَاتِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُرْجِعْنِي عَنْ فَهْمِي الْأَوَّلِ.
فِي أَوْلَادِكُمْ أَيْ فِي شَأْنِ أَوْلَادِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ، أَوْ مِيرَاثِهِمْ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِمَّا تَتْرُكُونَهُ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا كِبَارًا أَمْ صِغَارًا: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ، فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي مَفْهُومِ الْأَوْلَادِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لَفْظَ الْأَوْلَادِ يَتَنَاوَلُهُمْ حَقِيقَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أَوْلَادٌ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي قِيَامِ أَوْلَادِ الْبَنِينَ مَقَامَ وَالِدَيْهِمْ عِنْدَ فَقْدِهِمْ وَعَدَمِ إِرْثِهِمْ مَعَ وُجُودِهِمْ لِأَنَّ النَّسَبَ لِلذُّكُورِ كَمَا قَالَ الشِّعْرُ:
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَسَنِ ابْنِ بِنْتِهِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -: ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ - كَمَا فِي الصَّحِيحِ - مَبْنِيٌّ عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ فِي جَعْلِ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بِنْتِهِ، أَوْ مِنْ صُلْبِ عَلِيٍّ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. وَأَمَّا الْخُنْثَى فَيُنْظَرُ فِي عَلَامَاتِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِيهِ، فَأَيُّهُمَا رَجَحَ حُكِمَ بِهِ. وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ لِلْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ الْعَارِفِينَ.
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ يُعْرَفُ بِالْبَوْلِ، فَالْعُضْوُ الَّذِي يَبُولُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يُرَجِّحُ ذُكُورَتَهُ أَوْ أُنُوثَتَهُ.
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْوَصِيَّةِ فِي إِرْثِ الْأَوْلَادِ، وَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي بَابِهِ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - أَيْ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلُ نَصِيبِ اثْنَتَيْنِ مِنْ إِنَاثِهِمْ إِذَا كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَاخْتِيرَ فِيهَا هَذَا التَّعْبِيرُ لِلْإِشْعَارِ بِإِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مَنْعِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ إِرْثَ الْأُنْثَى مُقَرَّرًا مَعْرُوفًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَهُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ جَعَلَهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّشْرِيعِ، وَجَعَلَ إِرْثَ الذَّكَرِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ يُعْرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: لِلْأُنْثَى نِصْفُ حَظِّ الذَّكَرِ، وَإِذًا لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَلْتَئِمُ السِّيَاقُ بَعْدَهُ كَمَا تَرَى ; أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا تَرَاهُ فِي بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ تَقْدِيمِ
بَيَانِ مَا لِلْإِنَاثِ بِالْمَنْطُوقِ الصَّرِيحِ مُطْلَقًا، أَوْ مَعَ مُقَابَلَتِهِ بِمَا لِلذُّكُورِ كَمَا تَرَى فِي فَرَائِضِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الْفَرَائِضِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ غَيْرُ بَيَانِ هَذِهِ النُّكْتَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ نُكْتَةِ الْخِطَابِ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ حَظِّ الذَّكَرِ كَحَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هِيَ أَنَّ الذَّكَرَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى
يُوصِلُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي الْآيَةِ يُوصِلُكُمُ اللهُ إِلَى إِيفَاءَ حُقُوقِ أَوْلَادِكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ مَعْنَاهَا يَفْرِضُ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الرَّاغِبِ فَرَأَيْتُهُ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ التَّقَدُّمُ إِلَى الْغَيْرِ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْضٌ وَاصِيَةٌ مُتَّصِلَةُ النَّبَاتِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُرْجِعْنِي عَنْ فَهْمِي الْأَوَّلِ.
فِي أَوْلَادِكُمْ أَيْ فِي شَأْنِ أَوْلَادِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ، أَوْ مِيرَاثِهِمْ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِمَّا تَتْرُكُونَهُ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا كِبَارًا أَمْ صِغَارًا: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ، فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي مَفْهُومِ الْأَوْلَادِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لَفْظَ الْأَوْلَادِ يَتَنَاوَلُهُمْ حَقِيقَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أَوْلَادٌ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي قِيَامِ أَوْلَادِ الْبَنِينَ مَقَامَ وَالِدَيْهِمْ عِنْدَ فَقْدِهِمْ وَعَدَمِ إِرْثِهِمْ مَعَ وُجُودِهِمْ لِأَنَّ النَّسَبَ لِلذُّكُورِ كَمَا قَالَ الشِّعْرُ:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا، وَبَنَاتُنَا | بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ |
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ يُعْرَفُ بِالْبَوْلِ، فَالْعُضْوُ الَّذِي يَبُولُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يُرَجِّحُ ذُكُورَتَهُ أَوْ أُنُوثَتَهُ.
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْوَصِيَّةِ فِي إِرْثِ الْأَوْلَادِ، وَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي بَابِهِ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - أَيْ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلُ نَصِيبِ اثْنَتَيْنِ مِنْ إِنَاثِهِمْ إِذَا كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَاخْتِيرَ فِيهَا هَذَا التَّعْبِيرُ لِلْإِشْعَارِ بِإِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مَنْعِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ إِرْثَ الْأُنْثَى مُقَرَّرًا مَعْرُوفًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَهُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ جَعَلَهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّشْرِيعِ، وَجَعَلَ إِرْثَ الذَّكَرِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ يُعْرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: لِلْأُنْثَى نِصْفُ حَظِّ الذَّكَرِ، وَإِذًا لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَلْتَئِمُ السِّيَاقُ بَعْدَهُ كَمَا تَرَى ; أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا تَرَاهُ فِي بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ تَقْدِيمِ
بَيَانِ مَا لِلْإِنَاثِ بِالْمَنْطُوقِ الصَّرِيحِ مُطْلَقًا، أَوْ مَعَ مُقَابَلَتِهِ بِمَا لِلذُّكُورِ كَمَا تَرَى فِي فَرَائِضِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الْفَرَائِضِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ غَيْرُ بَيَانِ هَذِهِ النُّكْتَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ نُكْتَةِ الْخِطَابِ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ حَظِّ الذَّكَرِ كَحَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هِيَ أَنَّ الذَّكَرَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى
332
نَفْسِهِ، وَعَلَى زَوْجِهِ، فَكَانَ لَهُ سَهْمَانِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَهِيَ تُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ كَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ نَصِيبُ الْأُنْثَى مِنَ الْإِرْثِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الذَّكَرِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفَقَاتِهِمَا.
وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ نَقْصِ عُقُولِهِنَّ، وَغَلَبَةِ شَهْوَتِهِنَّ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي الْوُجُوهِ الْمُنْكَرَةِ فَهُوَ قَوْلٌ مُنْكَرٌ شَنِيعٌ، وَضَعْفُ عُقُولِهِنَّ لَا يَقْتَضِي نَقْصَ نَصِيبِهِنَّ، بَلْ رُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي زِيَادَتَهُ كَضَعْفِ أَبْدَانِهِنَّ لِقِلَّةِ حِيلَتِهِنَّ فِي الْكَسْبِ وَعَجْزِهِنَّ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْمِيرَاثَ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْمَعْقُولِ، وَمَا أَرَى الرِّوَايَةَ صَحِيحَةً، كَمَا أَنَّ مَعْنَاهَا غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِمَا عَلِمْتُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا. وَأَمَّا مَا يَزْعُمُونَ مِنْ كَوْنِ شَهْوَتِهِنَّ أَقْوَى مِنْ شَهْوَةِ الرِّجَالِ، وَمَا بَنَوْهُ عَلَيْهِ مِنْ إِفْضَائِهِ إِلَى كَثْرَةِ إِنْفَاقِ الْمَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ بِالِاخْتِيَارِ أَنَّ الرِّجَالَ هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الْكَثِيرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ إِرْضَاءِ شَهَوَاتِهِمْ، وَقَلَّمَا نَسْمَعُ أَنَّ امْرَأَةً أَنْفَقَتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَهُنَّ يَأْخُذْنَ وَلَا يُعْطِينَ، وَالرِّجَالُ هُمُ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى شَهْوَةً، وَأَشَدُّ ضَرَاوَةً، نَعَمْ إِنَّ النِّسَاءَ يَمِلْنَ إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالشَّرْعُ يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ فَلَا تَكُونُ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عُلِمَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُنَّ كَثِيرًا مَا يُرَجِّحْنَ الِاقْتِصَادَ إِذَا كَانَ أَمْرُ النَّفَقَةِ مَوْكُولًا إِلَيْهِنَّ ; فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَالِدِ، أَوِ الزَّوْجِ فَلَا يَكَادُ إِسْرَافُهُنَّ يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَلِهَذَا نَرَى بَعْضَ الرِّجَالِ الْمُقْتَصِدِينَ يَكِلُونَ أَمْرَ النَّفَقَةِ فِي بُيُوتِهِمْ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ فَتَقِلُّ النَّفَقَةُ وَيَتَوَفَّرُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَتَوَفَّرُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَوْلَادِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا، وَيَخْرُجُ بِالسُّنَّةِ إِذْ تَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْكَافِرَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ لِمَا عُلِمَ مِنْ
أَنَّ كُفْرَهُ قَطَعَ الصِّلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْمُؤْمِنِ كَمَا عُلِمَ مِنْ سُورَةِ هُودٍ الْمَكِّيَّةِ، قَالَ - تَعَالَى -: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [١١: ٤٥، ٤٦] فَقَدْ أُخْرِجَ مِنْ أَهْلِهِ بِكُفْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فِي الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ بِالْأَوْلَادِ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ لَفْظَ أَوْلَادِكُمْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ابْتِدَاءً، لَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ.
وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْقَاتِلُ عَمْدًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَيَخْرُجُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَقُولُ: إِنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ الْإِرْثِ عُقُوبَةٌ مَالِيَّةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالسُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَنْ يُعَاقَبَ أَيُّ مُذْنِبٍ بِعُقُوبَةٍ مَالِيَّةٍ، أَوْ بَدَنِيَّةٍ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأُمَمِ، أَيْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ عَقْلًا وَلَا قُبْحَ
وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ نَقْصِ عُقُولِهِنَّ، وَغَلَبَةِ شَهْوَتِهِنَّ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي الْوُجُوهِ الْمُنْكَرَةِ فَهُوَ قَوْلٌ مُنْكَرٌ شَنِيعٌ، وَضَعْفُ عُقُولِهِنَّ لَا يَقْتَضِي نَقْصَ نَصِيبِهِنَّ، بَلْ رُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي زِيَادَتَهُ كَضَعْفِ أَبْدَانِهِنَّ لِقِلَّةِ حِيلَتِهِنَّ فِي الْكَسْبِ وَعَجْزِهِنَّ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْمِيرَاثَ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْمَعْقُولِ، وَمَا أَرَى الرِّوَايَةَ صَحِيحَةً، كَمَا أَنَّ مَعْنَاهَا غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِمَا عَلِمْتُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا. وَأَمَّا مَا يَزْعُمُونَ مِنْ كَوْنِ شَهْوَتِهِنَّ أَقْوَى مِنْ شَهْوَةِ الرِّجَالِ، وَمَا بَنَوْهُ عَلَيْهِ مِنْ إِفْضَائِهِ إِلَى كَثْرَةِ إِنْفَاقِ الْمَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ بِالِاخْتِيَارِ أَنَّ الرِّجَالَ هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الْكَثِيرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ إِرْضَاءِ شَهَوَاتِهِمْ، وَقَلَّمَا نَسْمَعُ أَنَّ امْرَأَةً أَنْفَقَتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَهُنَّ يَأْخُذْنَ وَلَا يُعْطِينَ، وَالرِّجَالُ هُمُ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى شَهْوَةً، وَأَشَدُّ ضَرَاوَةً، نَعَمْ إِنَّ النِّسَاءَ يَمِلْنَ إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالشَّرْعُ يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ فَلَا تَكُونُ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عُلِمَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُنَّ كَثِيرًا مَا يُرَجِّحْنَ الِاقْتِصَادَ إِذَا كَانَ أَمْرُ النَّفَقَةِ مَوْكُولًا إِلَيْهِنَّ ; فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَالِدِ، أَوِ الزَّوْجِ فَلَا يَكَادُ إِسْرَافُهُنَّ يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَلِهَذَا نَرَى بَعْضَ الرِّجَالِ الْمُقْتَصِدِينَ يَكِلُونَ أَمْرَ النَّفَقَةِ فِي بُيُوتِهِمْ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ فَتَقِلُّ النَّفَقَةُ وَيَتَوَفَّرُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَتَوَفَّرُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَوْلَادِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا، وَيَخْرُجُ بِالسُّنَّةِ إِذْ تَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْكَافِرَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ لِمَا عُلِمَ مِنْ
أَنَّ كُفْرَهُ قَطَعَ الصِّلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْمُؤْمِنِ كَمَا عُلِمَ مِنْ سُورَةِ هُودٍ الْمَكِّيَّةِ، قَالَ - تَعَالَى -: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [١١: ٤٥، ٤٦] فَقَدْ أُخْرِجَ مِنْ أَهْلِهِ بِكُفْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فِي الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ بِالْأَوْلَادِ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ لَفْظَ أَوْلَادِكُمْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ابْتِدَاءً، لَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ.
وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْقَاتِلُ عَمْدًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَيَخْرُجُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَقُولُ: إِنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ الْإِرْثِ عُقُوبَةٌ مَالِيَّةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالسُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَنْ يُعَاقَبَ أَيُّ مُذْنِبٍ بِعُقُوبَةٍ مَالِيَّةٍ، أَوْ بَدَنِيَّةٍ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأُمَمِ، أَيْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ عَقْلًا وَلَا قُبْحَ
333
فِيهِ. فَمَنْعُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ هُوَ فَرْعُ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ فَهُوَ لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لِعُمُومِهِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا ; إِذْ يُقَالُ: إِنَّ لَهُ حَقَّهُ مِنَ الْإِرْثِ بِنَصِّ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّرِيعَةَ عَاقَبَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ لِوَالِدِهِ بِحِرْمَانِهِ مِنْ حَقِّهِ فِي تَرِكَتِهِ لِيَرْتَدِعَ أَمْثَالُهُ، وَتُسَدَّ ذَرِيعَةُ الْفَسَادِ عَلَى الْأَشْرَارِ الطَّامِعِينَ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ التَّمَتُّعَ بِمَا فِي أَيْدِي وَالِدَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَمَنِ اسْتَعْجَلَ الشَّيْءَ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ.
وَيَدْخُلُ فِيهِ الرَّقِيقُ أَيْضًا، وَالرِّقُّ مَانِعٌ مِنَ الْإِرْثِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَمْلِكُ، بَلْ كُلُّ مَا يَصِلُ إِلَى يَدِهِ مِنَ الْمَالِ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ، وَمَالِكِهِ، فَلَوْ أَعْطَيْنَاهُ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْئًا لَكُنَّا مُعْطِينَ ذَلِكَ لِسَيِّدِهِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ هُوَ الْوَارِثُ بِالْفِعْلِ، وَلَمَّا كَانَ الرِّقُّ عَارِضًا، وَخِلَافَ الْأَصْلِ، وَمَرْغُوبًا عَنْهُ فِي الشَّرْعِ جُعِلَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْآيَةِ، وَإِطْلَاقَهَا، وَلَا تُعَدُّ مُنَافَاتُهُ لِلْإِرْثِ خُرُوجًا مِنْ حُكْمِهَا.
وَأَمَّا الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ الْوَارِدِ عَلَى لِسَانِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ، أَوْ مِنْ كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمَأْمُورِ هُوَ بِتَبْلِيغِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ، وَإِنَّهُ اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِحَدِيثِ: نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الشِّيعَةِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِيهِ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي فَرَأَيْنَا أَنْ نَنْقُلَ كَلَامَهُ فِيهِ بِنَصِّهِ قَالَ:
" وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْعُمُومِ الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُتَنَاوِلَةِ لَهُ لُغَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَأَخَذَ الشِّيعَةُ بِالْعُمُومِ، وَعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَطَعَنُوا بِذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَيْثُ لَمْ يُورِثِ الزَّهْرَاءَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَتْ لَهُ بِزَعْمِهِمْ: يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، أَنْتَ تَرِثُ أَبَاكَ، وَأَنَا لَا أَرِثُ أَبِي، أَيُّ إِنْصَافٍ هَذَا! ؟ وَقَالُوا: إِنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَبِتَسْلِيمِ أَنَّهُ رَوَاهُ غَيْرُهُ أَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ بَلْ آحَادٌ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْآحَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَدَّ خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً لَمَّا كَانَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْكِنُوهُنَّ [٦٥: ٦] فَقَالَ: " كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ امْرَأَةٍ؟ " فَلَوْ جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْآحَادِ لَخَصَّصَ بِهِ، وَلَمْ يَرُدَّهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ كَوْنَهُ خَبَرَ امْرَأَةٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِهِ، وَأَيْضًا الْعَامُّ وَهُوَ الْكِتَابُ قَطْعِيٌّ، وَالْخَاصُّ وَهُوَ خَبَرُ الْآحَادِ ظَنِّيٌّ، فَيَلْزَمُ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ، وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [٢٧: ١٦] وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ - حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
وَيَدْخُلُ فِيهِ الرَّقِيقُ أَيْضًا، وَالرِّقُّ مَانِعٌ مِنَ الْإِرْثِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَمْلِكُ، بَلْ كُلُّ مَا يَصِلُ إِلَى يَدِهِ مِنَ الْمَالِ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ، وَمَالِكِهِ، فَلَوْ أَعْطَيْنَاهُ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْئًا لَكُنَّا مُعْطِينَ ذَلِكَ لِسَيِّدِهِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ هُوَ الْوَارِثُ بِالْفِعْلِ، وَلَمَّا كَانَ الرِّقُّ عَارِضًا، وَخِلَافَ الْأَصْلِ، وَمَرْغُوبًا عَنْهُ فِي الشَّرْعِ جُعِلَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْآيَةِ، وَإِطْلَاقَهَا، وَلَا تُعَدُّ مُنَافَاتُهُ لِلْإِرْثِ خُرُوجًا مِنْ حُكْمِهَا.
وَأَمَّا الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ الْوَارِدِ عَلَى لِسَانِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ، أَوْ مِنْ كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمَأْمُورِ هُوَ بِتَبْلِيغِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ، وَإِنَّهُ اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِحَدِيثِ: نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الشِّيعَةِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِيهِ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي فَرَأَيْنَا أَنْ نَنْقُلَ كَلَامَهُ فِيهِ بِنَصِّهِ قَالَ:
" وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْعُمُومِ الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُتَنَاوِلَةِ لَهُ لُغَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَأَخَذَ الشِّيعَةُ بِالْعُمُومِ، وَعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَطَعَنُوا بِذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَيْثُ لَمْ يُورِثِ الزَّهْرَاءَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَتْ لَهُ بِزَعْمِهِمْ: يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، أَنْتَ تَرِثُ أَبَاكَ، وَأَنَا لَا أَرِثُ أَبِي، أَيُّ إِنْصَافٍ هَذَا! ؟ وَقَالُوا: إِنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَبِتَسْلِيمِ أَنَّهُ رَوَاهُ غَيْرُهُ أَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ بَلْ آحَادٌ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْآحَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَدَّ خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً لَمَّا كَانَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْكِنُوهُنَّ [٦٥: ٦] فَقَالَ: " كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ امْرَأَةٍ؟ " فَلَوْ جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْآحَادِ لَخَصَّصَ بِهِ، وَلَمْ يَرُدَّهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ كَوْنَهُ خَبَرَ امْرَأَةٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِهِ، وَأَيْضًا الْعَامُّ وَهُوَ الْكِتَابُ قَطْعِيٌّ، وَالْخَاصُّ وَهُوَ خَبَرُ الْآحَادِ ظَنِّيٌّ، فَيَلْزَمُ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ، وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [٢٧: ١٦] وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ - حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
334
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [١٩: ٥، ٦] فَإِنَّ ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَرِثُونَ وَيُورَثُونَ.
" وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ بِمَحْضِرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: " أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ؟ قَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ - تَعَالَى - هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: اللهُمَّ نَعَمْ ".
فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَفِي كُتُبِ الشِّيعَةِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَقَدْ رَوَى الْكِلِينِيُّ فِي الْكَافِي، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا أَحَادِيثَ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ. وَكَلِمَةُ " إِنَّمَا " مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ قَطْعًا بِاعْتِرَافِ الشِّيعَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرِّثُونَ غَيْرَ الْعِلْمِ، وَالْأَحَادِيثِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالتَّوَارِيخِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمَعْصُومِينَ عِنْدَ الشِّيعَةِ، وَالْمَحْفُوظِينَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَمِلُوا بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّ تَرِكَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَقَعَتْ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُعْطُوا مِنْهَا الْعَبَّاسَ وَلَا بَنِيهِ وَلَا الْأَزْوَاجَ الْمُطَهَّرَاتِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ الْمِيرَاثُ جَارِيًا فِي تِلْكَ التَّرِكَةِ لَشَارَكُوهُمْ فِيهَا قَطْعًا.
" فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا التَّوَاتُرُ فَحَبَّذَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، وَبَقِيَ الْخَبَرُ مِنَ الْآحَادِ فَنَقُولُ: إِنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِجَوَازِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - خَصَّصُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [٤: ٢٤] وَيَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، فَخُضَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَنْكِحُوا الْمَرْأَةَ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَالشِّيعَةُ أَيْضًا قَدْ خَصَّصُوا عُمُومَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُوَرِّثُونَ الزَّوْجَةَ مِنَ الْعَقَارِ، وَيَخُصُّونَ أَكْبَرَ أَبْنَاءِ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ بِالسَّيْفِ، وَالْمُصْحَفِ، وَالْخَاتَمِ، وَاللِّبَاسِ، بِدُونِ بَدَلٍ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ
" وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ بِمَحْضِرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: " أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ؟ قَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ - تَعَالَى - هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: اللهُمَّ نَعَمْ ".
فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَفِي كُتُبِ الشِّيعَةِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَقَدْ رَوَى الْكِلِينِيُّ فِي الْكَافِي، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا أَحَادِيثَ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ. وَكَلِمَةُ " إِنَّمَا " مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ قَطْعًا بِاعْتِرَافِ الشِّيعَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرِّثُونَ غَيْرَ الْعِلْمِ، وَالْأَحَادِيثِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالتَّوَارِيخِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمَعْصُومِينَ عِنْدَ الشِّيعَةِ، وَالْمَحْفُوظِينَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَمِلُوا بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّ تَرِكَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَقَعَتْ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُعْطُوا مِنْهَا الْعَبَّاسَ وَلَا بَنِيهِ وَلَا الْأَزْوَاجَ الْمُطَهَّرَاتِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ الْمِيرَاثُ جَارِيًا فِي تِلْكَ التَّرِكَةِ لَشَارَكُوهُمْ فِيهَا قَطْعًا.
" فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا التَّوَاتُرُ فَحَبَّذَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، وَبَقِيَ الْخَبَرُ مِنَ الْآحَادِ فَنَقُولُ: إِنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِجَوَازِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - خَصَّصُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [٤: ٢٤] وَيَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، فَخُضَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَنْكِحُوا الْمَرْأَةَ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَالشِّيعَةُ أَيْضًا قَدْ خَصَّصُوا عُمُومَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُوَرِّثُونَ الزَّوْجَةَ مِنَ الْعَقَارِ، وَيَخُصُّونَ أَكْبَرَ أَبْنَاءِ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ بِالسَّيْفِ، وَالْمُصْحَفِ، وَالْخَاتَمِ، وَاللِّبَاسِ، بِدُونِ بَدَلٍ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ
335
فِيمَا مَرَّ. وَيَسْتَنِدُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَحَادِيثِ آحَادٍ تَفَرَّدُوا بِرِوَايَتِهَا مَعَ أَنَّ عُمُومَ الْآيَاتِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِخَبَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مُجَابٌ عَنْهُ بِأَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا رَدَّ خَبَرَ ابْنَةِ قَيْسٍ لِتَرَدُّدِهِ فِي صِدْقِهَا، وَكَذِبِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصْدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ. فَعَلَّلَ الرَّدَّ بِالتَّرَدُّدِ فِي
صِدْقِهَا وَكَذِبِهَا لَا بِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ. وَكَوْنُ التَّخْصِيصِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ مَرْدُودٌ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَقَعَ فِي الدَّلَالَةِ ; لِأَنَّهُ دَفْعٌ لِلدَّلَالَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ بَلْ هُوَ تَرْكٌ لِلظَّنِّيِّ بِالظَّنِّيِّ.
" وَمَا زَعَمُوهُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرُوهُمَا عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ فِي غَايَةِ الْوَهْنِ ; لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ فِيهِمَا وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ، وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ لَا وِرَاثَةَ الْعُرُوضِ وَالْأَمْوَالِ.
" وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا كَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْكِلِينِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَرِثَ سُلَيْمَانَ ; فَإِنَّ وِرَاثَةَ الْمَالِ بَيْنَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ بِوَجْهٍ. وَأَيْضًا إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّأْرِيخِ - كَانَ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ ابْنًا، وَكُلُّهُمْ كَانُوا وَرَثَةً بِالْمَعْنَى الَّذِي يَزْعُمُهُ الْخَصْمُ. فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ بِالذِّكْرِ دُونَ بَعْضٍ فِي وِرَاثَةِ الْمَالِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ خُصُوصِيَّةٍ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَا بِخِلَافِ وِرَاثَةِ الْعِلْمِ، وَالنُّبُوَّةِ.
وَأَيْضًا تَوْصِيفُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتِلْكَ الْوِرَاثَةِ مِمَّا لَا يُوجِبُ كَمَالًا، وَلَا يَسْتَدْعِي امْتِيَازًا ; لِأَنَّ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَأَيُّ دَاعٍ لِذِكْرِ هَذِهِ الْوِرَاثَةِ فِي بَيَانِ فَضَائِلِ هَذَا النَّبِيِّ وَمَنَاقِبهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -! ؟ " وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ أَيْضًا، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوِرَاثَةِ فِيهَا وِرَاثَةَ الْمَالِ كَانَ الْكَلَامُ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِالسَّفْسَطَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِآلِ يَعْقُوبَ حِينَئِذٍ إِنْ كَانَ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ يَلْزَمُ أَنَّ مَالَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَاقِيًا غَيْرَ مَقْسُومٍ إِلَى عَهْدِ زَكَرِيَّا، وَبَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَهُوَ كَمَا تَرَى! ! وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ يَحْيَى وَارِثًا جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَهَذَا أَفْحَشُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بَعْضَ الْأَوْلَادِ، أَوْ أُرِيدَ مِنْ يَعْقُوبَ غَيْرُ الْمُتَبَادِرِ وَهُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، يُقَالُ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي وَصْفِ هَذَا الْوَلِيِّ عِنْدَ طَلَبِهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ يَرِثُ أَبَاهُ، وَيَرِثُ بَعْضَ ذَوِي قَرَابَتِهِ؟ وَالِابْنُ وَارِثُ الْأَبِ وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْوِرَاثَةَ تُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْوَلِيِّ بِلَا تَكَلُّفٍ وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَأْكِيدٍ.
وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْأَنْظَارِ الْعَالِيَةِ، وَهِمَمِ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي انْقَطَعَتْ مِنْ تَعَلُّقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي، وَاتَّصَلَتْ بِحَظَائِرِ الْقُدْسِ الْحَقَّانِيِّ مَيْلٌ لِلْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ حَتَّى يَسْأَلَ
حَضْرَةُ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مَالُهُ وَيَصِلُ إِلَى يَدِهِ مَتَاعُهُ، وَيُظْهِرُ لِفَوَاتِ ذَلِكَ
صِدْقِهَا وَكَذِبِهَا لَا بِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ. وَكَوْنُ التَّخْصِيصِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ مَرْدُودٌ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَقَعَ فِي الدَّلَالَةِ ; لِأَنَّهُ دَفْعٌ لِلدَّلَالَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ بَلْ هُوَ تَرْكٌ لِلظَّنِّيِّ بِالظَّنِّيِّ.
" وَمَا زَعَمُوهُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرُوهُمَا عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ فِي غَايَةِ الْوَهْنِ ; لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ فِيهِمَا وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ، وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ لَا وِرَاثَةَ الْعُرُوضِ وَالْأَمْوَالِ.
" وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا كَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْكِلِينِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَرِثَ سُلَيْمَانَ ; فَإِنَّ وِرَاثَةَ الْمَالِ بَيْنَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ بِوَجْهٍ. وَأَيْضًا إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّأْرِيخِ - كَانَ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ ابْنًا، وَكُلُّهُمْ كَانُوا وَرَثَةً بِالْمَعْنَى الَّذِي يَزْعُمُهُ الْخَصْمُ. فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ بِالذِّكْرِ دُونَ بَعْضٍ فِي وِرَاثَةِ الْمَالِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ خُصُوصِيَّةٍ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَا بِخِلَافِ وِرَاثَةِ الْعِلْمِ، وَالنُّبُوَّةِ.
وَأَيْضًا تَوْصِيفُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتِلْكَ الْوِرَاثَةِ مِمَّا لَا يُوجِبُ كَمَالًا، وَلَا يَسْتَدْعِي امْتِيَازًا ; لِأَنَّ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَأَيُّ دَاعٍ لِذِكْرِ هَذِهِ الْوِرَاثَةِ فِي بَيَانِ فَضَائِلِ هَذَا النَّبِيِّ وَمَنَاقِبهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -! ؟ " وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ أَيْضًا، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوِرَاثَةِ فِيهَا وِرَاثَةَ الْمَالِ كَانَ الْكَلَامُ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِالسَّفْسَطَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِآلِ يَعْقُوبَ حِينَئِذٍ إِنْ كَانَ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ يَلْزَمُ أَنَّ مَالَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَاقِيًا غَيْرَ مَقْسُومٍ إِلَى عَهْدِ زَكَرِيَّا، وَبَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَهُوَ كَمَا تَرَى! ! وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ يَحْيَى وَارِثًا جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَهَذَا أَفْحَشُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بَعْضَ الْأَوْلَادِ، أَوْ أُرِيدَ مِنْ يَعْقُوبَ غَيْرُ الْمُتَبَادِرِ وَهُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، يُقَالُ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي وَصْفِ هَذَا الْوَلِيِّ عِنْدَ طَلَبِهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ يَرِثُ أَبَاهُ، وَيَرِثُ بَعْضَ ذَوِي قَرَابَتِهِ؟ وَالِابْنُ وَارِثُ الْأَبِ وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْوِرَاثَةَ تُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْوَلِيِّ بِلَا تَكَلُّفٍ وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَأْكِيدٍ.
وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْأَنْظَارِ الْعَالِيَةِ، وَهِمَمِ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي انْقَطَعَتْ مِنْ تَعَلُّقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي، وَاتَّصَلَتْ بِحَظَائِرِ الْقُدْسِ الْحَقَّانِيِّ مَيْلٌ لِلْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ حَتَّى يَسْأَلَ
حَضْرَةُ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مَالُهُ وَيَصِلُ إِلَى يَدِهِ مَتَاعُهُ، وَيُظْهِرُ لِفَوَاتِ ذَلِكَ
336
الْحُزْنَ وَالْخَوْفَ ; فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي صَرِيحًا كَمَالَ الْمَحَبَّةِ، وَتَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ سَاحَتِهِ الْعَلِيَّةِ وَهِمَّتِهِ الْقُدْسِيَّةِ، وَأَيْضًا لَا مَعْنَى لِخَوْفِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ صَرْفِ بَنِي أَعْمَامِهِ مَالَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الصَّرْفُ فِي طَاعَةٍ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ فَلِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَانْتَقَلَ الْمَالُ إِلَى الْوَارِثِ وَصَرَفَهُ فِي الْمَعَاصِي فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا عِتَابَ، عَلَى أَنَّ دَفْعَ هَذَا الْخَوْفِ كَانَ مُتَيَسِّرًا لَهُ بِأَنْ يَصْرِفَهُ، وَيَتَصَدَّقَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى - قَبْلَ وَفَاتِهِ وَيَتْرُكُ وَرَثَتَهُ عَلَى أَنْقَى مِنَ الرَّاحَةِ، وَاحْتِمَالُ مَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَعَدَمُ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَنْتَهِضُ عِنْدَ الشِّيعَةِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عِنْدَهُمْ يَعْلَمُونَ وَقْتَ مَوْتِهِمْ. فَمَا مُرَادُ ذَلِكَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوِرَاثَةِ إِلَّا وِرَاثَةَ الْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَالْعِلْمِ، وَالنُّبُوَّةِ الْمُرَشِّحَةِ لِمَنْصِبِ الْحُبُورَةِ ; فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَشِيَ مِنْ أَشْرَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُحَرِّفُوا الْأَحْكَامَ الْإِلَهِيَّةَ، وَالشَّرَائِعَ الرَّبَّانِيَّةَ، وَلَا يَحْفَظُوا عِلْمَهُ، وَلَا يَعْمَلُوا بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَسَادِ الْعَظِيمِ، فَطَلَبَ الْوَلَدَ لِيُجْرِيَ أَحْكَامَ اللهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ، وَيُرَوِّجَ الشَّرِيعَةَ، وَيَكُونَ مَحَطَّ رِحَالِ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَاتِّصَالِ الثَّوَابِ، وَالرَّغْبَةِ فِي مِثْلِهِ مِنْ شَأْنِ ذَوِي النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْقُلُوبِ الطَّاهِرَةِ الزَّكِيَّةِ.
" فَإِنْ قِيلَ الْوِرَاثَةُ فِي وِرَاثَةِ الْعِلْمِ مَجَازٌ وَفِي وِرَاثَةِ الْمَالِ حَقِيقَةٌ وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ بِلَا ضَرُورَةٍ، فَمَا الضَّرُورَةُ هُنَا؟ أُجِيبُ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَا حِفْظُ كَلَامِ الْمَعْصُومِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَأَيْضًا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ الْوِرَاثَةِ حَقِيقَةً فِي الْمَالِ فَقَطْ بَلْ صَارَ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصًّا بِالْمَالِ، وَفِي أَصْلِ الْوَضْعِ إِطْلَاقُهُ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ، وَالْمَالِ، وَالْمَنْصِبِ صَحِيحٌ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَجَازٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَجَازَ مُتَعَارَفٌ، وَمَشْهُورٌ بِحَيْثُ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ خُصُوصًا فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ [٣٥: ٣٢] وَأُورِثُوا الْكِتَابَ [٤٢: ١٤] إِلَى غَيْرِ مَا آيَةٍ ".
" وَمِنَ الشِّيعَةِ مَنْ أَوْرَدَ هُنَا بَحْثًا: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَمْ يُوَرِّثْ أَحَدًا فَلِمَ أُعْطِيَتْ أَزْوَاجُهُ الطَّاهِرَاتُ حُجُرَاتِهِنَّ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مُغَالَطَةٌ لِأَنَّ إِفْرَازَ الْحُجُرَاتِ لِلْأَزْوَاجِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُنَّ لَا مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ، بَلْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى كُلَّ حُجْرَةٍ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَصَارَتِ الْهِبَةُ مَعَ الْقَبْضِ مُتَحَقِّقَةً وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ، وَقَدْ بَنَى
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ لِفَاطِمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) وَأُسَامَةَ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمَا، وَكَانَ كُلُّ مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِمَّا بَنَاهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ عَلَى عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ مَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَسَنَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ اسْتَأْذَنَ مِنْ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) وَسَأَلَهَا أَنْ تُعْطِيَهُ مَوْضِعًا لِلدَّفْنِ فِي جِوَارِ جَدِّهِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْحُجْرَةُ مِلْكَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِئْذَانِ، وَالسُّؤَالِ مَعْنًى، وَفِي الْقُرْآنِ نَوْعُ إِشَارَةٍ إِلَى كَوْنِ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ مَالِكَاتٍ لِتِلْكَ الْحُجَرِ، حَيْثُ قَالَ
" فَإِنْ قِيلَ الْوِرَاثَةُ فِي وِرَاثَةِ الْعِلْمِ مَجَازٌ وَفِي وِرَاثَةِ الْمَالِ حَقِيقَةٌ وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ بِلَا ضَرُورَةٍ، فَمَا الضَّرُورَةُ هُنَا؟ أُجِيبُ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَا حِفْظُ كَلَامِ الْمَعْصُومِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَأَيْضًا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ الْوِرَاثَةِ حَقِيقَةً فِي الْمَالِ فَقَطْ بَلْ صَارَ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصًّا بِالْمَالِ، وَفِي أَصْلِ الْوَضْعِ إِطْلَاقُهُ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ، وَالْمَالِ، وَالْمَنْصِبِ صَحِيحٌ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَجَازٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَجَازَ مُتَعَارَفٌ، وَمَشْهُورٌ بِحَيْثُ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ خُصُوصًا فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ [٣٥: ٣٢] وَأُورِثُوا الْكِتَابَ [٤٢: ١٤] إِلَى غَيْرِ مَا آيَةٍ ".
" وَمِنَ الشِّيعَةِ مَنْ أَوْرَدَ هُنَا بَحْثًا: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَمْ يُوَرِّثْ أَحَدًا فَلِمَ أُعْطِيَتْ أَزْوَاجُهُ الطَّاهِرَاتُ حُجُرَاتِهِنَّ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مُغَالَطَةٌ لِأَنَّ إِفْرَازَ الْحُجُرَاتِ لِلْأَزْوَاجِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُنَّ لَا مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ، بَلْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى كُلَّ حُجْرَةٍ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَصَارَتِ الْهِبَةُ مَعَ الْقَبْضِ مُتَحَقِّقَةً وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ، وَقَدْ بَنَى
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ لِفَاطِمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) وَأُسَامَةَ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمَا، وَكَانَ كُلُّ مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِمَّا بَنَاهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ عَلَى عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ مَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَسَنَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ اسْتَأْذَنَ مِنْ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) وَسَأَلَهَا أَنْ تُعْطِيَهُ مَوْضِعًا لِلدَّفْنِ فِي جِوَارِ جَدِّهِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْحُجْرَةُ مِلْكَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِئْذَانِ، وَالسُّؤَالِ مَعْنًى، وَفِي الْقُرْآنِ نَوْعُ إِشَارَةٍ إِلَى كَوْنِ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ مَالِكَاتٍ لِتِلْكَ الْحُجَرِ، حَيْثُ قَالَ
337
سُبْحَانَهُ -: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [٣٣: ٣٣] فَأَضَافَ الْبُيُوتَ إِلَيْهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ: فِي بُيُوتِ الرَّسُولِ.
" وَمِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ أَجَابَ عَنْ أَصْلِ الْبَحْثِ بِأَنَّ الْمَالَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ فِي حُكْمِ الْوَقْفِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ لِخَلِيفَةِ الْوَقْتِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ كَمَا خَصَّ الصِّدِّيقُ جَنَابَ الْأَمِيرِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) بِسَيْفٍ، وَدِرْعٍ، وَبَغْلَةٍ شَهْبَاءَ تُسَمَّى الدُّلْدُلَ مَعَ أَنَّ الْأَمِيرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَمْ يَرِثِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهٍ، وَقَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّ الصِّدِّيقَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ بَعْضًا مِنْ مَتْرُوكَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَاطِمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فَدَكَ مَعَ أَنَّهَا طَلَبَتْهَا إِرْثًا، وَانْحَرَفَ مِزَاجُ رِضَاهَا (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) بِالْمَنْعِ إِجْمَاعًا، وَعَدَلَتْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى دَعْوَى الْهِبَةِ، وَأَتَتْ بَعَلِيٍّ، وَالْحَسَنَيْنِ، وَأُمِّ أَيْمَنَ لِلشَّهَادَةِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ بِزَعْمِ الشِّيعَةِ، وَلَمْ تُمَكَّنْ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ رَآهُمَا الْخَلِيفَةُ إِذْ ذَاكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَسْلَمِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَبْقَرِيَّةِ، وَالصَّوْلَةِ الْحَيْدَرِيَّةِ، وَأَطَالَ فِيهِ.
" وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) خَصَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَبَرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِلَا شُبْهَةٍ، وَالْعَمَلُ بِسَمَاعِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ سَمِعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ.
" وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ تَقْسِيمَ الْخَبَرِ إِلَى الْمُتَوَاتِرِ وَغَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يُشَاهِدُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعُوا خَبَرَهُ بِوَاسِطَةِ
الرُّوَاةِ لَا فِي حَقِّ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعَ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَخَبَرُ " نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ قَطْعِيٌّ ; لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ كَالْمُتَوَاتِرِ بَلْ أَعْلَى كَعْبًا مِنْهُ، وَالْقَطْعِيُّ يُخَصِّصُ الْقَطْعِيَّ اتِّفَاقًا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ، وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا نِسْبَةُ الْوِرَاثَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - لِمَا عَلِمْتَ.
" وَدَعْوَى الزَّهْرَاءِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فَدَكًا بِحَسَبِ الْوِرَاثَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ بَلْ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخِلٍّ بِقَدْرِهَا، وَرِفْعَةِ شَأْنِهَا، وَمَزِيدِ عِلْمِهَا، وَكَذَا أَخْذُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ حُجُرَاتِهِنَّ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا مَرَّ وَجَلَا، وَعُدُولُهَا إِلَى دَعْوَى الْهِبَةِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ عِنْدَنَا، بَلِ الْمُتَحَقِّقُ دَعْوَى الْإِرْثِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهَا دَعْوَى الْهِبَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا أَتَتْ بِأُولَئِكَ الْأَطْهَارِ شُهُودًا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَمْ تَكُنْ فَدَكُ فِي قَبْضَةِ الزَّهْرَاءِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فِي وَقْتٍ، فَلَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لِطَلَبِ الشُّهُودِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ أُولَئِكَ الْأَطْهَارَ شَهِدُوا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ بَلْ لَمْ يَقْضِ بِهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ الْقَضَاءِ هُنَا وَالرَّدِّ ; فَإِنَّ الثَّانِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ لِتُهْمَةِ كَذِبٍ مَثَلًا، وَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِمْضَاءِ لِفَقْدِ بَعْضِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ بَعْدَ الْعَدَالَةِ، وَانْحِرَافُ مِزَاجِ رِضَا الزَّهْرَاءِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْبَشَرِيَّةِ. وَقَدْ
" وَمِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ أَجَابَ عَنْ أَصْلِ الْبَحْثِ بِأَنَّ الْمَالَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ فِي حُكْمِ الْوَقْفِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ لِخَلِيفَةِ الْوَقْتِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ كَمَا خَصَّ الصِّدِّيقُ جَنَابَ الْأَمِيرِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) بِسَيْفٍ، وَدِرْعٍ، وَبَغْلَةٍ شَهْبَاءَ تُسَمَّى الدُّلْدُلَ مَعَ أَنَّ الْأَمِيرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَمْ يَرِثِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهٍ، وَقَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّ الصِّدِّيقَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ بَعْضًا مِنْ مَتْرُوكَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَاطِمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فَدَكَ مَعَ أَنَّهَا طَلَبَتْهَا إِرْثًا، وَانْحَرَفَ مِزَاجُ رِضَاهَا (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) بِالْمَنْعِ إِجْمَاعًا، وَعَدَلَتْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى دَعْوَى الْهِبَةِ، وَأَتَتْ بَعَلِيٍّ، وَالْحَسَنَيْنِ، وَأُمِّ أَيْمَنَ لِلشَّهَادَةِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ بِزَعْمِ الشِّيعَةِ، وَلَمْ تُمَكَّنْ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ رَآهُمَا الْخَلِيفَةُ إِذْ ذَاكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَسْلَمِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَبْقَرِيَّةِ، وَالصَّوْلَةِ الْحَيْدَرِيَّةِ، وَأَطَالَ فِيهِ.
" وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) خَصَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَبَرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِلَا شُبْهَةٍ، وَالْعَمَلُ بِسَمَاعِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ سَمِعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ.
" وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ تَقْسِيمَ الْخَبَرِ إِلَى الْمُتَوَاتِرِ وَغَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يُشَاهِدُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعُوا خَبَرَهُ بِوَاسِطَةِ
الرُّوَاةِ لَا فِي حَقِّ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعَ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَخَبَرُ " نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ قَطْعِيٌّ ; لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ كَالْمُتَوَاتِرِ بَلْ أَعْلَى كَعْبًا مِنْهُ، وَالْقَطْعِيُّ يُخَصِّصُ الْقَطْعِيَّ اتِّفَاقًا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ، وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا نِسْبَةُ الْوِرَاثَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - لِمَا عَلِمْتَ.
" وَدَعْوَى الزَّهْرَاءِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فَدَكًا بِحَسَبِ الْوِرَاثَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ بَلْ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخِلٍّ بِقَدْرِهَا، وَرِفْعَةِ شَأْنِهَا، وَمَزِيدِ عِلْمِهَا، وَكَذَا أَخْذُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ حُجُرَاتِهِنَّ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا مَرَّ وَجَلَا، وَعُدُولُهَا إِلَى دَعْوَى الْهِبَةِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ عِنْدَنَا، بَلِ الْمُتَحَقِّقُ دَعْوَى الْإِرْثِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهَا دَعْوَى الْهِبَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا أَتَتْ بِأُولَئِكَ الْأَطْهَارِ شُهُودًا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَمْ تَكُنْ فَدَكُ فِي قَبْضَةِ الزَّهْرَاءِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فِي وَقْتٍ، فَلَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لِطَلَبِ الشُّهُودِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ أُولَئِكَ الْأَطْهَارَ شَهِدُوا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ بَلْ لَمْ يَقْضِ بِهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ الْقَضَاءِ هُنَا وَالرَّدِّ ; فَإِنَّ الثَّانِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ لِتُهْمَةِ كَذِبٍ مَثَلًا، وَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِمْضَاءِ لِفَقْدِ بَعْضِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ بَعْدَ الْعَدَالَةِ، وَانْحِرَافُ مِزَاجِ رِضَا الزَّهْرَاءِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْبَشَرِيَّةِ. وَقَدْ
338
غَضِبَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَخِيهِ الْأَكْبَرِ هَارُونَ حَتَّى أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَرَأْسِهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ قَدْرَيْهِمَا شَيْئًا، عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرْضَاهَا (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مُسْتَشْفِعًا إِلَيْهَا بِعَلِيٍّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَرَضِيَتْ عَنْهُ كَمَا فِي مِدْرَاجِ النُّبُوَّةِ، وَكِتَابِ الْوَفَاءِ، وَشَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِلدَّهْلَوِيِّ وَغَيْرِهَا.
" وَفِي مَحَاجِّ السَّالِكِينَ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْإِمَامِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْفَصْلَ حَيْثُ رَوَوْا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا رَأَى فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - انْقَبَضَتْ عَنْهُ، وَهَجَرَتْهُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ فَدَكَ كَبُرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، فَأَرَادَ اسْتِرْضَاءَهَا، فَأَتَاهَا، فَقَالَ: صَدَقْتِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا ادَّعَيْتِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسِّمُهَا فَيُعْطِي الْفُقَرَاءَ، وَالْمَسَاكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ بَعْدَ أَنْ يُؤْتِيَ مِنْهَا قُوتَكُمْ فَمَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِهَا؟ فَقَالَتْ: أَفْعَلُ فِيهَا كَمَا كَانَ أَبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ فِيهَا، فَقَالَ: لَكِ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ أَفْعَلَ فِيهَا مَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُوكِ فَقَالَتْ: وَاللهِ لَتَفْعَلَنَّ! فَقَالَ: وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: اللهُمَّ
اشْهَدْ، وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ وَأَخَذَتِ الْعَهْدَ عَلَيْهِ. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعْطِيهِمْ مِنْهَا قُوتَهُمْ، وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ.
" وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ عَدَمِ تَمْكِينِهَا - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ دَفْعُ الِالْتِبَاسِ، وَسَدُّ بَابِ الطَّلَبِ الْمُنْجَرِّ إِلَى كَسْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُلُوبِ، أَوْ تَضْيِيقِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَرَدَ " الْمُؤْمِنُ إِذَا ابْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ اخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا " عَلَى أَنَّ رِضَا الزَّهْرَاءِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - بَعْدُ عَلَى الصِّدِّيقِ سَدَّ بَابَ الطَّعْنِ عَلَيْهِ أَصَابَ فِي الْمَنْعِ أَمْ لَمْ يُصِبْ، وَسُبْحَانَ الْمُوَفِّقِ لِلصَّوَابِ، وَالْعَاصِمِ أَنْبِيَاءَهُ عَنِ الْخَطَأِ فِي فَصْلِ الْخِطَابِ " اهـ.
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً أَيْ فَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ - وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ - وَقِيلَ: الْمَوْلُودَاتُ، أَوِ الْوَارِثَاتُ نِسَاءً لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أَيْ زَائِدَاتٍ عَلَى اثْنَتَيْنِ مَهْمَا بَلَغَ عَدَدُهُنَّ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَالِدُهُنَّ الْمُتَوَفَّى، أَوْ وَالِدَتُهُنَّ وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْلُودَةُ، أَوِ الْوَارِثَةُ امْرَأَةً وَاحِدَةً وَنَصْبُ " وَاحِدَةً " هُوَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَهَا نَافِعٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ فَإِنْ وُجِدَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ مَعَهَا أَخٌ وَلَا أُخْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ مِمَّا تَرَكَ، وَالْبَاقِي لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، يُعْرَفُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ مَحَلِّهِ.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي إِرْثِ الْأَوْلَادِ وَهُمْ أَقْرَبُ الطَّبَقَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ، وَقَدْ فَصَّلَ فِيهِ فُرُوضَ الْإِنَاثِ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِذَا كُنَّ مَعَ الذُّكُورِ كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْهُنَّ، فَإِذَا كَانَا ذَكَرًا، وَأُنْثَى مَثَلًا أَخَذَ الذَّكَرُ الثُّلُثَيْنِ، وَالْأُنْثَى الثُّلُثَ، وَإِذَا كَانُوا ذَكَرًا، وَأُنْثَيَيْنِ أَخَذَ الذَّكَرُ النِّصْفَ وَالْأُنْثَيَانِ النِّصْفَ الْآخَرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِفُهُ، وَهُوَ رُبْعُ التَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
وَإِذَا كُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ بِالْإِرْثِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِنَّ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ، وَالثُّلُثَانِ لِلْجَمْعِ، وَسَكَتَ عَنِ الثِّنْتَيْنِ، فَاخْتُلِفَ فِيهِمَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لَهُمَا النِّصْفَ كَالْوَاحِدَةِ،
" وَفِي مَحَاجِّ السَّالِكِينَ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْإِمَامِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْفَصْلَ حَيْثُ رَوَوْا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا رَأَى فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - انْقَبَضَتْ عَنْهُ، وَهَجَرَتْهُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ فَدَكَ كَبُرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، فَأَرَادَ اسْتِرْضَاءَهَا، فَأَتَاهَا، فَقَالَ: صَدَقْتِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا ادَّعَيْتِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسِّمُهَا فَيُعْطِي الْفُقَرَاءَ، وَالْمَسَاكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ بَعْدَ أَنْ يُؤْتِيَ مِنْهَا قُوتَكُمْ فَمَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِهَا؟ فَقَالَتْ: أَفْعَلُ فِيهَا كَمَا كَانَ أَبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ فِيهَا، فَقَالَ: لَكِ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ أَفْعَلَ فِيهَا مَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُوكِ فَقَالَتْ: وَاللهِ لَتَفْعَلَنَّ! فَقَالَ: وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: اللهُمَّ
اشْهَدْ، وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ وَأَخَذَتِ الْعَهْدَ عَلَيْهِ. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعْطِيهِمْ مِنْهَا قُوتَهُمْ، وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ.
" وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ عَدَمِ تَمْكِينِهَا - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ دَفْعُ الِالْتِبَاسِ، وَسَدُّ بَابِ الطَّلَبِ الْمُنْجَرِّ إِلَى كَسْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُلُوبِ، أَوْ تَضْيِيقِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَرَدَ " الْمُؤْمِنُ إِذَا ابْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ اخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا " عَلَى أَنَّ رِضَا الزَّهْرَاءِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - بَعْدُ عَلَى الصِّدِّيقِ سَدَّ بَابَ الطَّعْنِ عَلَيْهِ أَصَابَ فِي الْمَنْعِ أَمْ لَمْ يُصِبْ، وَسُبْحَانَ الْمُوَفِّقِ لِلصَّوَابِ، وَالْعَاصِمِ أَنْبِيَاءَهُ عَنِ الْخَطَأِ فِي فَصْلِ الْخِطَابِ " اهـ.
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً أَيْ فَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ - وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ - وَقِيلَ: الْمَوْلُودَاتُ، أَوِ الْوَارِثَاتُ نِسَاءً لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أَيْ زَائِدَاتٍ عَلَى اثْنَتَيْنِ مَهْمَا بَلَغَ عَدَدُهُنَّ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَالِدُهُنَّ الْمُتَوَفَّى، أَوْ وَالِدَتُهُنَّ وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْلُودَةُ، أَوِ الْوَارِثَةُ امْرَأَةً وَاحِدَةً وَنَصْبُ " وَاحِدَةً " هُوَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَهَا نَافِعٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ فَإِنْ وُجِدَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ مَعَهَا أَخٌ وَلَا أُخْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ مِمَّا تَرَكَ، وَالْبَاقِي لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، يُعْرَفُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ مَحَلِّهِ.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي إِرْثِ الْأَوْلَادِ وَهُمْ أَقْرَبُ الطَّبَقَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ، وَقَدْ فَصَّلَ فِيهِ فُرُوضَ الْإِنَاثِ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِذَا كُنَّ مَعَ الذُّكُورِ كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْهُنَّ، فَإِذَا كَانَا ذَكَرًا، وَأُنْثَى مَثَلًا أَخَذَ الذَّكَرُ الثُّلُثَيْنِ، وَالْأُنْثَى الثُّلُثَ، وَإِذَا كَانُوا ذَكَرًا، وَأُنْثَيَيْنِ أَخَذَ الذَّكَرُ النِّصْفَ وَالْأُنْثَيَانِ النِّصْفَ الْآخَرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِفُهُ، وَهُوَ رُبْعُ التَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
وَإِذَا كُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ بِالْإِرْثِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِنَّ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ، وَالثُّلُثَانِ لِلْجَمْعِ، وَسَكَتَ عَنِ الثِّنْتَيْنِ، فَاخْتُلِفَ فِيهِمَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لَهُمَا النِّصْفَ كَالْوَاحِدَةِ،
339
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَهُمَا الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِوُجُوهٍ أَظْهَرُهَا اثْنَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ مَعَ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ يَرِثُ الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ
الثُّلُثَانِ هُمَا حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ حُكْمَهَا مَأْخُوذٌ مِنْ مَنْطُوقِ الْآيَةِ، وَيَدُلُّ لَهُ عَطْفُ حُكْمِ الْجَمْعِ مِنْهُنَّ وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ حُكْمِ الْوَاحِدَة بِالْفَاءِ.
(وَثَانِيهِمَا) : الْقِيَاسُ عَلَى الْأَخَوَاتِ ; فَإِنَّهُ ذَكَرَ حُكْمَهُنَّ فِي آخِرِ السُّورَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [٤: ١٧٦]، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ مَجْمُوعِ الْكَلَامِ عَلَى إِرْثِ الْبَنَاتِ هُنَا وَالْأَخَوَاتِ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَقَدْ تَرَكَ هُنَاكَ حُكْمَ الْجَمْعِ مِنَ الْأَخَوَاتِ كَمَا تَرَكَ هَنَا حُكْمَ الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْبَنَاتِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ حُكْمُ الْمَتْرُوكِ مِنَ الْأُخْرَى فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِبَاكِ. وَسَنُعِيدُ بَيَانَهُ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ.
وَلَسْتُ أَرْضَى قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ فَوْقَ زَائِدَةٌ، وَلَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى اثْنَتَيْنِ فَفَوْقَ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي الْإِنَاثِ أَنَّ الْبَنَاتِ لَا يَسْتَغْرِقُ فَرْضُهُنَّ التَّرِكَةَ، وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَلَدَ الذَّكَرَ إِذَا انْفَرَدَ يَأْخُذُ التَّرِكَةَ كُلَّهَا، وَإِذَا كَانَ مَعَهُ أَخٌ لَهُ فَأَكْثَرُ كَانَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا، أَوْ بَيْنَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ حُكْمِ الْأَوْلَادِ إِلَى حُكْمِ الْوَالِدَيْنِ، وَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مُسْتَحِقِّي الْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ يَتَّصِلُونَ بِالْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَقَالَ:
وَلِأَبَوَيْهِ أَيْ أَبَوَيِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ لَا يَتَوَقَّفُ الذِّهْنُ فِي ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ لَا يَتَفَاضَلَانِ فِيهَا كَمَا يَتَفَاضَلُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَقَامِ الْأُمِّ بِحَيْثُ تُسَاوِي الْأَبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَلَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَا يَتَفَاضَلَانِ فِي الزَّوْجِيَّةِ، وَغَيْرِهَا. وَهَذَا إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ الَّذِي يَتَقَاسَمُهُ الْوَالِدَانِ يَكُونُ لِأَوْلَادِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ مَا، لَا وَلَدَ صُلْبٍ، وَلَا وَلَدَ ابْنٍ، أَوِ ابْنِ ابْنٍ إلخ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَقَطْ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ انْحِصَارِ الْإِرْثِ فِيهِمَا وَهَاهُنَا يَدْخُلُ الْأَبَوَانِ فِي قَاعِدَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كُلٌّ فِي طَبَقَتِهِ، وَإِنَّمَا تَسَاوَيَا مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ لِيَكُونَ احْتِرَامُهُمْ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَفْضُلُ الْأُمَّ هَنَا بِالْفَرِيضَةِ بَلْ لَهُ السُّدُسُ فَرْضًا وَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِالتَّعْصِيبِ إِذْ لَا عُصَبَةَ هُنَا سِوَاهُ. وَإِنَّمَا كَانَ حَظُّ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْإِرْثِ أَقَلَّ مِنْ حَظِّ الْأَوْلَادِ مَعَ مُعْظَمِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ ; لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي الْغَالِبِ
أَقَلَّ حَاجَةً مِنَ الْأَوْلَادِ إِمَّا لِكِبَرِهِمَا، وَقِلَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِمَا، وَإِمَّا لِاسْتِقْلَالِهِمَا، وَتَمَوُّلِهِمَا، وَإِمَّا لِوُجُودِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا مِنْ أَوْلَادِهِمَا الْأَحْيَاءِ، وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا صِغَارًا لَا يَقْدِرُونَ
(أَحَدُهُمَا) : مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ مَعَ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ يَرِثُ الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ
الثُّلُثَانِ هُمَا حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ حُكْمَهَا مَأْخُوذٌ مِنْ مَنْطُوقِ الْآيَةِ، وَيَدُلُّ لَهُ عَطْفُ حُكْمِ الْجَمْعِ مِنْهُنَّ وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ حُكْمِ الْوَاحِدَة بِالْفَاءِ.
(وَثَانِيهِمَا) : الْقِيَاسُ عَلَى الْأَخَوَاتِ ; فَإِنَّهُ ذَكَرَ حُكْمَهُنَّ فِي آخِرِ السُّورَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [٤: ١٧٦]، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ مَجْمُوعِ الْكَلَامِ عَلَى إِرْثِ الْبَنَاتِ هُنَا وَالْأَخَوَاتِ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَقَدْ تَرَكَ هُنَاكَ حُكْمَ الْجَمْعِ مِنَ الْأَخَوَاتِ كَمَا تَرَكَ هَنَا حُكْمَ الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْبَنَاتِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ حُكْمُ الْمَتْرُوكِ مِنَ الْأُخْرَى فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِبَاكِ. وَسَنُعِيدُ بَيَانَهُ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ.
وَلَسْتُ أَرْضَى قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ فَوْقَ زَائِدَةٌ، وَلَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى اثْنَتَيْنِ فَفَوْقَ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي الْإِنَاثِ أَنَّ الْبَنَاتِ لَا يَسْتَغْرِقُ فَرْضُهُنَّ التَّرِكَةَ، وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَلَدَ الذَّكَرَ إِذَا انْفَرَدَ يَأْخُذُ التَّرِكَةَ كُلَّهَا، وَإِذَا كَانَ مَعَهُ أَخٌ لَهُ فَأَكْثَرُ كَانَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا، أَوْ بَيْنَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ حُكْمِ الْأَوْلَادِ إِلَى حُكْمِ الْوَالِدَيْنِ، وَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مُسْتَحِقِّي الْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ يَتَّصِلُونَ بِالْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَقَالَ:
وَلِأَبَوَيْهِ أَيْ أَبَوَيِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ لَا يَتَوَقَّفُ الذِّهْنُ فِي ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ لَا يَتَفَاضَلَانِ فِيهَا كَمَا يَتَفَاضَلُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَقَامِ الْأُمِّ بِحَيْثُ تُسَاوِي الْأَبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَلَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَا يَتَفَاضَلَانِ فِي الزَّوْجِيَّةِ، وَغَيْرِهَا. وَهَذَا إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ الَّذِي يَتَقَاسَمُهُ الْوَالِدَانِ يَكُونُ لِأَوْلَادِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ مَا، لَا وَلَدَ صُلْبٍ، وَلَا وَلَدَ ابْنٍ، أَوِ ابْنِ ابْنٍ إلخ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَقَطْ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ انْحِصَارِ الْإِرْثِ فِيهِمَا وَهَاهُنَا يَدْخُلُ الْأَبَوَانِ فِي قَاعِدَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كُلٌّ فِي طَبَقَتِهِ، وَإِنَّمَا تَسَاوَيَا مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ لِيَكُونَ احْتِرَامُهُمْ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَفْضُلُ الْأُمَّ هَنَا بِالْفَرِيضَةِ بَلْ لَهُ السُّدُسُ فَرْضًا وَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِالتَّعْصِيبِ إِذْ لَا عُصَبَةَ هُنَا سِوَاهُ. وَإِنَّمَا كَانَ حَظُّ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْإِرْثِ أَقَلَّ مِنْ حَظِّ الْأَوْلَادِ مَعَ مُعْظَمِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ ; لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي الْغَالِبِ
أَقَلَّ حَاجَةً مِنَ الْأَوْلَادِ إِمَّا لِكِبَرِهِمَا، وَقِلَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِمَا، وَإِمَّا لِاسْتِقْلَالِهِمَا، وَتَمَوُّلِهِمَا، وَإِمَّا لِوُجُودِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا مِنْ أَوْلَادِهِمَا الْأَحْيَاءِ، وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا صِغَارًا لَا يَقْدِرُونَ
340
عَلَى الْكَسْبِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى كِبَرِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى نَفَقَةِ الزَّوَاجِ، وَتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، فَلِهَذَا، وَذَاكَ كَانَ حَظُّهُمْ مِنَ الْإِرْثِ أَكْثَرَ مِنْ حَظِّ الْوَالِدَيْنِ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ أَيِ الْمَيِّتِ مَعَ إِرْثِ أَبَوَيْهِ لَهُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ ذُكُورًا، أَوْ إِنَاثًا مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، كُلُّ جَمْعٍ مِنْهُمْ يَحْجُبُ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يَحْجُبُهَا الْوَاحِدُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَخَوَيْنِ أَوِ الْأُخْتَيْنِ، فَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمَا كَالْجَمْعِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ: بِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَإِنَّمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى بِهِ مَنْ قَبْلِي، وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ. فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الِاثْنَيْنِ لَا يُعَدَّانِ جَمْعًا، وَإِجَازَةُ عُثْمَانَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [٦٦: ٤] وَلَيْسَ لِلْمُخَاطَبَتَيْنِ بِهَذَا إِلَّا قَلْبَانِ. وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، فَالْعَرَبُ إِنَّمَا تَجْمَعُ الْمُثَنَّى إِذَا أَضَافَتْهُ إِلَى ضَمِيرِهِ كَرَاهَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ " هَذَانِ جَمَاعَةٌ "، وَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِي الْجَمْعِ اللُّغَوِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَقَلِّ مَا تَحْصُلُ بِهِ فَضِيلَةُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَوَصَفَ النِّسَاءَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى اثْنَتَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ، وَهُوَ - كَمَا تَرَى - لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا قَالَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ. جَرَى عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، فَقَالُوا: إِنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ وَحَقِيقَتَهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقَ، فَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي الِاثْنَيْنِ كَانَتْ مَجَازًا.
إِذًا مَا هُوَ دَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى حَجْبِ الْأُمِّ بِالْأَخَوَيْنِ، وَبِالْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ مَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ)، وَلَيْسَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَعْلَمَ مِنْهُمْ، وَلَا أَدَقَّ فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ؟ الظَّاهِرُ لَنَا أَنَّ اللُّغَةَ إِذَا لَمْ تَدُلَّ فِي أَصْلِهَا عَلَى دُخُولِ الِاثْنَيْنِ فِي إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلَوْ عَلَى قِلَّةٍ، بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنَ الشَّوَاهِدِ. فَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَعَلَ لِلِاثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمْعِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْإِرْثِ، إِذْ جَعَلَ لِلْأُخْتَيْنِ، وَالْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ ذَكَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْبِنْتَيْنِ الْمَسْكُوتَ عَنْهُمَا كَالْأُخْتَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا، وَالْأَخَوَاتِ الْمَسْكُوتَ عَنْهُنَّ كَالْبَنَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِنَّ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِي أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا حَذَفَ نَظِيرَهُ مِنْ مُقَابِلِهِ، وَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا بَيَّنَ
فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ أَيِ الْمَيِّتِ مَعَ إِرْثِ أَبَوَيْهِ لَهُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ ذُكُورًا، أَوْ إِنَاثًا مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، كُلُّ جَمْعٍ مِنْهُمْ يَحْجُبُ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يَحْجُبُهَا الْوَاحِدُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَخَوَيْنِ أَوِ الْأُخْتَيْنِ، فَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمَا كَالْجَمْعِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ: بِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَإِنَّمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى بِهِ مَنْ قَبْلِي، وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ. فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الِاثْنَيْنِ لَا يُعَدَّانِ جَمْعًا، وَإِجَازَةُ عُثْمَانَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [٦٦: ٤] وَلَيْسَ لِلْمُخَاطَبَتَيْنِ بِهَذَا إِلَّا قَلْبَانِ. وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، فَالْعَرَبُ إِنَّمَا تَجْمَعُ الْمُثَنَّى إِذَا أَضَافَتْهُ إِلَى ضَمِيرِهِ كَرَاهَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ " هَذَانِ جَمَاعَةٌ "، وَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِي الْجَمْعِ اللُّغَوِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَقَلِّ مَا تَحْصُلُ بِهِ فَضِيلَةُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَوَصَفَ النِّسَاءَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى اثْنَتَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ، وَهُوَ - كَمَا تَرَى - لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا قَالَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ. جَرَى عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، فَقَالُوا: إِنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ وَحَقِيقَتَهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقَ، فَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي الِاثْنَيْنِ كَانَتْ مَجَازًا.
إِذًا مَا هُوَ دَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى حَجْبِ الْأُمِّ بِالْأَخَوَيْنِ، وَبِالْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ مَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ)، وَلَيْسَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَعْلَمَ مِنْهُمْ، وَلَا أَدَقَّ فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ؟ الظَّاهِرُ لَنَا أَنَّ اللُّغَةَ إِذَا لَمْ تَدُلَّ فِي أَصْلِهَا عَلَى دُخُولِ الِاثْنَيْنِ فِي إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلَوْ عَلَى قِلَّةٍ، بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنَ الشَّوَاهِدِ. فَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَعَلَ لِلِاثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمْعِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْإِرْثِ، إِذْ جَعَلَ لِلْأُخْتَيْنِ، وَالْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ ذَكَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْبِنْتَيْنِ الْمَسْكُوتَ عَنْهُمَا كَالْأُخْتَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا، وَالْأَخَوَاتِ الْمَسْكُوتَ عَنْهُنَّ كَالْبَنَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِنَّ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِي أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا حَذَفَ نَظِيرَهُ مِنْ مُقَابِلِهِ، وَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا بَيَّنَ
341
نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاحْتِبَاكِ كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [٧٢: ٢١] أَيْ لَا ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَلَا رَشَدًا، وَلَا إِغْوَاءً، وَقَوْلِهِ: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا [٧٦: ١٣] أَيْ لَا شَمْسًا، وَلَا قَمَرًا، وَلَا حَرًّا، وَلَا زَمْهَرِيرًا - إِذَا جَازَ لَنَا هَذَا وَعَدَدْنَاهُ مِنْ مَنْطُوقِ الْقُرْآنِ، أَوْ مَفْهُومِهِ أَفَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْأَخَوَيْنِ وَالْأُخْتَيْنِ لَهُمَا حُكْمُ الْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَدَمُ الْفَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيْنَ الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ؟ بَلَى، وَبِهَذَا عَمِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَخِلَافُ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ لَا يُنَافِي هَذَا الِاصْطِلَاحَ الشَّرْعِيَّ، وَاللُّغَةُ عَلَى وَضْعِهَا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ.
وَلَكِنَّ لَهُ هَاهُنَا رَأْيًا آخَرَ يُخَالِفُ فِيهِ الْجُمْهُورَ، رُبَّمَا كَانَ أَقْرَبَ مِمَّا قَالُوا إِلَى الْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِخْوَةَ الَّذِينَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ يَأْخُذُونَ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوهَا عَنْهُ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِلْأَبِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِحَجْبِهِمْ إِيَّاهَا إِلَّا أَخَذُهُمْ لِمَا نَقَصَ مِنْ فَرْضِهَا، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْحَجْبِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُمْ سَبَبًا لِزِيَادَةِ نَصِيبِ الْأَبِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّهُمْ يَحْجُبُونَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ شَيْئًا، فَيَكُونُ مَا بَقِيَ - وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ - كُلُّهُ لِلْأَبِ، سُدُسٌ مِنْهُ بِالْفَرْضِ لِأَنَّ فَرْضَهُ كَفَرْضِهَا، وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ، فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ
هُنَا أَقْرَبُ إِلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُمُ السَّابِقُ أَقْرَبُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْعَكْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
ذَكَرَتِ الْآيَةُ حُكْمَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْوَلَدِ وَحُكْمَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا وَارِثٌ آخَرُ، وَحُكْمَهُمَا مَعَ الْإِخْوَةِ، وَبَقِيَ حُكْمُهُمَا مَعَ الزَّوْجِ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ وَهُوَ النِّصْفُ إِنْ كَانَ رَجُلًا، وَالرُّبْعُ إِنْ كَانَ أُنْثَى، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْأَبَوَيْنِ ثُلُثُهُ لِلْأُمِّ، وَبَاقِيهِ لِلْأَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَأْخُذُ الزَّوْجُ نَصِيبَهُ، وَتَأْخُذُ الْأُمُّ الثُّلُثَ، أَيْ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَيَأْخُذُ الْأَبُ مَا بَقِيَ. وَقَالَ: لَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَفِي الْمَسْأَلَةِ صُورَتَانِ، أَوْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ، وَيُسَمِّيهِمَا الْفَرْضِيُّونَ بِالْعُمَرِيَّتَيْنِ، وَبِالْغَرَاوَيْنِ، وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ:
(إِحْدَاهُمَا) : زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبْعُ، وَهُوَ ٣ مِنْ ١٢ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ٣ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ ٦ فَيَجْرِي حَظُّ الْأَبَوَيْنِ عَلَى قَاعِدَةِ " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ "، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْأَصْلِ عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ٤ مِنْ ١٢ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ ٥ فَلَا يَجْرِي عَلَى الْقَاعِدَةِ.
(وَثَانِيَتُهُمَا) : زَوْجٌ وَأَبَوَانِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ٦ مِنْ ١٢ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ ٢ مِنْ ١٢ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي ٤ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْأَصْلِ وَهُوَ
وَلَكِنَّ لَهُ هَاهُنَا رَأْيًا آخَرَ يُخَالِفُ فِيهِ الْجُمْهُورَ، رُبَّمَا كَانَ أَقْرَبَ مِمَّا قَالُوا إِلَى الْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِخْوَةَ الَّذِينَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ يَأْخُذُونَ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوهَا عَنْهُ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِلْأَبِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِحَجْبِهِمْ إِيَّاهَا إِلَّا أَخَذُهُمْ لِمَا نَقَصَ مِنْ فَرْضِهَا، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْحَجْبِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُمْ سَبَبًا لِزِيَادَةِ نَصِيبِ الْأَبِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّهُمْ يَحْجُبُونَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ شَيْئًا، فَيَكُونُ مَا بَقِيَ - وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ - كُلُّهُ لِلْأَبِ، سُدُسٌ مِنْهُ بِالْفَرْضِ لِأَنَّ فَرْضَهُ كَفَرْضِهَا، وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ، فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ
هُنَا أَقْرَبُ إِلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُمُ السَّابِقُ أَقْرَبُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْعَكْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
ذَكَرَتِ الْآيَةُ حُكْمَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْوَلَدِ وَحُكْمَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا وَارِثٌ آخَرُ، وَحُكْمَهُمَا مَعَ الْإِخْوَةِ، وَبَقِيَ حُكْمُهُمَا مَعَ الزَّوْجِ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ وَهُوَ النِّصْفُ إِنْ كَانَ رَجُلًا، وَالرُّبْعُ إِنْ كَانَ أُنْثَى، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْأَبَوَيْنِ ثُلُثُهُ لِلْأُمِّ، وَبَاقِيهِ لِلْأَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَأْخُذُ الزَّوْجُ نَصِيبَهُ، وَتَأْخُذُ الْأُمُّ الثُّلُثَ، أَيْ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَيَأْخُذُ الْأَبُ مَا بَقِيَ. وَقَالَ: لَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَفِي الْمَسْأَلَةِ صُورَتَانِ، أَوْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ، وَيُسَمِّيهِمَا الْفَرْضِيُّونَ بِالْعُمَرِيَّتَيْنِ، وَبِالْغَرَاوَيْنِ، وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ:
(إِحْدَاهُمَا) : زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبْعُ، وَهُوَ ٣ مِنْ ١٢ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ٣ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ ٦ فَيَجْرِي حَظُّ الْأَبَوَيْنِ عَلَى قَاعِدَةِ " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ "، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْأَصْلِ عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ٤ مِنْ ١٢ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ ٥ فَلَا يَجْرِي عَلَى الْقَاعِدَةِ.
(وَثَانِيَتُهُمَا) : زَوْجٌ وَأَبَوَانِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ٦ مِنْ ١٢ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ ٢ مِنْ ١٢ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي ٤ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْأَصْلِ وَهُوَ
342
مِنْ ١٢ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ اثْنَانِ، فَيَكُونُ عَلَى عَكْسِ الْقَاعِدَةِ، إِذْ يَكُونُ لِلْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ. فَرَأْيُ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقُرْآنِ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ، وَفِي الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْإِخْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الزَّوْجَيْنِ كَمَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَافَقَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ فَقَطْ.
وَمِنَ الِاعْتِبَارِ فِي هَذَا: أَنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ مُقَدَّمَةٌ فِي الْإِرْثِ عَلَى حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ إِنَّمَا يَتَقَاسَمَانِ مَا يَبْقَى بَعْدَ أَخْذِ الزَّوْجِ حِصَّتَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَوْجِيهِ هَذَا: إِنَّ الزَّوْجَيْنِ لَمَّا كَانَ يَتَوَارَثَانِ بِالزَّوْجِيَّةِ الْعَارِضَةِ لَا بِالْقَرَابَةِ كَانَ فَرْضُهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْوَصِيَّةِ لَهُ التَّقْدِيمُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْوَارِثِينَ بِالْقَرَابَةِ.
وَنَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاطَّرَدَ تَقْدِيمُ فَرْضِ الزَّوْجِ مَعَ الْأَوْلَادِ، وَالْإِخْوَةِ، فَقُدِّمَ كَالْوَصِيَّةِ، وَقُسِّمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَوْلَادِ، أَوِ الْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّ حَقَّ الْأَزْوَاجِ فِي الْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَا
أَشْرَفَ، وَأَجْدَرَ مِنَ الزَّوْجِ بِالِاحْتِرَامِ. ذَلِكَ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَكُونَانِ عِنْدَ زَوَاجِ الْوَلَدِ عَرِيقَيْنِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِأَنْفُسِهِمَا فِي الْمَعِيشَةِ مِنْ جِهَةٍ، وَأَقَلَّ حَاجَةً إِلَى الْمَالِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَأَزْوَاجُهُمُ الَّذِينَ أَوِ اللَّوَاتِي فِي سِنِّهِمْ غَالِبًا لِانْصِرَامِ أَكْثَرِ أَعْمَارِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا إِذَا احْتَاجَا إِلَى مَالِ الْأَوْلَادِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَجْمُوعِ أَوْلَادِهِمَا، وَأَمَّا الزَّوْجَانِ فَإِنَّهُمَا يَعِيشَانِ مُجْتَمِعَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمِّمٌ لِوُجُودِ الْآخَرِ حَتَّى كَأَنَّهُ نِصْفُ مَاهِيَّتِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِانْفِصَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ وَالِدَيْهِ لِاتِّصَالِهِ بِالْآخَرِ. فَبِهَذَا كَانَتْ حُقُوقُ الْمَعِيشَةِ بَيْنَهُمَا آكَدَ ; وَلِهَذَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ فِي النَّفَقَةِ هُوَ الْحَقَّ الْأَوَّلَ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا رَغِيفَيْنِ وَسَدَّ رَمَقَهُ بِأَحَدِهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِيَ لِامْرَأَتِهِ لَا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ وَلَا لِغَيْرِهِمَا مِنْ أَقَارِبِهِ. فَصِلَةُ الزَّوْجِيَّةِ أَشَدُّ وَأَقْوَى صِلَةٍ حَيَوِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ حَتَّى إِنَّ صِلَةَ الْبُنُوَّةِ فَرْعٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْأَوْلَادِ أَقْوَى مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَيْ يُوصِيكُمُ اللهُ وَيَعْهَدُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِأَوْلَادِ مَنْ يَمُوتُ مِنْكُمْ كَذَا وَلِأَبَوَيْهِ كَذَا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ: يُوصَى بِهَا أَيْ يَقَعُ الْإِيصَاءُ بِهَا مِنَ الْمَيِّتِ هَكَذَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ: (يُوصَى) بِفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ " يُوصِي " بِكَسْرِ الصَّادِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَوَصَفَ الْوَصِيَّةَ بِأَنَّهَا يُوصَى بِهَا لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا، وَالتَّحَقُّقِ مِنْ نِسْبَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهَا. هَذَا مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي، وَقِيلَ: إِنَّ فَائِدَةَ الْوَصْفِ التَّرْغِيبُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالنَّدْبُ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: فَائِدَتُهُ التَّعْمِيمُ أَوْ دَيْنٍ أَيْ وَمِنْ بَعْدِ دَيْنٍ يَتْرُكُهُ عَلَيْهِ. وَقُدِّمَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى الدَّيْنِ فِي الذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْمِيرَاثِ شَاقَّةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا فِي الْوَفَاءِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي التَّرِكَةِ، وَيَلِيهِ الْوَصِيَّةُ فَهِيَ مِمَّا فَضَلَ عَنِ الدَّيْنِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ أَدَائِهِمَا هُوَ الَّذِي يُقْسَمُ عَلَى الْوَارِثِينَ. وَعَطَفَ
وَمِنَ الِاعْتِبَارِ فِي هَذَا: أَنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ مُقَدَّمَةٌ فِي الْإِرْثِ عَلَى حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ إِنَّمَا يَتَقَاسَمَانِ مَا يَبْقَى بَعْدَ أَخْذِ الزَّوْجِ حِصَّتَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَوْجِيهِ هَذَا: إِنَّ الزَّوْجَيْنِ لَمَّا كَانَ يَتَوَارَثَانِ بِالزَّوْجِيَّةِ الْعَارِضَةِ لَا بِالْقَرَابَةِ كَانَ فَرْضُهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْوَصِيَّةِ لَهُ التَّقْدِيمُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْوَارِثِينَ بِالْقَرَابَةِ.
وَنَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاطَّرَدَ تَقْدِيمُ فَرْضِ الزَّوْجِ مَعَ الْأَوْلَادِ، وَالْإِخْوَةِ، فَقُدِّمَ كَالْوَصِيَّةِ، وَقُسِّمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَوْلَادِ، أَوِ الْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّ حَقَّ الْأَزْوَاجِ فِي الْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَا
أَشْرَفَ، وَأَجْدَرَ مِنَ الزَّوْجِ بِالِاحْتِرَامِ. ذَلِكَ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَكُونَانِ عِنْدَ زَوَاجِ الْوَلَدِ عَرِيقَيْنِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِأَنْفُسِهِمَا فِي الْمَعِيشَةِ مِنْ جِهَةٍ، وَأَقَلَّ حَاجَةً إِلَى الْمَالِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَأَزْوَاجُهُمُ الَّذِينَ أَوِ اللَّوَاتِي فِي سِنِّهِمْ غَالِبًا لِانْصِرَامِ أَكْثَرِ أَعْمَارِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا إِذَا احْتَاجَا إِلَى مَالِ الْأَوْلَادِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَجْمُوعِ أَوْلَادِهِمَا، وَأَمَّا الزَّوْجَانِ فَإِنَّهُمَا يَعِيشَانِ مُجْتَمِعَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمِّمٌ لِوُجُودِ الْآخَرِ حَتَّى كَأَنَّهُ نِصْفُ مَاهِيَّتِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِانْفِصَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ وَالِدَيْهِ لِاتِّصَالِهِ بِالْآخَرِ. فَبِهَذَا كَانَتْ حُقُوقُ الْمَعِيشَةِ بَيْنَهُمَا آكَدَ ; وَلِهَذَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ فِي النَّفَقَةِ هُوَ الْحَقَّ الْأَوَّلَ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا رَغِيفَيْنِ وَسَدَّ رَمَقَهُ بِأَحَدِهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِيَ لِامْرَأَتِهِ لَا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ وَلَا لِغَيْرِهِمَا مِنْ أَقَارِبِهِ. فَصِلَةُ الزَّوْجِيَّةِ أَشَدُّ وَأَقْوَى صِلَةٍ حَيَوِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ حَتَّى إِنَّ صِلَةَ الْبُنُوَّةِ فَرْعٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْأَوْلَادِ أَقْوَى مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَيْ يُوصِيكُمُ اللهُ وَيَعْهَدُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِأَوْلَادِ مَنْ يَمُوتُ مِنْكُمْ كَذَا وَلِأَبَوَيْهِ كَذَا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ: يُوصَى بِهَا أَيْ يَقَعُ الْإِيصَاءُ بِهَا مِنَ الْمَيِّتِ هَكَذَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ: (يُوصَى) بِفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ " يُوصِي " بِكَسْرِ الصَّادِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَوَصَفَ الْوَصِيَّةَ بِأَنَّهَا يُوصَى بِهَا لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا، وَالتَّحَقُّقِ مِنْ نِسْبَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهَا. هَذَا مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي، وَقِيلَ: إِنَّ فَائِدَةَ الْوَصْفِ التَّرْغِيبُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالنَّدْبُ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: فَائِدَتُهُ التَّعْمِيمُ أَوْ دَيْنٍ أَيْ وَمِنْ بَعْدِ دَيْنٍ يَتْرُكُهُ عَلَيْهِ. وَقُدِّمَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى الدَّيْنِ فِي الذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْمِيرَاثِ شَاقَّةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا فِي الْوَفَاءِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي التَّرِكَةِ، وَيَلِيهِ الْوَصِيَّةُ فَهِيَ مِمَّا فَضَلَ عَنِ الدَّيْنِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ أَدَائِهِمَا هُوَ الَّذِي يُقْسَمُ عَلَى الْوَارِثِينَ. وَعَطَفَ
343
الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِأَوْ دُونَ الْوَاوِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْوُجُوبِ مُتَقَدِّمَانِ عَلَى الْقِسْمَةِ مَجْمُوعَيْنِ أَوْ مُنْفَرِدَيْنِ.
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ بَيَانِ مَا فَرَضَ اللهُ لِلْأَوْلَادِ، وَالْوَالِدَيْنِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَمَا اشْتَرَطَ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ فَاضِلًا عَنِ
الْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ أَيْ فُرِضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ لَا هَوَادَةَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَقْرَبُ نَفْعًا لَكُمْ. أَآبَاؤُكُمْ أَمْ أَبْنَاؤُكُمْ فَلَا تَتَّبِعُوا فِي قِسْمَةِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إِعْطَائِهَا لِلْأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الْأَعْدَاءَ، وَحِرْمَانِ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ. بَلِ اتَّبِعُوا مَا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ فَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ نَفْعًا لَكُمْ، مِمَّا تَقُومُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مَصَالِحُكُمْ، وَتَعْظُمُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ أُجُورُكُمْ..
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَصِيَّةِ، أَيْ لَا تَدْرُونَ أَيُّ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، أَمَنْ يُوصِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَيُمَهِّدُ لَكُمْ طَرِيقَ الْمَثُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ بِإِمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ تُبَاشِرُونَهُ فَتَكُونُونَ جَدِيرِينَ بِأَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَهُ، وَالْخَيْرُ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ؟ أَمْ مَنْ لَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ فَيُوَفِّرُ لَكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا؟ بَلِ اللهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَثَّلُوا أَمْرَهُ، وَتَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَا تَتَبَرَّمُوا بِإِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَثُرَتْ، وَلَا تَذْكُرُوا الْمُوصِيَ إِلَّا بِالْخَيْرِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَهُوَ لِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِشُئُونِكُمْ، وَلِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ الَّتِي يُقَدِّرُ بِهَا الْأَشْيَاءَ قَدْرَهَا، وَيَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا، لَا يَشْرَعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَالْمَنْفَعَةُ لَكُمْ ; إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَالْمَنَافِعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْغَرَضِ، وَالْهَوَى اللَّذَيْنِ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يَمْنَعَا مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِعْطَاءِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ فَرَائِضِ عَمُودِ النَّسَبِ فِي الْقَرَابَةِ، وَهُوَ الْأَوْلَادُ، وَالْوَالِدُونَ، وَقَدَّمَ الْأَهَمَّ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَالِ الْمَتْرُوكِ، وَهُمُ الْأَوْلَادُ دُونَ الْأَشْرَفِ وَهُمُ الْوَالِدُونَ - بَيَّنَ فَرَائِضَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُمَا سَبَبٌ لِحُصُولِ الْأَوْلَادِ، وَالسَّبَبُ إِنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ وَالْمُسَبِّبُ هُوَ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي قُوَّةِ رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَالْوُجُوهُ فِي التَّفَاضُلِ تُخَالِفُ الِاعْتِبَارَاتِ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -:
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ اللَّوَاتِي تَحَقَّقَتْ بِهِنَّ الزَّوْجِيَّةُ بِأَكْمَلِ مَعْنَاهَا بِالدُّخُولِ بِهِنَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ مَا مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ
أَوْ أَكْثَرَ، مِنْ بَطْنِهَا مُبَاشَرَةً، أَوْ مِنْ صُلْبِ بَنِيهَا، أَوْ بَنِي بَنِيهَا فَنَازِلًا، وَالْبَاقِي لِأَوْلَادِهَا، وَوَالِدَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَحْجُبُ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ وَالْبَاقِي مِنَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ بَيَانِ مَا فَرَضَ اللهُ لِلْأَوْلَادِ، وَالْوَالِدَيْنِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَمَا اشْتَرَطَ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ فَاضِلًا عَنِ
الْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ أَيْ فُرِضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ لَا هَوَادَةَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَقْرَبُ نَفْعًا لَكُمْ. أَآبَاؤُكُمْ أَمْ أَبْنَاؤُكُمْ فَلَا تَتَّبِعُوا فِي قِسْمَةِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إِعْطَائِهَا لِلْأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الْأَعْدَاءَ، وَحِرْمَانِ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ. بَلِ اتَّبِعُوا مَا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ فَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ نَفْعًا لَكُمْ، مِمَّا تَقُومُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مَصَالِحُكُمْ، وَتَعْظُمُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ أُجُورُكُمْ..
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَصِيَّةِ، أَيْ لَا تَدْرُونَ أَيُّ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، أَمَنْ يُوصِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَيُمَهِّدُ لَكُمْ طَرِيقَ الْمَثُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ بِإِمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ تُبَاشِرُونَهُ فَتَكُونُونَ جَدِيرِينَ بِأَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَهُ، وَالْخَيْرُ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ؟ أَمْ مَنْ لَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ فَيُوَفِّرُ لَكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا؟ بَلِ اللهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَثَّلُوا أَمْرَهُ، وَتَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَا تَتَبَرَّمُوا بِإِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَثُرَتْ، وَلَا تَذْكُرُوا الْمُوصِيَ إِلَّا بِالْخَيْرِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَهُوَ لِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِشُئُونِكُمْ، وَلِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ الَّتِي يُقَدِّرُ بِهَا الْأَشْيَاءَ قَدْرَهَا، وَيَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا، لَا يَشْرَعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَالْمَنْفَعَةُ لَكُمْ ; إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَالْمَنَافِعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْغَرَضِ، وَالْهَوَى اللَّذَيْنِ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يَمْنَعَا مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِعْطَاءِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ فَرَائِضِ عَمُودِ النَّسَبِ فِي الْقَرَابَةِ، وَهُوَ الْأَوْلَادُ، وَالْوَالِدُونَ، وَقَدَّمَ الْأَهَمَّ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَالِ الْمَتْرُوكِ، وَهُمُ الْأَوْلَادُ دُونَ الْأَشْرَفِ وَهُمُ الْوَالِدُونَ - بَيَّنَ فَرَائِضَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُمَا سَبَبٌ لِحُصُولِ الْأَوْلَادِ، وَالسَّبَبُ إِنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ وَالْمُسَبِّبُ هُوَ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي قُوَّةِ رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَالْوُجُوهُ فِي التَّفَاضُلِ تُخَالِفُ الِاعْتِبَارَاتِ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -:
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ اللَّوَاتِي تَحَقَّقَتْ بِهِنَّ الزَّوْجِيَّةُ بِأَكْمَلِ مَعْنَاهَا بِالدُّخُولِ بِهِنَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ مَا مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ
أَوْ أَكْثَرَ، مِنْ بَطْنِهَا مُبَاشَرَةً، أَوْ مِنْ صُلْبِ بَنِيهَا، أَوْ بَنِي بَنِيهَا فَنَازِلًا، وَالْبَاقِي لِأَوْلَادِهَا، وَوَالِدَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَحْجُبُ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ وَالْبَاقِي مِنَ
344
التَّرِكَةِ لِلْأَقْرَبِ إِلَيْهَا مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ، وَذَوَى الْأَرْحَامِ، يُعْلَمُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ أَيْ إِنَّمَا يَكُونُ لَكُمْ ذَلِكَ فِي تَرْكِهِنَّ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَتَيْنِ. بَعْدَ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ، إِذْ لَيْسَ لِوَارِثٍ شَيْءٌ إِلَّا مِمَّا يَفْضَلُ عَنْهُمَا إِنْ كَانَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ مَا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي أَوْلَادِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ مِنْكُمْ زَوْجٌ وَاحِدَةٌ كَانَ لَهَا وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَانِ فَأَكْثَرَ اشْتَرَكَتَا، أَوِ اشْتَرَكْنَ فِيهِ بِالْمُسَاوَاةِ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لِمُسْتَحِقِّهِ شَرْعًا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَأُولِي الْأَرْحَامِ لَكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ وَالْبَاقِي لِوَلَدِكُمْ عَلَا أَوْ نَزَلَ، وَلِمَنْ عَسَاهُ يُوجَدُ مَعَهُ مِنْ وَالِدَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَبِهَذَا كَانَ لِلذَّكَرِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ زَوْجَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا كَانَ لَهُنَّ نَصِيبُ الزَّوْجِ الْوَاحِدَةِ فَلَا تَطَّرِدُ فِيهِنَّ قَاعِدَةُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَنْقُصُ نَصِيبُهُ مِنْ إِرْثِ امْرَأَتِهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. فَمَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، وَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الزَّوْجَيْنِ، أَوِ الثَّلَاثِ، أَوِ الْأَرْبَعِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الْوَاحِدَةِ؟ أَقُولُ: الْحِكْمَةُ الظَّاهِرَةُ لَنَا مِنْ ذَلِكَ هِيَ إِرْشَادُ اللهِ إِيَّانَا إِلَى أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الَّذِي نَجْرِي عَلَيْهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ هِيَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنَّمَا أَبَاحَ لِلرَّجُلِ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ إِلَى أَرْبَعٍ بِشَرْطِهِ الْمُضَيَّقِ ; لِأَنَّ التَّعَدُّدَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوقُ إِلَيْهَا الضَّرُورَةُ أَحْيَانًا، وَقَدْ تَكُونُ لِخَيْرِ النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ - كَمَا شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي آيَةِ إِبَاحَةِ التَّعَدُّدِ، وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ - وَنَذْكُرُ مَا قُلْنَاهُ فِي حِكْمَةِ جَعْلِ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَمَا هُنَا يُلَاقِي مَا هُنَاكَ، وَيَتَّفِقُ مَعَهُ، وَالنُّصُوصُ
يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَوْ كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ لِجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلِلزَّوْجَيْنِ، وَالزَّوْجَاتِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الزَّوْجِ الْوَاحِدَةِ، وَلَكِنَّ التَّعَدُّدَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ مِنَ الْأُمُورِ النَّادِرَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فَلَمْ يُرَاعِهِ فِي أَحْكَامِهِ. وَالْأَحْكَامُ إِنَّمَا تُوضَعُ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْغَالِبِ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.
وَلَمَّا بَيَّنَ ـ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ ـ أَحْكَامَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ مُبَاشَرَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ بِالْوَاسِطَةِ، وَهُوَ الْكَلَالَةُ فَقَالَ:
وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ أَيْ أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ تُورَثُ كَلَالَةً أَيْ حَالَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَالَةً، أَيْ ذَا كَلَالَةٍ، أَوِ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ مُورَثٌ كَلَالَةً أَيْ ذَا كَلَالَةٍ، وَهُوَ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. وَاللَّفْظُ مَصْدَرُ كَلَّ يَكِلُّ، بِمَعْنَى الْكَلَالِ، وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ غَيْرِ قَرَابَةِ الْوَلَدِ، وَالْوَالِدِ لِضَعْفِهَا بِالنِّسْبَةِ
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ مَا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي أَوْلَادِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ مِنْكُمْ زَوْجٌ وَاحِدَةٌ كَانَ لَهَا وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَانِ فَأَكْثَرَ اشْتَرَكَتَا، أَوِ اشْتَرَكْنَ فِيهِ بِالْمُسَاوَاةِ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لِمُسْتَحِقِّهِ شَرْعًا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَأُولِي الْأَرْحَامِ لَكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ وَالْبَاقِي لِوَلَدِكُمْ عَلَا أَوْ نَزَلَ، وَلِمَنْ عَسَاهُ يُوجَدُ مَعَهُ مِنْ وَالِدَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَبِهَذَا كَانَ لِلذَّكَرِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ زَوْجَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا كَانَ لَهُنَّ نَصِيبُ الزَّوْجِ الْوَاحِدَةِ فَلَا تَطَّرِدُ فِيهِنَّ قَاعِدَةُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَنْقُصُ نَصِيبُهُ مِنْ إِرْثِ امْرَأَتِهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. فَمَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، وَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الزَّوْجَيْنِ، أَوِ الثَّلَاثِ، أَوِ الْأَرْبَعِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الْوَاحِدَةِ؟ أَقُولُ: الْحِكْمَةُ الظَّاهِرَةُ لَنَا مِنْ ذَلِكَ هِيَ إِرْشَادُ اللهِ إِيَّانَا إِلَى أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الَّذِي نَجْرِي عَلَيْهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ هِيَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنَّمَا أَبَاحَ لِلرَّجُلِ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ إِلَى أَرْبَعٍ بِشَرْطِهِ الْمُضَيَّقِ ; لِأَنَّ التَّعَدُّدَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوقُ إِلَيْهَا الضَّرُورَةُ أَحْيَانًا، وَقَدْ تَكُونُ لِخَيْرِ النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ - كَمَا شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي آيَةِ إِبَاحَةِ التَّعَدُّدِ، وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ - وَنَذْكُرُ مَا قُلْنَاهُ فِي حِكْمَةِ جَعْلِ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَمَا هُنَا يُلَاقِي مَا هُنَاكَ، وَيَتَّفِقُ مَعَهُ، وَالنُّصُوصُ
يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَوْ كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ لِجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلِلزَّوْجَيْنِ، وَالزَّوْجَاتِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الزَّوْجِ الْوَاحِدَةِ، وَلَكِنَّ التَّعَدُّدَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ مِنَ الْأُمُورِ النَّادِرَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فَلَمْ يُرَاعِهِ فِي أَحْكَامِهِ. وَالْأَحْكَامُ إِنَّمَا تُوضَعُ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْغَالِبِ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.
وَلَمَّا بَيَّنَ ـ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ ـ أَحْكَامَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ مُبَاشَرَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ بِالْوَاسِطَةِ، وَهُوَ الْكَلَالَةُ فَقَالَ:
وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ أَيْ أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ تُورَثُ كَلَالَةً أَيْ حَالَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَالَةً، أَيْ ذَا كَلَالَةٍ، أَوِ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ مُورَثٌ كَلَالَةً أَيْ ذَا كَلَالَةٍ، وَهُوَ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. وَاللَّفْظُ مَصْدَرُ كَلَّ يَكِلُّ، بِمَعْنَى الْكَلَالِ، وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ غَيْرِ قَرَابَةِ الْوَلَدِ، وَالْوَالِدِ لِضَعْفِهَا بِالنِّسْبَةِ
345
إِلَى قَرَابَةِ الْأُصُولِ، وَالْفُرُوعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَلَّتِ الرَّحِمُ بَيْنَ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْقَرَابَةُ، وَحَمَلَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ كَلَّ عَنْهُ إِذَا تَبَاعَدَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَرَابَةُ الْبَعِيدَةُ كَلَالَةً، ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَجْهًا ثَانِيًا. وَذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا هُوَ أَنَّ الْكَلَالَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ، وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ؟ وَالْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ بِمَا يَدْخَلُ فِيهِ، وَيُقَالُ: تَكَلَّلَ السَّحَابُ إِذَا صَارَ مُحِيطًا بِالْجَوَانِبِ. قَالَ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ إِنَّمَا سُمُّوا بِالْكَلَالَةِ ; لِأَنَّهُمْ كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْإِنْسَانِ، وَكَالْإِكْلِيلِ الْمُحِيطِ بِرَأْسِهِ، أَمَّا قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهَا يَتَفَرَّعُ الْبَعْضُ عَنِ الْبَعْضِ، وَيَتَوَلَّدُ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَتَزَايَدُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَمَّا الْقَرَابَةُ الْمُغَايِرَةُ لِقَرَابَةِ الْوِلَادَةِ، وَهِيَ كَالْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَعْمَامِ، وَالْعَمَّاتِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لِنَسَبِهِمُ اتِّصَالٌ، وَإِحَاطَةٌ بِالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ اهـ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْكَلَالَةَ يُوصَفُ بِهَا
الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ، وَيُرَادُ بِهَا مَنْ يَرِثُهُ غَيْرُ أَوْلَادِهِ، وَيُوصَفُ بِهَا الْوَارِثُ، وَيُرَادُ بِهِ مَنْ سِوَى الْأَوْلَادِ، وَالْوَالِدَيْنِ، وَرَجَحَ هَذَا بِحَدِيثٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ كَغَيْرِهِ أَنَّ لَفْظَ الْكَلَالَةِ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا يُثَنَّى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ صِفَةٌ كَالْهَجَاجَةِ لِلْأَحْمَقِ.
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ سِوَى الْوَلَدِ مِنَ الْوَارِثِينَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ. رَوَاهُمَا عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْهُ التَّوَقُّفُ، وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْخِلَافَةُ، وَالْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَى ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يُوَرَّثُ الْكَلَالَةُ؟ فَقَالَ: أَوَ لَيْسَ اللهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ؟ ثُمَّ قَرَأَ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [٤: ١٧٦] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ، فَقَالَ لِحَفْصَةَ: إِذَا رَأَيْتِ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيِّبَ نَفْسٍ فَاسْأَلِيهِ عَنْهَا، فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: أَبُوكِ ذَكَرَ لَكِ هَذَا؟ مَا أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا أَبَدًا فَكَانَ يَقُولُ: مَا أَرَانِي اعْلَمُهَا أَبَدًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ أَمْرَ الْجَدِّ، وَالْكَلَالَةِ فِي كَتِفٍ (أَيْ عَظْمِ كَتِفٍ)، ثُمَّ طَفِقَ يَسْتَخِيرُ
نَسَبٌ تَتَابَعَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ | كَالرُّمْحِ أُنْبُوبًا عَلَى أُنْبُوبِ |
الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ، وَيُرَادُ بِهَا مَنْ يَرِثُهُ غَيْرُ أَوْلَادِهِ، وَيُوصَفُ بِهَا الْوَارِثُ، وَيُرَادُ بِهِ مَنْ سِوَى الْأَوْلَادِ، وَالْوَالِدَيْنِ، وَرَجَحَ هَذَا بِحَدِيثٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ كَغَيْرِهِ أَنَّ لَفْظَ الْكَلَالَةِ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا يُثَنَّى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ صِفَةٌ كَالْهَجَاجَةِ لِلْأَحْمَقِ.
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ سِوَى الْوَلَدِ مِنَ الْوَارِثِينَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ. رَوَاهُمَا عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْهُ التَّوَقُّفُ، وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْخِلَافَةُ، وَالْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَى ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يُوَرَّثُ الْكَلَالَةُ؟ فَقَالَ: أَوَ لَيْسَ اللهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ؟ ثُمَّ قَرَأَ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [٤: ١٧٦] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ، فَقَالَ لِحَفْصَةَ: إِذَا رَأَيْتِ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيِّبَ نَفْسٍ فَاسْأَلِيهِ عَنْهَا، فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: أَبُوكِ ذَكَرَ لَكِ هَذَا؟ مَا أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا أَبَدًا فَكَانَ يَقُولُ: مَا أَرَانِي اعْلَمُهَا أَبَدًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ أَمْرَ الْجَدِّ، وَالْكَلَالَةِ فِي كَتِفٍ (أَيْ عَظْمِ كَتِفٍ)، ثُمَّ طَفِقَ يَسْتَخِيرُ
346
رَبَّهُ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، فَلَمَّا طُعِنَ دَعَا بِالْكَتِفِ، فَمَحَاهَا ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ كَتَبْتُ كِتَابًا فِي الْجَدِّ، وَالْكَلَالَةِ، وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللهَ فِيهِ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَدْرُوا مَا كَانَ فِي الْكَتِفِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ غَرِيبِةٌ فِي مَعْنَاهَا. فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَمْ يَشْتَبِهْ فِيهِ مَنْ دُونَ عُمَرَ، وَلَا مَنْ فِي طَبَقَتِهِ، وَلِلَّهِ فِي الْبَشَرِ شُئُونٌ، وَقَلَّمَا تَقْرَأُ تَرْجَمَةَ رَجُلٍ عَظِيمٍ إِلَّا وَتَجِدُ فِيهَا أَنَّهُ انْفَرَدَ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ فِي بَابِهِ.
إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ آيَتَيْنِ فِي الْكَلَالَةِ: الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَرِثُهُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ مِنَ الْكَلَالَةِ فَقَطْ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ إِلَى بَيَانِ مَا يَأْخُذُهُ إِخْوَةُ الْعَصَبِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ
بَعْدَ ذَلِكَ إِرْثُ كَلَالَةٍ فِيهِ إِخْوَةُ عَصَبٍ، وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي جَعَلَتْ لِلْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفَ إِذَا انْفَرَدَتْ، وَلِلْأُخْتَيْنِ فَأَكْثَرَ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْأَخِ فَأَكْثَرَ كُلَّ التَّرِكَةِ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [٤: ١٧٦] فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يَعْنِي بِهِ الْأَخَ، أَوِ الْأُخْتَ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ ; لِأَنَّ الْأَخَوَيْنِ مِنَ الْعَصَبِ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ فَرْضَ الْأُمِّ، فَإِنَّهُ إِمَّا السُّدُسُ، وَإِمَّا الثُّلُثُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُفَسِّرُونَ علىْ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ بِزِيَادَةِ " مِنَ الْأُمِّ "، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِزِيَادَة " مِنْ أُمٍّ " وَقَالُوا: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ أَيْ غَيْرَ الْمُتَوَاتِرَةِ تُخَصِّصُ ; لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ أَحَادِيثِ الْآحَادِ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ قِرَاءَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْهُمَا فَظَنُّوا أَنَّ كَلِمَةَ: " مِنَ الْأُمِّ " قِرَاءَةٌ، وَأَنَّهُمَا يَعُدَّانِهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَرَى أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابِيُّ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ بِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي تَلَقَّى ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ فَظَنَّ الصَّحَابِيُّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْقُرْآنَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَالِيَةُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَا دَخْلَ هَاهُنَا لِلَفْظِ الرَّاوِي فِي التَّرْجِيحِ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ بِالْمَعْنَى.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَخَ مِنَ الْأُمِّ يَأْخُذُ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَكَذَلِكَ الْأُخْتُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَلَّ مَحَلَّ أُمِّهِ فَأَخَذَ نَصِيبَهَا. وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أَخَذُوا الثُّلُثَ وَكَانُوا فِيهِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِهِمْ، وَأُنْثَاهُمْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ، وَفِيهِ قِرَاءَةُ " يُوصَى " بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ هَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ آيَتَيْنِ فِي الْكَلَالَةِ: الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَرِثُهُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ مِنَ الْكَلَالَةِ فَقَطْ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ إِلَى بَيَانِ مَا يَأْخُذُهُ إِخْوَةُ الْعَصَبِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ
بَعْدَ ذَلِكَ إِرْثُ كَلَالَةٍ فِيهِ إِخْوَةُ عَصَبٍ، وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي جَعَلَتْ لِلْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفَ إِذَا انْفَرَدَتْ، وَلِلْأُخْتَيْنِ فَأَكْثَرَ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْأَخِ فَأَكْثَرَ كُلَّ التَّرِكَةِ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [٤: ١٧٦] فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يَعْنِي بِهِ الْأَخَ، أَوِ الْأُخْتَ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ ; لِأَنَّ الْأَخَوَيْنِ مِنَ الْعَصَبِ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ فَرْضَ الْأُمِّ، فَإِنَّهُ إِمَّا السُّدُسُ، وَإِمَّا الثُّلُثُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُفَسِّرُونَ علىْ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ بِزِيَادَةِ " مِنَ الْأُمِّ "، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِزِيَادَة " مِنْ أُمٍّ " وَقَالُوا: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ أَيْ غَيْرَ الْمُتَوَاتِرَةِ تُخَصِّصُ ; لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ أَحَادِيثِ الْآحَادِ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ قِرَاءَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْهُمَا فَظَنُّوا أَنَّ كَلِمَةَ: " مِنَ الْأُمِّ " قِرَاءَةٌ، وَأَنَّهُمَا يَعُدَّانِهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَرَى أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابِيُّ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ بِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي تَلَقَّى ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ فَظَنَّ الصَّحَابِيُّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْقُرْآنَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَالِيَةُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَا دَخْلَ هَاهُنَا لِلَفْظِ الرَّاوِي فِي التَّرْجِيحِ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ بِالْمَعْنَى.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَخَ مِنَ الْأُمِّ يَأْخُذُ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَكَذَلِكَ الْأُخْتُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَلَّ مَحَلَّ أُمِّهِ فَأَخَذَ نَصِيبَهَا. وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أَخَذُوا الثُّلُثَ وَكَانُوا فِيهِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِهِمْ، وَأُنْثَاهُمْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ، وَفِيهِ قِرَاءَةُ " يُوصَى " بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ هَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
347
بِقَوْلِهِ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ أَيْ مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ
لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ كَانُوا يُعْطُونَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ لِلرِّجَالِ مِنْ عَصَبَتِهِمْ دُونَ النِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ، فَفَرَضَ - سُبْحَانَهُ - لِلنِّسَاءِ مَا فَرَضَهُ فَكُنَّ شَرِيكَاتٍ لِلرِّجَالِ، وَجَعَلَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ فِي الْإِرْثِ سَوَاءً، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْفَحْوَى فَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْعَصَبَاتِ إِذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَسُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةً فَيَكُونُ اتِّبَاعُهَا مُقَدَّمًا عَلَى عُرْفِهِمْ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ.
ثُمَّ قَالَ: غَيْرَ مُضَارٍّ أَيْ ذَلِكَ الْحَقُّ فِي الْوَرَثَةِ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ يُوصِي بِهَا الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِهَا وَرَثَتَهُ، وَحَدَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَصِيَّةَ الْجَائِزَةَ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَقَالَ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ ضِرَارٌ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُنَفَّذُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ الضِّرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْ إِذَا قَصَدَهُ الْمُوصِي، وَأَيْضًا مِنْ بَعْدِ دَيْنٍ صَحِيحٍ لَمْ يَعْقِدْهُ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُقِرَّ بِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، لِأَجْلِ مُضَارَّةِ الْوَرَثَةِ. وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِمَّنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَعْصِيَةٌ أَيْضًا، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَرِحُهَا الْمُبْغِضُونَ لِلْوَارِثِينَ لَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانُوا كَلَالَةً ; وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْقَيْدُ فِي وَصِيَّةِ إِرْثِ الْكَلَالَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى مُضَارَّةِ الْوَالِدَيْنِ، أَوِ الْأَوْلَادِ وَكَذَا الْأَزْوَاجُ نَادِرٌ جِدًّا، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ.
وَصِيَّةً مِنَ اللهِ أَيْ يُوصِيكُمْ بِذَلِكَ، وَصِيَّةً مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالْإِذْعَانِ لَهَا، وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِكُمْ، وَمَنَافِعِكُمْ وَبِنِيَّاتِ الْمُوصِينَ مِنْكُمْ حَلِيمٌ لَا يَسْمَحُ لَكُمْ بِأَنْ تُعَجِّلُوا بِعُقُوبَةِ مَنْ تَسْتَاءُونَ مِنْهُ، وَمُضَارَّتِهِ بِالْوَصِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لَكُمْ بِحِرْمَانِ النِّسَاءِ، وَالْأَطْفَالِ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ لَا يُعَجِّلُ بِالْعِقَابِ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا فِي الْجَزَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَسَى أَنْ يَتُوبَ الْمُخَالِفُ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَأَيْتُ فِي كُرَّاسَةٍ لِبَعْضِ تَلَامِيذِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامًا نَقَلَهُ مِنْ دَرْسِهِ فِي تَفْسِيرِ: وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ هَذَا مِثَالُهُ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَعْنَى، وَاخْتِلَافٍ فِي الْأُسْلُوبِ: هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى أَخْذِ وَصِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَحْكَامِهِ بِقُوَّةٍ، وَتَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّهُ
- تَعَالَى - فَرَضَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمَصْلَحَةِ لَنَا "، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِذَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ - تَعَالَى شَأْنُهُ - أَعْلَمُ مِنَّا بِمَصَالِحِنَا، وَمَنَافِعِنَا فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُذْعِنَ لِوَصَايَاهُ، وَفَرَائِضِهِ، وَنَعْمَلَ بِمَا يُنْزِلُهُ عَلَيْنَا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَكَمَا
لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ كَانُوا يُعْطُونَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ لِلرِّجَالِ مِنْ عَصَبَتِهِمْ دُونَ النِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ، فَفَرَضَ - سُبْحَانَهُ - لِلنِّسَاءِ مَا فَرَضَهُ فَكُنَّ شَرِيكَاتٍ لِلرِّجَالِ، وَجَعَلَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ فِي الْإِرْثِ سَوَاءً، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْفَحْوَى فَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْعَصَبَاتِ إِذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَسُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةً فَيَكُونُ اتِّبَاعُهَا مُقَدَّمًا عَلَى عُرْفِهِمْ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ.
ثُمَّ قَالَ: غَيْرَ مُضَارٍّ أَيْ ذَلِكَ الْحَقُّ فِي الْوَرَثَةِ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ يُوصِي بِهَا الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِهَا وَرَثَتَهُ، وَحَدَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَصِيَّةَ الْجَائِزَةَ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَقَالَ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ ضِرَارٌ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُنَفَّذُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ الضِّرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْ إِذَا قَصَدَهُ الْمُوصِي، وَأَيْضًا مِنْ بَعْدِ دَيْنٍ صَحِيحٍ لَمْ يَعْقِدْهُ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُقِرَّ بِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، لِأَجْلِ مُضَارَّةِ الْوَرَثَةِ. وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِمَّنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَعْصِيَةٌ أَيْضًا، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَرِحُهَا الْمُبْغِضُونَ لِلْوَارِثِينَ لَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانُوا كَلَالَةً ; وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْقَيْدُ فِي وَصِيَّةِ إِرْثِ الْكَلَالَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى مُضَارَّةِ الْوَالِدَيْنِ، أَوِ الْأَوْلَادِ وَكَذَا الْأَزْوَاجُ نَادِرٌ جِدًّا، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ.
وَصِيَّةً مِنَ اللهِ أَيْ يُوصِيكُمْ بِذَلِكَ، وَصِيَّةً مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالْإِذْعَانِ لَهَا، وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِكُمْ، وَمَنَافِعِكُمْ وَبِنِيَّاتِ الْمُوصِينَ مِنْكُمْ حَلِيمٌ لَا يَسْمَحُ لَكُمْ بِأَنْ تُعَجِّلُوا بِعُقُوبَةِ مَنْ تَسْتَاءُونَ مِنْهُ، وَمُضَارَّتِهِ بِالْوَصِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لَكُمْ بِحِرْمَانِ النِّسَاءِ، وَالْأَطْفَالِ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ لَا يُعَجِّلُ بِالْعِقَابِ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا فِي الْجَزَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَسَى أَنْ يَتُوبَ الْمُخَالِفُ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَأَيْتُ فِي كُرَّاسَةٍ لِبَعْضِ تَلَامِيذِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامًا نَقَلَهُ مِنْ دَرْسِهِ فِي تَفْسِيرِ: وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ هَذَا مِثَالُهُ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَعْنَى، وَاخْتِلَافٍ فِي الْأُسْلُوبِ: هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى أَخْذِ وَصِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَحْكَامِهِ بِقُوَّةٍ، وَتَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّهُ
- تَعَالَى - فَرَضَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمَصْلَحَةِ لَنَا "، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِذَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ - تَعَالَى شَأْنُهُ - أَعْلَمُ مِنَّا بِمَصَالِحِنَا، وَمَنَافِعِنَا فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُذْعِنَ لِوَصَايَاهُ، وَفَرَائِضِهِ، وَنَعْمَلَ بِمَا يُنْزِلُهُ عَلَيْنَا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَكَمَا
348
يُشِيرُ اسْمُ " الْعَلِيمِ " هُنَا إِلَى وَضْعِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ بِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَمَنْفَعَتِهِمْ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى وُجُوبِ مُرَاقَبَةِ الْوَارِثِينَ، وَالْقُوَّامِ عَلَى التَّرِكَاتِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي عِلْمِهِمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ ; لِأَنَّهُ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ مَنْ يَلْتَزِمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَحَالُ مَنْ يَتَعَدَّى تِلْكَ الْحُدُودَ بِأَكْلِ شَيْءٍ مِنَ الْوَصَايَا، أَوِ الدَّيْنِ، أَوْ حَقِّ صِغَارِ الْوَارِثِينَ، أَوِ النِّسَاءِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ لَهُمْ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْجَاهِلِيَّةُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَلِلتَّذْكِيرِ بِعِلْمِهِ - تَعَالَى - هُنَا فَائِدَتَانِ: فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَفَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ التَّنْفِيذِ.
وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ الظَّاهِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَقْرِنَ وَصْفَ الْعِلْمِ بِوَصْفِ الْحِكْمَةِ كَالْآيَةِ الْأُخْرَى، فَيُقَالُ: " وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ فِي إِيثَارِ الْوَصْفِ بِالْحِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَشْرِيعٍ، وَحَثٍّ عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ ; لَا مَقَامَ حَثٍّ عَلَى التَّوْبَةِ فَيُؤْتَى فِيهِ بِالْحِلْمِ الَّذِي يُنَاسِبُ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ التَّذْكِيرَ بِعِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِإِنْذَارِ مَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَهُ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ، وَالْفَرَائِضِ، وَوَعِيدِهِ، وَكَانَ تَحَقُّقُ الْإِنْذَارِ، وَالْوَعِيدِ بِعِقَابِ مُعْتَدِي الْحُدُودِ وَهَاضِمِ الْحُقُوقِ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الذَّنْبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةَ غُرُورِ الْغَافِلِ، ذَكَّرَنَا - تَعَالَى - هُنَا بِحِلْمِهِ لِنَعْلَمَ أَنَّ تَأَخُّرَ نُزُولِ الْعِقَابِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ الْوَعِيدَ وَالْإِنْذَارَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْجَرَاءَةِ، وَالِاغْتِرَارِ، فَإِنَّ الْحَلِيمَ هُوَ الَّذِي لَا تَسْتَفِزُّهُ الْمَعْصِيَةُ إِلَى التَّعْجِيلِ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَيْسَ فِي الْحِلْمِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَغُرَّنَّ الطَّامِعَ فِي الِاعْتِدَاءِ، وَأَكْلِ الْحُقُوقِ تَمَتُّعُ بَعْضِ الْمُعْتَدِينَ بِمَا أَكَلُوا بِالْبَاطِلِ، فَيَنْسَى عِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ، وَوَعِيدَهُ لِأَمْثَالِهِمْ، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ فَيَتَجَرَّأُ عَلَى مِثْلِ مَا تَجَرَّءُوا عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ، وَلَا يَغُرَّنَّ الْمُعْتَدِيَ نَفْسَهُ تَأَخُّرُ نُزُولِ الْوَعِيدِ بِهِ، فَيَتَمَادَى فِي الْمَعْصِيَةِ بَدَلًا مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، لَا يَغُرَّنَّ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّهُ إِمْهَالٌ يَقْتَضِيهِ الْحِلْمُ، لَا إِهْمَالٌ
مِنَ الْعَجْزِ أَوْ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَفَائِدَةُ الْمُذْنِبِ مِنْ حِلْمِ الْحَلِيمِ الْقَادِرِ أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ وَقْتًا لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِي بَشَاعَةِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَإِذَا أَصَرَّ الْمُذْنِبُ عَلَى ذَنْبِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْحِلْمِ فَائِدَةٌ فِي إِصْلَاحِ شَأْنِهِ، يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الْحَلِيمِ لَهُ أَشَدَّ مِنْ عِقَابِ السَّفِيهِ عَلَى الْبَادِرَةِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَمِنَ الْأَمْثَالِ فِي ذَلِكَ: " اتَّقُوا غَيْظَ الْحَلِيمِ " ذَلِكَ بِأَنَّ غَيْظَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ آخِرِ دَرَجَاتِ الْحِلْمِ إِذَا لَمْ تُبْقِ الذُّنُوبُ مِنْهُ شَيْئًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ انْتِقَامُهُ عَظِيمًا. نَعَمْ إِنَّ حِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - لَا يَزُولُ، وَلَكِنَّهُ يُعَامِلُ بِهِ كُلَّ أَحَدٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [١٣: ٨] فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْتَرَّ بِحِلْمِهِ - تَعَالَى -، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِكَرَمِهِ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [٨٢: ٦ - ٩].
وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ الظَّاهِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَقْرِنَ وَصْفَ الْعِلْمِ بِوَصْفِ الْحِكْمَةِ كَالْآيَةِ الْأُخْرَى، فَيُقَالُ: " وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ فِي إِيثَارِ الْوَصْفِ بِالْحِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَشْرِيعٍ، وَحَثٍّ عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ ; لَا مَقَامَ حَثٍّ عَلَى التَّوْبَةِ فَيُؤْتَى فِيهِ بِالْحِلْمِ الَّذِي يُنَاسِبُ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ التَّذْكِيرَ بِعِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِإِنْذَارِ مَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَهُ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ، وَالْفَرَائِضِ، وَوَعِيدِهِ، وَكَانَ تَحَقُّقُ الْإِنْذَارِ، وَالْوَعِيدِ بِعِقَابِ مُعْتَدِي الْحُدُودِ وَهَاضِمِ الْحُقُوقِ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الذَّنْبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةَ غُرُورِ الْغَافِلِ، ذَكَّرَنَا - تَعَالَى - هُنَا بِحِلْمِهِ لِنَعْلَمَ أَنَّ تَأَخُّرَ نُزُولِ الْعِقَابِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ الْوَعِيدَ وَالْإِنْذَارَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْجَرَاءَةِ، وَالِاغْتِرَارِ، فَإِنَّ الْحَلِيمَ هُوَ الَّذِي لَا تَسْتَفِزُّهُ الْمَعْصِيَةُ إِلَى التَّعْجِيلِ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَيْسَ فِي الْحِلْمِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَغُرَّنَّ الطَّامِعَ فِي الِاعْتِدَاءِ، وَأَكْلِ الْحُقُوقِ تَمَتُّعُ بَعْضِ الْمُعْتَدِينَ بِمَا أَكَلُوا بِالْبَاطِلِ، فَيَنْسَى عِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ، وَوَعِيدَهُ لِأَمْثَالِهِمْ، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ فَيَتَجَرَّأُ عَلَى مِثْلِ مَا تَجَرَّءُوا عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ، وَلَا يَغُرَّنَّ الْمُعْتَدِيَ نَفْسَهُ تَأَخُّرُ نُزُولِ الْوَعِيدِ بِهِ، فَيَتَمَادَى فِي الْمَعْصِيَةِ بَدَلًا مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، لَا يَغُرَّنَّ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّهُ إِمْهَالٌ يَقْتَضِيهِ الْحِلْمُ، لَا إِهْمَالٌ
مِنَ الْعَجْزِ أَوْ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَفَائِدَةُ الْمُذْنِبِ مِنْ حِلْمِ الْحَلِيمِ الْقَادِرِ أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ وَقْتًا لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِي بَشَاعَةِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَإِذَا أَصَرَّ الْمُذْنِبُ عَلَى ذَنْبِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْحِلْمِ فَائِدَةٌ فِي إِصْلَاحِ شَأْنِهِ، يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الْحَلِيمِ لَهُ أَشَدَّ مِنْ عِقَابِ السَّفِيهِ عَلَى الْبَادِرَةِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَمِنَ الْأَمْثَالِ فِي ذَلِكَ: " اتَّقُوا غَيْظَ الْحَلِيمِ " ذَلِكَ بِأَنَّ غَيْظَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ آخِرِ دَرَجَاتِ الْحِلْمِ إِذَا لَمْ تُبْقِ الذُّنُوبُ مِنْهُ شَيْئًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ انْتِقَامُهُ عَظِيمًا. نَعَمْ إِنَّ حِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - لَا يَزُولُ، وَلَكِنَّهُ يُعَامِلُ بِهِ كُلَّ أَحَدٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [١٣: ٨] فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْتَرَّ بِحِلْمِهِ - تَعَالَى -، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِكَرَمِهِ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [٨٢: ٦ - ٩].
349
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ تَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ حُدُودًا لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ يَنْتَهُونَ مِنْهَا إِلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزُوهَا، وَيَتَعَدَّوْهَا. وَهَكَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِهِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَكَذَا الْمُبَاحَاتِ، فَإِنَّ لَهَا حُدُودًا إِذَا تَجَاوَزَهَا الْمُكَلَّفُ وَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ فَقَدْ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [٧: ٣١] أَقُولُ: فَمَدَارُ الطَّاعَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي دَائِرَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ، وَمَدَارُ الْعِصْيَانِ عَلَى اعْتِدَائِهَا ; وَلِذَلِكَ وَصَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُبَيِّنَةَ كَوْنَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ حُدُودًا بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ مُطْلَقًا، فَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ إلخ. طَاعَةُ اللهِ - تَعَالَى - هِيَ اتِّبَاعُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ عَنْ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَطَاعَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ عَيْنُ طَاعَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [٤: ٨٠] وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ إِذًا فِي ذِكْرِ طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ ذِكْرِ طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى -؟ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ طَاعَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَطَاعَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا تَتَّحِدَانِ فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى فِيمَا يُسْنِدُهُ الرَّسُولُ إِلَى رَبِّهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ يَأْمُرُ الرَّسُولُ بِأَشْيَاءَ، وَيَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ بِاجْتِهَادِهِ، فَإِذَا جَزَمَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِرْشَادِ، أَوْ الِاسْتِحْبَابِ، وَالنَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، أَوْ الِاسْتِهْجَانِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالْقَضَائِيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِمَامُ الْأُمَّةِ، وَحَاكِمُهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُقِرُّ رُسُلَهُ عَلَى خَطَإٍ فِي اجْتِهَادِهِمْ، بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ إِعْطَاءِ الِاجْتِهَادِ حَقَّهُ الْمُوصِلَ إِلَى مَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا أَذِنَ لِبَعْضِ مَنِ اسْتَأْذَنَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [٩: ٤٣] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَوْ مَعَ الْعِتَابِ كَمَا عَاتَبَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْمُوَافِقِ لِاجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي قَبُولِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ تَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ حُدُودًا لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ يَنْتَهُونَ مِنْهَا إِلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزُوهَا، وَيَتَعَدَّوْهَا. وَهَكَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِهِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَكَذَا الْمُبَاحَاتِ، فَإِنَّ لَهَا حُدُودًا إِذَا تَجَاوَزَهَا الْمُكَلَّفُ وَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ فَقَدْ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [٧: ٣١] أَقُولُ: فَمَدَارُ الطَّاعَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي دَائِرَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ، وَمَدَارُ الْعِصْيَانِ عَلَى اعْتِدَائِهَا ; وَلِذَلِكَ وَصَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُبَيِّنَةَ كَوْنَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ حُدُودًا بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ مُطْلَقًا، فَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ إلخ. طَاعَةُ اللهِ - تَعَالَى - هِيَ اتِّبَاعُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ عَنْ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَطَاعَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ عَيْنُ طَاعَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [٤: ٨٠] وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ إِذًا فِي ذِكْرِ طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ ذِكْرِ طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى -؟ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ طَاعَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَطَاعَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا تَتَّحِدَانِ فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى فِيمَا يُسْنِدُهُ الرَّسُولُ إِلَى رَبِّهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ يَأْمُرُ الرَّسُولُ بِأَشْيَاءَ، وَيَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ بِاجْتِهَادِهِ، فَإِذَا جَزَمَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِرْشَادِ، أَوْ الِاسْتِحْبَابِ، وَالنَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، أَوْ الِاسْتِهْجَانِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالْقَضَائِيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِمَامُ الْأُمَّةِ، وَحَاكِمُهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُقِرُّ رُسُلَهُ عَلَى خَطَإٍ فِي اجْتِهَادِهِمْ، بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ إِعْطَاءِ الِاجْتِهَادِ حَقَّهُ الْمُوصِلَ إِلَى مَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا أَذِنَ لِبَعْضِ مَنِ اسْتَأْذَنَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [٩: ٤٣] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَوْ مَعَ الْعِتَابِ كَمَا عَاتَبَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْمُوَافِقِ لِاجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي قَبُولِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
350
إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [٦٧، ٦٨] مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَكَمَا عَاتَبَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى الْمُسْتَرْشِدِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [٨٠: ١] إلخ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا يَقُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالْعَادَاتِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ دِينًا، وَلَا قَضَاءً، وَلَا سِيَاسَةً ; وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: طَاعَةُ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ بِعَيْنِهَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُنَا بِمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ اللهُ مِنْ مَصَالِحِنَا الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ طَاعَةَ الرَّسُولِ مَعَ طَاعَةِ اللهِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ قَبْلَ الْيَهُودِيَّةِ، وَبَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِعَقْلِهِ، وَعِلْمِهِ عَنِ الْوَحْيِ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا عَلِيمًا حَكِيمًا، وَأَعْمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلِي مِنَ الْخَيْرِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الرُّسُلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِطَبِيعَتِهِ النَّوْعِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الدِّينِ، وَأَنَّهَا هِيَ
الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحَوَاسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ. فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ فِي عَصْرٍ مِنْ عُصُورِهِ كَافِيًا لِهِدَايَةِ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِهِ، وَمُرَقِّيًا لَهُ بِدُونِ مَعُونَةِ الدِّينِ.
أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا مِنْ جَانِبِ الْمُرْتَابِينَ وَالْمَلَاحِدَةِ: أَنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ لَا يَدِينُونَ بِدِينٍ وَهُمْ فِي دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْأَفْكَارِ، وَالْآدَابِ، وَحُسْنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ، وَتَنْفَعُ النَّاسَ، حَتَّى إِنَّ الْعَاقِلَ الْمُجَرَّدَ عَنِ التَّعَصُّبِ الدِّينِيِّ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلَهُ بَلْ يَسْعَى كَثِيرٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ لَجَعْلِ الْأُمَمِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي آدَابِهِمْ، وَارْتِقَائِهِمْ.
وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا (أَوَّلًا) بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هِدَايَةِ الْجَمَاعَاتِ مِنَ الْبَشَرِ، وَالْقَبَائِلِ، وَالْأُمَمِ الَّذِينَ يَتَحَقَّقُ بِارْتِقَائِهِمْ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَوِيَّةً، أَوْ مَدَنِيَّةً، وَقَدْ عَلَّمَنَا التَّارِيخُ أَنَّهُ لَمْ تَقُمْ مَدَنِيَّةٌ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَنِيَّاتِ الَّتِي وَعَاهَا وَعَرَفَهَا إِلَّا عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ حَتَّى مَدَنِيَّاتُ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْكَلَدَانِيِّينَ، وَالْيُونَانِيِّينَ، وَعَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِهِدَايَتِهَا، فَنَحْنُ بِهَذَا نَرَى أَنَّ تِلْكَ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةَ كَانَ لَهَا أَصْلٌ إِلَهِيٌّ، ثُمَّ سَرَتِ الْوَثَنِيَّةُ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى غَلَبَتْ عَلَى أَصْلِهَا، كَمَا سَرَتْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي بَقِيَ أَصْلُهَا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ. وَلَيْسَ لِلْبَشَرِ دِيَانَةٌ يَحْفَظُ التَّارِيخُ أَصْلَهَا حِفْظًا تَامًّا إِلَّا الدِّيَانَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ دَوَّنَ فِي أَسْفَارِهِ كَيْفِيَّةَ سَرَيَانِ الْوَثَنِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوِ الْخَفِيَّةِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهَا كَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَسَائِرِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّأْوِيلُ أَوِ الْجَهْلُ، حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: طَاعَةُ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ بِعَيْنِهَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُنَا بِمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ اللهُ مِنْ مَصَالِحِنَا الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ طَاعَةَ الرَّسُولِ مَعَ طَاعَةِ اللهِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ قَبْلَ الْيَهُودِيَّةِ، وَبَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِعَقْلِهِ، وَعِلْمِهِ عَنِ الْوَحْيِ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا عَلِيمًا حَكِيمًا، وَأَعْمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلِي مِنَ الْخَيْرِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الرُّسُلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِطَبِيعَتِهِ النَّوْعِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الدِّينِ، وَأَنَّهَا هِيَ
الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحَوَاسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ. فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ فِي عَصْرٍ مِنْ عُصُورِهِ كَافِيًا لِهِدَايَةِ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِهِ، وَمُرَقِّيًا لَهُ بِدُونِ مَعُونَةِ الدِّينِ.
أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا مِنْ جَانِبِ الْمُرْتَابِينَ وَالْمَلَاحِدَةِ: أَنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ لَا يَدِينُونَ بِدِينٍ وَهُمْ فِي دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْأَفْكَارِ، وَالْآدَابِ، وَحُسْنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ، وَتَنْفَعُ النَّاسَ، حَتَّى إِنَّ الْعَاقِلَ الْمُجَرَّدَ عَنِ التَّعَصُّبِ الدِّينِيِّ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلَهُ بَلْ يَسْعَى كَثِيرٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ لَجَعْلِ الْأُمَمِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي آدَابِهِمْ، وَارْتِقَائِهِمْ.
وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا (أَوَّلًا) بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هِدَايَةِ الْجَمَاعَاتِ مِنَ الْبَشَرِ، وَالْقَبَائِلِ، وَالْأُمَمِ الَّذِينَ يَتَحَقَّقُ بِارْتِقَائِهِمْ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَوِيَّةً، أَوْ مَدَنِيَّةً، وَقَدْ عَلَّمَنَا التَّارِيخُ أَنَّهُ لَمْ تَقُمْ مَدَنِيَّةٌ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَنِيَّاتِ الَّتِي وَعَاهَا وَعَرَفَهَا إِلَّا عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ حَتَّى مَدَنِيَّاتُ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْكَلَدَانِيِّينَ، وَالْيُونَانِيِّينَ، وَعَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِهِدَايَتِهَا، فَنَحْنُ بِهَذَا نَرَى أَنَّ تِلْكَ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةَ كَانَ لَهَا أَصْلٌ إِلَهِيٌّ، ثُمَّ سَرَتِ الْوَثَنِيَّةُ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى غَلَبَتْ عَلَى أَصْلِهَا، كَمَا سَرَتْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي بَقِيَ أَصْلُهَا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ. وَلَيْسَ لِلْبَشَرِ دِيَانَةٌ يَحْفَظُ التَّارِيخُ أَصْلَهَا حِفْظًا تَامًّا إِلَّا الدِّيَانَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ دَوَّنَ فِي أَسْفَارِهِ كَيْفِيَّةَ سَرَيَانِ الْوَثَنِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوِ الْخَفِيَّةِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهَا كَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَسَائِرِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّأْوِيلُ أَوِ الْجَهْلُ، حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ
351
فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَحْكَامِهِ الظَّاهِرَةِ غَيْرَ قَلِيلٍ مِمَّا يُخَالِفُونَ بِهِ جِيرَانَهُمْ كَجَوَازِ أَكْلِ لَحْمِ الْبَقَرِ فِي الْأَطْرَافِ الشَّاسِعَةِ مِنَ الْهِنْدِ، وَكَيْفِيَّةِ الزَّوَاجِ، وَدَفْنِ الْمَوْتَى فِي بَعْضِ بِلَادِ رُوسْيَا وَغَيْرِهَا! ! فَمَنْ عَلِمَ هَذَا لَا يَسْتَبْعِدُ تَحَوُّلَ الدِّيَانَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْقَدِيمَةِ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ.
فَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ وَهِدَايَةُ الدِّينِ أَسَاسُ كُلِّ مَدَنِيَّةٍ ; لِأَنَّ الِارْتِقَاءَ الْمَعْنَوِيَّ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الِارْتِقَاءِ الْمَادِّيِّ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَقْرَأُ فِي كَلَامِ شَيْخِ الْفَلَاسِفَةِ الِاجْتِمَاعِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ (هربرت سبنسر) أَنَّ آدَابَ الْأُمَمِ وَفَضَائِلَهَا الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَدَنِيَّتِهَا مُسْتَنِدَةٌ كُلُّهَا إِلَى الدِّينِ وَقَائِمَةٌ عَلَى أَسَاسِهِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُحَاوِلُونَ تَحْوِيلَهَا عَنْ أَسَاسِ
الدِّينِ، وَبِنَاءَهَا عَلَى أَسَاسِ الْعِلْمِ، وَالْعَقْلِ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا هَذَا التَّحْوِيلُ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ فِي طَوْرِ التَّحْوِيلِ فِي فَوْضَى أَدَبِيَّةٍ لَا تُعْرَفُ عَاقِبَتُهَا، وَلَا يُحَدَّدُ ضَرَرُهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. وَقَدْ قَالَ هُوَ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامُ فِي حَدِيثٍ لَهُ مَعَهُ: إِنَّ الْفَضِيلَةَ قَدِ اعْتَلَّتْ فِي الْأُمَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَضَعُفَتْ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ مِنْ حَيْثُ قَوِيَ فِيهَا الطَّمَعُ الْمَادِّيُّ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأُمَّةَ الْإِنْكِلِيزِيَّةَ مِنْ أَشَدِّ أُمَمِ أُورُبَّا تَمَسُّكًا بِالدِّينِ مَعَ كَوْنِ مَدَنِيَّتِهَا أَثْبَتَ، وَتَقَدُّمِهَا أَعَمَّ ; لِأَنَّ الدِّينَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ بِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ الْفَضَائِلِ، وَالْآدَابِ، عَلَى أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ الْأُورُبِّيَّةَ بَعِيدَةٌ عَنْ رُوحِ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الْمَالِ وَالسُّلْطَانِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا، فَلَوْلَا غَلَبَةُ بَعْضِ آدَابِ الْإِنْجِيلِ عَلَى تِلْكَ الْأُمَمِ لَأَسْرَفُوا فِي مَدَنِيَّتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ إِسْرَافًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْبِرِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَإِذًا لَبَادَتْ مَدَنِيَّتُهُمْ سَرِيعًا. وَمَنْ يَقُلْ إِنَّهُ سَيَكُونُ أَبْعَدَهَا عَنِ الدِّينِ أَقْرَبُهَا إِلَى السُّقُوطِ، وَالْهَلَاكِ لَا يَكُونُ مِفْتَاتًا فِي الْحُكْمِ وَلَا بَعِيدًا عَنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِيهِ.
فَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ الْأَوَّلِ عَنْ ذَلِكَ الْإِيرَادِ: أَنَّ وُجُودَ أَفْرَادٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ غَيْرِ الْمُتَدَيِّنِينَ لَا يَنْقُضُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ كَوْنِ الدِّينِ هُوَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَسُوقُهُ إِلَى كَمَالِهِ الْمَدَنِيِّ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَسُوقُهُ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ.
وَثَانِيًا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّ فُلَانًا الْمُلْحِدَ الَّذِي يَرَاهُ عَالِيَ الْأَفْكَارِ وَالْآدَابِ قَدْ نَشَأَ عَلَى الْإِلْحَادِ وَتَرَبَّى عَلَيْهِ مِنْ صِغَرِهِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى فِي ذَلِكَ عَنِ الدِّينِ، لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُرَبِّي أَوْلَادَهَا عَلَى الْإِلْحَادِ، وَإِنَّنَا نَعْرِفُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي مُقَدِّمَةِ الْمُرْتَقِينَ بَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، وَاتِّبَاعًا لِآدَابِ دِينِهِمْ، وَفَضَائِلِهِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الْإِلْحَادُ فِي الْكِبَرِ بَعْدَ الْخَوْضِ فِي الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تُنَاقِضُ بَعْضَ أُصُولِ ذَلِكَ الدِّينِ الَّذِي نَشَئُوا عَلَيْهِ، وَالْفَلْسَفَةُ قَدْ تُغَيِّرُ بَعْضَ عَقَائِدِ الْإِنْسَانِ، وَآرَائِهِ، وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يُقَبِّحُ لَهُ الْفَضَائِلَ وَالْآدَابَ الدِّينِيَّةَ، أَوْ يَذْهَبُ بِمَلَكَاتِهِ، وَأَخْلَاقِهِ الرَّاسِخَةِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا يَسْطُو الْإِلْحَادُ عَلَى بَعْضِ آدَابِ الدِّينِ كَالْقَنَاعَةِ بِالْمَالِ الْحَلَالِ فَيُزَيِّنُ لِصَاحِبِهِ
فَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ وَهِدَايَةُ الدِّينِ أَسَاسُ كُلِّ مَدَنِيَّةٍ ; لِأَنَّ الِارْتِقَاءَ الْمَعْنَوِيَّ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الِارْتِقَاءِ الْمَادِّيِّ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَقْرَأُ فِي كَلَامِ شَيْخِ الْفَلَاسِفَةِ الِاجْتِمَاعِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ (هربرت سبنسر) أَنَّ آدَابَ الْأُمَمِ وَفَضَائِلَهَا الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَدَنِيَّتِهَا مُسْتَنِدَةٌ كُلُّهَا إِلَى الدِّينِ وَقَائِمَةٌ عَلَى أَسَاسِهِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُحَاوِلُونَ تَحْوِيلَهَا عَنْ أَسَاسِ
الدِّينِ، وَبِنَاءَهَا عَلَى أَسَاسِ الْعِلْمِ، وَالْعَقْلِ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا هَذَا التَّحْوِيلُ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ فِي طَوْرِ التَّحْوِيلِ فِي فَوْضَى أَدَبِيَّةٍ لَا تُعْرَفُ عَاقِبَتُهَا، وَلَا يُحَدَّدُ ضَرَرُهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. وَقَدْ قَالَ هُوَ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامُ فِي حَدِيثٍ لَهُ مَعَهُ: إِنَّ الْفَضِيلَةَ قَدِ اعْتَلَّتْ فِي الْأُمَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَضَعُفَتْ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ مِنْ حَيْثُ قَوِيَ فِيهَا الطَّمَعُ الْمَادِّيُّ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأُمَّةَ الْإِنْكِلِيزِيَّةَ مِنْ أَشَدِّ أُمَمِ أُورُبَّا تَمَسُّكًا بِالدِّينِ مَعَ كَوْنِ مَدَنِيَّتِهَا أَثْبَتَ، وَتَقَدُّمِهَا أَعَمَّ ; لِأَنَّ الدِّينَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ بِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ الْفَضَائِلِ، وَالْآدَابِ، عَلَى أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ الْأُورُبِّيَّةَ بَعِيدَةٌ عَنْ رُوحِ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الْمَالِ وَالسُّلْطَانِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا، فَلَوْلَا غَلَبَةُ بَعْضِ آدَابِ الْإِنْجِيلِ عَلَى تِلْكَ الْأُمَمِ لَأَسْرَفُوا فِي مَدَنِيَّتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ إِسْرَافًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْبِرِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَإِذًا لَبَادَتْ مَدَنِيَّتُهُمْ سَرِيعًا. وَمَنْ يَقُلْ إِنَّهُ سَيَكُونُ أَبْعَدَهَا عَنِ الدِّينِ أَقْرَبُهَا إِلَى السُّقُوطِ، وَالْهَلَاكِ لَا يَكُونُ مِفْتَاتًا فِي الْحُكْمِ وَلَا بَعِيدًا عَنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِيهِ.
فَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ الْأَوَّلِ عَنْ ذَلِكَ الْإِيرَادِ: أَنَّ وُجُودَ أَفْرَادٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ غَيْرِ الْمُتَدَيِّنِينَ لَا يَنْقُضُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ كَوْنِ الدِّينِ هُوَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَسُوقُهُ إِلَى كَمَالِهِ الْمَدَنِيِّ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَسُوقُهُ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ.
وَثَانِيًا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّ فُلَانًا الْمُلْحِدَ الَّذِي يَرَاهُ عَالِيَ الْأَفْكَارِ وَالْآدَابِ قَدْ نَشَأَ عَلَى الْإِلْحَادِ وَتَرَبَّى عَلَيْهِ مِنْ صِغَرِهِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى فِي ذَلِكَ عَنِ الدِّينِ، لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُرَبِّي أَوْلَادَهَا عَلَى الْإِلْحَادِ، وَإِنَّنَا نَعْرِفُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي مُقَدِّمَةِ الْمُرْتَقِينَ بَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، وَاتِّبَاعًا لِآدَابِ دِينِهِمْ، وَفَضَائِلِهِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الْإِلْحَادُ فِي الْكِبَرِ بَعْدَ الْخَوْضِ فِي الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تُنَاقِضُ بَعْضَ أُصُولِ ذَلِكَ الدِّينِ الَّذِي نَشَئُوا عَلَيْهِ، وَالْفَلْسَفَةُ قَدْ تُغَيِّرُ بَعْضَ عَقَائِدِ الْإِنْسَانِ، وَآرَائِهِ، وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يُقَبِّحُ لَهُ الْفَضَائِلَ وَالْآدَابَ الدِّينِيَّةَ، أَوْ يَذْهَبُ بِمَلَكَاتِهِ، وَأَخْلَاقِهِ الرَّاسِخَةِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا يَسْطُو الْإِلْحَادُ عَلَى بَعْضِ آدَابِ الدِّينِ كَالْقَنَاعَةِ بِالْمَالِ الْحَلَالِ فَيُزَيِّنُ لِصَاحِبِهِ
352
أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ مِنَ الْحَرَامِ كَأَكْلِ حُقُوقِ النَّاسِ، وَالْقِمَارِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّقِيَ مَا يَجْعَلُهُ حَقِيرًا بَيْنَ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أَوْ يُلْقِيهِ فِي السِّجْنِ، وَكَالْعِفَّةِ فِي الشَّهَوَاتِ فَيُبِيحُ لَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ
مَا لَا يُخِلُّ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. هَذَا إِذَا كَانَ رَاقِيًا فِي أَفْكَارِهِ، وَآدَابِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الرَّاقِينَ مِنْهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ، وَالنَّسْلِ إِلَّا الْقُوَّةُ الْقَاهِرَةُ، وَلَوْلَا أَنَّ دُوَلَ أُورُبَّا قَدْ نَظَّمَتْ فِرَقَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى الْحُقُوقِ مِنَ الشِّحْنَةِ وَالشُّرْطَةِ (الْبُولِيسِ وَالضَّابِطَةِ) أَتَمَّ تَنْظِيمٍ وَجَعَلَتِ الْجُيُوشَ الْمُنَظَّمَةَ عَوْنًا لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَمَا حُفِظَ لِأَحَدٍ عِنْدَهَا عِرْضٌ وَلَا مَالٌ، وَلَعَمَّتْ بِلَادَهَا الْفَوْضَى وَالِاخْتِلَالُ، وَلَقَدْ كَانَتِ الْحُقُوقُ وَالْأَعْرَاضُ مَحْفُوظَةً فِي الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ هَذِهِ الْقُوَى الْمُنَظَّمَةِ أَيَّامَ كَانَ الدِّينُ مَرْعِيًّا فِي الْآدَابِ، وَالْأَحْكَامِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ طَاعَةَ اللهِ وَرُسُلِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا، عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ هُنَا قَدْ جَاءَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّعَادَةِ الدَّائِمَةِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى ; وَلِذَلِكَ كَانَ جَزَاءُ الشَّرْطِ فِي الطَّاعَةِ هُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَإِنَّنَا نُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقِ، وَأَنَّهَا أَرْقَى مِمَّا نَرَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا لِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ وَمَنْ يُطِعْ إلخ، وَجَمَعَ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ فِيهَا مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا، فَإِنَّ مَنْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ - وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ مِنْ قَبْلُ، وَسَيَأْتِي فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِأَنَّهُ الصَّافِي الدَّائِمُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ بِجَانِبِهِ الْفَوْزُ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ الْمُنَغَّصَةِ بِالشَّوَائِبِ وَالْأَكْدَارِ.
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَقَدْ جِيءَ بِالْحَالِ هُنَا مُفْرَدًا كَالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ فَقَالَ: خَالِدًا مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ وَقَدِ اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ فِي نُكْتَةِ ذَلِكَ أَنَّ فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إِشَارَةً إِلَى تَمَتُّعِهِمْ بِالِاجْتِمَاعِ، وَأُنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَالْمُنْعِمُ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ الْمَعَرِّي الْحَكِيمُ:
وَأَمَّا مَنْ قَذَفَهُ عِصْيَانُهُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي النَّارِ فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَمْنَعُهُ عَنِ الْأُنْسِ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ وَحِيدٌ لَا يَجِدُ لَذَّةً فِي الِاجْتِمَاعِ بِغَيْرِهِ وَلَا أُنْسًا، فَلَمَّا كَانَ لَا يَتَمَتَّعُ بِمَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ الِاجْتِمَاعِ كَانَ كَأَنَّهُ وَحِيدٌ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ خَالِدًا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا
الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [٤٣: ٣٩].
مَا لَا يُخِلُّ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. هَذَا إِذَا كَانَ رَاقِيًا فِي أَفْكَارِهِ، وَآدَابِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الرَّاقِينَ مِنْهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ، وَالنَّسْلِ إِلَّا الْقُوَّةُ الْقَاهِرَةُ، وَلَوْلَا أَنَّ دُوَلَ أُورُبَّا قَدْ نَظَّمَتْ فِرَقَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى الْحُقُوقِ مِنَ الشِّحْنَةِ وَالشُّرْطَةِ (الْبُولِيسِ وَالضَّابِطَةِ) أَتَمَّ تَنْظِيمٍ وَجَعَلَتِ الْجُيُوشَ الْمُنَظَّمَةَ عَوْنًا لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَمَا حُفِظَ لِأَحَدٍ عِنْدَهَا عِرْضٌ وَلَا مَالٌ، وَلَعَمَّتْ بِلَادَهَا الْفَوْضَى وَالِاخْتِلَالُ، وَلَقَدْ كَانَتِ الْحُقُوقُ وَالْأَعْرَاضُ مَحْفُوظَةً فِي الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ هَذِهِ الْقُوَى الْمُنَظَّمَةِ أَيَّامَ كَانَ الدِّينُ مَرْعِيًّا فِي الْآدَابِ، وَالْأَحْكَامِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ طَاعَةَ اللهِ وَرُسُلِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا، عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ هُنَا قَدْ جَاءَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّعَادَةِ الدَّائِمَةِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى ; وَلِذَلِكَ كَانَ جَزَاءُ الشَّرْطِ فِي الطَّاعَةِ هُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَإِنَّنَا نُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقِ، وَأَنَّهَا أَرْقَى مِمَّا نَرَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا لِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ وَمَنْ يُطِعْ إلخ، وَجَمَعَ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ فِيهَا مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا، فَإِنَّ مَنْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ - وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ مِنْ قَبْلُ، وَسَيَأْتِي فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِأَنَّهُ الصَّافِي الدَّائِمُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ بِجَانِبِهِ الْفَوْزُ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ الْمُنَغَّصَةِ بِالشَّوَائِبِ وَالْأَكْدَارِ.
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَقَدْ جِيءَ بِالْحَالِ هُنَا مُفْرَدًا كَالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ فَقَالَ: خَالِدًا مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ وَقَدِ اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ فِي نُكْتَةِ ذَلِكَ أَنَّ فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إِشَارَةً إِلَى تَمَتُّعِهِمْ بِالِاجْتِمَاعِ، وَأُنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَالْمُنْعِمُ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ الْمَعَرِّي الْحَكِيمُ:
وَلَوْ أَنِّي حُبِيتُ الْخُلْدَ وَحْدِي | لَمَا أَحْبَبْتُ بِالْخُلْدِ انْفِرَادَا |
الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [٤٣: ٣٩].
353
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْعَاصِيَ الْمُتَعَدِّيَ لِلْحُدُودِ يَكُونُ خَالِدًا فِي النَّارِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعْصِيَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْكَبِيرَةِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ مَاتَ كَافِرًا، وَأَمَّا مَنْ مَاتَ عَاصِيًا فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، وَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ وَيَغْفِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ، ثُمَّ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤: ١١٦] وَسَتَأْتِي الْآيَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ يَجْعَلُ الْآيَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَصْلًا يُرْجِعُ إِلَيْهِ سَائِرَ الْآيَاتِ وَلَوْ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالتَّأْوِيلِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُخْتَلِفِينَ إِلَى أَنَّ تَعَدِّيَ حُدُودِ اللهِ - تَعَالَى - هُنَا يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحُدُودِ لَا جِنْسُهَا، وَمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ كُلَّهَا وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّعَدِّيَ يَصْدُقُ بِالْبَعْضِ وَهُوَ يَكُونُ مِنَ الْكُفْرِ وَجُحُودِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، وَالْجُحُودُ: إِمَّا صَرِيحٌ، وَإِمَّا غَيْرُ صَرِيحٍ، وَلَكِنَّهُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ، فَإِنَّ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ إِنْسَانٍ، وَإِعْطَاءَهُ لِآخَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ إِنْكَارِ حُكْمِ اللهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَوِ الشَّكِّ فِيهِ، وَإِنَّ الْحَاكِمَ إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَهُ السَّرِقَةُ فَحَبَسَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلْحَدِّ الَّذِي أَوْجَبَ اللهُ مُعَاقَبَةَ السَّارِقِ بِهِ، أَوْ مُسْتَقْبِحًا لَهُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ: وَإِذَا تَأَمَّلْتُمْ فِي هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ تَجِدُونَهُ لَفْظِيًّا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُصِرِّ عَلَى الذَّنْبِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ فِي النَّاجِينَ الْمُسَارِعِينَ إِلَى الْجَنَّةِ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٣: ١٣٥]-[رَاجِعْ ص١١٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ مِنَ التَّفْسِيرِ]- فَإِنَّ مَنْ يَعْمَلُ الذَّنْبَ، وَلَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِ عِنْدَ ارْتِكَابِهِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا يُعَدُّ مُصِرًّا عَالِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنْ لِلْمُذْنِبِ حَالَتَيْنِ، وَإِنَّنَا نُعِيدُ ذَلِكَ وَلَا نَزَالُ نُلِحُّ فِي تَقْرِيرِهِ إِلَى أَنْ نَمُوتَ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: غَلَبَةُ الْبَاعِثِ النَّفْسِيِّ مِنَ الشَّهْوَةِ، أَوِ الْغَضَبِ عَلَى الْإِنْسَانِ حَتَّى يَغِيبَ عَنْ ذِهْنِهِ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، وَقَلْبُهُ غَائِبٌ
عَنِ الْوَعِيدِ غَيْرُ مُتَذَكِّرٍ لِلنَّهْيِ، وَإِذَا تَذَكَّرَهُ يَكُونُ ضَعِيفًا كَنُورٍ ضَئِيلٍ يَلُوحُ فِي ظُلْمَةِ ذَلِكَ الْبَاعِثِ الْمُتَغَلِّبِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ أَوْ يَخْتَفِيَ، فَإِذَا سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ غَضَبُهُ وَتَذَكَّرَ النَّهْيَ وَالْوَعِيدَ نَدِمَ وَتَابَ، وَوَقَعَ مِنْ نَفْسِهِ فِي أَشَدِّ اللَّوْمِ وَالْعِتَابِ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعِقَابِ، وَصَاحِبُهُ جَدِيرٌ بِالنَّجَاةِ فِي يَوْمِ الْمَآبِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى الذَّنْبِ جَرِيئًا عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا ارْتِكَابَهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ بِتَرْكِهِ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ تَذَكُّرُ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدْ أَحَاطَتْ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُخْتَلِفِينَ إِلَى أَنَّ تَعَدِّيَ حُدُودِ اللهِ - تَعَالَى - هُنَا يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحُدُودِ لَا جِنْسُهَا، وَمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ كُلَّهَا وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّعَدِّيَ يَصْدُقُ بِالْبَعْضِ وَهُوَ يَكُونُ مِنَ الْكُفْرِ وَجُحُودِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، وَالْجُحُودُ: إِمَّا صَرِيحٌ، وَإِمَّا غَيْرُ صَرِيحٍ، وَلَكِنَّهُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ، فَإِنَّ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ إِنْسَانٍ، وَإِعْطَاءَهُ لِآخَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ إِنْكَارِ حُكْمِ اللهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَوِ الشَّكِّ فِيهِ، وَإِنَّ الْحَاكِمَ إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَهُ السَّرِقَةُ فَحَبَسَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلْحَدِّ الَّذِي أَوْجَبَ اللهُ مُعَاقَبَةَ السَّارِقِ بِهِ، أَوْ مُسْتَقْبِحًا لَهُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ: وَإِذَا تَأَمَّلْتُمْ فِي هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ تَجِدُونَهُ لَفْظِيًّا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُصِرِّ عَلَى الذَّنْبِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ فِي النَّاجِينَ الْمُسَارِعِينَ إِلَى الْجَنَّةِ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٣: ١٣٥]-[رَاجِعْ ص١١٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ مِنَ التَّفْسِيرِ]- فَإِنَّ مَنْ يَعْمَلُ الذَّنْبَ، وَلَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِ عِنْدَ ارْتِكَابِهِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا يُعَدُّ مُصِرًّا عَالِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنْ لِلْمُذْنِبِ حَالَتَيْنِ، وَإِنَّنَا نُعِيدُ ذَلِكَ وَلَا نَزَالُ نُلِحُّ فِي تَقْرِيرِهِ إِلَى أَنْ نَمُوتَ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: غَلَبَةُ الْبَاعِثِ النَّفْسِيِّ مِنَ الشَّهْوَةِ، أَوِ الْغَضَبِ عَلَى الْإِنْسَانِ حَتَّى يَغِيبَ عَنْ ذِهْنِهِ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، وَقَلْبُهُ غَائِبٌ
عَنِ الْوَعِيدِ غَيْرُ مُتَذَكِّرٍ لِلنَّهْيِ، وَإِذَا تَذَكَّرَهُ يَكُونُ ضَعِيفًا كَنُورٍ ضَئِيلٍ يَلُوحُ فِي ظُلْمَةِ ذَلِكَ الْبَاعِثِ الْمُتَغَلِّبِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ أَوْ يَخْتَفِيَ، فَإِذَا سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ غَضَبُهُ وَتَذَكَّرَ النَّهْيَ وَالْوَعِيدَ نَدِمَ وَتَابَ، وَوَقَعَ مِنْ نَفْسِهِ فِي أَشَدِّ اللَّوْمِ وَالْعِتَابِ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعِقَابِ، وَصَاحِبُهُ جَدِيرٌ بِالنَّجَاةِ فِي يَوْمِ الْمَآبِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى الذَّنْبِ جَرِيئًا عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا ارْتِكَابَهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ بِتَرْكِهِ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ تَذَكُّرُ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدْ أَحَاطَتْ
354
بِهِ خَطِيئَتُهُ حَتَّى آثَرَ طَاعَةَ شَهْوَتِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢: ٨١] فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّفْسِيرِ.
رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ يَطْمَعُونَ فِي عَفْوِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَنْ يُصِرُّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ - تَعَالَى - عَامِدًا عَالِمًا بِنَهْيهِ، وَوَعِيدِهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِصِدْقِ خَبَرِهِ، وَلَا مُذْعِنًا لِشَرْعِهِ الَّذِي تُنَالُ رَحْمَتُهُ وَرِضَاهُ بِالْتِزَامِهِ، وَعَذَابُهُ وَبَأْسُهُ بِاعْتِدَاءِ حُدُودِهِ، فَيَكُونُ إِذًا مُسْتَهْزِئًا بِهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الْعِصْيَانِ مَعَ عَدَمِ اسْتِشْعَارِ الْخَوْفِ، وَالنَّدَمِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَصِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْتُهُ يَكُونُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا لَا حَقِيقِيًّا.
أَقُولُ: هَذَا بَسْطُ مَا قَرَّرَهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِذَا تَذَكَّرَ الْقَارِئُ طَرِيقَتَنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَجَازَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - إِذْ بَسَطْنَاهَا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي بَابِ الْفَتَاوَى مِنَ الْمَنَارِ - فَإِنَّهُ يَزْدَادُ عِلْمًا وَبَيِّنَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَعْنِي بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَأْثِيرَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا فِي النَّفْسِ إِلَى أَلَّا يَبْقَى لِلْإِيمَانِ سُلْطَانٌ عَلَيْهَا، وَسَنُعِيدُ الْقَوْلَ فِيهِ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ إلخ.
وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ عَذَابَ الرُّوحِ بِالْإِهَانَةِ، يَعْنِي رَحِمَهُ اللهُ أَنَّ بَدَنَ هَذَا الْعَاصِي يُعَذَّبُ فِي النَّارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ
حَيَوَانٌ يَتَأَلَّمُ، وَرُوحُهُ تَتَأَلَّمُ بِالْإِهَانَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ يَشْعُرُ بِمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ، فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - النَّجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَالْفَوْزَ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا
قَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: (نَظْمِ الدُّرَرِ، فِي تَنَاسُبِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ) بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ
رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ يَطْمَعُونَ فِي عَفْوِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَنْ يُصِرُّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ - تَعَالَى - عَامِدًا عَالِمًا بِنَهْيهِ، وَوَعِيدِهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِصِدْقِ خَبَرِهِ، وَلَا مُذْعِنًا لِشَرْعِهِ الَّذِي تُنَالُ رَحْمَتُهُ وَرِضَاهُ بِالْتِزَامِهِ، وَعَذَابُهُ وَبَأْسُهُ بِاعْتِدَاءِ حُدُودِهِ، فَيَكُونُ إِذًا مُسْتَهْزِئًا بِهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الْعِصْيَانِ مَعَ عَدَمِ اسْتِشْعَارِ الْخَوْفِ، وَالنَّدَمِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَصِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْتُهُ يَكُونُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا لَا حَقِيقِيًّا.
أَقُولُ: هَذَا بَسْطُ مَا قَرَّرَهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِذَا تَذَكَّرَ الْقَارِئُ طَرِيقَتَنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَجَازَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - إِذْ بَسَطْنَاهَا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي بَابِ الْفَتَاوَى مِنَ الْمَنَارِ - فَإِنَّهُ يَزْدَادُ عِلْمًا وَبَيِّنَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَعْنِي بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَأْثِيرَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا فِي النَّفْسِ إِلَى أَلَّا يَبْقَى لِلْإِيمَانِ سُلْطَانٌ عَلَيْهَا، وَسَنُعِيدُ الْقَوْلَ فِيهِ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ إلخ.
وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ عَذَابَ الرُّوحِ بِالْإِهَانَةِ، يَعْنِي رَحِمَهُ اللهُ أَنَّ بَدَنَ هَذَا الْعَاصِي يُعَذَّبُ فِي النَّارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ
حَيَوَانٌ يَتَأَلَّمُ، وَرُوحُهُ تَتَأَلَّمُ بِالْإِهَانَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ يَشْعُرُ بِمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ، فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - النَّجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَالْفَوْزَ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا
قَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: (نَظْمِ الدُّرَرِ، فِي تَنَاسُبِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ) بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ
355
السَّابِقَةِ مُبَيِّنًا وَجْهَ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا نَصُّهُ: " وَلَمَّا تَقَدَّمَ - سُبْحَانَهُ - فِي الْإِيصَاءِ بِالنِّسَاءِ، وَكَانَ الْإِحْسَانُ فِي الدُّنْيَا تَارَةً يَكُونُ بِالثَّوَابِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالزَّجْرِ، وَالْعِقَابِ ; لِأَنَّ مَدَارَ الشَّرَائِعِ عَلَى الْعَدْلِ، وَالْإِنْصَافِ، وَالِاحْتِرَازِ فِي كُلِّ بَابٍ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ - خَتَمَ - سُبْحَانَهُ - بِإِهَانَةِ الْعَاصِي، وَكَانَ إِحْسَانًا إِلَيْهِ بِكَفِّهِ عَنِ الْفَسَادِ ; لِئَلَّا يُلْقِيَهُ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَكَانَ مِنْ أَفْحَشِ الْعِصْيَانِ الزِّنَا، وَكَانَ الْفَسَادُ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرَ، وَالْفِتْنَةُ بِهِنَّ أَكْبَرَ، وَالضَّرَرُ مِنْهُنَّ أَخْطَرَ، وَقَدْ يُدْخِلْنَ عَلَى الرِّجَالِ مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَوْلَادِهِمْ قَدَّمَهُنَّ فِيهِ اهْتِمَامًا بِزَجْرِهِنَّ " اهـ.
وَأَقُولُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالَّتِي قَبْلَهُمَا - وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي كَوْنِ آيِ الْإِرْثِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ النِّسَاءِ حَتَّى جَعَلَ إِرْثَ الْأُنْثَى فِيهَا أَصْلًا، أَوْ كَالْأَصْلِ يُبْنَى غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعْرَفُ بِهِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [فِي ص٣٢٢ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَكَانَ الْكَلَامُ قَبْلَهَا فِي تَوْرِيثِ النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ، وَالْقِسْطِ فِيهِنَّ وَعَدَدِ مَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ مَعَ الْعَدْلِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا جَاءَ حُكْمُ إِتْيَانِهِنَّ الْفَاحِشَةَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مُقَدَّمًا عَلَى حُكْمِ إِتْيَانِ الرِّجَالِ الْفَاحِشَةَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، وَبَيْنَ حُكْمِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كُرْهًا وَعَضْلِهِنَّ لِأَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ،
وَحُكْمِ مَا يَحْرُمُ مِنْهُنَّ فِي النِّكَاحِ. وَقَدْ أَحْسَنَ الْبِقَاعِيُّ فِي تَوْجِيهِ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ ذِكْرِ النِّسَاءِ هُنَا بِعِلَاقَتِهِ بِالْإِرْثِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشَةِ بِالزِّنَا الَّذِي يَقْضِي إِلَى تَوْرِيثِ وَلَدِ الزِّنَا، وَلَكِنَّنَا لَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ الْفَسَادَ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الرِّجَالِ بَلِ الرِّجَالُ أَكْثَرُ جُرْأَةً عَلَى الْفَوَاحِشِ وَإِتْيَانًا لَهَا، وَلَوْ أَمْكَنَ إِحْصَاءُ الزُّنَاةِ، وَالزَّوَانِي لَعَرَفَ ذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ اللَّاتِي: جَمْعٌ سَمَاعِيٌّ لِكَلِمَةِ الَّتِي أَوْ بِمَعْنَى الْجَمْعِ. وَيَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مَعْنَاهَا يَفْعَلْنَ الْفِعْلَةَ الشَّدِيدَةَ الْقُبْحِ، وَهِيَ الزِّنَا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَالسِّحَاقُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَصْلُ الْإِتْيَانِ وَالْإِتِيِّ الْمَجِيءُ، تَقُولُ: جِئْتُ الْبَلَدَ وَأَتَيْتُ الْبَلَدَ، وَجِئْتُ زَيْدًا، وَأَتَيْتُهُ، وَيَجْعَلُونَ مَفْعُولَهُمَا حَدَثًا فَيَكُونَانِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، وَمِنْهُ فِي الْمَجِيءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ صَاحِبِ مُوسَى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [١٨: ٧٤] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [١٩: ٨٩] وَاسْتِعْمَالُ الْإِتْيَانِ فِي الزِّنَا، وَاللِّوَاطِ هُوَ الشَّائِعُ كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَفْعُولُهُ حَدَثًا كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَمَا بَعْدَهَا، وَيَكُونُ شَخْصًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ [٧: ٨١] إلخ، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ، وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِثَالًا فِي اسْتِعْمَالِ الْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ بَيْنَ يَدِي وَأَنَا فِي فُنْدُقِ الْمُسَافِرِينَ كُتُبٌ أُرَاجِعُ فِيهَا مِنْ نِسَائِكُمْ أَيْ يَفْعَلْنَهَا حَالَ كَوْنِهِنَّ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَيِ اطْلُبُوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وَالْخِطَابُ
وَأَقُولُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالَّتِي قَبْلَهُمَا - وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي كَوْنِ آيِ الْإِرْثِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ النِّسَاءِ حَتَّى جَعَلَ إِرْثَ الْأُنْثَى فِيهَا أَصْلًا، أَوْ كَالْأَصْلِ يُبْنَى غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعْرَفُ بِهِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [فِي ص٣٢٢ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَكَانَ الْكَلَامُ قَبْلَهَا فِي تَوْرِيثِ النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ، وَالْقِسْطِ فِيهِنَّ وَعَدَدِ مَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ مَعَ الْعَدْلِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا جَاءَ حُكْمُ إِتْيَانِهِنَّ الْفَاحِشَةَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مُقَدَّمًا عَلَى حُكْمِ إِتْيَانِ الرِّجَالِ الْفَاحِشَةَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، وَبَيْنَ حُكْمِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كُرْهًا وَعَضْلِهِنَّ لِأَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ،
وَحُكْمِ مَا يَحْرُمُ مِنْهُنَّ فِي النِّكَاحِ. وَقَدْ أَحْسَنَ الْبِقَاعِيُّ فِي تَوْجِيهِ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ ذِكْرِ النِّسَاءِ هُنَا بِعِلَاقَتِهِ بِالْإِرْثِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشَةِ بِالزِّنَا الَّذِي يَقْضِي إِلَى تَوْرِيثِ وَلَدِ الزِّنَا، وَلَكِنَّنَا لَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ الْفَسَادَ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الرِّجَالِ بَلِ الرِّجَالُ أَكْثَرُ جُرْأَةً عَلَى الْفَوَاحِشِ وَإِتْيَانًا لَهَا، وَلَوْ أَمْكَنَ إِحْصَاءُ الزُّنَاةِ، وَالزَّوَانِي لَعَرَفَ ذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ اللَّاتِي: جَمْعٌ سَمَاعِيٌّ لِكَلِمَةِ الَّتِي أَوْ بِمَعْنَى الْجَمْعِ. وَيَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مَعْنَاهَا يَفْعَلْنَ الْفِعْلَةَ الشَّدِيدَةَ الْقُبْحِ، وَهِيَ الزِّنَا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَالسِّحَاقُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَصْلُ الْإِتْيَانِ وَالْإِتِيِّ الْمَجِيءُ، تَقُولُ: جِئْتُ الْبَلَدَ وَأَتَيْتُ الْبَلَدَ، وَجِئْتُ زَيْدًا، وَأَتَيْتُهُ، وَيَجْعَلُونَ مَفْعُولَهُمَا حَدَثًا فَيَكُونَانِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، وَمِنْهُ فِي الْمَجِيءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ صَاحِبِ مُوسَى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [١٨: ٧٤] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [١٩: ٨٩] وَاسْتِعْمَالُ الْإِتْيَانِ فِي الزِّنَا، وَاللِّوَاطِ هُوَ الشَّائِعُ كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَفْعُولُهُ حَدَثًا كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَمَا بَعْدَهَا، وَيَكُونُ شَخْصًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ [٧: ٨١] إلخ، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ، وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِثَالًا فِي اسْتِعْمَالِ الْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ بَيْنَ يَدِي وَأَنَا فِي فُنْدُقِ الْمُسَافِرِينَ كُتُبٌ أُرَاجِعُ فِيهَا مِنْ نِسَائِكُمْ أَيْ يَفْعَلْنَهَا حَالَ كَوْنِهِنَّ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَيِ اطْلُبُوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وَالْخِطَابُ
356
لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً ; لِأَنَّهُمْ مُتَكَافِلُونَ فِي أُمُورِهِمُ الْعَامَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْحُكَّامَ الَّذِينَ يُنَفِّذُونَ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُونَ الْحُدُودَ. وَلَفْظُ الْأَرْبَعَةِ يُطْلَقُ عَلَى الذُّكُورِ، فَالْمُرَادُ أَرْبَعَةٌ مِنْ رِجَالِكُمْ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: " مَضَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أَلَّا تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ " فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ قِيَامَ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَا يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ فَهُوَ خَاصٌّ بِمَا عَدَاهَا، وَكَأَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ إِبْعَادُ النِّسَاءِ عَنْ مَوَاقِفِ الْفَوَاحِشِ، وَالْجَرَائِمِ، وَالْعِقَابِ، وَالتَّعْذِيبِ رَغْبَةً فِي أَنْ يَكُنَّ دَائِمًا غَافِلَاتٍ عَنِ الْقَبَائِحِ لَا يُفَكِّرْنَ
فِيهَا، وَلَا يَخُضْنَ مَعَ أَرْبَابِهَا، وَأَنْ تُحْفَظَ لَهُنَّ رِقَّةُ أَفْئِدَتِهِنَّ فَلَا يَكُنَّ سَبَبًا لِلْعِقَابِ، وَاشْتَرَطُوا فِي الشُّهَدَاءِ أَيْضًا أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا.
فَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِنَّ بِإِتْيَانِهَا: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَيْ فَاحْبِسُوهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَامْنَعُوهُنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا عِقَابًا لَهُنَّ، وَحَيْلُولَةً بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْفَاحِشَةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَمَنْعِهِنَّ الْخُرُوجَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لِمُجَرَّدِ الْغَيْرَةِ، أَوْ مَحْضِ التَّحَكُّمِ مِنَ الرِّجَالِ، وَإِتْبَاعِهِمْ لِأَهْوَائِهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ التَّوَفِّي: الْقَبْضُ، وَالِاسْتِيفَاءُ، أَيْ حَتَّى تُقْبَضَ أَرْوَاحُهُنَّ بِالْمَوْتِ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا. فَسَّرَ الْجُمْهُورُ السَّبِيلَ بِمَا يَشْرَعُهُ اللهُ - تَعَالَى - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْفَاحِشَةِ هُنَا عِنْدَهُمْ، فَجَعَلُوا الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ عِقَابًا مُؤَقَّتًا مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْقِيتِ، وَرَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ نَفْيُ سَنَةٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَدِيثُ مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ لَا نَاسِخٌ، وَالَّذِينَ يُجِيزُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْأَحَادِيثِ جَعَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ نَاسِخًا لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ النَّاسِخُ لَهُ آيَةُ النُّورِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [٢٤: ٢] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْجَائِزِ أَلَّا تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِأَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُوصِيَ بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ بَعْدَ أَنْ يُحْدَدْنَ صِيَانَةً لَهُنَّ عَنْ مِثْلِ مَا جَرَى عَلَيْهِنَّ بِسَبَبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ وَالتَّعَرُّضِ لِلرِّجَالِ، وَيَكُونُ السَّبِيلُ - عَلَى هَذَا - النِّكَاحَ الْمُغْنِيَ عَنِ السِّفَاحِ. وَقَوْلُهُ هَذَا أَوْ تَجْوِيزُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ آيَةِ الْحَدِّ سَابِقَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْجُمْهُورِ الْمَبْنِيُّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ أَوَّلًا فَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِرِوَايَاتٍ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ بِالزِّنَا حُبِسَتْ فِي السِّجْنِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَخَذَ الْمَهْرَ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدٌّ، وَلَا يُجَامِعُهَا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ إِذَا زَنَتْ حُبِسَتْ
فِي الْبَيْتِ وَأَخَذَ زَوْجُهَا مَهْرَهَا
فِيهَا، وَلَا يَخُضْنَ مَعَ أَرْبَابِهَا، وَأَنْ تُحْفَظَ لَهُنَّ رِقَّةُ أَفْئِدَتِهِنَّ فَلَا يَكُنَّ سَبَبًا لِلْعِقَابِ، وَاشْتَرَطُوا فِي الشُّهَدَاءِ أَيْضًا أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا.
فَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِنَّ بِإِتْيَانِهَا: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَيْ فَاحْبِسُوهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَامْنَعُوهُنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا عِقَابًا لَهُنَّ، وَحَيْلُولَةً بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْفَاحِشَةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَمَنْعِهِنَّ الْخُرُوجَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لِمُجَرَّدِ الْغَيْرَةِ، أَوْ مَحْضِ التَّحَكُّمِ مِنَ الرِّجَالِ، وَإِتْبَاعِهِمْ لِأَهْوَائِهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ التَّوَفِّي: الْقَبْضُ، وَالِاسْتِيفَاءُ، أَيْ حَتَّى تُقْبَضَ أَرْوَاحُهُنَّ بِالْمَوْتِ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا. فَسَّرَ الْجُمْهُورُ السَّبِيلَ بِمَا يَشْرَعُهُ اللهُ - تَعَالَى - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْفَاحِشَةِ هُنَا عِنْدَهُمْ، فَجَعَلُوا الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ عِقَابًا مُؤَقَّتًا مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْقِيتِ، وَرَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ نَفْيُ سَنَةٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَدِيثُ مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ لَا نَاسِخٌ، وَالَّذِينَ يُجِيزُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْأَحَادِيثِ جَعَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ نَاسِخًا لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ النَّاسِخُ لَهُ آيَةُ النُّورِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [٢٤: ٢] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْجَائِزِ أَلَّا تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِأَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُوصِيَ بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ بَعْدَ أَنْ يُحْدَدْنَ صِيَانَةً لَهُنَّ عَنْ مِثْلِ مَا جَرَى عَلَيْهِنَّ بِسَبَبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ وَالتَّعَرُّضِ لِلرِّجَالِ، وَيَكُونُ السَّبِيلُ - عَلَى هَذَا - النِّكَاحَ الْمُغْنِيَ عَنِ السِّفَاحِ. وَقَوْلُهُ هَذَا أَوْ تَجْوِيزُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ آيَةِ الْحَدِّ سَابِقَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْجُمْهُورِ الْمَبْنِيُّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ أَوَّلًا فَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِرِوَايَاتٍ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ بِالزِّنَا حُبِسَتْ فِي السِّجْنِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَخَذَ الْمَهْرَ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدٌّ، وَلَا يُجَامِعُهَا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ إِذَا زَنَتْ حُبِسَتْ
فِي الْبَيْتِ وَأَخَذَ زَوْجُهَا مَهْرَهَا
357
حَتَّى جَاءَتِ الْحُدُودُ فَنَسَخَتْهَا. وَلَكِنَّنَا إِذَا بَحَثْنَا فِي مَتْنِ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ كَيْفَمَا كَانَ سَنَدُهُمَا نَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ فِيهِمَا عَمَلًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ إِجَازَةٌ لِأَخْذِ الْمَهْرِ، بَلِ الْآيَاتُ قَبْلَهَا، وَبَعْدَهَا تُحَرِّمُ أَكْلَ الرَّجُلِ شَيْئًا مَا مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْبِسُونَهَا فِي السِّجْنِ أَيْ لَا فِي بَيْتِهَا، وَصَرَّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَبَدْئِهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ، أَوِ اسْتِصْحَابِ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا الْعَمَلَ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَلَا يَظْهَرُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَبَدْئِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ كُلُّهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُتَّصِلَةٌ بِهَا، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ السَّبِيلَ بِالْمَوْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبِيلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ دَاعِيَةُ السِّحَاقِ، وَالشِّفَاءُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَرَضًا، وَعَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ: التَّوْبَةُ وَصَلَاحُ الْحَالِ، وَيُرَجِّحُهُ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْ عِقَابِ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ إِنْ تَابَا، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَدْلِهِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ كَحُكْمِ الرِّجَالِ، فَالْإِبْهَامُ وَالْإِجْمَالُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ يُفَسِّرُهُ الْإِيضَاحُ وَالتَّفْصِيلُ فِي آخِرِ مَا بَعْدَهَا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَحْكَامُ التَّوْبَةِ بِعْدَهُمَا قَالَ - تَعَالَى -:
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ أَيْ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ وَهِيَ هُنَا الزِّنَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاللِّوَاطُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَعَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ، وَالْأَمْرُ مَعًا فِي قَوْلِ (الْجَلَالَيْنِ) وَالْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ فِي الْأَوَّلِ الزَّانِي، وَالزَّانِيَةُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَفِي الثَّانِي الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ يَجْعَلُ الْقَابِلَ كَالْفَاعِلِ وَفِي الثَّالِثِ، وَاللَّائِطُ وَلَا تَجُوزُ فِيهِ فَآذُوهُمَا. بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - تَفْسِيرُ الْإِيذَاءِ بِالتَّعْيِيرِ وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ تَفْسِيرُهُ بِالتَّعْيِيرِ، وَالتَّوْبِيخِ فَقَطْ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا الزِّنَا - كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - فَالْعِقَابُ كَانَ تَعْزِيرًا مُفَوَّضًا إِلَى الْأُمَّةِ وَإِلَّا جَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْإِيذَاءِ الْحَدُّ الْمَشْرُوعُ نَفْسُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ فَهِيَ مُبَيِّنَةٌ، وَمُحَدِّدَةٌ
لِلْإِيذَاءِ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا هُنَا فِي الزِّنَا، وَإِلَّا فَتِلْكَ خَاصَّةٌ بِحُكْمِ الزِّنَا ; لِأَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِيهِ، وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِاللِّوَاطِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي عِقَابِ مَنْ يَأْتِيهِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَتَخْصِيصُهُ الْفَاحِشَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاللِّوَاطِ الَّذِي هُوَ اسْتِمْتَاعُ الرَّجُلِ بِالرَّجُلِ، وَالْفَاحِشَةَ فِيمَا قَبْلَهَا بِالسِّحَاقِ الَّذِي هُوَ اسْتِمْتَاعُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِ تِلْكَ خَاصَّةً بِالنِّسَاءِ، وَهَذِهِ خَاصَّةً بِالذُّكُورِ، فَهَذَا مَرْجِعٌ لَفْظِيٌّ يُدَعِّمُهُ مَرْجِعٌ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ نَاطِقًا بِعُقُوبَةِ الْفَوَاحِشِ الثَّلَاثِ، وَكَوْنُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ أَيْ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ وَهِيَ هُنَا الزِّنَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاللِّوَاطُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَعَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ، وَالْأَمْرُ مَعًا فِي قَوْلِ (الْجَلَالَيْنِ) وَالْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ فِي الْأَوَّلِ الزَّانِي، وَالزَّانِيَةُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَفِي الثَّانِي الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ يَجْعَلُ الْقَابِلَ كَالْفَاعِلِ وَفِي الثَّالِثِ، وَاللَّائِطُ وَلَا تَجُوزُ فِيهِ فَآذُوهُمَا. بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - تَفْسِيرُ الْإِيذَاءِ بِالتَّعْيِيرِ وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ تَفْسِيرُهُ بِالتَّعْيِيرِ، وَالتَّوْبِيخِ فَقَطْ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا الزِّنَا - كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - فَالْعِقَابُ كَانَ تَعْزِيرًا مُفَوَّضًا إِلَى الْأُمَّةِ وَإِلَّا جَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْإِيذَاءِ الْحَدُّ الْمَشْرُوعُ نَفْسُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ فَهِيَ مُبَيِّنَةٌ، وَمُحَدِّدَةٌ
لِلْإِيذَاءِ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا هُنَا فِي الزِّنَا، وَإِلَّا فَتِلْكَ خَاصَّةٌ بِحُكْمِ الزِّنَا ; لِأَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِيهِ، وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِاللِّوَاطِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي عِقَابِ مَنْ يَأْتِيهِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَتَخْصِيصُهُ الْفَاحِشَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاللِّوَاطِ الَّذِي هُوَ اسْتِمْتَاعُ الرَّجُلِ بِالرَّجُلِ، وَالْفَاحِشَةَ فِيمَا قَبْلَهَا بِالسِّحَاقِ الَّذِي هُوَ اسْتِمْتَاعُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِ تِلْكَ خَاصَّةً بِالنِّسَاءِ، وَهَذِهِ خَاصَّةً بِالذُّكُورِ، فَهَذَا مَرْجِعٌ لَفْظِيٌّ يُدَعِّمُهُ مَرْجِعٌ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ نَاطِقًا بِعُقُوبَةِ الْفَوَاحِشِ الثَّلَاثِ، وَكَوْنُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ
358
مُحْكَمَتَيْنِ، وَالْإِحْكَامُ أَوْلَى مِنَ النَّسْخِ حَتَّى عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِهِ. وَسَتَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ.
فَإِنْ تَابَا رَجَعَا عَنِ الْفَاحِشَةِ وَنَدِمَا عَلَى فِعْلِهَا وَأَصْلَحَا الْعَمَلَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ يُقْبِلُ عَلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ الْعِصْيَانِ لِيُطَهِّرَ نَفْسَهُ وَيُزَكِّيَهَا مِنْ دَرَنِهِ وَيُقَوِّيَ فِيهَا دَاعِيَةَ الْخَيْرِ عَلَى دَاعِيَةِ الشَّرِّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا أَيْ كُفُّوا عَنْ إِيذَائِهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا أَيْ مُبَالِغًا فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ عِبَادِهِ شَدِيدَ الرَّحْمَةِ بِهِمْ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الْعِقَابَ لِيَنْزَجِرَ الْعَاصِي، وَلَا يَتَمَادَى فِيمَا يُفْسِدُهُ فَيَهْلِكَ، وَيَكُونَ قُدْوَةً فِي الشَّرِّ وَالْخُبْثِ - وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ " التَّوَّابِ الرَّحِيمِ " فِي [ص٤١: ج: ٢ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا مُلَخَّصُهُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَتَيْنِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الزِّنَا خَاصَّةً وَلِأَجْلِ الْفِرَارِ مِنَ التَّكْرَارِ، قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الْمُحْصَنَاتِ أَيِ الثَّيِّبَاتِ، فَهُنَّ اللَّوَاتِي كُنَّ يُحْبَسْنَ فِي الْبُيُوتِ إِذَا زَنَيْنَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، وَالثَّانِيَةُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ، وَالْمُحْصَنَاتِ، أَيْ فِي الْأَبْكَارِ، وَلِهَذَا كَانَ الْعِقَابُ فِيهَا أَخَفَّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَالْآيَتَانِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَنْسُوخَتَانِ بِالْحَدِّ الْمَفْرُوضِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَهُوَ السَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِلنِّسَاءِ اللَّوَاتِي يُمْسَكْنَ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنْ يَبْقَى فِي نَظْمِ الْآيَةِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَوَفِّي الْمَوْتِ وَمِنْ جَعْلِ السَّبِيلِ قَدْ جُعِلَ غَايَةً لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِإِنْزَالِ حُكْمٍ جَدِيدٍ فِيهِنَّ ; إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَمُتْنَ أَوْ يُنْزِلَ اللهُ فِيهِنَّ حُكْمًا جَدِيدًا. وَقَدْ فَسَّرَ السَّبِيلَ بَعْضُهُمْ بِالزَّوَاجِ كَأَنْ يُسَخِّرَ اللهُ لِلْمَرْأَةِ الْمَحْبُوسَةِ رَجُلًا آخَرَ يَتَزَوَّجُهَا. وَقَدْ
وَافَقَ الْجَلَالُ الْجُمْهُورَ فِي الْأُولَى، وَخَالَفَهُمْ فِي الثَّانِيَةِ، فَقَالَ: إِنَّهَا فِي الزِّنَا وَاللِّوَاطِ مَعًا، ثُمَّ رَجَّحَ أَنَّهَا فِي اللِّوَاطِ، فَتَكُونُ الْأُولَى مَنْسُوخَةً عَلَى رَأْيِهِ، وَالثَّانِيَةُ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ. وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْآيَتَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ الْأُولَى فِي الْمُسَاحِقَاتِ، وَالثَّانِيَةَ فِي اللِّوَاطِ، فَلَا نَسْخَ، وَحِكْمَةُ حَبْسِ الْمُسَاحِقَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَعْتَادُ الْمُسَاحَقَةَ تَأْبَى الرِّجَالَ، وَتَكْرَهُ قُرْبَهُمْ - أَيْ فَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ حَرْثًا لِلنَّسْلِ - فَتُعَاقَبُ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْبَيْتِ، وَالْمَنْعِ مِنْ مُخَالَطَةِ أَمْثَالِهَا مِنْ نِسَاءٍ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تَتَزَوَّجَ.
أَقُولُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تَكْرَهَ السِّحَاقَ، وَتَمِيلَ إِلَى الرِّجَالِ فَتُقْبِلُ عَلَى بَعْلِهَا إِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، وَتَتَزَوَّجُ إِنْ كَانَتْ أَيِّمًا. قَالَ: وَفِي إِسْنَادِ جَعْلِ السَّبِيلِ لَهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - إِشَارَةٌ إِلَى عُسْرِ النُّزُوعِ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الذَّمِيمَةِ، وَالشِّفَاءِ مِنْهَا حَتَّى بِالتَّرْكِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْحَبْسِ فَكَأَنَّهَا لَا تَزُولُ إِلَّا بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ - تَعَالَى -.
قَالَ: وَاعْتُرِضَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بَأَنَّ تَفْسِيرَ الْفَاحِشَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَبِأَنَّ
فَإِنْ تَابَا رَجَعَا عَنِ الْفَاحِشَةِ وَنَدِمَا عَلَى فِعْلِهَا وَأَصْلَحَا الْعَمَلَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ يُقْبِلُ عَلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ الْعِصْيَانِ لِيُطَهِّرَ نَفْسَهُ وَيُزَكِّيَهَا مِنْ دَرَنِهِ وَيُقَوِّيَ فِيهَا دَاعِيَةَ الْخَيْرِ عَلَى دَاعِيَةِ الشَّرِّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا أَيْ كُفُّوا عَنْ إِيذَائِهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا أَيْ مُبَالِغًا فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ عِبَادِهِ شَدِيدَ الرَّحْمَةِ بِهِمْ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الْعِقَابَ لِيَنْزَجِرَ الْعَاصِي، وَلَا يَتَمَادَى فِيمَا يُفْسِدُهُ فَيَهْلِكَ، وَيَكُونَ قُدْوَةً فِي الشَّرِّ وَالْخُبْثِ - وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ " التَّوَّابِ الرَّحِيمِ " فِي [ص٤١: ج: ٢ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا مُلَخَّصُهُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَتَيْنِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الزِّنَا خَاصَّةً وَلِأَجْلِ الْفِرَارِ مِنَ التَّكْرَارِ، قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الْمُحْصَنَاتِ أَيِ الثَّيِّبَاتِ، فَهُنَّ اللَّوَاتِي كُنَّ يُحْبَسْنَ فِي الْبُيُوتِ إِذَا زَنَيْنَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، وَالثَّانِيَةُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ، وَالْمُحْصَنَاتِ، أَيْ فِي الْأَبْكَارِ، وَلِهَذَا كَانَ الْعِقَابُ فِيهَا أَخَفَّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَالْآيَتَانِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَنْسُوخَتَانِ بِالْحَدِّ الْمَفْرُوضِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَهُوَ السَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِلنِّسَاءِ اللَّوَاتِي يُمْسَكْنَ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنْ يَبْقَى فِي نَظْمِ الْآيَةِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَوَفِّي الْمَوْتِ وَمِنْ جَعْلِ السَّبِيلِ قَدْ جُعِلَ غَايَةً لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِإِنْزَالِ حُكْمٍ جَدِيدٍ فِيهِنَّ ; إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَمُتْنَ أَوْ يُنْزِلَ اللهُ فِيهِنَّ حُكْمًا جَدِيدًا. وَقَدْ فَسَّرَ السَّبِيلَ بَعْضُهُمْ بِالزَّوَاجِ كَأَنْ يُسَخِّرَ اللهُ لِلْمَرْأَةِ الْمَحْبُوسَةِ رَجُلًا آخَرَ يَتَزَوَّجُهَا. وَقَدْ
وَافَقَ الْجَلَالُ الْجُمْهُورَ فِي الْأُولَى، وَخَالَفَهُمْ فِي الثَّانِيَةِ، فَقَالَ: إِنَّهَا فِي الزِّنَا وَاللِّوَاطِ مَعًا، ثُمَّ رَجَّحَ أَنَّهَا فِي اللِّوَاطِ، فَتَكُونُ الْأُولَى مَنْسُوخَةً عَلَى رَأْيِهِ، وَالثَّانِيَةُ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ. وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْآيَتَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ الْأُولَى فِي الْمُسَاحِقَاتِ، وَالثَّانِيَةَ فِي اللِّوَاطِ، فَلَا نَسْخَ، وَحِكْمَةُ حَبْسِ الْمُسَاحِقَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَعْتَادُ الْمُسَاحَقَةَ تَأْبَى الرِّجَالَ، وَتَكْرَهُ قُرْبَهُمْ - أَيْ فَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ حَرْثًا لِلنَّسْلِ - فَتُعَاقَبُ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْبَيْتِ، وَالْمَنْعِ مِنْ مُخَالَطَةِ أَمْثَالِهَا مِنْ نِسَاءٍ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تَتَزَوَّجَ.
أَقُولُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تَكْرَهَ السِّحَاقَ، وَتَمِيلَ إِلَى الرِّجَالِ فَتُقْبِلُ عَلَى بَعْلِهَا إِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، وَتَتَزَوَّجُ إِنْ كَانَتْ أَيِّمًا. قَالَ: وَفِي إِسْنَادِ جَعْلِ السَّبِيلِ لَهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - إِشَارَةٌ إِلَى عُسْرِ النُّزُوعِ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الذَّمِيمَةِ، وَالشِّفَاءِ مِنْهَا حَتَّى بِالتَّرْكِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْحَبْسِ فَكَأَنَّهَا لَا تَزُولُ إِلَّا بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ - تَعَالَى -.
قَالَ: وَاعْتُرِضَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بَأَنَّ تَفْسِيرَ الْفَاحِشَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَبِأَنَّ
359
الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ اللِّوَاطِ. فَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ بِهِ وَنَاهِيكَ بِمُجَاهِدٍ.
وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ، وَيَفْهَمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَرْوِيًّا عَنْ أَحَدٍ بِشَرْطِ أَلَّا يَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا، وَأَجَابَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الصَّحَابَةَ إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ اللِّوَاطِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَا حَدَّ فِيهَا. وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يَجْلِسُونَ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَدَارَسُونَهُ، وَيَتَدَبَّرُونَهُ لِلِاهْتِدَاءِ، وَالِاتِّعَاظِ، وَهُمْ يَفْهَمُونَهُ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، فَإِذَا سَأَلَهُمْ سَائِلٌ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ ذَكَرُوا لَهُ تَفْسِيرَهَا يَسْكُتُونَ عَنْ حُكْمِ الشَّيْءِ السِّنِينَ الطِّوَالَ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ذَكَرُوا حُكْمَهَا، فَإِذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حُكْمُ السِّحَاقِ، وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَنَا رِوَايَةً عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَلَا حُكْمًا مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ بِالْحَبْسِ لِأَجْلِهِ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ هَذَا، وَذَاكَ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِمْ. وَيَشْهَدُ بِهِ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ يَضَعُ عِقَابًا عَلَى فَاحِشَةٍ، أَوْ جَرِيمَةٍ فَيَمْتَنِعُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ. فَلَا تَقَعُ أَوَّلًا تَظْهَرُ فِيهِمْ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى أَحَدٍ، فَهَذَا مِمَّا نَحْمَدُ اللهَ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَنَحْمَدُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَلَا نَعُدُّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ فَالْحَقُّ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْآيَتَيْنِ.
قَالَ: وَبَحَثُوا فِي جَمْعِ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ، وَتَثْنِيَةِ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا، وَعَدُّوهُ مُشْكِلًا، وَمَا هُوَ بِمُشْكِلٍ بَلْ نُكْتَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ أَنَّ النِّسَاءَ لَمَّا كُنَّ لَا يَجِدْنَ مِنَ الْعَارِ فِي السِّحَاقِ مَا يَجِدُهُ الرَّجُلُ فِي إِتْيَانِ مِثْلِهِ كَانَتْ فَاحِشَةُ السِّحَاقِ مَظِنَّةَ الشُّيُوعِ وَالْإِظْهَارِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَفَاحِشَةُ اللِّوَاطِ مَظِنَّةَ الْإِخْفَاءِ حَتَّى لَا تَكَادَ تَتَجَاوَزُ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا، فَفِي التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُثَنَّى إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَتَقْدِيرٌ لِكَوْنِ فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ عَارًا فَاضِحًا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ التَّعْبِيرِ بِالْجَمْعِ، وَالتَّثْنِيَةِ مِنْ بَابِ التَّنْوِيعِ فَذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الِاشْتِبَاهِ.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ، وَيَفْهَمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَرْوِيًّا عَنْ أَحَدٍ بِشَرْطِ أَلَّا يَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا، وَأَجَابَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الصَّحَابَةَ إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ اللِّوَاطِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَا حَدَّ فِيهَا. وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يَجْلِسُونَ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَدَارَسُونَهُ، وَيَتَدَبَّرُونَهُ لِلِاهْتِدَاءِ، وَالِاتِّعَاظِ، وَهُمْ يَفْهَمُونَهُ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، فَإِذَا سَأَلَهُمْ سَائِلٌ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ ذَكَرُوا لَهُ تَفْسِيرَهَا يَسْكُتُونَ عَنْ حُكْمِ الشَّيْءِ السِّنِينَ الطِّوَالَ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ذَكَرُوا حُكْمَهَا، فَإِذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حُكْمُ السِّحَاقِ، وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَنَا رِوَايَةً عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَلَا حُكْمًا مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ بِالْحَبْسِ لِأَجْلِهِ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ هَذَا، وَذَاكَ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِمْ. وَيَشْهَدُ بِهِ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ يَضَعُ عِقَابًا عَلَى فَاحِشَةٍ، أَوْ جَرِيمَةٍ فَيَمْتَنِعُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ. فَلَا تَقَعُ أَوَّلًا تَظْهَرُ فِيهِمْ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى أَحَدٍ، فَهَذَا مِمَّا نَحْمَدُ اللهَ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَنَحْمَدُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَلَا نَعُدُّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ فَالْحَقُّ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْآيَتَيْنِ.
قَالَ: وَبَحَثُوا فِي جَمْعِ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ، وَتَثْنِيَةِ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا، وَعَدُّوهُ مُشْكِلًا، وَمَا هُوَ بِمُشْكِلٍ بَلْ نُكْتَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ أَنَّ النِّسَاءَ لَمَّا كُنَّ لَا يَجِدْنَ مِنَ الْعَارِ فِي السِّحَاقِ مَا يَجِدُهُ الرَّجُلُ فِي إِتْيَانِ مِثْلِهِ كَانَتْ فَاحِشَةُ السِّحَاقِ مَظِنَّةَ الشُّيُوعِ وَالْإِظْهَارِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَفَاحِشَةُ اللِّوَاطِ مَظِنَّةَ الْإِخْفَاءِ حَتَّى لَا تَكَادَ تَتَجَاوَزُ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا، فَفِي التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُثَنَّى إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَتَقْدِيرٌ لِكَوْنِ فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ عَارًا فَاضِحًا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ التَّعْبِيرِ بِالْجَمْعِ، وَالتَّثْنِيَةِ مِنْ بَابِ التَّنْوِيعِ فَذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الِاشْتِبَاهِ.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
360
لَمَّا ذَكَرَ - تَعَالَى - أَنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الْإِصْلَاحِ تَقْتَضِي تَرْكَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّوَّابِ الرَّحِيمِ، أَيِ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ كَثِيرًا، وَيَعْفُو بِهَا عَنْهُمْ - عَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فَقَالَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ أَيْ إِنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي أَوْجَبَ اللهُ - تَعَالَى - قَبُولَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِوَعْدِهِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ كَرَمِهِ، وَفَضْلِهِ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَالسُّوءُ: هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ الَّذِي يَسُوءُ فَاعِلَهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا سَلِيمَ الْفِطْرَةِ كَرِيمَ النَّفْسِ، أَوْ يَسُوءُ النَّاسَ، وَيَصْدُقُ عَلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ. وَالْجَهَالَةُ: الْجَهْلُ وَتَغْلِبُ فِي السَّفَاهَةِ الَّتِي تُلَابِسُ النَّفْسَ عِنْدَ ثَوْرَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ سَوْرَةِ الْغَضَبِ فَتَذْهَبُ بِالْحِلْمِ، وَتُنْسِي الْحَقَّ، وَالْمُرَادُ بِالزَّمَنِ الْقَرِيبِ: الْوَقْتُ الَّذِي تَسْكُنُ تِلْكَ الثَّوْرَةُ، أَوْ تَنْكَسِرُ بِهِ تِلْكَ السَّوْرَةُ، وَيَثُوبُ إِلَى فَاعِلِ السَّيِّئَةِ حِلْمُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ دِينُهُ وَعَقْلُهُ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى تَفْسِيرِ الزَّمَنِ
الْقَرِيبِ بِمَا قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَنْفِي قَبُولَ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَتُوبُونَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ مُذْنِبٍ حَتْمًا، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي لَا تُقْبَلُ فِيهِ تَوْبَةُ مُذْنِبٍ قَطُّ، وَمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَحَلُّ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَكُلَّمَا قَرُبَ وَقْتُ التَّوْبَةِ مِنْ وَقْتِ اقْتِرَافِ الذَّنْبِ كَانَ الرَّجَاءُ أَقْوَى، وَكُلَّمَا بَعُدَ الْوَقْتُ بِالْإِصْرَارِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَالتَّسْوِيفِ كَانَ الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ هُوَ الْأَرْجَحُ ; لِأَنَّ الْإِصْرَارَ قَدْ يَنْتَهِي قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ بِالرَّيْنِ، وَالْخَتْمِ، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [٢: ٧] وَتَفْسِيرَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [٢: ٨١] مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ [رَاجِعْ ص١٢٠ و٣٠٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ١ وَكَذَا ص٣٠٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٣ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَسَنُعِيدُ بَيَانَهُ أَيْضًا. وَكَمْ غَرَّتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ النَّاسَ وَجَرَّأَتْهُمْ عَلَى الْإِصْرَارِعَلَى الذُّنُوبِ، وَالْآثَامِ، وَأَوْهَمَتْهُمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَضُرُّهُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى الْمَعَاصِي طُولَ حَيَاتِهِ إِذَا تَابَ قَبْلَ بُلُوغِ رُوحِهِ الْحُلْقُومَ، فَصَارَ الْمَغْرُورُونَ يُسَوِّفُونَ بِالتَّوْبَةِ حَتَّى يُوبِقَهُمُ التَّسْوِيفُ، فَيَمُوتُوا قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ التَّوْبَةِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ تُقْرَنَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَآيَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [٢٠: ٨٢] وَقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [٤٠: ٧] وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْآثَارِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ. كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْنُطَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، وَيَيْأَسَ مِنْ قَبُولِهِ إِيَّاهُ إِذَا هُوَ تَابَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَلَيْسَ
الْقَرِيبِ بِمَا قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَنْفِي قَبُولَ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَتُوبُونَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ مُذْنِبٍ حَتْمًا، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي لَا تُقْبَلُ فِيهِ تَوْبَةُ مُذْنِبٍ قَطُّ، وَمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَحَلُّ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَكُلَّمَا قَرُبَ وَقْتُ التَّوْبَةِ مِنْ وَقْتِ اقْتِرَافِ الذَّنْبِ كَانَ الرَّجَاءُ أَقْوَى، وَكُلَّمَا بَعُدَ الْوَقْتُ بِالْإِصْرَارِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَالتَّسْوِيفِ كَانَ الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ هُوَ الْأَرْجَحُ ; لِأَنَّ الْإِصْرَارَ قَدْ يَنْتَهِي قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ بِالرَّيْنِ، وَالْخَتْمِ، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [٢: ٧] وَتَفْسِيرَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [٢: ٨١] مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ [رَاجِعْ ص١٢٠ و٣٠٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ١ وَكَذَا ص٣٠٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٣ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَسَنُعِيدُ بَيَانَهُ أَيْضًا. وَكَمْ غَرَّتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ النَّاسَ وَجَرَّأَتْهُمْ عَلَى الْإِصْرَارِعَلَى الذُّنُوبِ، وَالْآثَامِ، وَأَوْهَمَتْهُمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَضُرُّهُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى الْمَعَاصِي طُولَ حَيَاتِهِ إِذَا تَابَ قَبْلَ بُلُوغِ رُوحِهِ الْحُلْقُومَ، فَصَارَ الْمَغْرُورُونَ يُسَوِّفُونَ بِالتَّوْبَةِ حَتَّى يُوبِقَهُمُ التَّسْوِيفُ، فَيَمُوتُوا قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ التَّوْبَةِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ تُقْرَنَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَآيَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [٢٠: ٨٢] وَقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [٤٠: ٧] وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْآثَارِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ. كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْنُطَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، وَيَيْأَسَ مِنْ قَبُولِهِ إِيَّاهُ إِذَا هُوَ تَابَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَلَيْسَ
361
مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ التَّمَادِي فِي الذُّنُوبِ إِذَا هُوَ تَابَ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَلَوْ بِسَاعَةٍ ; فَإِنَّ حَمْلَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُخَالِفٌ لِهَدْيِ كِتَابِ اللهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا، وَلِسُنَنِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ نَفْسَهُ تَتَدَنَّسُ بِالذُّنُوبِ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى مُزَاوَلَتِهَا لَهَا تَتَمَكَّنُ فِيهَا، وَتَرْسَخُ، فَلَا تَزُولُ إِلَّا بِتَزْكِيَتِهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ
فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ يُنَاسِبُ زَمَنَ الدَّنَسِ مَعَ تَرْكِ أَسْبَابِ الدَّنَسِ، وَأَمَّا التَّرْكُ وَحْدَهُ فَلَا يَكْفِي، كَمَا إِذَا وَرَدَتِ الْأَقْذَارُ، وَالْأَدْنَاسُ الْحِسِّيَّةُ عَلَى ثَوْبٍ زَمَنًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ لَا يُنَظَّفُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهَا عَنْهُ. عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ إِذَا تَكَرَّرَتْ تَصِيرُ عَادَاتٍ تَمْلِكُ عَلَى النَّفْسِ أَمْرَهَا حَتَّى تَصِيرَ التَّوْبَةُ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ وَأَشَقِّهَا ; لِأَنَّهَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنِ اقْتِلَاعِ الْمَلَكَاتِ الَّتِي تَكَيَّفَ بِهَا الْمَجْمُوعُ الْعَصَبِيُّ، فَمَا أَخْسَرَ صَفْقَةَ الْمُسَوِّفِينَ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِكَلَامِ أَسْرَى الْعِبَارَاتِ وَغَيْرِ الْمُفَسِّرِينَ!
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ التَّوْبَةَ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَهَا، وَحَالَهَا تَرْغِيبًا فِيهَا، وَتَنْفِيرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا شَدَّدَ فِي شَرْطِ قَبُولِهَا، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِأَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ مَعَ الْعُصَاةِ فِي مُعَاقَبَتِهِمْ، وَتَأْدِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ فَرَضَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُعَاقَبَةَ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ، وَأَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ تَابَ بِشَرْطِ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرْحٌ لِذَلِكَ الْإِصْلَاحِ أَيْ إِنْ تَابُوا مِثْلَ هَذِهِ التَّوْبَةِ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَكُفُّوا عَنْ عِقَابِهِمْ.
وَيَذْكُرُونَ هَاهُنَا مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَيْهِ - تَعَالَى -. وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ لَهُ سُلْطَةٌ يُوجِبُ بِهَا عَلَى اللهِ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ! وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَمَالِ الَّذِي أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمَشِيئَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ظَاهِرُهُ وُجُوبُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى اللهِ قَدْ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقِ الْعَرَبِ فِي التَّخَاطُبِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَلَكِنْ بِإِيجَابِ اللهِ - تَعَالَى - لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ عَاقِلٌ أَنَّ قَانُونًا يَحْكُمُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ. فَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيًّا ظَاهِرًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ.
وَالسُّوءُ هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ، وَالْجَهَالَةُ: تَصْدُقُ بِمَعْنَى السَّفَاهَةِ، وَبِمَعْنَى الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ، فَالسَّفَاهَةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَفَاهَةً لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَجْهَلُ عَاقِبَتَهَا الرَّدِيئَةَ، أَوْ يَجْهَلُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْجَهَالَةِ هُنَا: الْعِصْيَانُ، وَالْمُخَالَفَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجَهَالَةِ لِبَيَانِ قُبْحِهِ، وَلِتَضَمُّنِهِ لِلْجَهَالَةِ، وَتَنْزِيلِ الْعَاصِي مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ التَّامِّ بِمِقْدَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ مِنَ الْعِقَابِ لَا تَعَمُّدُ الْعِصْيَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاقِصَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الذُّنُوبِ، وَوَجْهِ تَرَتُّبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا، وَدَرَجَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ وَتَحَتُّمِهِ يَقَعُ فِي الذَّنْبِ،
وَيَعْمَلُ السُّوءَ بِاخْتِيَارِهِ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَمِلَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّفْعُ لِنَفْسِهِ، كَاللِّصِّ يَعْلَمُ أَنَّ السَّرِقَةَ مُحَرَّمَةٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا حَتْمٌ ; لِأَنَّ
فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ يُنَاسِبُ زَمَنَ الدَّنَسِ مَعَ تَرْكِ أَسْبَابِ الدَّنَسِ، وَأَمَّا التَّرْكُ وَحْدَهُ فَلَا يَكْفِي، كَمَا إِذَا وَرَدَتِ الْأَقْذَارُ، وَالْأَدْنَاسُ الْحِسِّيَّةُ عَلَى ثَوْبٍ زَمَنًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ لَا يُنَظَّفُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهَا عَنْهُ. عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ إِذَا تَكَرَّرَتْ تَصِيرُ عَادَاتٍ تَمْلِكُ عَلَى النَّفْسِ أَمْرَهَا حَتَّى تَصِيرَ التَّوْبَةُ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ وَأَشَقِّهَا ; لِأَنَّهَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنِ اقْتِلَاعِ الْمَلَكَاتِ الَّتِي تَكَيَّفَ بِهَا الْمَجْمُوعُ الْعَصَبِيُّ، فَمَا أَخْسَرَ صَفْقَةَ الْمُسَوِّفِينَ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِكَلَامِ أَسْرَى الْعِبَارَاتِ وَغَيْرِ الْمُفَسِّرِينَ!
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ التَّوْبَةَ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَهَا، وَحَالَهَا تَرْغِيبًا فِيهَا، وَتَنْفِيرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا شَدَّدَ فِي شَرْطِ قَبُولِهَا، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِأَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ مَعَ الْعُصَاةِ فِي مُعَاقَبَتِهِمْ، وَتَأْدِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ فَرَضَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُعَاقَبَةَ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ، وَأَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ تَابَ بِشَرْطِ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرْحٌ لِذَلِكَ الْإِصْلَاحِ أَيْ إِنْ تَابُوا مِثْلَ هَذِهِ التَّوْبَةِ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَكُفُّوا عَنْ عِقَابِهِمْ.
وَيَذْكُرُونَ هَاهُنَا مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَيْهِ - تَعَالَى -. وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ لَهُ سُلْطَةٌ يُوجِبُ بِهَا عَلَى اللهِ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ! وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَمَالِ الَّذِي أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمَشِيئَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ظَاهِرُهُ وُجُوبُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى اللهِ قَدْ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقِ الْعَرَبِ فِي التَّخَاطُبِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَلَكِنْ بِإِيجَابِ اللهِ - تَعَالَى - لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ عَاقِلٌ أَنَّ قَانُونًا يَحْكُمُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ. فَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيًّا ظَاهِرًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ.
وَالسُّوءُ هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ، وَالْجَهَالَةُ: تَصْدُقُ بِمَعْنَى السَّفَاهَةِ، وَبِمَعْنَى الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ، فَالسَّفَاهَةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَفَاهَةً لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَجْهَلُ عَاقِبَتَهَا الرَّدِيئَةَ، أَوْ يَجْهَلُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْجَهَالَةِ هُنَا: الْعِصْيَانُ، وَالْمُخَالَفَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجَهَالَةِ لِبَيَانِ قُبْحِهِ، وَلِتَضَمُّنِهِ لِلْجَهَالَةِ، وَتَنْزِيلِ الْعَاصِي مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ التَّامِّ بِمِقْدَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ مِنَ الْعِقَابِ لَا تَعَمُّدُ الْعِصْيَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاقِصَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الذُّنُوبِ، وَوَجْهِ تَرَتُّبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا، وَدَرَجَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ وَتَحَتُّمِهِ يَقَعُ فِي الذَّنْبِ،
وَيَعْمَلُ السُّوءَ بِاخْتِيَارِهِ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَمِلَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّفْعُ لِنَفْسِهِ، كَاللِّصِّ يَعْلَمُ أَنَّ السَّرِقَةَ مُحَرَّمَةٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا حَتْمٌ ; لِأَنَّ
362
عِنْدَهُ احْتِمَالَاتٍ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ تُشَكِّكُهُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ وَعِيدِ السَّارِقِ، كَشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَالْجِيرَانِ الصَّالِحِينَ، وَكَاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَكَالْمُكَفِّرَاتِ. فَإِذَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ يَسْرِقُهُ، وَتَذَكَّرَ الْوَعِيدَ عَلَى السَّرِقَةِ يَنْتَصِبُ فِي ذِهْنِهِ مِيزَانُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ الْعَاجِلِ بِمَا يَسْرِقُهُ، وَالْعِقَابِ الْآجِلِ عَلَى هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الشَّكُّ فِي الْعِقَابِ رَجَحَتْ كِفَّةُ دَاعِيَةِ السَّرِقَةِ ; لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَسْرُوقِ يَقِينِيٌّ، وَالْعِقَابَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ نَفْعَهُ لَهُ وَرُجْحَانَهُ عَلَى مُقَابِلِهِ إِنْ خَطَرَ فِي بَالِهِ الْمُقَابِلُ، فَعَلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا مَعَ التَّلَبُّسِ بِالْجَهْلِ، وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَهُوَ لَا يَرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةَ إِلَّا جَهْلًا بِحَقِيقَةِ الْوَعِيدِ، أَوْ مُتَأَوِّلًا لَهُ يُمَثِّلُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ انْتِظَارِ الشَّفَاعَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ، أَوْ مَغْلُوبًا بِشَهْوَةٍ، أَوْ بِغَضَبٍ، فَإِذَا زَالَتِ الْجَهَالَةُ عَنْ قَرِيبٍ فَتَابَ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً حَتْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ هُوَ أَنْ يَتُوبَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَالْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ. وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَهُوَ مُدْرِكٌ يَعْقِلُ، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ: أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ: إِنَّ مَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا تَقَعُ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ إِلَّا عَنْ بَادِرَةِ غَضَبٍ، أَوْ شَهْوَةٍ، أَوْ جَهْلٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ، فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَمَلُ السُّوءِ إِلَّا هَفْوَةً بَعْدَ هَفْوَةٍ، وَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ السُّوءَ مُفْرَدًا، وَقَالَ فِيمَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ بِالْجَمْعِ، فَأَشْعَرَنَا أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ حَتْمًا مِمَّنْ تَقَعُ الذُّنُوبُ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا، وَيُلِمُّ وَاحِدُهُمْ بِهَا إِلْمَامًا، وَلَكِنَّهُ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، ثُمَّ قَدْ يَطُوفُ بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ طَائِفٌ آخَرُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَيَعُودُ ثَانِيَةً إِلَى الْعِصْيَانِ، وَيُتْبِعُهُ التَّوْبَةَ وَالْإِحْسَانَ فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْخَطِيئَةُ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ قَرِيبٍ بِالْقُرْبِ مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمُذْنِبُ التَّائِبُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ عَارِفٌ بِتَحْرِيمِ الذَّنْبِ وَلَكِنْ تُلِمُّ بِهِ تِلْكَ
الْجَهَالَةُ الَّتِي تُحْدِثُ الرُّعُونَةَ فِي الْإِرَادَةِ، فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ فَيُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتُوبُ. وَرَجُلٌ وَقَعَ فِي الذَّنْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَكِنَّهُ عَلَى جَهْلِهِ بِبَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ لَيْسَ رَاضِيًا بِجَهْلِهِ، وَلَا مُهْمِلًا لِأَمْرِ دِينِهِ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ وَيَسْأَلُ وَيَتَعَلَّمُ فَلَا يَطُولُ عَلَيْهِ الْأَمَدُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا كَانَ أَلَمَّ بِهِ مُحَرَّمٌ فَيَتُوبُ مِنْهُ حَالًا. فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. فَالْقُرْبُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ زَمَنًا طَوِيلًا لِجَهْلِهِ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، ثُمَّ عَلِمَ فَتَابَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى -
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ: إِنَّ مَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا تَقَعُ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ إِلَّا عَنْ بَادِرَةِ غَضَبٍ، أَوْ شَهْوَةٍ، أَوْ جَهْلٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ، فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَمَلُ السُّوءِ إِلَّا هَفْوَةً بَعْدَ هَفْوَةٍ، وَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ السُّوءَ مُفْرَدًا، وَقَالَ فِيمَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ بِالْجَمْعِ، فَأَشْعَرَنَا أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ حَتْمًا مِمَّنْ تَقَعُ الذُّنُوبُ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا، وَيُلِمُّ وَاحِدُهُمْ بِهَا إِلْمَامًا، وَلَكِنَّهُ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، ثُمَّ قَدْ يَطُوفُ بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ طَائِفٌ آخَرُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَيَعُودُ ثَانِيَةً إِلَى الْعِصْيَانِ، وَيُتْبِعُهُ التَّوْبَةَ وَالْإِحْسَانَ فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْخَطِيئَةُ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ قَرِيبٍ بِالْقُرْبِ مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمُذْنِبُ التَّائِبُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ عَارِفٌ بِتَحْرِيمِ الذَّنْبِ وَلَكِنْ تُلِمُّ بِهِ تِلْكَ
الْجَهَالَةُ الَّتِي تُحْدِثُ الرُّعُونَةَ فِي الْإِرَادَةِ، فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ فَيُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتُوبُ. وَرَجُلٌ وَقَعَ فِي الذَّنْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَكِنَّهُ عَلَى جَهْلِهِ بِبَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ لَيْسَ رَاضِيًا بِجَهْلِهِ، وَلَا مُهْمِلًا لِأَمْرِ دِينِهِ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ وَيَسْأَلُ وَيَتَعَلَّمُ فَلَا يَطُولُ عَلَيْهِ الْأَمَدُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا كَانَ أَلَمَّ بِهِ مُحَرَّمٌ فَيَتُوبُ مِنْهُ حَالًا. فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. فَالْقُرْبُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ زَمَنًا طَوِيلًا لِجَهْلِهِ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، ثُمَّ عَلِمَ فَتَابَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى -
363
يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَقَدْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ الْعِلْمِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَأَرْكَانِهَا.
أَقُولُ: إِنَّ هَاهُنَا شَيْئًا يَجِبُ تَدَبُّرُهُ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سُوءٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ يَعْمَلُهُ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ لَا تَتَدَنَّسُ نَفْسُهُ بِالْعَمَلِ، وَإِنْ طَالَ عَلَيْهِ الزَّمَنُ، أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعَمَلُ مُجَرِّئًا لَهَا عَلَى الْمَعَاصِي مُوَطِّنًا لَهَا عَلَى الشُّرُورِ، فَإِذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَهُ مِنَ السُّوءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ضَارٌّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ دِينًا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ غَالِبًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ حَالًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلِفَهُ ; فَإِنَّهُ مَا أَلِفَهُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي نَظَرِهِ، فَمَلَكَةُ اخْتِيَارِ الْحَسَنِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى السَّيِّئِ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ الْمُصَرِّفَةَ لِإِرَادَتِهِ، فَلِذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مِنْ قَرِيبٍ مَتَى جَاءَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ، كَمَا سَهُلَ عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أَنْ يَكُونُوا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ، وَالْفَوَاضِلِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشَّرِّ - عَلَى نُشُوئِهِمْ فِي الْوَثَنِيَّةِ، وَعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ ذَوِي سَلَامَةٍ فِي الْفِطْرَةِ، وَحُبٍّ لِلْخَيْرِ، وَبُغْضٍ لِلشَّرِّ، وَمَا كَانَ يَنْقُصُهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ بِحَقِيقَةِ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ، وَكُنْهِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْإِسْلَامُ سَارَعُوا إِلَيْهِ، وَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ بِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يُنَازِعُ فِي كَوْنِ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ جَاهِلًا أَنَّهُ سُوءٌ مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ، وَيَرَى أَنَّ رُجُوعَهُ عَمَّا كَانَ عَمِلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ سُوءًا لَا يُسَمَّى تَوْبَةً، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: " وَالتَّعْبِيرُ بِالسُّوءِ " إلخ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اخْتَارَ كَوْنَ لَفْظِ الْجَهَالَةِ عَامًّا يَشْمَلُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سُوءٌ، وَيُصِرُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا
مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَكِنَّهُ يَتَّبِعُ هَوَى نَفْسِهِ، وَيُؤْثِرُ إِرْضَاءَ شَهْوَتِهَا وَغَضَبِهَا عَلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَمَنْفَعَةِ عِبَادِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي تَضْرَى نَفْسُهُ بِالشَّرِّ وَتَأْنَسُ بِالسُّوءِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَلَكَةً لَهَا مُصَرِّفَةً لِإِرَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا حَتَّى تَصِلَ الدَّرَكَةَ الَّتِي تَتَعَذَّرُ مَعَهَا التَّوْبَةُ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ بِالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا، وَالطَّبْعِ عَلَيْهَا، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ بِهَا، وَضَرَبَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلَ النُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ آنِفًا وَمِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَقَدْ سُئِلْتُ مَرَّةً: لِمَاذَا لَمْ تَفْسَدْ أَخْلَاقُ الْيَابَانِيِّينَ، وَتَنْحَطَّ هِمَمُهُمْ، وَتَصْغُرْ نُفُوسُهُمْ مَعَ فُشُوِّ الزِّنَا فِيهِمْ؟ فَقُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ دِينًا، وَلَا قُبْحَهُ عَقْلًا ; وَلِذَلِكَ يَكُونُ ضَرَرُهُ فِي الْأَخْلَاقِ قَلِيلًا، وَلَكِنَّ ضَرَرَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ قَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ التَّائِبِينَ إِلَى طَبَقَاتٍ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ عَرِيقٌ فِي الشَّرِّ كَأَنَّهُ عُجِنَ بِطِينَتِهِ ; ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةَ تَسْبِقُ
أَقُولُ: إِنَّ هَاهُنَا شَيْئًا يَجِبُ تَدَبُّرُهُ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سُوءٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ يَعْمَلُهُ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ لَا تَتَدَنَّسُ نَفْسُهُ بِالْعَمَلِ، وَإِنْ طَالَ عَلَيْهِ الزَّمَنُ، أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعَمَلُ مُجَرِّئًا لَهَا عَلَى الْمَعَاصِي مُوَطِّنًا لَهَا عَلَى الشُّرُورِ، فَإِذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَهُ مِنَ السُّوءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ضَارٌّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ دِينًا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ غَالِبًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ حَالًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلِفَهُ ; فَإِنَّهُ مَا أَلِفَهُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي نَظَرِهِ، فَمَلَكَةُ اخْتِيَارِ الْحَسَنِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى السَّيِّئِ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ الْمُصَرِّفَةَ لِإِرَادَتِهِ، فَلِذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مِنْ قَرِيبٍ مَتَى جَاءَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ، كَمَا سَهُلَ عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أَنْ يَكُونُوا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ، وَالْفَوَاضِلِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشَّرِّ - عَلَى نُشُوئِهِمْ فِي الْوَثَنِيَّةِ، وَعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ ذَوِي سَلَامَةٍ فِي الْفِطْرَةِ، وَحُبٍّ لِلْخَيْرِ، وَبُغْضٍ لِلشَّرِّ، وَمَا كَانَ يَنْقُصُهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ بِحَقِيقَةِ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ، وَكُنْهِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْإِسْلَامُ سَارَعُوا إِلَيْهِ، وَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ بِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يُنَازِعُ فِي كَوْنِ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ جَاهِلًا أَنَّهُ سُوءٌ مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ، وَيَرَى أَنَّ رُجُوعَهُ عَمَّا كَانَ عَمِلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ سُوءًا لَا يُسَمَّى تَوْبَةً، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: " وَالتَّعْبِيرُ بِالسُّوءِ " إلخ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اخْتَارَ كَوْنَ لَفْظِ الْجَهَالَةِ عَامًّا يَشْمَلُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سُوءٌ، وَيُصِرُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا
مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَكِنَّهُ يَتَّبِعُ هَوَى نَفْسِهِ، وَيُؤْثِرُ إِرْضَاءَ شَهْوَتِهَا وَغَضَبِهَا عَلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَمَنْفَعَةِ عِبَادِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي تَضْرَى نَفْسُهُ بِالشَّرِّ وَتَأْنَسُ بِالسُّوءِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَلَكَةً لَهَا مُصَرِّفَةً لِإِرَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا حَتَّى تَصِلَ الدَّرَكَةَ الَّتِي تَتَعَذَّرُ مَعَهَا التَّوْبَةُ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ بِالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا، وَالطَّبْعِ عَلَيْهَا، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ بِهَا، وَضَرَبَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلَ النُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ آنِفًا وَمِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَقَدْ سُئِلْتُ مَرَّةً: لِمَاذَا لَمْ تَفْسَدْ أَخْلَاقُ الْيَابَانِيِّينَ، وَتَنْحَطَّ هِمَمُهُمْ، وَتَصْغُرْ نُفُوسُهُمْ مَعَ فُشُوِّ الزِّنَا فِيهِمْ؟ فَقُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ دِينًا، وَلَا قُبْحَهُ عَقْلًا ; وَلِذَلِكَ يَكُونُ ضَرَرُهُ فِي الْأَخْلَاقِ قَلِيلًا، وَلَكِنَّ ضَرَرَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ قَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ التَّائِبِينَ إِلَى طَبَقَاتٍ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ عَرِيقٌ فِي الشَّرِّ كَأَنَّهُ عُجِنَ بِطِينَتِهِ ; ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةَ تَسْبِقُ
364
فِيهِ الشَّهَوَاتِ الْعَقْلِيَّةَ، فَهُوَ يَأْلَفُ الشَّهَوَاتِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَجِيءُ الْعَقْلُ لِيَضَعَ لِتِلْكَ الشَّهَوَاتِ النِّظَامَ وَالْقَوَانِينَ، وَالْعِلْمَ بِمَا شُرِعَ فِيهَا مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَكُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ هَفْوَةٌ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِفَ الْعَقْلُ وَيَفْقَهَ أَسْرَارَ النَّقْلِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ كَبِيرُ النَّفْسِ، عَالِي الِاسْتِعْدَادِ إِذَا وَقَعَ فِي الْخَطِيئَةِ مَرَّةً كَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْبَرُ عِبْرَةٍ، وَهُوَ لَا يَقَعُ فِيهَا إِلَّا وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ عَوَاقِبِهَا وَمُصَوِّرًا إِيَّاهَا بِصُورَةٍ أَحْسَنَ مِنْ صُورَتِهَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَ الشَّيْءِ قُبَيْلَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَإِذَا أَلَمَّ الْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ بِالذَّنْبِ، وَذَاقَ لَذَّتَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ الَّذِي حَجَبَتْهُ عَنْهُ الشَّهْوَةُ، وَيَقْوَى فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ ضَعُفَ مِنْ نُورِ الْبَصِيرَةِ، فَيُوَازِنُ بَيْنَ هَذِهِ اللَّذَّةِ، وَبَيْنَ قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَا لَهَا مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَهَانَةِ نَفْسِهِ، وَسُوءِ اخْتِيَارِهِ مَا عَسَى أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ إِذَا عَادَ إِلَى ذَلِكَ، وَاعْتَادَهُ وَعُرِفَ بِهِ فَيَنْدَمُ، وَيُقْلِعُ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَيَصْرِفُهَا عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ أَقْوَى فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَرْسَخُ، فَكُلَّمَا أَطَاعُوهَا فِي مَعْصِيَةٍ قَامَتِ الْخَوَاطِرُ الْإِلَهِيَّةُ تُحَارِبُهَا بِلَوْمِ صَاحِبِهَا، وَتَوْبِيخِهِ حَتَّى تَنْتَصِرَ عَلَيْهَا،
وَتَقْهَرَهَا قَهْرًا لَا تَقُومُ لَهَا بَعْدَهُ قَائِمَةٌ، وَهَؤُلَاءِ يُعَدُّونَ مِنَ التَّوَّابِينَ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ تَقْوَى بِالْمُجَاهَدَةِ عَلَى اجْتِنَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَّا اللَّمَمَ فَتَكُونُ الْحَرْبُ فِي نُفُوسِهِمْ سِجَالًا بَيْنَ مَا يُلِمُّونَ بِهِ مِنَ الضَّمَائِرِ، وَبَيْنَ الْخَوَاطِرِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُنْدُ الْإِيمَانِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَعُودُ إِلَيْهِ، يَلُومُ نَفْسَهُ، وَيَنْدَمُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَهَؤُلَاءِ فِي أَدْنَى طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ. وَالنَّفْسُ الْبَاقِيَةُ أَرْخَصُ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّفْسِ الْفَانِيَةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَحَلٌّ لِلرَّجَاءِ ; لِأَنَّ لَهُمْ زَاجِرًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُذَكِّرُهُمْ دَائِمًا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَقِبَ كُلِّ خَطِيئَةٍ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقْوَى هَذَا الزَّاجِرُ الْمُذَكِّرُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْمُزَيِّنَةِ لِلْخَطِيئَةِ، فَإِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْإِثْمِ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ ضَرَاوَةً، وَالنَّفْسَ جُرْأَةً فَتَكْرَارُ تَذْكِيرِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ يُحْدِثُ فِيهَا أَلَمًا يُقَاوِمُ تِلْكَ الضَّرَاوَةَ بِتَقْرِيعِ النَّفْسِ وَتَحْقِيرِهَا وَتَصْوِيرِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لَهَا، فَتَكُونُ الْحَرْبُ سِجَالًا، وَأَثَرُ الْآلَامِ فِي النَّفْسِ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ اللَّذَّاتِ فَإِمَّا أَنْ تَنْتَصِرَ الْخَوَاطِرُ وَالزَّوَاجِرُ الْإِلَهِيَّةِ بِذَلِكَ فَيَلْحَقُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ بِبَعْضِ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ الَّتِي صَحَّتْ تَوْبَتُهَا، وَإِمَّا أَنْ تَنْكَسِرَ أَمَامَ جُنْدِ الشَّهْوَةِ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا الْخَطِيئَةُ فَيَكُونَ مِنَ الْمُصِرِّينَ الْهَالِكِينَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَإِذَا تَرَاخَتْ تَوْبَتُهُمْ لَا يَطُولُ عَلَيْهَا الزَّمَنُ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - يَتُوبُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ أَقْوَى فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَرْسَخُ، فَكُلَّمَا أَطَاعُوهَا فِي مَعْصِيَةٍ قَامَتِ الْخَوَاطِرُ الْإِلَهِيَّةُ تُحَارِبُهَا بِلَوْمِ صَاحِبِهَا، وَتَوْبِيخِهِ حَتَّى تَنْتَصِرَ عَلَيْهَا،
وَتَقْهَرَهَا قَهْرًا لَا تَقُومُ لَهَا بَعْدَهُ قَائِمَةٌ، وَهَؤُلَاءِ يُعَدُّونَ مِنَ التَّوَّابِينَ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ تَقْوَى بِالْمُجَاهَدَةِ عَلَى اجْتِنَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَّا اللَّمَمَ فَتَكُونُ الْحَرْبُ فِي نُفُوسِهِمْ سِجَالًا بَيْنَ مَا يُلِمُّونَ بِهِ مِنَ الضَّمَائِرِ، وَبَيْنَ الْخَوَاطِرِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُنْدُ الْإِيمَانِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَعُودُ إِلَيْهِ، يَلُومُ نَفْسَهُ، وَيَنْدَمُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَهَؤُلَاءِ فِي أَدْنَى طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ. وَالنَّفْسُ الْبَاقِيَةُ أَرْخَصُ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّفْسِ الْفَانِيَةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَحَلٌّ لِلرَّجَاءِ ; لِأَنَّ لَهُمْ زَاجِرًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُذَكِّرُهُمْ دَائِمًا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَقِبَ كُلِّ خَطِيئَةٍ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقْوَى هَذَا الزَّاجِرُ الْمُذَكِّرُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْمُزَيِّنَةِ لِلْخَطِيئَةِ، فَإِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْإِثْمِ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ ضَرَاوَةً، وَالنَّفْسَ جُرْأَةً فَتَكْرَارُ تَذْكِيرِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ يُحْدِثُ فِيهَا أَلَمًا يُقَاوِمُ تِلْكَ الضَّرَاوَةَ بِتَقْرِيعِ النَّفْسِ وَتَحْقِيرِهَا وَتَصْوِيرِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لَهَا، فَتَكُونُ الْحَرْبُ سِجَالًا، وَأَثَرُ الْآلَامِ فِي النَّفْسِ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ اللَّذَّاتِ فَإِمَّا أَنْ تَنْتَصِرَ الْخَوَاطِرُ وَالزَّوَاجِرُ الْإِلَهِيَّةِ بِذَلِكَ فَيَلْحَقُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ بِبَعْضِ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ الَّتِي صَحَّتْ تَوْبَتُهَا، وَإِمَّا أَنْ تَنْكَسِرَ أَمَامَ جُنْدِ الشَّهْوَةِ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا الْخَطِيئَةُ فَيَكُونَ مِنَ الْمُصِرِّينَ الْهَالِكِينَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَإِذَا تَرَاخَتْ تَوْبَتُهُمْ لَا يَطُولُ عَلَيْهَا الزَّمَنُ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - يَتُوبُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا
365
كَوْنُ فِعْلِ السُّوءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ جَهَالَةٍ ; إِذْ مِثْلُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَتَقْوَاهُمْ لَا يَعْتَمِدُ الذَّنْبَ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَكَوْنُ التَّوْبَةِ قَرِيبَةً مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَدَعْ لَهُ مَجَالًا يَرْسَخُ بِهِ فِي النَّفْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ مُفَرَّعًا عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، وَهُوَ كَوْنُ قَبُولِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، أَيْ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا ; لِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ مُقَرَّرٌ حَتْمًا، وَمَوْعُودٌ بِهِ وَعْدًا مَقْضِيًّا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ حَصْرِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَصْرِ، وَلِاسْتِحْضَارِهِمْ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِي بَالِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ إِشْرَاكُ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِيهِ، وَضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ، أَيْ يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَيَعُودُ بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا فَمِنْ عِلْمِهِ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَمَصَالِحِهِمْ، وَحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْبَةَ بِشَرْطَيْهَا مَقْبُولَةً حَتْمًا ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَاصِي تَوْبَةٌ لَفَسَدَ النَّاسُ، وَهَلَكُوا ; لِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ، أَوْ سَوْرَةِ غَضَبٍ يَسْتَرْسِلُ حِينَئِذٍ فِي الْمَعَاصِي، وَالسَّيِّئَاتِ، وَيَتَعَمَّدُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ هَالِكٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا، أَمَا وَقَدْ شَرَعَ اللهُ - تَعَالَى - بِحِكْمَتِهِ قَبُولَ التَّوْبَةِ، فَقَدْ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْفَضِيلَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ يُغْفَرُ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يُعْفَى عَنْهَا لَمَا آثَرَ النَّاسُ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ إِلَّا حَيْثُ تَكُونُ شَهَوَاتُهُمْ وَمَهَبُّ أَهْوَائِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، وَالتَّوْبَةَ الْخَادِعَةَ الْكَذُوبَ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا التَّوْبَةَ النَّصُوحَ دُونَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، أَوِ الْأَذْكَارِ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ، فَالْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَطْهُرُ نَفْسُهُ مِنْ دَنَسِهِ بِعَمَلِ طَاعَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ أَحْسَنَ فِيهَا، وَأَخْلَصَ، فَكَيْفَ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ لَهَا صُورِيًّا تَقْلِيدِيًّا لَا يَمَسُّ سَوَادَ قَلْبِهِ قَطُّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى عِنَايَتِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَلَا خَشْيَتِهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَأَلْفَاظِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ! وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَيْنَ التَّوْبَةِ، وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا. وَإِنْ أَرَدْتَ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا - إِلَى قَوْلِهِ - وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [٣: ١٦، ١٧] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [٣: ١٣٥] وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا إِلَى نُكْتَةِ ذِكْرِ صِفَةَ الْعِلْمِ، وَصِفَةِ الْحِكْمَةِ هُنَا بِقَرِيبٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَذِكْرِ غُرُورِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْخَلَفِ الطَّالِحِ بِالْأَذْكَارِ الْقَوْلِيَّةِ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَيْهَا، وَظَنِّهِمْ أَنَّهَا تُنْجِيهِمْ فِي
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ حَصْرِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَصْرِ، وَلِاسْتِحْضَارِهِمْ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِي بَالِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ إِشْرَاكُ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِيهِ، وَضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ، أَيْ يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَيَعُودُ بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا فَمِنْ عِلْمِهِ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَمَصَالِحِهِمْ، وَحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْبَةَ بِشَرْطَيْهَا مَقْبُولَةً حَتْمًا ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَاصِي تَوْبَةٌ لَفَسَدَ النَّاسُ، وَهَلَكُوا ; لِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ، أَوْ سَوْرَةِ غَضَبٍ يَسْتَرْسِلُ حِينَئِذٍ فِي الْمَعَاصِي، وَالسَّيِّئَاتِ، وَيَتَعَمَّدُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ هَالِكٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا، أَمَا وَقَدْ شَرَعَ اللهُ - تَعَالَى - بِحِكْمَتِهِ قَبُولَ التَّوْبَةِ، فَقَدْ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْفَضِيلَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ يُغْفَرُ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يُعْفَى عَنْهَا لَمَا آثَرَ النَّاسُ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ إِلَّا حَيْثُ تَكُونُ شَهَوَاتُهُمْ وَمَهَبُّ أَهْوَائِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، وَالتَّوْبَةَ الْخَادِعَةَ الْكَذُوبَ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا التَّوْبَةَ النَّصُوحَ دُونَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، أَوِ الْأَذْكَارِ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ، فَالْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَطْهُرُ نَفْسُهُ مِنْ دَنَسِهِ بِعَمَلِ طَاعَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ أَحْسَنَ فِيهَا، وَأَخْلَصَ، فَكَيْفَ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ لَهَا صُورِيًّا تَقْلِيدِيًّا لَا يَمَسُّ سَوَادَ قَلْبِهِ قَطُّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى عِنَايَتِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَلَا خَشْيَتِهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَأَلْفَاظِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ! وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَيْنَ التَّوْبَةِ، وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا. وَإِنْ أَرَدْتَ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا - إِلَى قَوْلِهِ - وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [٣: ١٦، ١٧] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [٣: ١٣٥] وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا إِلَى نُكْتَةِ ذِكْرِ صِفَةَ الْعِلْمِ، وَصِفَةِ الْحِكْمَةِ هُنَا بِقَرِيبٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَذِكْرِ غُرُورِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْخَلَفِ الطَّالِحِ بِالْأَذْكَارِ الْقَوْلِيَّةِ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَيْهَا، وَظَنِّهِمْ أَنَّهَا تُنْجِيهِمْ فِي
366
الْآخِرَةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذُّنُوبِ، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَيْهَا، وَقَالَ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ اسْتَثْقَلَتِ التَّكَالِيفَ لِجَهْلِهَا بِفَائِدَتِهَا، فَفَسَقَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَاتَّبَعَتْ أَهْوَاءَهَا، وَجَعَلَتْ حَظَّهَا مِنَ الدِّينِ بَعْضَ الْأَذْكَارِ، وَالْأَوْرَادِ السَّهْلَةِ الَّتِي لَا تَمْنَعُهَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَأَهْوَائِهَا شَيْئًا، فَصَارَ الدِّينُ عِنْدَ
أَكْثَرِهِمْ عِبَارَةً عَنْ حَرَكَاتٍ لِسَانِيَّةٍ، وَبَدَنِيَّةٍ لَا تُهَذِّبُ خُلُقًا، وَلَا تُصْلِحُ عَمَلًا، وَقَدِ اتَّبَعَ الْكَثِيرُونَ مِنَّا سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [٤٧: ٢٤]
بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - حَالَ مَنْ ضَمِنَ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ قَالَ مُبَيِّنًا حَالَ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ عِنْدَهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ وَلَمْ يَقُلْ هُنَا "، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ " إلخ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقَطْعِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ وُقُوعِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ لَهُمْ، وَلَوْ نَفَى كَوْنَهَا مِمَّا أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَهُمْ، وَلَا مَقْطُوعٍ بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَنَالُونَهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ النَّفْيِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَفَى ثُبُوتَ التَّوْبَةِ لَهُمْ لَيْسُوا مِمَّنِ اقْتَضَتِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَتَأْثِيرِ أَعْمَالِهِ فِي صِفَاتِ نَفْسِهِ، وَمَلَكَاتِهَا، ثُمَّ تَرَتُّبِ أَعْمَالِهِ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَمَلَكَاتِهِ ; بِأَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَرْجِعُ عَنِ السَّيِّئَاتِ بَعْدَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، وَيَنْخَلِعُ عَنْهَا، وَيُطَهِّرُ قَلْبَهُ، وَيُزَكِّي نَفْسَهُ مِنْ أَدْرَانِهَا فَيَكُونُ أَهْلًا لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَعْطِفَ عَلَيْهِ ; وَمَحَلًّا لِاسْتِجْلَابِ نِعَمِهِ فَيَعُودُ مَا نَفَرَ مِنْهَا بِالْمَعَاصِي إِلَيْهِ، بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي أَمْثَالِهِمْ أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَلَا تَدَعُ لِلطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ مَكَانًا مِنْ نُفُوسِهِمْ فَيُصِرُّونَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَحْضُرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، وَيَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ الَّتِي تَمَتَّعَ فِيهَا بِمَا كَانَ يَتَمَتَّعُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي تُبْتُ وَمَا هُوَ مِنَ التَّائِبِينَ، بَلْ مِنَ الْمُدَّعِينَ الْكَاذِبِينَ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَالَ هُنَاكَ: يَعْمَلُونَ السُّوءَ وَهَاهُنَا: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَالْجَمْعُ هَاهُنَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَكُونُ بِالْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ، فَالْمُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ وَاحِدٍ مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتْمًا، وَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْهَا، وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ يُغْرِي صَاحِبَهُ بِأَفْرَادٍ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا، أَوْ جِنْسِهَا، وَالشَّرُّ دَاعِيَةُ الشَّرِّ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ.
قَالَ: وَقَالَ هُنَاكَ: ثُمَّ يَتُوبُونَ فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ هَاهُنَا: قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فَبَيَّنَ أَنَّ وَاحِدَ هَؤُلَاءِ يَدَّعِي التَّوْبَةَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَجْزِ عَنِ الذَّنْبِ، أَيْ أَنَّ قَلْبَهُ لَمْ يَنْخَلِعْ مِنَ الذَّنْبِ، وَنَفْسَهُ لَمْ تَرْغَبْ عَنْهُ فَيَكُونُ تَائِبًا. وَإِنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ يَعِيثُ فِي أَرْضِ آخَرَ فَسَادًا فَظَفِرَ بِهِ هَذَا وَوَضَعَ السَّيْفَ عَلَى عُنُقِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ رَأْسَهُ عَنْ بَدَنِهِ فَاسْتَغَاثَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْإِفْسَادِ، وَلَكِنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَنْفِرْ مِنْهُ، وَلَمْ تَسْتَقْبِحْهُ لِأَنَّهُ فَسَادٌ، فَهِيَ إِذَا زَالَ الْخَوْفُ تَعُودُ
أَكْثَرِهِمْ عِبَارَةً عَنْ حَرَكَاتٍ لِسَانِيَّةٍ، وَبَدَنِيَّةٍ لَا تُهَذِّبُ خُلُقًا، وَلَا تُصْلِحُ عَمَلًا، وَقَدِ اتَّبَعَ الْكَثِيرُونَ مِنَّا سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [٤٧: ٢٤]
بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - حَالَ مَنْ ضَمِنَ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ قَالَ مُبَيِّنًا حَالَ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ عِنْدَهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ وَلَمْ يَقُلْ هُنَا "، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ " إلخ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقَطْعِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ وُقُوعِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ لَهُمْ، وَلَوْ نَفَى كَوْنَهَا مِمَّا أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَهُمْ، وَلَا مَقْطُوعٍ بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَنَالُونَهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ النَّفْيِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَفَى ثُبُوتَ التَّوْبَةِ لَهُمْ لَيْسُوا مِمَّنِ اقْتَضَتِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَتَأْثِيرِ أَعْمَالِهِ فِي صِفَاتِ نَفْسِهِ، وَمَلَكَاتِهَا، ثُمَّ تَرَتُّبِ أَعْمَالِهِ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَمَلَكَاتِهِ ; بِأَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَرْجِعُ عَنِ السَّيِّئَاتِ بَعْدَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، وَيَنْخَلِعُ عَنْهَا، وَيُطَهِّرُ قَلْبَهُ، وَيُزَكِّي نَفْسَهُ مِنْ أَدْرَانِهَا فَيَكُونُ أَهْلًا لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَعْطِفَ عَلَيْهِ ; وَمَحَلًّا لِاسْتِجْلَابِ نِعَمِهِ فَيَعُودُ مَا نَفَرَ مِنْهَا بِالْمَعَاصِي إِلَيْهِ، بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي أَمْثَالِهِمْ أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَلَا تَدَعُ لِلطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ مَكَانًا مِنْ نُفُوسِهِمْ فَيُصِرُّونَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَحْضُرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، وَيَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ الَّتِي تَمَتَّعَ فِيهَا بِمَا كَانَ يَتَمَتَّعُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي تُبْتُ وَمَا هُوَ مِنَ التَّائِبِينَ، بَلْ مِنَ الْمُدَّعِينَ الْكَاذِبِينَ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَالَ هُنَاكَ: يَعْمَلُونَ السُّوءَ وَهَاهُنَا: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَالْجَمْعُ هَاهُنَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَكُونُ بِالْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ، فَالْمُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ وَاحِدٍ مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتْمًا، وَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْهَا، وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ يُغْرِي صَاحِبَهُ بِأَفْرَادٍ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا، أَوْ جِنْسِهَا، وَالشَّرُّ دَاعِيَةُ الشَّرِّ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ.
قَالَ: وَقَالَ هُنَاكَ: ثُمَّ يَتُوبُونَ فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ هَاهُنَا: قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فَبَيَّنَ أَنَّ وَاحِدَ هَؤُلَاءِ يَدَّعِي التَّوْبَةَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَجْزِ عَنِ الذَّنْبِ، أَيْ أَنَّ قَلْبَهُ لَمْ يَنْخَلِعْ مِنَ الذَّنْبِ، وَنَفْسَهُ لَمْ تَرْغَبْ عَنْهُ فَيَكُونُ تَائِبًا. وَإِنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ يَعِيثُ فِي أَرْضِ آخَرَ فَسَادًا فَظَفِرَ بِهِ هَذَا وَوَضَعَ السَّيْفَ عَلَى عُنُقِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ رَأْسَهُ عَنْ بَدَنِهِ فَاسْتَغَاثَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْإِفْسَادِ، وَلَكِنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَنْفِرْ مِنْهُ، وَلَمْ تَسْتَقْبِحْهُ لِأَنَّهُ فَسَادٌ، فَهِيَ إِذَا زَالَ الْخَوْفُ تَعُودُ
367
إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَلَا تَلْقَى مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ ; وَلِهَذَا قَيَّدَ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ الْآنَ وَالْآنِيَّةُ تُنَافِي الِاسْتِمْرَارَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ " يَتُوبُونَ " هُنَاكَ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُمَيِّزَ الْحَقَّ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي رَوَوْهَا فِي حُضُورِ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَالُ الْحَشْرَجَةِ، أَوِ الْغَرْغَرَةِ، أَوْ ذَهَابِ التَّمْيِيزِ، وَالْإِدْرَاكِ، وَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ قَوْلٌ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ، وَالْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ.
وَ " حَتَّى " ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مُنْهَمِكِينَ فِيهَا إِلَى حُضُورِ مَوْتِهِمْ وَصُدُورِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ، وَأَقُولُ: وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَيْدَ " عَلَى اللهِ " فَقَالَ: الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ أَيْ قَبُولُهَا حَتْمًا لِهَؤُلَاءِ، وَنَفْيُ التَّحْقِيقِ غَيْرُ تَحَقُّقِ النَّفْيِ، فَيَكُونُ أَمْرُ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُبْهَمًا يُفَوَّضُ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -. وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادِرُ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَ هُنَا أَحَادِيثَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، أَوْ تَبْلُغْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ، وَإِنِّي أُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ أَدْرَكَ الْمُذْنِبُ قُبْحَ مَا كَانَ عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَرِهَهُ وَنَدِمَ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ، وَزَالَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَاشَ لَمَا عَادَ إِلَيْهِ، أَيْ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَالتَّعَمُّدِ كَمَا كَانَ، وَمَا كُلُّ تَصَوُّرٍ لِقُبْحِ الذَّنْبِ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِهِ، فَإِنَّ لِلتَّصَوُّرَاتِ، وَالتَّصْدِيقَاتِ مَرَاتِبَ لَا يُعْتَدُّ مِنْهَا فِي بَابِ الْعِلْمِ النَّافِعِ إِلَّا بِالْقَوِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ; لِرُجْحَانِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّصْدِيقِ الْمَرْجُوحِ: تَصْدِيقُهُ مَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ لَهُ مِنْ أَنَّ صَوْتَهُ يَضُرُّهُ الْحَامِضُ وَقَدْ أَيَّدَتِ التَّجْرِبَةُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعُدُّهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا تَامًّا لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِعِلْمٍ وِجْدَانِيٍّ
أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَلِفَتِ النَّفْسُ مِنْ إِدْرَاكِ لَذَّةِ الْحَامِضِ وَطَلَبِ الطَّبِيعَةِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ عِلْمًا تَامًّا لَمَا تَنَاوَلَ الْحَامِضَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي الْعَمَلِ فَلَا تَجِدُ عَنْ طَاعَتِهِ مَصْرِفًا.
قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ الصُّوفِيَّةُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الِاعْتِقَادَ أَوِ الْإِدْرَاكَ لَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا نَافِعًا يُثِيبُ اللهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا صَارَ ذَوْقًا، وَيَعْنُونَ بِصَيْرُورَتِهِ ذَوْقًا أَنْ يَصِيرَ وِجْدَانًا لِلنَّفْسِ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيَكُونَ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَيْهَا. فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَحْدُثُ لِلْمُصِرِّ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْمُسْتَأْنِسِ بِهَا فِي عَامَّةِ أَيَّامِ الْحَيَاةِ مِثْلُ هَذَا الْوِجْدَانِ لِقُبْحِهَا، وَكَرَاهَتِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُدَنِّسَةٌ لِلنَّفْسِ مُبْعِدَةٌ لَهَا عَنْ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، أَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ هُوَ إِدْرَاكُ الْعَجْزِ عَنْهَا، وَالْيَأْسِ مِنْهَا، وَكَرَاهَةِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ قُرْبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ؟ وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا الْأَخِيرُ تَوْبَةً مِنَ الذَّنْبِ، وَرُجُوعًا إِلَى مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، وَإِنَّمَا يُجَازِي النَّاسَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَسْلَمِ، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي دَرْسَيْنِ، وَهُوَ مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى لَا يَخْلُو مِنْ تَكْرَارٍ مُفِيدٍ عَلَى تَصَرُّفِنَا فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَالْحَذْفِ، وَالزِّيَادَةِ الَّتِي تُجْلِي الْمَعْنَى، وَلَا تُغَيِّرُهُ، وَالْوُصُولُ إِلَى
وَ " حَتَّى " ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مُنْهَمِكِينَ فِيهَا إِلَى حُضُورِ مَوْتِهِمْ وَصُدُورِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ، وَأَقُولُ: وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَيْدَ " عَلَى اللهِ " فَقَالَ: الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ أَيْ قَبُولُهَا حَتْمًا لِهَؤُلَاءِ، وَنَفْيُ التَّحْقِيقِ غَيْرُ تَحَقُّقِ النَّفْيِ، فَيَكُونُ أَمْرُ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُبْهَمًا يُفَوَّضُ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -. وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادِرُ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَ هُنَا أَحَادِيثَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، أَوْ تَبْلُغْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ، وَإِنِّي أُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ أَدْرَكَ الْمُذْنِبُ قُبْحَ مَا كَانَ عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَرِهَهُ وَنَدِمَ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ، وَزَالَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَاشَ لَمَا عَادَ إِلَيْهِ، أَيْ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَالتَّعَمُّدِ كَمَا كَانَ، وَمَا كُلُّ تَصَوُّرٍ لِقُبْحِ الذَّنْبِ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِهِ، فَإِنَّ لِلتَّصَوُّرَاتِ، وَالتَّصْدِيقَاتِ مَرَاتِبَ لَا يُعْتَدُّ مِنْهَا فِي بَابِ الْعِلْمِ النَّافِعِ إِلَّا بِالْقَوِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ; لِرُجْحَانِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّصْدِيقِ الْمَرْجُوحِ: تَصْدِيقُهُ مَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ لَهُ مِنْ أَنَّ صَوْتَهُ يَضُرُّهُ الْحَامِضُ وَقَدْ أَيَّدَتِ التَّجْرِبَةُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعُدُّهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا تَامًّا لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِعِلْمٍ وِجْدَانِيٍّ
أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَلِفَتِ النَّفْسُ مِنْ إِدْرَاكِ لَذَّةِ الْحَامِضِ وَطَلَبِ الطَّبِيعَةِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ عِلْمًا تَامًّا لَمَا تَنَاوَلَ الْحَامِضَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي الْعَمَلِ فَلَا تَجِدُ عَنْ طَاعَتِهِ مَصْرِفًا.
قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ الصُّوفِيَّةُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الِاعْتِقَادَ أَوِ الْإِدْرَاكَ لَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا نَافِعًا يُثِيبُ اللهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا صَارَ ذَوْقًا، وَيَعْنُونَ بِصَيْرُورَتِهِ ذَوْقًا أَنْ يَصِيرَ وِجْدَانًا لِلنَّفْسِ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيَكُونَ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَيْهَا. فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَحْدُثُ لِلْمُصِرِّ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْمُسْتَأْنِسِ بِهَا فِي عَامَّةِ أَيَّامِ الْحَيَاةِ مِثْلُ هَذَا الْوِجْدَانِ لِقُبْحِهَا، وَكَرَاهَتِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُدَنِّسَةٌ لِلنَّفْسِ مُبْعِدَةٌ لَهَا عَنْ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، أَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ هُوَ إِدْرَاكُ الْعَجْزِ عَنْهَا، وَالْيَأْسِ مِنْهَا، وَكَرَاهَةِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ قُرْبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ؟ وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا الْأَخِيرُ تَوْبَةً مِنَ الذَّنْبِ، وَرُجُوعًا إِلَى مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، وَإِنَّمَا يُجَازِي النَّاسَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَسْلَمِ، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي دَرْسَيْنِ، وَهُوَ مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى لَا يَخْلُو مِنْ تَكْرَارٍ مُفِيدٍ عَلَى تَصَرُّفِنَا فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَالْحَذْفِ، وَالزِّيَادَةِ الَّتِي تُجْلِي الْمَعْنَى، وَلَا تُغَيِّرُهُ، وَالْوُصُولُ إِلَى
368
تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ، وَالْبَسْطِ، وَالْإِيضَاحِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرٌ لِلتَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى مَنْ سُوَرٍ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَبْلُ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أَيْ لَا تَوْبَةَ لِأُولَئِكَ وَلَا هَؤُلَاءِ - وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا ذِكْرَ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِ بَدِيهِيًّا لَا سِيَّمَا بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا سَبَقَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لِلْكَافِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْعُ مَا يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [٢٣: ١٠٧] وَلَا أَتَذَكَّرُ الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَالْإِيذَانُ بِأَنَّهَا كَالْعَدَمِ، وَأَنْ ذَوِيهَا فِي مَرْتَبَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ فِي تَكْرِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ إِشْعَارًا بِكَوْنِ حَالِ الْمُسَوِّفِينَ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِ الْجَدْوَى أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ الْكُفَّارُ، وَبَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْفُسَّاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْكُفَّارِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ.
وَاخْتَارَ شَيْخُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ هُنَا: مَا هُوَ دُونَ الشِّرْكِ، وَعَدَمُ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُوجَدُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِذَاتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ كَالْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللهِ، وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِالْوَحْيِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِيُعْمَلَ بِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْفَرَائِضِ، وَكَوْنِ أَدَائِهَا مِنْ أَسْبَابِ رِضْوَانِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَبِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَوْنِ اقْتِرَافِهَا مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ - تَعَالَى - وَعِقَابِهِ، أَيْ فَوْقَ مَا فِي الْفَرَائِضِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْجَمْعِيَّاتِ، وَيُسَمِّي أَبُو حَامِدٍ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عِلْمَ الْمُكَاشَفَةِ، وَالثَّانِيَ عِلْمَ الْمُعَامَلَةِ، وَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّئَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهَا، وَصِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَذَابِهِ، وَهُوَ - أَيِ الْغَزَالِيُّ - لَا يَنْفِي إِيمَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ فَاتَتْهُ ثَمَرَتُهُ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَقَطْ، بَلْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يَضُرُّهُ فَهُوَ لَا يَأْتِيهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَارْتِبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ، وَإِرَادَتِهِمْ بِعُلُومِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ، بَلْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْإِنْسَانِ وَطَبْعِهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْمَلُ فِيهِ بِقَوْلِ مَنْ لَا ثِقَةَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُ لِعَدَمِ عَدَالَتِهِ. وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ مَثَلًا فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ:
قَالَ - تَعَالَى -: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أَيْ لَا تَوْبَةَ لِأُولَئِكَ وَلَا هَؤُلَاءِ - وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا ذِكْرَ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِ بَدِيهِيًّا لَا سِيَّمَا بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا سَبَقَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لِلْكَافِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْعُ مَا يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [٢٣: ١٠٧] وَلَا أَتَذَكَّرُ الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَالْإِيذَانُ بِأَنَّهَا كَالْعَدَمِ، وَأَنْ ذَوِيهَا فِي مَرْتَبَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ فِي تَكْرِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ إِشْعَارًا بِكَوْنِ حَالِ الْمُسَوِّفِينَ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِ الْجَدْوَى أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ الْكُفَّارُ، وَبَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْفُسَّاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْكُفَّارِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ.
وَاخْتَارَ شَيْخُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ هُنَا: مَا هُوَ دُونَ الشِّرْكِ، وَعَدَمُ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُوجَدُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِذَاتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ كَالْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللهِ، وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِالْوَحْيِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِيُعْمَلَ بِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْفَرَائِضِ، وَكَوْنِ أَدَائِهَا مِنْ أَسْبَابِ رِضْوَانِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَبِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَوْنِ اقْتِرَافِهَا مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ - تَعَالَى - وَعِقَابِهِ، أَيْ فَوْقَ مَا فِي الْفَرَائِضِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْجَمْعِيَّاتِ، وَيُسَمِّي أَبُو حَامِدٍ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عِلْمَ الْمُكَاشَفَةِ، وَالثَّانِيَ عِلْمَ الْمُعَامَلَةِ، وَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّئَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهَا، وَصِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَذَابِهِ، وَهُوَ - أَيِ الْغَزَالِيُّ - لَا يَنْفِي إِيمَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ فَاتَتْهُ ثَمَرَتُهُ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَقَطْ، بَلْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يَضُرُّهُ فَهُوَ لَا يَأْتِيهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَارْتِبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ، وَإِرَادَتِهِمْ بِعُلُومِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ، بَلْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْإِنْسَانِ وَطَبْعِهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْمَلُ فِيهِ بِقَوْلِ مَنْ لَا ثِقَةَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُ لِعَدَمِ عَدَالَتِهِ. وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ مَثَلًا فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ:
369
إِذَا كُنْتَ جَائِعًا وَلَمْ تَجِدْ إِلَّا طَعَامًا أَخْبَرَكَ رَجُلٌ يَهُودِيُّ لَا تَثِقُ بِرِوَايَتِهِ فِي أَخْبَارِهِ أَنَّهُ مَسْمُومٌ، أَفَلَا تَبْنِي عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَتْرُكُ الْأَكْلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ؟ بَلْ إِنَّكَ لَتَقُولُ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَلَا أُعَرِّضُ نَفْسِي لِلْهَلَاكِ بِهَذَا الطَّعَامِ! وَقَدْ أَخْبَرَكَ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ الصَّادِقُ الْأَمِينُ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ سُمُومٌ مُهْلِكَةٌ لِلْأَرْوَاحِ مُفْضِيَةٌ إِلَى سُخْطِ اللهِ، وَعَذَابِهِ، فَكَيْفَ تَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِ، وَالْجَزْمَ بِصِدْقِهِ، وَأَنْتَ تَجْعَلُ
خَبَرَهُ دُونَ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي تَجْزِمُ بِعَدَمِ عَدَالَتِهِ! ؟ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَذْكُرُ حَدِيثَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إلخ. أَيْ إِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ مُلَابِسًا التَّلَبُّسَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْعَمَلِ تَأَلَّمَتْ فَبَعَثَهَا الْأَلَمُ عَلَى التَّوْبَةِ، كَمَا حَقَّقَهُ فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ، وَكَوْنِهَا مُرَكَّبَةً مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ: الْعِلْمُ يُوجِبُ الْحَالَ، وَالْحَالُ تُوجِبُ الْعَمَلَ، أَيْ إِنَّ الْعِلْمَ بِحُرْمَةِ الذَّنْبِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حَالًا مُؤَثِّرَةً تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبِ إِلَى آخِرِ مَا حَقَّقَهُ، وَبَيَّنَهُ بِالتَّفْصِيلِ فَيُرَاجَعُ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِحْيَاءِ.
قَالَ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْفَرِيقَانِ الْبَعِيدَانِ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، وَهِدَايَةِ الشَّرِيعَةِ، الْمُسْتَعْبَدَانِ لِسُلْطَانِ الشَّهْوَةِ وَشَيْطَانِ الرَّذِيلَةِ، قَدْ أَعْتَدْنَا، وَهَيَّأْنَا لَهُمْ عَذَابًا مُؤْلِمًا فِي دَارِ الْجَزَاءِ بِمَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ إِلَى أَنْ وَافَاهُمُ الْمَمَاتُ قَدْ دَسَّى نُفُوسَهُمْ، وَأَفْسَدَ قُلُوبَهُمْ، فَصَارُوا مِنَ التُّحُوتِ، تَهْبِطُ خَطَايَاهُمْ بِأَرْوَاحِهِمْ إِلَى هَاوِيَةِ الْهَوَانِ. وَتَعْجَزُ عَنِ الْعُرُوجِ إِلَى فَرَادِيسِ الْجِنَانِ، وَمَعَاهِدِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
خَبَرَهُ دُونَ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي تَجْزِمُ بِعَدَمِ عَدَالَتِهِ! ؟ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَذْكُرُ حَدِيثَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إلخ. أَيْ إِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ مُلَابِسًا التَّلَبُّسَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْعَمَلِ تَأَلَّمَتْ فَبَعَثَهَا الْأَلَمُ عَلَى التَّوْبَةِ، كَمَا حَقَّقَهُ فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ، وَكَوْنِهَا مُرَكَّبَةً مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ: الْعِلْمُ يُوجِبُ الْحَالَ، وَالْحَالُ تُوجِبُ الْعَمَلَ، أَيْ إِنَّ الْعِلْمَ بِحُرْمَةِ الذَّنْبِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حَالًا مُؤَثِّرَةً تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبِ إِلَى آخِرِ مَا حَقَّقَهُ، وَبَيَّنَهُ بِالتَّفْصِيلِ فَيُرَاجَعُ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِحْيَاءِ.
قَالَ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْفَرِيقَانِ الْبَعِيدَانِ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، وَهِدَايَةِ الشَّرِيعَةِ، الْمُسْتَعْبَدَانِ لِسُلْطَانِ الشَّهْوَةِ وَشَيْطَانِ الرَّذِيلَةِ، قَدْ أَعْتَدْنَا، وَهَيَّأْنَا لَهُمْ عَذَابًا مُؤْلِمًا فِي دَارِ الْجَزَاءِ بِمَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ إِلَى أَنْ وَافَاهُمُ الْمَمَاتُ قَدْ دَسَّى نُفُوسَهُمْ، وَأَفْسَدَ قُلُوبَهُمْ، فَصَارُوا مِنَ التُّحُوتِ، تَهْبِطُ خَطَايَاهُمْ بِأَرْوَاحِهِمْ إِلَى هَاوِيَةِ الْهَوَانِ. وَتَعْجَزُ عَنِ الْعُرُوجِ إِلَى فَرَادِيسِ الْجِنَانِ، وَمَعَاهِدِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
370
قَالُوا فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ: لَمَّا نَهَى - سُبْحَانَهُ - فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى وَالْأَمْوَالِ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ
عَنْ نَوْعٍ مِنْ الِاسْتِنَانِ بِسُنَنِهِمْ فِي النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ أَوْ أَمْوَالِهِنَّ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي النِّسَاءِ، وَالْبُيُوتِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ اسْتِطْرَادًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ، أَوْ حَمِيمُهُ وَتَرَكَ جَارِيَةً أَلْقَى عَلَيْهَا ابْنُهُ، أَوْ حَمِيمُهُ ثَوْبَهُ فَمَنَعَهَا مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً حَبْسَهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا "، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ: " كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا: وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ "، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كُبَيْشَةَ ابْنَةِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ مِنَ الْأَوْسِ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلَا أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحُ. فَنَزَلَتْ ". وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، فَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا، أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ الزَّهْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَحْبِسُ الْمَرْأَةَ عِنْدَهُ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا، وَيَنْتَظِرُ مَوْتَهَا حَتَّى يَرِثَهَا. قَالَ - تَعَالَى -:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا أَيْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَيُّهَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الشِّرْكِ وَتَقَالِيدِهِ الْجَائِرَةِ وَآمَنُوا بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَضْمِ حُقُوقِ النِّسَاءِ فَتَجْعَلُوهُنَّ مِيرَاثًا لَكُمْ كَالْأَمْوَالِ، وَالْعُرُوضِ، وَالْعَبِيدِ، وَتَتَصَرَّفُوا بِهِنَّ كَمَا تَشَاءُونَ، فَإِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَإِنْ شَاءَ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَمَنَعَهَا الزَّوَاجَ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَضْلُ الْآتِي ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا أَمْوَالَ النِّسَاءِ كَرْهًا بِأَنْ تُمْسِكُوهُنَّ عَلَى كُرْهٍ لِأَجْلِ أَنْ يَمُتْنَ فَتَرِثُوهُنَّ، وَقَوْلُهُ: (كَرْهًا) قَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ حَيْثُ وَقَعَ، وَوَافَقَهُمَا عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ فِي الْأَحْقَافِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَهُوَ بالضَّبْطَيْنِ مَصْدَرٌ لِـ كَرِهَ ضِدِّ أَحَبَّ (كَمَا وَرَدَ الضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ وَفَتْحِهَا)، وَقِيلَ الْكُرْهُ بِالضَّمِّ: الْإِكْرَاهُ، وَبِالْفَتْحِ: الْكَرَاهِيَةُ، وَقِيلَ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَعَلَى
مَا أُكْرِهَ الْمَرْءُ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْكُرْهِ هُنَا فَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَرِثُوهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ كَارِهَاتٍ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِهِنَّ مُكْرَهَاتٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِهِنَّ كَارِهِينَ لَكُمْ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِكُمْ مَكْرُوهِينَ لَهُنَّ، وَكُلُّ هَذِهِ
عَنْ نَوْعٍ مِنْ الِاسْتِنَانِ بِسُنَنِهِمْ فِي النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ أَوْ أَمْوَالِهِنَّ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي النِّسَاءِ، وَالْبُيُوتِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ اسْتِطْرَادًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ، أَوْ حَمِيمُهُ وَتَرَكَ جَارِيَةً أَلْقَى عَلَيْهَا ابْنُهُ، أَوْ حَمِيمُهُ ثَوْبَهُ فَمَنَعَهَا مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً حَبْسَهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا "، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ: " كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا: وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ "، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كُبَيْشَةَ ابْنَةِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ مِنَ الْأَوْسِ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلَا أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحُ. فَنَزَلَتْ ". وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، فَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا، أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ الزَّهْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَحْبِسُ الْمَرْأَةَ عِنْدَهُ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا، وَيَنْتَظِرُ مَوْتَهَا حَتَّى يَرِثَهَا. قَالَ - تَعَالَى -:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا أَيْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَيُّهَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الشِّرْكِ وَتَقَالِيدِهِ الْجَائِرَةِ وَآمَنُوا بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَضْمِ حُقُوقِ النِّسَاءِ فَتَجْعَلُوهُنَّ مِيرَاثًا لَكُمْ كَالْأَمْوَالِ، وَالْعُرُوضِ، وَالْعَبِيدِ، وَتَتَصَرَّفُوا بِهِنَّ كَمَا تَشَاءُونَ، فَإِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَإِنْ شَاءَ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَمَنَعَهَا الزَّوَاجَ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَضْلُ الْآتِي ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا أَمْوَالَ النِّسَاءِ كَرْهًا بِأَنْ تُمْسِكُوهُنَّ عَلَى كُرْهٍ لِأَجْلِ أَنْ يَمُتْنَ فَتَرِثُوهُنَّ، وَقَوْلُهُ: (كَرْهًا) قَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ حَيْثُ وَقَعَ، وَوَافَقَهُمَا عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ فِي الْأَحْقَافِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَهُوَ بالضَّبْطَيْنِ مَصْدَرٌ لِـ كَرِهَ ضِدِّ أَحَبَّ (كَمَا وَرَدَ الضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ وَفَتْحِهَا)، وَقِيلَ الْكُرْهُ بِالضَّمِّ: الْإِكْرَاهُ، وَبِالْفَتْحِ: الْكَرَاهِيَةُ، وَقِيلَ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَعَلَى
مَا أُكْرِهَ الْمَرْءُ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْكُرْهِ هُنَا فَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَرِثُوهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ كَارِهَاتٍ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِهِنَّ مُكْرَهَاتٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِهِنَّ كَارِهِينَ لَكُمْ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِكُمْ مَكْرُوهِينَ لَهُنَّ، وَكُلُّ هَذِهِ
371
الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ، وَلَفْظُ الْكُرْهِ لَيْسَ قَيْدًا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَحْتَقِرُ النِّسَاءَ وَتَعُدُّهُنَّ مِنْ قَبِيلِ الْمَتَاعِ، وَالْعُرُوضِ حَتَّى كَانَ الْأَقْرَبُونَ يَرِثُونَ زَوْجَةَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ كَمَا يَرِثُونَ مَالَهُ، فَحَرَّمَ اللهُ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَفْظُ الْكُرْهِ هُنَا لَيْسَ قَيْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرِثُونَهُنَّ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ.
وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ أَصْلُ (الْعَضْلِ) : التَّضْيِيقُ، وَالْمَنْعُ، وَالشِّدَّةُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ، أَيِ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا مَنْجَاةَ مِنْهُ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ كَمَا هُوَ مَفْهُومُ التَّحْرِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَرِثُوا النِّسَاءَ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " لَا " لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَ (تَعْضُلُوهُنَّ) مَعْطُوفٌ عَلَى (لَا تَرِثُوا) وَالْمَعْنَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ إِرْثُ النِّسَاءِ، وَلَا عَضْلُهُنَّ، أَيْ وَلَا التَّضْيِيقُ عَلَيْهِنَّ، لِأَجْلِ أَنْ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، أَيْ أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مِنْ مِيرَاثٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَكَافُلِهِمْ فَيَصْدُقُ بِمَا أَعْطَوْهُ لِلنِّسَاءِ مِنْ مِيرَاثٍ، وَمَهْرِ زَوَاجٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ لِلْأَزْوَاجِ، وَبَعْضُهُمْ لِلْوَرَثَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ كَانَ يَعْضُلُ النِّسَاءَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ يَنْكِحُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ فَلَعَلَّهَا مَا تُوَافِقُهُ فَيُفَارِقُهَا عَلَى أَلَّا تَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيَأْتِي بِالشُّهُودِ فَيَكْتُبُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَإِذَا خَطَبَهَا خَاطِبٌ فَإِنْ أَعْطَتْهُ، وَأَرْضَتْهُ أَذِنَ لَهَا، وَإِلَّا عَضَلَهَا. وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يُضَيِّقُونَ عَلَيْهِنَّ لِيَفْتَدِينَ مِنْهُمْ بِالْمَالِ، وَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [٢: ٢٣١] وَقَوْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [٢: ٢٢٩] وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَخَصَّ الْآيَةَ فِي الْجِلَالَيْنِ بِالْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ، وَرَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ: لَيْسَ مَعْنَى الْعَضْلِ هُنَا مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) مِنْ أَنَّهُ الْمَنْعُ مِنْ زَوَاجِ الْغَيْرِ بَلْ مَعْنَاهُ لَا تُضَارُّوهُنَّ، وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لِيَكْرَهْنَكُمْ،
وَيَضْطَرِرْنَ إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْكُمْ ; فَقَدْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ مَنْ يُعْجِبُهُمْ حُسْنُهَا، وَيُزَوِّجُونَ مَنْ لَا تُعْجِبُهُمْ أَوْ يُمْسِكُونَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ بِمَا كَانَتْ وَرِثَتْ مِنْ قَرِيبِ الْوَارِثِ، أَوْ مَا كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْ صَدَاقٍ، وَنَحْوِهِ، أَوِ الْمَجْمُوعِ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، وَرُبَّمَا كَلَّفُوهَا الزِّيَادَةَ إِنْ عَلِمُوا أَنَّهَا تَسْتَطِيعُهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْعَضْلُ الْمُحَرَّمُ هُنَا. أَقُولُ: وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. أَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الْمَرْأَةَ فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَهَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آيَتَيِ الْمَوَارِيثِ.
وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ أَصْلُ (الْعَضْلِ) : التَّضْيِيقُ، وَالْمَنْعُ، وَالشِّدَّةُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ، أَيِ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا مَنْجَاةَ مِنْهُ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ كَمَا هُوَ مَفْهُومُ التَّحْرِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَرِثُوا النِّسَاءَ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " لَا " لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَ (تَعْضُلُوهُنَّ) مَعْطُوفٌ عَلَى (لَا تَرِثُوا) وَالْمَعْنَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ إِرْثُ النِّسَاءِ، وَلَا عَضْلُهُنَّ، أَيْ وَلَا التَّضْيِيقُ عَلَيْهِنَّ، لِأَجْلِ أَنْ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، أَيْ أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مِنْ مِيرَاثٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَكَافُلِهِمْ فَيَصْدُقُ بِمَا أَعْطَوْهُ لِلنِّسَاءِ مِنْ مِيرَاثٍ، وَمَهْرِ زَوَاجٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ لِلْأَزْوَاجِ، وَبَعْضُهُمْ لِلْوَرَثَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ كَانَ يَعْضُلُ النِّسَاءَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ يَنْكِحُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ فَلَعَلَّهَا مَا تُوَافِقُهُ فَيُفَارِقُهَا عَلَى أَلَّا تَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيَأْتِي بِالشُّهُودِ فَيَكْتُبُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَإِذَا خَطَبَهَا خَاطِبٌ فَإِنْ أَعْطَتْهُ، وَأَرْضَتْهُ أَذِنَ لَهَا، وَإِلَّا عَضَلَهَا. وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يُضَيِّقُونَ عَلَيْهِنَّ لِيَفْتَدِينَ مِنْهُمْ بِالْمَالِ، وَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [٢: ٢٣١] وَقَوْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [٢: ٢٢٩] وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَخَصَّ الْآيَةَ فِي الْجِلَالَيْنِ بِالْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ، وَرَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ: لَيْسَ مَعْنَى الْعَضْلِ هُنَا مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) مِنْ أَنَّهُ الْمَنْعُ مِنْ زَوَاجِ الْغَيْرِ بَلْ مَعْنَاهُ لَا تُضَارُّوهُنَّ، وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لِيَكْرَهْنَكُمْ،
وَيَضْطَرِرْنَ إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْكُمْ ; فَقَدْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ مَنْ يُعْجِبُهُمْ حُسْنُهَا، وَيُزَوِّجُونَ مَنْ لَا تُعْجِبُهُمْ أَوْ يُمْسِكُونَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ بِمَا كَانَتْ وَرِثَتْ مِنْ قَرِيبِ الْوَارِثِ، أَوْ مَا كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْ صَدَاقٍ، وَنَحْوِهِ، أَوِ الْمَجْمُوعِ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، وَرُبَّمَا كَلَّفُوهَا الزِّيَادَةَ إِنْ عَلِمُوا أَنَّهَا تَسْتَطِيعُهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْعَضْلُ الْمُحَرَّمُ هُنَا. أَقُولُ: وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. أَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الْمَرْأَةَ فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَهَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آيَتَيِ الْمَوَارِيثِ.
372
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ الْفَاحِشَةُ: الْفِعْلَةُ الشَّنِيعَةُ الشَّدِيدَةُ الْقُبْحِ، وَكَلِمَةُ " مُبَيِّنَةٍ " قَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَيْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ ظَاهِرَةٍ مُتَبَيِّنَةٍ أَوْ مُبَيِّنَةٍ حَالَ صَاحِبِهَا فَاضِحَةٍ لَهُ. وَقَدْ وَرَدَ: بَيَّنَ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ اللَّازِمِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْفَاحِشَةَ الْمُبَيِّنَةَ هُنَا هِيَ النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ " إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ عَلَيْكُمْ "، وَرُوِيَ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَرَءَا " إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ " دُونَ لَفْظِ " عَلَيْكُمْ "، وَعِنْدِي أَنَّهُمَا ذَكَرَا الْآيَةَ بِالْمَعْنَى فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّهُمَا رَوَيَا ذَلِكَ قِرَاءَةً فَعَنَيَا لَفْظَ الْقُرْآنِ. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَغَيْرِهِ أَنَّهَا: الزِّنَا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمَعْنَى لَا تَعْضُلُوهُنَّ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَوْ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ إِلَّا الْحَالَ أَوِ الزَّمَنَ الَّذِي يَأْتِينَ فِيهِ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ دُونَ الظِّنَّةِ وَالشُّبْهَةِ، فَإِذَا نَشَزْنَ عَنْ طَاعَتِكُمْ بِالْمَعْرُوفِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ يَنْفَعْ مَعَهُنَّ التَّأْدِيبُ الَّذِي سَيُذْكَرُ فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَاءَتْ عِشْرَتُهُنَّ لِذَلِكَ، أَوْ تَبَيَّنَ ارْتِكَابُهُنَّ لِلزِّنَا، أَوِ السِّحَاقِ فَلَكُمْ حِينَئِذٍ أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ ; لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ صَدَاقٍ وَغَيْرِهِ إِذْ لَا يُكَلِّفُكُمُ اللهُ أَنْ تَخْسَرُوا عَلَيْهِنَّ مَا لَكَمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي يَجِيءُ فِيهَا الْفُحْشُ مِنْ جَانِبِهِنَّ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ [٢: ٢٢٩] وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْفَاحِشَةَ هُنَا هِيَ الزِّنَا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا النُّشُوزُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الْفُحْشُ بِالْقَوْلِ. وَالصَّوَابُ عَدَمُ تَعْيِينِهَا وَتَخْصِيصِهَا
بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَلْ تَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهَا فَتَصْدُقُ بِالسَّرِقَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْفَاحِشَةِ الْمَمْقُوتَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ فِيهَا هَذَا الْوَصْفُ الْمَنْصُوصُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً، أَيْ ظَاهِرَةً فَاضِحَةً لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ هَذَا الْقَيْدُ لِئَلَّا يَظْلِمَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِإِصَابَتِهَا الْهَفْوَةَ وَاللَّمَمَ، أَوْ بِمُجَرَّدِ سُوءِ الظَّنِّ وَالتُّهَمِ، فَمِنَ الرِّجَالِ الْغَيُورُ السَّيِّئُ الظَّنِّ يُؤَاخِذُ الْمَرْأَةَ بِالْهَفْوَةِ فَيَعُدُّهَا فَاحِشَةً، وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ الْمُضَارَّةَ لِأَجْلِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْهَا بَعْضَ مَا كَانَ آتَاهَا مِنْ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُضَارَّةَ لِأَخْذِ جَمِيعِ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ حَرَامٌ بِالْأَوْلَى، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى امْرَأَتِهِ إِذَا أَتَتْ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكْرَهُ الرَّجُلَ وَتَمِيلُ إِلَى غَيْرِهِ فَتُؤْذِيهِ بِفُحْشٍ مِنَ الْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، لِيَمَلَّهَا وَيَسْأَمَ مُعَاشَرَتَهَا، فَيُطَلِّقَهَا، فَتَأْخُذَ مَا كَانَ آتَاهَا، وَتَتَزَوَّجَ آخَرَ تَتَمَتَّعُ مَعَهُ بِمَالِ الْأَوَّلِ، وَرُبَّمَا فَعَلَتْ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَتْ بِالْأَوَّلِ. وَإِذَا عَلِمَ النِّسَاءُ أَنَّ الْعَضْلَ، وَالتَّضْيِيقَ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَمِمَّا أُبِيحَ لَهُمْ إِذَا هُنَّ أَهَنَّهُمْ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُفُّهُنَّ عَنِ ارْتِكَابِهَا وَالِاحْتِيَالِ بِهَا عَلَى أَرْذَلِ الْكَسْبِ.
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تُحْسِنُوا عِشْرَةَ نِسَائِكُمْ بِأَنْ تَكُونَ
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْفَاحِشَةَ هُنَا هِيَ الزِّنَا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا النُّشُوزُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الْفُحْشُ بِالْقَوْلِ. وَالصَّوَابُ عَدَمُ تَعْيِينِهَا وَتَخْصِيصِهَا
بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَلْ تَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهَا فَتَصْدُقُ بِالسَّرِقَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْفَاحِشَةِ الْمَمْقُوتَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ فِيهَا هَذَا الْوَصْفُ الْمَنْصُوصُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً، أَيْ ظَاهِرَةً فَاضِحَةً لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ هَذَا الْقَيْدُ لِئَلَّا يَظْلِمَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِإِصَابَتِهَا الْهَفْوَةَ وَاللَّمَمَ، أَوْ بِمُجَرَّدِ سُوءِ الظَّنِّ وَالتُّهَمِ، فَمِنَ الرِّجَالِ الْغَيُورُ السَّيِّئُ الظَّنِّ يُؤَاخِذُ الْمَرْأَةَ بِالْهَفْوَةِ فَيَعُدُّهَا فَاحِشَةً، وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ الْمُضَارَّةَ لِأَجْلِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْهَا بَعْضَ مَا كَانَ آتَاهَا مِنْ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُضَارَّةَ لِأَخْذِ جَمِيعِ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ حَرَامٌ بِالْأَوْلَى، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى امْرَأَتِهِ إِذَا أَتَتْ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكْرَهُ الرَّجُلَ وَتَمِيلُ إِلَى غَيْرِهِ فَتُؤْذِيهِ بِفُحْشٍ مِنَ الْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، لِيَمَلَّهَا وَيَسْأَمَ مُعَاشَرَتَهَا، فَيُطَلِّقَهَا، فَتَأْخُذَ مَا كَانَ آتَاهَا، وَتَتَزَوَّجَ آخَرَ تَتَمَتَّعُ مَعَهُ بِمَالِ الْأَوَّلِ، وَرُبَّمَا فَعَلَتْ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَتْ بِالْأَوَّلِ. وَإِذَا عَلِمَ النِّسَاءُ أَنَّ الْعَضْلَ، وَالتَّضْيِيقَ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَمِمَّا أُبِيحَ لَهُمْ إِذَا هُنَّ أَهَنَّهُمْ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُفُّهُنَّ عَنِ ارْتِكَابِهَا وَالِاحْتِيَالِ بِهَا عَلَى أَرْذَلِ الْكَسْبِ.
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تُحْسِنُوا عِشْرَةَ نِسَائِكُمْ بِأَنْ تَكُونَ
373
مُصَاحَبَتُكُمْ وَمُخَالَطَتُكُمْ لَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي تَعْرِفُهُ، وَتَأْلَفُهُ طِبَاعُهُنَّ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ شَرْعًا، وَلَا عُرْفًا، وَلَا مُرُوءَةً، فَالتَّضْيِيقُ فِي النَّفَقَةِ، وَالْإِيذَاءُ بِالْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، وَكَثْرَةُ عُبُوسِ الْوَجْهِ، وَتَقْطِيبِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ كُلُّ ذَلِكَ يُنَافِي الْعِشْرَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَفِي الْمُعَاشَرَةِ مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ وَالْمُسَاوَاةِ، أَيْ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُعَاشِرْنَكُمْ كَذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يُدْخِلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَتَزَيَّنَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الزِّينَةِ لِأَنَّهَا تَتَزَيَّنُ لَهُ، وَالْغَرَضُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَدْعَاةَ سُرُورِ الْآخَرِ، وَسَبَبَ هَنَائِهِ فِي مَعِيشَتِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ " الْمَعْرُوفَ " بَعْضُهُمْ بِالنَّصَفَةِ فِي الْقَسْمِ، وَالنَّفَقَةِ، وَالْإِجْمَالِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ تَفْسِيرًا سَلْبِيًّا، فَقَالَ هُوَ أَلَّا يُسِيءَ إِلَيْهَا، وَلَا يَضُرَّهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَعِيفٌ، وَجَعَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْمَدَارَ فِي الْمَعْرُوفِ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَسْتَنْكِرُهُ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَبِهَا بِحَسَبِ طَبَقَتِهِمَا فِي النَّاسِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ. وَأَدْخَلَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ الْخَادِمَةِ لَهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَخْدِمْنَ أَنْفُسَهُنَّ، وَكَانَ الزَّوْجُ قَادِرًا عَلَى أُجْرَةِ الْخَادِمَةِ. وَقَلَّمَا يُقَصِّرُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا يَجِبُ لِلنِّسَاءِ مِنَ النَّفَقَةِ، بَلْ هُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمِلَلِ إِنْفَاقًا
عَلَى النِّسَاءِ، وَأَقَلُّهُمْ إِرْهَاقًا لَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ، وَلَكِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى، قَصَّرُوا فِي إِعْدَادِ الْبَنَاتِ لِلزَّوْجِيَّةِ الصَّالِحَةِ بِمَا يَجِبُ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الصِّحِّيَّةِ، وَالتَّعْلِيمِ الْمُغَذِّي لِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ فَعَسَى أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ قَرِيبٍ.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ لِعَيْبٍ فِي الْخُلُقِ، أَوِ الْخَلْقِ مِمَّا لَا يُعَدُّ ذَنْبًا لَهُنَّ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ لَيْسَ فِي أَيْدِيهِنَّ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِنَّ فِي خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَالْقِيَامِ بِشُئُونِهِ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِهِ النِّسَاءُ وَكَذَا الرِّجَالُ فِي أَعْمَالِهِمْ، أَوِ الْمَيْلِ مِنْكُمْ إِلَى غَيْرِهِنَّ، فَاصْبِرُوا وَلَا تَعْجَلُوا بِمُضَارَّتِهِنَّ، وَلَا بِمُفَارَقَتِهِنَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا فَهَذَا الرَّجَاءُ عِلَّةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنْ جَزَاءِ الشَّرْطِ، وَمِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ بَلْ أَهَمُّهُ وَأَعْلَاهُ الْأَوْلَادُ النُّجَبَاءُ، فَرُبَّ امْرَأَةٍ يَمَلُّهَا زَوْجُهَا وَيَكْرَهُهَا، ثُمَّ يَجِيئُهُ مِنْهَا مَنْ تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ مِنَ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ فَيَعْلُو قَدْرُهَا عِنْدَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ شَاهَدْنَا، وَشَاهَدَ النَّاسُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا، وَنَاهِيكَ بِهِ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [٢٥: ٧٤].
وَمِنْهَا أَنْ يُصْلِحَ حَالَهَا بِصَبْرِهِ، وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ، فَتَكُونَ أَعْظَمَ أَسْبَابِ هَنَائِهِ فِي انْتِظَامِ مَعِيشَتِهِ، وَحُسْنِ خِدْمَتِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا أُصِيبَ بِالْأَمْرَاضِ، أَوْ بِالْفَقْرِ، وَالْعَوَزِ، فَكَثِيرًا مَا يَكْرَهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِبَطَرِهِ بِصِحَّتِهِ، وَغِنَاهُ، وَاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَمَتَّعَ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَأَجْمَلَ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُسْلَبَ مَا أَبْطَرَهُ مِنَ النِّعْمَةِ، وَيَكُونَ لَهُ مِنْهَا إِذَا صَبَرَ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ الْبَطَرِ خَيْرُ سَلْوَى، وَعَوْنٍ فِي أَيَّامِ الْمَرَضِ، أَوِ الْعَوَزِ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي يَكْرَهُ زَوْجَهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ مِثْلَ هَذَا وَيَتَذَكَّرَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ عَيْبٍ تَصْبِرُ امْرَأَتُهُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، غَيْرَ مَا وَطَّنَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ،
عَلَى النِّسَاءِ، وَأَقَلُّهُمْ إِرْهَاقًا لَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ، وَلَكِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى، قَصَّرُوا فِي إِعْدَادِ الْبَنَاتِ لِلزَّوْجِيَّةِ الصَّالِحَةِ بِمَا يَجِبُ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الصِّحِّيَّةِ، وَالتَّعْلِيمِ الْمُغَذِّي لِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ فَعَسَى أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ قَرِيبٍ.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ لِعَيْبٍ فِي الْخُلُقِ، أَوِ الْخَلْقِ مِمَّا لَا يُعَدُّ ذَنْبًا لَهُنَّ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ لَيْسَ فِي أَيْدِيهِنَّ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِنَّ فِي خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَالْقِيَامِ بِشُئُونِهِ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِهِ النِّسَاءُ وَكَذَا الرِّجَالُ فِي أَعْمَالِهِمْ، أَوِ الْمَيْلِ مِنْكُمْ إِلَى غَيْرِهِنَّ، فَاصْبِرُوا وَلَا تَعْجَلُوا بِمُضَارَّتِهِنَّ، وَلَا بِمُفَارَقَتِهِنَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا فَهَذَا الرَّجَاءُ عِلَّةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنْ جَزَاءِ الشَّرْطِ، وَمِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ بَلْ أَهَمُّهُ وَأَعْلَاهُ الْأَوْلَادُ النُّجَبَاءُ، فَرُبَّ امْرَأَةٍ يَمَلُّهَا زَوْجُهَا وَيَكْرَهُهَا، ثُمَّ يَجِيئُهُ مِنْهَا مَنْ تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ مِنَ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ فَيَعْلُو قَدْرُهَا عِنْدَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ شَاهَدْنَا، وَشَاهَدَ النَّاسُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا، وَنَاهِيكَ بِهِ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [٢٥: ٧٤].
نِعَمُ الْإِلَهِ عَلَى الْعِبَادِ كَثِيرَةٌ | وَأَجَلُّهُنَّ نَجَابَةُ الْأَوْلَادِ |
374
وَقَدْ بَيَّنَّا حَاجَةَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى مَوَدَّةِ الْآخَرِ، وَرَحْمَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ فِي مَقَالَاتِ (الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ) فَتُرَاجَعْ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمَنَارِ، وَرُبَّمَا نُودِعُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١].
هَذَا، وَإِنَّ التَّعْلِيلَ فِي الْآيَةِ يُرْشِدُنَا إِلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ تَأْتِي فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا فِي
النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ لَهُ، مَتَى جَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرُ تَظْهَرُ قِيمَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَرَفَ الْعُقَلَاءُ صِدْقَهَا بِالتَّجَارِبِ، وَلِأَجْلِ التَّنْبِيهِ لَهَا قَالَ - تَعَالَى -: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [٢: ٢١٦] وَلَمْ يَقُلْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا امْرَأَةً، ثُمَّ إِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَاحْتِمَالِهِ فَوَائِدَ أُخْرَى غَيْرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكْرُوهِ نَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْمَحْبُوبِ، فَالصَّابِرُ الْمُحْتَمِلُ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ بِصَبْرِهِ، وَرَوِيَّتِهِ سَوَاءٌ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِهِ خَيْرٌ أَمْ لَا، وَمِنَ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَيْرٌ الْقِتَالُ بِالْحَقِّ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَكْرُوهٌ طَبْعًا، وَنَاهِيكَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَنَصْرِهِ، وَظُهُورِ أَهْلِهِ، وَخِذْلَانِ الْبَاطِلِ وَحِزْبِهِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامٌ حَسَنٌ هُنَاكَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُوصِي أَهْلَهُ بِحُسْنِ مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَرِهْنَ الْأَزْوَاجَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ خَيْرٌ.
وَإِنَّمَا يُبِيحُ مُؤَاخَذَتَهُنَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَضْلِ حَتَّى يَفْتَدِينَ بِالْمَالِ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بِحَيْثُ يَكُونُ إِمْسَاكُهُنَّ سَبَبًا لِمَهَانَةِ الرَّجُلِ وَاحْتِقَارِهِ، أَوْ إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ. وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا جَمِيعَ حَقِّهَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -:
[٢: ٢١٦] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَيْ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ جَدِيدَةٍ تَرْغَبُونَ فِيهَا مَكَانَ زَوْجٍ سَابِقَةٍ تَرْغَبُونَ عَنْهَا لِكَرَاهَتِكُمْ لَهَا وَعَدَمِ طَاقَتِكُمُ الصَّبْرَ عَلَى مُعَاشَرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَهِيَ لَمْ تَأْتِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، وَقَدْ آتَيْتُمْ مِنْ قَبْلُ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا مِنَ الْمَالِ أَيْ مَالًا كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ أَخَذْنَهُ وَحُزْنَهُ فِي أَيْدِيهِنَّ، أَوِ الْتَزَمْتُمُوهُ لَهُنَّ فَصَارَ دِينًا فِي ذِمَّتِكُمْ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِصَاحِبَتِهِ؛ لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَسْتَبْدِلُونَ غَيْرَهَا بِهَا لِأَجْلِ هَوَاكُمْ، وَتَمَتُّعِكُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ مِنْهَا يُبِيحُ لَكُمْ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْهُ كَأَنْ تَكُونَ هِيَ الطَّالِبَةَ لِفِرَاقِكُمُ الْمُسِيئَةَ إِلَيْكُمْ لِأَجْلِ حَمْلِكُمْ عَلَى طَلَاقِهَا، فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا يُبِيحُ لَكُمْ ذَلِكَ فَبِأَيِّ وَجْهٍ تَسْتَحِلُّونَ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا؟ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
هَذَا، وَإِنَّ التَّعْلِيلَ فِي الْآيَةِ يُرْشِدُنَا إِلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ تَأْتِي فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا فِي
النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ لَهُ، مَتَى جَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرُ تَظْهَرُ قِيمَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَرَفَ الْعُقَلَاءُ صِدْقَهَا بِالتَّجَارِبِ، وَلِأَجْلِ التَّنْبِيهِ لَهَا قَالَ - تَعَالَى -: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [٢: ٢١٦] وَلَمْ يَقُلْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا امْرَأَةً، ثُمَّ إِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَاحْتِمَالِهِ فَوَائِدَ أُخْرَى غَيْرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكْرُوهِ نَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْمَحْبُوبِ، فَالصَّابِرُ الْمُحْتَمِلُ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ بِصَبْرِهِ، وَرَوِيَّتِهِ سَوَاءٌ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِهِ خَيْرٌ أَمْ لَا، وَمِنَ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَيْرٌ الْقِتَالُ بِالْحَقِّ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَكْرُوهٌ طَبْعًا، وَنَاهِيكَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَنَصْرِهِ، وَظُهُورِ أَهْلِهِ، وَخِذْلَانِ الْبَاطِلِ وَحِزْبِهِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامٌ حَسَنٌ هُنَاكَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُوصِي أَهْلَهُ بِحُسْنِ مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَرِهْنَ الْأَزْوَاجَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ خَيْرٌ.
وَإِنَّمَا يُبِيحُ مُؤَاخَذَتَهُنَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَضْلِ حَتَّى يَفْتَدِينَ بِالْمَالِ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بِحَيْثُ يَكُونُ إِمْسَاكُهُنَّ سَبَبًا لِمَهَانَةِ الرَّجُلِ وَاحْتِقَارِهِ، أَوْ إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ. وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا جَمِيعَ حَقِّهَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -:
[٢: ٢١٦] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَيْ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ جَدِيدَةٍ تَرْغَبُونَ فِيهَا مَكَانَ زَوْجٍ سَابِقَةٍ تَرْغَبُونَ عَنْهَا لِكَرَاهَتِكُمْ لَهَا وَعَدَمِ طَاقَتِكُمُ الصَّبْرَ عَلَى مُعَاشَرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَهِيَ لَمْ تَأْتِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، وَقَدْ آتَيْتُمْ مِنْ قَبْلُ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا مِنَ الْمَالِ أَيْ مَالًا كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ أَخَذْنَهُ وَحُزْنَهُ فِي أَيْدِيهِنَّ، أَوِ الْتَزَمْتُمُوهُ لَهُنَّ فَصَارَ دِينًا فِي ذِمَّتِكُمْ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِصَاحِبَتِهِ؛ لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَسْتَبْدِلُونَ غَيْرَهَا بِهَا لِأَجْلِ هَوَاكُمْ، وَتَمَتُّعِكُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ مِنْهَا يُبِيحُ لَكُمْ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْهُ كَأَنْ تَكُونَ هِيَ الطَّالِبَةَ لِفِرَاقِكُمُ الْمُسِيئَةَ إِلَيْكُمْ لِأَجْلِ حَمْلِكُمْ عَلَى طَلَاقِهَا، فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا يُبِيحُ لَكُمْ ذَلِكَ فَبِأَيِّ وَجْهٍ تَسْتَحِلُّونَ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا؟ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ
وَتَوْبِيخٍ، أَيْ أَتَأْخَذُونَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَاهِتِينَ إِيَّاهَا كَاذِبِينَ عَلَيْهَا بِنِسْبَةِ الْفَاحِشَةِ إِلَيْهَا؟ ! فَالْبُهْتَانُ هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ الْمَكْذُوبَ عَلَيْهِ، وَيُسْكِتُهُ مُتَحَيِّرًا، يُقَالُ: بَهَتَهُ فَبُهِتَ، أَيِ افْتَرَى عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِافْتِرَاءِ فَأَدْهَشَهُ، وَأَسْكَتَهُ مُتَحَيِّرًا. وَالْإِثْمُ الْحَرَامُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ ذِكْرَ إِرَادَةِ الِاسْتِبْدَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِعَدَمِ حِلِّ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا، وَهُوَ لَا يُرِيدُ تَزَوُّجَ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا كَرِهَ عِشْرَتَهَا، أَوِ اخْتَارَ الْوَحْدَةَ، وَعَدَمَ التَّقَيُّدِ بِالنِّسَاءِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا كَمَا يُعْلَمُ مِنَ اشْتِرَاطِ الْإِتْيَانِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ إِنْكَارٌ آخَرُ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ إِيحَاشِهَا بِالطَّلَاقِ، وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا أَكَّدَ بِهِ الْإِنْكَارَ الْأَوَّلَ مُبَالَغَةً فِي التَّنْفِيرِ، أَوْ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِ مَنْ تَمَتَّعَ بِامْرَأَتِهِ وَعَامَلَهَا مُعَامَلَةَ الْأَزْوَاجِ، وَهِيَ أَشَدُّ صِلَةٍ حَيَوِيَّةٍ بَيْنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ رَغِبَ عَنْهَا، وَأَرَادَ فِرَاقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ تُلْجِئَهُ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ، أَوْ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ، وَلَمْ يَتَأَثَّمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا الَّذِي آتَاهَا فِي حَالِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالرَّغْبَةِ فِيهَا. يَقُولُ: كَيْفَ تَأْخُذُونَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ مَالِهِنَّ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ قَدْ أَفْضَيْتُمْ إِلَيْهِنَّ، أَيْ خَلَصْتُمْ، وَوَصَلْتُمْ إِلَيْهِنَّ ذَلِكَ الْخُلُوصَ الْخَاصَّ بِالزَّوْجَيْنِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ تَمَامَ التَّحَقُّقِ، فَيُلَابِسُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ حَتَّى كَأَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَجْلِهِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى التَّثْنِيَةِ " زَوْجٍ "، وَبِهِ يَتَكَوَّنُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ نِسْبَتُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ؟ أَبَعْدَ هَذَا الْإِفْضَاءِ وَالْمُلَابَسَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَاصِلُ الْبَاذِلُ هُوَ الْقَاطِعَ لِلصِّلَةِ الْعَظِيمَةِ طَامِعًا فِي مَالِ الْآخَرِ الْمَظْلُومِ، وَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ:
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِفْضَاءِ هُنَا الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ فِيهَا الْمُلَامَسَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَهُمْ إِنَّمَا يُفَسِّرُونَ بِمَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ مَعَ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ، فَالْجُمْلَةُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا لَا يَحْسُنُ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ
تَعْدِيَةُ الْإِفْضَاءِ بِـ إِلَى الدَّالِّ عَلَى مُنْتَهَى الِاتِّصَالِ. وَهَذَا مِنْ حُسْنِ نَزَاهَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّعْبِيرِ وَأَدَبِهِ الْعَالِي فِي الْخِطَابِ، وَمِنَ الدِّقَّةِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ نُكْتَةِ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ أَيْ مَعَ كَوْنِ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ أَفْضَيْتُمْ إِلَيْهِنَّ، أَوْ أَفْضَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْآخَرِ، وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ الْآخَرِ وَبَعْضِهِ الْمُتَمِّمِ لِوُجُودِهِ، فَكَأَنَّ بَعْضَ الْحَقِيقَةِ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ بَعْضِهَا الْآخَرِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْإِفْضَاءِ وَاتَّحَدَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا أَيْ عَهْدًا شَدِيدًا مُوَثَّقًا يَرْبُطُكُمْ بِهِنَّ أَقْوَى الرَّبْطِ
وَتَوْبِيخٍ، أَيْ أَتَأْخَذُونَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَاهِتِينَ إِيَّاهَا كَاذِبِينَ عَلَيْهَا بِنِسْبَةِ الْفَاحِشَةِ إِلَيْهَا؟ ! فَالْبُهْتَانُ هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ الْمَكْذُوبَ عَلَيْهِ، وَيُسْكِتُهُ مُتَحَيِّرًا، يُقَالُ: بَهَتَهُ فَبُهِتَ، أَيِ افْتَرَى عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِافْتِرَاءِ فَأَدْهَشَهُ، وَأَسْكَتَهُ مُتَحَيِّرًا. وَالْإِثْمُ الْحَرَامُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ ذِكْرَ إِرَادَةِ الِاسْتِبْدَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِعَدَمِ حِلِّ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا، وَهُوَ لَا يُرِيدُ تَزَوُّجَ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا كَرِهَ عِشْرَتَهَا، أَوِ اخْتَارَ الْوَحْدَةَ، وَعَدَمَ التَّقَيُّدِ بِالنِّسَاءِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا كَمَا يُعْلَمُ مِنَ اشْتِرَاطِ الْإِتْيَانِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ إِنْكَارٌ آخَرُ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ إِيحَاشِهَا بِالطَّلَاقِ، وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا أَكَّدَ بِهِ الْإِنْكَارَ الْأَوَّلَ مُبَالَغَةً فِي التَّنْفِيرِ، أَوْ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِ مَنْ تَمَتَّعَ بِامْرَأَتِهِ وَعَامَلَهَا مُعَامَلَةَ الْأَزْوَاجِ، وَهِيَ أَشَدُّ صِلَةٍ حَيَوِيَّةٍ بَيْنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ رَغِبَ عَنْهَا، وَأَرَادَ فِرَاقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ تُلْجِئَهُ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ، أَوْ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ، وَلَمْ يَتَأَثَّمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا الَّذِي آتَاهَا فِي حَالِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالرَّغْبَةِ فِيهَا. يَقُولُ: كَيْفَ تَأْخُذُونَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ مَالِهِنَّ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ قَدْ أَفْضَيْتُمْ إِلَيْهِنَّ، أَيْ خَلَصْتُمْ، وَوَصَلْتُمْ إِلَيْهِنَّ ذَلِكَ الْخُلُوصَ الْخَاصَّ بِالزَّوْجَيْنِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ تَمَامَ التَّحَقُّقِ، فَيُلَابِسُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ حَتَّى كَأَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَجْلِهِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى التَّثْنِيَةِ " زَوْجٍ "، وَبِهِ يَتَكَوَّنُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ نِسْبَتُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ؟ أَبَعْدَ هَذَا الْإِفْضَاءِ وَالْمُلَابَسَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَاصِلُ الْبَاذِلُ هُوَ الْقَاطِعَ لِلصِّلَةِ الْعَظِيمَةِ طَامِعًا فِي مَالِ الْآخَرِ الْمَظْلُومِ، وَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ:
وَبِتْنَا وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ ثَالِثٌ | كَزَوْجِ حَمَامٍ أَوْ كَغُصْنَيْنِ هَكَذَا |
فَمِنْ بَعْدِ هَذَا الْوَصْلِ وَالْوُدِّ كُلِّهِ | أَكَانَ جَمِيلًا مِنْكَ تَهْجُرُ هَكَذَا؟ |
تَعْدِيَةُ الْإِفْضَاءِ بِـ إِلَى الدَّالِّ عَلَى مُنْتَهَى الِاتِّصَالِ. وَهَذَا مِنْ حُسْنِ نَزَاهَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّعْبِيرِ وَأَدَبِهِ الْعَالِي فِي الْخِطَابِ، وَمِنَ الدِّقَّةِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ نُكْتَةِ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ أَيْ مَعَ كَوْنِ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ أَفْضَيْتُمْ إِلَيْهِنَّ، أَوْ أَفْضَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْآخَرِ، وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ الْآخَرِ وَبَعْضِهِ الْمُتَمِّمِ لِوُجُودِهِ، فَكَأَنَّ بَعْضَ الْحَقِيقَةِ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ بَعْضِهَا الْآخَرِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْإِفْضَاءِ وَاتَّحَدَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا أَيْ عَهْدًا شَدِيدًا مُوَثَّقًا يَرْبُطُكُمْ بِهِنَّ أَقْوَى الرَّبْطِ
376
وَأَحْكَمَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الْمِيثَاقَ هُوَ مَا أَخَذَ اللهُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [٢: ٢٢٩] قَالَ: وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيُقَالُ: اللهُ عَلَيْكَ لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ كَلِمَةُ النِّكَاحِ، أَيْ صِيغَةُ الْعَقْدِ الَّتِي حَلَّتْ بِهِ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الرِّجَالَ مِنْ مُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ النِّسَاءُ مِنَ الرِّجَالِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِمَعْنَى الْإِفْضَاءِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ شُئُونِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهُوَ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١] فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ هِيَ أَقْوَى مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ فِي تَرْكِ أَبَوَيْهَا، وَإِخْوَتِهَا، وَسَائِرِ أَهْلِهَا، وَالرِّضَا بِالِاتِّصَالِ بِرَجُلٍ غَرِيبٍ عَنْهَا تُسَاهِمُهُ السَّرَّاءَ وَالضَّرَّاءَ، فَمِنْ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى - فِي هَذَا الْإِنْسَانِ أَنْ تَقْبَلَ الْمَرْأَةُ بِالِانْفِصَالِ مِنْ أَهْلِهَا ذَوِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهَا، لِأَجْلِ الِاتِّصَالِ بِالْغَرِيبِ، تَكُونُ زَوْجًا لَهُ وَيَكُونُ زَوْجًا لَهَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ أَقْوَى مِنْ كُلِّ مَا يَكُونُ بَيْنَ ذَوِي الْقُرْبَى، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْدِمُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَتَرْضَى بِأَنْ تَتْرُكَ جَمِيعَ أَنْصَارِهَا وَأَحِبَّائِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا إِلَّا وَهِيَ وَاثِقَةٌ بِأَنْ تَكُونَ صِلَتُهَا بِهِ أَقْوَى مَنْ كُلِّ صِلَةٍ، وَعِيشَتُهَا مَعَهُ أَهْنَأَ مَنْ كُلِّ عِيشَةٍ، وَهَذَا مِيثَاقٌ فِطْرِيٌّ مِنْ أَغْلَظِ الْمَوَاثِيقِ، وَأَشَدِّهَا إِحْكَامًا، وَإِنَّمَا يَفْقَهُ هَذَا الْمَعْنَى الْإِنْسَانُ الَّذِي يُحِسُّ إِحْسَاسَ الْإِنْسَانِ، فَلْيَتَأَمَّلْ تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي يُنْشِئُهَا اللهُ - تَعَالَى - بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ يَجِدُ أَنَّ
الْمَرْأَةَ أَضْعَفُ مِنَ الرَّجُلِ، وَأَنَّهَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ تُسَلِّمُ نَفْسَهَا إِلَيْهِ، مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى هَضْمِ حُقُوقِهَا، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَعْتَمِدُ فِي هَذَا الْإِقْبَالِ وَالتَّسْلِيمِ؟ وَمَا هُوَ الضَّمَانُ الَّذِي تَأْخُذُهُ عَلَيْهِ، وَالْمِيثَاقُ الَّذِي تُوَاثِقُهُ بِهِ؟ مَاذَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الْمَرْأَةِ إِذَا قِيلَ لَهَا: إِنَّكِ سَتَكُونِينَ زَوْجًا لِفُلَانٍ. إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَخْطُرُ فِي بَالِهَا عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، أَوِ التَّفَكُّرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْ عَنْهُ هُوَ أَنَّهَا سَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهَا عِنْدَ أَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ اسْتَقَرَّ فِي فِطْرَتِهَا وَرَاءَ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ: هُوَ عَقْلٌ إِلَهِيٌّ، وَشُعُورٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَ فِيهَا مَيْلًا إِلَى صِلَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ تَعْهَدْهَا مِنْ قَبْلُ، وَثِقَةً مَخْصُوصَةً لَا تَجِدُهَا فِي أَحَدٍ مِنَ الْأَهْلِ، وَحُنُوًّا مَخْصُوصًا لَا تَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا الْبَعْلَ، فَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ الَّذِي أَخَذَتْهُ مِنَ الرَّجُلِ بِمُقْتَضَى نِظَامِ الْفِطْرَةِ الَّذِي يُوَثَّقُ بِهِ مَا لَا يُوَثَّقُ بِالْكَلَامِ الْمُوَثَّقِ بِالْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ، وَبِهِ تَعْتَقِدُ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا بِالزَّوَاجِ قَدْ أَقْبَلَتْ عَلَى سَعَادَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا سَعَادَةٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ لَمْ تَرَ مَنْ رَضِيَتْ بِهِ زَوْجًا، وَلَمْ تَسْمَعْ لَهُ مِنْ قَبْلُ كَلَامًا، فَهَذَا مَا عَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ، وَذَكَّرَنَا بِهِ - وَهُوَ مَرْكُوزٌ فِي أَعْمَاقِ نُفُوسِنَا - بِقَوْلِهِ: إِنَّ النِّسَاءَ قَدْ أَخَذْنَ مِنَ الرِّجَالِ بِالزَّوَاجِ مِيثَاقًا غَلِيظًا، فَمَا هِيَ قِيمَةُ مَنْ لَا يَفِي بِهَذَا الْمِيثَاقِ، وَمَا هِيَ مَكَانَتُهُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ؟ انْتَهَى. بِتَصَرُّفٍ مَا.
الْمَرْأَةَ أَضْعَفُ مِنَ الرَّجُلِ، وَأَنَّهَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ تُسَلِّمُ نَفْسَهَا إِلَيْهِ، مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى هَضْمِ حُقُوقِهَا، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَعْتَمِدُ فِي هَذَا الْإِقْبَالِ وَالتَّسْلِيمِ؟ وَمَا هُوَ الضَّمَانُ الَّذِي تَأْخُذُهُ عَلَيْهِ، وَالْمِيثَاقُ الَّذِي تُوَاثِقُهُ بِهِ؟ مَاذَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الْمَرْأَةِ إِذَا قِيلَ لَهَا: إِنَّكِ سَتَكُونِينَ زَوْجًا لِفُلَانٍ. إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَخْطُرُ فِي بَالِهَا عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، أَوِ التَّفَكُّرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْ عَنْهُ هُوَ أَنَّهَا سَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهَا عِنْدَ أَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ اسْتَقَرَّ فِي فِطْرَتِهَا وَرَاءَ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ: هُوَ عَقْلٌ إِلَهِيٌّ، وَشُعُورٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَ فِيهَا مَيْلًا إِلَى صِلَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ تَعْهَدْهَا مِنْ قَبْلُ، وَثِقَةً مَخْصُوصَةً لَا تَجِدُهَا فِي أَحَدٍ مِنَ الْأَهْلِ، وَحُنُوًّا مَخْصُوصًا لَا تَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا الْبَعْلَ، فَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ الَّذِي أَخَذَتْهُ مِنَ الرَّجُلِ بِمُقْتَضَى نِظَامِ الْفِطْرَةِ الَّذِي يُوَثَّقُ بِهِ مَا لَا يُوَثَّقُ بِالْكَلَامِ الْمُوَثَّقِ بِالْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ، وَبِهِ تَعْتَقِدُ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا بِالزَّوَاجِ قَدْ أَقْبَلَتْ عَلَى سَعَادَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا سَعَادَةٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ لَمْ تَرَ مَنْ رَضِيَتْ بِهِ زَوْجًا، وَلَمْ تَسْمَعْ لَهُ مِنْ قَبْلُ كَلَامًا، فَهَذَا مَا عَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ، وَذَكَّرَنَا بِهِ - وَهُوَ مَرْكُوزٌ فِي أَعْمَاقِ نُفُوسِنَا - بِقَوْلِهِ: إِنَّ النِّسَاءَ قَدْ أَخَذْنَ مِنَ الرِّجَالِ بِالزَّوَاجِ مِيثَاقًا غَلِيظًا، فَمَا هِيَ قِيمَةُ مَنْ لَا يَفِي بِهَذَا الْمِيثَاقِ، وَمَا هِيَ مَكَانَتُهُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ؟ انْتَهَى. بِتَصَرُّفٍ مَا.
377
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِالْآيَتَيْنِ عَلَى مَنْعِ الْخُلْعِ - وَهُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ - طَلَاقُ الْمَرْأَةِ عَلَى عِوَضٍ تَبْذُلُهُ لِلرَّجُلِ، كَأَنْ تَتْرُكُ لَهُ مَا كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْهُ مِنْ صَدَاقٍ وَغَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مَا هُنَا نَاسِخٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [٢: ٢٢٩] وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ تِلْكَ نَاسِخَةٌ لِهَذِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا جَعَلَهُ نَاسِخًا هُوَ الْمُتَأَخِّرُ، وَإِنَّمَا أَعْيَاهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ فَحَكَمُوا بِنَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَآيَةُ النَّسْخِ التَّنَافِي، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا هُنَا وَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا عُلِمَ مِنَ التَّفْسِيرِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِعَدَمِ النَّسْخِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا هُوَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، وَالْمُبَاحُ هُنَاكَ مَا افْتَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا بِرِضَاهَا لِتَعَذُّرِ الِاتِّفَاقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذِكْرِ الْقِنْطَارِ هُنَا عَلَى جَوَازِ التَّغَالِي فِي الْمُهُورِ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي جَوَازِ جَعْلِ الْقِنْطَارِ مَهْرًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِيتَاءُ الْقِنْطَارِ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْهَدَايَا،
وَالْمِنَحِ، وَلَكِنْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) نَهَى عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يُزَادَ فِي الصَّدَاقِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [٤: ٢٠] فَقَالَ: " اللهُمَّ عَفْوًا، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ! "، ثُمَّ رَجَعَ فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: " إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا فِي صَدُقَاتِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ "، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً خَاصَمَتْ عُمَرَ فَخَصَمَتْهُ. وَفِي الْمُوَفَّقِيَّاتِ لِلزُّبَيْرِ بْنِ بِكَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُصْعَبٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ " لَا تَزِيدُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً - أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ - فَمَنْ زَادَ أُوقِيَّةً جُعِلَتِ الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: مَا ذَاكَ لَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: " امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ "، وَنَقُولُ: نَعَمْ، إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُحَدِّدْ مِقْدَارَ الصَّدَاقِ لِلْمَرْأَةِ، بَلْ تَرَكَتْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَيُعْطِي كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْإِرْشَادُ إِلَى الْيُسْرِ فِي ذَلِكَ وَعَدَمِ التَّغَالِي فِيهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ إِنَّ خَيْرَ النِّسَاءِ أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ: إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَفِي مَعْنَاهُمَا حَدِيثُهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ: أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا كَذَا رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً.
هَذَا وَإِنَّ التَّغَالِيَ فِي الْمُهُورِ قَدْ صَارَ مِنْ أَسْبَابِ قِلَّةِ الزَّوَاجِ ; لِأَنَّهُ يُكَلِّفُ الرِّجَالَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَقِلَّةُ الزَّوَاجِ تُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَالْفَسَادِ، وَيَكُونُ الْغَبْنُ فِي ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ أَكْثَرَ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا يَنْتَهِي بِالسُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِرَدِّ الْفِعْلِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ النِّسَاءُ فِي
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذِكْرِ الْقِنْطَارِ هُنَا عَلَى جَوَازِ التَّغَالِي فِي الْمُهُورِ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي جَوَازِ جَعْلِ الْقِنْطَارِ مَهْرًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِيتَاءُ الْقِنْطَارِ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْهَدَايَا،
وَالْمِنَحِ، وَلَكِنْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) نَهَى عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يُزَادَ فِي الصَّدَاقِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [٤: ٢٠] فَقَالَ: " اللهُمَّ عَفْوًا، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ! "، ثُمَّ رَجَعَ فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: " إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا فِي صَدُقَاتِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ "، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً خَاصَمَتْ عُمَرَ فَخَصَمَتْهُ. وَفِي الْمُوَفَّقِيَّاتِ لِلزُّبَيْرِ بْنِ بِكَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُصْعَبٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ " لَا تَزِيدُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً - أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ - فَمَنْ زَادَ أُوقِيَّةً جُعِلَتِ الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: مَا ذَاكَ لَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: " امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ "، وَنَقُولُ: نَعَمْ، إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُحَدِّدْ مِقْدَارَ الصَّدَاقِ لِلْمَرْأَةِ، بَلْ تَرَكَتْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَيُعْطِي كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْإِرْشَادُ إِلَى الْيُسْرِ فِي ذَلِكَ وَعَدَمِ التَّغَالِي فِيهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ إِنَّ خَيْرَ النِّسَاءِ أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ: إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَفِي مَعْنَاهُمَا حَدِيثُهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ: أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا كَذَا رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً.
هَذَا وَإِنَّ التَّغَالِيَ فِي الْمُهُورِ قَدْ صَارَ مِنْ أَسْبَابِ قِلَّةِ الزَّوَاجِ ; لِأَنَّهُ يُكَلِّفُ الرِّجَالَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَقِلَّةُ الزَّوَاجِ تُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَالْفَسَادِ، وَيَكُونُ الْغَبْنُ فِي ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ أَكْثَرَ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا يَنْتَهِي بِالسُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِرَدِّ الْفِعْلِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ النِّسَاءُ فِي
378
الْإِسْلَامِ هُنَّ اللَّوَاتِي يُعْطِينَ الْمُهُورَ لِلرِّجَالِ لِيَتَزَوَّجُوهُنَّ، كَمَا هِيَ عَادَةُ النَّصَارَى. وَإِنَّكَ لَتَرَى هَذِهِ الْعَادَةَ الضَّارَّةَ مُتَمَكِّنَةً فِي بَعْضِ النَّاسِ تَمَكُّنًا غَرِيبًا حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ لِلْكُفْءِ الصَّالِحِ الَّذِي لَا يَطْمَعُ فِي مِثْلِهِ إِذَا كَانَ لَا يُعْطِيهِ مَا يَرَاهُ لَائِقًا بِمَقَامِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَدْ يُزَوِّجُهَا لِمَنْ لَا يُرْضِيهِ دِينُهُ، وَلَا خُلُقُهُ، وَلَا يَرْجُو لَهَا الْهَنَاءَ عِنْدَهُ إِذَا هُوَ أَعْطَاهُ الْمِقْدَارَ الْكَثِيرَ الَّذِي يُخَيِّلُ إِلَيْهِ
جَهْلُهُ أَنَّهُ لَائِقٌ بِمَقَامِهِ، وَهَكَذَا تَتَحَكَّمُ الْعَادَاتُ الضَّارَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْفَاسِدَةُ بِالنَّاسِ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَيْهِمْ نِظَامَ مَعِيشَتِهِمْ، وَهُمْ لِجَهْلِهِمْ أَوْ ضَعْفِ عَزَائِمِهِمْ يَنْقَادُونَ لَهَا صَاغِرِينَ!
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ، وَقَدْ كَانَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ حُكْمُ نِكَاحِ الْيَتَامَى، وَعَدَدُ مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ بِشَرْطِهِ. وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ذَكَرَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ بِأَنْ يُطَلِّقَ هَذِهِ وَيَنْكِحَ تِلْكَ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَصِلَ ذَلِكَ بِبَيَانِ مَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُ مِنْهُنَّ، وَقَدْ بَيَّنَ مَا يَجِبُ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي مُعَاشَرَتِهِنَّ، وَقَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ: لَمَّا كَرَّرَ الْإِذْنَ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مَنْطُوقًا، وَمَفْهُومًا، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِذْنُ فِي نِكَاحِ مَا طَابَ مِنَ النِّسَاءِ، وَكَانَ الطَّيِّبُ شَرْعًا يَحْمِلُ عَلَى الْحِلِّ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى مَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ لِذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ فَقَالَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ.
أَقُولُ: قَدَّمَ هَذَا النِّكَاحَ عَلَى غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ فِي آيَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَمْ يَسْرُدْهُ مَعَ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّهُ عَلَى قُبْحِهِ كَانَ فَاشِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَاكَ ذَمَّهُ بِمِثْلِ مَا ذَمَّ بِهِ الزِّنَا
جَهْلُهُ أَنَّهُ لَائِقٌ بِمَقَامِهِ، وَهَكَذَا تَتَحَكَّمُ الْعَادَاتُ الضَّارَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْفَاسِدَةُ بِالنَّاسِ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَيْهِمْ نِظَامَ مَعِيشَتِهِمْ، وَهُمْ لِجَهْلِهِمْ أَوْ ضَعْفِ عَزَائِمِهِمْ يَنْقَادُونَ لَهَا صَاغِرِينَ!
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ، وَقَدْ كَانَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ حُكْمُ نِكَاحِ الْيَتَامَى، وَعَدَدُ مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ بِشَرْطِهِ. وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ذَكَرَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ بِأَنْ يُطَلِّقَ هَذِهِ وَيَنْكِحَ تِلْكَ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَصِلَ ذَلِكَ بِبَيَانِ مَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُ مِنْهُنَّ، وَقَدْ بَيَّنَ مَا يَجِبُ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي مُعَاشَرَتِهِنَّ، وَقَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ: لَمَّا كَرَّرَ الْإِذْنَ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مَنْطُوقًا، وَمَفْهُومًا، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِذْنُ فِي نِكَاحِ مَا طَابَ مِنَ النِّسَاءِ، وَكَانَ الطَّيِّبُ شَرْعًا يَحْمِلُ عَلَى الْحِلِّ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى مَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ لِذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ فَقَالَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ.
أَقُولُ: قَدَّمَ هَذَا النِّكَاحَ عَلَى غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ فِي آيَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَمْ يَسْرُدْهُ مَعَ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّهُ عَلَى قُبْحِهِ كَانَ فَاشِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَاكَ ذَمَّهُ بِمِثْلِ مَا ذَمَّ بِهِ الزِّنَا
379
لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ كَمَا تَرَى فِي آخِرِ الْآيَةِ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنِ امْرَأَتِهِ كَانَ ابْنُهُ أَحَقَّ بِهَا أَنْ يَنْكِحَهَا إِنْ شَاءَ إِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، أَوْ يَنْكِحُهَا
مَنْ شَاءَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ قَامَ ابْنُهُ مِحْصَنٌ فَوَرِثَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ أَمِّ عُبَيْدٍ بِنْتِ ضَمْرَةَ، وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُوَرِّثْهَا مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: ارْجِعِي لَعَلَّ اللهَ يُنْزِلُ فِيكِ شَيْئًا فَنَزَلَتْ وَلَا تَنْكِحُوا الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ أَيْضًا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا أَيْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَقِبَ وُقُوعِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقِصَّةِ بِلَفْظٍ آخَرَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى، وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مِحْصَنٍ الْمَذْكُورِ، وَفِي الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، وَفِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَفِي مَنْظُورِ بْنِ رَيَّانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مُلَيْكَةَ بِنْتَ خَارِجَةَ.
وَالنِّكَاحُ هُوَ الزَّوَاجُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [٢: ٢٣٠] أَنَّ النِّكَاحَ لَهُ إِطْلَاقَانِ: يُطْلَقُ عَلَى عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى مَا وَرَاءَ الْعَقْدِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، أَيْ مَجْمُوعُهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَاكَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى الْوَطْءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْإِطْلَاقَيْنِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ، وَأَيِّهِمَا الْمَجَازِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَإِنَّمَا كَمَالُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الْعَقْدُ، وَمَا وَرَاءَهُ كَمَا قُلْنَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ الَّذِي تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ، وَتُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الْغَالِبِ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْوَطْءُ، وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) النِّكَاحَ هُنَا بِالْعَقْدِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا أَبُوكَ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ "، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآبَاءِ مَا يَشْمَلُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مَعْنَاهُ لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ لَا تُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا قَدْ مَاتَ مِنْهُنَّ، وَرَوَوْهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ، وَقَطْعُ عِرْقِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَسَدُّ بَابِ إِبَاحَتِهَا سَدًّا مُحْكَمًا، وَهُوَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ إِنَّ نِكَاحَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ كَانَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَأَيَّدَتْهَا الشَّرِيعَةُ
الَّتِي هَدَاهُمْ إِلَيْهَا أَمْرًا فَاحِشًا شَدِيدَ الْقُبْحِ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَقْتًا أَيْ مَمْقُوتًا مَقْتًا شَدِيدًا عِنْدَ ذَوِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ الْمَقْتِ، وَهُوَ الْبُغْضُ الشَّدِيدُ أَوْ بُغْضُ الِاحْتِقَارِ، وَالِاشْمِئْزَازِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نِكَاحَ الْمَقْتِ، وَسُمِّيَ الْوَلَدُ مِنْهُ مَقْتِيًّا، وَمَقِيتًا، أَيْ مَبْغُوضًا مُحْتَقَرًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ بِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُ ذَلِكَ النِّكَاحِ الَّذِي اعْتَادَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَبِئْسَ مَنْ يَسْلُكُهُ.
مَنْ شَاءَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ قَامَ ابْنُهُ مِحْصَنٌ فَوَرِثَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ أَمِّ عُبَيْدٍ بِنْتِ ضَمْرَةَ، وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُوَرِّثْهَا مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: ارْجِعِي لَعَلَّ اللهَ يُنْزِلُ فِيكِ شَيْئًا فَنَزَلَتْ وَلَا تَنْكِحُوا الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ أَيْضًا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا أَيْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَقِبَ وُقُوعِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقِصَّةِ بِلَفْظٍ آخَرَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى، وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مِحْصَنٍ الْمَذْكُورِ، وَفِي الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، وَفِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَفِي مَنْظُورِ بْنِ رَيَّانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مُلَيْكَةَ بِنْتَ خَارِجَةَ.
وَالنِّكَاحُ هُوَ الزَّوَاجُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [٢: ٢٣٠] أَنَّ النِّكَاحَ لَهُ إِطْلَاقَانِ: يُطْلَقُ عَلَى عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى مَا وَرَاءَ الْعَقْدِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، أَيْ مَجْمُوعُهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَاكَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى الْوَطْءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْإِطْلَاقَيْنِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ، وَأَيِّهِمَا الْمَجَازِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَإِنَّمَا كَمَالُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الْعَقْدُ، وَمَا وَرَاءَهُ كَمَا قُلْنَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ الَّذِي تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ، وَتُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الْغَالِبِ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْوَطْءُ، وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) النِّكَاحَ هُنَا بِالْعَقْدِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا أَبُوكَ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ "، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآبَاءِ مَا يَشْمَلُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مَعْنَاهُ لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ لَا تُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا قَدْ مَاتَ مِنْهُنَّ، وَرَوَوْهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ، وَقَطْعُ عِرْقِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَسَدُّ بَابِ إِبَاحَتِهَا سَدًّا مُحْكَمًا، وَهُوَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ إِنَّ نِكَاحَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ كَانَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَأَيَّدَتْهَا الشَّرِيعَةُ
الَّتِي هَدَاهُمْ إِلَيْهَا أَمْرًا فَاحِشًا شَدِيدَ الْقُبْحِ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَقْتًا أَيْ مَمْقُوتًا مَقْتًا شَدِيدًا عِنْدَ ذَوِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ الْمَقْتِ، وَهُوَ الْبُغْضُ الشَّدِيدُ أَوْ بُغْضُ الِاحْتِقَارِ، وَالِاشْمِئْزَازِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نِكَاحَ الْمَقْتِ، وَسُمِّيَ الْوَلَدُ مِنْهُ مَقْتِيًّا، وَمَقِيتًا، أَيْ مَبْغُوضًا مُحْتَقَرًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ بِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُ ذَلِكَ النِّكَاحِ الَّذِي اعْتَادَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَبِئْسَ مَنْ يَسْلُكُهُ.
380
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا النِّكَاحَ، وَإِنْ كَانَ سَبِيلًا مَسْلُوكًا إِلَّا أَنَّهُ سَبِيلٌ سَيِّئٌ، وَلَمْ يَزِدْهُ السَّيْرُ فِيهِ إِلَّا قُبْحًا، وَمَقْتًا، وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: " مَرَاتِبُ الْقُبْحِ ثَلَاثٌ: الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ، وَالْقُبْحُ الشَّرْعِيُّ، وَالْقُبْحُ الْعَادِيُّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - هَذَا النِّكَاحَ بِكُلِّ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: فَاحِشَةً إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَقْتًا إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الشَّرْعِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَسَاءَ سَبِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الْعَادِيِّ ".
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَخِيرَ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَادِيُّ ; أَيْ إِنَّهُ عَادَةٌ، وَلَكِنَّهَا قَبِيحَةٌ وَمَا قَبْلَهُ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الطَّبْعِيُّ، أَيْ أَنَّ الطِّبَاعَ تَمْقُتُ هَذَا لِاسْتِقْبَاحِهَا إِيَّاهُ، وَالْأَوَّلُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْعِبَارَاتِ، وَفَاتَهُ هُوَ ذِكْرُ الْقُبْحِ الطَّبْعِيِّ، وَأَمَّا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِوُرُودِ الْوَحْيِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ. فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ حَرَّمَ حَلَائِلَ الْآبَاءِ، وَعَلَّلَهُ بِمَا فِيهِ الْقَبَائِحُ الثَّلَاثُ.
هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَمَا كَانَ يَنْكِحُ آبَاؤُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ كَالنِّكَاحِ بِدُونِ شُهُودٍ. وَنِكَاحِ الشِّغَارِ: وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ فِي الزَّوَاجِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا رَجُلًا آخَرَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ هَذَا مُوَلِّيَتَهُ، وَلَا مَهْرَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا تَكُونُ كَمَهْرٍ لِلْأُخْرَى.
وَعِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ الرِّوَايَاتِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ لِلْآيَةِ، وَنَقْلِ قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ - الزِّنَا - هَذَا نَصُّهَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ
نِكَاحَ آبَائِكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْكُمْ فَمَضَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً " إلخ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا قَوْلَ مَنْ ذَكَرْتَ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرْتَ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَأَنْتَ تَذْكُرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا نُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا نِكَاحَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إِذْ كَانَتْ " مَا " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِغَيْرِ بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ النَّهْيَ - عَنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ دُونَ سَائِرِ مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمْ حَرَامًا ابْتِدَاءُ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ بِنَهْيِ اللهِ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - لَقِيلَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِذْ كَانَ " مَنْ " لِبَنِي آدَمَ، وَ " مَا " لِغَيْرِهِمْ، وَلَا تَقُلْ - أَيْ حِينَئِذٍ - وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَا مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَنَاكَحُونَهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ. فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَخِيرَ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَادِيُّ ; أَيْ إِنَّهُ عَادَةٌ، وَلَكِنَّهَا قَبِيحَةٌ وَمَا قَبْلَهُ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الطَّبْعِيُّ، أَيْ أَنَّ الطِّبَاعَ تَمْقُتُ هَذَا لِاسْتِقْبَاحِهَا إِيَّاهُ، وَالْأَوَّلُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْعِبَارَاتِ، وَفَاتَهُ هُوَ ذِكْرُ الْقُبْحِ الطَّبْعِيِّ، وَأَمَّا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِوُرُودِ الْوَحْيِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ. فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ حَرَّمَ حَلَائِلَ الْآبَاءِ، وَعَلَّلَهُ بِمَا فِيهِ الْقَبَائِحُ الثَّلَاثُ.
هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَمَا كَانَ يَنْكِحُ آبَاؤُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ كَالنِّكَاحِ بِدُونِ شُهُودٍ. وَنِكَاحِ الشِّغَارِ: وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ فِي الزَّوَاجِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا رَجُلًا آخَرَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ هَذَا مُوَلِّيَتَهُ، وَلَا مَهْرَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا تَكُونُ كَمَهْرٍ لِلْأُخْرَى.
وَعِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ الرِّوَايَاتِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ لِلْآيَةِ، وَنَقْلِ قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ - الزِّنَا - هَذَا نَصُّهَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ
نِكَاحَ آبَائِكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْكُمْ فَمَضَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً " إلخ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا قَوْلَ مَنْ ذَكَرْتَ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرْتَ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَأَنْتَ تَذْكُرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا نُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا نِكَاحَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إِذْ كَانَتْ " مَا " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِغَيْرِ بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ النَّهْيَ - عَنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ دُونَ سَائِرِ مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمْ حَرَامًا ابْتِدَاءُ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ بِنَهْيِ اللهِ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - لَقِيلَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِذْ كَانَ " مَنْ " لِبَنِي آدَمَ، وَ " مَا " لِغَيْرِهِمْ، وَلَا تَقُلْ - أَيْ حِينَئِذٍ - وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَا مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَنَاكَحُونَهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ. فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
381
بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاكَحُونَهُ فِي شِرْكِهِمْ. وَمَعْنَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِلَّا مَا قَدْ مَضَى إِلَى آخِرِ مَا قَالَ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا - سُبْحَانَهُ - أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ لِعِلَّةٍ ثَابِتَةٍ مَا فِي النِّكَاحِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي صِلَةِ الْبَشَرِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، أَوْ لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ دَاخِلَةٌ فِي عِدَّةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: نِكَاحُ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَيْ حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوا أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْإِيجَازِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ حَكَمَ الْآنَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَمَنْعِهِ، فَهُوَ إِنْشَاءُ حُكْمٍ جَدِيدٍ. وَأُمَّهَاتُنَا هُنَّ اللَّوَاتِي لَهُنَّ صِفَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ أُصُولِنَا - وَلَفْظُ الْأُمِّ يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ كَأُمِّ الْكِتَابِ، وَأُمِّ الْقُرَى - فَيَدْخُلُ فِيهِنَّ الْجَدَّاتُ، وَكَذَلِكَ فَهِمَهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: نِكَاحُ الْفُرُوعِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: وَبَنَاتُكُمْ وَهُنَّ اللَّوَاتِي وُلِدْنَ لَنَا مِنْ أَصْلَابِنَا، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ مِنْ تَلْقِيحِنَا، أَوْ وُلِدْنَ لِأَوْلَادِنَا، أَوْ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِنَا، وَإِنْ سَلَفُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كُنَّا سَبَبًا فِي وِلَادَتِهِنَّ، وَأُصُولًا لَهُنَّ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وِلَادَةُ الْبِنْتِ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ؟ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَعَمْ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِنْتُهُ مِنَ
الزِّنَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهَا ابْنَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَرِثُهُ إِلَّا إِذَا اسْتَلْحَقَهَا ; لِأَنَّ الْإِرْثَ حَقٌّ تَابِعٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْفِرَاشِ، أَوْ الِاسْتِلْحَاقِ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَيْسَ وَلَدَ فِرَاشٍ فَلَا نَسَبَ لَهُ، وَلَا إِرْثَ مَا لَمْ يُسْتَلْحَقْ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ إِذَا عُرِفْتَ هُوَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزَّانِيَةِ يَلْحَقُهَا، وَيَرِثُهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُمُّهُ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَبَاحَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ مِنَ الزِّنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ اسْتِلْحَاقُ وَلَدِهِ مِنَ الزِّنَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وَلَدُهُ، بِأَنْ يَكُونَ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ بِذَاتِ فِرَاشٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُلَامِسْهَا فِيهِ رَجُلٌ قَطُّ، وَبَقِيَتْ مَحْبُوسَةً عَنِ الرِّجَالِ حَتَّى ظَهَرَ حَمْلُهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْبِنْتِ مِنَ الزِّنَا حُرْمَةُ الْبِنْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ بَلْ تَحْرِيمُ بِنْتِ الزِّنَا أَوْلَى.
هَذَا، وَإِنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُبَالُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ نُطَفَهُمْ، وَلَا أَيْنَ يَضَعُونَ نَسْلَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْنِي بِذَاتِ الْفِرَاشِ، فَيُضِيعُ وَلَدَهُ وَيُلْحِقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ مَنْ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ، فَتَكُونُ لَهُ جَمِيعُ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ عِنْدَهُ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهِيَ " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْسُقُ بِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى قَتْلِ حَمْلِهَا عِنْدَ وَضْعِهِ، أَوْ عَلَى إِلْقَائِهِ حَيْثُ يُرْجَى أَنْ يَلْتَقِطَهُ مَنْ يُرَبِّيهِ لِيَجْعَلَهُ خَادِمًا كَالرَّقِيقِ، أَوْ فِي بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي تُرَبَّى فِيهَا اللُّقَطَاءُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَلَا يُبَالِي الْفَاسِقُ أَخَرَجَ وَلَدُهُ شَقِيًّا
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا - سُبْحَانَهُ - أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ لِعِلَّةٍ ثَابِتَةٍ مَا فِي النِّكَاحِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي صِلَةِ الْبَشَرِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، أَوْ لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ دَاخِلَةٌ فِي عِدَّةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: نِكَاحُ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَيْ حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوا أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْإِيجَازِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ حَكَمَ الْآنَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَمَنْعِهِ، فَهُوَ إِنْشَاءُ حُكْمٍ جَدِيدٍ. وَأُمَّهَاتُنَا هُنَّ اللَّوَاتِي لَهُنَّ صِفَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ أُصُولِنَا - وَلَفْظُ الْأُمِّ يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ كَأُمِّ الْكِتَابِ، وَأُمِّ الْقُرَى - فَيَدْخُلُ فِيهِنَّ الْجَدَّاتُ، وَكَذَلِكَ فَهِمَهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: نِكَاحُ الْفُرُوعِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: وَبَنَاتُكُمْ وَهُنَّ اللَّوَاتِي وُلِدْنَ لَنَا مِنْ أَصْلَابِنَا، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ مِنْ تَلْقِيحِنَا، أَوْ وُلِدْنَ لِأَوْلَادِنَا، أَوْ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِنَا، وَإِنْ سَلَفُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كُنَّا سَبَبًا فِي وِلَادَتِهِنَّ، وَأُصُولًا لَهُنَّ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وِلَادَةُ الْبِنْتِ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ؟ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَعَمْ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِنْتُهُ مِنَ
الزِّنَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهَا ابْنَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَرِثُهُ إِلَّا إِذَا اسْتَلْحَقَهَا ; لِأَنَّ الْإِرْثَ حَقٌّ تَابِعٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْفِرَاشِ، أَوْ الِاسْتِلْحَاقِ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَيْسَ وَلَدَ فِرَاشٍ فَلَا نَسَبَ لَهُ، وَلَا إِرْثَ مَا لَمْ يُسْتَلْحَقْ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ إِذَا عُرِفْتَ هُوَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزَّانِيَةِ يَلْحَقُهَا، وَيَرِثُهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُمُّهُ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَبَاحَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ مِنَ الزِّنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ اسْتِلْحَاقُ وَلَدِهِ مِنَ الزِّنَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وَلَدُهُ، بِأَنْ يَكُونَ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ بِذَاتِ فِرَاشٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُلَامِسْهَا فِيهِ رَجُلٌ قَطُّ، وَبَقِيَتْ مَحْبُوسَةً عَنِ الرِّجَالِ حَتَّى ظَهَرَ حَمْلُهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْبِنْتِ مِنَ الزِّنَا حُرْمَةُ الْبِنْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ بَلْ تَحْرِيمُ بِنْتِ الزِّنَا أَوْلَى.
هَذَا، وَإِنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُبَالُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ نُطَفَهُمْ، وَلَا أَيْنَ يَضَعُونَ نَسْلَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْنِي بِذَاتِ الْفِرَاشِ، فَيُضِيعُ وَلَدَهُ وَيُلْحِقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ مَنْ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ، فَتَكُونُ لَهُ جَمِيعُ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ عِنْدَهُ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهِيَ " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْسُقُ بِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى قَتْلِ حَمْلِهَا عِنْدَ وَضْعِهِ، أَوْ عَلَى إِلْقَائِهِ حَيْثُ يُرْجَى أَنْ يَلْتَقِطَهُ مَنْ يُرَبِّيهِ لِيَجْعَلَهُ خَادِمًا كَالرَّقِيقِ، أَوْ فِي بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي تُرَبَّى فِيهَا اللُّقَطَاءُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَلَا يُبَالِي الْفَاسِقُ أَخَرَجَ وَلَدُهُ شَقِيًّا
382
أَمْ سَعِيدًا، مُؤْمِنًا، أَمْ كَافِرًا! ! فَلَعَنَ اللهُ الزُّنَاةَ، مَا أَعْظَمَ شَرَّهُمْ فِي جَمَاعَةِ الْبَشَرِ، وَلَعَنَ اللهُ الزَّوَانِيَ مَا أَكْثَرَ شَرَّهُنَّ وَأَعْظَمَ بُهْتَانَهُنَّ، فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ لَتَحْمِلُ مَا لَا يَحْمِلُهُ مَنْ يَفْجُرُ بِهَا مِنَ الْعَنَاءِ وَالشَّقَاءِ وَتَوْبِيخِ الضَّمِيرِ، فَهُوَ يَسْفَحُ مَاءً لَا يَدْرِي مَا يَكُونُ وَرَاءَهُ، وَهِيَ الَّتِي تَعَلَّقُ بِهَا الْمُصِيبَةُ فَتُعَانِي مِنْ أَثْقَالِ حَمْلِهَا مَا تُعَانِي، ثُمَّ تُلْقِي حَمْلَهَا عَلَى فِرَاشِ زَوْجِهَا وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْسَى طُولَ الْحَيَاةِ أَنَّهَا أَلْقَتْ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا بُهْتَانًا افْتَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَتْهُ مِنْ حُقُوقِ عَشِيرَتِهِ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ تُلْقِيهِ إِلَى يَدِ غَيْرِهَا، وَقَلْبُهَا مُعَلَّقٌ بِهِ قَلِقٌ عَلَيْهِ لَا يَسْكُنُ لَهُ اضْطِرَابٌ إِلَّا أَنْ يَسْلُبَهَا الْفِسْقُ أَفْضَلَ عَاطِفَةٍ، وَشُعُورٍ تَتَحَلَّى بِهِمَا الْمَرْأَةُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَسْتَعْمِلُ الْأَدْوِيَةَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْحَمْلِ، فَتَضُرُّ نَفْسَهَا وَرُبَّمَا أَفْسَدَتْ رَحِمَهَا.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْحَوَاشِي الْقَرِيبَةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَأَخَوَاتُكُمْ سَوَاءٌ كُنَّ شَقِيقَاتٍ لَكُمْ، أَوْ كُنَّ مِنَ الْأُمِّ وَحْدَهَا، أَوِ الْأَبِ وَحْدَهُ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَوْلَادُ الْأَجْدَادِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَأَوْلَادُ الْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَعَمَّةُ جَدِّهِ، وَخَالَتُهُ، وَعَمَّةُ جَدَّتِهِ، وَخَالَاتُهَا لِلْأَبَوَيْنِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، إِذِ الْمُرَادُ بِالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ الْإِنَاثُ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْخُئُولَةِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْوَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَيْ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ التَّالِيَةِ:
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا حَرُمَ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعَةِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ كَالنَّسَبِ بَيَّنَهَا - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَسَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا لِلرَّضِيعِ، وَبِنْتَهَا أُخْتًا لَهُ، فَأَعْلَمَنَا بِذَلِكَ أَنَّ جِهَةَ الرَّضَاعَةِ كَجِهَةِ النَّسَبِ تَأْتِي فِيهَا الْأَنْوَاعُ الَّتِي جَاءَتْ فِي النَّسَبِ كُلُّهَا، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَمَّا أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ عَمِّهِ حَمْزَةَ، أَيْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَيَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ وَفِي صَحِيحِهِمَا أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: ائْذَنِي لِأَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ فَإِنَّهُ عَمُّكِ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ. وَعَلَى هَذَا جَرَى جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، فَجَعَلُوا زَوْجَ الْمُرْضِعَةِ أَبًا لِلرَّضِيعِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهُ، وَفُرُوعُهُ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ ; لِأَنَّهُ صَاحِبُ اللَّقَاحِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ اللَّبَنِ الَّذِي تَغَذَّى مِنْهُ أَيِ الرَّضِيعُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَتَانِ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْحَوَاشِي الْقَرِيبَةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَأَخَوَاتُكُمْ سَوَاءٌ كُنَّ شَقِيقَاتٍ لَكُمْ، أَوْ كُنَّ مِنَ الْأُمِّ وَحْدَهَا، أَوِ الْأَبِ وَحْدَهُ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَوْلَادُ الْأَجْدَادِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَأَوْلَادُ الْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَعَمَّةُ جَدِّهِ، وَخَالَتُهُ، وَعَمَّةُ جَدَّتِهِ، وَخَالَاتُهَا لِلْأَبَوَيْنِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، إِذِ الْمُرَادُ بِالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ الْإِنَاثُ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْخُئُولَةِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْوَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَيْ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ التَّالِيَةِ:
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا حَرُمَ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعَةِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ كَالنَّسَبِ بَيَّنَهَا - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَسَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا لِلرَّضِيعِ، وَبِنْتَهَا أُخْتًا لَهُ، فَأَعْلَمَنَا بِذَلِكَ أَنَّ جِهَةَ الرَّضَاعَةِ كَجِهَةِ النَّسَبِ تَأْتِي فِيهَا الْأَنْوَاعُ الَّتِي جَاءَتْ فِي النَّسَبِ كُلُّهَا، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَمَّا أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ عَمِّهِ حَمْزَةَ، أَيْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَيَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ وَفِي صَحِيحِهِمَا أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: ائْذَنِي لِأَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ فَإِنَّهُ عَمُّكِ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ. وَعَلَى هَذَا جَرَى جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، فَجَعَلُوا زَوْجَ الْمُرْضِعَةِ أَبًا لِلرَّضِيعِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهُ، وَفُرُوعُهُ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ ; لِأَنَّهُ صَاحِبُ اللَّقَاحِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ اللَّبَنِ الَّذِي تَغَذَّى مِنْهُ أَيِ الرَّضِيعُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَتَانِ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا
383
جَارِيَةً (أَيْ بِنْتًا)، وَالْأُخْرَى غُلَامًا، أَيَحِلُّ لِلْغُلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ؟ " قَالَ: لَا! اللَّقَاحُ وَاحِدٌ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَلَوْلَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمَا فَهِمْنَا مِنَ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ خَاصٌّ بِالْمُرْضِعَةِ، وَيَنْتَشِرُ فِي أُصُولِهَا، وَفُرُوعِهَا لِتَسْمِيَتِهَا أُمًّا، وَتَسْمِيَةِ بِنْتِهَا أُخْتًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا أَبًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ تَحْرُمَ جَمِيعُ فُرُوعِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّضِيعِ، كَمَا أَنَّ تَسْمِيَةَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأُمَّهَاتِ فَالتَّسْمِيَةُ يُرَاعَى فِيهَا الِاعْتِبَارُ
الَّذِي وُضِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَمَنْ رَضَعَ مِنِ امْرَأَةٍ كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ جُزْءًا مِنْهُ ; لِأَنَّهُ تَكَوَّنَ مِنْ لَبَنِهَا فَصَارَتْ فِي هَذَا كَأُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ، وَصَارَ أَوْلَادُهَا إِخْوَةً لَهُ ; لِأَنَّ لِتَكْوِينِ أَبْدَانِهِمْ أَصْلًا وَاحِدًا هُوَ ذَلِكَ اللَّبَنُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَظْهَرُ فِي أَوْلَادِ زَوْجِهَا مِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى إِلَّا مِنْ بَعْدُ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ بِلَقَاحِهِ سَبَبًا لِتَكَوُّنِ اللَّبَنِ فِي الْمَرْأَتَيْنِ قَدْ صَارَ أَصْلًا لِأَوْلَادِهِمَا، إِذْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْ لَقَاحِهِ تَنَاوَلَهُ مَعَ اللَّبَنِ فَاشْتَرَكَا فِي سَبَبِ اللَّبَنِ، أَوْ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي تَكَوَّنَ بَعْضُ بَدَنِهِمَا مِنْهُ فَكَانَا أَخَوَيْنِ لَا يَحِلُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا، وَالْآخَرُ أُنْثَى ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا فِيمَا سَبَقَ: إِنَّ حُرْمَةَ الرَّضَاعَةِ تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ بِنْتِ الزِّنَا عَلَى وَالِدِهَا بِالْأَوْلَى.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ مِنْ جِهَةِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ دُونَهَا. فَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَعَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. قَالَتْ زَيْنَبُ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقَرْنٍ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي وَيَقُولُ: أَقْبِلِي عَلَيَّ فَحَدِّثِينِي، أَرَى أَنَّهُ أَبِي، وَمَا وُلِدَ مِنْهُ فَهُمْ إِخْوَتِي، إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَيَّ يَخْطُبُ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتِي عَلَى حَمْزَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ حَمْزَةُ لِلْكَلْبِيَّةِ، فَقُلْتُ لِرَسُولِهِ: وَهَلْ تَحِلُّ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أُخْتِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِهَذَا الْمَنْعَ مِنْ قِبَلِكِ، أَمَّا مَا وَلَدَتْ أَسْمَاءُ فَهُمْ إِخْوَتُكِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسُوا لَكِ بِإِخْوَةٍ، فَأَرْسِلِي فَاسْأَلِي عَنْ هَذَا، فَأَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ - وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ - فَقَالُوا لَهَا: إِنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا. فَأَنْكَحَتْهَا إِيَّاهُ فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ عَنْهَا، " قَالُوا: وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِهَذَا - أَيْ بِأَنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ - عَنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، فَالْمَسْأَلَةُ لَمْ تَكُنْ إِجْمَاعِيَّةً. وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ قَوْلَ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ وُصُولِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَيْهِمْ فِيهِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ لِقِيَامِ مَا يُعَارِضُ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَهُمْ، وَيُقَالُ عَلَى الْأَوَّلِ: إِنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَعَلَى
الثَّانِي إِنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُمْ عَارَضَتْهُ عِنْدَنَا النُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ، وَمَتَى ثَبَتَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ امْتَنَعَ الْعُدُولُ عَنْهَا
الَّذِي وُضِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَمَنْ رَضَعَ مِنِ امْرَأَةٍ كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ جُزْءًا مِنْهُ ; لِأَنَّهُ تَكَوَّنَ مِنْ لَبَنِهَا فَصَارَتْ فِي هَذَا كَأُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ، وَصَارَ أَوْلَادُهَا إِخْوَةً لَهُ ; لِأَنَّ لِتَكْوِينِ أَبْدَانِهِمْ أَصْلًا وَاحِدًا هُوَ ذَلِكَ اللَّبَنُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَظْهَرُ فِي أَوْلَادِ زَوْجِهَا مِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى إِلَّا مِنْ بَعْدُ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ بِلَقَاحِهِ سَبَبًا لِتَكَوُّنِ اللَّبَنِ فِي الْمَرْأَتَيْنِ قَدْ صَارَ أَصْلًا لِأَوْلَادِهِمَا، إِذْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْ لَقَاحِهِ تَنَاوَلَهُ مَعَ اللَّبَنِ فَاشْتَرَكَا فِي سَبَبِ اللَّبَنِ، أَوْ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي تَكَوَّنَ بَعْضُ بَدَنِهِمَا مِنْهُ فَكَانَا أَخَوَيْنِ لَا يَحِلُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا، وَالْآخَرُ أُنْثَى ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا فِيمَا سَبَقَ: إِنَّ حُرْمَةَ الرَّضَاعَةِ تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ بِنْتِ الزِّنَا عَلَى وَالِدِهَا بِالْأَوْلَى.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ مِنْ جِهَةِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ دُونَهَا. فَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَعَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. قَالَتْ زَيْنَبُ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقَرْنٍ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي وَيَقُولُ: أَقْبِلِي عَلَيَّ فَحَدِّثِينِي، أَرَى أَنَّهُ أَبِي، وَمَا وُلِدَ مِنْهُ فَهُمْ إِخْوَتِي، إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَيَّ يَخْطُبُ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتِي عَلَى حَمْزَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ حَمْزَةُ لِلْكَلْبِيَّةِ، فَقُلْتُ لِرَسُولِهِ: وَهَلْ تَحِلُّ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أُخْتِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِهَذَا الْمَنْعَ مِنْ قِبَلِكِ، أَمَّا مَا وَلَدَتْ أَسْمَاءُ فَهُمْ إِخْوَتُكِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسُوا لَكِ بِإِخْوَةٍ، فَأَرْسِلِي فَاسْأَلِي عَنْ هَذَا، فَأَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ - وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ - فَقَالُوا لَهَا: إِنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا. فَأَنْكَحَتْهَا إِيَّاهُ فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ عَنْهَا، " قَالُوا: وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِهَذَا - أَيْ بِأَنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ - عَنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، فَالْمَسْأَلَةُ لَمْ تَكُنْ إِجْمَاعِيَّةً. وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ قَوْلَ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ وُصُولِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَيْهِمْ فِيهِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ لِقِيَامِ مَا يُعَارِضُ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَهُمْ، وَيُقَالُ عَلَى الْأَوَّلِ: إِنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَعَلَى
الثَّانِي إِنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُمْ عَارَضَتْهُ عِنْدَنَا النُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ، وَمَتَى ثَبَتَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ امْتَنَعَ الْعُدُولُ عَنْهَا
384
لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَارَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَصْحَابُنَا لَا يَرَوْنَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ بَأْسًا حَتَّى أَتَاهُمُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ بِخَبَرِ أَبِي الْقُعَيْسِ، أَيْ فَأَخَذُوا بِهِ وَرَجَعُوا عَنْ رَأْيِهِمُ الْأَوَّلِ.
فَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ هُوَ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ أَمٌّ لِمَنْ رَضَعَ مِنْهَا، وَجَمِيعَ أَوْلَادِهَا إِخْوَةٌ لَهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ آبَاؤُهُمْ، وَأُصُولَهَا أُصُولٌ لَهُ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا كَمَا تَحْرُمُ بِنْتُهَا وَإِخْوَتُهَا خُئُولَةٌ لَهُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهَا. وَأَنَّ زَوْجَ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ أَبٌ لِلرَّضِيعِ أُصُولُهُ أُصُولٌ لَهُ، وَفُرُوعُهُ فُرُوعٌ لَهُ، وَإِخْوَتُهُ عُمُومَةٌ لَهُ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّةَ بِنْتٍ مِنْ بَنَاتِهِ سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ مُرْضِعَتِهِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ أَوْلَادَهُ مِنَ الْمُرْضِعَةِ إِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ لِلرَّضِيعِ، وَمِنْ غَيْرِهَا إِخْوَةٌ لِأَبٍ كَمَا أَنَّ أَوْلَادَهَا هِيَ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِ لَقَاحِ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ الرَّضِيعُ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ، أَوِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَمَّاتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُنَّ إِخْوَةُ أَبِيهِ بِالرَّضَاعَةِ، فَالسَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ - وَقَدْ ذُكِرْنَ بِالتَّفْصِيلِ - مُحَرَّمَاتٍ بِالرَّضَاعَةِ أَيْضًا. وَأَمَّا إِخْوَةُ الرَّضِيعِ، وَأَخَوَاتُهُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَعُوا مِثْلَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي تَكْوِينِ بِنْيَتِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَادَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي بِنْيَتِهِ فَيُبَاحُ لِلْأَخِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ أَرْضَعَتْ أَخَاهُ، أَوْ أُمَّهَا، أَوْ بِنْتَهَا، وَيُبَاحُ لِلْأُخْتِ أَنْ تَتَزَوَّجَ صَاحِبَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ أَخُوهَا، أَوْ أُخْتُهَا، أَوْ أَبَاهُ، أَوِ ابْنَهُ مَثَلًا.
وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّسَاهُلُ فِي أَمْرِ الرَّضَاعَةِ فَيُرْضِعُونَ الْوَلَدَ مِنَ امْرَأَةٍ، أَوْ مِنْ عِدَّةِ نِسْوَةٍ، وَلَا يَعْنُونَ بِمَعْرِفَةِ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ وَإِخْوَتِهَا، وَلَا أَوْلَادِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا وَإِخْوَتِهِ لِيَعْرِفُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَحُقُوقِ هَذِهِ الْقَرَابَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ، فَكَثِيرًا مَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ أُخْتَهُ، أَوْ عَمَّتَهُ، أَوْ خَالَتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِمَا يُسَمَّى إِرْضَاعًا فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُحَرِّمُ
الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ - وَالْإِمْلَاجَةُ: الْمَرَّةُ مِنْ أَمْلَجَتْهُ ثَدْيَهَا إِذَا جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ أَيْ يَمُصُّهُ - وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ " وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنَ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعَةِ كَكَثِيرِهَا، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ
فَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ هُوَ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ أَمٌّ لِمَنْ رَضَعَ مِنْهَا، وَجَمِيعَ أَوْلَادِهَا إِخْوَةٌ لَهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ آبَاؤُهُمْ، وَأُصُولَهَا أُصُولٌ لَهُ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا كَمَا تَحْرُمُ بِنْتُهَا وَإِخْوَتُهَا خُئُولَةٌ لَهُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهَا. وَأَنَّ زَوْجَ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ أَبٌ لِلرَّضِيعِ أُصُولُهُ أُصُولٌ لَهُ، وَفُرُوعُهُ فُرُوعٌ لَهُ، وَإِخْوَتُهُ عُمُومَةٌ لَهُ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّةَ بِنْتٍ مِنْ بَنَاتِهِ سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ مُرْضِعَتِهِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ أَوْلَادَهُ مِنَ الْمُرْضِعَةِ إِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ لِلرَّضِيعِ، وَمِنْ غَيْرِهَا إِخْوَةٌ لِأَبٍ كَمَا أَنَّ أَوْلَادَهَا هِيَ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِ لَقَاحِ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ الرَّضِيعُ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ، أَوِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَمَّاتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُنَّ إِخْوَةُ أَبِيهِ بِالرَّضَاعَةِ، فَالسَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ - وَقَدْ ذُكِرْنَ بِالتَّفْصِيلِ - مُحَرَّمَاتٍ بِالرَّضَاعَةِ أَيْضًا. وَأَمَّا إِخْوَةُ الرَّضِيعِ، وَأَخَوَاتُهُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَعُوا مِثْلَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي تَكْوِينِ بِنْيَتِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَادَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي بِنْيَتِهِ فَيُبَاحُ لِلْأَخِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ أَرْضَعَتْ أَخَاهُ، أَوْ أُمَّهَا، أَوْ بِنْتَهَا، وَيُبَاحُ لِلْأُخْتِ أَنْ تَتَزَوَّجَ صَاحِبَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ أَخُوهَا، أَوْ أُخْتُهَا، أَوْ أَبَاهُ، أَوِ ابْنَهُ مَثَلًا.
وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّسَاهُلُ فِي أَمْرِ الرَّضَاعَةِ فَيُرْضِعُونَ الْوَلَدَ مِنَ امْرَأَةٍ، أَوْ مِنْ عِدَّةِ نِسْوَةٍ، وَلَا يَعْنُونَ بِمَعْرِفَةِ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ وَإِخْوَتِهَا، وَلَا أَوْلَادِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا وَإِخْوَتِهِ لِيَعْرِفُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَحُقُوقِ هَذِهِ الْقَرَابَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ، فَكَثِيرًا مَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ أُخْتَهُ، أَوْ عَمَّتَهُ، أَوْ خَالَتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِمَا يُسَمَّى إِرْضَاعًا فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُحَرِّمُ
الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ - وَالْإِمْلَاجَةُ: الْمَرَّةُ مِنْ أَمْلَجَتْهُ ثَدْيَهَا إِذَا جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ أَيْ يَمُصُّهُ - وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ " وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنَ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعَةِ كَكَثِيرِهَا، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ
385
إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَهُوَ إِحْدَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَابْنِ حَزْمٍ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ إِلَى قَوْلٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ فَأَكْثَرَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ فَانْحَصَرَ التَّحْرِيمُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِمَا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُنَالِكَ مَذْهَبٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ، وَيُرْوَى عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَمَذْهَبٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ عَائِشَةَ.
وَرِوَايَةُ الْخَمْسِ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَلَيْهَا الْعَمَلُ عِنْدَهَا، وَبِهَا يَقُولُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فِيهِ إِلَى الْقَوْلِ بِنَسْخِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَهِيَ تَتَّفِقُ مَعَ حَدِيثِ مَنْعِ تَحْرِيمِ الْمَصَّتَيْنِ وَالْإِمْلَاجَتَيْنِ، وَيُعَدُّ تَقْيِيدًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا قَالُوا: وَتَقْيِيدُ بَيَانٍ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ.
قَالَ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْإِطْلَاقِ أَوْ إِلَى التَّحْرِيمِ بِالثَّلَاثِ فَمَا فَوْقَهَا: إِنَّ عَائِشَةَ نَقَلَتْ رِوَايَةَ الْخَمْسِ نَقْلَ قُرْآنٍ لَا نَقْلَ حَدِيثٍ فَهِيَ لَمْ تُثْبِتْ قُرْآنًا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَمْ تُثْبِتْ سُنَّةً فَنَجْعَلُهَا بَيَانًا لِلْقُرْآنِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِنَسْخِهَا لِئَلَّا يَلْزَمَ ضَيَاعُ
شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُنْسَخَ الْمَدْلُولُ بِنَسْخِ الدَّالِّ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَعَمَلُ عَائِشَةَ بِهِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى إِثْبَاتِهِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهَا أَنَّهَا لَا تَقُولُ بِنَسْخِ تِلَاوَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَيَزْدَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قُرْآنًا يُتْلَى لَمَا بَقِيَ عِلْمُهُ خَاصًّا بِعَائِشَةَ، بَلْ كَانَتِ الرِّوَايَاتُ تَكْثُرُ فِيهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ جَمَاهِيرُ النَّاسِ، وَيَحْكُمُ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَلِ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَابِعِ الْخُلَفَاءِ وَأَوَّلِ الْأَئِمَّةِ الْأَصْفِيَاءِ الْقَوْلُ بِالْإِطْلَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ قَالَ بِالْخَمْسِ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهَا، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ بِذَلِكَ اتِّبَاعٌ لَهَا ; لِأَنَّهَا خَالَتُهُ، وَمُعَلِّمَتُهُ، وَاتِّبَاعُهُ لَهَا لَا يَزِيدُ قَوْلَهَا قُوَّةً وَلَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً. ثُمَّ إِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهَا فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ، فَاللَّفْظُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ رَوَاهُ عَنْهَا مُسْلِمٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نَزَلَ أَيْضًا خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنَسَخَ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ إِلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ "
وَرِوَايَةُ الْخَمْسِ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَلَيْهَا الْعَمَلُ عِنْدَهَا، وَبِهَا يَقُولُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فِيهِ إِلَى الْقَوْلِ بِنَسْخِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَهِيَ تَتَّفِقُ مَعَ حَدِيثِ مَنْعِ تَحْرِيمِ الْمَصَّتَيْنِ وَالْإِمْلَاجَتَيْنِ، وَيُعَدُّ تَقْيِيدًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا قَالُوا: وَتَقْيِيدُ بَيَانٍ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ.
قَالَ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْإِطْلَاقِ أَوْ إِلَى التَّحْرِيمِ بِالثَّلَاثِ فَمَا فَوْقَهَا: إِنَّ عَائِشَةَ نَقَلَتْ رِوَايَةَ الْخَمْسِ نَقْلَ قُرْآنٍ لَا نَقْلَ حَدِيثٍ فَهِيَ لَمْ تُثْبِتْ قُرْآنًا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَمْ تُثْبِتْ سُنَّةً فَنَجْعَلُهَا بَيَانًا لِلْقُرْآنِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِنَسْخِهَا لِئَلَّا يَلْزَمَ ضَيَاعُ
شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُنْسَخَ الْمَدْلُولُ بِنَسْخِ الدَّالِّ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَعَمَلُ عَائِشَةَ بِهِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى إِثْبَاتِهِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهَا أَنَّهَا لَا تَقُولُ بِنَسْخِ تِلَاوَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَيَزْدَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قُرْآنًا يُتْلَى لَمَا بَقِيَ عِلْمُهُ خَاصًّا بِعَائِشَةَ، بَلْ كَانَتِ الرِّوَايَاتُ تَكْثُرُ فِيهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ جَمَاهِيرُ النَّاسِ، وَيَحْكُمُ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَلِ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَابِعِ الْخُلَفَاءِ وَأَوَّلِ الْأَئِمَّةِ الْأَصْفِيَاءِ الْقَوْلُ بِالْإِطْلَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ قَالَ بِالْخَمْسِ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهَا، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ بِذَلِكَ اتِّبَاعٌ لَهَا ; لِأَنَّهَا خَالَتُهُ، وَمُعَلِّمَتُهُ، وَاتِّبَاعُهُ لَهَا لَا يَزِيدُ قَوْلَهَا قُوَّةً وَلَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً. ثُمَّ إِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهَا فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ، فَاللَّفْظُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ رَوَاهُ عَنْهَا مُسْلِمٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نَزَلَ أَيْضًا خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنَسَخَ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ إِلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ "
386
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ " كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ سَقَطَ: لَا يُحَرِّمُ إِلَّا عَشْرُ رَضَعَاتٍ أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " فَهِيَ لَمْ تُبَيِّنْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَفْظَ الْقُرْآنِ، وَلَا السُّورَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ ذَلِكَ لَفْظُ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ " ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ، وَالْعَمَلَ كَانَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الْقَائِلَةَ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَآيَةُ الْخَمْسِ الرَّضَعَاتِ مِمَّا يُتْلَى مِنَ الْقُرْآنِ "، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ التِّلَاوَةُ، وَلَكِنَّهُ يَتْبَعُهُ الْحُكْمُ، وَالْعَمَلُ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ الْعَشْرَ، وَالْخَمْسَ ذُكِرَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَوَصَفَ الْخَمْسَ بِالْمَعْلُومَاتِ قَالَ: ثُمَّ سَقَطَ أَيْ نُسِخَ فَبَطَلَ حُكْمُ الْخَمْسِ بِذَلِكَ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهَا، وَهُوَ الْعَمَلُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْسِ. وَلَهَا فِيهِ حَدِيثُ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَفِيهِ أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ، وَأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَتِهَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَسَتَأْتِي، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ سَلَفًا وَخَلَفًا، فَلَا يَعْمَلُ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْخَمْسِ كَالشَّافِعِيَّةِ. وَوَصْفُ الْخَمْسِ
بِالْمَعْلُومَاتِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ دُونَ الْعَشْرِ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ سَالِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَصْفِ الْعَشْرِ بِهَا أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَشْرِ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَغْوًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ وَصْفٍ لِلْعَشْرِ يَتَّفِقُ مَعَ السِّيَاقِ وَيَرْتَضِيهِ الْأُسْلُوبُ. فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ مُضْطَرِبَةٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَقَاءِ التِّلَاوَةِ، وَبَعْضُهَا عَلَى نَسْخِهَا، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ وَالْخَمْسِ نَزَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ نَزَلَ أَوَّلًا ثُمَّ تَرَاخَى الْأَمْرُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ حُكْمُ الْخَمْسِ نَاسِخًا لِمَا زَادَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا رَجَّحْنَا هَذَا الْأَخِيرَ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالثَّلَاثَةُ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ مَقَامُهُ اللَّائِقُ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ سِيَاقٌ آخَرُ يُنَاسِبُ أَنْ تُوضَعَ فِيهِ تِلْكَ الْعِبَارَةُ ثُمَّ تُحْذَفَ مِنْهُ، فَالْأَقْرَبُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ إِذًا أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْآيَةِ (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ)، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ عَمِلَ فِيهَا النَّاسُ بِقَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى عَشْرٍ - اسْتِبْدَالُ لَفْظِ " خَمْسٍ " بِلَفْظِ " عَشْرٍ "، وَبَقِيَ النَّاسُ يَقْرَءُونَهَا هَكَذَا إِلَى مَا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا سَأَلَ سَائِلٌ لِمَاذَا لَمْ تَثْبُتْ حِينَئِذٍ فِي الْقُرْآنِ؟ أَجَابَهُ الْجَامِدُونَ عَلَى الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصٍ لِمَعَانِيهَا بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهَا لِأَنَّ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُوُفِّيَ وَهُمْ يَتْلُونَهَا لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ!.
وَلَا يُبَالِي أَصْحَابُ هَذَا الْجَوَابِ بِمُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [١٥: ٩] ثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ
بِالْمَعْلُومَاتِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ دُونَ الْعَشْرِ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ سَالِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَصْفِ الْعَشْرِ بِهَا أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَشْرِ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَغْوًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ وَصْفٍ لِلْعَشْرِ يَتَّفِقُ مَعَ السِّيَاقِ وَيَرْتَضِيهِ الْأُسْلُوبُ. فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ مُضْطَرِبَةٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَقَاءِ التِّلَاوَةِ، وَبَعْضُهَا عَلَى نَسْخِهَا، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ وَالْخَمْسِ نَزَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ نَزَلَ أَوَّلًا ثُمَّ تَرَاخَى الْأَمْرُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ حُكْمُ الْخَمْسِ نَاسِخًا لِمَا زَادَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا رَجَّحْنَا هَذَا الْأَخِيرَ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالثَّلَاثَةُ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ مَقَامُهُ اللَّائِقُ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ سِيَاقٌ آخَرُ يُنَاسِبُ أَنْ تُوضَعَ فِيهِ تِلْكَ الْعِبَارَةُ ثُمَّ تُحْذَفَ مِنْهُ، فَالْأَقْرَبُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ إِذًا أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْآيَةِ (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ)، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ عَمِلَ فِيهَا النَّاسُ بِقَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى عَشْرٍ - اسْتِبْدَالُ لَفْظِ " خَمْسٍ " بِلَفْظِ " عَشْرٍ "، وَبَقِيَ النَّاسُ يَقْرَءُونَهَا هَكَذَا إِلَى مَا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا سَأَلَ سَائِلٌ لِمَاذَا لَمْ تَثْبُتْ حِينَئِذٍ فِي الْقُرْآنِ؟ أَجَابَهُ الْجَامِدُونَ عَلَى الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصٍ لِمَعَانِيهَا بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهَا لِأَنَّ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُوُفِّيَ وَهُمْ يَتْلُونَهَا لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ!.
وَلَا يُبَالِي أَصْحَابُ هَذَا الْجَوَابِ بِمُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [١٥: ٩] ثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ
387
لَمْ يُثْبِتُوهَا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا نُسِخَتْ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ: إِنَّهَا كَانَتْ تُقْرَأُ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّسْخُ. وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ وَأَبْعَدُ عَنْ مَثَارِ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ بِرِوَايَةٍ آحَادِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْمُتَبَادِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ. وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: إِذَا صَحَّ هَذَا: فَمَا هِيَ حِكْمَةُ نَسْخِ الْعَشْرِ بِالْخَمْسِ عِنْدَ عَائِشَةَ، وَمَنْ عَمِلَ بِرِوَايَتِهَا، وَنَسْخِ الْخَمْسِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ قَبِلَ رِوَايَتَهَا وَادَّعَى أَنَّ الْخَمْسَ نُسِخَتْ أَيْضًا بِنَسْخِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ؟ لَعَلَّ أَظْهَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِهِ عَنْ هَذَا هُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا هِيَ التَّدْرِيجُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ كَمَا وَقَعَ فِي
تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، بَلْ لَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ شَيْءٌ آخَرُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولُوهُ، وَإِذَا أَنْصَفُوا رَأَوُا الْفَرْقَ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الرَّضَاعِ وَاسِعًا جِدًّا، فَإِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يُؤَثِّرُ فِي الْعَصَبِ تَأْثِيرًا يُغْرِي الشَّارِبَ بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ حَتَّى يَشُقَّ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فَجْأَةً، وَلَا كَذَلِكَ تَرْكُ نِكَاحِ الْمُرْضِعَةِ أَوْ بِنْتِهَا مَثَلًا، ثُمَّ إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ - وَهِيَ كَوْنُ بَعْضِ بِنْيَةِ الرَّضِيعِ مُكَوَّنَةً مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَهُ - تَتَحَقَّقُ بِالرَّضْعَةِ، أَوِ الثَّلَاثِ، أَوِ الْخَمْسِ فَكَيْفَ يَجْعَلُهَا الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَشْرًا، ثُمَّ خَمْسًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهَا، وَيَدَّعِي نَسْخَهَا؟ وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ يُقَالُ: مَنِ اسْتَفَادَ مِنْ هَذَا التَّدْرِيجِ فَتَزَوَّجَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا، أَوْ بِنْتَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا تِسْعًا، أَوْ ثَمَانِيَ أَوْ سَبْعًا أَوْ سِتًّا؟ ثُمَّ مَاذَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ نَسْخِ الْعَشْرِ؟ هَلْ فَارَقُوا أَزْوَاجَهُمْ، أَمْ عُفِيَ عَنْهُمْ، وَجُعِلَ التَّحْرِيمُ بِمَا دُونَ الْعَشْرِ خَاصًّا بِغَيْرِهِمْ؟
الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِهَذَا النَّسْخِ حِكْمَةٌ، وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْعِلَّةِ، وَإِنَّ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ عَائِشَةَ لَأَهْوَنُ مِنْ قَبُولِهَا مَعَ عَدَمِ عَمَلِ جُمْهُورٍ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ بِهَا كَمَا عَلِمْتَ، فَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ رِوَايَتَهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمِثْلِ الْبُخَارِيِّ، وَبِمَنْ قَالُوا بِاضْطِرَابِهَا خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ مَعْنَاهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَوَ لَيْسَ رَدُّ عَمْرَةَ، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِهَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِنُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَلَا فَائِدَةٌ، تَمَّ نَسْخُهُ، أَوْ سُقُوطُهُ، أَوْ ضَيَاعُهُ، فَإِنَّ عَمْرَةَ زَعَمَتْ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَرَى أَنَّ الْخَمْسَ لَمْ تُنْسَخْ، وَإِذًا لَا نَعْتَدُّ بِرِوَايَتِهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْمُخْتَارُ التَّحْرِيمُ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ إِلَّا الْمَصَّةَ وَالْمَصَّتَيْنِ إِذْ لَا تُسَمَّى رَضْعَةً فِي الْغِذَاءِ، وَبِمَعْنَاهَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَلْجِ الْوَلِيدِ الثَّدْيَ إِذَا مَصَّهُ وَأَمْلَجَتْهُ إِيَّاهُ جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ، فَإِنْ رَضَعَ رَضْعَةً تَامَّةً ثَبَتَتْ بِهَا الْحُرْمَةُ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
وَفِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ لِلنِّكَاحِ بَحْثٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِسِنِّ الرَّضِيعِ، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي سِنِّهِ، وَمُدَّتِهِ الْمَحْدُودَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [٢: ٢٣٣] وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، بَلْ لَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ شَيْءٌ آخَرُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولُوهُ، وَإِذَا أَنْصَفُوا رَأَوُا الْفَرْقَ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الرَّضَاعِ وَاسِعًا جِدًّا، فَإِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يُؤَثِّرُ فِي الْعَصَبِ تَأْثِيرًا يُغْرِي الشَّارِبَ بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ حَتَّى يَشُقَّ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فَجْأَةً، وَلَا كَذَلِكَ تَرْكُ نِكَاحِ الْمُرْضِعَةِ أَوْ بِنْتِهَا مَثَلًا، ثُمَّ إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ - وَهِيَ كَوْنُ بَعْضِ بِنْيَةِ الرَّضِيعِ مُكَوَّنَةً مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَهُ - تَتَحَقَّقُ بِالرَّضْعَةِ، أَوِ الثَّلَاثِ، أَوِ الْخَمْسِ فَكَيْفَ يَجْعَلُهَا الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَشْرًا، ثُمَّ خَمْسًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهَا، وَيَدَّعِي نَسْخَهَا؟ وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ يُقَالُ: مَنِ اسْتَفَادَ مِنْ هَذَا التَّدْرِيجِ فَتَزَوَّجَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا، أَوْ بِنْتَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا تِسْعًا، أَوْ ثَمَانِيَ أَوْ سَبْعًا أَوْ سِتًّا؟ ثُمَّ مَاذَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ نَسْخِ الْعَشْرِ؟ هَلْ فَارَقُوا أَزْوَاجَهُمْ، أَمْ عُفِيَ عَنْهُمْ، وَجُعِلَ التَّحْرِيمُ بِمَا دُونَ الْعَشْرِ خَاصًّا بِغَيْرِهِمْ؟
الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِهَذَا النَّسْخِ حِكْمَةٌ، وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْعِلَّةِ، وَإِنَّ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ عَائِشَةَ لَأَهْوَنُ مِنْ قَبُولِهَا مَعَ عَدَمِ عَمَلِ جُمْهُورٍ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ بِهَا كَمَا عَلِمْتَ، فَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ رِوَايَتَهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمِثْلِ الْبُخَارِيِّ، وَبِمَنْ قَالُوا بِاضْطِرَابِهَا خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ مَعْنَاهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَوَ لَيْسَ رَدُّ عَمْرَةَ، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِهَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِنُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَلَا فَائِدَةٌ، تَمَّ نَسْخُهُ، أَوْ سُقُوطُهُ، أَوْ ضَيَاعُهُ، فَإِنَّ عَمْرَةَ زَعَمَتْ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَرَى أَنَّ الْخَمْسَ لَمْ تُنْسَخْ، وَإِذًا لَا نَعْتَدُّ بِرِوَايَتِهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْمُخْتَارُ التَّحْرِيمُ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ إِلَّا الْمَصَّةَ وَالْمَصَّتَيْنِ إِذْ لَا تُسَمَّى رَضْعَةً فِي الْغِذَاءِ، وَبِمَعْنَاهَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَلْجِ الْوَلِيدِ الثَّدْيَ إِذَا مَصَّهُ وَأَمْلَجَتْهُ إِيَّاهُ جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ، فَإِنْ رَضَعَ رَضْعَةً تَامَّةً ثَبَتَتْ بِهَا الْحُرْمَةُ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
وَفِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ لِلنِّكَاحِ بَحْثٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِسِنِّ الرَّضِيعِ، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي سِنِّهِ، وَمُدَّتِهِ الْمَحْدُودَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [٢: ٢٣٣] وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
388
وَأَحْمَدَ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الظَّاهِرِيَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ مَا كَانَ قَبْلَ الْفَطْمِ، فَإِنْ فُطِمَ الرَّضِيعُ، وَلَوْ قَبْلَ السَّنَتَيْنِ امْتَنَعَ تَأْثِيرُ رَضَاعِهِ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ رَضَاعُهُ إِلَى مَا بَعْدَ السَّنَتَيْنِ، وَلَمْ يُفْطَمْ كَانَ رَضَاعُهُ مُحَرَّمًا، وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ تَصِحَّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُ فِي الْفِطَامِ لِحَوْلٍ ثُمَّ الرَّضَاعِ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِي، قَالَ: إِنْ تَمَادَى فِيهِ كَانَ مُحَرِّمًا، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ يُؤَثِّرُ فِي الصِّغَرِ دُونَ الْكِبَرِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا تَحْدِيدًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.
وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ إِلَى التَّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ شَيْخًا، وَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَقَالَ بِهِ عُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سَعْدٍ، وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ فِي وَاقِعَةِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي مُسْلِمٍ، وَمُفَصَّلَةٍ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي الْوَاقِعَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَتُجْلِي مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهَا، فَيُعْرَفُ أَمْثَلُهَا، وَهُوَ أَنَّ " أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنَّى سَالِمًا، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَكَانَ يُدْعَى ابْنَهُ، فَلَمَّا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ التَّبَنِّيَ صَارَ سَالِمٌ أَجْنَبِيًّا مِنْ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فِرَاقُهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ وَصَارَ مِنَ الْحَرَجِ دُخُولُهُ عَلَى بَيْتِ أَبِي حُذَيْفَةَ كَمَا كَانَ يَدْخُلُ، وَامْرَأَتُهُ فِي مِهْنَتِهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِبْدَاءِ شَيْءٍ مِنْ زِينَتِهَا الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِبْدَاءَاهَا لِغَيْرِ الْمَحَارِمِ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي، وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فَضْلًا (أَيْ فِي فَضْلِ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ وَقْتَ الشُّغْلِ، أَوِ النَّوْمِ)، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ هَذَا سِيَاقُ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ تَعْنِي مِنْ حِلِّ دُخُولِهِ بَعْدَ تَحْرِيمِ التَّبَنِّي لَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ فِي عِفَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مَكَانَ الِابْنِ مِنْ قُوَّةِ دِينِهِ، وَتَقْوَاهُ فِي
الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ هِيَ، وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْفَاضِلَاتِ. فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا سَقَتْهُ لَبَنَهَا فِي إِنَاءٍ.
يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي مَعْنَاهُ مَا أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَحَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَمَعْنَى " فِي الثَّدْيِ " فِي زَمَنِهِ أَيْ سِنِّ الرَّضَاعَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ مَا كَانَ قَبْلَ الْفَطْمِ، فَإِنْ فُطِمَ الرَّضِيعُ، وَلَوْ قَبْلَ السَّنَتَيْنِ امْتَنَعَ تَأْثِيرُ رَضَاعِهِ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ رَضَاعُهُ إِلَى مَا بَعْدَ السَّنَتَيْنِ، وَلَمْ يُفْطَمْ كَانَ رَضَاعُهُ مُحَرَّمًا، وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ تَصِحَّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُ فِي الْفِطَامِ لِحَوْلٍ ثُمَّ الرَّضَاعِ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِي، قَالَ: إِنْ تَمَادَى فِيهِ كَانَ مُحَرِّمًا، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ يُؤَثِّرُ فِي الصِّغَرِ دُونَ الْكِبَرِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا تَحْدِيدًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.
وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ إِلَى التَّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ شَيْخًا، وَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَقَالَ بِهِ عُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سَعْدٍ، وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ فِي وَاقِعَةِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي مُسْلِمٍ، وَمُفَصَّلَةٍ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي الْوَاقِعَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَتُجْلِي مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهَا، فَيُعْرَفُ أَمْثَلُهَا، وَهُوَ أَنَّ " أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنَّى سَالِمًا، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَكَانَ يُدْعَى ابْنَهُ، فَلَمَّا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ التَّبَنِّيَ صَارَ سَالِمٌ أَجْنَبِيًّا مِنْ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فِرَاقُهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ وَصَارَ مِنَ الْحَرَجِ دُخُولُهُ عَلَى بَيْتِ أَبِي حُذَيْفَةَ كَمَا كَانَ يَدْخُلُ، وَامْرَأَتُهُ فِي مِهْنَتِهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِبْدَاءِ شَيْءٍ مِنْ زِينَتِهَا الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِبْدَاءَاهَا لِغَيْرِ الْمَحَارِمِ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي، وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فَضْلًا (أَيْ فِي فَضْلِ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ وَقْتَ الشُّغْلِ، أَوِ النَّوْمِ)، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ هَذَا سِيَاقُ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ تَعْنِي مِنْ حِلِّ دُخُولِهِ بَعْدَ تَحْرِيمِ التَّبَنِّي لَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ فِي عِفَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مَكَانَ الِابْنِ مِنْ قُوَّةِ دِينِهِ، وَتَقْوَاهُ فِي
الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ هِيَ، وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْفَاضِلَاتِ. فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا سَقَتْهُ لَبَنَهَا فِي إِنَاءٍ.
يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي مَعْنَاهُ مَا أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَحَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَمَعْنَى " فِي الثَّدْيِ " فِي زَمَنِهِ أَيْ سِنِّ الرَّضَاعَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ
389
عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ " يُرْوَى " أَنْشَرَ " بِالرَّاءِ أَيْ بَسْطَهُ، وَمَدَّهُ، وَأَنْشَزَ بِالزَّايِ وَمَعْنَاهُ رَفَعَهُ. وَبَسْطُ الْعِظَامِ وَارْتِفَاعُهَا كِلَاهُمَا يَكُونَانِ بِنُمُوِّهَا، وَالْكَبِيرُ لَا تَنْمُو عِظَامُهُ، وَتَرْتَفِعُ بِالرَّضَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْغَذَاءِ - وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَأَفْتَى بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ.
قَالَ بَعْضُ الذَّاهِبِينَ إِلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ فِي الْكِبَرِ لَاسِيَّمَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ: إِنَّ حَدِيثَ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ حِينَ حُرِّمَ التَّبَنِّي، وَإِنْ خَفِيَ نَسْخُهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِسَالِمٍ، وَالتَّخْصِيصُ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ الْحُكُومَاتِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْقَوَانِينِ وَيُسَمُّونَهُ الِاسْتِثْنَاءَ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: لَيْسَ حَدِيثُ سَهْلَةَ بِمَنْسُوخٍ، وَلَا مَخْصُوصٍ بِسَالِمٍ، وَلَا عَامٍّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لِمَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ سَالِمٍ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَهْلِهِ فِي عَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ دُخُولِهِ عَلَى أَهْلِهِ ; أَيْ مَعَ انْتِفَاءِ الرِّيبَةِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَاجَةِ تَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَكَمْ مِنْ بَيْتٍ كَرِيمٍ يَثِقُ رَبُّهُ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ خَدَمِهِ قَدْ جَرَّبَ أَمَانَتَهُ، وَعِفَّتَهُ، وَصِدْقَهُ مَعَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى إِدْخَالِهِ عَلَى امْرَأَتِهِ، أَوْ إِلَى جَعْلِهِ مَعَهَا فِي سَفَرٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ صِلَتَهُ بِهِ، وَبِهَا بِجَعْلِهِ وَلَدًا لَهُمَا فِي الرَّضَاعَةِ بِشُرْبِ شَيْءٍ مِنْ لَبَنِهَا مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِحِكْمَتِهَا أَلَا يَكُونَ أَوْلَى! بَلَى وَإِنَّ هَذَا اللَّبَنَ لَيُحْدِثُ فِي كُلٍّ مِنْهُمْ عَاطِفَةً جَدِيدَةً.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُحَرَّمَاتُ الْمُصَاهَرَةِ، أَيِ الَّتِي تَعْرِضُ بِسَبَبِ الزَّوَاجِ، وَتَحْتَهُ الْأَنْوَاعُ الْآتِيَةُ قَالَ تَعَالَى: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ يَدْخُلُ فِي الْأُمَّهَاتِ أُمُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ وَجَدَّاتُهَا، وَيَدْخُلُ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَدْخُلُ بِهَا الرَّجُلُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا تَدْخُلَ فِي مِثْلِ
قَوْلِهِ - تَعَالَى -: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [٢: ٢٢٣] وَقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [٢: ١٨٧] وَقَوْلِهِ: لَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [٢: ٢٣١] وَلَا قَوْلِهِ: لِلَّذِينِ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [٢: ٢٢٦] لِأَنَّ الطَّلَاقَ، وَالْإِيلَاءَ خَاصٌّ بِالزَّوْجَاتِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي تَحْرِيمِ أُمِّ الْمَرْأَةِ دُخُولُهُ بِهَا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْتَرِطِ الدُّخُولَ هُنَا كَمَا اشْتَرَطَهُ فِي بِنْتِهَا كَمَا يَأْتِي، وَهِيَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَكُونُ مِنْ نِسَائِهِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا. وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ فَلَا تُعَدُّ مِنْ نِسَائِهِ إِلَّا إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا وَحِينَئِذٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا.
قَالَ بَعْضُ الذَّاهِبِينَ إِلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ فِي الْكِبَرِ لَاسِيَّمَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ: إِنَّ حَدِيثَ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ حِينَ حُرِّمَ التَّبَنِّي، وَإِنْ خَفِيَ نَسْخُهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِسَالِمٍ، وَالتَّخْصِيصُ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ الْحُكُومَاتِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْقَوَانِينِ وَيُسَمُّونَهُ الِاسْتِثْنَاءَ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: لَيْسَ حَدِيثُ سَهْلَةَ بِمَنْسُوخٍ، وَلَا مَخْصُوصٍ بِسَالِمٍ، وَلَا عَامٍّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لِمَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ سَالِمٍ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَهْلِهِ فِي عَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ دُخُولِهِ عَلَى أَهْلِهِ ; أَيْ مَعَ انْتِفَاءِ الرِّيبَةِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَاجَةِ تَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَكَمْ مِنْ بَيْتٍ كَرِيمٍ يَثِقُ رَبُّهُ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ خَدَمِهِ قَدْ جَرَّبَ أَمَانَتَهُ، وَعِفَّتَهُ، وَصِدْقَهُ مَعَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى إِدْخَالِهِ عَلَى امْرَأَتِهِ، أَوْ إِلَى جَعْلِهِ مَعَهَا فِي سَفَرٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ صِلَتَهُ بِهِ، وَبِهَا بِجَعْلِهِ وَلَدًا لَهُمَا فِي الرَّضَاعَةِ بِشُرْبِ شَيْءٍ مِنْ لَبَنِهَا مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِحِكْمَتِهَا أَلَا يَكُونَ أَوْلَى! بَلَى وَإِنَّ هَذَا اللَّبَنَ لَيُحْدِثُ فِي كُلٍّ مِنْهُمْ عَاطِفَةً جَدِيدَةً.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُحَرَّمَاتُ الْمُصَاهَرَةِ، أَيِ الَّتِي تَعْرِضُ بِسَبَبِ الزَّوَاجِ، وَتَحْتَهُ الْأَنْوَاعُ الْآتِيَةُ قَالَ تَعَالَى: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ يَدْخُلُ فِي الْأُمَّهَاتِ أُمُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ وَجَدَّاتُهَا، وَيَدْخُلُ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَدْخُلُ بِهَا الرَّجُلُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا تَدْخُلَ فِي مِثْلِ
قَوْلِهِ - تَعَالَى -: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [٢: ٢٢٣] وَقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [٢: ١٨٧] وَقَوْلِهِ: لَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [٢: ٢٣١] وَلَا قَوْلِهِ: لِلَّذِينِ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [٢: ٢٢٦] لِأَنَّ الطَّلَاقَ، وَالْإِيلَاءَ خَاصٌّ بِالزَّوْجَاتِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي تَحْرِيمِ أُمِّ الْمَرْأَةِ دُخُولُهُ بِهَا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْتَرِطِ الدُّخُولَ هُنَا كَمَا اشْتَرَطَهُ فِي بِنْتِهَا كَمَا يَأْتِي، وَهِيَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَكُونُ مِنْ نِسَائِهِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا. وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ فَلَا تُعَدُّ مِنْ نِسَائِهِ إِلَّا إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا وَحِينَئِذٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا.
390
وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يَدْخُلُ فِيهِ تَحْرِيمُ بَنَاتِ امْرَأَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ حَتَّى عَامَّةُ الْمُوَلَّدِينَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَنَاتُ بَنَاتِهَا، وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا، وَإِنْ سَفَلْنَ ; لِأَنَّهُنَّ مِنْ بَنَاتِهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ أُمُّ زَوْجَةِ الِابْنِ وَبِنْتُهَا، وَالرَّبَائِبُ: جَمْعُ رَبِيبَةٍ، وَرَبِيبُ الرَّجُلِ وَلَدُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، سُمِّيَ رَبِيبًا لَهُ لِأَنَّهُ يَرُبُّهُ كَمَا يَرُبُّ وَلَدَهُ أَيْ يَسُوسُهُ، فَهُوَ مَعْنَى مَرْبُوبٍ، وَالْقَاعِدَةُ أَنْ يُقَالَ فِي مُؤَنَّثِهِ رَبِيبٌ كَمُذَكَّرِهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ رَبِيبَةٌ لِأَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا. وَالْجَمَاهِيرُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وَصْفٌ لِبَيَانِ الشَّأْنِ الْغَالِبِ فِي الرَّبِيبَةِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا (وَالْحِجْرُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الْحِضْنُ، وَهُوَ مَكَانٌ مَا يَحْجُرُهُ وَيَحُوطُهُ الْإِنْسَانُ أَمَامَ صَدْرِهِ بَيْنَ عَضُدَيْهِ وَسَاعِدَيْهِ) كَمَا قَالَ: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [١٧: ٣١] لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْتُلُونَهُمْ إِلَّا مِنْ خَشْيَةِ الْفَقْرِ، أَوْ مِنَ الْفَقْرِ وَذَلِكَ لَيْسَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ، فَلَوْ قَتَلُوهُمْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَانَ مُحَرَّمًا أَيْضًا. وَيُقَالُ: فَلَانٌ فِي حَجْرِ فُلَانٍ أَيْ فِي كَنَفِهِ وَرِعَايَتِهِ، قَالُوا وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ جَعْلِ الرَّبِيبَةِ فِي الْحِجْرِ حَقِيقَةً أَوْ تَجَوُّزًا، كَأَنْ تَكُونَ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنْ زَوْجِ أُمِّهَا يَخْلُو بِهَا، وَيُسَافِرُ مَعَهَا، وَيُعَامِلُهَا بِكُلِّ مَا يُعَامِلُ بِهِ بِنْتَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِإِشْعَارِ الرَّجُلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُوَضِّحُ لَهُ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ، وَيُقَرِّرُهَا
فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُ بِنْتِ زَوْجَتِهِ فِي مَكَانِ بِنْتِهِ ; لِأَنَّ زَوْجَتَهُ كَنَفْسِهِ فَفَرْعُهَا كَفَرْعِهِ، فَهُوَ وَصْفٌ يُحَرِّكُ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ فِي الرَّجُلِ، وَهُوَ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِهِ يَحْنُو عَلَيْهَا حُنُوَّهُ عَلَى بِنْتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.
وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَيْدٌ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَةُ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: " كَانَ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَتُوُفِّيَتْ وَقَدْ وَلَدَتْ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهَا " (أَيْ حَزِنْتُ) فَلَقِيَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: تُوُفِّيَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَ: لَهَا بِنْتٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَهِيَ بِالطَّائِفِ، قَالَ: كَانَتْ فِي حِجْرِكَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: انْكِحْهَا. قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؟ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِكَ إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِكَ " وَيُرْوَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّتِي لَا تَكُونُ فِي حِجْرِهِ لَا تَكُونُ رَبِيبَةً لَهُ فِي الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَرُبُّهَا وَلَا يَسُوسُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يَجِدُ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا، أَوْ لَا تَجْتَمِعُ مَعَهَا عَاطِفَةُ الشَّهْوَةِ، فَالِاحْتِيَاطُ عِنْدِي أَلَّا يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَخْلُوَ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَجِدْ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُ بِنْتِ زَوْجَتِهِ فِي مَكَانِ بِنْتِهِ ; لِأَنَّ زَوْجَتَهُ كَنَفْسِهِ فَفَرْعُهَا كَفَرْعِهِ، فَهُوَ وَصْفٌ يُحَرِّكُ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ فِي الرَّجُلِ، وَهُوَ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِهِ يَحْنُو عَلَيْهَا حُنُوَّهُ عَلَى بِنْتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.
وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَيْدٌ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَةُ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: " كَانَ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَتُوُفِّيَتْ وَقَدْ وَلَدَتْ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهَا " (أَيْ حَزِنْتُ) فَلَقِيَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: تُوُفِّيَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَ: لَهَا بِنْتٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَهِيَ بِالطَّائِفِ، قَالَ: كَانَتْ فِي حِجْرِكَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: انْكِحْهَا. قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؟ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِكَ إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِكَ " وَيُرْوَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّتِي لَا تَكُونُ فِي حِجْرِهِ لَا تَكُونُ رَبِيبَةً لَهُ فِي الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَرُبُّهَا وَلَا يَسُوسُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يَجِدُ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا، أَوْ لَا تَجْتَمِعُ مَعَهَا عَاطِفَةُ الشَّهْوَةِ، فَالِاحْتِيَاطُ عِنْدِي أَلَّا يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَخْلُوَ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَجِدْ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
391
عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَةَ تَحْرُمُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِ الزَّوْجِ ; لِأَنَّهُ تَفْرِيعٌ لِبَيَانِ مَفْهُومِ مَا قُيِّدَ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَلَوْ كَانَ الْكَوْنُ فِي الْحُجُورِ قَيْدًا أَيْضًا لَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، أَوْ لَمْ تَكُنْ رَبَائِبُكُمْ فِي حُجُورِكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ. وَالْجُنَاحُ فَسَّرُوهُ بِالْإِثْمِ، وَعِنْدِي أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالتَّضْيِيقِ، وَالْأَذَى أَحْكَمُ، وَأَوْلَى، قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: " وَالْجُنَاحُ مَا تَحْمِلُ مِنَ الْهَمِّ، وَالْأَذَى، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ وَلَا تَضْيِيقَ " اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَقَدَ نِكَاحَهُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا.
وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا
لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ نَظَرَ إِلَى مَا هُنَالِكَ مِنْهَا بِشَهْوَةٍ، بَلْ قَالُوا أَيْضًا: إِذَا لَمَسَ يَدَ أُمِّ امْرَأَتِهِ فِي حَالِ الشَّهْوَةِ، وَلَوْ خَطَأً فَإِنَّ امْرَأَتَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَأَلْحَقُوا ذَلِكَ بِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْقِيَاسِ وَتَوَسَّعُوا فِي ذَلِكَ تَوَسُّعًا ضَيَّقُوا فِيهِ تَضْيِيقًا! وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَبِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُنَافِي ذَلِكَ فَاللَّوَاتِي يُزْنَى بِهِنَّ، أَوْ يُلْمَسْنَ، أَوْ يُقَبَّلْنَ، أَوْ يُنْظَرُ لَهُنَّ بِشَهْوَةٍ لَا يَصِرْنَ مِنْ نِسَاءِ الزُّنَاةِ، أَوِ الْمُتَمَتِّعِينَ مِنْهُنَّ بِمَا دُونَ الزِّنَا، فَعِبَارَةُ الْقُرْآنِ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِنَصِّهَا، وَلَا فَحْوَاهَا، وَحِكْمَةُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَعِلَّتُهَا لَا تَظْهَرُ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ هُوَ مِمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَحْيَانًا، وَمَا كَانَ الشَّارِعُ لِيَسْكُتَ عَنْهُ فَلَا يَنْزِلَ بِهِ قُرْآنٌ، وَلَا تَمْضِيَ بِهِ سُنَّةٌ، وَلَا يَصِحَّ فِيهِ خَبَرٌ، وَلَا أَثَرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَانُوا قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَ الزِّنَا فِيهَا فَاشِيًّا بَيْنَهُمْ، فَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْرَكًا فِي الشَّرْعِ، أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهِ عِلَلُهُ، وَحِكَمُهُ لَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مَا يُفْتُونَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ - سُبْحَانَهُ -: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ الْحَلَائِلُ: جَمْعُ حَلِيلَةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: حَلِيلٌ، وَاللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُلُولِ ; فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ يَحِلَّانِ مَعًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَفِرَاشٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: مِنَ الْحِلِّ بِالْكَسْرِ، أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَلَالٌ لِلْآخَرِ، وَقِيلَ: مِنْ حَلِّ الْإِزَارِ (بِفَتْحِ الْحَاءِ)، وَيَدْخُلُ فِي الْحَلَائِلِ الْإِمَاءُ اللَّوَاتِي يُسْتَمْتَعُ بِهِنَّ، وَاللَّفْظُ يَصْدُقُ عَلَيْهِنَّ بِكُلِّ مَعْنًى قِيلَ فِي اشْتِقَاقِهِ. وَيَدْخُلُ فِي الْأَبْنَاءِ أَبْنَاءُ الصُّلْبِ مُبَاشَرَةً، وَبِوَاسِطَةٍ كَابْنِ الِابْنِ، وَابْنِ الْبِنْتِ، فَحَلَائِلُهُمَا تَحْرُمُ عَلَى الْجَدِّ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الِابْنُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ لَا بِالذَّاتِ، وَلَا بِالْوَاسِطَةِ فَهُوَ يَخْرُجُ بِهَذَا الْقَيْدِ بِحَسَبِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ، وَبِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ: وَلَكِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ - إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلٍ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ ابْنَ الرَّضَاعِ تَحْرُمُ حَلِيلَتُهُ إِمَّا لِدُخُولِهِ فِي الْأَبْنَاءِ هُنَا، وَجَعَلَ الْقَيْدَ لِإِخْرَاجِ الدَّعِيِّ الَّذِي يُتَبَنَّى، وَإِمَّا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْآخَرُونَ بِأَنَّ حُرْمَةَ امْرَأَةِ الِابْنِ
وَلَاقَيْتُ مِنْ جُمْلٍ وَأَسْبَابِ حُبِّهَا | جُنَاحَ الَّذِي لَاقَيْتُ مِنْ تِرْبِهَا قَبْلُ |
وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا
لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ نَظَرَ إِلَى مَا هُنَالِكَ مِنْهَا بِشَهْوَةٍ، بَلْ قَالُوا أَيْضًا: إِذَا لَمَسَ يَدَ أُمِّ امْرَأَتِهِ فِي حَالِ الشَّهْوَةِ، وَلَوْ خَطَأً فَإِنَّ امْرَأَتَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَأَلْحَقُوا ذَلِكَ بِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْقِيَاسِ وَتَوَسَّعُوا فِي ذَلِكَ تَوَسُّعًا ضَيَّقُوا فِيهِ تَضْيِيقًا! وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَبِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُنَافِي ذَلِكَ فَاللَّوَاتِي يُزْنَى بِهِنَّ، أَوْ يُلْمَسْنَ، أَوْ يُقَبَّلْنَ، أَوْ يُنْظَرُ لَهُنَّ بِشَهْوَةٍ لَا يَصِرْنَ مِنْ نِسَاءِ الزُّنَاةِ، أَوِ الْمُتَمَتِّعِينَ مِنْهُنَّ بِمَا دُونَ الزِّنَا، فَعِبَارَةُ الْقُرْآنِ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِنَصِّهَا، وَلَا فَحْوَاهَا، وَحِكْمَةُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَعِلَّتُهَا لَا تَظْهَرُ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ هُوَ مِمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَحْيَانًا، وَمَا كَانَ الشَّارِعُ لِيَسْكُتَ عَنْهُ فَلَا يَنْزِلَ بِهِ قُرْآنٌ، وَلَا تَمْضِيَ بِهِ سُنَّةٌ، وَلَا يَصِحَّ فِيهِ خَبَرٌ، وَلَا أَثَرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَانُوا قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَ الزِّنَا فِيهَا فَاشِيًّا بَيْنَهُمْ، فَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْرَكًا فِي الشَّرْعِ، أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهِ عِلَلُهُ، وَحِكَمُهُ لَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مَا يُفْتُونَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ - سُبْحَانَهُ -: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ الْحَلَائِلُ: جَمْعُ حَلِيلَةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: حَلِيلٌ، وَاللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُلُولِ ; فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ يَحِلَّانِ مَعًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَفِرَاشٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: مِنَ الْحِلِّ بِالْكَسْرِ، أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَلَالٌ لِلْآخَرِ، وَقِيلَ: مِنْ حَلِّ الْإِزَارِ (بِفَتْحِ الْحَاءِ)، وَيَدْخُلُ فِي الْحَلَائِلِ الْإِمَاءُ اللَّوَاتِي يُسْتَمْتَعُ بِهِنَّ، وَاللَّفْظُ يَصْدُقُ عَلَيْهِنَّ بِكُلِّ مَعْنًى قِيلَ فِي اشْتِقَاقِهِ. وَيَدْخُلُ فِي الْأَبْنَاءِ أَبْنَاءُ الصُّلْبِ مُبَاشَرَةً، وَبِوَاسِطَةٍ كَابْنِ الِابْنِ، وَابْنِ الْبِنْتِ، فَحَلَائِلُهُمَا تَحْرُمُ عَلَى الْجَدِّ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الِابْنُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ لَا بِالذَّاتِ، وَلَا بِالْوَاسِطَةِ فَهُوَ يَخْرُجُ بِهَذَا الْقَيْدِ بِحَسَبِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ، وَبِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ: وَلَكِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ - إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلٍ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ ابْنَ الرَّضَاعِ تَحْرُمُ حَلِيلَتُهُ إِمَّا لِدُخُولِهِ فِي الْأَبْنَاءِ هُنَا، وَجَعَلَ الْقَيْدَ لِإِخْرَاجِ الدَّعِيِّ الَّذِي يُتَبَنَّى، وَإِمَّا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْآخَرُونَ بِأَنَّ حُرْمَةَ امْرَأَةِ الِابْنِ
392
لَا تَحْرُمُ بِالنَّسَبِ، وَإِنَّمَا تَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ، فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، وَبِأَنَّ الدَّعِيَّ لَيْسَ ابْنًا فَيَحْتَاجُ إِلَى إِخْرَاجِهِ لَا حَقِيقَةً كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ، وَلَا شَرْعًا، وَلَا عُرْفًا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا أَنْزَلَ:
وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [٣٣: ٤] بَطَلَ هَذَا الْعُرْفُ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَقْرِيرِ حُجَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَصُّهُ:
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَدِلَّتِنَا، وَعُمْدَتُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّ تَحْرِيمَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَالْأَبْنَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالصِّهْرِ لَا بِالنَّسَبِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَصَرَ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ عَلَى نَظِيرِهِ مِنَ النَّسَبِ لَا عَلَى شَقِيقِهِ وَهُوَ الصِّهْرُ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. (قَالُوا) : وَالتَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ فَرْعٌ عَلَى تَحْرِيمِ النَّسَبِ لَا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، فَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ أَصْلٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَاللهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَنُصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ أَلْبَتَّةَ بِنَصٍّ، وَلَا إِيمَاءٍ، وَلَا إِشَارَةٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يَحْرُمَ بِهِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَفِي ذَلِكَ إِرْشَادٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ بِالصِّهْرِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ لَقَالَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ. (قَالُوا) : وَأَيْضًا فَالرَّضَاعُ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ، وَلِهَذَا أَخَذَ مِنْهُ بَعْضَ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ، وَالْمَحْرَمِيَّةُ فَقَطْ دُونَ التَّوَارُثِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِ النَّسَبِ، فَهُوَ نَسَبٌ ضَعِيفٌ، فَأَخَذَ بِحَسَبِ ضَعْفِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ النِّسَبِ، وَلَمْ يَقْوَ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ النِّسَبِ، وَهِيَ أَلْصَقُ بِهِ مِنَ الْمُصَاهَرَةِ مَعَ قُصُورِهِ عَنْ أَحْكَامِ مُشْبِهِهِ وَشَقِيقِهِ، وَأَمَّا الْمُصَاهَرَةُ، وَالرَّضَاعُ فَإِنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شُبْهَةَ نَسَبٍ، وَلَا بَعْضِيَّةَ، وَلَا اتِّصَالَ. (قَالُوا) : وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الصِّهْرِيَّةِ ثَابِتًا لَبَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا يُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ، فَمِنَ اللهِ الْبَيَانُ وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، وَالِانْقِيَادُ، فَهَذَا مُنْتَهَى النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ ظَفِرَ فِيهَا بِحُجَّةٍ فَلْيُرْشِدْ إِلَيْهَا، وَلِيَدُلَّ عَلَيْهَا ; فَإِنَّا لَهَا مُنْقَادُونَ، وَبِهَا مُعْتَصِمُونَ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ " انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَبَارَكَ اسْمُهُ مَا يَحْرُمُ بِالْأَسْبَابِ الثَّابِتَةِ، وَقَدَّمَ الْأَقْوَى فِي عِلَّتِهِ، وَحِكْمَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَحْرُمُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ إِذَا زَالَ يَزُولُ التَّحْرِيمُ فَقَالَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَيْ وَحَرُمَ عَلَيْكُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْوَلَدُ سَوَاءٌ كَانَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ. هَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَعُلَمَاءُ التَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمُ الْخِلَافُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَعَ إِطْلَاقِ إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ
قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ سَائِرَ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَامٌّ فِي النِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ، فَلَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَاءِ
وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [٣٣: ٤] بَطَلَ هَذَا الْعُرْفُ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَقْرِيرِ حُجَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَصُّهُ:
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَدِلَّتِنَا، وَعُمْدَتُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّ تَحْرِيمَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَالْأَبْنَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالصِّهْرِ لَا بِالنَّسَبِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَصَرَ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ عَلَى نَظِيرِهِ مِنَ النَّسَبِ لَا عَلَى شَقِيقِهِ وَهُوَ الصِّهْرُ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. (قَالُوا) : وَالتَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ فَرْعٌ عَلَى تَحْرِيمِ النَّسَبِ لَا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، فَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ أَصْلٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَاللهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَنُصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ أَلْبَتَّةَ بِنَصٍّ، وَلَا إِيمَاءٍ، وَلَا إِشَارَةٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يَحْرُمَ بِهِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَفِي ذَلِكَ إِرْشَادٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ بِالصِّهْرِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ لَقَالَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ. (قَالُوا) : وَأَيْضًا فَالرَّضَاعُ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ، وَلِهَذَا أَخَذَ مِنْهُ بَعْضَ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ، وَالْمَحْرَمِيَّةُ فَقَطْ دُونَ التَّوَارُثِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِ النَّسَبِ، فَهُوَ نَسَبٌ ضَعِيفٌ، فَأَخَذَ بِحَسَبِ ضَعْفِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ النِّسَبِ، وَلَمْ يَقْوَ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ النِّسَبِ، وَهِيَ أَلْصَقُ بِهِ مِنَ الْمُصَاهَرَةِ مَعَ قُصُورِهِ عَنْ أَحْكَامِ مُشْبِهِهِ وَشَقِيقِهِ، وَأَمَّا الْمُصَاهَرَةُ، وَالرَّضَاعُ فَإِنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شُبْهَةَ نَسَبٍ، وَلَا بَعْضِيَّةَ، وَلَا اتِّصَالَ. (قَالُوا) : وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الصِّهْرِيَّةِ ثَابِتًا لَبَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا يُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ، فَمِنَ اللهِ الْبَيَانُ وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، وَالِانْقِيَادُ، فَهَذَا مُنْتَهَى النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ ظَفِرَ فِيهَا بِحُجَّةٍ فَلْيُرْشِدْ إِلَيْهَا، وَلِيَدُلَّ عَلَيْهَا ; فَإِنَّا لَهَا مُنْقَادُونَ، وَبِهَا مُعْتَصِمُونَ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ " انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَبَارَكَ اسْمُهُ مَا يَحْرُمُ بِالْأَسْبَابِ الثَّابِتَةِ، وَقَدَّمَ الْأَقْوَى فِي عِلَّتِهِ، وَحِكْمَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَحْرُمُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ إِذَا زَالَ يَزُولُ التَّحْرِيمُ فَقَالَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَيْ وَحَرُمَ عَلَيْكُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْوَلَدُ سَوَاءٌ كَانَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ. هَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَعُلَمَاءُ التَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمُ الْخِلَافُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَعَ إِطْلَاقِ إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ
قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ سَائِرَ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَامٌّ فِي النِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ، فَلَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَاءِ
393
هَذَا وَحْدَهُ مِنْهَا. وَأَنَّ إِطْلَاقَ إِبَاحَةِ مَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ إِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِسَبَبِ الْحِلِّ دُونَ شُرُوطِهِ الَّتِي تُعْلَمُ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى، فَمَنْ مَلَكَ إِحْدَى مَحَارِمِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، وَلَوْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي اسْتِمْتَاعِ الْمِلْكِ لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ، وَبِنْتِهَا فِي ذَلِكَ، وَمَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ؟ وَالْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالنِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ، كَأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِإِحْدَاهُمَا، وَمُتَزَوِّجًا الْأُخْرَى، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهِمَا مَعًا.
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّمَ إِحْدَاهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، كَأَنْ يُعْتِقَ الْمَمْلُوكَةَ، أَوْ يَهَبَهَا، وَيُسَلِّمَهَا لِلْمَوْهُوبَةِ لَهُ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأُخْتَانِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَقَدْ فَهِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالضَّابِطُ فِي هَذَا أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ لَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَحَرُمَ عَلَيْهِ بِهَا نِكَاحُ الْأُخْرَى: وَهُوَ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْعِلَّةُ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْحِكْمَةُ.
ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أَيْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا ذَكَرَ لَكِنْ مَا سَلَفَ لَكُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَا تُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقِيلَ: إِلَّا مَا سَلَفَ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ. وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْكُمْ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَنْتُمُ الْتَزَمْتُمُ الْعَمَلَ بِشَرِيعَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَمِنْ مَغْفِرَتِهِ أَنْ يَمْحُوَ مِنْ نُفُوسِكُمْ أَثَرَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي تُنَافِي سَلَامَةَ الْفِطْرَةِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِكُمْ أَنْ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لَكُمْ، وَتَوْثِيقُ رَوَابِطِ الْقَرَابَةِ، وَالصِّهْرِ، وَالرَّضَاعِ بَيْنَكُمْ لِتَتَرَاحَمُوا، وَتَتَعَاطَفُوا، وَتَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى فَتَنَالُوا تَمَامَ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّمَ إِحْدَاهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، كَأَنْ يُعْتِقَ الْمَمْلُوكَةَ، أَوْ يَهَبَهَا، وَيُسَلِّمَهَا لِلْمَوْهُوبَةِ لَهُ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأُخْتَانِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَقَدْ فَهِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالضَّابِطُ فِي هَذَا أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ لَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَحَرُمَ عَلَيْهِ بِهَا نِكَاحُ الْأُخْرَى: وَهُوَ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْعِلَّةُ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْحِكْمَةُ.
ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أَيْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا ذَكَرَ لَكِنْ مَا سَلَفَ لَكُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَا تُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقِيلَ: إِلَّا مَا سَلَفَ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ. وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْكُمْ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَنْتُمُ الْتَزَمْتُمُ الْعَمَلَ بِشَرِيعَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَمِنْ مَغْفِرَتِهِ أَنْ يَمْحُوَ مِنْ نُفُوسِكُمْ أَثَرَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي تُنَافِي سَلَامَةَ الْفِطْرَةِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِكُمْ أَنْ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لَكُمْ، وَتَوْثِيقُ رَوَابِطِ الْقَرَابَةِ، وَالصِّهْرِ، وَالرَّضَاعِ بَيْنَكُمْ لِتَتَرَاحَمُوا، وَتَتَعَاطَفُوا، وَتَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى فَتَنَالُوا تَمَامَ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
394
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيَانُ بَقِيَّةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَحَلِّ مَا عَدَاهُ، وَحُكْمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَمَا فَصَلْنَاهُمَا عَمَّا قَبْلَهُمَا إِلَّا لِأَنَّ مَنْ قَسَّمُوا الْقُرْآنَ إِلَى ثَلَاثِينَ جُزْءًا جَعَلُوهُمَا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْخَامِسِ، وَقَدْ رَاعَوْا فِي هَذَا التَّقْسِيمِ مِنَ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَكَانَ الْمُنَاسِبَ لِلْمَعْنَى
أَنْ يَجْعَلُوا أَوَّلَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (٤: ٢٩)، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَالْمُحْصَنَاتُ: جَمْعُ مُحْصَنَةٍ بِفَتْحِ الصَّادِ، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْصَنَ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ كَسْرُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْفَتْحُ عَنْهُ، وَالْإِحْصَانُ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَنِيعُ الْمَحْمِيُّ، فَفِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ الشَّدِيدِ، وَيُقَالُ: حَصُنَتِ الْمَرْأَةُ ـ بِضَمِّ الصَّادِ ـ حِصْنًا وَحَصَانَةً، أَيْ: عَفَّتْ فَهِيَ حَاصِنٌ وَحَاصِنَةٌ وَحَصَانٌ وَحَصْنَاءُ ـ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا ـ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَيُقَالُ: أُحْصِنَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي حِصْنِ الرَّجُلِ وَحِمَايَتِهِ، وَيُقَالُ: أَحْصَنَهَا أَهْلُهَا إِذَا زَوَّجُوهَا، وَمِنْ شَأْنِ الْمُتَزَوِّجَةِ أَنْ تُحَصِّنَ نَفْسَهَا فَتَكْتَفِيَ بِزَوْجِهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى الرِّجَالِ لِأَجْلِ حَاجَةِ الطَّبِيعَةِ، وَتُحَصِّنَ زَوْجَهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ الْمُعَوَّلُ فِي الْإِحْصَانِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ ـ بِفَتْحِ الصَّادِ ـ اسْمُ فَاعِلٍ نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَلُّ أَفْعَلَ اسْمُ فَاعِلِهِ بِالْكَسْرِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ: أَحْصَنَ، أَلْفَجَ إِذَا ذَهَبَ مَالُهُ، وَأَسْهَبَ إِذَا كَثُرَ كَلَامُهُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْعَفِيفَةَ يُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ - بِفَتْحِ الصَّادِ - وَمُحْصِنَةٌ - بِكَسْرِهَا - وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ فَيُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ - بِالْفَتْحِ - لَا غَيْرَ، وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْمَشْهُورُونَ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَقِيلَ: هُنَّ الْحَرَائِرُ، وَقِيلَ: عَامٌّ فِي الْحَرَائِرِ وَالْعَفَائِفِ وَالْمُتَزَوِّجَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ: هُنَّ الْحَرَائِرُ الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَسَيَأْتِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَا يُرَجِّحُهُ، وَلِمَاذَا قَالَ: مِنَ النِّسَاءِ وَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُغْنِيَةٌ عَنْ هَذَا الْقَيْدِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: النُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ: تَأْكِيدُ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَرَ قَوْلَهُ كَافِيًا وَافِيًا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِغُمُوضِ
النُّكْتَةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَنْ يُفَسِّرُهَا لِي لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، أَيْ: لَسَافَرَ إِلَيْهِ وَإِنْ بَعُدَ مَكَانُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ يَكَادُ يَكُونُ بَدِيهِيًّا ; فَإِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَفِيفَاتُ، أَوِ الْمُسْلِمَاتُ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ هُنَا: مِنَ النِّسَاءِ، لَتَوَهَّمَ أَنَّ (الْمُحْصَنَاتِ) إِنَّمَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُنَّ إِذَا كُنَّ مُسْلِمَاتٍ، فَأَفَادَ هَذَا الْقَيْدُ الْعُمُومَ وَالْإِطْلَاقَ، أَيْ أَنَّ عَقْدَ الزَّوْجِيَّةِ مُحْتَرَمٌ مُطْلَقًا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكَافِرَاتِ وَالْحَرَائِرِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، فَيَحْرُمُ تَزَوُّجُ أَيَّةِ امْرَأَةٍ فِي عِصْمَةِ رَجُلٍ وَحِصْنِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَالْمُحْصَنَاتُ: جَمْعُ مُحْصَنَةٍ بِفَتْحِ الصَّادِ، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْصَنَ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ كَسْرُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْفَتْحُ عَنْهُ، وَالْإِحْصَانُ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَنِيعُ الْمَحْمِيُّ، فَفِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ الشَّدِيدِ، وَيُقَالُ: حَصُنَتِ الْمَرْأَةُ ـ بِضَمِّ الصَّادِ ـ حِصْنًا وَحَصَانَةً، أَيْ: عَفَّتْ فَهِيَ حَاصِنٌ وَحَاصِنَةٌ وَحَصَانٌ وَحَصْنَاءُ ـ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا ـ قَالَ الشَّاعِرُ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ | وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ |
النُّكْتَةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَنْ يُفَسِّرُهَا لِي لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، أَيْ: لَسَافَرَ إِلَيْهِ وَإِنْ بَعُدَ مَكَانُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ يَكَادُ يَكُونُ بَدِيهِيًّا ; فَإِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَفِيفَاتُ، أَوِ الْمُسْلِمَاتُ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ هُنَا: مِنَ النِّسَاءِ، لَتَوَهَّمَ أَنَّ (الْمُحْصَنَاتِ) إِنَّمَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُنَّ إِذَا كُنَّ مُسْلِمَاتٍ، فَأَفَادَ هَذَا الْقَيْدُ الْعُمُومَ وَالْإِطْلَاقَ، أَيْ أَنَّ عَقْدَ الزَّوْجِيَّةِ مُحْتَرَمٌ مُطْلَقًا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكَافِرَاتِ وَالْحَرَائِرِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، فَيَحْرُمُ تَزَوُّجُ أَيَّةِ امْرَأَةٍ فِي عِصْمَةِ رَجُلٍ وَحِصْنِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ
4
أَيْ: إِلَّا مَا سَبَيْتُمْ مِنْهُنَّ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ تُدَافِعُونَ فِيهَا عَنْ حَقِيقَتِكُمْ، أَوْ تُؤَمِّنُونَ بِهَا دَعْوَةَ دِينِكُمْ، وَرَأَيْتُمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَلَّا تُعَادَ السَّبَايَا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْحَلُّ عَقْدُ زَوْجِيَّتِهِنَّ وَيَكُنَّ حَلَالًا لَكُمْ بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تَحَرُّجُ الصَّحَابَةِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِسَبَايَا (أَوْطَاسٍ) وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ التَّصْرِيحُ بِاشْتِرَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ بِوَضْعِ الْحَامِلِ لِحَمْلِهَا وَحَيْضِ غَيْرِهَا، ثُمَّ طُهْرِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ مَنْ سُبِيَ مَعَهَا زَوْجُهَا لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ، فَاعْتَبَرُوا فِي الْحِلِّ اخْتِلَافَ الدَّارِ: دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ لَا دَخْلَ فِي حِلِّ السَّبَايَا، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ أَنَّ مَنْ سُبِيَتْ دُونَ زَوْجِهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَحِلُّ لِلسَّابِي بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا لِلشَّكِّ فِي حَيَاةِ زَوْجِهَا، أَيْ: وَعَدَمُ الطَّمَعِ فِي لُحُوقِهِ بِهَا إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ بَقِيَ حَيًّا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ، وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ فِي حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَمْلُوكَاتِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الشَّأْنُ الْغَالِبُ أَنْ يُقْتَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِنَّ وَيَفِرَّ بَعْضُهُمُ الْآخَرُ حَتَّى لَا يَعُودَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَفَالَةُ هَؤُلَاءِ السَّبَايَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ الْفِسْقِ، كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَهُنَّ وَلِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ـ أَوْ أَكْثَرَـ كَافِلٌ يَكْفِيهَا هَمَّ الرِّزْقِ وَبَذْلَ الْعِرْضِ لِكُلِّ طَالِبٍ، وَلَا يَخْفَى
مَا فِي هَذَا الْأَخِيرِ مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى بِلَادِهِنَّ فَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا حَيًّا عَادَتْ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا مَفْقُودًا تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ أَوْ كَانَ شَرُّ فِسْقِهَا عَلَى قَوْمِهَا؟ نَقُولُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ مَا فَرَضَ السَّبْيَ وَلَا أَوْجَبَهُ وَلَا حَرَّمَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ حَتَّى لِلسَّبَايَا أَنْفُسِهِنَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمِنْهَا أَنْ تَسْتَأْصِلَ الْحَرْبُ جَمِيعَ الرِّجَالِ مِنْ قَبِيلَةٍ مَحْدُودَةِ الْعَدَدِ مَثَلًا، فَإِنْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ تُرَدَّ السَّبَايَا إِلَى قَوْمِهِنَّ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ، أَوْ وَجَبَ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَكُلُّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ دِينِيَّةً - كَمَا قَيَّدْنَا - فَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ لِمَطَامِعِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِ الْمُلُوكِ فَلَا يُبَاحُ فِيهَا السَّبْيُ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
الْمُحْصَنَاتُ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ بِالسَّبْيِ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ وَأَزْوَاجُهُنَّ كُفَّارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُنَّ، وَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ يَشْمَلُ الْمَمْلُوكَةَ الْمُتَزَوِّجَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يَفْتَرِشَهَا بِالْإِجْمَاعِ! فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُمُومَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْبِبَّاتِ، وَسَكَتَ عَنِ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُتَزَوِّجَاتِ ; لِأَنَّ التَّزَوُّجَ بِالْمَمْلُوكَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ، وَالذَّوْقِ وَالْعَقْلِ، فَهُوَ كَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ; وَلِذَلِكَ شَدَّدَ فِيهِ - كَمَا يَأْتِي - وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ التَّنْزِيلِ اهـ.
مَا فِي هَذَا الْأَخِيرِ مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى بِلَادِهِنَّ فَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا حَيًّا عَادَتْ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا مَفْقُودًا تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ أَوْ كَانَ شَرُّ فِسْقِهَا عَلَى قَوْمِهَا؟ نَقُولُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ مَا فَرَضَ السَّبْيَ وَلَا أَوْجَبَهُ وَلَا حَرَّمَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ حَتَّى لِلسَّبَايَا أَنْفُسِهِنَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمِنْهَا أَنْ تَسْتَأْصِلَ الْحَرْبُ جَمِيعَ الرِّجَالِ مِنْ قَبِيلَةٍ مَحْدُودَةِ الْعَدَدِ مَثَلًا، فَإِنْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ تُرَدَّ السَّبَايَا إِلَى قَوْمِهِنَّ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ، أَوْ وَجَبَ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَكُلُّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ دِينِيَّةً - كَمَا قَيَّدْنَا - فَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ لِمَطَامِعِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِ الْمُلُوكِ فَلَا يُبَاحُ فِيهَا السَّبْيُ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
الْمُحْصَنَاتُ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ بِالسَّبْيِ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ وَأَزْوَاجُهُنَّ كُفَّارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُنَّ، وَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ يَشْمَلُ الْمَمْلُوكَةَ الْمُتَزَوِّجَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يَفْتَرِشَهَا بِالْإِجْمَاعِ! فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُمُومَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْبِبَّاتِ، وَسَكَتَ عَنِ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُتَزَوِّجَاتِ ; لِأَنَّ التَّزَوُّجَ بِالْمَمْلُوكَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ، وَالذَّوْقِ وَالْعَقْلِ، فَهُوَ كَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ; وَلِذَلِكَ شَدَّدَ فِيهِ - كَمَا يَأْتِي - وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ التَّنْزِيلِ اهـ.
5
أَقُولُ: وَالَّذِي تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي أَنَّ الْمُرَادَ بِـ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ هُنَا نُشُوءُ الْمِلْكِ وَحُدُوثُهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ لَا يُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ، فَالْمَعْنَى: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ أَيِ الْمُتَزَوِّجَاتُ إِلَّا مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْمِلْكُ، وَإِنَّمَا يَطْرَأُ الْمِلْكُ عَلَى الْمُتَزَوِّجَةِ بِالسَّبْيِ بِشَرْطِهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ الَّتِي زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا فَالزَّوَاجُ فِيهَا هُوَ الَّذِي طَرَأَ عَلَى الْمِلْكِ بِجَعْلِ الْمِلْكِ مَا لَهُ مِنْ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا الْمَالِكُ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِنَحْوِ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ كَانَ بَائِعًا أَوْ وَاهِبًا مَا يَمْلِكُهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي صَارَ حَقَّ الزَّوْجِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمِلْكَ الْجَدِيدَ يُبْطِلُ نِكَاحَهَا فَتُطَلَّقُ عَلَى زَوْجِهَا وَتَحِلُّ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ عَمَلًا بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورَ الْإِمَامِيَّةِ، وَلَوْلَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ
بِزَوَاجِ الْأَمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ الْبَائِعِ أَوِ الْوَاهِبِ إِنَّمَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ مَا يَمْلِكُ، لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحَ مِنْ مَذْهَبِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا يَعُمُّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالْعَفِيفَاتِ وَالْحَرَائِرَ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَعُمُّ مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالتَّسَرِّي، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ كُلُّ أَجْنَبِيَّةٍ إِلَّا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ بِمِلْكِ الْعَيْنِ الَّذِي يَتْبَعُهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَالسُّدِّيِّ مِنْ مُفَسِّرِي التَّابِعِينَ، وَفُقَهَائِهِمْ وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا تَرَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ كَافِرَةً وَسَبَاهَا الْمُسْلِمُونَ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا بِالسَّبْيِ أَوْلَى مِنْ بُطْلَانِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ أَيْ: كَتَبَ اللهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ النِّسَاءِ كِتَابًا مُؤَكَّدًا ; أَيْ: فَرَضَهُ فَرْضًا ثَابِتًا مُحْكَمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَكُمْ فِيهِ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ (٤: ٢٦).
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (وَأُحِلَّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، [٤: ٢٣) (فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْطُوفًا عَلَى " كَتَبَ " الْمُقَدَّرَةِ النَّاصِبَةِ لِقَوْلِهِ: كِتَابَ اللهِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ اللَّفْظِ وَلَا مَانِعَ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى حُرِّمَتْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُحَرِّمَ هُنَاكَ هُوَ الْمُحَلِّلُ هُنَا وَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالْمُرَادُ بِـ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ الْمُبِينُ تَحْرِيمُهُ هُوَ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا فَحْوَاهُ فَهُوَ لِكَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ بِنَصٍّ ظَاهِرٍ، وَلَا قِيَاسٍ وَاضِحٍ، جَعَلَ وَرَاءَهُ خَارِجًا عَنْ مُحِيطِ مَدْلُولِهِ وَإِفَادَتِهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا لَيْسَ وَرَاءَهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (٤: ٢٣)، وَكَذَلِكَ كَوْنُ مُحَرَّمَاتِ الرَّضَاعِ سَبْعًا كَمُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ.
بِزَوَاجِ الْأَمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ الْبَائِعِ أَوِ الْوَاهِبِ إِنَّمَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ مَا يَمْلِكُ، لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحَ مِنْ مَذْهَبِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا يَعُمُّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالْعَفِيفَاتِ وَالْحَرَائِرَ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَعُمُّ مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالتَّسَرِّي، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ كُلُّ أَجْنَبِيَّةٍ إِلَّا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ بِمِلْكِ الْعَيْنِ الَّذِي يَتْبَعُهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَالسُّدِّيِّ مِنْ مُفَسِّرِي التَّابِعِينَ، وَفُقَهَائِهِمْ وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا تَرَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ كَافِرَةً وَسَبَاهَا الْمُسْلِمُونَ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا بِالسَّبْيِ أَوْلَى مِنْ بُطْلَانِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ أَيْ: كَتَبَ اللهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ النِّسَاءِ كِتَابًا مُؤَكَّدًا ; أَيْ: فَرَضَهُ فَرْضًا ثَابِتًا مُحْكَمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَكُمْ فِيهِ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ (٤: ٢٦).
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (وَأُحِلَّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، [٤: ٢٣) (فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْطُوفًا عَلَى " كَتَبَ " الْمُقَدَّرَةِ النَّاصِبَةِ لِقَوْلِهِ: كِتَابَ اللهِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ اللَّفْظِ وَلَا مَانِعَ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى حُرِّمَتْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُحَرِّمَ هُنَاكَ هُوَ الْمُحَلِّلُ هُنَا وَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالْمُرَادُ بِـ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ الْمُبِينُ تَحْرِيمُهُ هُوَ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا فَحْوَاهُ فَهُوَ لِكَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ بِنَصٍّ ظَاهِرٍ، وَلَا قِيَاسٍ وَاضِحٍ، جَعَلَ وَرَاءَهُ خَارِجًا عَنْ مُحِيطِ مَدْلُولِهِ وَإِفَادَتِهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا لَيْسَ وَرَاءَهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (٤: ٢٣)، وَكَذَلِكَ كَوْنُ مُحَرَّمَاتِ الرَّضَاعِ سَبْعًا كَمُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ.
6
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ مِنْ أَكْثَرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَبَقِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ غَيْرُ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ، وَمِثْلُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، وَقَدْ
قَالَ: إِنَّهُ أُحِلَّ لَنَا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَرُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ آنِفًا وَنَحْوُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِجْمَاعًا أَوْ بِنُصُوصٍ أُخْرَى كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَالْمُشْرِكَةِ، وَالْمُرْتَدَّةِ! وَالْجَوَابُ: أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ يُؤْخَذُ مِمَّا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْضَهُ، فَدَخَلَ فِي الْأُمَّهَاتِ الْجَدَّاتُ، وَفِي الْبَنَاتِ بَنَاتُ الْأَوْلَادِ إِلَخْ، وَبَعْضُهَا يُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَلَى مُطَلِّقِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَالسِّرُّ فِي النَّصِّ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ يُعْلِمُنَا بِالنَّصِّ عَلَى الْوَاقِعِ أَلَّا نَتَعَرَّضَ إِلَّا لِلْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ الْمَفْرُوضَةَ وَالْمُتَخَيَّلَةَ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ لَهَا وَلَا الِاشْتِغَالُ بِهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ (٤: ٢٢)، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيَانًا لَهَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا حُرِّمَ لِسَبَبٍ آخَرَ كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا ذُكِرَ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمْ لَا، فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا هَاهُنَا جَمِيعَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعَةِ وَالصِّهْرِ، وَهُوَ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلُّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمُحَرَّمَاتِ بِنَصٍّ أَوْ دَلَالَةٍ كَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ، وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ إِلَخْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ حِلُّ مَا حُرِّمَ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى لِسَبَبٍ عَارِضٍ يَزُولُ بِزَوَالِهِ كَنِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالْمُرْتَدَّةِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ لِلْمُتَعَلِّمِ عِنْدَمَا تَقْرَأُ لَهُ كِتَابَ الطَّهَارَةِ: لَا تَلْبَسْ ثَوْبًا مُتَنَجِّسًا، ثُمَّ تَقُولَ لَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ كِتَابِ اللِّبَاسِ: لَا تَلْبَسِ الْحَرِيرَ وَلَا الْمَنْسُوجَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَالْبَسْ كُلَّ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّيَابِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيهَا، فَهَلْ تُدْخِلُ فِي عُمُومِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّوْبَ الْمُنَجَّسَ؟ لَا. لَا، إِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَسْمَحُ لَهُ السِّيَاقُ، وَالْمَقَامُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، فَإِذَا كَانَ السِّيَاقُ فِي نَوْعٍ لَهُ جِنْسٌ أَوْ أَجْنَاسٌ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ خُرُوجَ الْعَامِّ عَنْ سِيَاقِ النَّوْعِ وَتَنَاوُلَهُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ السَّافِلِ أَوِ الْعَالِي لِذَلِكَ النَّوْعِ، فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْبُسْتَانِ لِلْفَعَلَةِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الْأَشْجَارَ غَيْرَ الْمُثْمِرَةِ لِتَكُونَ خَشَبًا: لَا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ الصَّغِيرَ وَاقْطَعُوا كُلَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الْكُلِّيَّةِ أَفْرَادُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ
لَا جِنْسَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَعُمُّ الْمُثْمِرَ، وَمِثَلُ الثِّيَابِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَشْبَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مَعْنَاهُ: أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَبْتَغُوهُ
قَالَ: إِنَّهُ أُحِلَّ لَنَا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَرُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ آنِفًا وَنَحْوُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِجْمَاعًا أَوْ بِنُصُوصٍ أُخْرَى كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَالْمُشْرِكَةِ، وَالْمُرْتَدَّةِ! وَالْجَوَابُ: أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ يُؤْخَذُ مِمَّا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْضَهُ، فَدَخَلَ فِي الْأُمَّهَاتِ الْجَدَّاتُ، وَفِي الْبَنَاتِ بَنَاتُ الْأَوْلَادِ إِلَخْ، وَبَعْضُهَا يُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَلَى مُطَلِّقِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَالسِّرُّ فِي النَّصِّ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ يُعْلِمُنَا بِالنَّصِّ عَلَى الْوَاقِعِ أَلَّا نَتَعَرَّضَ إِلَّا لِلْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ الْمَفْرُوضَةَ وَالْمُتَخَيَّلَةَ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ لَهَا وَلَا الِاشْتِغَالُ بِهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ (٤: ٢٢)، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيَانًا لَهَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا حُرِّمَ لِسَبَبٍ آخَرَ كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا ذُكِرَ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمْ لَا، فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا هَاهُنَا جَمِيعَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعَةِ وَالصِّهْرِ، وَهُوَ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلُّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمُحَرَّمَاتِ بِنَصٍّ أَوْ دَلَالَةٍ كَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ، وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ إِلَخْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ حِلُّ مَا حُرِّمَ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى لِسَبَبٍ عَارِضٍ يَزُولُ بِزَوَالِهِ كَنِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالْمُرْتَدَّةِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ لِلْمُتَعَلِّمِ عِنْدَمَا تَقْرَأُ لَهُ كِتَابَ الطَّهَارَةِ: لَا تَلْبَسْ ثَوْبًا مُتَنَجِّسًا، ثُمَّ تَقُولَ لَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ كِتَابِ اللِّبَاسِ: لَا تَلْبَسِ الْحَرِيرَ وَلَا الْمَنْسُوجَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَالْبَسْ كُلَّ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّيَابِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيهَا، فَهَلْ تُدْخِلُ فِي عُمُومِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّوْبَ الْمُنَجَّسَ؟ لَا. لَا، إِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَسْمَحُ لَهُ السِّيَاقُ، وَالْمَقَامُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، فَإِذَا كَانَ السِّيَاقُ فِي نَوْعٍ لَهُ جِنْسٌ أَوْ أَجْنَاسٌ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ خُرُوجَ الْعَامِّ عَنْ سِيَاقِ النَّوْعِ وَتَنَاوُلَهُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ السَّافِلِ أَوِ الْعَالِي لِذَلِكَ النَّوْعِ، فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْبُسْتَانِ لِلْفَعَلَةِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الْأَشْجَارَ غَيْرَ الْمُثْمِرَةِ لِتَكُونَ خَشَبًا: لَا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ الصَّغِيرَ وَاقْطَعُوا كُلَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الْكُلِّيَّةِ أَفْرَادُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ
لَا جِنْسَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَعُمُّ الْمُثْمِرَ، وَمِثَلُ الثِّيَابِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَشْبَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مَعْنَاهُ: أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَبْتَغُوهُ
7
أَوْ إِرَادَةَ أَنْ تَبْتَغُوهُ، أَيْ تَطْلُبُوهُ بِأَمْوَالِكُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: أَحَلَّهُ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوهُ، أَيْ أَحَلَّ لَكُمْ طَلَبَهُ بِأَمْوَالِكُمْ تَدْفَعُونَهَا مَهْرًا لِلزَّوْجَةِ، أَوْ ثَمَنًا لِلْأَمَةِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ قَصْدُ إِحْصَانِ الْأَمَةِ كَمَا يَجِبُ قَصْدُ إِحْصَانِ الزَّوْجَةِ لِقَوْلِهِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَإِنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِلْعَامِلِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ مُحْصِنِينَ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ، أَيْ مُحْصِنِينَ أَنْفُسَكُمْ وَمَنْ تَطْلُبُونَهَا بِمَا لَكُمْ بِاسْتِغْنَاءِ كُلٍّ مِنْكُمَا بِالْآخَرِ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُحَرَّمِ ; فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تَسُوقُ كُلَّ ذَكَرٍ بِدَاعِيَةِ النَّسْلِ إِلَى الِاتِّصَالِ بِأُنْثَى، وَكُلَّ أُنْثَى إِلَى الِاتِّصَالِ بِذَكَرٍ لِيَزْدَوِجَا وَيُنْتِجَا، وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي يَمْنَعُ هَذِهِ الدَّاعِيَةَ الْفِطْرِيَّةَ أَنْ تَذْهَبَ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَيَتَّصِلَ كُلُّ ذَكَرٍ بِأَيَّةِ امْرَأَةٍ وَاتَتْهُ وَكُلُّ امْرَأَةٍ بِأَيِّ رَجُلٍ وَاتَاهَا، بِأَنْ يَكُونَ غَرَضُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْمُشَارَكَةَ فِي سَفْحِ الْمَاءِ الَّذِي تُفْرِزُهُ الْفِطْرَةُ لِإِيثَارِ اللَّذَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْبَشَرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّاعِيَةُ الْفِطْرِيَّةُ سَائِقَةً لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسَيْنِ؛ لِأَنْ يَعِيشَ مَعَ فَرْدٍ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ عِيشَةَ الِاخْتِصَاصِ لِتَتَكَوَّنَ بِذَلِكَ الْبُيُوتُ وَيَتَعَاوَنَ الزَّوْجَانِ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمَا، فَإِذَا انْتَفَى قَصْدُ هَذَا الْإِحْصَانِ انْحَصَرَتْ طَاعَةُ الدَّاعِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ فِي قَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَسَادُ الْعَامُّ الَّذِي لَا تَنْحَصِرُ مَصَائِبُهُ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ أُمَّةُ فَرَنْسَا قَدْ قَلَّ فِيهَا النِّكَاحُ وَكَثُرَ السِّفَاحُ بِضَعْفِ الدِّينِ فِي عَاصِمَتِهَا (بَارِيسَ) وَأُمَّهَاتِ مُدُنِهَا، فَقَلَّ نَسْلُهَا، وَوَقَفَ نَمَاؤُهَا، وَفَتَكَ النِّسَاءُ، وَمَسَنَ الرِّجَالُ، وَضَعُفَتِ الدَّوْلَةُ فَصَارَتْ دُونَ خَصْمِهَا حَتَّى اضْطُرَّتْ إِلَى الِاعْتِزَازِ بِمُحَالَفَةِ دَوْلَةٍ مُضَادَّةٍ لَهَا فِي شَكْلِ حُكُومَتِهَا وَمَدَنِيَّتِهَا وَهِيَ الدَّوْلَةُ الرُّوسِيَّةُ، وَلَوْلَا الثَّرْوَةُ الْوَاسِعَةُ وَالْعُلُومُ الزَّاخِرَةُ وَالسِّيَاسَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى أُصُولِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ لَأَسْرَعَ إِلَيْهَا الْهَلَاكُ كَمَا أَسْرَعَ إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي كَثُرَ مُتْرَفُوهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الثَّابِتُ فِي سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ فَدَمَّرَهَا اللهُ تَدْمِيرًا، وَمَا أُرَاهَا إِلَّا أَوَّلَ دَوْلَةٍ تَسْقُطُ فِي أُورُوبَّا إِذَا ظَلَّ هَذَا الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ عَلَى هَذَا النَّمَاءِ فِيهَا.
وَقَدْ خَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَصْدَ الْإِحْصَانِ بِالرِّجَالِ، وَخَصَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِالنِّسَاءِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ إِحْصَانَ الْمَرْأَةِ وَحِفْظَهَا أَنْ يَنَالَهَا أَحَدٌ سِوَاهُ؛ لِيَكُنَّ عَفِيفَاتٍ طَاهِرَاتٍ، وَلَا يَكُونُ التَّزَوُّجُ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ وَسَفْحِ الْمَاءِ وَإِرَاقَتِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَجَلُ اهـ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَتَتِمُّ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ مَا قَصَّرَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِحْصَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِعْطَاءِ الْمَرْأَةِ حَقَّهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَعَمُّدُ التَّقْصِيرِ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ الْفِسْقُ ; فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِفْسَادَ الْبُيُوتِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْسَادُ الْأُمَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِمَمْلُوكَتِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِزَوْجَتِهِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُهَا مِنَ الزِّنَا، فَهَلْ يَكْفِي هَذَا الْمَنْعُ فِي إِحْصَانِ الْأَمَةِ دُونَ إِحْصَانِ الزَّوْجَةِ، أَمْ يَقُولُونَ: إِنَّ شِرَاءَ الْإِمَاءِ لِأَجْلِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقَدْ خَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَصْدَ الْإِحْصَانِ بِالرِّجَالِ، وَخَصَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِالنِّسَاءِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ إِحْصَانَ الْمَرْأَةِ وَحِفْظَهَا أَنْ يَنَالَهَا أَحَدٌ سِوَاهُ؛ لِيَكُنَّ عَفِيفَاتٍ طَاهِرَاتٍ، وَلَا يَكُونُ التَّزَوُّجُ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ وَسَفْحِ الْمَاءِ وَإِرَاقَتِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَجَلُ اهـ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَتَتِمُّ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ مَا قَصَّرَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِحْصَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِعْطَاءِ الْمَرْأَةِ حَقَّهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَعَمُّدُ التَّقْصِيرِ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ الْفِسْقُ ; فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِفْسَادَ الْبُيُوتِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْسَادُ الْأُمَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِمَمْلُوكَتِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِزَوْجَتِهِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُهَا مِنَ الزِّنَا، فَهَلْ يَكْفِي هَذَا الْمَنْعُ فِي إِحْصَانِ الْأَمَةِ دُونَ إِحْصَانِ الزَّوْجَةِ، أَمْ يَقُولُونَ: إِنَّ شِرَاءَ الْإِمَاءِ لِأَجْلِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
8
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُمْ وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ وَمُنْطَبِقًا عَلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ؟
الْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ فِيهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحِكَمِهِ الْعَالِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى بَيْنَ الْأُمَمِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مَنْعًا باتًّا وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ مَصَائِبَهُ وَمَهَّدَ السُّبُلَ لِمَنْعِهِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتٌ تَقْتَضِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ مَنْعَهُ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ تُعَارِضُ الْمَنْعَ وَتُرَجِّحُ عَلَيْهِ، كَانَ لِأُولِي الْأَمْرِ مَنْعُهُ ; فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ تَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ إِبْطَالِ الْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحَلَّ إِبَاحَةِ الِاسْتِرْقَاقِ الْحَرْبُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي يُحَارِبُنَا فِيهَا الْكُفَّارُ، وَنُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِنَا كَمَنْعِنَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَدْ خَيَّرَ اللهُ تَعَالَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا فِي أَسْرَى هَذِهِ الْحَرْبِ لِقَوْلِهِ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً (٤٧: ٤)، أَيْ: فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ وَتُطْلِقُوهُمْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمْ فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، (٤٧: ٤)، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: آلَاتَهَا وَأَثْقَالَهَا الَّتِي لَا تَقُومُ إِلَّا بِهَا كَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَيْ: حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ اهـ، وَالْمُسَالِمُ مَنْ لَا يُحَارِبُ
الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، فَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى مِنَ الرِّجَالِ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يُخْشَى أَنْ يَعُودُوا إِلَى حَرْبِنَا، أَفَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا ضَرَرَ مِنْ إِطْلَاقِهِنَّ وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي اسْتِرْقَاقِهِنَّ؟ وَنَاهِيكَ بِالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَأْرِيثِ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَسَائِرِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَوْقَ كُلِّ ضَرَرٍ، وَمَفْسَدَتَهُ شَرٌّ مِنْ كُلِّ مَفْسَدَةٍ.
هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ هُنَا إِلَى مَسْأَلَةٍ يَجْهَلُهَا الْعَوَامُّ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْقُرُونُ لَا الْأَعْوَامُ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ الشَّائِعَ الْمَعْرُوفَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَوِ الْعُصُورِ غَيْرُ شَرْعِيٍّ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي بِلَادِ السُّودَانِ، وَمَا كَانَ فِي بِلَادِ الْبِيضِ كَبَنَاتِ الشَّرَاكِسَةِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُبَعْنَ فِي الْآسِتَانَةِ جَهْرًا قَبْلَ الدُّسْتُورِ وَكُلُّهُنَّ حَرَائِرُ مِنْ بَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ، وَمَعَ هَذَا كُنْتَ تَرَى الْعُلَمَاءَ سَاكِتِينَ عَنْ بَيْعِهِنَّ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ بِغَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحَتَّى لَوْ سَأَلْتَ الْفَقِيهَ عَنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ شَرْحِهَا لَهُ لَأَفْتَاكَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِرْقَاقَ مُحَرَّمٌ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا قَالَ لَكَ: وَإِنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ مِثْلَهُ وَهُوَ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِأَحَدِ أَهْلِ الْآسِتَانَةِ وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا وَسَأَلْتُهُ: هَلْ بَقِيَ لِهَذَا الرَّقِيقِ الْبَاطِلِ أَثَرٌ هُنَا بَعْدَ الدُّسْتُورِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ وَغَيْرُ رَسْمِيٍّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحِجَازِ أَيْضًا، وَمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْمَلَ وَرَاءَ بَيَانِ حُرْمَةِ هَذَا الْعَمَلِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ!
الْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ فِيهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحِكَمِهِ الْعَالِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى بَيْنَ الْأُمَمِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مَنْعًا باتًّا وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ مَصَائِبَهُ وَمَهَّدَ السُّبُلَ لِمَنْعِهِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتٌ تَقْتَضِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ مَنْعَهُ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ تُعَارِضُ الْمَنْعَ وَتُرَجِّحُ عَلَيْهِ، كَانَ لِأُولِي الْأَمْرِ مَنْعُهُ ; فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ تَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ إِبْطَالِ الْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحَلَّ إِبَاحَةِ الِاسْتِرْقَاقِ الْحَرْبُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي يُحَارِبُنَا فِيهَا الْكُفَّارُ، وَنُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِنَا كَمَنْعِنَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَدْ خَيَّرَ اللهُ تَعَالَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا فِي أَسْرَى هَذِهِ الْحَرْبِ لِقَوْلِهِ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً (٤٧: ٤)، أَيْ: فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ وَتُطْلِقُوهُمْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمْ فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، (٤٧: ٤)، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: آلَاتَهَا وَأَثْقَالَهَا الَّتِي لَا تَقُومُ إِلَّا بِهَا كَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَيْ: حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ اهـ، وَالْمُسَالِمُ مَنْ لَا يُحَارِبُ
الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، فَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى مِنَ الرِّجَالِ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يُخْشَى أَنْ يَعُودُوا إِلَى حَرْبِنَا، أَفَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا ضَرَرَ مِنْ إِطْلَاقِهِنَّ وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي اسْتِرْقَاقِهِنَّ؟ وَنَاهِيكَ بِالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَأْرِيثِ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَسَائِرِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَوْقَ كُلِّ ضَرَرٍ، وَمَفْسَدَتَهُ شَرٌّ مِنْ كُلِّ مَفْسَدَةٍ.
هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ هُنَا إِلَى مَسْأَلَةٍ يَجْهَلُهَا الْعَوَامُّ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْقُرُونُ لَا الْأَعْوَامُ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ الشَّائِعَ الْمَعْرُوفَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَوِ الْعُصُورِ غَيْرُ شَرْعِيٍّ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي بِلَادِ السُّودَانِ، وَمَا كَانَ فِي بِلَادِ الْبِيضِ كَبَنَاتِ الشَّرَاكِسَةِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُبَعْنَ فِي الْآسِتَانَةِ جَهْرًا قَبْلَ الدُّسْتُورِ وَكُلُّهُنَّ حَرَائِرُ مِنْ بَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ، وَمَعَ هَذَا كُنْتَ تَرَى الْعُلَمَاءَ سَاكِتِينَ عَنْ بَيْعِهِنَّ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ بِغَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحَتَّى لَوْ سَأَلْتَ الْفَقِيهَ عَنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ شَرْحِهَا لَهُ لَأَفْتَاكَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِرْقَاقَ مُحَرَّمٌ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا قَالَ لَكَ: وَإِنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ مِثْلَهُ وَهُوَ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِأَحَدِ أَهْلِ الْآسِتَانَةِ وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا وَسَأَلْتُهُ: هَلْ بَقِيَ لِهَذَا الرَّقِيقِ الْبَاطِلِ أَثَرٌ هُنَا بَعْدَ الدُّسْتُورِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ وَغَيْرُ رَسْمِيٍّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحِجَازِ أَيْضًا، وَمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْمَلَ وَرَاءَ بَيَانِ حُرْمَةِ هَذَا الْعَمَلِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ!
9
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، الِاسْتِمْتَاعُ بِالشَّيْءِ هُوَ التَّمَتُّعُ أَوْ طُولُ التَّمَتُّعِ بِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَتَاعِ، أَيِ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ (٩: ٦٩)، أَيْ نَصِيبِكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي اسْتَمْتَعْتُمْ لِلتَّأْكِيدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلطَّلَبِ الَّذِي هُوَ الْغَالِبُ فِي مَعْنَاهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الصِّيغَةِ لِلطَّلَبِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَالْأُجُورُ: جَمْعُ أَجْرٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: الثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ الَّذِي يُعْطَى فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، ثُمَّ خُصَّ بَعْدَ زَمَنِ التَّنْزِيلِ
أَوْ غَلَبَ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْفَرِيضَةُ: الْحِصَّةُ الْمَفْرُوضَةُ أَيِ الْمُقَدَّرَةُ الْمُحَدَّدَةُ، مِنْ فَرْضِ الْخَشَبَةِ إِذَا حَزَّهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَدِّرُونَ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْمَقَايِيسِ وَالْأَعْدَادِ بِفَرْضِ الْخَشَبِ، وَأَقْرَبُ شَاهِدٍ عِنْدِي عَلَى هَذَا مَا يُفْرَضُ عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ اللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ، حَيْثُ أُقِيمُ الْآنَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَبَائِعُ اللَّبَنِ بُلْغَارِيٌّ وَأَصْحَابُ الْبَيْتِ الَّذِي أُقِيمُ فِيهِ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ لِي مِنْهُ، وَيَفْرِضُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَرْضًا فِي خَشَبَةٍ، وَفِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ يُحَاسِبُونَنِي وَيُحَاسِبُونَهُ بِهَذِهِ الْفُرُوضِ.
وَيُطْلَقُ الْفَرْضُ وَالْفَرِيضَةُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللهُ مِنَ التَّكَالِيفِ إِيجَابًا حَتْمًا ; لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْخَشَبِ يَكُونُ قَطْعِيًّا لَا مَحَلَّ لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى، فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ مِنْ أُولَئِكَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا تَزَوُّجَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمُ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، أَيْ: تَزَوَّجْتُمُوهَا فَأَعْطُوهَا الْأَجْرَ وَالْجَزَاءَ بَعْدَ أَنْ تَفْرِضُوهُ لَهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (٤: ٤)، أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاحِظَ فِي الْمَهْرِ غِنًى أَعْلَى مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ وَالْعِوَضِ؛ فَإِنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُلَاحَظَ فِيهِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَأَقُولُ: إِنَّ تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ هُنَا أَجْرًا، أَيْ ثَوَابًا وَجَزَاءً لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَعْنَى سُكُونِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَارْتِبَاطِهِ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الرُّومِ، كَمَا لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ حُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِالْمُسَاوَاةِ ص ٣٠٠ ج٢ [الْهَيْئَةُ الْعَامَّةُ لِلْكِتَابِ]، وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ دَرَجَةً هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ، وَرِيَاسَةِ الْمَنْزِلِ الَّذِي يُعَمِّرَانِهِ، وَالْعَشِيرَةِ الَّتِي يُكَوِّنَانِهَا بِالِاشْتِرَاكِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ هُوَ فَاعِلَ الِاسْتِمْتَاعِ، أَيِ الِانْتِفَاعِ، وَهِيَ الْقَابِلَةُ لَهُ وَالْمُوَاتِيَةُ فِيهِ، فَرَضَ لَهَا سُبْحَانَهُ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الِامْتِيَازِ الَّذِي جَعَلَهُ لِلرَّجُلِ جَزَاءً وَأَجْرًا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهَا، وَيَتِمُّ بِهِ الْعَدْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَالْمَهْرُ لَيْسَ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ، وَلَا جَزَاءً لِلزَّوْجِيَّةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا سِرُّهُ وَحِكْمَتُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهَا جَامِعٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ الْآنَ، وَلَمْ يَكُنْ خَطَرَ عَلَى بَالِي مِنْ قَبْلُ عَلَى وُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَهَلْ يُعْطَى هَذَا الْأَجْرُ الْمَفْرُوضُ وَالْمَهْرُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ أَوْ بَعْدَهُ؟
إِذَا قُلْنَا:
أَوْ غَلَبَ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْفَرِيضَةُ: الْحِصَّةُ الْمَفْرُوضَةُ أَيِ الْمُقَدَّرَةُ الْمُحَدَّدَةُ، مِنْ فَرْضِ الْخَشَبَةِ إِذَا حَزَّهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَدِّرُونَ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْمَقَايِيسِ وَالْأَعْدَادِ بِفَرْضِ الْخَشَبِ، وَأَقْرَبُ شَاهِدٍ عِنْدِي عَلَى هَذَا مَا يُفْرَضُ عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ اللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ، حَيْثُ أُقِيمُ الْآنَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَبَائِعُ اللَّبَنِ بُلْغَارِيٌّ وَأَصْحَابُ الْبَيْتِ الَّذِي أُقِيمُ فِيهِ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ لِي مِنْهُ، وَيَفْرِضُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَرْضًا فِي خَشَبَةٍ، وَفِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ يُحَاسِبُونَنِي وَيُحَاسِبُونَهُ بِهَذِهِ الْفُرُوضِ.
وَيُطْلَقُ الْفَرْضُ وَالْفَرِيضَةُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللهُ مِنَ التَّكَالِيفِ إِيجَابًا حَتْمًا ; لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْخَشَبِ يَكُونُ قَطْعِيًّا لَا مَحَلَّ لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى، فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ مِنْ أُولَئِكَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا تَزَوُّجَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمُ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، أَيْ: تَزَوَّجْتُمُوهَا فَأَعْطُوهَا الْأَجْرَ وَالْجَزَاءَ بَعْدَ أَنْ تَفْرِضُوهُ لَهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (٤: ٤)، أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاحِظَ فِي الْمَهْرِ غِنًى أَعْلَى مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ وَالْعِوَضِ؛ فَإِنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُلَاحَظَ فِيهِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَأَقُولُ: إِنَّ تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ هُنَا أَجْرًا، أَيْ ثَوَابًا وَجَزَاءً لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَعْنَى سُكُونِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَارْتِبَاطِهِ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الرُّومِ، كَمَا لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ حُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِالْمُسَاوَاةِ ص ٣٠٠ ج٢ [الْهَيْئَةُ الْعَامَّةُ لِلْكِتَابِ]، وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ دَرَجَةً هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ، وَرِيَاسَةِ الْمَنْزِلِ الَّذِي يُعَمِّرَانِهِ، وَالْعَشِيرَةِ الَّتِي يُكَوِّنَانِهَا بِالِاشْتِرَاكِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ هُوَ فَاعِلَ الِاسْتِمْتَاعِ، أَيِ الِانْتِفَاعِ، وَهِيَ الْقَابِلَةُ لَهُ وَالْمُوَاتِيَةُ فِيهِ، فَرَضَ لَهَا سُبْحَانَهُ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الِامْتِيَازِ الَّذِي جَعَلَهُ لِلرَّجُلِ جَزَاءً وَأَجْرًا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهَا، وَيَتِمُّ بِهِ الْعَدْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَالْمَهْرُ لَيْسَ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ، وَلَا جَزَاءً لِلزَّوْجِيَّةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا سِرُّهُ وَحِكْمَتُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهَا جَامِعٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ الْآنَ، وَلَمْ يَكُنْ خَطَرَ عَلَى بَالِي مِنْ قَبْلُ عَلَى وُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَهَلْ يُعْطَى هَذَا الْأَجْرُ الْمَفْرُوضُ وَالْمَهْرُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ أَوْ بَعْدَهُ؟
إِذَا قُلْنَا:
10
إِنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي: اسْتَمْتَعْتُمْ لِلطَّلَبِ يَكُونُ الْمَعْنَى: فَمَنْ طَلَبْتُمْ أَنْ تَتَمَتَّعُوا أَوْ تَنْتَفِعُوا بِتَزَوُّجِهَا فَأَعْطُوهَا الْمَهْرَ الَّذِي تَفْرِضُونَهُ لَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ عَطَاءَ فَرِيضَةٍ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ فَرِيضَةً تَفْرِضُونَهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِلطَّلَبِ، يَكُونُ الْمَعْنَى فَمَنْ تَمَتَّعْتُمْ بِتَزَوُّجِهَا مِنْهُنَّ بِأَنْ دَخَلْتُمْ بِهَا أَوْ صِرْتُمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الدُّخُولِ بِهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَعْطُوهَا مَهْرَهَا عَطَاءَ فَرِيضَةٍ، أَوِ افْرِضُوهُ لَهَا فَرِيضَةً، أَوْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَرِيضَةً لَا هَوَادَةَ فِيهَا، أَوْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَهْرِ فَرِيضَةً مِنْكُمْ أَوْ مِنْهُ تَعَالَى، فَالْمَهْرُ يُفْرَضُ وَيُعَيَّنُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِيتَاءً وَإِعْطَاءً حَتَّى قَبْلَ الْقَبْضِ، يَقُولُونَ حَتَّى الْآنَ: عَقَدَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةَ وَأَمْهَرَهَا بِأَلْفٍ أَوْ أَعْطَاهَا عَشَرَةَ آلَافٍ مَثَلًا، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَيْضًا: فَرَضَ لَهَا كَذَا فَرِيضَةً ; وَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنَّ الَّذِي فَرَضَ الْفَرِيضَةَ هُوَ الزَّوْجُ بِتَقْدِيمِهِ فِي التَّقْدِيرِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً (٢: ٢٣٦)، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ (٢: ٢٣٧)، فَالْمَهْرُ يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ بِفَرْضِهِ وَتَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ وَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُعْطَى، وَالْعَادَةُ أَنْ يُعْطَى كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يُجِبُ كُلُّهُ إِلَّا بِالدُّخُولِ ; لِأَنَّ مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ لَا كُلُّهُ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْطَاؤُهُ بَعْدَهُ، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْمَرْأَةِ بِمُعَجَّلِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا، أَوْ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالدُّخُولِ، بَلْ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ الْمَعْهُودِ فَيَغْلِبُ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً.
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ: لَا حَرَجَ وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ تَعَالَى إِذَا تَرَاضَيْتُمْ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهَا أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا أَوْ حَطِّهَا كُلِّهَا، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ تَكُونُوا فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَمَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ تَصْلُحُ بِهَا شُئُونُكُمْ، وَتَرْتَقِي بِهَا أُمَّتُكُمْ، وَالشَّرْعُ يَضَعُ لَكُمْ قَوَاعِدَ الْعَدْلِ، وَيَهْدِيكُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَيَضَعُ لِعِبَادِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ بِحِكْمَتِهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ صَلَاحَ حَالِهِمْ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَوْجَبَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَفْرِضَ لِمَنْ يُرِيدُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا أَجْرًا يُكَافِئُهَا بِهِ عَلَى قَبُولِ قِيَامِهِ وَرِيَاسَتِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَذِنَ
لَهُ وَلَهَا فِي التَّرَاضِي عَلَى مَا يَرَيَانِ الْخَيْرَ فِيهِ لَهُمَا وَالِائْتِلَافَ وَالْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمَا.
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ ; فَإِنَّهَا قَدْ بَيَّنَتْ مَا يَحِلُّ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَا حُرِّمَ فِيمَا قَبْلَهَا وَفِي صَدْرِهَا، وَبَيَّنَتْ كَيْفِيَّتَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَالٍ يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ وَبِأَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِحْصَانَ دُونَ مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِسَفْحِ الْمَاءِ، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ " نِكَاحُ الْمُتْعَةِ ": وَهُوَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ شَهْرٍ مَثَلًا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ رُوِيَتْ عَنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَبِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ: لَا حَرَجَ وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ تَعَالَى إِذَا تَرَاضَيْتُمْ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهَا أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا أَوْ حَطِّهَا كُلِّهَا، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ تَكُونُوا فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَمَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ تَصْلُحُ بِهَا شُئُونُكُمْ، وَتَرْتَقِي بِهَا أُمَّتُكُمْ، وَالشَّرْعُ يَضَعُ لَكُمْ قَوَاعِدَ الْعَدْلِ، وَيَهْدِيكُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَيَضَعُ لِعِبَادِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ بِحِكْمَتِهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ صَلَاحَ حَالِهِمْ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَوْجَبَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَفْرِضَ لِمَنْ يُرِيدُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا أَجْرًا يُكَافِئُهَا بِهِ عَلَى قَبُولِ قِيَامِهِ وَرِيَاسَتِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَذِنَ
لَهُ وَلَهَا فِي التَّرَاضِي عَلَى مَا يَرَيَانِ الْخَيْرَ فِيهِ لَهُمَا وَالِائْتِلَافَ وَالْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمَا.
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ ; فَإِنَّهَا قَدْ بَيَّنَتْ مَا يَحِلُّ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَا حُرِّمَ فِيمَا قَبْلَهَا وَفِي صَدْرِهَا، وَبَيَّنَتْ كَيْفِيَّتَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَالٍ يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ وَبِأَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِحْصَانَ دُونَ مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِسَفْحِ الْمَاءِ، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ " نِكَاحُ الْمُتْعَةِ ": وَهُوَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ شَهْرٍ مَثَلًا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ رُوِيَتْ عَنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَبِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ
11
فِي الْمُتْعَةِ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ شَاذَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ قُرْآنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا صَحَّتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ مِنْ مِثْلِ هَذَا آحَادًا، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ فَهْمٌ لِصَاحِبِهِ، وَفَهْمُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ حُجَّةً فِي الدِّينِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ النَّظْمُ وَالْأُسْلُوبُ يَأْبَاهُ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالنِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ لَا يَقْصِدُ الْإِحْصَانَ دُونَ الْمُسَافَحَةِ، بَلْ يَكُونُ قَصْدُهُ الْأَوَّلُ الْمُسَافَحَةَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نَوْعٌ مَا مِنْ إِحْصَانِ نَفْسِهِ وَمَنْعِهَا مِنَ التَّنَقُّلِ فِي دِمَنِ الزِّنَا ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مَا مِنْ إِحْصَانِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُؤَجِّرُ نَفْسَهَا كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ لِرَجُلٍ فَتَكُونُ كَمَا قِيلَ:
ثُمَّ إِنَّهُ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى هَذَا، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٢٣: ٥ - ٧)، أَيِ: الْمُتَجَاوِزُونَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُمْ إِلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ لَا تُعَارِضُ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بَلْ هِيَ بِمَعْنَاهَا فَلَا نَسْخَ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَمَتَّعُ بِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً فَيَكُونُ لَهَا عَلَى الرَّجُلِ مِثْلُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشِّيعَةِ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا أَحْكَامَ الزَّوْجَةِ وَلَوَازِمَهَا، فَلَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْأَرْبَعِ اللَّوَاتِي تَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ، بَلْ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْكَثِيرِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا يَقُولُونَ بِرَجْمِ الزَّانِي الْمُتَمَتِّعِ إِذْ لَا يَعُدُّونَهُ مُحْصَنًا، وَذَلِكَ قَطْعٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُسْتَمْتِعِينَ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ صَرِيحٌ مِنْهُمْ، وَنَقَلَ عَنْهُمْ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَمَتَّعَ بِهَا لَيْسَ لَهَا إِرْثٌ وَلَا نَفَقَةٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عِدَّةٌ! وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا شِبْهَ دَلِيلٍ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَخِّصُ لِأَصْحَابِهِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا، ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا نَهْيًا مُؤَبَّدًا، وَأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ لِلْعِلْمِ بِمَشَقَّةِ اجْتِنَابِ الزِّنَا مَعَ الْبُعْدِ عَنْ نِسَائِهِمْ فَكَانَتْ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ خَلِيَّةٍ نِكَاحًا مُؤَقَّتًا وَأَقَامَ مَعَهَا ذَلِكَ الزَّمَنَ الَّذِي عَيَّنَهُ، فَذَلِكَ أَهْوَنُ مِنْ تَصَدِّيهِ لِلزِّنَا بِأَيَّةِ امْرَأَةٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَمِيلَهَا، وَيَرَى أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْمُتْعَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يَقْرُبُ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي مَنْعِ الزِّنَا مَنْعًا بَاتًّا كَمَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكِلْتَا الْفَاحِشَتَيْنِ كَانَتْ فَاشِيَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ فُشُوَّ الزِّنَا كَانَ فِي الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ بِالْمُتْعَةِ لَمْ تُنْسَخْ، أَوْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ وَالِاخْتِيَارِ، لَا فِي حَالِ الْعَنَتِ وَالِاضْطِرَارِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا فِي الْأَسْفَارِ، وَأَشْهَرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ بِهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ
كُرَةٌ حُذِفَتْ بِصَوَالِجَةٍ | فَتَلَقَّفَهَا رَجُلٌ رَجُلُ |
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَخِّصُ لِأَصْحَابِهِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا، ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا نَهْيًا مُؤَبَّدًا، وَأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ لِلْعِلْمِ بِمَشَقَّةِ اجْتِنَابِ الزِّنَا مَعَ الْبُعْدِ عَنْ نِسَائِهِمْ فَكَانَتْ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ خَلِيَّةٍ نِكَاحًا مُؤَقَّتًا وَأَقَامَ مَعَهَا ذَلِكَ الزَّمَنَ الَّذِي عَيَّنَهُ، فَذَلِكَ أَهْوَنُ مِنْ تَصَدِّيهِ لِلزِّنَا بِأَيَّةِ امْرَأَةٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَمِيلَهَا، وَيَرَى أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْمُتْعَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يَقْرُبُ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي مَنْعِ الزِّنَا مَنْعًا بَاتًّا كَمَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكِلْتَا الْفَاحِشَتَيْنِ كَانَتْ فَاشِيَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ فُشُوَّ الزِّنَا كَانَ فِي الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ بِالْمُتْعَةِ لَمْ تُنْسَخْ، أَوْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ وَالِاخْتِيَارِ، لَا فِي حَالِ الْعَنَتِ وَالِاضْطِرَارِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا فِي الْأَسْفَارِ، وَأَشْهَرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ بِهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ
12
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ فِيهَا قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ سَارَتْ بِفُتْيَاكَ الرُّكْبَانُ، وَقَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ، قَالَ: وَمَا قَالُوا؟ قُلْتُ: قَالُوا:
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، مَا بِهَذَا أَفْتَيْتُ! وَمَا هِيَ إِلَّا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا تَحِلُّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجِيزُهَا إِلَّا لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ، وَعَجَزَ عَنِ التَّزَوُّجِ الَّذِي مَبْنَى عَقْدِهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا مَفَرَّ لَهُ مِنَ الزِّنَا إِلَّا بِهَذَا الزَّوَاجِ الْمُوَقَّتِ، وَرَوَوْا أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ خَطَّأَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي رَأْيِهِ هَذَا، فَرَجَعَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلَدَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ مُقِيمٌ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ:
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (٢٣: ٦)، فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُعَارَضَةٌ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ، وَبِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا مَكِّيَّةٌ، وَبِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي التَّارِيخِ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُسَافِرُ إِلَى الْبَلَدِ فَيُقِيمُ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ مُعَرَّضِينَ لِلْقَتْلِ أَيْنَمَا ثُقِفُوا، نَعَمْ إِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَيْسَ مُحَالًا وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَمْ تَرِدْ بِهِ رِوَايَةٌ مُعَيَّنَةٌ عَنْ أَحَدٍ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ كَانَ شَائِعًا، فَعِبَارَةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَتِمُّ عَلَيْهَا وَتَشْهَدُ أَنَّهَا لُفِّقَتْ فِي عَهْدِ حَضَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، فَالْإِنْصَافُ أَنَّ مَجْمُوعَ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى إِصْرَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَلَى فَتْوَاهُ بِالْمُتْعَةِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ مُعَارَضٌ بِالنُّصُوصِ، وَيُقَابِلُهُ اجْتِهَادُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْعُمْدَةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِهَا وُجُوهٌ، (أَوَّلُهَا) : مَا عَلِمْتَ مِنْ مُنَافَاتِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، إِنْ لَمْ نَقُلْ لِنُصُوصِهِ، (وَثَانِيهَا) : الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَحْرِيمِهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ جَمَعَ مُتُونَهَا وَطُرُقَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ وَإِلَى شَرْحِ النَّوَوِيِّ لَهُ، وَكَذَا شَرْحُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ لِلْبُخَارِيِّ (وَثَالِثُهَا) : نَهْيُ عُمَرَ عَنْهَا فِي خِلَافَتِهِ وَإِشَادَتُهُ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ وَإِقْرَارُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ عَلَى مُنْكَرٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْجِعُونَهُ إِذَا أَخْطَأَ، وَمِنْهُ مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا (٤: ٢٠)، [رَاجِعْ ص ٣٧٥
قَدْ قُلْتُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ | يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ |
هَلْ لَكَ فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةٌ | تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ |
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (٢٣: ٦)، فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُعَارَضَةٌ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ، وَبِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا مَكِّيَّةٌ، وَبِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي التَّارِيخِ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُسَافِرُ إِلَى الْبَلَدِ فَيُقِيمُ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ مُعَرَّضِينَ لِلْقَتْلِ أَيْنَمَا ثُقِفُوا، نَعَمْ إِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَيْسَ مُحَالًا وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَمْ تَرِدْ بِهِ رِوَايَةٌ مُعَيَّنَةٌ عَنْ أَحَدٍ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ كَانَ شَائِعًا، فَعِبَارَةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَتِمُّ عَلَيْهَا وَتَشْهَدُ أَنَّهَا لُفِّقَتْ فِي عَهْدِ حَضَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، فَالْإِنْصَافُ أَنَّ مَجْمُوعَ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى إِصْرَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَلَى فَتْوَاهُ بِالْمُتْعَةِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ مُعَارَضٌ بِالنُّصُوصِ، وَيُقَابِلُهُ اجْتِهَادُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْعُمْدَةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِهَا وُجُوهٌ، (أَوَّلُهَا) : مَا عَلِمْتَ مِنْ مُنَافَاتِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، إِنْ لَمْ نَقُلْ لِنُصُوصِهِ، (وَثَانِيهَا) : الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَحْرِيمِهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ جَمَعَ مُتُونَهَا وَطُرُقَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ وَإِلَى شَرْحِ النَّوَوِيِّ لَهُ، وَكَذَا شَرْحُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ لِلْبُخَارِيِّ (وَثَالِثُهَا) : نَهْيُ عُمَرَ عَنْهَا فِي خِلَافَتِهِ وَإِشَادَتُهُ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ وَإِقْرَارُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ عَلَى مُنْكَرٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْجِعُونَهُ إِذَا أَخْطَأَ، وَمِنْهُ مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا (٤: ٢٠)، [رَاجِعْ ص ٣٧٥
13
وَمَا بَعْدَهَا جـ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، فَقَدْ خَطَّأَتْهُ امْرَأَةٌ فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهَا وَاعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْقُضُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنَ الشِّيعَةِ: إِنَّهُمْ سَكَتُوا تَقِيَّةً، وَقَدْ تَعَلَّقُوا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَنَا مُحَرِّمُهَا "، فَقَالُوا: إِنَّهُ حَرَّمَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَا يُعْتَدُّ بِتَحْرِيمِهِ، وَلَوْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى نَصٍّ لَذَكَرَهُ، وَأُجِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَسْنَدَ التَّحْرِيمَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيِّ، فَيَظْهَرُ أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ اللَّفْظَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، فَإِنْ صَحَّ أَنَّهُ لَفْظُهُ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مُبَيِّنٌ تَحْرِيمَهَا أَوْ مُنَفِّذٌ لَهُ، وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِسْنَادُ التَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ وَالْإِبَاحَةِ إِلَى مُبَيِّنِ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالُوا: حَرَّمَ الشَّافِعِيُّ النَّبِيذَ، وَأَحَلَّهُ أَوْ أَبَاحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، لَمْ يَعْنُوا أَنَّهُمَا شَرَّعَا ذَلِكَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ أَنَّهُمْ بَيَّنُوهُ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الدَّلِيلِ، وَقَدْ كُنَّا قُلْنَا فِي " مُحَاوَرَاتِ الْمُصْلِحِ وَالْمُقَلِّدِ " الَّتِي نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ: إِنَّ عُمَرَ مَنَعَ الْمُتْعَةَ اجْتِهَادًا مِنْهُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ فَنَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّاهِدِ وَالْمِثَالِ، لَا التَّمْحِيصِ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ.
وَتَقُولُ الشِّيعَةُ: إِنَّ لَدَيْهِمْ رِوَايَاتٍ عَنْ آلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَاطِعَةً بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَأَسَانِيدِهَا لِنَحْكُمَ فِيهَا فَأَيْنَ هِيَ؟ وَلَكِنْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ إِمَامَ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ مَعَ الْمُحَرِّمِينَ لَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْغُلَاةِ فِي التَّعَصُّبِ مِنْهُمْ: إِنَّا لَا نَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا رِوَايَةُ الْخَصْمِ؛ وَلِأَنَّ شِيعَتَهُ أَعْلَمُ بِأَقْوَالِهِ، وَيُجِيبُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنَّهُ تَمْوِيهٌ وَمُغَالَطَةٌ ; فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي كَانَتِ الشِّيعَةُ بِهَا شِيعَةً، وَأَهْلُ السُّنَّةِ هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي يُهِمُّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يُحَرِّرَ الرِّوَايَةَ فِيهَا عَنْ عُلَمَاءِ الصَّاحِبَةِ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كَوْنِ عَلِيٍّ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ رُوَاةَ الْأَحَادِيثِ الْمُدَوَّنَةِ فِي دَوَاوِينِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ قِسْمَانِ: مِنْهُمُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ مَذْهَبًا فَيُتَّهَمُوا بِتَأْيِيدِهِ بِالرِّوَايَاتِ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَالرِّوَايَةُ هِيَ الْأَصْلُ وَإِلَّا مَا صَحَّ مِنْهَا يَذْهَبُونَ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلْمَذَاهِبِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، وَقَدْ كَانَ عُدُولُهُمْ يَرْوُونَ مَا يُوَافِقُهَا وَمَا يُخَالِفُهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ اللهَ بِالصِّدْقِ فِي الرِّوَايَةِ وَيَكِلُونَ إِلَى فُقَهَائِهِمْ بَيَانَ مَعْنَاهَا وَتَرْجِيحَ الْمُتَعَارَضِ مِنْهَا، بَلْ لَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْ طَعْنٍ فِي بَعْضِ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ، فَعَدَالَةُ الرُّوَاةِ هِيَ الْعُمْدَةُ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى قَوَاعِدِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَرَاجِمِ الرِّجَالِ وَتَمْحِيصِ مَا قِيلَ فِي جَرْحِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْكِرَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ كَانَتْ سَبَبًا لِلْوَضْعِ وَالْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ نَقْدَ الرُّوَاةِ الْمُقَلِّدِينَ هُوَ أَهَمُّ مَسَائِلِ هَذَا الْفَنِّ، وَلَكِنَّ مَسْأَلَةَ الْمُتْعَةِ لَمْ تَكُنْ فِي عَصْرِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ عَدَّلَ الْمُحَدِّثُونَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ أَنَّهُمْ بَيَّنُوهُ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الدَّلِيلِ، وَقَدْ كُنَّا قُلْنَا فِي " مُحَاوَرَاتِ الْمُصْلِحِ وَالْمُقَلِّدِ " الَّتِي نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ: إِنَّ عُمَرَ مَنَعَ الْمُتْعَةَ اجْتِهَادًا مِنْهُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ فَنَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّاهِدِ وَالْمِثَالِ، لَا التَّمْحِيصِ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ.
وَتَقُولُ الشِّيعَةُ: إِنَّ لَدَيْهِمْ رِوَايَاتٍ عَنْ آلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَاطِعَةً بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَأَسَانِيدِهَا لِنَحْكُمَ فِيهَا فَأَيْنَ هِيَ؟ وَلَكِنْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ إِمَامَ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ مَعَ الْمُحَرِّمِينَ لَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْغُلَاةِ فِي التَّعَصُّبِ مِنْهُمْ: إِنَّا لَا نَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا رِوَايَةُ الْخَصْمِ؛ وَلِأَنَّ شِيعَتَهُ أَعْلَمُ بِأَقْوَالِهِ، وَيُجِيبُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنَّهُ تَمْوِيهٌ وَمُغَالَطَةٌ ; فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي كَانَتِ الشِّيعَةُ بِهَا شِيعَةً، وَأَهْلُ السُّنَّةِ هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي يُهِمُّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يُحَرِّرَ الرِّوَايَةَ فِيهَا عَنْ عُلَمَاءِ الصَّاحِبَةِ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كَوْنِ عَلِيٍّ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ رُوَاةَ الْأَحَادِيثِ الْمُدَوَّنَةِ فِي دَوَاوِينِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ قِسْمَانِ: مِنْهُمُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ مَذْهَبًا فَيُتَّهَمُوا بِتَأْيِيدِهِ بِالرِّوَايَاتِ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَالرِّوَايَةُ هِيَ الْأَصْلُ وَإِلَّا مَا صَحَّ مِنْهَا يَذْهَبُونَ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلْمَذَاهِبِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، وَقَدْ كَانَ عُدُولُهُمْ يَرْوُونَ مَا يُوَافِقُهَا وَمَا يُخَالِفُهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ اللهَ بِالصِّدْقِ فِي الرِّوَايَةِ وَيَكِلُونَ إِلَى فُقَهَائِهِمْ بَيَانَ مَعْنَاهَا وَتَرْجِيحَ الْمُتَعَارَضِ مِنْهَا، بَلْ لَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْ طَعْنٍ فِي بَعْضِ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ، فَعَدَالَةُ الرُّوَاةِ هِيَ الْعُمْدَةُ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى قَوَاعِدِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَرَاجِمِ الرِّجَالِ وَتَمْحِيصِ مَا قِيلَ فِي جَرْحِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْكِرَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ كَانَتْ سَبَبًا لِلْوَضْعِ وَالْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ نَقْدَ الرُّوَاةِ الْمُقَلِّدِينَ هُوَ أَهَمُّ مَسَائِلِ هَذَا الْفَنِّ، وَلَكِنَّ مَسْأَلَةَ الْمُتْعَةِ لَمْ تَكُنْ فِي عَصْرِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ عَدَّلَ الْمُحَدِّثُونَ
14
مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَثِيرًا مِنَ الشِّيعَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَا سَعَةَ فِي التَّفْسِيرِ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ بَلْ أَخْشَى أَنْ أَكُونَ قَدْ خَرَجْتُ بِهَذَا الْبَحْثِ عَنْ مِنْهَاجِي فِيهِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ
الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَعَنِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ تَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَادِيهِمْ، عَلَى أَنَّنِي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنَ التَّعَصُّبِ وَالتَّحَيُّزِ إِلَى غَيْرِ مَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ الْحَقُّ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَقَدْ بَدَأْتُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْبَحْثِ وَأَنَا أَنْوِي أَلَّا أَكْتُبَ فِيهِ إِلَّا بِضْعَةَ أَسْطُرٍ ; لِأَنَّنِي لَا أُرِيدُ تَحْرِيرَ الْقَوْلِ فِي الرِّوَايَاتِ هُنَا، وَلَيْسَ عِنْدِي حَيْثُ أَكْتُبُ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ فَأُرَاجِعَهَا فِيهِ، وَلَكِنْ مَا كَتَبْتُهُ هُوَ صَفْوَتَهَا وَصَفْوَةَ مَا قَالُوهُ فِيهَا، فَإِنِ اطَّلَعْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلشِّيعَةِ بِأَسَانِيدِهَا، فَرُبَّمَا نَكْتُبُ فِي ذَلِكَ مَقَالًا نُمَحِّصُ فِيهِ مَا وَرَدَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْكُمُ فِيهِ بِمَا نَعْتَقِدُ مِنْ قَوَاعِدِ التَّعَرُّضِ وَالتَّرْجِيحِ وَنَنْشُرُ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ.
هَذَا، وَإِنَّ تَشْدِيدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي مَنْعِ الْمُتْعَةِ يَقْتَضِي مَنْعَ النِّكَاحِ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَكُونُ صَحِيحًا إِذَا نَوَى الزَّوْجُ التَّوْقِيتَ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّ كِتْمَانَهُ إِيَّاهُ يُعَدُّ خِدَاعًا وَغِشًّا، وَهُوَ أَجْدَرُ بِالْبُطْلَانِ مِنَ الْعَقْدِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوْقِيتُ، وَيَكُونُ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا، وَلَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ إِلَّا الْعَبَثَ بِهَذِهِ الرَّابِطَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِيثَارُ التَّنَقُّلِ فِي مَرَاتِعِ الشَّهَوَاتِ بَيْنَ الذَوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى ذَلِكَ غِشًّا وَخِدَاعًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ أُخْرَى مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَذَهَابِ الثِّقَةِ حَتَّى بِالصَّادِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِالزَّوَاجِ حَقِيقَتَهُ، وَهُوَ إِحْصَانُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَإِخْلَاصُهُ لَهُ وَتَعَاوُنُهُمَا عَلَى تَأْسِيسِ بَيْتٍ صَالِحٍ بَيْنَ بُيُوتِ الْأُمَّةِ.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ الِاسْتِطَاعَةُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي طَوْعِكَ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِكَ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنَ الْإِطَاقَةِ، وَالطَّوْلُ: الْغِنَى وَالْفَضْلُ مِنَ الْمَالِ وَالْحَالِ، أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُطَالِبِ وَالرَّغَائِبِ، وَالْمُحْصَنَاتُ: فُسِّرَتْ هُنَا بِالْحَرَائِرِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالْفَتَيَاتِ وَهُنَّ الْإِمَاءُ، وَالْحُرِّيَّةُ كَانَتْ عِنْدَهُمْ دَاعِيَةَ الْإِحْصَانِ، وَالْبِغَاءُ شَأْنُ الْإِمَاءِ، قَالَتْ
هِنْدُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ؟ وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُنَّ بِهَذَا اللَّقَبِ إِرْشَادٌ إِلَى تَكْرِيمِهِنَّ ; فَإِنَّ الْفَتَاةَ تُطْلَقُ عَلَى الشَّابَّةِ وَعَلَى الْكَرِيمَةِ السَّخِيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُعَبِّرُوا عَنْ عَبِيدِكُمْ وَإِمَائِكُمْ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمِلْكِ، بَلْ بِلَفْظِ الْفَتَى وَالْفَتَاةِ الْمُشْعِرِ بِالتَّكْرِيمِ، وَمِنْ هُنَا أَخَذَ مُبَلِّغُ الْقُرْآنِ وَمَبَيِّنُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَوْلَهُ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أَمَتِي، وَلَا يَقُلِ الْمَمْلُوكُ: رَبِّي ; لِيَقْلِ الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَلِيَقُلِ الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي، فَإِنَّكُمُ الْمَمْلُوكُونَ، وَالرَّبُّ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ أَيْضًا إِلَى زِيَادَةِ تَكْرِيمِ الْأَرِقَّاءِ إِذَا كَبِرُوا فِي السِّنِّ بِتَقْلِيلِ الْخِدْمَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ.
الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَعَنِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ تَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَادِيهِمْ، عَلَى أَنَّنِي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنَ التَّعَصُّبِ وَالتَّحَيُّزِ إِلَى غَيْرِ مَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ الْحَقُّ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَقَدْ بَدَأْتُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْبَحْثِ وَأَنَا أَنْوِي أَلَّا أَكْتُبَ فِيهِ إِلَّا بِضْعَةَ أَسْطُرٍ ; لِأَنَّنِي لَا أُرِيدُ تَحْرِيرَ الْقَوْلِ فِي الرِّوَايَاتِ هُنَا، وَلَيْسَ عِنْدِي حَيْثُ أَكْتُبُ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ فَأُرَاجِعَهَا فِيهِ، وَلَكِنْ مَا كَتَبْتُهُ هُوَ صَفْوَتَهَا وَصَفْوَةَ مَا قَالُوهُ فِيهَا، فَإِنِ اطَّلَعْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلشِّيعَةِ بِأَسَانِيدِهَا، فَرُبَّمَا نَكْتُبُ فِي ذَلِكَ مَقَالًا نُمَحِّصُ فِيهِ مَا وَرَدَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْكُمُ فِيهِ بِمَا نَعْتَقِدُ مِنْ قَوَاعِدِ التَّعَرُّضِ وَالتَّرْجِيحِ وَنَنْشُرُ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ.
هَذَا، وَإِنَّ تَشْدِيدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي مَنْعِ الْمُتْعَةِ يَقْتَضِي مَنْعَ النِّكَاحِ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَكُونُ صَحِيحًا إِذَا نَوَى الزَّوْجُ التَّوْقِيتَ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّ كِتْمَانَهُ إِيَّاهُ يُعَدُّ خِدَاعًا وَغِشًّا، وَهُوَ أَجْدَرُ بِالْبُطْلَانِ مِنَ الْعَقْدِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوْقِيتُ، وَيَكُونُ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا، وَلَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ إِلَّا الْعَبَثَ بِهَذِهِ الرَّابِطَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِيثَارُ التَّنَقُّلِ فِي مَرَاتِعِ الشَّهَوَاتِ بَيْنَ الذَوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى ذَلِكَ غِشًّا وَخِدَاعًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ أُخْرَى مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَذَهَابِ الثِّقَةِ حَتَّى بِالصَّادِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِالزَّوَاجِ حَقِيقَتَهُ، وَهُوَ إِحْصَانُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَإِخْلَاصُهُ لَهُ وَتَعَاوُنُهُمَا عَلَى تَأْسِيسِ بَيْتٍ صَالِحٍ بَيْنَ بُيُوتِ الْأُمَّةِ.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ الِاسْتِطَاعَةُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي طَوْعِكَ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِكَ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنَ الْإِطَاقَةِ، وَالطَّوْلُ: الْغِنَى وَالْفَضْلُ مِنَ الْمَالِ وَالْحَالِ، أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُطَالِبِ وَالرَّغَائِبِ، وَالْمُحْصَنَاتُ: فُسِّرَتْ هُنَا بِالْحَرَائِرِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالْفَتَيَاتِ وَهُنَّ الْإِمَاءُ، وَالْحُرِّيَّةُ كَانَتْ عِنْدَهُمْ دَاعِيَةَ الْإِحْصَانِ، وَالْبِغَاءُ شَأْنُ الْإِمَاءِ، قَالَتْ
هِنْدُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ؟ وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُنَّ بِهَذَا اللَّقَبِ إِرْشَادٌ إِلَى تَكْرِيمِهِنَّ ; فَإِنَّ الْفَتَاةَ تُطْلَقُ عَلَى الشَّابَّةِ وَعَلَى الْكَرِيمَةِ السَّخِيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُعَبِّرُوا عَنْ عَبِيدِكُمْ وَإِمَائِكُمْ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمِلْكِ، بَلْ بِلَفْظِ الْفَتَى وَالْفَتَاةِ الْمُشْعِرِ بِالتَّكْرِيمِ، وَمِنْ هُنَا أَخَذَ مُبَلِّغُ الْقُرْآنِ وَمَبَيِّنُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَوْلَهُ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أَمَتِي، وَلَا يَقُلِ الْمَمْلُوكُ: رَبِّي ; لِيَقْلِ الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَلِيَقُلِ الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي، فَإِنَّكُمُ الْمَمْلُوكُونَ، وَالرَّبُّ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ أَيْضًا إِلَى زِيَادَةِ تَكْرِيمِ الْأَرِقَّاءِ إِذَا كَبِرُوا فِي السِّنِّ بِتَقْلِيلِ الْخِدْمَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ.
15
وَالْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فِي الْمَالِ أَوِ الْحَالِ لِنِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ، أَوْ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ اسْتِطَاعَةَ طَوْلٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الطَّوْلِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا نِكَاحَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأُمِرْتُمْ أَنْ تَقْصِدُوا بِالِاسْتِمْتَاعِ وَالِانْتِفَاعِ بِنِكَاحِهِنَّ الْإِحْصَانَ لَهُنَّ وَلِأَنْفُسِكُمْ، فَلْيَنْكِحِ امْرَأَةً مِنْ نَوْعِ مَا مَلَكْتُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ، أَيْ: إِمَائِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ تَبَعًا لِجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ كَوْنِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ النِّكَاحَ الثَّابِتَ، لَا الْمُتْعَةَ الَّتِي هِيَ اسْتِئْجَارٌ عَارِضٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ الِانْتِفَاعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلرَّجُلِ الَّذِي شَكَا مِنَ امْرَأَتِهِ وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِطَلَاقِهَا: " فَاسْتَمْتِعْ بِهَا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ تُجِيزُ الْمُتْعَةَ بِالْحَرَائِرِ لَمَا كَانَ لِوَصْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَا فَائِدَةٌ، وَأَيُّ امْرِئٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُتْعَةَ لِعَدَمِ الطَّوْلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ فَيَجْعَلَ بِهَا نَسْلَهُ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَسْتَطِيعُهَا لِعَدَمِ رَغْبَةِ النِّسَاءِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْعَارِ، قُلْنَا: إِنْ صَحَّ أَنَّ هَذَا مِنْ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ فَهُوَ لَا يُفِيدُ هَذَا الْقَائِلَ ; لِأَنَّ سَبَبَ عَدِّ الْمُتْعَةِ عَارًا فِي الْغَالِبِ هُوَ تَحْرِيمُهَا، وَمَنْ لَا يُحَرِّمُهَا كَالشِّيعَةِ فَإِنَّمَا يُبِيحُونَهَا فِي الْغَالِبِ اعْتِقَادًا فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الزِّنَا الْمُطْلَقِ أَشَدُّ لِغَلَبَةِ شُعُورِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الزِّنَا الْمُطْلَقِ أَشَدُّ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ مِنْ عَارِ الْمُتْعَةِ، وَقَلَّمَا يَتْرُكُهُ أَحَدٌ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُهُ مَنْ يَتْرُكُهُ تَدَيُّنًا فِي الْغَالِبِ، وَخَوْفًا مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْهُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الزِّنَا كَانَ عَلَى الْمُتْعَةِ أَقْدَرَ، وَمِنَ الْغَفْلَةِ أَنْ تُقَيَّدَ الْأَحْكَامُ
بِعَادَاتِ بَعْضِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ كَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَنٍ حَتَّى مِنَ التَّشْرِيعِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الطَّوْلَ هُنَا بِالْمَالِ الَّذِي يُدْفَعُ مَهْرًا، وَهُوَ تَحَكُّمٌ ضَيَّقُوا بِهِ مَعْنَى الْكَلِمَةِ، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ الطُّولِ بِالضَّمِّ، فَمَعْنَاهَا الْفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ، وَالْفَضْلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالطَّبَقَاتِ، وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ الْمَهْرَ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُبْعُ دِينَارٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُؤَيِّدُهُ، بَلْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِمُرِيدِ الزَّوَاجِ: " الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ: " تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ "، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ النَّبِيُّ بِالْتِمَاسِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَتَزَوَّجَ بَعْضُهُمْ بِنَعْلَيْنِ، وَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يُقَيِّدِ السَّلَفُ الْمَهْرَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَتَفْسِيرُ الطَّوْلِ بِالْغِنَى لَا يُلَائِمُ تَحْدِيدَ الْمُحَدِّدِينَ ; فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَجِدُ أَمَةً يَرْضَى أَنْ يُزَوِّجَهَا سَيِّدُهَا بِأَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ نَعْلَيْنِ، وَفَسَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ـ أَوْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ـ بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ يَسْتَمْتِعُ بِنِكَاحِهَا بِالْفِعْلِ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مُتَزَوِّجًا امْرَأَةً حُرَّةً مُؤْمِنَةً فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، فَحَاصِلُهُ عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرَّةِ
بِعَادَاتِ بَعْضِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ كَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَنٍ حَتَّى مِنَ التَّشْرِيعِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الطَّوْلَ هُنَا بِالْمَالِ الَّذِي يُدْفَعُ مَهْرًا، وَهُوَ تَحَكُّمٌ ضَيَّقُوا بِهِ مَعْنَى الْكَلِمَةِ، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ الطُّولِ بِالضَّمِّ، فَمَعْنَاهَا الْفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ، وَالْفَضْلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالطَّبَقَاتِ، وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ الْمَهْرَ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُبْعُ دِينَارٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُؤَيِّدُهُ، بَلْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِمُرِيدِ الزَّوَاجِ: " الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ: " تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ "، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ النَّبِيُّ بِالْتِمَاسِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَتَزَوَّجَ بَعْضُهُمْ بِنَعْلَيْنِ، وَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يُقَيِّدِ السَّلَفُ الْمَهْرَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَتَفْسِيرُ الطَّوْلِ بِالْغِنَى لَا يُلَائِمُ تَحْدِيدَ الْمُحَدِّدِينَ ; فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَجِدُ أَمَةً يَرْضَى أَنْ يُزَوِّجَهَا سَيِّدُهَا بِأَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ نَعْلَيْنِ، وَفَسَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ـ أَوْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ـ بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ يَسْتَمْتِعُ بِنِكَاحِهَا بِالْفِعْلِ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مُتَزَوِّجًا امْرَأَةً حُرَّةً مُؤْمِنَةً فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، فَحَاصِلُهُ عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرَّةِ
16
وَالْأَمَةِ (قَالَ) : وَالطَّوْلُ أَوْسَعُ مِنْ كُلِّ مَا قَالُوهُ، وَهُوَ الْفَضْلُ وَالسَّعَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَالْمَادِّيَّةُ، فَقَدْ يَعْجِزُ الرَّجُلُ عَنِ التَّزَوُّجِ بِحُرَّةٍ، وَهُوَ ذُو مَالٍ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْمَهْرِ الْمُعْتَادِ لِنُفُورِ النِّسَاءِ مِنْهُ لِعَيْبٍ فِي خَلْقِهِ أَوْ خُلُقِهِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ بِغَيْرِ الْمَهْرِ مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، فَإِنَّ لَهَا حُقُوقًا كَثِيرَةً فِي النَّفَقَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْأَمَةِ مِثْلُ تِلْكَ الْحُقُوقِ كُلِّهَا، فَفَقْدُ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ لَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمُؤْمِنَاتِ لَيْسَ بِقَيْدٍ فِي الْحَرَائِرِ وَلَا فِي الْإِمَاءِ أَيْضًا، وَإِنْ قِيلَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، فَإِنَّهُ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُنَّ أُولَئِكَ الْوَثَنِيَّاتُ اللَّوَاتِي لَا كِتَابَ لِقَوْمِهِنَّ، وَسَكَتَ عَنْ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَالنَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ لَا يَشْمَلُهُنَّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ص ٢٨٢ ج ٢ تَفْسِيرٌ - فَكَانَ الزَّوَاجُ مَحْصُورًا فِي الْمُؤْمِنَاتِ، فَذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ الْوَاقِعُ، أَيْ: وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَرَّضِينَ لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِحِلِّ زَوَاجِهِنَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ
قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الْوَصْفِ بِالْمُؤْمِنَةِ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْجِيحِهَا عَلَى الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.
أَقُولُ: فِي هَذَا أَحْسَنُ تَخْرِيجٍ وَتَوْجِيهٍ لِمَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُمْ يَبْنُونَهُ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَمَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ الْمُؤْمِنَةَ بَلْهَ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَظَاهِرُ وَصْفِ الْفَتَيَاتِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَدْ أَحَلَّ اللهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ـ وَهُنَّ الْحَرَائِرُ ـ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُنَّ الْعَفَائِفُ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ نَاسِخَةً لِمَفْهُومِهِ، أَوْ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِهِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ خَاصٌّ، وَعِنْدِي أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ تَارَةً يَكُونُ مُرَادًا، وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُرَادًا، فَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذَا الْمَالَ أَوِ انْسَخْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ الْفُقَرَاءِ تَعَيَّنَ أَلَّا يُوَزَّعَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ مَقْصُودَةٌ لِمَعْنًى فِيهَا كَانَ هُوَ سَبَبَ الْعَطَاءِ، وَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى الْخَدَمِ الْوَاقِفِينَ بِالْبَابِ، جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا لِلْوَاقِفِ مِنْهُمْ وَالْقَاعِدِ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ هَاهُنَا ذُكِرَتْ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ الْمُعْتَادِ لَا لِمَعْنًى فِي الْوُقُوفِ يَقْتَضِي الْعَطَاءَ، فَبِالْقَرَائِنِ تُعْرَفُ الصِّفَةُ الَّتِي يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَالصِّفَةُ الَّتِي لَا يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مِنَ الْقَرِينَةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْوَصْفِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ إِلَّا الْمُشْرِكَاتُ وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِنَصِّ آيَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَوْلَا الْقَيْدُ هُنَا لَتُوُهِّمَ نَسْخُ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ هَذَا الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَفَهِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَسْبِيَّاتِ الْمُشْرِكَاتِ حَلَالٌ فَاسْتَمْتَعُوا بِهِنَّ يَوْمَ أَوْطَاسٍ، فَالْمَفْهُومُ هُنَا خَاصٌّ بِالْمُشْرِكَاتِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُنَّ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فَحَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ حَتَّى يُؤْمِنَّ ; لِأَنَّ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسَةً
قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الْوَصْفِ بِالْمُؤْمِنَةِ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْجِيحِهَا عَلَى الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.
أَقُولُ: فِي هَذَا أَحْسَنُ تَخْرِيجٍ وَتَوْجِيهٍ لِمَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُمْ يَبْنُونَهُ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَمَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ الْمُؤْمِنَةَ بَلْهَ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَظَاهِرُ وَصْفِ الْفَتَيَاتِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَدْ أَحَلَّ اللهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ـ وَهُنَّ الْحَرَائِرُ ـ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُنَّ الْعَفَائِفُ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ نَاسِخَةً لِمَفْهُومِهِ، أَوْ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِهِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ خَاصٌّ، وَعِنْدِي أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ تَارَةً يَكُونُ مُرَادًا، وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُرَادًا، فَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذَا الْمَالَ أَوِ انْسَخْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ الْفُقَرَاءِ تَعَيَّنَ أَلَّا يُوَزَّعَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ مَقْصُودَةٌ لِمَعْنًى فِيهَا كَانَ هُوَ سَبَبَ الْعَطَاءِ، وَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى الْخَدَمِ الْوَاقِفِينَ بِالْبَابِ، جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا لِلْوَاقِفِ مِنْهُمْ وَالْقَاعِدِ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ هَاهُنَا ذُكِرَتْ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ الْمُعْتَادِ لَا لِمَعْنًى فِي الْوُقُوفِ يَقْتَضِي الْعَطَاءَ، فَبِالْقَرَائِنِ تُعْرَفُ الصِّفَةُ الَّتِي يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَالصِّفَةُ الَّتِي لَا يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مِنَ الْقَرِينَةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْوَصْفِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ إِلَّا الْمُشْرِكَاتُ وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِنَصِّ آيَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَوْلَا الْقَيْدُ هُنَا لَتُوُهِّمَ نَسْخُ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ هَذَا الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَفَهِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَسْبِيَّاتِ الْمُشْرِكَاتِ حَلَالٌ فَاسْتَمْتَعُوا بِهِنَّ يَوْمَ أَوْطَاسٍ، فَالْمَفْهُومُ هُنَا خَاصٌّ بِالْمُشْرِكَاتِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُنَّ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فَحَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ حَتَّى يُؤْمِنَّ ; لِأَنَّ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسَةً
17
خَاصَّةً بِالْعَرَبِ وَهِيَ عَدَمُ إِقْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ؛ لِيَكُونُوا كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يُقِرُّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَيَرْضَى مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ ; وَلِذَلِكَ أَجَازَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُوَادَّتِهِمْ أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ وَيَتَزَوَّجُوا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَقَرَّ الْمَجُوسَ عَلَى دِينِهِمْ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فَلَهُ حُكْمُهُمْ كَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ رَفَعَ شَأْنَ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَسَاوَى بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْإِيمَانِ وَدَرَجَاتِ قُوَّتِهِ، وَكَمَالِهِ، فَرُبَّ أَمَةٍ أَكْمَلَ إِيمَانًا مِنْ حُرَّةٍ فَتَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، أَيْ: فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ تَعُدُّوا نِكَاحَ الْأَمَةِ عَارًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الْإِيمَانِ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (٣: ١٩٥)، وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (٩: ٧١)، وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (٩: ٦٧)، إِلَخْ، وَقِيلَ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي النَّسَبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا تَرَى فَالْإِيمَانُ هُوَ الْمُرَادُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَنْكِحَ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهَا نَقْصُ الشِّرْكِ وَنَقْصُ الرِّقِّ.
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أَيْ: فَإِذَا رَغِبْتُمْ فِي نِكَاحِهِنَّ ـ لَمَّا رَفَعَ الْإِيمَانُ مِنْ شَأْنِهِنَّ ـ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَهْلِ هُنَا الْمَوَالِي الْمَالِكُونَ لَهُنَّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْمُرَادُ مَنْ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِينَ، فَلِلْأَبِ أَوِ الْجَدِّ، أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْوَصِيِّ تَزْوِيجُ أَمَةِ الْيَتِيمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي الْفِقْهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ فِي تَزْوِيجِ أَوْلِيَائِهَا لَهَا وَعَدَمِ تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ أَوْلَى مِنَ الْحُرَّةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى إِذْنِ أَوْلِيَائِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ رِضَا الْمَوْلَى بِتَزْوِيجِهَا مِنْ تَوَلِّي وَلِيِّهَا فِي النَّسَبِ لِلْعَقْدِ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا فَالْمَوْلَى أَوِ الْقَاضِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ.
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: وَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي تَفْرِضُونَهَا لَهُنَّ، فَالْمَهْرُ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَهُوَ لَهَا لَا لِمَوْلَاهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَآتُوا أَهْلَهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ بِأَنَّ قَيْدَ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مُعْتَبَرٌ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَهْرَ عِنْدَهُنَّ هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ حَقِّهِ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَهْرَ لَهَا لَا يُنْكِرُ أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ، وَكَوْنُ مِلْكِهِ لِسَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا يَرَى أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ حَقُّ الزَّوْجَةِ تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا وَيَكُونُ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا فِي مُقَابَلَةِ رِيَاسَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُ الْأَمَةِ الَّتِي يُزَوِّجَهَا أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهَا
بِحَقِّ الْمِلْكِ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ لَهَا تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِذَا عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلرَّقِيقِ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا كَمِلْكِ الْأَمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ لِمَهْرِهَا، فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ
وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ رَفَعَ شَأْنَ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَسَاوَى بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْإِيمَانِ وَدَرَجَاتِ قُوَّتِهِ، وَكَمَالِهِ، فَرُبَّ أَمَةٍ أَكْمَلَ إِيمَانًا مِنْ حُرَّةٍ فَتَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، أَيْ: فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ تَعُدُّوا نِكَاحَ الْأَمَةِ عَارًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الْإِيمَانِ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (٣: ١٩٥)، وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (٩: ٧١)، وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (٩: ٦٧)، إِلَخْ، وَقِيلَ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي النَّسَبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا تَرَى فَالْإِيمَانُ هُوَ الْمُرَادُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَنْكِحَ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهَا نَقْصُ الشِّرْكِ وَنَقْصُ الرِّقِّ.
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أَيْ: فَإِذَا رَغِبْتُمْ فِي نِكَاحِهِنَّ ـ لَمَّا رَفَعَ الْإِيمَانُ مِنْ شَأْنِهِنَّ ـ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَهْلِ هُنَا الْمَوَالِي الْمَالِكُونَ لَهُنَّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْمُرَادُ مَنْ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِينَ، فَلِلْأَبِ أَوِ الْجَدِّ، أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْوَصِيِّ تَزْوِيجُ أَمَةِ الْيَتِيمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي الْفِقْهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ فِي تَزْوِيجِ أَوْلِيَائِهَا لَهَا وَعَدَمِ تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ أَوْلَى مِنَ الْحُرَّةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى إِذْنِ أَوْلِيَائِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ رِضَا الْمَوْلَى بِتَزْوِيجِهَا مِنْ تَوَلِّي وَلِيِّهَا فِي النَّسَبِ لِلْعَقْدِ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا فَالْمَوْلَى أَوِ الْقَاضِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ.
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: وَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي تَفْرِضُونَهَا لَهُنَّ، فَالْمَهْرُ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَهُوَ لَهَا لَا لِمَوْلَاهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَآتُوا أَهْلَهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ بِأَنَّ قَيْدَ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مُعْتَبَرٌ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَهْرَ عِنْدَهُنَّ هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ حَقِّهِ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَهْرَ لَهَا لَا يُنْكِرُ أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ، وَكَوْنُ مِلْكِهِ لِسَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا يَرَى أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ حَقُّ الزَّوْجَةِ تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا وَيَكُونُ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا فِي مُقَابَلَةِ رِيَاسَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُ الْأَمَةِ الَّتِي يُزَوِّجَهَا أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهَا
بِحَقِّ الْمِلْكِ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ لَهَا تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِذَا عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلرَّقِيقِ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا كَمِلْكِ الْأَمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ لِمَهْرِهَا، فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ
18
ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَوْ قَوَاعِدِ فِقْهِهِ؟ وَالْمَوْلَى مُخَيَّرٌ ـ مَعَ خُضُوعِهِ لِحُكْمِ رَبِّهِ ـ إِنْ شَاءَ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ، بَلْ فَتَاتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ مُكْتَفِيًا بِمَا قَرَّرَهُ لَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ امْتِلَاكِ ذُرِّيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الزَّوْجِ عِوَضًا مَالِيًّا وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْمَعْرُوفِ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مُتَعَلِّقًا بِإِيتَاءِ الْأُجُورِ، وَبَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ، أَيْ: وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَكُمْ فِي حُسْنِ التَّعَامُلِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَإِذْنِ الْأَهْلِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِيتَاءُ الْأُجُورِ بِالْمَعْرُوفِ مَعْنَاهُ بِالْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا كَمَا قَالَ فِي الْحَرَائِرِ: فَرِيضَةً لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِيهِ أَخَفُّ وَالْأَمْرَ أَهْوَنُ، وَالتَّسَاهُلُ فِي أُجُورِ الْإِمَاءِ مَعْهُودٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي إِعْطَائِهَا الْمَهْرَ مَعَ كَوْنِهَا لَا تَمْلِكُ ; لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يَقْبِضُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ - أَوْ قَالَ: أَصْحَابِ مَالِكٍ - أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَوَّجَ جَارِيَتَهُ فَقَدْ جَعَلَ لِلزَّوْجِ ضَرْبًا مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا لَا يُشَارِكُهُ هُوَ فِيهِ، فَمَا تَأْخُذُهُ مِنَ الزَّوْجِ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَسْقَطَ السَّيِّدُ حَقَّهُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْهُ، بَلْ يَكُونُ لَهَا وَحْدَهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، قَيْدٌ لِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ أَوْ لِقَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَاهُ الْمُتَزَوِّجَاتِ، أَيْ: أَعْطُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ مُتَزَوِّجَاتٍ مِنْكُمْ لَا مُسْتَأْجَرَاتٍ لِلْبِغَاءِ جَهْرًا وَهُنَّ الْمُسَافِحَاتُ، وَلَا سِرًّا وَهُنَّ مُتَّخِذَاتُ الْأَخْدَانِ، فَالْخِدْنُ: هُوَ الصَّاحِبُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَكَانَ الزِّنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: سِرٌّ وَعَلَانِيَةٌ، وَعَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْخَاصُّ السِّرِّيُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ خِدْنٌ يَزْنِي بِهَا سِرًّا فَلَا تَبْذُلُ نَفْسَهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْعَامُّ الْجَهْرِيُّ: هُوَ الْمُرَادُ بِالسِّفَاحِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْبِغَاءُ، وَكَانَ الْبَغَايَا مِنَ الْإِمَاءِ، وَكُنَّ يَنْصِبْنَ الرَّايَاتِ الْحُمْرَ لِتُعْرَفَ مَنَازِلُهُنَّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَقُولُونَ:
إِنَّهُ لُؤْمٌ، وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ وَيَقُولُونَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلِتَحْرِيمِ الْقِسْمَيْنِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (٦: ١٥١)، وَالْمُرَادُ بِتَحْرِيمِهِمْ لِزِنَا الْعَلَانِيَةِ اسْتِقْبَاحُهُ، وَعَدُّ مَا يَأْتِيهِ لَئِيمًا، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ مِنَ الزِّنَا مَعْرُوفَانِ الْآنَ وَفَاشِيَانِ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ وَالْبِلَادِ الَّتِي تُقَلِّدُ الْإِفْرِنْجَ فِي شُرُورِ مَدَنِيَّتِهِمْ كَمِصْرَ وَالْآسِتَانَةِ وَبَعْضِ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَيُسَمِّي الْمِصْرِيُّونَ الْخِدْنَ بِالرَّفِيقَةِ، وَالتُّرْكُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الرَّفِيقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمِثْلُهُمُ التَّتَرُ فِي رُوسْيَا فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْعُرْفِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَالْمُتَفَرْنِجِينَ مَنْ هُمْ كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحْسِنُونَ الزِّنَا السِّرِّيِّ وَيُبِيحُونَهُ، وَيَسْتَقْبِحُونَ الْجَهْرِيَّ وَقَدْ يَمْنَعُونَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمُّ شَرٌّ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَكِنَّ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، قَيْدٌ لِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ أَوْ لِقَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَاهُ الْمُتَزَوِّجَاتِ، أَيْ: أَعْطُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ مُتَزَوِّجَاتٍ مِنْكُمْ لَا مُسْتَأْجَرَاتٍ لِلْبِغَاءِ جَهْرًا وَهُنَّ الْمُسَافِحَاتُ، وَلَا سِرًّا وَهُنَّ مُتَّخِذَاتُ الْأَخْدَانِ، فَالْخِدْنُ: هُوَ الصَّاحِبُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَكَانَ الزِّنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: سِرٌّ وَعَلَانِيَةٌ، وَعَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْخَاصُّ السِّرِّيُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ خِدْنٌ يَزْنِي بِهَا سِرًّا فَلَا تَبْذُلُ نَفْسَهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْعَامُّ الْجَهْرِيُّ: هُوَ الْمُرَادُ بِالسِّفَاحِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْبِغَاءُ، وَكَانَ الْبَغَايَا مِنَ الْإِمَاءِ، وَكُنَّ يَنْصِبْنَ الرَّايَاتِ الْحُمْرَ لِتُعْرَفَ مَنَازِلُهُنَّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَقُولُونَ:
إِنَّهُ لُؤْمٌ، وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ وَيَقُولُونَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلِتَحْرِيمِ الْقِسْمَيْنِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (٦: ١٥١)، وَالْمُرَادُ بِتَحْرِيمِهِمْ لِزِنَا الْعَلَانِيَةِ اسْتِقْبَاحُهُ، وَعَدُّ مَا يَأْتِيهِ لَئِيمًا، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ مِنَ الزِّنَا مَعْرُوفَانِ الْآنَ وَفَاشِيَانِ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ وَالْبِلَادِ الَّتِي تُقَلِّدُ الْإِفْرِنْجَ فِي شُرُورِ مَدَنِيَّتِهِمْ كَمِصْرَ وَالْآسِتَانَةِ وَبَعْضِ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَيُسَمِّي الْمِصْرِيُّونَ الْخِدْنَ بِالرَّفِيقَةِ، وَالتُّرْكُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الرَّفِيقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمِثْلُهُمُ التَّتَرُ فِي رُوسْيَا فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْعُرْفِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَالْمُتَفَرْنِجِينَ مَنْ هُمْ كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحْسِنُونَ الزِّنَا السِّرِّيِّ وَيُبِيحُونَهُ، وَيَسْتَقْبِحُونَ الْجَهْرِيَّ وَقَدْ يَمْنَعُونَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمُّ شَرٌّ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَكِنَّ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ
19
يَسْتَبِيحُونَهَا بِالْعَمَلِ دُونَ الْقَوْلِ! ! وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَخْدَعُهُ جَاهِلِيَّتُهُ فَتُوهِمُهُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنَ الدِّينِ إِذَا هُوَ اسْتَبَاحَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ بِالْعَمَلِ فَوَاظَبَ عَلَيْهَا بِلَا خَوْفٍ مِنَ اللهِ، وَلَا حَيَاءٍ، وَلَا لَوْمٍ مِنَ النَّفْسِ وَلَا تَوْبِيخٍ بِشَرْطِ أَلَّا يَقُولَ هِيَ حَلَالٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ مَرَّةً عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْمُعَامَلَاتِ: إِنَّهَا مِنَ الرِّبَا، وَقَالَ: إِنَّنِي أَنَا آكُلُ الرِّبَا لَا أُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّنِي مُسْلِمٌ لَا أَقُولُ إِنَّهُ حَلَالٌ! ! فَكَأَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّهُ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْتَنِبُوهَا، وَبِأَنَّهُ فَرَضَ الْفَرَائِضَ وَاسْتَحَبَّ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدُّوهَا، وَيَجْهَلُ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّ الْإِسْلَامَ حَرَّمَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَوْجَبَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ، فَهَلْ صَلَحَتْ بِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ وَأَحْوَالُهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَصَارُوا أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ؟ !
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَا فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنَ الْإِحْصَانِ، وَتَكْمِيلِ النُّفُوسِ بِالْعِفَّةِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَاخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَقَالَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ لِأَنَّ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ عَامَّةً، وَالْأَبْكَارَ مِنْهُمْ خَاصَّةً أَبْعَدُ مِنَ الرِّجَالِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، فَلَمَّا كَانَ الرِّجَالُ أَكْثَرَ تَعَرُّضًا لِخَدْشِ الْعِفَّةِ، وَانْقِيَادًا لِطَاعَةِ الشَّهْوَةِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ هُمُ الطَّالِبِينَ لِلنِّسَاءِ وَالْقَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ وَعَدَمِ السِّفَاحِ مِنْ قِبَلِهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا كَانَ الزِّنَا هُوَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِمَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا يَشْتَرُونَهُنَّ لِأَجْلِ الِاكْتِسَابِ
بِبِغَائِهِنَّ، حَتَّى أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ - رَأْسَ النِّفَاقِ - كَانَ يُكْرِهُ إِمَاءَهُ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمْنَ عَلَى الْبِغَاءِ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنِ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (٢٤: ٣٣)، وَلَمَّا كُنَّ أَيْضًا مَظَنَّةً لِلزِّنَا لِذُلِّهِنَّ وَضَعْفِ نُفُوسِهِنَّ، وَكَوْنِهِنَّ عُرْضَةً لِلِانْتِقَالِ مِنْ رَجُلٍ إِلَى آخَرَ، فَلَمْ تَتَوَطَّنْ نُفُوسُهُنَّ عَلَى عِيشَةِ الِاخْتِصَاصِ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ يَرَى لَهُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ نُفُوسُهُنَّ فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْفِطْرَةِ، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ فِي جَانِبِهِنَّ، فَاشْتَرَطَ عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُ أَمَةً أَنْ يَتَحَرَّى أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً مَصُونَةً مِنَ الزِّنَا فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَإِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، يَكُونُ الْمُرَادُ: انْكِحُوهُنَّ مُحْصِنَاتٍ لَكُمْ وَلِأَنْفُسِهِنَّ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ يُمَكِّنَّ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ أَيَّ طَالِبٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وَأَصْحَابٍ ـ أَوْ رُفَقَاءَ كَمَا فِي عُرْفِ الْمِصْرِيِّينَ ـ تَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِصَاحِبٍ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: فَإِذَا فَعَلْنَ الْفِعْلَةَ الْفَاحِشَةَ وَهِيَ الزِّنَا بَعْدَ إِحْصَانِهِنَّ بِالزَّوَاجِ فَعَلَيْهِنَّ مِنَ الْعِقَابِ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ الْكَامِلَاتِ، وَهُنَّ الْحَرَائِرُ إِذَا زَنَيْنَ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَا فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنَ الْإِحْصَانِ، وَتَكْمِيلِ النُّفُوسِ بِالْعِفَّةِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَاخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَقَالَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ لِأَنَّ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ عَامَّةً، وَالْأَبْكَارَ مِنْهُمْ خَاصَّةً أَبْعَدُ مِنَ الرِّجَالِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، فَلَمَّا كَانَ الرِّجَالُ أَكْثَرَ تَعَرُّضًا لِخَدْشِ الْعِفَّةِ، وَانْقِيَادًا لِطَاعَةِ الشَّهْوَةِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ هُمُ الطَّالِبِينَ لِلنِّسَاءِ وَالْقَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ وَعَدَمِ السِّفَاحِ مِنْ قِبَلِهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا كَانَ الزِّنَا هُوَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِمَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا يَشْتَرُونَهُنَّ لِأَجْلِ الِاكْتِسَابِ
بِبِغَائِهِنَّ، حَتَّى أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ - رَأْسَ النِّفَاقِ - كَانَ يُكْرِهُ إِمَاءَهُ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمْنَ عَلَى الْبِغَاءِ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنِ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (٢٤: ٣٣)، وَلَمَّا كُنَّ أَيْضًا مَظَنَّةً لِلزِّنَا لِذُلِّهِنَّ وَضَعْفِ نُفُوسِهِنَّ، وَكَوْنِهِنَّ عُرْضَةً لِلِانْتِقَالِ مِنْ رَجُلٍ إِلَى آخَرَ، فَلَمْ تَتَوَطَّنْ نُفُوسُهُنَّ عَلَى عِيشَةِ الِاخْتِصَاصِ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ يَرَى لَهُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ نُفُوسُهُنَّ فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْفِطْرَةِ، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ فِي جَانِبِهِنَّ، فَاشْتَرَطَ عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُ أَمَةً أَنْ يَتَحَرَّى أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً مَصُونَةً مِنَ الزِّنَا فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَإِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، يَكُونُ الْمُرَادُ: انْكِحُوهُنَّ مُحْصِنَاتٍ لَكُمْ وَلِأَنْفُسِهِنَّ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ يُمَكِّنَّ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ أَيَّ طَالِبٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وَأَصْحَابٍ ـ أَوْ رُفَقَاءَ كَمَا فِي عُرْفِ الْمِصْرِيِّينَ ـ تَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِصَاحِبٍ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: فَإِذَا فَعَلْنَ الْفِعْلَةَ الْفَاحِشَةَ وَهِيَ الزِّنَا بَعْدَ إِحْصَانِهِنَّ بِالزَّوَاجِ فَعَلَيْهِنَّ مِنَ الْعِقَابِ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ الْكَامِلَاتِ، وَهُنَّ الْحَرَائِرُ إِذَا زَنَيْنَ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
20
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (٢٤: ٢)، فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ خَمْسِينَ جَلْدَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَتُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْحُرَّةِ أَبْعَدَ عَنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ، وَالْأَمَةُ عُرْضَةٌ لَهَا وَضَعِيفَةٌ عَنْ مُقَاوَمَتِهَا، فَرَحِمَ الشَّارِعُ ضَعْفَهَا فَخَفَّفَ الْعِقَابَ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ الْعَذَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْحَدَّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي تِلْكَ ـ الْآيَةِ ـ آيَةِ الْجَلْدِ ـ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَافَّةً وِفَاقًا لِقَاعِدَةِ: " الْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا "، فَظَاهِرُهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُحَدُّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَظَاهِرُ آيَةِ النُّورِ أَنَّهَا تُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُحْصَنَةً أَمْ أَيِّمًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأَيِّمُ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَلَوْلَا السُّنَّةُ لَكَانَ لِذَاهِبٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا خَصَّصَتِ الزَّانِيَةَ الْحُرَّةَ بِالْمُحْصَنَةِ لِلْمُقَابَلَةِ فِيهَا بَيْنَ الْإِمَاءِ اللَّوَاتِي أُحْصِنَّ وَبَيْنَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْحَرَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ النِّسَاءِ بِالْحَرَائِرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، قَالُوا: بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِمَاءِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِمَاءِ الْمُحْصَنَاتِ لَا مُطْلَقًا، ثُمَّ قَيَّدُوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِقَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ كَوْنُهُنَّ أَبْكَارًا ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مَنْ تَزَوَّجَتْ مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ وَإِنْ آمَتْ بِطَلَاقٍ، أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا، وَالْوَصْفُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْصَنَةَ بِالزَّوَاجِ هِيَ الَّتِي لَهَا زَوْجَ يُحْصِنُهَا، فَإِذَا فَارَقَهَا لَا تُسَمَّى مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ كَمَا أَنَّهَا لَا تُسَمَّى مُتَزَوِّجَةً، كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، وَالْمَرِيضُ إِذَا بَرِئَ لَا يُسَمَّى مَرِيضًا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الَّذِينَ خَصُّوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِالْأَبْكَارِ: إِنَّهُنَّ قَدْ أَحْصَنَتْهُنَّ الْبَكَارَةُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الْبَكَارَةَ حِصْنٌ مَنِيعٌ لَا تَتَصَدَّى صَاحِبَتُهُ لِهَدْمِهِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَهِيَ عَلَى سَلَامَةِ فِطْرَتِهَا وَحَيَائِهَا وَعَدَمِ مُمَارَسَتِهَا لِلرِّجَالِ، وَمَا حَقُّهُ إِلَّا أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِ حِصْنُ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَكِنْ مَا بَالُ الثَّيِّبِ الَّتِي فَقَدَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِصْنَيْنِ تُعَاقَبُ أَشَدَّ الْعُقُوبَتَيْنِ إِذْ حَكَمُوا عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ؟ هَلْ يَعُدُّونَ الزَّوَاجَ السَّابِقَ مُحَصِّنًا لَهَا وَمَا هُوَ إِلَّا إِزَالَةٌ لِحِصْنِ الْبَكَارَةِ وَتَعْوِيدٌ لِمُمَارِسَةِ الرِّجَالِ! فَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِنِظَامِ الْفِطْرَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الثَّيِّبِ الَّتِي تَأْتِي الْفَاحِشَةَ دُونَ عُقَابِ الْمُتَزَوِّجَةِ، وَكَذَا دُونَ عِقَابِ الْبِكْرِ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْأَشَدِّ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ فِي الْيَمَنِ يُعَاقِبُونَ بِالْقَتْلِ كُلًّا مِنَ الْبِكْرِ وَالْمُتَزَوِّجَةِ إِذَا زَنَتَا، وَلَا يُعَاقِبُونَ الثَّيِّبَ بِالْقَتْلِ وَلَا بِالْجَلْدِ ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَعْذُورَةً طَبْعًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْذُورَةً شَرْعًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِرَجْمِ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ عِنْدَمَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فِي أَمْرِهِمَا إِذْ أَتَيَا الْفَاحِشَةَ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ خِلَافًا لِمَنِ اشْتَرَطَهُ، وَرُوِيَ
مِنَ النِّسَاءِ بِالْحَرَائِرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، قَالُوا: بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِمَاءِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِمَاءِ الْمُحْصَنَاتِ لَا مُطْلَقًا، ثُمَّ قَيَّدُوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِقَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ كَوْنُهُنَّ أَبْكَارًا ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مَنْ تَزَوَّجَتْ مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ وَإِنْ آمَتْ بِطَلَاقٍ، أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا، وَالْوَصْفُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْصَنَةَ بِالزَّوَاجِ هِيَ الَّتِي لَهَا زَوْجَ يُحْصِنُهَا، فَإِذَا فَارَقَهَا لَا تُسَمَّى مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ كَمَا أَنَّهَا لَا تُسَمَّى مُتَزَوِّجَةً، كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، وَالْمَرِيضُ إِذَا بَرِئَ لَا يُسَمَّى مَرِيضًا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الَّذِينَ خَصُّوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِالْأَبْكَارِ: إِنَّهُنَّ قَدْ أَحْصَنَتْهُنَّ الْبَكَارَةُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الْبَكَارَةَ حِصْنٌ مَنِيعٌ لَا تَتَصَدَّى صَاحِبَتُهُ لِهَدْمِهِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَهِيَ عَلَى سَلَامَةِ فِطْرَتِهَا وَحَيَائِهَا وَعَدَمِ مُمَارَسَتِهَا لِلرِّجَالِ، وَمَا حَقُّهُ إِلَّا أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِ حِصْنُ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَكِنْ مَا بَالُ الثَّيِّبِ الَّتِي فَقَدَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِصْنَيْنِ تُعَاقَبُ أَشَدَّ الْعُقُوبَتَيْنِ إِذْ حَكَمُوا عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ؟ هَلْ يَعُدُّونَ الزَّوَاجَ السَّابِقَ مُحَصِّنًا لَهَا وَمَا هُوَ إِلَّا إِزَالَةٌ لِحِصْنِ الْبَكَارَةِ وَتَعْوِيدٌ لِمُمَارِسَةِ الرِّجَالِ! فَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِنِظَامِ الْفِطْرَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الثَّيِّبِ الَّتِي تَأْتِي الْفَاحِشَةَ دُونَ عُقَابِ الْمُتَزَوِّجَةِ، وَكَذَا دُونَ عِقَابِ الْبِكْرِ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْأَشَدِّ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ فِي الْيَمَنِ يُعَاقِبُونَ بِالْقَتْلِ كُلًّا مِنَ الْبِكْرِ وَالْمُتَزَوِّجَةِ إِذَا زَنَتَا، وَلَا يُعَاقِبُونَ الثَّيِّبَ بِالْقَتْلِ وَلَا بِالْجَلْدِ ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَعْذُورَةً طَبْعًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْذُورَةً شَرْعًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِرَجْمِ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ عِنْدَمَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فِي أَمْرِهِمَا إِذْ أَتَيَا الْفَاحِشَةَ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ خِلَافًا لِمَنِ اشْتَرَطَهُ، وَرُوِيَ
21
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللهِ لَا يَغُوصُ عَلَيْهِ إِلَّا غَوَّاصٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ (٥: ١٥)، فَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مِمَّا بَيَّنَهُ لَهُمْ وَحَكَمَ بِهِ فَصَارَ مَشْرُوعًا لَنَا، وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، أَيْ: مِمَّا تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ،
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْقُرْآنَ، وَوُجُوبَ اتِّبَاعِهِ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ آيَةَ الرَّجْمِ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النُّورِ بَعْدَ آيَةِ الْجَلْدِ، ثُمَّ رُفِعَتْ وَبَقِيَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوِ اعْتِرَافٌ.
وَأَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِرَجْمِ مَاعِزٍ الْأَسْلَمِيِّ وَالْغَامِدِيَّةِ لِاعْتِرَافِهِمَا بِالزِّنَا، وَلَكِنَّهُ أَرْجَأَ الْمَرْأَةَ حَتَّى وَضَعَتْ، وَأَرْضَعَتْ، وَفَطَمَتْ وَلَدَهَا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَرَوَيَا وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَجْمَ امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَلَدَ الْغُلَامَ الْعَسِيفَ (الْأَجِيرَ) الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرَةٍ، وَرَجَمَ الْمَرْأَةَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدَهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، وَظَاهِرُ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَنَّ السَّائِلَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ كَانَ الْجَلْدُ نَاسِخًا لِلرَّجْمِ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ عَمَلًا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، أَمْ كَانَ الرَّجْمُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْجَلْدِ بِجَعْلِهِ خَاصًّا بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ بِالزَّوَاجِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ ضَرَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَا يَقُولُ بِأَنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ حَدِيثًا صَرِيحًا فِي رَجْمِ الْأَيِّمِ الثَّيِّبِ، وَسَأَتَتَبَّعُ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ النُّورِ وَأُحَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي الْعُمْرِ، وَوَرَدَ أَنَّ الْأَمَةَ غَيْرُ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ لَكِنْ يَجْلِدُهَا سَيِّدُهَا، قِيلَ: حَدًّا، وَقِيلَ: تَعْزِيرًا مِائَةَ جَلْدَةٍ أَوْ أَقَلَّ، أَقْوَالٌ وَوُجُوهٌ، وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَيُعْلَمُ حُكْمُهُمْ مِنَ الْآيَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، فَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْإِمَاءِ بِشَرْطِهِ، وَقِيلَ: كَالْأَحْرَارِ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَالْجُهْدُ وَالْفَسَادُ، قِيلَ: أَصْلُهُ انْكِسَارُ الْعَظْمِ بَعْدَ الْجَبْرِ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ جَائِزٌ لِمَنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الضَّرَرَ، وَالْفَسَادَ مِنَ الْتِزَامِ الْعِفَّةِ وَمُقَاوَمَةِ دَاعِيَةِ الْفِطْرَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مُقَاوَمَةَ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى وَأَرْسَخُ شُئُونِ
الْحَيَاةِ قَدْ تُفْضِي إِلَى أَمْرَاضٍ عَصَبِيَّةٍ وَغَيْرِ عَصَبِيَّةٍ إِذَا طَالَ الْعَهْدُ عَلَى مُقَاوَمَتِهَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَنَتِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ بِارْتِكَابِ الزِّنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَنَتَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِثْمِ لُغَةً، وَنَقُولُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ هُوَ الضَّرَرُ فَيَقْرُبُ مِنْ مَعْنَى إِلَّا أَنَّ الْعَنَتَ أَشُدُّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْقُرْآنَ، وَوُجُوبَ اتِّبَاعِهِ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ آيَةَ الرَّجْمِ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النُّورِ بَعْدَ آيَةِ الْجَلْدِ، ثُمَّ رُفِعَتْ وَبَقِيَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوِ اعْتِرَافٌ.
وَأَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِرَجْمِ مَاعِزٍ الْأَسْلَمِيِّ وَالْغَامِدِيَّةِ لِاعْتِرَافِهِمَا بِالزِّنَا، وَلَكِنَّهُ أَرْجَأَ الْمَرْأَةَ حَتَّى وَضَعَتْ، وَأَرْضَعَتْ، وَفَطَمَتْ وَلَدَهَا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَرَوَيَا وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَجْمَ امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَلَدَ الْغُلَامَ الْعَسِيفَ (الْأَجِيرَ) الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرَةٍ، وَرَجَمَ الْمَرْأَةَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدَهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، وَظَاهِرُ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَنَّ السَّائِلَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ كَانَ الْجَلْدُ نَاسِخًا لِلرَّجْمِ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ عَمَلًا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، أَمْ كَانَ الرَّجْمُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْجَلْدِ بِجَعْلِهِ خَاصًّا بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ بِالزَّوَاجِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ ضَرَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَا يَقُولُ بِأَنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ حَدِيثًا صَرِيحًا فِي رَجْمِ الْأَيِّمِ الثَّيِّبِ، وَسَأَتَتَبَّعُ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ النُّورِ وَأُحَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي الْعُمْرِ، وَوَرَدَ أَنَّ الْأَمَةَ غَيْرُ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ لَكِنْ يَجْلِدُهَا سَيِّدُهَا، قِيلَ: حَدًّا، وَقِيلَ: تَعْزِيرًا مِائَةَ جَلْدَةٍ أَوْ أَقَلَّ، أَقْوَالٌ وَوُجُوهٌ، وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَيُعْلَمُ حُكْمُهُمْ مِنَ الْآيَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، فَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْإِمَاءِ بِشَرْطِهِ، وَقِيلَ: كَالْأَحْرَارِ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَالْجُهْدُ وَالْفَسَادُ، قِيلَ: أَصْلُهُ انْكِسَارُ الْعَظْمِ بَعْدَ الْجَبْرِ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ جَائِزٌ لِمَنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الضَّرَرَ، وَالْفَسَادَ مِنَ الْتِزَامِ الْعِفَّةِ وَمُقَاوَمَةِ دَاعِيَةِ الْفِطْرَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مُقَاوَمَةَ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى وَأَرْسَخُ شُئُونِ
الْحَيَاةِ قَدْ تُفْضِي إِلَى أَمْرَاضٍ عَصَبِيَّةٍ وَغَيْرِ عَصَبِيَّةٍ إِذَا طَالَ الْعَهْدُ عَلَى مُقَاوَمَتِهَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَنَتِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ بِارْتِكَابِ الزِّنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَنَتَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِثْمِ لُغَةً، وَنَقُولُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ هُوَ الضَّرَرُ فَيَقْرُبُ مِنْ مَعْنَى إِلَّا أَنَّ الْعَنَتَ أَشُدُّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
22
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنِ الْعَنَتِ، فَقَالَ: الْإِثْمُ، قَالَ نَافِعٌ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَأَنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: وَصَبْرُكُمْ بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِهِنَّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَكُمْ، لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْكُمْ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْمَعَايِبِ كَالذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالِابْتِذَالِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدِ الْأَعْمَالِ، وَسَرَيَانِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ إِلَى أَوْلَادِهِنَّ بِالْوِرَاثَةِ، وَكَوْنِهِنَّ عُرْضَةً لِلِانْتِقَالِ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، فَقَدْ يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا لِفَتَاةِ فُلَانٍ الْفَاضِلِ الْمُهَذَّبِ، وَلَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا لِأَمَةِ فُلَانٍ اللَّئِيمِ أَوِ الْفَاسِقِ الزَّنِيمِ، وَمَنْ كَانَتْ لِلْفَاضِلِ الْيَوْمَ قَدْ تَكُونُ لِلْفَاسِقِ غَدًا، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَكَحَ الْعَبْدُ الْحُرَّةَ فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ، وَإِذَا نَكَحَ الْحُرُّ الْأَمَةَ فَقَدْ أَرَقَّ نِصْفَهُ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ وَهِيَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ; وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لَفْظُ " زَوْجٍ " لِاتِّحَادِهِ بِالْآخَرِ وَإِنْ كَانَ فَرْدًا فِي ذَاتِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَزَحَّفَ نَاكِحُ الْأَمَةِ عَنِ الزِّنَا إِلَّا قَلِيلًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ وَمَلَكَةِ الْعِفَّةِ وَتَحْكِيمِ الْعَقْلِ بِالْهَوَى، وَمِنْ عَدَمِ تَعْرِيضِ الْوَلَدِ لِلرِّقِّ، وَلِفَسَادِ الْأَخْلَاقِ بِالْإِرْثِ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ وَالْحَيَوَانِ، فَهِيَ تَشْعُرُ دَائِمًا بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ فَيَرِثُ أَوْلَادُهَا إِحْسَاسَهَا وَوِجْدَانَهَا الْخَسِيسَيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا، وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ وَكَانَتْ لَمْ
تَحِلَّ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْمُتْعَةُ جَائِزَةً؟ !
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لِمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، رَحِيمٌ بِهِ، كَذَا فَسَّرُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ نَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الذَّنْبِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخْتَمُ بِهَا الْآيَاتُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ تُخَصَّ بِمَا تَتَّصِلُ بِهِ، فَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا عُرْضَةً لِلْهَفَوَاتِ وَاللَّمَمِ كَعَدَمِ الطَّوْلِ، وَاحْتِقَارِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ وَالطَّعْنِ فِيهِنَّ عِنْدَ الْحَدِيثِ فِي نِكَاحِهِنَّ، ثُمَّ عَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِنَّ، فَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَمِنْهَا مَا يَشُقُّ اتِّقَاؤُهُ، ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، لِيُذَكِّرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُهُ مِنْهَا.
رَأَيْتُكَ تَبْتَغِي عَنَتِي وَتَسْعَى | مَعَ السَّاعِي عَلَيَّ بِغَيْرِ ذَحْلِ |
إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَنْزِلِ الْمَرْءِ حُرَّةٌ | تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ |
تَحِلَّ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْمُتْعَةُ جَائِزَةً؟ !
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لِمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، رَحِيمٌ بِهِ، كَذَا فَسَّرُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ نَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الذَّنْبِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخْتَمُ بِهَا الْآيَاتُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ تُخَصَّ بِمَا تَتَّصِلُ بِهِ، فَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا عُرْضَةً لِلْهَفَوَاتِ وَاللَّمَمِ كَعَدَمِ الطَّوْلِ، وَاحْتِقَارِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ وَالطَّعْنِ فِيهِنَّ عِنْدَ الْحَدِيثِ فِي نِكَاحِهِنَّ، ثُمَّ عَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِنَّ، فَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَمِنْهَا مَا يَشُقُّ اتِّقَاؤُهُ، ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، لِيُذَكِّرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُهُ مِنْهَا.
23
يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِأَنْ يُعَلِّلَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَيُبَيِّنَ حُكْمَهَا بَعْدَ بَيَانِهَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْلِيلُ بَيَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إِلَخْ، اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: مَا هِيَ حِكْمَةُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفَائِدَتُهَا لَنَا؟ وَهَلْ كَلَّفَ اللهُ تَعَالَى أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ إِيَّاهَا أَوْ مِثْلَهَا فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا كُلَّ امْرَأَةٍ، وَهَلْ كَانَ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا عَنْهُ تَشْدِيدًا عَلَيْنَا، أَمْ تَخْفِيفًا عَنَّا؟ فَجَاءَتِ الْآيَاتُ مُبَيِّنَةً أَجْوِبَةَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَخْطُرَ بِالْبَالِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَقَوْلُهُ: لِيُبَيِّنَ مَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ، فَاللَّامُ نَاصِبَةُ بِمَعْنَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ ـ كَمَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ ـ وَمِثْلُهُ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ (٦١: ٨)، أَقُولُ: وَيَجْعَلُ الْبَصْرِيُّونَ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفًا، وَاللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: يُرِيدُ اللهُ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ ; لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ بِهِ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُكُمْ وَقِوَامُ فِطْرَتِكُمْ، وَلَهُمْ فِي هَذِهِ اللَّامِ أَقْوَالٌ أُخْرَى.
وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُ " لِيُبَيِّنَ " لِتَتَوَجَّهَ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ ثَنَايَا الْفِطْرَةِ الْقَوِيمَةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى بَعْضِ الْحِكَمِ فِي تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ عَقِبَ سَرْدِهَا، وَرَأَيْنَا أَنْ نُؤَخِّرَ ذِكْرَهَا فَنَجْعَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِيَكُونَ بَيَانًا لِمَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا كَتَبْنَا عَنْهُ فِي مُذَكِّرَتِنَا بَيَانَ عَاطِفَةِ الْأَبِ السَّائِقَةِ إِلَى تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ وَهِيَ تُذَكِّرُ بِغَيْرِهَا مِنْ مَرَاتِبِ صِلَاتِ الْقَرَابَةِ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ بِالْإِيجَازِ، وَمَحَلُّ الْإِسْهَابِ فِيهِ كُتُبُ الْأَخْلَاقِ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ بَيْنَ النَّاسِ ضُرُوبًا مِنَ الصِّلَةِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا وَيَتَعَاوَنُونَ عَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَأَقْوَى هَذِهِ الصِّلَاتِ صِلَةُ الْقَرَابَةِ وَصِلَةُ الصِّهْرِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ، فَأَمَّا صِلَةُ الْقَرَابَةِ فَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعَاطِفَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ، فَمَنِ اكْتَنَهَ السِّرَّ فِي عَطْفِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ دَاعِيَةً فِطْرِيَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِثْلَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ كَنَظَرِهِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ،
وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُ " لِيُبَيِّنَ " لِتَتَوَجَّهَ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ ثَنَايَا الْفِطْرَةِ الْقَوِيمَةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى بَعْضِ الْحِكَمِ فِي تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ عَقِبَ سَرْدِهَا، وَرَأَيْنَا أَنْ نُؤَخِّرَ ذِكْرَهَا فَنَجْعَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِيَكُونَ بَيَانًا لِمَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا كَتَبْنَا عَنْهُ فِي مُذَكِّرَتِنَا بَيَانَ عَاطِفَةِ الْأَبِ السَّائِقَةِ إِلَى تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ وَهِيَ تُذَكِّرُ بِغَيْرِهَا مِنْ مَرَاتِبِ صِلَاتِ الْقَرَابَةِ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ بِالْإِيجَازِ، وَمَحَلُّ الْإِسْهَابِ فِيهِ كُتُبُ الْأَخْلَاقِ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ بَيْنَ النَّاسِ ضُرُوبًا مِنَ الصِّلَةِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا وَيَتَعَاوَنُونَ عَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَأَقْوَى هَذِهِ الصِّلَاتِ صِلَةُ الْقَرَابَةِ وَصِلَةُ الصِّهْرِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ، فَأَمَّا صِلَةُ الْقَرَابَةِ فَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعَاطِفَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ، فَمَنِ اكْتَنَهَ السِّرَّ فِي عَطْفِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ دَاعِيَةً فِطْرِيَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِثْلَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ كَنَظَرِهِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ،
24
وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِهِ، وَيَجِدُ فِي نَفْسِ الْوَلَدِ شُعُورًا بِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَنْشَأَ وُجُودِهِ وَمُمِدَّ حَيَاتِهِ، وَقِوَامَ تَأْدِيبِهِ وَعُنْوَانَ شَرَفِهِ، وَبِهَذَا الشُّعُورِ يَحْتَرِمُ الِابْنُ أَبَاهُ، وَبِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ يَعْطِفُ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ وَيُسَاعِدُهُ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَلَا يَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ أَنَّ عَاطِفَةَ الْأُمِّ الْوَالِدِيَّةَ أَقْوَى مِنْ عَاطِفَةِ الْأَبِ، وَرَحْمَتَهَا أَشَدُّ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَحَنَانَهَا أَرْسَخُ مِنْ حَنَانِهِ ; لِأَنَّهَا أَرَقُّ قَلْبًا وَأَدَقُّ شُعُورًا، وَأَنَّ الْوَلَدَ يَتَكَوَّنُ جَنِينًا مِنْ دَمِهَا الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهَا، ثُمَّ يَكُونُ طِفْلًا يَتَغَذَّى مِنْ لَبَنِهَا، فَيَكُونُ لَهُ مَعَ كُلِّ مَصَّةٍ مِنْ ثَدْيِهَا عَاطِفَةٌ جَدِيدَةٌ يَسْتَلُّهَا مِنْ قَلْبِهَا، وَالطِّفْلُ لَا يُحِبُّ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أُمِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحِبُّ أَبَاهُ وَلَكِنْ دُونُ حُبِّهِ لِأُمِّهِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَرِمُهُ أَشَدَّ مِمَّا يَحْتَرِمُهَا، أَفَلَيْسَ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يُزَاحِمَ هَذَا الْحُبَّ الْعَظِيمَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ حُبُّ اسْتِمْتَاعِ الشَّهْوَةِ فَيَزْحَمَهُ وَيُفْسِدَهُ وَهُوَ خَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ بَلَى ; وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ هُوَ الْأَشَدَّ الْمُقَدَّمَ فِي الْآيَةِ وَيَلِيهِ تَحْرِيمُ الْبَنَاتِ، وَلَوْلَا مَا عُهِدَ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ وَالْعَبَثِ بِهَا وَالْإِفْسَادِ فِيهَا، لَكَانَ لِسَلِيمِ الْفِطْرَةِ أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ ; لِأَنَّ فِطْرَتَهُ تُشْعِرُ بِأَنَّ النُّزُوعَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُسْتَحِيلَاتِ.
وَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ فَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا تُشْبِهُ الصِّلَةَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَأَعْضَاءِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ ; فَإِنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ يَسْتَوِيَانِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إِنَّهُمَا يَنْشَآنِ فِي حِجْرٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْغَالِبِ، وَعَاطِفَةُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَتْ أَقْوَى فِي أَحَدِهِمَا مِنْهَا فِي الْآخَرِ كَقُوَّةِ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ وَالْأُبُوَّةِ عَلَى عَاطِفَةِ الْبُنُوَّةِ ; فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ أُنْسُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ أُنْسَ مُسَاوَاةٍ لَا يُضَاهِيهِ أُنْسٌ آخَرُ إِذْ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الْبَشَرِ صِلَةٌ أُخْرَى فِيهَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ الْكَامِلَةِ، وَعَوَاطِفِ الْوُدِّ وَالثِّقَةِ الْمُتَبَادَلَةِ، وَيُحْكَى أَنَّ امْرَأَةً شَفَعَتْ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فِي زَوْجِهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَكَانَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ فَشَفَّعَهَا فِي وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمْ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَنْ يَبْقَى فَاخْتَارَتْ أَخَاهَا فَسَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنَّ الْأَخَ لَا عِوَضَ عَنْهُ، وَقَدْ مَاتَ الْوَالِدَانِ، وَأَمَّا الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فَيُمْكِنُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمَا بِمِثْلِهِمَا، فَأَعْجَبَهُ هَذَا الْجَوَابُ، وَعَفَا عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ: لَوِ اخْتَارَتِ الزَّوْجَ لَمَا أَبْقَيْتُ لَهَا أَحَدًا، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ صِلَةَ الْأُخُوَّةِ صِلَةٌ فِطْرِيَّةٌ قَوِيَّةٌ، وَأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَشْتَهِي بَعْضُهُمُ التَّمَتُّعَ بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ عَاطِفَةَ الْأُخُوَّةِ تَكُونُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ عَلَى النَّفْسِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِسِوَاهَا مَعَهَا مَوْضِعٌ مَا سَلِمَتِ الْفِطْرَةُ، فَقَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِمُعْتَلِّي الْفِطْرَةِ مَنْفَذٌ لِاسْتِبْدَالِ دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ بِعَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ.
وَأَمَّا الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَهُنَّ مِنْ طِينَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَفِي الْحَدِيثِ " عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ "، أَيْ: هُمَا كَالصِّنْوَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِ النَّخْلَةِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَلَا يَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ أَنَّ عَاطِفَةَ الْأُمِّ الْوَالِدِيَّةَ أَقْوَى مِنْ عَاطِفَةِ الْأَبِ، وَرَحْمَتَهَا أَشَدُّ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَحَنَانَهَا أَرْسَخُ مِنْ حَنَانِهِ ; لِأَنَّهَا أَرَقُّ قَلْبًا وَأَدَقُّ شُعُورًا، وَأَنَّ الْوَلَدَ يَتَكَوَّنُ جَنِينًا مِنْ دَمِهَا الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهَا، ثُمَّ يَكُونُ طِفْلًا يَتَغَذَّى مِنْ لَبَنِهَا، فَيَكُونُ لَهُ مَعَ كُلِّ مَصَّةٍ مِنْ ثَدْيِهَا عَاطِفَةٌ جَدِيدَةٌ يَسْتَلُّهَا مِنْ قَلْبِهَا، وَالطِّفْلُ لَا يُحِبُّ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أُمِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحِبُّ أَبَاهُ وَلَكِنْ دُونُ حُبِّهِ لِأُمِّهِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَرِمُهُ أَشَدَّ مِمَّا يَحْتَرِمُهَا، أَفَلَيْسَ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يُزَاحِمَ هَذَا الْحُبَّ الْعَظِيمَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ حُبُّ اسْتِمْتَاعِ الشَّهْوَةِ فَيَزْحَمَهُ وَيُفْسِدَهُ وَهُوَ خَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ بَلَى ; وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ هُوَ الْأَشَدَّ الْمُقَدَّمَ فِي الْآيَةِ وَيَلِيهِ تَحْرِيمُ الْبَنَاتِ، وَلَوْلَا مَا عُهِدَ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ وَالْعَبَثِ بِهَا وَالْإِفْسَادِ فِيهَا، لَكَانَ لِسَلِيمِ الْفِطْرَةِ أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ ; لِأَنَّ فِطْرَتَهُ تُشْعِرُ بِأَنَّ النُّزُوعَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُسْتَحِيلَاتِ.
وَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ فَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا تُشْبِهُ الصِّلَةَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَأَعْضَاءِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ ; فَإِنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ يَسْتَوِيَانِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إِنَّهُمَا يَنْشَآنِ فِي حِجْرٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْغَالِبِ، وَعَاطِفَةُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَتْ أَقْوَى فِي أَحَدِهِمَا مِنْهَا فِي الْآخَرِ كَقُوَّةِ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ وَالْأُبُوَّةِ عَلَى عَاطِفَةِ الْبُنُوَّةِ ; فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ أُنْسُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ أُنْسَ مُسَاوَاةٍ لَا يُضَاهِيهِ أُنْسٌ آخَرُ إِذْ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الْبَشَرِ صِلَةٌ أُخْرَى فِيهَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ الْكَامِلَةِ، وَعَوَاطِفِ الْوُدِّ وَالثِّقَةِ الْمُتَبَادَلَةِ، وَيُحْكَى أَنَّ امْرَأَةً شَفَعَتْ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فِي زَوْجِهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَكَانَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ فَشَفَّعَهَا فِي وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمْ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَنْ يَبْقَى فَاخْتَارَتْ أَخَاهَا فَسَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنَّ الْأَخَ لَا عِوَضَ عَنْهُ، وَقَدْ مَاتَ الْوَالِدَانِ، وَأَمَّا الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فَيُمْكِنُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمَا بِمِثْلِهِمَا، فَأَعْجَبَهُ هَذَا الْجَوَابُ، وَعَفَا عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ: لَوِ اخْتَارَتِ الزَّوْجَ لَمَا أَبْقَيْتُ لَهَا أَحَدًا، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ صِلَةَ الْأُخُوَّةِ صِلَةٌ فِطْرِيَّةٌ قَوِيَّةٌ، وَأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَشْتَهِي بَعْضُهُمُ التَّمَتُّعَ بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ عَاطِفَةَ الْأُخُوَّةِ تَكُونُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ عَلَى النَّفْسِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِسِوَاهَا مَعَهَا مَوْضِعٌ مَا سَلِمَتِ الْفِطْرَةُ، فَقَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِمُعْتَلِّي الْفِطْرَةِ مَنْفَذٌ لِاسْتِبْدَالِ دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ بِعَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ.
وَأَمَّا الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَهُنَّ مِنْ طِينَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَفِي الْحَدِيثِ " عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ "، أَيْ: هُمَا كَالصِّنْوَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِ النَّخْلَةِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ
25
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ (٢: ١٣٣)، فَعَدُّوا إِسْمَاعِيلَ مِنْ آبَائِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخٌ لِإِسْحَاقَ فَكَأَنَّهُ هُوَ وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي كَانَتْ بِهِ صِلَةُ الْعُمُومَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُبُوَّةِ، وَصِلَةُ الْخُئُولَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُمُومَةِ، قَالُوا: إِنَّ تَحْرِيمَ الْجَدَّاتِ مُنْدَرِجٌ فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَدَاخِلٌ فِيهِ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْفِطْرَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَاطِفَةِ صِلَةِ الْعُمُومَةِ وَالْخُئُولَةِ، وَالتَّرَاحُمُ وَالتَّعَاوُنُ بِهَا وَأَلَّا تَنْزَويَ الشَّهْوَةُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ.
وَأَمَّا بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَهُمَا مِنَ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَخَاهُ وَأُخْتَهُ كَنَفْسِهِ، وَصَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَجِدُ لَهَا هَذِهِ الْعَاطِفَةَ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا
صَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّقِيمَةِ إِلَّا أَنَّ عَاطِفَةَ هَذَا تَكُونُ كَفِطْرَتِهِ فِي سَقَمِهَا، نَعَمْ إِنَّ عَطْفَ الرَّجُلِ عَلَى بِنْتِهِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ أُنْسِهِ بِبَنَاتِهِمَا لِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، وَبَيْنَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْحُبَّ لِهَؤُلَاءِ حُبُّ عَطْفٍ وَحَنَانٍ، وَالْحُبُّ لِأُولَئِكَ حُبُّ تَكْرِيمٍ وَاحْتِرَامٍ، فَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْبُعْدِ عَنْ مَوَاقِعِ الشَّهْوَةِ مُتَكَافِئَانِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ; لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِهِمَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، فَصِلَتُهُمَا أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ.
هَذِهِ هِيَ أَنْوَاعُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ الَّتِي يَتَرَاحَمُ النَّاسُ بِهَا وَيَتَعَاطَفُونَ، وَيَتَوَادُّونَ وَيَتَعَاوَنُونَ بِمَا جَعَلَ اللهُ لَهَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحُبِّ وَالْحَنَانِ، وَالْعَطْفِ وَالِاحْتِرَامِ، فَحَرَّمَ اللهُ فِيهَا النِّكَاحَ لِأَجْلِ أَنْ تَتَوَجَّهَ عَاطِفَةُ الزَّوْجِيَّةِ وَمَحَبَّتُهَا إِلَى مَنْ ضَعُفَتِ الصِّلَةُ الطَّبِيعِيَّةُ أَوِ النَّسَبِيَّةُ بَيْنَهُمْ كَالْغُرَبَاءِ وَالْأَجَانِبِ، وَالطَّبَقَاتِ الْبَعِيدَةِ مِنْ سُلَالَةِ الْأَقَارِبِ، كَأَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَبِذَلِكَ تَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ قُرَابَةُ الصِّهْرِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ كَقُرَابَةِ النَّسَبِ، فَتَتَّسِعُ دَائِرَةُ الرَّحْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ الشَّرْعِ الرُّوحِيَّةُ فِي مُحَرَّمَاتِ الْقَرَابَةِ.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ هُنَالِكَ حِكْمَةً جَسَدِيَّةً حَيَوِيَّةً عَظِيمَةً جَدًا، وَهِيَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَقَارِبِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ سَبَبًا لِضَعْفِ النَّسْلِ، فَإِذَا تَسَلْسَلَتْ وَاسْتَمَرَّتْ يَتَسَلْسَلُ الضَّعْفُ وَالضَّوَى فِيهِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ ; وَلِذَلِكَ سَبَبَانِ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، أَنَّ قُوَّةَ النَّسْلِ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ فِي الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ الشَّهْوَةُ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا تَكُونُ ضَعِيفَةً بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةً لِكَرَاهَةِ تَزَوُّجِ بَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ إِلَخْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ شُعُورٌ
وَأَمَّا بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَهُمَا مِنَ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَخَاهُ وَأُخْتَهُ كَنَفْسِهِ، وَصَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَجِدُ لَهَا هَذِهِ الْعَاطِفَةَ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا
صَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّقِيمَةِ إِلَّا أَنَّ عَاطِفَةَ هَذَا تَكُونُ كَفِطْرَتِهِ فِي سَقَمِهَا، نَعَمْ إِنَّ عَطْفَ الرَّجُلِ عَلَى بِنْتِهِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ أُنْسِهِ بِبَنَاتِهِمَا لِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، وَبَيْنَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْحُبَّ لِهَؤُلَاءِ حُبُّ عَطْفٍ وَحَنَانٍ، وَالْحُبُّ لِأُولَئِكَ حُبُّ تَكْرِيمٍ وَاحْتِرَامٍ، فَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْبُعْدِ عَنْ مَوَاقِعِ الشَّهْوَةِ مُتَكَافِئَانِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ; لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِهِمَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، فَصِلَتُهُمَا أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ.
هَذِهِ هِيَ أَنْوَاعُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ الَّتِي يَتَرَاحَمُ النَّاسُ بِهَا وَيَتَعَاطَفُونَ، وَيَتَوَادُّونَ وَيَتَعَاوَنُونَ بِمَا جَعَلَ اللهُ لَهَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحُبِّ وَالْحَنَانِ، وَالْعَطْفِ وَالِاحْتِرَامِ، فَحَرَّمَ اللهُ فِيهَا النِّكَاحَ لِأَجْلِ أَنْ تَتَوَجَّهَ عَاطِفَةُ الزَّوْجِيَّةِ وَمَحَبَّتُهَا إِلَى مَنْ ضَعُفَتِ الصِّلَةُ الطَّبِيعِيَّةُ أَوِ النَّسَبِيَّةُ بَيْنَهُمْ كَالْغُرَبَاءِ وَالْأَجَانِبِ، وَالطَّبَقَاتِ الْبَعِيدَةِ مِنْ سُلَالَةِ الْأَقَارِبِ، كَأَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَبِذَلِكَ تَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ قُرَابَةُ الصِّهْرِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ كَقُرَابَةِ النَّسَبِ، فَتَتَّسِعُ دَائِرَةُ الرَّحْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ الشَّرْعِ الرُّوحِيَّةُ فِي مُحَرَّمَاتِ الْقَرَابَةِ.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ هُنَالِكَ حِكْمَةً جَسَدِيَّةً حَيَوِيَّةً عَظِيمَةً جَدًا، وَهِيَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَقَارِبِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ سَبَبًا لِضَعْفِ النَّسْلِ، فَإِذَا تَسَلْسَلَتْ وَاسْتَمَرَّتْ يَتَسَلْسَلُ الضَّعْفُ وَالضَّوَى فِيهِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ ; وَلِذَلِكَ سَبَبَانِ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، أَنَّ قُوَّةَ النَّسْلِ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ فِي الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ الشَّهْوَةُ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا تَكُونُ ضَعِيفَةً بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةً لِكَرَاهَةِ تَزَوُّجِ بَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ إِلَخْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ شُعُورٌ
26
فِي النَّفْسِ يُزَاحِمُهُ شُعُورُ عَوَاطِفِ الْقَرَابَةِ الْمُضَادَّةِ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُزِيلَهُ وَإِمَّا أَنْ يُزَلْزِلَهُ وَيُضْعِفَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ آنِفًا.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: يَعْرِفُهُ الْأَطِبَّاءُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ لِلْعَامَّةِ بِمِثَالٍ تَقْرِيبِيٍّ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْفَلَّاحِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي يَتَكَرَّرُ زَرْعُ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْحُبُوبِ فِيهَا يَضْعُفُ هَذَا الزَّرْعُ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ لِقِلَّةِ الْمَوَادِّ الَّتِي هِيَ قِوَامُ غِذَائِهِ، وَكَثْرَةِ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى الَّتِي لَا يَتَغَذَّى مِنْهَا وَمُزَاحَمَتِهَا لِغِذَائِهِ أَنْ يَخْلُصَ لَهُ، وَلَوْ زُرِعَ ذَلِكَ الْحَبُّ فِي
أَرْضٍ أُخْرَى وَزُرِعَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْحَبِّ لَنَمَا كُلٌّ مِنْهُمَا، بَلْ ثَبَتَ عِنْدَ الزُّرَّاعِ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّنْفِ مِنَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِذَارِ يُفِيدُ، فَإِذَا زَرَعُوا حِنْطَةً فِي أَرْضٍ وَأَخَذُوا بَذْرًا مِنْ غَلَّتِهَا فَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ يَكُونُ نُمُوُّهُ ضَعِيفًا وَغَلَّتُهُ قَلِيلَةً، وَإِذَا أَخَذُوا الْبَذْرَ مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى وَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ نَفْسِهَا يَكُونُ أَنْمَى وَأَزْكَى، كَذَلِكَ النِّسَاءُ حَرْثٌ كَالْأَرْضِ يُزْرَعُ فِيهِنَّ الْوَلَدُ، وَطَوَائِفُ النَّاسِ كَأَنْوَاعِ الْبِذَارِ وَأَصْنَافِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أَفْرَادُ كُلِّ عَشِيرَةٍ مِنْ أُخْرَى لِيَزْكُوَ الْوَلَدُ وَيَنْجُبَ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ مِنْ مِزَاجِ أَبَوَيْهِ وَمَادَّةِ أَجْسَادِهِمَا وَيَرِثُ مِنْ أَخْلَاقِهِمَا وَصِفَاتِهِمَا الرُّوحِيَّةِ وَيُبَايِنُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالتَّوَارُثُ وَالتَّبَايُنُ سُنَّتَانِ مِنْ سُنَنِ الْخَلِيقَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَظَّهَا لِأَجْلِ أَنْ تَرْتَقِيَ السَّلَائِلُ الْبَشَرِيَّةُ، وَيَتَقَارَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَسْتَمِدَّ بَعْضُهُمُ الْقُوَّةَ وَالِاسْتِعْدَادَ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّزَوُّجُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ يُنَافِي ذَلِكَ فَثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ أَنَّهُ ضَارٌّ بَدَنًا وَنَفْسًا، مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ مُخِلٌّ بِالرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَائِقٌ لِارْتِقَاءِ الْبَشَرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي تُطْلَبُ مُرَاعَاتُهَا فِي الْمَرْأَةِ أَلَّا تَكُونَ مِنَ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، قَالَ: فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا أَيْ نَحِيفًا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ وَلَكِنْ رَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِآلِ السَّائِبِ: " اغْتَرِبُوا لَا تَضْوُوا "، أَيْ: تَزَوَّجُوا الْغَرَائِبَ لِئَلَّا تَجِيءَ أَوْلَادُكُمْ نِحَافًا ضِعَافًا، وَعَلَّلَ الْغَزَالِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّهْوَةَ إِنَّمَا تَنْبَعِثُ بِقُوَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالنَّظَرِ أَوِ اللَّمْسِ، وَإِنَّمَا يَقْوَى الْإِحْسَاسُ بِالْأَمْرِ الْغَرِيبِ الْجَدِيدِ، فَأَمَّا الْمَعْهُودُ الَّذِي دَامَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ الْحِسُّ عَنْ تَمَامِ إِدْرَاكِهِ وَالتَّأَثُّرِ بِهِ وَلَا تَنْبَعِثُ بِهِ الشَّهْوَةُ اهـ، وَتَعْلِيلُهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ، وَالْعُمْدَةُ مَا قُلْنَاهُ.
وَأَمَّا حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ فَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (٤: ٢٣)، وَيَزِيدُهُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي حِكْمَةِ مُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ تِبْيَانًا فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِنَا أَنْ وَسَّعَ لَنَا دَائِرَةَ الْقَرَابَةِ بِإِلْحَاقِ الرَّضَاعَةِ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ بَدَنِ الرَّضِيعِ يَتَكَوَّنُ مِنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ، وَفَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَاكَ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَرِثُ مِنْهَا كَمَا يَرِثُ وَلَدُهَا الَّذِي وَلَدَتْهُ.
وَأَشَرْنَا أَيْضًا إِلَى حِكْمَةِ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الْمُصَاهَرَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ
الرَّبِيبَةِ
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: يَعْرِفُهُ الْأَطِبَّاءُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ لِلْعَامَّةِ بِمِثَالٍ تَقْرِيبِيٍّ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْفَلَّاحِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي يَتَكَرَّرُ زَرْعُ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْحُبُوبِ فِيهَا يَضْعُفُ هَذَا الزَّرْعُ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ لِقِلَّةِ الْمَوَادِّ الَّتِي هِيَ قِوَامُ غِذَائِهِ، وَكَثْرَةِ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى الَّتِي لَا يَتَغَذَّى مِنْهَا وَمُزَاحَمَتِهَا لِغِذَائِهِ أَنْ يَخْلُصَ لَهُ، وَلَوْ زُرِعَ ذَلِكَ الْحَبُّ فِي
أَرْضٍ أُخْرَى وَزُرِعَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْحَبِّ لَنَمَا كُلٌّ مِنْهُمَا، بَلْ ثَبَتَ عِنْدَ الزُّرَّاعِ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّنْفِ مِنَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِذَارِ يُفِيدُ، فَإِذَا زَرَعُوا حِنْطَةً فِي أَرْضٍ وَأَخَذُوا بَذْرًا مِنْ غَلَّتِهَا فَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ يَكُونُ نُمُوُّهُ ضَعِيفًا وَغَلَّتُهُ قَلِيلَةً، وَإِذَا أَخَذُوا الْبَذْرَ مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى وَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ نَفْسِهَا يَكُونُ أَنْمَى وَأَزْكَى، كَذَلِكَ النِّسَاءُ حَرْثٌ كَالْأَرْضِ يُزْرَعُ فِيهِنَّ الْوَلَدُ، وَطَوَائِفُ النَّاسِ كَأَنْوَاعِ الْبِذَارِ وَأَصْنَافِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أَفْرَادُ كُلِّ عَشِيرَةٍ مِنْ أُخْرَى لِيَزْكُوَ الْوَلَدُ وَيَنْجُبَ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ مِنْ مِزَاجِ أَبَوَيْهِ وَمَادَّةِ أَجْسَادِهِمَا وَيَرِثُ مِنْ أَخْلَاقِهِمَا وَصِفَاتِهِمَا الرُّوحِيَّةِ وَيُبَايِنُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالتَّوَارُثُ وَالتَّبَايُنُ سُنَّتَانِ مِنْ سُنَنِ الْخَلِيقَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَظَّهَا لِأَجْلِ أَنْ تَرْتَقِيَ السَّلَائِلُ الْبَشَرِيَّةُ، وَيَتَقَارَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَسْتَمِدَّ بَعْضُهُمُ الْقُوَّةَ وَالِاسْتِعْدَادَ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّزَوُّجُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ يُنَافِي ذَلِكَ فَثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ أَنَّهُ ضَارٌّ بَدَنًا وَنَفْسًا، مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ مُخِلٌّ بِالرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَائِقٌ لِارْتِقَاءِ الْبَشَرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي تُطْلَبُ مُرَاعَاتُهَا فِي الْمَرْأَةِ أَلَّا تَكُونَ مِنَ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، قَالَ: فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا أَيْ نَحِيفًا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ وَلَكِنْ رَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِآلِ السَّائِبِ: " اغْتَرِبُوا لَا تَضْوُوا "، أَيْ: تَزَوَّجُوا الْغَرَائِبَ لِئَلَّا تَجِيءَ أَوْلَادُكُمْ نِحَافًا ضِعَافًا، وَعَلَّلَ الْغَزَالِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّهْوَةَ إِنَّمَا تَنْبَعِثُ بِقُوَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالنَّظَرِ أَوِ اللَّمْسِ، وَإِنَّمَا يَقْوَى الْإِحْسَاسُ بِالْأَمْرِ الْغَرِيبِ الْجَدِيدِ، فَأَمَّا الْمَعْهُودُ الَّذِي دَامَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ الْحِسُّ عَنْ تَمَامِ إِدْرَاكِهِ وَالتَّأَثُّرِ بِهِ وَلَا تَنْبَعِثُ بِهِ الشَّهْوَةُ اهـ، وَتَعْلِيلُهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ، وَالْعُمْدَةُ مَا قُلْنَاهُ.
وَأَمَّا حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ فَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (٤: ٢٣)، وَيَزِيدُهُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي حِكْمَةِ مُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ تِبْيَانًا فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِنَا أَنْ وَسَّعَ لَنَا دَائِرَةَ الْقَرَابَةِ بِإِلْحَاقِ الرَّضَاعَةِ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ بَدَنِ الرَّضِيعِ يَتَكَوَّنُ مِنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ، وَفَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَاكَ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَرِثُ مِنْهَا كَمَا يَرِثُ وَلَدُهَا الَّذِي وَلَدَتْهُ.
وَأَشَرْنَا أَيْضًا إِلَى حِكْمَةِ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الْمُصَاهَرَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ
الرَّبِيبَةِ
27
وَهِيَ بِنْتُ الزَّوْجَةِ، وَأُمُّهَا أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ شَقِيقَةُ رُوحِهِ بَلْ مُقَوِّمَةُ مَاهِيَّتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَمُتَمِّمَتُهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُمُّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي الِاحْتِرَامِ، وَيَقْبُحُ جِدًّا أَنْ تَكُونَ ضَرَّةً لَهَا ; فَإِنَّ لُحْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ مِنْ عَشِيرَةٍ صَارَ كَأَحَدِ أَفْرَادِهَا وَتَجَدَّدَتْ فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةُ مَوَدَّةٍ جَدِيدَةٍ لَهُمْ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّغَايُرِ وَالضِّرَارِ بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا؟ كَلَّا، إِنْ ذَلِكَ يُنَافِي حِكْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ وَالْقَرَابَةِ، وَيَكُونُ سَبَبَ فَسَادِ الْعَشِيرَةِ، فَالْمُوَافِقُ لِلْفِطْرَةِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ هُوَ أَنْ تَكُونَ أُمُّ الزَّوْجَةِ كَأُمِّ الزَّوْجِ، وَبِنْتُهَا الَّتِي فِي حِجْرِهِ كَابْنَتِهِ مِنْ صُلْبِهِ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ زَوْجُ ابْنِهِ بِمَنْزِلَةِ ابْنِهِ، يُوَجِّهُ إِلَيْهَا الْعَاطِفَةَ الَّتِي يَجِدُهَا لِابْنَتِهِ، كَمَا يُنْزِلُ الِابْنُ امْرَأَةَ أَبِيهِ مَنْزِلَةَ أُمِّهِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا لِتَكُونَ الْمُصَاهَرَةُ لُحْمَةَ مَوَدَّةٍ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الضِّرَارِ وَالنَّفْرَةِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُبِيحَ نِكَاحَ مَنْ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الزَّوْجَةِ كَأُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا، أَوْ زَوْجَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَزَوْجَةِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ؟ وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ حِكْمَةَ الزَّوَاجِ هِيَ سُكُونُ نَفْسِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَالْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ مَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَقَالَ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (٣٠: ٢١)، فَقَيَّدَ سُكُونَ النَّفْسِ الْخَاصَّ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ وَتَزْدَادُ وَتَقْوَى بِالْوَلَدِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْإِسْهَابِ فِي مَقَالَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمَنَارِ.
فَهَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَعْمُولَ لِيُبَيِّنَ لِنَلْتَمِسَهُ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ بِمَعُونَةِ إِرْشَادِنَا إِلَى كَوْنِ دِينِنَا دِينَ الْفِطْرَةِ بِقَوْلِهِ: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠: ٣٠)، فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ آيَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِثَمَانِي آيَاتٍ، وَقَالَ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١: ٢٠، ٢١)، وَقَدْ هَدَانَا بِذَلِكَ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ إِلَى اسْتِقْلَالٍ فِي
طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ، وَلَا غَرْوَ فَالْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لَا قَوَانِينَ وَضْعِيَّةٌ لِلْمُتَكَلِّفِينَ، وَلَا رُسُومَ عُرْفِيَّةٌ لِلْجَامِدِينَ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ ذَهَبْتُ إِلَى إِحْدَى دُورِ الْكُتُبِ فِي (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) حَيْثُ أَنَا فَرَاجَعْتُ كِتَابَ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِشَاهْ وَلِيِّ اللهِ الدَّهْلَوِيِّ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ فِي حُكْمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: وَالْأَصْلُ فِي التَّحْرِيمِ أُمُورٌ:
فَهَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَعْمُولَ لِيُبَيِّنَ لِنَلْتَمِسَهُ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ بِمَعُونَةِ إِرْشَادِنَا إِلَى كَوْنِ دِينِنَا دِينَ الْفِطْرَةِ بِقَوْلِهِ: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠: ٣٠)، فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ آيَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِثَمَانِي آيَاتٍ، وَقَالَ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١: ٢٠، ٢١)، وَقَدْ هَدَانَا بِذَلِكَ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ إِلَى اسْتِقْلَالٍ فِي
طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ، وَلَا غَرْوَ فَالْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لَا قَوَانِينَ وَضْعِيَّةٌ لِلْمُتَكَلِّفِينَ، وَلَا رُسُومَ عُرْفِيَّةٌ لِلْجَامِدِينَ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ ذَهَبْتُ إِلَى إِحْدَى دُورِ الْكُتُبِ فِي (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) حَيْثُ أَنَا فَرَاجَعْتُ كِتَابَ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِشَاهْ وَلِيِّ اللهِ الدَّهْلَوِيِّ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ فِي حُكْمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: وَالْأَصْلُ فِي التَّحْرِيمِ أُمُورٌ:
28
مِنْهَا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِالِاصْطِحَابِ وَالِارْتِبَاطِ، وَعَدَمِ إِمْكَانِ لُزُومِ السَّتْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَارْتِبَاطُ الْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الطَّبِيعِيِّ دُونَ الصِّنَاعِيِّ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَجْرِ السُّنَّةُ بِقَطْعِ الطَّمَعِ عَنْهُنَّ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ لَهَاجَتْ مَفَاسِدُ لَا تُحْصَى، وَأَنْتَ تَرَى الرَّجُلَ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَتَوَلَّهُ بِهَا، وَيَقْتَحِمُ فِي الْمَهَالِكِ لِأَجْلِهَا، فَمَا ظَنُّكَ فِيمَنْ يَخْلُو مَعَهَا وَيَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَأَيْضًا لَوْ فُتِحَ بَابُ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ وَلَمْ يُسَدَّ، وَلَمْ تَقُمِ اللَّائِمَةُ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّهُ سَبَبُ عَضْلِهِمْ إِيَّاهُنَّ عَمَّنْ يَرْغَبْنَ فِيهِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُ بِيَدِهِمْ أَمْرُهُنَّ وَإِلَيْهِمْ إِنْكَاحُهُنَّ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُمْ إِنْ نَكَحُوهُنَّ مَنْ يُطَالِبُهُمْ عَنْهُنَّ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِنَّ إِلَى مَنْ يُخَاصِمُ عَنْهُنَّ، وَنُظِرَ لِذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ عَضْلِهِمْ لِلْيَتَامَى الْغَنِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ قَالَ:
" وَمِنْهَا الرَّضَاعَةُ، فَإِنَّ الَّتِي أَرْضَعَتْ تُشْبِهُ الْأُمَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا سَبَبُ اجْتِمَاعِ أَمْشَاجِ بِنْيَتِهِ وَقِيَامِ هَيْكَلِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأُمَّ جَمَعَتْ خِلْقَتَهُ فِي بَطْنِهَا وَهَذِهِ دَرَّتْ عَلَيْهِ سَدَّ رَمَقِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، فَهِيَ أُمٌّ بَعْدَ الْأُمِّ وَأَوْلَادُهَا إِخْوَةٌ بَعْدَ الْإِخْوَةِ، وَقَدْ قَاسَتْ فِي حَضَانَتِهِ مَا قَاسَتْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حُقُوقِهَا مَا ثَبَتَ، وَقَدْ رَأَتْ مِنْهُ فِي صِغَرِهِ مَا رَأَتْ، فَيَكُونُ تَمَلُّكُهَا وَالْوُثُوبُ عَلَيْهَا مِمَّا تَمُجُّهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَكَمْ مِنْ بَهِيمَةٍ عَجْمَاءَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى أُمِّهَا أَوْ إِلَى مُرْضِعَتِهَا هَذِهِ اللَّفْتَةَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالرِّجَالِ!
" وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَرْضِعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَيَشُبُّ فِيهِمُ الْوَلَدُ وَيُخَالِطُهُمْ كَمُخَالَطَةِ الْمَحَارِمِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُمْ لِلرَّضَاعَةِ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَالرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ وَكَوْنَ الْأَصْلِ فِي مِقْدَارِهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ، وَالْخُمْسَ لِلِاحْتِيَاطِ ".
قَالَ: " وَمِنْهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ قَطْعِ الرَّحِمِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، فَإِنَّ الضَّرَّتَيْنِ تَتَحَاسَدَانِ وَيَنْجَرُّ الْبُغْضُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُمَا، وَالْحَسَدُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ أَخْنَعُ وَأَشْنَعُ، وَقَدْ كَرِهَ
جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ ابْنَتَيِ الْعَمِّ وَالْخَالِ لِذَلِكَ، فَمَا بَالُكَ بِامْرَأَتَيْنِ أَيُّهُمَا فَرَضَ ذَكَرًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى كَالْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي الْجَمْعِ:
قَالَ: " وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَتِ السُّنَّةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ رَغْبَةٌ فِي زَوْجِ ابْنَتِهَا، وَلِلرِّجَالِ فِي حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَبَنَاتِ نِسَائِهِمْ، لَأَفْضَى إِلَى السَّعْيِ فِي فَكِّ ذَلِكَ الرَّبْطِ، أَوْ قَتْلِ مَنْ يَشِحُّ بِهِ، وَإِنْ أَنْتَ تَسَمَّعْتَ إِلَى قَصَصِ قُدَمَاءِ الْفَارِسِيِّينَ، وَاسْتَقْرَأْتَ حَالَ أَهْلِ زَمَانِكَ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهَذِهِ السُّنَّةِ الرَّاشِدَةِ، وَجَدْتَ أُمُورًا عِظَامًا وَمَهَالِكَ وَمَظَالِمَ لَا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاصْطِحَابَ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَازِمٌ، وَالسِّتْرَ مُتَعَذَّرٌ،
" وَمِنْهَا الرَّضَاعَةُ، فَإِنَّ الَّتِي أَرْضَعَتْ تُشْبِهُ الْأُمَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا سَبَبُ اجْتِمَاعِ أَمْشَاجِ بِنْيَتِهِ وَقِيَامِ هَيْكَلِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأُمَّ جَمَعَتْ خِلْقَتَهُ فِي بَطْنِهَا وَهَذِهِ دَرَّتْ عَلَيْهِ سَدَّ رَمَقِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، فَهِيَ أُمٌّ بَعْدَ الْأُمِّ وَأَوْلَادُهَا إِخْوَةٌ بَعْدَ الْإِخْوَةِ، وَقَدْ قَاسَتْ فِي حَضَانَتِهِ مَا قَاسَتْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حُقُوقِهَا مَا ثَبَتَ، وَقَدْ رَأَتْ مِنْهُ فِي صِغَرِهِ مَا رَأَتْ، فَيَكُونُ تَمَلُّكُهَا وَالْوُثُوبُ عَلَيْهَا مِمَّا تَمُجُّهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَكَمْ مِنْ بَهِيمَةٍ عَجْمَاءَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى أُمِّهَا أَوْ إِلَى مُرْضِعَتِهَا هَذِهِ اللَّفْتَةَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالرِّجَالِ!
" وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَرْضِعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَيَشُبُّ فِيهِمُ الْوَلَدُ وَيُخَالِطُهُمْ كَمُخَالَطَةِ الْمَحَارِمِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُمْ لِلرَّضَاعَةِ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَالرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ وَكَوْنَ الْأَصْلِ فِي مِقْدَارِهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ، وَالْخُمْسَ لِلِاحْتِيَاطِ ".
قَالَ: " وَمِنْهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ قَطْعِ الرَّحِمِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، فَإِنَّ الضَّرَّتَيْنِ تَتَحَاسَدَانِ وَيَنْجَرُّ الْبُغْضُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُمَا، وَالْحَسَدُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ أَخْنَعُ وَأَشْنَعُ، وَقَدْ كَرِهَ
جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ ابْنَتَيِ الْعَمِّ وَالْخَالِ لِذَلِكَ، فَمَا بَالُكَ بِامْرَأَتَيْنِ أَيُّهُمَا فَرَضَ ذَكَرًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى كَالْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي الْجَمْعِ:
قَالَ: " وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَتِ السُّنَّةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ رَغْبَةٌ فِي زَوْجِ ابْنَتِهَا، وَلِلرِّجَالِ فِي حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَبَنَاتِ نِسَائِهِمْ، لَأَفْضَى إِلَى السَّعْيِ فِي فَكِّ ذَلِكَ الرَّبْطِ، أَوْ قَتْلِ مَنْ يَشِحُّ بِهِ، وَإِنْ أَنْتَ تَسَمَّعْتَ إِلَى قَصَصِ قُدَمَاءِ الْفَارِسِيِّينَ، وَاسْتَقْرَأْتَ حَالَ أَهْلِ زَمَانِكَ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهَذِهِ السُّنَّةِ الرَّاشِدَةِ، وَجَدْتَ أُمُورًا عِظَامًا وَمَهَالِكَ وَمَظَالِمَ لَا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاصْطِحَابَ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَازِمٌ، وَالسِّتْرَ مُتَعَذَّرٌ،
29
وَالتَّحَاسُدَ شَنِيعٌ، وَالْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُتَنَازِعَةٌ، فَكَأَنَّ أَمْرَهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ ".
قَالَ: " وَمِنْهَا الْعَدَدُ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ فِي الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ "، وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ فِي التَّعَدُّدِ إِلَّا قَوْلَهُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْأَرْبَعِ: " ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْبَعَ عَدَدٌ يُمْكِنُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَمَا دُونَ لَيْلَةٍ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْقَسْمِ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ: بَاتَ عِنْدَهَا، وَثَلَاثٌ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا فَوْقَهَا زِيَادَةُ الْكَثْرَةِ، اهـ، وَقَدْ وَفَّيْنَا هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ مِنْ جـ ٤ ص ٢٨٢ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ.
قَالَ: " وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا (٢: ٢٢١)، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ وَهِيَ تَخِفُّ فِي الْكِتَابِيَّةِ فَرَخَّصَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ التَّنَاكُحُ مَعَهُمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُشْرِكَاتُ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ فَشَدَّدَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَا لَمْ يُشَدِّدْ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ.
قَالَ: " وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَرْأَةِ أَمَةً لِآخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِينُ فَرْجِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَيِّدِهَا، وَلَا اخْتِصَاصُهُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُصَدَّ سَيِّدُهَا عَنِ اسْتِخْدَامِهَا وَالتَّخَلِّي بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَرْجِيحُ أَضْعَفِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا، فَإِنَّ هُنَالِكَ مِلْكَيْنِ: مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ الْبُضْعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْوَى
الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآخَرِ الْمُسْتَتْبِعُ لَهُ، وَالثَّانِي هُوَ الضَّعِيفُ الْمُنْدَرِجُ، وَفِي اقْتِضَابِ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى قَلْبُ الْمَوْضُوعِ، وَعَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِهَا، وَعَدَمُ إِمْكَانِ ذَبِّ الطَّامِعِ فِيهَا هُوَ أَصْلُ الزِّنَا، وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي كَانَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَهَا كَالِاسْتِبْضَاعِ كَمَا بَيَّنَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَإِذَا كَانَتْ فَتَاةً مُؤْمِنَةً بِاللهِ مُحَصِّنَةً فَرْجَهَا، وَاشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى نِكَاحِهَا لِمَخَافَةِ الْعَنَتِ، وَعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، خَفَّ الْفَسَادُ وَكَانَتِ الضَّرُورَةُ، وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، انْتَهَى.
ثُمَّ ذَكَرَ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَشْغُولَةً بِنِكَاحِ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، وَقَالَ فِي حِكْمَتِهِ: " فَإِنَّ أَصْلَ الزِّنَا هُوَ الِازْدِحَامُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا، وَغَيْرِ قَطْعِ طَمَعِ الْآخَرِ فِيهَا ".
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَيْضًا بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُوَافِقَةِ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ أَنْ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَيْ: طُرُقُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِ الِاجْتِمَاعِ فِي زَمَانِهِ، كَمَا قَالَ:
قَالَ: " وَمِنْهَا الْعَدَدُ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ فِي الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ "، وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ فِي التَّعَدُّدِ إِلَّا قَوْلَهُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْأَرْبَعِ: " ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْبَعَ عَدَدٌ يُمْكِنُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَمَا دُونَ لَيْلَةٍ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْقَسْمِ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ: بَاتَ عِنْدَهَا، وَثَلَاثٌ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا فَوْقَهَا زِيَادَةُ الْكَثْرَةِ، اهـ، وَقَدْ وَفَّيْنَا هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ مِنْ جـ ٤ ص ٢٨٢ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ.
قَالَ: " وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا (٢: ٢٢١)، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ وَهِيَ تَخِفُّ فِي الْكِتَابِيَّةِ فَرَخَّصَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ التَّنَاكُحُ مَعَهُمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُشْرِكَاتُ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ فَشَدَّدَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَا لَمْ يُشَدِّدْ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ.
قَالَ: " وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَرْأَةِ أَمَةً لِآخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِينُ فَرْجِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَيِّدِهَا، وَلَا اخْتِصَاصُهُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُصَدَّ سَيِّدُهَا عَنِ اسْتِخْدَامِهَا وَالتَّخَلِّي بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَرْجِيحُ أَضْعَفِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا، فَإِنَّ هُنَالِكَ مِلْكَيْنِ: مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ الْبُضْعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْوَى
الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآخَرِ الْمُسْتَتْبِعُ لَهُ، وَالثَّانِي هُوَ الضَّعِيفُ الْمُنْدَرِجُ، وَفِي اقْتِضَابِ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى قَلْبُ الْمَوْضُوعِ، وَعَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِهَا، وَعَدَمُ إِمْكَانِ ذَبِّ الطَّامِعِ فِيهَا هُوَ أَصْلُ الزِّنَا، وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي كَانَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَهَا كَالِاسْتِبْضَاعِ كَمَا بَيَّنَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَإِذَا كَانَتْ فَتَاةً مُؤْمِنَةً بِاللهِ مُحَصِّنَةً فَرْجَهَا، وَاشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى نِكَاحِهَا لِمَخَافَةِ الْعَنَتِ، وَعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، خَفَّ الْفَسَادُ وَكَانَتِ الضَّرُورَةُ، وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، انْتَهَى.
ثُمَّ ذَكَرَ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَشْغُولَةً بِنِكَاحِ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، وَقَالَ فِي حِكْمَتِهِ: " فَإِنَّ أَصْلَ الزِّنَا هُوَ الِازْدِحَامُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا، وَغَيْرِ قَطْعِ طَمَعِ الْآخَرِ فِيهَا ".
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَيْضًا بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُوَافِقَةِ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ أَنْ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَيْ: طُرُقُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِ الِاجْتِمَاعِ فِي زَمَانِهِ، كَمَا قَالَ:
30
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ٥: ٤٨]، وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا فِي التَّوْحِيدِ، وَرُوحِ الْعِبَادَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَوِّمُ الْمَلَكَاتِ وَتُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ.
ثُمَّ قَالَ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ: وَيُرِيدُ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَجْعَلَكُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا تَائِبِينَ مِمَّا سَلَفَ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِذْ كُنْتُمْ مُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ تَنْكِحُونَ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، وَلَا تُرَاعُونَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ تَجْدِيدِ قُرَابَةِ الصِّهْرِ، بِدُونِ تَنْكِيثٍ لِقُوَى رَوَابِطِ النَّسَبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ مَا هِيَ سَبَبٌ لَهُ مِنَ الْغُفْرَانِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمُ أَيْ: إِنَّهُ ذُو الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الثَّابِتَيْنِ اللَّذَيْنِ تَصْدُرُ عَنْهُمَا أَحْكَامُهُ، فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ الْوَاسِعَ مُحِيطٌ بِهَا وَحِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ تَقْضِي بِهَا.
وَقَوْلُهُ: وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قِيلَ: إِنَّهُ تَكْرِيرٌ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّوْبَةَ فِيهِ غَيْرُ التَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأُولَى الْقَبُولُ، وَبِالثَّانِيَةِ الْعَمَلُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الْقَبُولِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى ذُكِرَتْ
فِي تَعْلِيلِ أَحْكَامِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ، فَكَانَ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ يَكُونُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عَمَّا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ أَنْكِحَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الضَّارَّةِ، وَأَنَّ اللهَ شَرَعَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْنَدَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِيُبَيِّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ مَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ عَلَيْهِ دَائِمًا فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَيُقَابِلُهُ بِمَا يُرِيدُهُ مِنَّا مُتَّبِعُو الشَّهَوَاتِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا جَعَلَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ عِلَّةً لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ ذَلِكَ دَائِمًا مِنْكُمْ لِتَزْكُوَ نُفُوسُكُمْ وَتَطْهُرَ قُلُوبُكُمْ وَتَصْلُحَ أَحْوَالُكُمْ وَيُرِيدَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا عَنْ صِرَاطِ الْفِطْرَةِ فَتُؤْثِرُوا دَاعِيَةَ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ عَلَى كُلِّ دَاعِيَةٍ، فَلَا تُبَالُوا أَنْ تُقَطِّعُوا لِإِرْضَائِهَا وَشَائِجَ الْأَرْحَامِ، وَتُزِيلُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ وَتَكُونُوا مِثْلَهُمْ، إِمَامُكُمُ الْمُتَّبَعُ هُوَ الشَّهْوَةُ، وَغَرَضُكُمْ مِنَ الْحَيَاةِ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوِ الْيَهُودُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ يَنْكِحُونَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَكَذَا الْأُخْتُ لِأَبٍ كَمَا نُقِلَ، وَقِيلَ: الْمَجُوسُ، وَالْمُخْتَارُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِطْلَاقِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِذْ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْكُمْ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ أَبَاحَ لَكُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ، بَلْ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَطُّ، فَشَرِيعَتُكُمْ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ كَمَا وَرَدَ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْمَيْلِ إِلَى النِّسَاءِ وَلَا يَحْمِلُ ثِقَلَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ إِلَّا مَا فِي إِبَاحَتِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعَ هَذَا تَرَى الزِّنَا يَفْشُو حَيْثُ يَضْعُفُ الدِّينُ حَتَّى لَا يَكَادَ النَّاسُ يَثِقُونَ بِنَسْلِهِمْ، وَحَتَّى تَكْثُرَ الْأَمْرَاضُ وَيَقِلَّ النَّسْلُ، وَيَسْتَشْرِيَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَ الرِّجَالُ وَلَا يَزَالُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِي هَذَا الْأَمْرِ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ، وَشِدَّةِ جُرْأَتِهِمْ، فَهُمْ
ثُمَّ قَالَ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ: وَيُرِيدُ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَجْعَلَكُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا تَائِبِينَ مِمَّا سَلَفَ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِذْ كُنْتُمْ مُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ تَنْكِحُونَ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، وَلَا تُرَاعُونَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ تَجْدِيدِ قُرَابَةِ الصِّهْرِ، بِدُونِ تَنْكِيثٍ لِقُوَى رَوَابِطِ النَّسَبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ مَا هِيَ سَبَبٌ لَهُ مِنَ الْغُفْرَانِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمُ أَيْ: إِنَّهُ ذُو الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الثَّابِتَيْنِ اللَّذَيْنِ تَصْدُرُ عَنْهُمَا أَحْكَامُهُ، فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ الْوَاسِعَ مُحِيطٌ بِهَا وَحِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ تَقْضِي بِهَا.
وَقَوْلُهُ: وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قِيلَ: إِنَّهُ تَكْرِيرٌ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّوْبَةَ فِيهِ غَيْرُ التَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأُولَى الْقَبُولُ، وَبِالثَّانِيَةِ الْعَمَلُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الْقَبُولِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى ذُكِرَتْ
فِي تَعْلِيلِ أَحْكَامِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ، فَكَانَ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ يَكُونُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عَمَّا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ أَنْكِحَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الضَّارَّةِ، وَأَنَّ اللهَ شَرَعَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْنَدَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِيُبَيِّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ مَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ عَلَيْهِ دَائِمًا فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَيُقَابِلُهُ بِمَا يُرِيدُهُ مِنَّا مُتَّبِعُو الشَّهَوَاتِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا جَعَلَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ عِلَّةً لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ ذَلِكَ دَائِمًا مِنْكُمْ لِتَزْكُوَ نُفُوسُكُمْ وَتَطْهُرَ قُلُوبُكُمْ وَتَصْلُحَ أَحْوَالُكُمْ وَيُرِيدَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا عَنْ صِرَاطِ الْفِطْرَةِ فَتُؤْثِرُوا دَاعِيَةَ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ عَلَى كُلِّ دَاعِيَةٍ، فَلَا تُبَالُوا أَنْ تُقَطِّعُوا لِإِرْضَائِهَا وَشَائِجَ الْأَرْحَامِ، وَتُزِيلُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ وَتَكُونُوا مِثْلَهُمْ، إِمَامُكُمُ الْمُتَّبَعُ هُوَ الشَّهْوَةُ، وَغَرَضُكُمْ مِنَ الْحَيَاةِ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوِ الْيَهُودُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ يَنْكِحُونَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَكَذَا الْأُخْتُ لِأَبٍ كَمَا نُقِلَ، وَقِيلَ: الْمَجُوسُ، وَالْمُخْتَارُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِطْلَاقِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِذْ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْكُمْ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ أَبَاحَ لَكُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ، بَلْ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَطُّ، فَشَرِيعَتُكُمْ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ كَمَا وَرَدَ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْمَيْلِ إِلَى النِّسَاءِ وَلَا يَحْمِلُ ثِقَلَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ إِلَّا مَا فِي إِبَاحَتِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعَ هَذَا تَرَى الزِّنَا يَفْشُو حَيْثُ يَضْعُفُ الدِّينُ حَتَّى لَا يَكَادَ النَّاسُ يَثِقُونَ بِنَسْلِهِمْ، وَحَتَّى تَكْثُرَ الْأَمْرَاضُ وَيَقِلَّ النَّسْلُ، وَيَسْتَشْرِيَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَ الرِّجَالُ وَلَا يَزَالُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِي هَذَا الْأَمْرِ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ، وَشِدَّةِ جُرْأَتِهِمْ، فَهُمْ
31
يُفْسِدُونَ النِّسَاءَ وَيَسْتَمِيلُونَهُنَّ بِالْمَالِ، ثُمَّ يَتَّهِمُونَهُنَّ بِأَنَّهُنَّ الْمُتَصَدِّيَاتُ لِلْإِفْسَادِ، وَيَحِجْرُ وَاحِدُهُمْ عَلَى امْرَأَتِهِ وَيَحْجُبُهَا، وَيَحْتَالُ عَلَى إِخْرَاجِ امْرَأَةِ غَيْرِهِ مِنْ خِدْرِهَا! وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّ الْحِلْيَةَ الَّتِي أَفْسَدَ بِهَا امْرَأَةَ غَيْرِهِ هِيَ الَّتِي يُفْسِدُ بِهَا غَيْرُهُ امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يَفْسُقُ رَجُلٌ إِلَّا وَيَكُونُ أُسْتَاذًا لِأَهْلِ بَيْتِهِ فِي الْفِسْقِ، وَمِنْ حِكَمِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ،
وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبِرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِمَعْنَاهُ، عَلَى أَنَّ فِي الرِّجَالِ الْفَاسِقِينَ، وَالْمُتَفَرْنِجِينَ الْمَارِقِينَ مَنْ مَرَدُوا عَلَى الْفِسْقِ وَصَارُوا يَرَوْنَهُ مِنَ الْعَادَاتِ الْحَسَنَةِ، فَخَزِيَتْ عِفَّتُهُمْ وَزَالَتْ غَيْرَتُهُمْ، فَهُمْ يَعُدُّونَ الدِّيَاثَةَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْكِيَاسَةِ، فَيُسْلِسُونَ الْقِيَادَ لِنِسَائِهِمْ، كَمَا يُسْلِسْنَ الْقِيَادَ لَهُمْ، وَذَلِكَ مُنْتَهَى مَا تُطِيقُهُ الرَّذِيلَةُ مِنَ الْجُهْدِ فِي إِفْسَادِ الْبُيُوتِ بِتَنْكِيثِ قُوَى الرَّابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِمَا هِيَ فِي الْفِطْرَةِ وَالشَّرِيعَةِ أَشَدُّ الْمَوَانِعِ دُونَهُ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْحِصْنُ لِلْمُرْتَبِطِينَ بِهَا مِنْ فَوْضَى الْأَبْضَاعِ، وَالْحِفَاظِ لِمَا فِيهِ هَنَاءُ الْمَعِيشَةِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ.
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: ثَمَانِي آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ، وَعَدَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ضَعِيفًا وَالرَّابِعَةُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (٤: ٣١)، وَالْآيَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (٤: ٤٠)، وَالْآيَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (٤: ٤٨)، إِلَخْ، وَالسَّابِعَةُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ (٤: ١١٠)، إِلَخْ، وَالثَّامِنَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (٤: ١٥٢)، إِلَخْ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ " نَظْمِ الدُّرَرِ " مُبَيِّنًا وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا: وَلَمَّا كَانَ غَالِبُ مَا مَضَى مَبْنِيًّا عَلَى الْأَمْوَالِ، تَارَةً بِالْإِرْثِ، وَتَارَةً
وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبِرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِمَعْنَاهُ، عَلَى أَنَّ فِي الرِّجَالِ الْفَاسِقِينَ، وَالْمُتَفَرْنِجِينَ الْمَارِقِينَ مَنْ مَرَدُوا عَلَى الْفِسْقِ وَصَارُوا يَرَوْنَهُ مِنَ الْعَادَاتِ الْحَسَنَةِ، فَخَزِيَتْ عِفَّتُهُمْ وَزَالَتْ غَيْرَتُهُمْ، فَهُمْ يَعُدُّونَ الدِّيَاثَةَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْكِيَاسَةِ، فَيُسْلِسُونَ الْقِيَادَ لِنِسَائِهِمْ، كَمَا يُسْلِسْنَ الْقِيَادَ لَهُمْ، وَذَلِكَ مُنْتَهَى مَا تُطِيقُهُ الرَّذِيلَةُ مِنَ الْجُهْدِ فِي إِفْسَادِ الْبُيُوتِ بِتَنْكِيثِ قُوَى الرَّابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِمَا هِيَ فِي الْفِطْرَةِ وَالشَّرِيعَةِ أَشَدُّ الْمَوَانِعِ دُونَهُ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْحِصْنُ لِلْمُرْتَبِطِينَ بِهَا مِنْ فَوْضَى الْأَبْضَاعِ، وَالْحِفَاظِ لِمَا فِيهِ هَنَاءُ الْمَعِيشَةِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ.
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: ثَمَانِي آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ، وَعَدَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ضَعِيفًا وَالرَّابِعَةُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (٤: ٣١)، وَالْآيَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (٤: ٤٠)، وَالْآيَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (٤: ٤٨)، إِلَخْ، وَالسَّابِعَةُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ (٤: ١١٠)، إِلَخْ، وَالثَّامِنَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (٤: ١٥٢)، إِلَخْ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ " نَظْمِ الدُّرَرِ " مُبَيِّنًا وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا: وَلَمَّا كَانَ غَالِبُ مَا مَضَى مَبْنِيًّا عَلَى الْأَمْوَالِ، تَارَةً بِالْإِرْثِ، وَتَارَةً
32
بِالْجُعْلِ فِي النِّكَاحِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَبَيَّنَ
ضَعْفَ هَذَا النَّوْعِ كُلِّهِ، فَبَطَلَ تَعْلِيلُهُمْ لِمَنْعِ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ مِنَ الْإِرْثِ بِالضَّعْفِ، وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا حِفْظًا لِلْأَنْسَابِ، ذَاكِرًا كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ تَطْهِيرًا مُخَاطِبًا لِأَدْنَى الْأَسْنَانِ فِي الْإِيمَانِ تَرْفِيعًا لِغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى وَالْأَقَارِبِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ فِي مُعَامَلَةِ سَائِرِ النَّاسِ، وَمَدَارُ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى الْمَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ يُخْرِجِ الْكَلَامَ عَنْ أَحْكَامِ الْمَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ مَا يُفْرَضُ لَهُنَّ وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيتَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ، وَبَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ ذَكَرَ قَاعِدَةً عَامَّةً لِلتَّعَامُلِ الْمَالِيِّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَى الْجَمِيعِ فَلَمْ يَقُلْ: لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا مِنْ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي حُقُوقِهَا وَمَصَالِحِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ هُوَ مَالُ أُمَّتِكُمْ، فَإِذَا اسْتَبَاحَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ الْآخَرِ بِالْبَاطِلِ كَانَ كَأَنَّهُ أَبَاحَ لِغَيْرِهِ أَكْلَ مَالِهِ وَهَضْمَ حُقُوقِهِ ; لِأَنَّ الْمَرْءَ يُدَانُ كَمَا يَدِينُ، هَذَا مَا عِنْدِي، وَنَقَلَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ الدَّرْسَ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَنْبِيهًا إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ الْحَائِزَ لَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ - أَوِ الْبَذْلُ مِنْهُ - لِلْمُحْتَاجِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَبْخَلَ عَلَيْهِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ قَدْ قَرَّرَتْ فِي الْإِسْلَامِ قَاعِدَةَ الِاشْتِرَاكِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا الِاشْتِرَاكِيُّونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى سُنَّةٍ عَادِلَةٍ فِيهَا، وَلَوِ الْتَمَسُوهَا فِي الْإِسْلَامِ لَوَجَدُوهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْعَلُ مَالَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ مَالًا لِأُمَّتِهِ كُلِّهَا، مَعَ احْتِرَامِ الْحِيَازَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ وَحِفْظِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي مَالٍ كَثِيرٍ حُقُوقًا مُعَيَّنَةً لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ حُقُوقًا أُخْرَى لِذَوِي الِاضْطِرَارِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَيَحُثُّ فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَالْهَدِيَّةِ.
فَالْبِلَادُ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ لَا يُوجَدُ فِيهَا مُضْطَرٌّ إِلَى الْقُوتِ وَالسِّتْرِ قَطُّ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَفْرِضُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضًا قَطْعِيًّا أَنْ يُزِيلُوا ضَرُورَةَ كُلِّ مُضْطَرٍّ، كَمَا يَفْرِضُ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا آخَرَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُسَاعَدَةِ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَرِّ، وَيَرَى كُلُّ مَنْ يُقِيمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَنَّ مَالَ الْأُمَّةِ هُوَ مَالُهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ يَجِدُهُ مَذْخُورًا لَهُ، وَقَدْ يُصِيبُهُ مِنْهُ حَظٌّ فِي غَيْرِ حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ الْمَفْرُوضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ
ضَعْفَ هَذَا النَّوْعِ كُلِّهِ، فَبَطَلَ تَعْلِيلُهُمْ لِمَنْعِ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ مِنَ الْإِرْثِ بِالضَّعْفِ، وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا حِفْظًا لِلْأَنْسَابِ، ذَاكِرًا كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ تَطْهِيرًا مُخَاطِبًا لِأَدْنَى الْأَسْنَانِ فِي الْإِيمَانِ تَرْفِيعًا لِغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى وَالْأَقَارِبِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ فِي مُعَامَلَةِ سَائِرِ النَّاسِ، وَمَدَارُ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى الْمَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ يُخْرِجِ الْكَلَامَ عَنْ أَحْكَامِ الْمَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ مَا يُفْرَضُ لَهُنَّ وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيتَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ، وَبَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ ذَكَرَ قَاعِدَةً عَامَّةً لِلتَّعَامُلِ الْمَالِيِّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَى الْجَمِيعِ فَلَمْ يَقُلْ: لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا مِنْ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي حُقُوقِهَا وَمَصَالِحِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ هُوَ مَالُ أُمَّتِكُمْ، فَإِذَا اسْتَبَاحَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ الْآخَرِ بِالْبَاطِلِ كَانَ كَأَنَّهُ أَبَاحَ لِغَيْرِهِ أَكْلَ مَالِهِ وَهَضْمَ حُقُوقِهِ ; لِأَنَّ الْمَرْءَ يُدَانُ كَمَا يَدِينُ، هَذَا مَا عِنْدِي، وَنَقَلَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ الدَّرْسَ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَنْبِيهًا إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ الْحَائِزَ لَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ - أَوِ الْبَذْلُ مِنْهُ - لِلْمُحْتَاجِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَبْخَلَ عَلَيْهِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ قَدْ قَرَّرَتْ فِي الْإِسْلَامِ قَاعِدَةَ الِاشْتِرَاكِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا الِاشْتِرَاكِيُّونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى سُنَّةٍ عَادِلَةٍ فِيهَا، وَلَوِ الْتَمَسُوهَا فِي الْإِسْلَامِ لَوَجَدُوهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْعَلُ مَالَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ مَالًا لِأُمَّتِهِ كُلِّهَا، مَعَ احْتِرَامِ الْحِيَازَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ وَحِفْظِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي مَالٍ كَثِيرٍ حُقُوقًا مُعَيَّنَةً لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ حُقُوقًا أُخْرَى لِذَوِي الِاضْطِرَارِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَيَحُثُّ فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَالْهَدِيَّةِ.
فَالْبِلَادُ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ لَا يُوجَدُ فِيهَا مُضْطَرٌّ إِلَى الْقُوتِ وَالسِّتْرِ قَطُّ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَفْرِضُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضًا قَطْعِيًّا أَنْ يُزِيلُوا ضَرُورَةَ كُلِّ مُضْطَرٍّ، كَمَا يَفْرِضُ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا آخَرَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُسَاعَدَةِ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَرِّ، وَيَرَى كُلُّ مَنْ يُقِيمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَنَّ مَالَ الْأُمَّةِ هُوَ مَالُهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ يَجِدُهُ مَذْخُورًا لَهُ، وَقَدْ يُصِيبُهُ مِنْهُ حَظٌّ فِي غَيْرِ حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ الْمَفْرُوضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ
33
الْجَمَاعَةِ الْحَاكِمَةِ مِنَ الْأُمَّةِ ; لِئَلَّا يَمْنَعَهُ بَعْضُ مَنْ يَمْرَضُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَرَكَ إِلَى أَرْيَحِيَّةِ الْأَفْرَادِ سَائِرَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِمْ أَوْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَحَثَّهُمْ بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَذَمَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ ; لِيَكُونَ الدَّافِعُ لَهُمْ إِلَى الْبَذْلِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَتَقْوَى مَلِكَاتُ السَّخَاءِ وَالنَّجْدَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهَا، وَلَمْ يُبِحْ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِمْ وَمَرْضَاتِهِمْ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةَ قَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَمَفْسَدَةَ اتِّكَالِ الْكُسَالَى عَلَى كَسْبِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ وَرَاءِ هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ انْحِطَاطُ الْبَشَرِ وَفَسَادُ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَإِنَّ النَّاسَ خُلِقُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ، فَمِنْهُمُ الْمَغْمُولُ الْمُخْلِدُ إِلَى الْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، وَمِنْهُمْ مُحِبُّ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ وَتَذْلِيلِ صِعَابِ الْأُمُورِ، فَإِذَا أُبِيحَ لِلْكُسَالَى الْبَطَّالِينَ، أَنْ يَفْتَاتُوا عَلَى الْكَاسِبِينَ الْمُجِدِّينَ، فَيَأْخُذُوا مَا شَاءُوا أَوِ احْتَاجُوا مِنْ ثَمَرَاتِ كَسْبِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَلَا إِذْنِهِمْ، أَفْضَتْ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ إِلَى الْفَوْضَى فِي الْأَمْوَالِ، وَالضَّعْفِ وَالتَّوَانِي فِي الْأَعْمَالِ، وَالْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَأْخُذَ أَحَدٌ مَالَ أَحَدٍ إِلَّا بِحَقٍّ، أَوْ يَبْذُلَ صَاحِبُ الْمَالِ مَا شَاءَ عَنْ كَرَمٍ وَفَضْلٍ.
فَمَتَى يَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَيَكُونُونَ حُجَّةً لَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ، فَيُقِيمُوا الْمَدَنِيَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَمَا أَقَامَهَا أُولَئِكَ فِي عُصُورِهِمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [س ٢ آيَةِ ١٨٨ ج٢ ص ١٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ مَا فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ.
أَمَّا الْبَاطِلُ، فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ: إِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ، وَهُوَ مِنَ الْبَطَلِ وَالْبُطْلَانِ أَيِ الضَّيَاعِ وَالْخَسَارِ، فَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَ الْمَالِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ
يُعْتَدُّ بِهَا، وَرِضَا مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَكَذَا إِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ حَقِيقِيٍّ نَافِعٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: فَسَّرَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ الْبَاطِلَ بِالْمُحَرَّمِ وَهُوَ إِحَالَةٌ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْبَاطِلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الْمُحَرَّمُ يَجْعَلُ حَاصِلَ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّنِي جَعَلْتُ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ مُحَرَّمًا، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ مَا يُقَابِلُ الْحَقَّ وَيُضَادُّهُ، وَالْكِتَابُ يُطْلِقُ الْأَلْفَاظَ كَالْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ وَالْحَسَنَاتِ، أَوِ الصَّالِحَاتِ، وَمَا يُقَابِلُهَا وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالْمُنْكَرُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَيَكِلُ فَهْمَهَا إِلَى أَهْلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (٢: ٦١)، فَحَقُّ فُلَانٍ فِي الْمَالِ هُوَ الثَّابِتُ لَهُ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ مَا إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْمُنْصِفِينَ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَهُ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ الْغَصْبُ وَالْغِشُّ وَالْخِدَاعُ وَالرِّبَا وَالْغَبْنُ وَالتَّغْرِيرُ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَكُمْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ ـ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ ـ هُوَ مَا كَانَ مَوْضِعَ التَّنَازُعِ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، كَأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ الْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ مِنْهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ جَذْبَهُ لِنَفَسِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجِّحُ لِلْمَالِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْبَاطِلِ، وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْ مُطْلَقِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى أَسْبَابِهِ وَأَعَمُّهَا وَأَكْثَرُهَا.
فَمَتَى يَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَيَكُونُونَ حُجَّةً لَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ، فَيُقِيمُوا الْمَدَنِيَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَمَا أَقَامَهَا أُولَئِكَ فِي عُصُورِهِمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [س ٢ آيَةِ ١٨٨ ج٢ ص ١٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ مَا فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ.
أَمَّا الْبَاطِلُ، فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ: إِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ، وَهُوَ مِنَ الْبَطَلِ وَالْبُطْلَانِ أَيِ الضَّيَاعِ وَالْخَسَارِ، فَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَ الْمَالِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ
يُعْتَدُّ بِهَا، وَرِضَا مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَكَذَا إِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ حَقِيقِيٍّ نَافِعٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: فَسَّرَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ الْبَاطِلَ بِالْمُحَرَّمِ وَهُوَ إِحَالَةٌ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْبَاطِلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الْمُحَرَّمُ يَجْعَلُ حَاصِلَ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّنِي جَعَلْتُ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ مُحَرَّمًا، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ مَا يُقَابِلُ الْحَقَّ وَيُضَادُّهُ، وَالْكِتَابُ يُطْلِقُ الْأَلْفَاظَ كَالْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ وَالْحَسَنَاتِ، أَوِ الصَّالِحَاتِ، وَمَا يُقَابِلُهَا وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالْمُنْكَرُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَيَكِلُ فَهْمَهَا إِلَى أَهْلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (٢: ٦١)، فَحَقُّ فُلَانٍ فِي الْمَالِ هُوَ الثَّابِتُ لَهُ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ مَا إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْمُنْصِفِينَ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَهُ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ الْغَصْبُ وَالْغِشُّ وَالْخِدَاعُ وَالرِّبَا وَالْغَبْنُ وَالتَّغْرِيرُ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَكُمْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ ـ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ ـ هُوَ مَا كَانَ مَوْضِعَ التَّنَازُعِ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، كَأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ الْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ مِنْهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ جَذْبَهُ لِنَفَسِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجِّحُ لِلْمَالِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْبَاطِلِ، وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْ مُطْلَقِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى أَسْبَابِهِ وَأَعَمُّهَا وَأَكْثَرُهَا.
34
قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ (تِجَارَةً) بِالنَّصْبِ، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً إِلَخْ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: لَا تَقْصِدُوا إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اقْصِدُوا أَنْ تَرْبَحُوا بِالتِّجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ صَادِرَةً عَنِ التَّرَاضِي مِنْكُمْ، وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ أَسْبَابِ الْمُلْكِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ وُقُوعًا وَأَوْفَقَ لِذَوِي الْمُرُوءَاتِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ: وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ (٢٤: ٦١)، الْآيَةَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَا رِبْحَ التِّجَارَةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ـ أَيْ كَالْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ ـ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ النُّورِ الْمُبِيحَةِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بُيُوتِ أَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى الدِّينِ لَا أَصِلَ لَهُ ـ أَيْ: لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ عَزَى إِلَيْهِ ـ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ مُحَرَّمَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا كَإِقْرَاءِ الضَّيْفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ فِيمَا يُمَانِعُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ فَيُؤْخَذُ بِدُونِ رِضَاهُ، أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى اللهُ التِّجَارَةَ مِنْ عُمُومِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مُقَابِلٍ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ أَنْوَاعِهَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ تَحْدِيدَ قِيمَةِ الشَّيْءِ وَجَعْلَ عِوَضِهِ أَوْ ثَمَنِهِ عَلَى قَدْرِهِ بِقِسْطَاسِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ عَزِيزٌ وَعَسِيرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا.
فَالْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ التَّسَامُحُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَكْبَرَ مِنَ الْآخَرِ، وَمَا يَكُونُ سَبَبُ التَّعَاوُضِ فِيهِ بَرَاعَةَ التَّاجِرِ فِي تَزْيِينِ سِلْعَتِهِ وَتَرْوِيجِهَا بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ غِشٍّ وَلَا خِدَاعٍ، وَلَا تَغْرِيرٍ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَيْهِ، وَكَثِيرًا مَا يَشْتَرِيهِ بِثَمَنٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ ابْتِيَاعُهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ، وَلَا يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا خِلَابِةَ التَّاجِرِ وَزُخْرُفَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَاتِّقَاءِ التَّغْرِيرِ وَالْغِشِّ، فَيَكُونُ مِنْ بَاطِلِ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّرَاضِي، وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى، وَالْحِكْمَةُ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي التِّجَارَةِ لِشِدَّةِ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَتَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا أُوتُوا مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ فِي اخْتِبَارِ الْأَشْيَاءِ، وَالتَّدْقِيقِ فِي الْمُعَامَلَةِ حِفْظًا لِأَمْوَالِهِمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُمْ قِيَامًا أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مَنْفَعَةٍ تُقَابِلُهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا خَرَجَ بِهِ الرِّبْحُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ غِشٍّ وَلَا تَغْرِيرٍ، بَلْ بِتَرَاضٍ لَمْ تَنْخَدِعْ فِيهِ إِرَادَةُ الْمَغْبُونِ، وَلَوْ لَمْ يُبِحْ مِثْلَ هَذَا لَمَا رُغِبَ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا اشْتَغَلَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَا رِبْحَ التِّجَارَةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ـ أَيْ كَالْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ ـ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ النُّورِ الْمُبِيحَةِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بُيُوتِ أَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى الدِّينِ لَا أَصِلَ لَهُ ـ أَيْ: لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ عَزَى إِلَيْهِ ـ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ مُحَرَّمَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا كَإِقْرَاءِ الضَّيْفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ فِيمَا يُمَانِعُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ فَيُؤْخَذُ بِدُونِ رِضَاهُ، أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى اللهُ التِّجَارَةَ مِنْ عُمُومِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مُقَابِلٍ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ أَنْوَاعِهَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ تَحْدِيدَ قِيمَةِ الشَّيْءِ وَجَعْلَ عِوَضِهِ أَوْ ثَمَنِهِ عَلَى قَدْرِهِ بِقِسْطَاسِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ عَزِيزٌ وَعَسِيرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا.
فَالْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ التَّسَامُحُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَكْبَرَ مِنَ الْآخَرِ، وَمَا يَكُونُ سَبَبُ التَّعَاوُضِ فِيهِ بَرَاعَةَ التَّاجِرِ فِي تَزْيِينِ سِلْعَتِهِ وَتَرْوِيجِهَا بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ غِشٍّ وَلَا خِدَاعٍ، وَلَا تَغْرِيرٍ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَيْهِ، وَكَثِيرًا مَا يَشْتَرِيهِ بِثَمَنٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ ابْتِيَاعُهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ، وَلَا يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا خِلَابِةَ التَّاجِرِ وَزُخْرُفَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَاتِّقَاءِ التَّغْرِيرِ وَالْغِشِّ، فَيَكُونُ مِنْ بَاطِلِ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّرَاضِي، وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى، وَالْحِكْمَةُ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي التِّجَارَةِ لِشِدَّةِ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَتَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا أُوتُوا مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ فِي اخْتِبَارِ الْأَشْيَاءِ، وَالتَّدْقِيقِ فِي الْمُعَامَلَةِ حِفْظًا لِأَمْوَالِهِمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُمْ قِيَامًا أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مَنْفَعَةٍ تُقَابِلُهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا خَرَجَ بِهِ الرِّبْحُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ غِشٍّ وَلَا تَغْرِيرٍ، بَلْ بِتَرَاضٍ لَمْ تَنْخَدِعْ فِيهِ إِرَادَةُ الْمَغْبُونِ، وَلَوْ لَمْ يُبِحْ مِثْلَ هَذَا لَمَا رُغِبَ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا اشْتَغَلَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ
35
عَلَى شَدَّةِ حَاجَةِ الْعُمْرَانِ إِلَيْهَا وَعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَبَارَى الْهِمَمُ فِيهَا مَعَ التَّضْيِيقِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَقَدْ شَعَرَ النَّاسُ مُنْذُ الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ بِمَا يُلَابِسُ التِّجَارَةَ مِنَ الْبَاطِلِ حَتَّى إِنَّ الْيُونَانِيِّينَ جَعَلُوا لِلتِّجَارَةِ وَالسَّرِقَةِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا وَاحِدًا فِيمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَرْبَابِ لِأَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَكُلِّيَّاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، انْتَهَى مَا قَالَهُ فِي الدَّرْسِ مَعَ زِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ.
وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاسْتِدْرَاكِ لَا الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا مِنْ ذَوِي الطَّمَعِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ لَهَا مَنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَلَكِنْ كُلُوهَا بِالتِّجَارَةِ الَّتِي قِوَامُ الْحِلِّ فِيهَا التَّرَاضِي، فَذَلِكَ هُوَ اللَّائِقُ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدُّثُورِ وَالثَّرْوَةِ، وَقَالَ الْبَقَاعِيُّ: إِنَّ الِاسْتِدْرَاكَ لَا يَجِيءُ فِي النَّظْمِ الْبَلِيغِ بِصُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيِ: الَّذِي يُسَمُّونَهُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ إِلَّا لِنُكْتَةٍ.
وَقَالَ: إِنَّ النُّكْتَةَ هُنَا هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ التِّجَارَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِ الْعَاقِلُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ مَدَارَ حِلِّ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضِي الْمُتَبَايِعِينَ، وَالْغِشُّ وَالْكَذِبُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَكُلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ لِأَجْلِ تَحْقِيقِ التَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ غِشٍّ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالدِّينِ.
قَالَ الْبَقَاعِيُّ: وَلَمَّا كَانَ الْمَالُ عَدِيلَ الرُّوحِ، وَنَهَى عَنْ إِتْلَافِهِ بِالْبَاطِلِ، نَهَى عَنْ إِتْلَافِ النَّفْسِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ إِتْلَافِهِمْ لَهُمَا بِالْغَارَاتِ لِنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَمَا كَانَ بِسَبَبِهَا أَوْ تَسَبُّبِهَا، عَلَى أَنَّ مَنْ أُكِلَ مَالُهُ ثَارَتْ نَفْسُهُ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفِتَنِ الَّتِي رُبَّمَا كَانَ آخِرَهَا الْقَتْلُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أَنْسَبَ شَيْءٍ لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ التَّعَاطُفِ وَالتَّوَاصُلِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَخْ، أَقُولُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَحْدَهَا أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الِانْتِحَارُ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهَا فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الْأَقْوَى، وَاخْتِيرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِلْإِشْعَارِ بِتَعَاوُنِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَوَحْدَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نُكْتَةِ التَّعْبِيرِ عَنْ أَكْلِ بَعْضِهِمْ مَالَ بَعْضٍ بِقَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: أَيْ لَا تَقْتُلُوهَا حَقِيقَةً بِالِانْتِحَارِ وَلَا مَجَازًا بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذَا فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ بِالْبَاطِلِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ النَّفَقَاتِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا ; لِأَنَّهَا مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِيَامًا (٤: ٥)، [رَاجِعْ ص ٣٩ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَكُلُّ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْإِسْلَامِ تَرْجِعُ إِلَى الْإِخْلَالِ بِحِفْظِ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الْوَاجِبِ حِفْظُهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالْعِرْضُ، وَالْعَقْلُ،
وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاسْتِدْرَاكِ لَا الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا مِنْ ذَوِي الطَّمَعِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ لَهَا مَنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَلَكِنْ كُلُوهَا بِالتِّجَارَةِ الَّتِي قِوَامُ الْحِلِّ فِيهَا التَّرَاضِي، فَذَلِكَ هُوَ اللَّائِقُ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدُّثُورِ وَالثَّرْوَةِ، وَقَالَ الْبَقَاعِيُّ: إِنَّ الِاسْتِدْرَاكَ لَا يَجِيءُ فِي النَّظْمِ الْبَلِيغِ بِصُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيِ: الَّذِي يُسَمُّونَهُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ إِلَّا لِنُكْتَةٍ.
وَقَالَ: إِنَّ النُّكْتَةَ هُنَا هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ التِّجَارَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِ الْعَاقِلُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ مَدَارَ حِلِّ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضِي الْمُتَبَايِعِينَ، وَالْغِشُّ وَالْكَذِبُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَكُلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ لِأَجْلِ تَحْقِيقِ التَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ غِشٍّ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالدِّينِ.
قَالَ الْبَقَاعِيُّ: وَلَمَّا كَانَ الْمَالُ عَدِيلَ الرُّوحِ، وَنَهَى عَنْ إِتْلَافِهِ بِالْبَاطِلِ، نَهَى عَنْ إِتْلَافِ النَّفْسِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ إِتْلَافِهِمْ لَهُمَا بِالْغَارَاتِ لِنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَمَا كَانَ بِسَبَبِهَا أَوْ تَسَبُّبِهَا، عَلَى أَنَّ مَنْ أُكِلَ مَالُهُ ثَارَتْ نَفْسُهُ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفِتَنِ الَّتِي رُبَّمَا كَانَ آخِرَهَا الْقَتْلُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أَنْسَبَ شَيْءٍ لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ التَّعَاطُفِ وَالتَّوَاصُلِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَخْ، أَقُولُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَحْدَهَا أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الِانْتِحَارُ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهَا فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الْأَقْوَى، وَاخْتِيرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِلْإِشْعَارِ بِتَعَاوُنِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَوَحْدَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نُكْتَةِ التَّعْبِيرِ عَنْ أَكْلِ بَعْضِهِمْ مَالَ بَعْضٍ بِقَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: أَيْ لَا تَقْتُلُوهَا حَقِيقَةً بِالِانْتِحَارِ وَلَا مَجَازًا بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذَا فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ بِالْبَاطِلِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ النَّفَقَاتِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا ; لِأَنَّهَا مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِيَامًا (٤: ٥)، [رَاجِعْ ص ٣٩ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَكُلُّ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْإِسْلَامِ تَرْجِعُ إِلَى الْإِخْلَالِ بِحِفْظِ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الْوَاجِبِ حِفْظُهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالْعِرْضُ، وَالْعَقْلُ،
36
وَالْمَالُ، وَالنَّسَبُ، وَعَلَّلُوا التَّعْبِيرَ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ بِقَتْلِهِ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُفْضِي إِلَى قَتْلِهِ قِصَاصًا أَوْ ثَأْرًا كَانَ كَأَنَّهُ قَتْلٌ لِنَفْسِهِ، وَقَالُوا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ (٢: ٨٤، ٨٥)، الْآيَةَ، حَتَّى إِنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (٢: ٥٤)، إِنَّ الْمَعْنَى لِيَقْتُلْ كُلٌّ مِنْكُمْ نَفْسَهُ بِالْبَخْعِ وَالِانْتِحَارِ أَوْ أُمِرُوا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَتْلِ هُنَالِكَ قَطْعُ الشَّهَوَاتِ، كَمَا قِيلَ: مَنْ لَمْ يُعَذِّبْ نَفْسَهُ لَمْ يُنَعِّمْهَا، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْهَا لَمْ يُحْيِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى هُنَا: لَا تُخَاطِرُوا بِنُفُوسِكُمْ فِي الْقِتَالِ فَتُقَاتِلُوا مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّكُمْ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَكُمْ، وَمَنْ نَظَرَ فِي مَجْمُوعِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَرَاعَى دَلَالَةَ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَتْلِ النَّاسِ أَنْفُسَهُمْ هُوَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَأَنَّ النُّكْتَةَ فِي التَّعْبِيرِ هِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ حَتَّى كَأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا هُوَ عَيْنُ الْآخَرِ، وَجِنَايَتُهُ عَلَيْهِ جِنَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَجِنَايَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بَلْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ تُعَدُّ جِنَايَةً عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (٥: ٣٢)، وَإِذَا كَانَ يُرْشِدُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْتَرِمَ نُفُوسَ النَّاسِ بَعْدَهَا كَنُفُوسِنَا فَاحْتِرَامُنَا لِنُفُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى، فَلَا يُبَاحُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ نَفْسَهُ كَأَنْ يَبْخَعَهَا لِيَسْتَرِيحَ مِنَ الْغَمِّ وَشَقَاءِ الْحَيَاةِ، فَمَهْمَا اشْتَدَّتِ الْمَصَائِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ، وَلَا يَنْقَطِعُ رَجَاؤُهُ مِنَ الْفَرَجِ الْإِلَهِيِّ ; وَلِذَلِكَ نَرَى بَخْعَ النَّفْسِ (الِانْتِحَارَ) يَكْثُرُ حَيْثُ يَقِلُّ الْإِيمَانُ، وَيَفْشُو الْكُفْرُ وَالْإِلْحَادُ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْإِيمَانِ مُدَافَعَةُ الْمَصَائِبِ وَالْأَكْدَارِ، فَالْمُؤْمِنُ لَا يَتَأَلَّمُ مِنْ بُؤْسِ الْحَيَاةِ كَمَا يَتَأَلَّمُ الْكَافِرُ، فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْخَعَ نَفْسَهُ حَتَّى يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ نَهْيًا صَرِيحًا.
إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا أَيْ: إِنَّهُ كَانَ بِنَهْيِهِ إِيَّاكُمْ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ رَحِيمًا بِكُمْ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حِفْظَ دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ فَيَجِبُ أَنْ تَتَرَاحَمُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَيَكُونَ كُلٌّ مِنْكُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِينَ عَلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَمُدَافَعَةِ رَزَايَا الدَّهْرِ.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ كُلٌّ مَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا أَيْ: إِنَّهُ كَانَ بِنَهْيِهِ إِيَّاكُمْ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ رَحِيمًا بِكُمْ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حِفْظَ دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ فَيَجِبُ أَنْ تَتَرَاحَمُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَيَكُونَ كُلٌّ مِنْكُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِينَ عَلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَمُدَافَعَةِ رَزَايَا الدَّهْرِ.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ كُلٌّ مَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
37
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا (٤: ١٩)، إِلَى هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي قَبْلَ تِلْكَ الْآيَةِ قَدِ اقْتَرَنَتْ بِالْوَعِيدِ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ سُنَّةِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ الْأَخِيرَةَ لَمْ يُوعَدْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَإِنْ وُصِفَتْ بِالْقُبْحِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ ـ وَهِيَ النَّهْيُ عَنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كَرْهًا، وَعَنْ عَضْلِهِنَّ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِنَّ، وَعَنْ نِكَاحِ مَا نَكَحَ الْآبَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنِ الْقَتْلِ ـ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقَتْلُ فَقَطْ، وَقَدْ قَصَّرَ كُلَّ التَّقْصِيرِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَا فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَعَنِ الْقَتْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ الْمَقْبُولُ فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْوَعِيدِ قَدِ اقْتَرَنَتْ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ.
(قَالَ) وَالْعُدْوَانُ: هُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْحَقِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ، فَمَعْنَاهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْفَاعِلُ إِتْيَانَ الْفِعْلِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى الْحَقَّ، وَجَاوَزَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالظُّلْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ نَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ الْمُتَعَدِّي لَمْ يَتَحَرَّ وَيَجْتَهِدْ فِي اسْتِبَانَةِ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهُ فَيَفْعَلَ مَا لَا يَحِلُّ، وَالْوَعِيدُ مَقْرُونٌ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَهُمَا أَنْ يَقْصِدَ الْفَاعِلُ الْعُدْوَانَ، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ظُلْمًا فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، مِثَالُ تَحَقُّقِ الْعُدْوَانِ دُونَ الظُّلْمِ أَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ رَجُلًا يَقْصِدُ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ رَاصِدًا لَهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَلَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ لِقَتْلِهِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَتَلَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ دَمِهِ كَأَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ، فَهَاهُنَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الظُّلْمُ، وَأَمَّا الْعُدْوَانُ فَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَمِثَالُ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ فَقَطْ أَنْ يُسَلِّمَ امْرُؤٌ مَالَ آخَرَ ظَانًّا أَنَّهُ مَالُهُ الَّذِي كَانَ
سَرَقَهُ أَوِ اغْتَصَبَهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَالَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مَالَهُ، وَأَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا رَآهُ هَاجِمًا عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّهُ صَائِلٌ يُرِيدُ قَتْلَهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خَطَأُ ظَنِّهِ، فَهَاهُنَا تَحَقَّقَ الظُّلْمُ وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعُدْوَانُ، أَقُولُ: وَقَدْ يُعَاقَبُ الْإِنْسَانُ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ الَّتِي لَا تَجْمَعُ بَيْنَ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ مَعًا لِتَقْصِيرِهِ فِي اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ عِقَابَ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِصْلَاءَهُ النَّارَ إِدْخَالُهُ فِيهَا وَإِحْرَاقُهُ بِهَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الصِّلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ مِنَ النَّارِ لِلِاسْتِدْفَاءِ، قَالَ الرَّاجِزُ:
يُقْعِي جُلُوسَ الْبَدَوِيِّ الْمُصْطَلِي
، أَيِ: الْمُسْتَدْفِئِ، وَتَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [ص ٢٨٤ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ الْبَعِيدَ شَأْوُهُ، الشَّدِيدَ وَقْعُهُ، يَسِيرٌ عَلَى اللهِ غَيْرُ عَسِيرٍ، وَقَرِيبٌ مِنَ الْعَادِينَ الظَّالِمِينَ غَيْرُ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ مُدَنِّسًا لِلنُّفُوسِ مُدَسِّيًا لَهَا بِحَيْثُ يَهْبِطُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُرْدِيهَا فِي الْهَاوِيَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ يَسِيرًا عَلَى اللهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ حِلْمَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ وَعَدَمَ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَنْجُوَ مِنْ عِقَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ، بَلْ هُوَ تَنْبِيهٌ إِلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ، أَيْ: فَلَا يَغْتَرَّنَّ الظَّالِمُونَ بِعِزَّتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ عَلَى مَنْ يَظْلِمُونَهُمْ
(قَالَ) وَالْعُدْوَانُ: هُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْحَقِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ، فَمَعْنَاهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْفَاعِلُ إِتْيَانَ الْفِعْلِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى الْحَقَّ، وَجَاوَزَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالظُّلْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ نَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ الْمُتَعَدِّي لَمْ يَتَحَرَّ وَيَجْتَهِدْ فِي اسْتِبَانَةِ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهُ فَيَفْعَلَ مَا لَا يَحِلُّ، وَالْوَعِيدُ مَقْرُونٌ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَهُمَا أَنْ يَقْصِدَ الْفَاعِلُ الْعُدْوَانَ، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ظُلْمًا فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، مِثَالُ تَحَقُّقِ الْعُدْوَانِ دُونَ الظُّلْمِ أَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ رَجُلًا يَقْصِدُ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ رَاصِدًا لَهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَلَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ لِقَتْلِهِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَتَلَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ دَمِهِ كَأَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ، فَهَاهُنَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الظُّلْمُ، وَأَمَّا الْعُدْوَانُ فَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَمِثَالُ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ فَقَطْ أَنْ يُسَلِّمَ امْرُؤٌ مَالَ آخَرَ ظَانًّا أَنَّهُ مَالُهُ الَّذِي كَانَ
سَرَقَهُ أَوِ اغْتَصَبَهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَالَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مَالَهُ، وَأَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا رَآهُ هَاجِمًا عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّهُ صَائِلٌ يُرِيدُ قَتْلَهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خَطَأُ ظَنِّهِ، فَهَاهُنَا تَحَقَّقَ الظُّلْمُ وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعُدْوَانُ، أَقُولُ: وَقَدْ يُعَاقَبُ الْإِنْسَانُ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ الَّتِي لَا تَجْمَعُ بَيْنَ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ مَعًا لِتَقْصِيرِهِ فِي اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ عِقَابَ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِصْلَاءَهُ النَّارَ إِدْخَالُهُ فِيهَا وَإِحْرَاقُهُ بِهَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الصِّلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ مِنَ النَّارِ لِلِاسْتِدْفَاءِ، قَالَ الرَّاجِزُ:
يُقْعِي جُلُوسَ الْبَدَوِيِّ الْمُصْطَلِي
، أَيِ: الْمُسْتَدْفِئِ، وَتَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [ص ٢٨٤ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ الْبَعِيدَ شَأْوُهُ، الشَّدِيدَ وَقْعُهُ، يَسِيرٌ عَلَى اللهِ غَيْرُ عَسِيرٍ، وَقَرِيبٌ مِنَ الْعَادِينَ الظَّالِمِينَ غَيْرُ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ مُدَنِّسًا لِلنُّفُوسِ مُدَسِّيًا لَهَا بِحَيْثُ يَهْبِطُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُرْدِيهَا فِي الْهَاوِيَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ يَسِيرًا عَلَى اللهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ حِلْمَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ وَعَدَمَ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَنْجُوَ مِنْ عِقَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ، بَلْ هُوَ تَنْبِيهٌ إِلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ، أَيْ: فَلَا يَغْتَرَّنَّ الظَّالِمُونَ بِعِزَّتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ عَلَى مَنْ يَظْلِمُونَهُمْ
38
وَلَا يَقِيسُنَّ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا فَيَكُونُوا كَأُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا فِيمَا حَكَى الله عَنْهُمْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٤: ٣٥)، بَلْ يَجِبُ أَلَّا يَأْمَنُوا تَقَلُّبَ الدُّنْيَا وَغِيَرَهَا وَلَا يَنْخَدِعُوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا.
نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَهُمَا أَكْبَرُ الذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَتَوَعَّدَ فَاعِلَ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا بِالنَّارِ، ثُمَّ نَهَى عَنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَعْظُمُ ضَرَرُهَا وَتُؤْذِنُ بِضَعْفِ إِيمَانِ مُرْتَكِبِهَا، وَوَعَدَ عَلَى تَرْكِهَا بِالْجَنَّةِ وَمُدْخَلِ الْكَرَامَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَبَائِرِ هُنَا جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ،
قَالَ الْبَقَاعِيُّ بَعْدَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ: وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا لِفَاعِلِ ذَلِكَ تَحْذِيرًا أَتْبَعُهُ مَا لِلْمُنْتَهِي تَبْشِيرًا، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ جُمْلَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَالَ، وَذَكَرَ الْآيَةَ.
الِاجْتِنَابُ: تَرْكُ الشَّيْءِ جَانِبًا، وَالْكَبَائِرُ: جَمْعُ كَبِيرَةٍ، أَيِ الْفَعَائِلُ أَوِ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرُ، وَالسَّيِّئَاتُ: جَمْعُ سَيِّئَةٍ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، أَوْ تَسُوءُ غَيْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا (٣: ١٩٣)، وَفَسَّرُوهَا بِالصَّغَائِرِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالْكَبَائِرِ، وَاللَّفْظُ أَهَمُّ وَالتَّخْصِيصُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ فِي الْمَعَاصِي صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ أَمِ الْمَعَاصِي كُلُّهَا كَبَائِرُ؟ نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللهُ بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْإِسْفَرَايِينِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ: إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، فَقِيلَ: هِيَ سَبْعٌ، لِحَدِيثٍ صَحِيحٍ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي عَدِّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَمَجْمُوعُهَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعٍ، وَقَدْ ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ.
أَقُولُ: أَشْهَرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ،
لَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ فِيمَا مَضَى | كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ |
نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَهُمَا أَكْبَرُ الذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَتَوَعَّدَ فَاعِلَ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا بِالنَّارِ، ثُمَّ نَهَى عَنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَعْظُمُ ضَرَرُهَا وَتُؤْذِنُ بِضَعْفِ إِيمَانِ مُرْتَكِبِهَا، وَوَعَدَ عَلَى تَرْكِهَا بِالْجَنَّةِ وَمُدْخَلِ الْكَرَامَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَبَائِرِ هُنَا جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ،
قَالَ الْبَقَاعِيُّ بَعْدَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ: وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا لِفَاعِلِ ذَلِكَ تَحْذِيرًا أَتْبَعُهُ مَا لِلْمُنْتَهِي تَبْشِيرًا، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ جُمْلَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَالَ، وَذَكَرَ الْآيَةَ.
الِاجْتِنَابُ: تَرْكُ الشَّيْءِ جَانِبًا، وَالْكَبَائِرُ: جَمْعُ كَبِيرَةٍ، أَيِ الْفَعَائِلُ أَوِ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرُ، وَالسَّيِّئَاتُ: جَمْعُ سَيِّئَةٍ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، أَوْ تَسُوءُ غَيْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا (٣: ١٩٣)، وَفَسَّرُوهَا بِالصَّغَائِرِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالْكَبَائِرِ، وَاللَّفْظُ أَهَمُّ وَالتَّخْصِيصُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ فِي الْمَعَاصِي صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ أَمِ الْمَعَاصِي كُلُّهَا كَبَائِرُ؟ نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللهُ بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْإِسْفَرَايِينِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ: إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، فَقِيلَ: هِيَ سَبْعٌ، لِحَدِيثٍ صَحِيحٍ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي عَدِّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَمَجْمُوعُهَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعٍ، وَقَدْ ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ.
أَقُولُ: أَشْهَرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ،
39
وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْهَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَزِيَادَةٌ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا: وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ، وَكَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَذْكُرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْكَبَائِرِ وَيُقَابِلُهَا الصَّغَائِرُ، وَالظَّاهِرُ مِنْهَا أَنَّ كِبَرَهَا فِي ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ،
وَالْمُوبِقَاتُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ مِنْ أَوْبَقَهُ إِذَا أَهْلَكَهُ، أَوْ ذَلَّلَهُ، وَيُقَابِلُ الْمُوبَقَ مَا يَضُرُّ ضَرَرًا قَلِيلًا، وَمَا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ فِي الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ.
وَكَيْفَ يُنْكِرُ أَحَدٌ انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَغَيْرِ كَبَائِرَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مِنْ ذَاتِهِ بَدِيهِيٌّ ـ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ ـ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ أَنْوَاعٌ لَهَا أَفْرَادٌ تَتَفَاوَتُ فِي أَنْفُسِهَا وَفِي الدَّاعِيَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي تَسُوقُ إِلَيْهَا.
قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ جَزَاءِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ٥٣: ٣٢]، وَالْفَوَاحِشُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنَ الْفَعَائِلِ الْقَبِيحَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَاسِبُ الْآيَةَ الَّتِي نَفْسُهَا فِي مَعْنَاهَا بِذَاتِهَا وَمَوْقِعِهَا مِمَّا قَبْلَهَا، فَقَدْ عَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ هَذَا الِاجْتِنَابِ تَكْفِيرَ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ وَغُفْرَانَهُ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مُقَابِلِ الْكَبَائِرِ هُنَا بِالسَّيِّئَاتِ وَهُوَ لَفْظٌ يَشْمَلُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ كَمَا عُلِمَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَبَّرَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِاللَّمَمِ، وَفَسَّرُوا اللَّمَمَ بِمَا قَلَّ وَصَغُرَ مِنَ الذُّنُوبِ، كَمَا فَسَّرُوا السَّيِّئَاتِ هُنَا بِالصَّغَائِرِ وَمَا أَخَذُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْمُقَابَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يَكُونُ اللَّمَمُ بِمَعْنَى مُقَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الْفَاحِشَةِ بِإِتْيَانِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهَا مَعَ اجْتِنَابِ اقْتِرَافِهَا، مِنْ أَلَمَّتِ النَّخْلَةُ إِذْ قَارَبَتِ الْإِرْطَابَ وَأَلَمَّ الْغُلَامُ إِذَا قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَسَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ مَا يُوَضِّحُهُ بِالْأَمْثِلَةِ، وَمِنَ التَّنَاسُبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالسِّيَاقِ أَنَّهُ عَلَّلَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ مَغْفِرَةَ اللَّمَمِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِحَالِ الْإِنْسَانِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَوَادِّ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ تَكُونُ غِذَاءً
وَالْمُوبِقَاتُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ مِنْ أَوْبَقَهُ إِذَا أَهْلَكَهُ، أَوْ ذَلَّلَهُ، وَيُقَابِلُ الْمُوبَقَ مَا يَضُرُّ ضَرَرًا قَلِيلًا، وَمَا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ فِي الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ.
وَكَيْفَ يُنْكِرُ أَحَدٌ انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَغَيْرِ كَبَائِرَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مِنْ ذَاتِهِ بَدِيهِيٌّ ـ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ ـ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ أَنْوَاعٌ لَهَا أَفْرَادٌ تَتَفَاوَتُ فِي أَنْفُسِهَا وَفِي الدَّاعِيَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي تَسُوقُ إِلَيْهَا.
قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ جَزَاءِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ٥٣: ٣٢]، وَالْفَوَاحِشُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنَ الْفَعَائِلِ الْقَبِيحَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَاسِبُ الْآيَةَ الَّتِي نَفْسُهَا فِي مَعْنَاهَا بِذَاتِهَا وَمَوْقِعِهَا مِمَّا قَبْلَهَا، فَقَدْ عَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ هَذَا الِاجْتِنَابِ تَكْفِيرَ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ وَغُفْرَانَهُ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مُقَابِلِ الْكَبَائِرِ هُنَا بِالسَّيِّئَاتِ وَهُوَ لَفْظٌ يَشْمَلُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ كَمَا عُلِمَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَبَّرَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِاللَّمَمِ، وَفَسَّرُوا اللَّمَمَ بِمَا قَلَّ وَصَغُرَ مِنَ الذُّنُوبِ، كَمَا فَسَّرُوا السَّيِّئَاتِ هُنَا بِالصَّغَائِرِ وَمَا أَخَذُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْمُقَابَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يَكُونُ اللَّمَمُ بِمَعْنَى مُقَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الْفَاحِشَةِ بِإِتْيَانِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهَا مَعَ اجْتِنَابِ اقْتِرَافِهَا، مِنْ أَلَمَّتِ النَّخْلَةُ إِذْ قَارَبَتِ الْإِرْطَابَ وَأَلَمَّ الْغُلَامُ إِذَا قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَسَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ مَا يُوَضِّحُهُ بِالْأَمْثِلَةِ، وَمِنَ التَّنَاسُبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالسِّيَاقِ أَنَّهُ عَلَّلَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ مَغْفِرَةَ اللَّمَمِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِحَالِ الْإِنْسَانِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَوَادِّ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ تَكُونُ غِذَاءً
40
فَدَمًا فَمَنِيًّا يُلَقِّحُ الْبُوَيْضَاتِ فِي رَحِمِ الْأُمِّ، وَعِلْمُهُ بِحَالِهِ بَعْدَ هَذَا التَّلْقِيحِ إِذْ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَقُصَارَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ فِي أُخْرَى: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ (٣٠: ٥٤)، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تَعْلِيلُ التَّخْفِيفِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٤: ٢٨).
وَمِمَّا وَرَدَ صَرِيحًا فِي تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ إِلَّا أَحْصَاهَا (١٨: ٤٩)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٤: ٥٢، ٥٣).
وَإِذَا كَانَ هَذَا صَرِيحًا فِي الْقُرْآنِ فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْكَارُهُ؟ لَا، بَلْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلِ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ، وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، وَإِنَّمَا عُزِيَ الْقَوْلُ بِإِنْكَارِ تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ إِلَى الْأَشْعَرِيَّةِ، وَكَأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُخَالِفُوا بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ فُورَكٍ، فَإِنَّهُ صَحَّحَ كَلَامَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَالَ: " مَعَاصِي اللهِ كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الذُّنُوبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ " اهـ، وَأَوَّلَ الْآيَةَ تَأْوِيلًا بَعِيدًا، وَهَلْ يُؤَوِّلُ سَائِرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لِأَجْلِ أَنْ يُخَالِفَ الْمُعْتَزِلَةَ وَلَوْ فِيمَا أَصَابُوا فِيهِ؟ لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ هُوَ الَّذِي صَرَفَ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَذْكِيَاءِ عَنْ إِفَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ بِفِطْنَتِهِمْ، وَجَعَلَ كُتُبَهُمْ فِتْنَةً لِلْمُسْلِمِينَ اشْتَغَلُوا بِالْجَدَلِ فِيهَا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ، وَسَتَرَى مَا يَنْقُلُهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ وَيَرُدُّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَيْنَ الرَّازِيُّ مِنَ الْغَزَالِيِّ، وَأَيْنَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَلِيٍّ؟
وَالْمُوَافِقُونَ لِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ مُحَقِّقِي الْإِشَارَةِ وَغَيْرِهِمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ فَقِيلَ: هِيَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتِ الْحَدَّ، وَقِيلَ: مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَوَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، وَقِيلَ: كُلُّ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ أَيْ لَا لِعَارِضٍ، أَوْ لَا لِسَدِّ ذَرِيعَةٍ، وَضَعَّفُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَأَقْوَالًا أُخْرَى كَثِيرَةً، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْكَبَائِرَ كُلُّ مَا تَوَعَّدَ اللهُ عَلَيْهِ، قِيلَ: فِي الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَقِيلَ: فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ الرَّازِيُّ: إِنَّهَا كُلُّ مَا يُشْعِرُ بِالِاسْتِهَانَةِ بِالدِّينِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَقْبُولٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَالْمُخْتَلِفُونَ فِي تَعْرِيفِهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هُنَاكَ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً، وَأَنَّ تَرْكَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْهَمَ الْكَبَائِرَ لِتُجْتَنَبَ كُلُّ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا أَوْ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا اللهُ عَنْهُ بِتَرْكِ الْكَبَائِرِ، فَالِاحْتِيَاطُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْتَنِبَهَا، وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ
بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ وَالْقَوْلِ بِأَنَّ مِنْهَا صَغَائِرَ مُبْهَمَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَهِيَ لَا تُعْلَمُ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ، فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَهُ الزَّوَاجِرَ مَنْ شَاءَ.
وَمِمَّا وَرَدَ صَرِيحًا فِي تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ إِلَّا أَحْصَاهَا (١٨: ٤٩)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٤: ٥٢، ٥٣).
وَإِذَا كَانَ هَذَا صَرِيحًا فِي الْقُرْآنِ فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْكَارُهُ؟ لَا، بَلْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلِ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ، وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، وَإِنَّمَا عُزِيَ الْقَوْلُ بِإِنْكَارِ تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ إِلَى الْأَشْعَرِيَّةِ، وَكَأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُخَالِفُوا بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ فُورَكٍ، فَإِنَّهُ صَحَّحَ كَلَامَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَالَ: " مَعَاصِي اللهِ كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الذُّنُوبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ " اهـ، وَأَوَّلَ الْآيَةَ تَأْوِيلًا بَعِيدًا، وَهَلْ يُؤَوِّلُ سَائِرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لِأَجْلِ أَنْ يُخَالِفَ الْمُعْتَزِلَةَ وَلَوْ فِيمَا أَصَابُوا فِيهِ؟ لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ هُوَ الَّذِي صَرَفَ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَذْكِيَاءِ عَنْ إِفَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ بِفِطْنَتِهِمْ، وَجَعَلَ كُتُبَهُمْ فِتْنَةً لِلْمُسْلِمِينَ اشْتَغَلُوا بِالْجَدَلِ فِيهَا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ، وَسَتَرَى مَا يَنْقُلُهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ وَيَرُدُّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَيْنَ الرَّازِيُّ مِنَ الْغَزَالِيِّ، وَأَيْنَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَلِيٍّ؟
وَالْمُوَافِقُونَ لِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ مُحَقِّقِي الْإِشَارَةِ وَغَيْرِهِمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ فَقِيلَ: هِيَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتِ الْحَدَّ، وَقِيلَ: مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَوَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، وَقِيلَ: كُلُّ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ أَيْ لَا لِعَارِضٍ، أَوْ لَا لِسَدِّ ذَرِيعَةٍ، وَضَعَّفُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَأَقْوَالًا أُخْرَى كَثِيرَةً، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْكَبَائِرَ كُلُّ مَا تَوَعَّدَ اللهُ عَلَيْهِ، قِيلَ: فِي الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَقِيلَ: فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ الرَّازِيُّ: إِنَّهَا كُلُّ مَا يُشْعِرُ بِالِاسْتِهَانَةِ بِالدِّينِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَقْبُولٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَالْمُخْتَلِفُونَ فِي تَعْرِيفِهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هُنَاكَ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً، وَأَنَّ تَرْكَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْهَمَ الْكَبَائِرَ لِتُجْتَنَبَ كُلُّ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا أَوْ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا اللهُ عَنْهُ بِتَرْكِ الْكَبَائِرِ، فَالِاحْتِيَاطُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْتَنِبَهَا، وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ
بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ وَالْقَوْلِ بِأَنَّ مِنْهَا صَغَائِرَ مُبْهَمَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَهِيَ لَا تُعْلَمُ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ، فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَهُ الزَّوَاجِرَ مَنْ شَاءَ.
41
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْمَعْصِيَةَ إِلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَأَرَادُوا بِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرَ لَمْ يَفْهَمُوا الْآيَةَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤٥: ٢١)، فَجُعِلَ أَهْلُ السَّيِّئَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ الْمُفْسِدُونَ، وَقَالَ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ (٤: ١٨)، الْآيَةَ، وَمَا الْعَهْدُ بِتَفْسِيرِهَا بِبَعِيدٍ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ السَّيِّئَاتِ فِيهَا عَلَى الصَّغَائِرِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ فِي كُلِّ سَيِّئَةٍ، وَفِي كُلِّ نَهْيٍ خَاطَبَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ، وَصَغِيرَةً أَوْ صَغَائِرَ، وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ فِي كُلِّ ذَنْبٍ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَاحْتِرَامِ التَّكْلِيفِ وَمِنْهُ الْإِصْرَارُ، فَإِنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الذَّنْبِ لَا يَكُونُ مُحْتَرِمًا وَلَا مُبَالِيًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ أَيِ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا كُلُّ شَيْءٍ تُنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ أَيْ: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ صَغِيرَهُ فَلَا نُؤَاخِذْكُمْ عَلَيْهِ، فَإِضَافَةُ السَّيِّئَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ ; بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ يَكُونُ كَبِيرَةً مُطْلَقًا عَلَى الدَّوَامِ، وَإِنْ فُعِلَ بِجَهَالَةٍ عَارِضَةٍ وَعَدَمِ اسْتِهَانَةٍ، وَلَا صَغِيرَةَ مُطْلَقًا، وَإِنْ فُعِلَتْ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالنَّهْيِ وَأَصَرَّ الْفَاعِلُ عَلَيْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ قِيلَ لَهُ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟، قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، أَيْ: مَعَ تَوْبَةٍ، فَكُلُّ ذَنْبٍ يُرْتَكَبُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ اسْتِشَاطَةِ غَضَبٍ، أَوْ غَلَبَةِ جُبْنٍ، أَوْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ وَصَاحِبُهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الدِّينِ يَخَافُ اللهَ وَلَا يَسْتَحِلُّ مَحَارِمَهُ فَهُوَ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا اللهُ تَعَالَى، إِذَا كَانَ لَوْلَا ذَلِكَ الْعَارِضُ الْقَاهِرُ لِلنَّفْسِ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِحَهُ تَهَاوُنًا بِالدِّينِ، وَكَانَ بَعْدَ اجْتِرَاحِهِ إِيَّاهُ حَالَ كَوْنِهِ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ يَنْدَمُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَتُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَعْزِمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى اقْتِرَافِ مِثْلِهِ، فَهُوَ بِعَدَمِ إِصْرَارِهِ وَبِاسْتِقْرَارِ هَيْبَةِ اللهِ وَخَوْفِهِ فِي نَفْسِهِ يَكُونُ أَهْلًا لِأَنْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَنْبٍ
يَرْتَكِبُهُ الْإِنْسَانُ ـ مَعَ التَّهَاوُنِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِنَظَرِ اللهِ إِلَيْهِ وَرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ حَيْثُ نَهَاهُ ـ فَهُوَ مَهْمَا كَانَ صَغِيرًا أَيْ: فِي صُورَتِهِ أَوْ ضَرَرِهِ، يُعَدُّ كَبِيرَةً (أَيْ: مِنْ حَيْثُ هُوَ اسْتِهَانَةٌ بِالدِّينِ وَدَاعٍ إِلَى الْإِصْرَارِ وَالِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِهْتَارِ)، وَمِثَالُ ذَلِكَ: تَطْفِيفُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَإِخْسَارُهُمَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (٨٣: ١)، وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَوْ حَبَّةً، وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١٠٤: ١)، أَيِ: الَّذِينَ اعْتَادُوا الْهَمْزَ وَاللَّمْزَ، وَهُمَا عَيْبُ النَّاسِ وَالطَّعْنُ فِي أَعْرَاضِهِمْ، وَالْوَيْلُ: الْهَلَاكُ فَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ تَرْجِيحٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَبَائِرَ بِحَسَبِ قَصْدِ فَاعِلِهَا وَشُعُورِهِ عِنْدَ اقْتِرَافِهَا وَعَقِبَهُ، لَا فِي ذَاتِهَا وَحَسَبِ ضَرَرِهَا، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي إِنْكَارَ تَمَايُزِ الْمَعَاصِي فِي أَنْفُسِهَا، وَكَوْنَ مِنْهَا الصَّغِيرَةُ كَالنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ كَالزِّنَا، وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الرَّجُلِ خَادِمَهُ ضَرْبًا خَفِيفًا بِدُونِ ذَنْبٍ يَقْتَضِي
فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ أَيِ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا كُلُّ شَيْءٍ تُنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ أَيْ: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ صَغِيرَهُ فَلَا نُؤَاخِذْكُمْ عَلَيْهِ، فَإِضَافَةُ السَّيِّئَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ ; بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ يَكُونُ كَبِيرَةً مُطْلَقًا عَلَى الدَّوَامِ، وَإِنْ فُعِلَ بِجَهَالَةٍ عَارِضَةٍ وَعَدَمِ اسْتِهَانَةٍ، وَلَا صَغِيرَةَ مُطْلَقًا، وَإِنْ فُعِلَتْ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالنَّهْيِ وَأَصَرَّ الْفَاعِلُ عَلَيْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ قِيلَ لَهُ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟، قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، أَيْ: مَعَ تَوْبَةٍ، فَكُلُّ ذَنْبٍ يُرْتَكَبُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ اسْتِشَاطَةِ غَضَبٍ، أَوْ غَلَبَةِ جُبْنٍ، أَوْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ وَصَاحِبُهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الدِّينِ يَخَافُ اللهَ وَلَا يَسْتَحِلُّ مَحَارِمَهُ فَهُوَ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا اللهُ تَعَالَى، إِذَا كَانَ لَوْلَا ذَلِكَ الْعَارِضُ الْقَاهِرُ لِلنَّفْسِ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِحَهُ تَهَاوُنًا بِالدِّينِ، وَكَانَ بَعْدَ اجْتِرَاحِهِ إِيَّاهُ حَالَ كَوْنِهِ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ يَنْدَمُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَتُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَعْزِمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى اقْتِرَافِ مِثْلِهِ، فَهُوَ بِعَدَمِ إِصْرَارِهِ وَبِاسْتِقْرَارِ هَيْبَةِ اللهِ وَخَوْفِهِ فِي نَفْسِهِ يَكُونُ أَهْلًا لِأَنْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَنْبٍ
يَرْتَكِبُهُ الْإِنْسَانُ ـ مَعَ التَّهَاوُنِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِنَظَرِ اللهِ إِلَيْهِ وَرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ حَيْثُ نَهَاهُ ـ فَهُوَ مَهْمَا كَانَ صَغِيرًا أَيْ: فِي صُورَتِهِ أَوْ ضَرَرِهِ، يُعَدُّ كَبِيرَةً (أَيْ: مِنْ حَيْثُ هُوَ اسْتِهَانَةٌ بِالدِّينِ وَدَاعٍ إِلَى الْإِصْرَارِ وَالِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِهْتَارِ)، وَمِثَالُ ذَلِكَ: تَطْفِيفُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَإِخْسَارُهُمَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (٨٣: ١)، وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَوْ حَبَّةً، وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١٠٤: ١)، أَيِ: الَّذِينَ اعْتَادُوا الْهَمْزَ وَاللَّمْزَ، وَهُمَا عَيْبُ النَّاسِ وَالطَّعْنُ فِي أَعْرَاضِهِمْ، وَالْوَيْلُ: الْهَلَاكُ فَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ تَرْجِيحٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَبَائِرَ بِحَسَبِ قَصْدِ فَاعِلِهَا وَشُعُورِهِ عِنْدَ اقْتِرَافِهَا وَعَقِبَهُ، لَا فِي ذَاتِهَا وَحَسَبِ ضَرَرِهَا، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي إِنْكَارَ تَمَايُزِ الْمَعَاصِي فِي أَنْفُسِهَا، وَكَوْنَ مِنْهَا الصَّغِيرَةُ كَالنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ كَالزِّنَا، وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الرَّجُلِ خَادِمَهُ ضَرْبًا خَفِيفًا بِدُونِ ذَنْبٍ يَقْتَضِي
42
ذَلِكَ يُعَدُّ صَغِيرَةً، وَأَمَّا قَتْلُهُ إِيَّاهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ صَغِيرَةً فِي نَفْسِهِ مَهْمَا كَانَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ مَسْأَلَةَ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَقَاصِدِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَسُلْطَانِهِ فِي الْقَلْبِ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عَنِ الْغَزَالِيِّ نُبَذًا تَدُلُّ عَلَى رَأْيِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ الرَّازِيُّ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مُنْتَخَبَاتِ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فَصْلًا طَوِيلًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، فَقَالَ: فَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَبَائِرَ تَمْتَازُ عَنِ الصَّغَائِرِ بِحَسَبِ ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنْ لِكُلِّ طَاعَةٍ قَدْرًا مِنَ الثَّوَابِ، وَلِكُلِّ مَعْصِيَةٍ قَدْرًا مِنَ الْعِقَابِ، فَإِذَا أَتَى الْإِنْسَانُ بِطَاعَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا ثَوَابًا، ثُمَّ أَتَى بِمَعْصِيَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا عِقَابًا فَهَاهُنَا الْحَالُ بَيْنَ ثَوَابِ الطَّاعَةِ، وَعِقَابِ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَادَلَا وَيَتَسَاوَيَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٤٢: ٧).
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ طَاعَةٍ أَزْيَدَ مِنْ عُقَابِ مَعْصِيَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَيَفْضُلُ مِنَ الثَّوَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ
الْمَعْصِيَةِ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّكْفِيرِ.
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ عِقَابُ مَعْصِيَتِهِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الثَّوَابُ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَفْضُلُ مِنَ الْعِقَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الْكَبِيرَةُ وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِحْبَاطِ ; وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَبَيْنَ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ.
ثُمَّ رَدَّ الرَّازِيُّ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: لَا لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ بَاطِلَةٍ عِنْدَنَا، أَيْ: عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَذَكَرَ مِنْهَا كَوْنَ الطَّاعَةِ تُوجِبُ الثَّوَابَ، وَالْمَعْصِيَةِ تُوجِبُ الْعِقَابَ، وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ، وَبِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ جَزَاءً، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ عِنْدَهُ، لَا أَدْرِي أَنَقَلَ الرَّازِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ بِنَصِّهَا أَمْ بِمَعْنَاهَا، وَلَكِنْ أَقُولُ عَلَى الْحَالَيْنِ: إِنَّ تَوْجِيهَ الرَّجُلِ ذَكَاءَهُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَتَفْنِيدِ أَقْوَالِهِمْ، وَنَصْرِ الْأَشَاعِرَةِ وَتَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ قَدْ شَغَلَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَنِ اسْتِبَانَةِ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسِهَا، فَعِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِإِيجَابِ الطَّاعَةِ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةِ الْعِقَابَ، وَإِنَّمَا حَرَّكَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي خَيَالِهِ ذِكْرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ اسْتِحْقَاقَ الْعَامِلِ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِقَابَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا الِاسْتِحْقَاقُ
قَالَ الرَّازِيُّ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مُنْتَخَبَاتِ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فَصْلًا طَوِيلًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، فَقَالَ: فَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَبَائِرَ تَمْتَازُ عَنِ الصَّغَائِرِ بِحَسَبِ ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنْ لِكُلِّ طَاعَةٍ قَدْرًا مِنَ الثَّوَابِ، وَلِكُلِّ مَعْصِيَةٍ قَدْرًا مِنَ الْعِقَابِ، فَإِذَا أَتَى الْإِنْسَانُ بِطَاعَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا ثَوَابًا، ثُمَّ أَتَى بِمَعْصِيَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا عِقَابًا فَهَاهُنَا الْحَالُ بَيْنَ ثَوَابِ الطَّاعَةِ، وَعِقَابِ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَادَلَا وَيَتَسَاوَيَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٤٢: ٧).
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ طَاعَةٍ أَزْيَدَ مِنْ عُقَابِ مَعْصِيَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَيَفْضُلُ مِنَ الثَّوَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ
الْمَعْصِيَةِ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّكْفِيرِ.
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ عِقَابُ مَعْصِيَتِهِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الثَّوَابُ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَفْضُلُ مِنَ الْعِقَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الْكَبِيرَةُ وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِحْبَاطِ ; وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَبَيْنَ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ.
ثُمَّ رَدَّ الرَّازِيُّ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: لَا لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ بَاطِلَةٍ عِنْدَنَا، أَيْ: عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَذَكَرَ مِنْهَا كَوْنَ الطَّاعَةِ تُوجِبُ الثَّوَابَ، وَالْمَعْصِيَةِ تُوجِبُ الْعِقَابَ، وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ، وَبِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ جَزَاءً، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ عِنْدَهُ، لَا أَدْرِي أَنَقَلَ الرَّازِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ بِنَصِّهَا أَمْ بِمَعْنَاهَا، وَلَكِنْ أَقُولُ عَلَى الْحَالَيْنِ: إِنَّ تَوْجِيهَ الرَّجُلِ ذَكَاءَهُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَتَفْنِيدِ أَقْوَالِهِمْ، وَنَصْرِ الْأَشَاعِرَةِ وَتَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ قَدْ شَغَلَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَنِ اسْتِبَانَةِ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسِهَا، فَعِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِإِيجَابِ الطَّاعَةِ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةِ الْعِقَابَ، وَإِنَّمَا حَرَّكَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي خَيَالِهِ ذِكْرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ اسْتِحْقَاقَ الْعَامِلِ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِقَابَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا الِاسْتِحْقَاقُ
43
لَيْسَ بِإِيجَابٍ مِنْ ذِي سُلْطَةٍ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ تَعَالَى، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تَعْلُو تَأْوِيلَ الْمُؤَوِّلِينَ وَجَدَلَ الْمُجَادِلِينَ، وَكَذَلِكَ حُبُوطُ الْأَعْمَالِ بِالْكُفْرِ، وَإِحَاطَةُ الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ فِي الْقُرْآنِ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهَا مِرَاءً ظَاهِرًا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (٩: ١٧)، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ٢: ٨١]، كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٣: ١٤)، عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ هُنَا لَا يُوَضِّحُ مَعْنَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَفِيهِ مَعْنَى تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ.
وَهَذِهِ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ، فَإِذَا زَكَتِ النَّفْسُ بِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ الطَّاعَاتِ فِيهَا عَلَى تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي أَفْلَحَتْ وَارْتَفَعَتْ إِلَى عِلِّيِّينَ، وَإِذَا كَانَ الْعَكْسُ خَسِرَتْ وَحَبِطَ مَا عَمِلَتْ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (٩١: ٩، ١٠)، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ تَكْفِيرَ
الْحَسَنَاتِ وَإِذْهَابَهَا لِلسَّيِّئَاتِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ، وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ يَحْتَاجُ إِلَى إِيضَاحٍ، لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ يُضَادُّ أَثَرَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهَا وَيُكَفِّرَهَا؟
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ مَبَاحِثِ التَّوْبَةِ، وَهُوَ مَا عَنْهُ التَّوْبَةُ، أَيِ الذُّنُوبُ مَا نَصُّهُ: " اجْتِنَابُ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ إِذَا اجْتَنَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنَ امْرَأَةٍ، وَمِنْ مُوَاقَعَتِهَا فَيَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الْوِقَاعِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى نَظَرٍ أَوْ لَمْسٍ، فَإِنَّ مُجَاهَدَةَ نَفْسِهِ بِالْكَفِّ عَنِ الْوِقَاعِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي تَنْوِيرِ قَلْبِهِ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى النَّظَرِ فِي إِظْلَامِهِ، فَهَذَا مَعْنَى تَكْفِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ عِنِّينًا، أَوْ لَمْ يَكُنِ امْتِنَاعُهُ إِلَّا بِالضَّرُورَةِ لِلْعَجْزِ، أَوْ كَانَ قَادِرًا وَلَكِنِ امْتَنَعَ لِخَوْفِ أَمْرٍ آخَرَ، فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّكْفِيرِ أَصْلًا، وَكُلُّ مَنْ لَا يَشْتَهِي الْخَمْرَ بِطَبْعِهِ وَلَوْ أُبِيحَ لَهُ لَمَا شَرِبَهُ فَاجْتِنَابُهُ لَا يُكَفِّرُ عَنْهُ الصَّغَائِرَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ كَسَمَاعِ الْمَلَاهِي وَالْأَوْتَارِ.
نَعَمْ مَنْ يَشْتَهِي الْخَمْرَ وَسَمَاعَ الْأَوْتَارِ فَيُمْسِكُ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهِدَةِ عَنِ الْخَمْرِ وَيُطْلِقُهَا فِي السَّمَاعِ فَمُجَاهَدَتُهُ النَّفْسَ بِالْكَفِّ رُبَّمَا تَمْحُو عَنْ قَلْبِهِ الظُّلْمَةَ الَّتِي ارْتَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةِ السَّمَاعِ.
فَكُلُّ هَذِهِ أَحْكَامٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْضُهَا مَحَلَّ الشَّكِّ، وَتَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَا يُعْرَفُ تَفْصِيلُهَا إِلَّا بِالنَّصِّ، وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ بَعْدُ وَلَا حَدَّ جَامِعٌ، بَلْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَاتٍ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الصَّلَاةُ إِلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِشْرَاكٌ بِاللهِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ " قِيلَ: مَا تَرْكُ السُّنَّةِ؟ قَالَ: الْخُرُوجُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ أَنْ يُبَايِعَ
وَهَذِهِ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ، فَإِذَا زَكَتِ النَّفْسُ بِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ الطَّاعَاتِ فِيهَا عَلَى تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي أَفْلَحَتْ وَارْتَفَعَتْ إِلَى عِلِّيِّينَ، وَإِذَا كَانَ الْعَكْسُ خَسِرَتْ وَحَبِطَ مَا عَمِلَتْ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (٩١: ٩، ١٠)، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ تَكْفِيرَ
الْحَسَنَاتِ وَإِذْهَابَهَا لِلسَّيِّئَاتِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ، وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ يَحْتَاجُ إِلَى إِيضَاحٍ، لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ يُضَادُّ أَثَرَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهَا وَيُكَفِّرَهَا؟
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ مَبَاحِثِ التَّوْبَةِ، وَهُوَ مَا عَنْهُ التَّوْبَةُ، أَيِ الذُّنُوبُ مَا نَصُّهُ: " اجْتِنَابُ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ إِذَا اجْتَنَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنَ امْرَأَةٍ، وَمِنْ مُوَاقَعَتِهَا فَيَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الْوِقَاعِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى نَظَرٍ أَوْ لَمْسٍ، فَإِنَّ مُجَاهَدَةَ نَفْسِهِ بِالْكَفِّ عَنِ الْوِقَاعِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي تَنْوِيرِ قَلْبِهِ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى النَّظَرِ فِي إِظْلَامِهِ، فَهَذَا مَعْنَى تَكْفِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ عِنِّينًا، أَوْ لَمْ يَكُنِ امْتِنَاعُهُ إِلَّا بِالضَّرُورَةِ لِلْعَجْزِ، أَوْ كَانَ قَادِرًا وَلَكِنِ امْتَنَعَ لِخَوْفِ أَمْرٍ آخَرَ، فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّكْفِيرِ أَصْلًا، وَكُلُّ مَنْ لَا يَشْتَهِي الْخَمْرَ بِطَبْعِهِ وَلَوْ أُبِيحَ لَهُ لَمَا شَرِبَهُ فَاجْتِنَابُهُ لَا يُكَفِّرُ عَنْهُ الصَّغَائِرَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ كَسَمَاعِ الْمَلَاهِي وَالْأَوْتَارِ.
نَعَمْ مَنْ يَشْتَهِي الْخَمْرَ وَسَمَاعَ الْأَوْتَارِ فَيُمْسِكُ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهِدَةِ عَنِ الْخَمْرِ وَيُطْلِقُهَا فِي السَّمَاعِ فَمُجَاهَدَتُهُ النَّفْسَ بِالْكَفِّ رُبَّمَا تَمْحُو عَنْ قَلْبِهِ الظُّلْمَةَ الَّتِي ارْتَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةِ السَّمَاعِ.
فَكُلُّ هَذِهِ أَحْكَامٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْضُهَا مَحَلَّ الشَّكِّ، وَتَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَا يُعْرَفُ تَفْصِيلُهَا إِلَّا بِالنَّصِّ، وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ بَعْدُ وَلَا حَدَّ جَامِعٌ، بَلْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَاتٍ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الصَّلَاةُ إِلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِشْرَاكٌ بِاللهِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ " قِيلَ: مَا تَرْكُ السُّنَّةِ؟ قَالَ: الْخُرُوجُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ أَنْ يُبَايِعَ
44
رَجُلًا ثُمَّ يَخْرُجَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ يُقَاتِلُهُ " فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا يُحِيطُ بِالْعَدَدِ كُلِّهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى حَدٍّ جَامِعٍ فَيَبْقَى لَا مَحَالَةَ مُبْهَمًا اهـ.
وَقَالَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي، وَهُوَ تَمَامُ التَّوْبَةِ، وَشُرُوطُهَا، وَدَوَامُهَا:
" وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَيَجِبُ أَنْ يُفَتِّشَ فِي أَوَّلِ بُلُوغِهِ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَبَطْنِهِ وَيَدِهِ
وَفَرْجِهِ وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي جَمِيعِ أَيَّامِهِ وَسَاعَاتِهِ، وَيُفَصِّلَ عِنْدَ نَفْسِهِ دِيوَانَ مَعَاصِيهِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى جَمِيعِهَا صَغَائِرِهَا وَكَبَائِرِهَا، ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهَا فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَظْلَمَةِ الْعِبَادِ كَنَظَرٍ إِلَى غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَقُعُودٍ فِي مَسْجِدٍ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَمَسِّ مُصْحَفٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَاعْتِقَادِ بِدْعَةٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، وَسَمَاعِ مَلَاهٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَظَالِمِ الْعِبَادِ فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا بِالنَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَيْهَا، وَبِأَنْ يَحْسِبَ مِقْدَارَهَا مِنْ حَيْثُ الْكِبَرِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمُدَّةِ، وَيَطْلُبَ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ مِنْهَا حَسَنَةً تُنَاسِبُهَا، فَيَأْتِيَ مِنَ الْحَسَنَاتِ بِمِقْدَارِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا بَلْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (١١: ١١٤)، فَيُكَفِّرُ سَمَاعَ الْمَلَاهِي بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَبِمَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَيُكَفِّرُ الْقُعُودَ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ، وَيُكَفِّرُ مَسَّ الْمُصْحَفِ مُحْدِثًا بِإِكْرَامِ الْمُصْحَفِ وَكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَكَثْرَةِ تَقْبِيلِهِ وَبِأَنْ يَكْتُبَ مُصْحَفًا وَيَجْعَلَهُ وَقْفًا، وَيُكَفِّرُ شُرْبَ الْخَمْرِ بِالتَّصَدُّقِ بِشَرَابٍ حَلَالٍ هُوَ أَطْيَبُ مِنْهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ، وَعَدُّ جَمِيعِ الْمَعَاصِي غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمُضَادَّةِ، فَإِنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ فَكُلُّ ظُلْمَةٍ ارْتَفَعَتْ إِلَى الْقَلْبِ لَا يَمْحُوهَا إِلَّا نُورٌ يَرْتَفِعُ إِلَيْهَا بِحَسَنَةٍ تُضَادُّهَا، وَالْمُتَضَادَّاتُ هِيَ الْمُتَنَاسِبَاتُ ; فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُمْحَى كُلُّ سَيِّئَةٍ بِحَسَنَةٍ مِنْ جِنْسِهَا لَكِنْ تُضَادُّهَا، فَإِنَّ السَّوَادَ يُزَالُ بِالْبَيَاضِ لَا بِالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَهَذَا التَّدْرِيجُ وَالتَّحْقِيقُ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي طَرِيقَةِ الْمَحْوِ، فَالرَّجَاءُ فِيهِ أَصْدَقُ، وَالثِّقَةُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُؤَثِّرًا فِي الْمَحْوِ.
فَهَذَا حُكْمُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ يُكَفَّرُ بِضِدِّهِ، وَأَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَأَثَرَ اتِّبَاعِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ السُّرُورُ بِهَا وَالْحَنِينُ إِلَيْهَا، فَلَا جَرَمَ كَانَ كُلُّ أَذًى يُصِيبُ الْمُسْلِمَ يَنْبُو بِسَبَبِهِ قَلْبُهُ عَنِ الدُّنْيَا يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ ; إِذِ الْقَلْبُ يَتَجَافَى بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ عَنْ دَارِ الْهُمُومِ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: مِنَ الذُّنُوبِ ذُنُوبٌ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا الْهُمُومُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: إِلَّا الْهَمُّ بِطَلَبِ الْمَعِيشَةِ انْتَهَى الْمُرَادُ هُنَا.
وَلَهُ فِي هَذَا الْمَنْحَى كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَكْفِيرَ
الْحَسَنَاتِ لِلسَّيِّئَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِذْهَابِ أَثَرِهَا السَّيِّئِ مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ الْأُنْسُ بِالْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَالرَّغْبَةُ
وَقَالَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي، وَهُوَ تَمَامُ التَّوْبَةِ، وَشُرُوطُهَا، وَدَوَامُهَا:
" وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَيَجِبُ أَنْ يُفَتِّشَ فِي أَوَّلِ بُلُوغِهِ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَبَطْنِهِ وَيَدِهِ
وَفَرْجِهِ وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي جَمِيعِ أَيَّامِهِ وَسَاعَاتِهِ، وَيُفَصِّلَ عِنْدَ نَفْسِهِ دِيوَانَ مَعَاصِيهِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى جَمِيعِهَا صَغَائِرِهَا وَكَبَائِرِهَا، ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهَا فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَظْلَمَةِ الْعِبَادِ كَنَظَرٍ إِلَى غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَقُعُودٍ فِي مَسْجِدٍ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَمَسِّ مُصْحَفٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَاعْتِقَادِ بِدْعَةٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، وَسَمَاعِ مَلَاهٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَظَالِمِ الْعِبَادِ فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا بِالنَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَيْهَا، وَبِأَنْ يَحْسِبَ مِقْدَارَهَا مِنْ حَيْثُ الْكِبَرِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمُدَّةِ، وَيَطْلُبَ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ مِنْهَا حَسَنَةً تُنَاسِبُهَا، فَيَأْتِيَ مِنَ الْحَسَنَاتِ بِمِقْدَارِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا بَلْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (١١: ١١٤)، فَيُكَفِّرُ سَمَاعَ الْمَلَاهِي بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَبِمَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَيُكَفِّرُ الْقُعُودَ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ، وَيُكَفِّرُ مَسَّ الْمُصْحَفِ مُحْدِثًا بِإِكْرَامِ الْمُصْحَفِ وَكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَكَثْرَةِ تَقْبِيلِهِ وَبِأَنْ يَكْتُبَ مُصْحَفًا وَيَجْعَلَهُ وَقْفًا، وَيُكَفِّرُ شُرْبَ الْخَمْرِ بِالتَّصَدُّقِ بِشَرَابٍ حَلَالٍ هُوَ أَطْيَبُ مِنْهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ، وَعَدُّ جَمِيعِ الْمَعَاصِي غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمُضَادَّةِ، فَإِنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ فَكُلُّ ظُلْمَةٍ ارْتَفَعَتْ إِلَى الْقَلْبِ لَا يَمْحُوهَا إِلَّا نُورٌ يَرْتَفِعُ إِلَيْهَا بِحَسَنَةٍ تُضَادُّهَا، وَالْمُتَضَادَّاتُ هِيَ الْمُتَنَاسِبَاتُ ; فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُمْحَى كُلُّ سَيِّئَةٍ بِحَسَنَةٍ مِنْ جِنْسِهَا لَكِنْ تُضَادُّهَا، فَإِنَّ السَّوَادَ يُزَالُ بِالْبَيَاضِ لَا بِالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَهَذَا التَّدْرِيجُ وَالتَّحْقِيقُ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي طَرِيقَةِ الْمَحْوِ، فَالرَّجَاءُ فِيهِ أَصْدَقُ، وَالثِّقَةُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُؤَثِّرًا فِي الْمَحْوِ.
فَهَذَا حُكْمُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ يُكَفَّرُ بِضِدِّهِ، وَأَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَأَثَرَ اتِّبَاعِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ السُّرُورُ بِهَا وَالْحَنِينُ إِلَيْهَا، فَلَا جَرَمَ كَانَ كُلُّ أَذًى يُصِيبُ الْمُسْلِمَ يَنْبُو بِسَبَبِهِ قَلْبُهُ عَنِ الدُّنْيَا يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ ; إِذِ الْقَلْبُ يَتَجَافَى بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ عَنْ دَارِ الْهُمُومِ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: مِنَ الذُّنُوبِ ذُنُوبٌ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا الْهُمُومُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: إِلَّا الْهَمُّ بِطَلَبِ الْمَعِيشَةِ انْتَهَى الْمُرَادُ هُنَا.
وَلَهُ فِي هَذَا الْمَنْحَى كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَكْفِيرَ
الْحَسَنَاتِ لِلسَّيِّئَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِذْهَابِ أَثَرِهَا السَّيِّئِ مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ الْأُنْسُ بِالْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَالرَّغْبَةُ
45
فِيهِ وَالِاسْتِلْذَاذُ بِهِ، وَأَمَّا تَكْفِيرُ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لِلسَّيِّئَاتِ فَقَدْ بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّ الِاجْتِنَابَ الَّذِي هُوَ تَرْكٌ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ دَاعِيَةِ الْعَمَلِ بِعَمَلِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ الَّتِي تَكُفُّ النَّفْسَ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي حَصَلَتْ دَاعِيَتُهُ، وَمِمَّا أَتَذَكَّرُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ أَوْ بُسْتَانَهُ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ اللهَ وَخَافَهُ فَكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ السَّرِقَةِ وَخَرَجَ، فَإِنَّ هَذَا الْكَفَّ عَنِ الْكَبِيرَةِ يُكَفِّرُ مِنْ نَفْسِهِ دُخُولَ مِلْكِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ ; لِأَنَّ شُعُورَ الْإِيمَانِ الَّذِي تَنَبَّهَ فِيهِ يَكُونُ قَدْ غَلَبَ شُعُورَ الْفِسْقِ الَّذِي حَرَّكَهُ أَوَّلًا لِقَصْدِ السَّرِقَةِ وَمَحَاهُ وَأَزَالَهُ، وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ وَلَا الْعِلْمِ بِرِضَاهُ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الِاسْتِهَانَةَ بِحَقِّهِ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّيِّئَةَ تُقَوِّي فِي نَفْسِهِ أَثَرَ الشَّرِّ وَدَاعِيَةَ التَّعَدِّي وَلَا يُكَفِّرُ ذَلِكَ وَيَمْحُوهُ كَوْنُهُ مُجْتَنِبًا لِشُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا وَإِنِ اجْتَنَبَهُ بِقَصْدٍ مَعَ حُصُولِ دَاعِيَتِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُسَّاقِ يَضُرُّونَ بِبَعْضِ الْمَعَاصِي وَيَجْتَنِبُونَ غَيْرَهَا أَشَدَّ الِاجْتِنَابِ، فَهَلْ يَكُونُ لِهَذَا الِاجْتِنَابِ أَثَرٌ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِهَا مِمَّا ضَرِيَتْ بِهِ وَأَصَرَّتْ عَلَيْهِ؟ بَلْ وَلَا مِمَّا فَعَلَتْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمْ تُتْبِعْهُ بِالنَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَلَكِنْ قَدْ تُكَفِّرُ مِثْلُ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُصْلِحُ النَّفْسَ فِي مَجْمُوعِهَا، وَمَنْ فَهِمَ هَذَا لَا يَرَى إِشْكَالًا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَحَدِيثِ مُسْلِمٍ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مُكَفِّرَةٌ لِمَا بَيْنَهَا مَا اجْتُنِبَ الْكَبَائِرُ وَإِنْ تَخَبَّطَ فِيهِ الْكَثِيرُونَ.
لِكُلِّ مَرَضٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ دَوَاءٌ خَاصٌّ يُزِيلُهُ، وَلَا يُزِيلُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَأَمَّا تَقْوِيَةُ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالْغِذَاءِ الْمُوَافِقِ وَالرِّيَاضَةِ وَاسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ النَّقِيِّ، وَالْبُرُوزِ لِلشَّمْسِ فَإِنَّهُ يُسَاعِدُ عَلَى شِفَاءِ كُلِّ مَرَضٍ إِذَا لَمْ يَكْثُرِ التَّعَرُّضُ لِأَسْبَابِهِ، وَإِنَّ أَدْوَاءَ النَّفْسِ وَأَدْوِيَتَهَا تُشْبِهُ أَمْرَاضَ الْبَدَنِ وَأَدْوِيَتَهَا، وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي حَامِدٍ حَيْثُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُكَفِّرُ الْمَعَاصِيَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْثِلَتُهُ كُلُّهَا مُطَابِقَةً لِقَاعِدَتِهِ، وَحَيْثُ لَمْ يَنْسَ أَنَّ إِصْلَاحَ النَّفْسِ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ قَدْ يُذْهِبُ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ، لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَدَقَّ فَهْمَهُ لِحِكْمَةِ الْقُرْآنِ وَتَطْبِيقَهُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْغَزَالِيِّ مِنْ تَعَدُّدِ مَرَاكِزِ الْإِدْرَاكِ فِي الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ آلَةُ النَّفْسِ، وَكَوْنِ كُلِّ
نَوْعٍ مِنْهَا لَهُ مَرْكَزٌ خَاصٌّ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مُطَّرِدًا فِي أَنْوَاعِ الشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ، وَمَا تَكُونُ الْأَعْمَالُ مِنْ مَلَكَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُعْجَبُ بِمَا أُوتِيَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ قُوَّةِ الذِّهْنِ وَنُفُوذِ أَشِعَّةِ الْفَهْمِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عُنْصُرًا بَسِيطًا كَمَا تَقُولُ فَلَاسِفَةُ الْيُونَانَ بَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ بِالنُّبُوغِ فِي إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْحِسِّيَّةِ، كَمَا حَكَمَ لَهُ بِإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا فَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُ: مُدْخَلًا بِضَمِّ
لِكُلِّ مَرَضٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ دَوَاءٌ خَاصٌّ يُزِيلُهُ، وَلَا يُزِيلُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَأَمَّا تَقْوِيَةُ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالْغِذَاءِ الْمُوَافِقِ وَالرِّيَاضَةِ وَاسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ النَّقِيِّ، وَالْبُرُوزِ لِلشَّمْسِ فَإِنَّهُ يُسَاعِدُ عَلَى شِفَاءِ كُلِّ مَرَضٍ إِذَا لَمْ يَكْثُرِ التَّعَرُّضُ لِأَسْبَابِهِ، وَإِنَّ أَدْوَاءَ النَّفْسِ وَأَدْوِيَتَهَا تُشْبِهُ أَمْرَاضَ الْبَدَنِ وَأَدْوِيَتَهَا، وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي حَامِدٍ حَيْثُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُكَفِّرُ الْمَعَاصِيَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْثِلَتُهُ كُلُّهَا مُطَابِقَةً لِقَاعِدَتِهِ، وَحَيْثُ لَمْ يَنْسَ أَنَّ إِصْلَاحَ النَّفْسِ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ قَدْ يُذْهِبُ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ، لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَدَقَّ فَهْمَهُ لِحِكْمَةِ الْقُرْآنِ وَتَطْبِيقَهُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْغَزَالِيِّ مِنْ تَعَدُّدِ مَرَاكِزِ الْإِدْرَاكِ فِي الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ آلَةُ النَّفْسِ، وَكَوْنِ كُلِّ
نَوْعٍ مِنْهَا لَهُ مَرْكَزٌ خَاصٌّ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مُطَّرِدًا فِي أَنْوَاعِ الشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ، وَمَا تَكُونُ الْأَعْمَالُ مِنْ مَلَكَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُعْجَبُ بِمَا أُوتِيَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ قُوَّةِ الذِّهْنِ وَنُفُوذِ أَشِعَّةِ الْفَهْمِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عُنْصُرًا بَسِيطًا كَمَا تَقُولُ فَلَاسِفَةُ الْيُونَانَ بَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ بِالنُّبُوغِ فِي إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْحِسِّيَّةِ، كَمَا حَكَمَ لَهُ بِإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا فَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُ: مُدْخَلًا بِضَمِّ
46
الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الْإِدْخَالِ، أَيْ: وَنُدْخِلُكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الدُّخُولِ، أَيْ: نُدْخِلُكُمْ فَتَدْخُلُونَ مَكَانًا كَرِيمًا، وَوَصَفَ الْمَكَانَ بِالْكَرِيمِ ظَنَّ مَنْ لَا يَرْجِعُ فِي الْمَعَانِي إِلَى أُصُولِ اللُّغَةِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحُسْنِ تَجَوُّزًا وَلَكِنَّ الْعَرَبَ قَالَتْ: أَرْضٌ كَرِيمَةٌ وَأَرْضٌ مُكَرَّمَةٌ: أَيْ طَيِّبَةٌ جَيِّدَةُ النَّبَاتِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦: ٥٧، ٥٨)، وَقَدْ يَكُونُ الْمُدْخَلُ الْكَرِيمُ وَالْمَقَامُ الْكَرِيمُ هُوَ الْمَكَانَ الَّذِي يُكْرَمُ بِهِ مَنْ يَدْخُلُهُ وَيُقِيمُ فِيهِ.
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا: نَهَى أَوَّلًا عَنْ أَكْلِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ أَمْوَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ وَأَوْعَدَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَنَاهِي مَا يُغْفَرُ مِنْهَا وَمَا لَا يُغْفَرُ، ثُمَّ أَرْشَدَنَا بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى قَطْعِ عِرْقِ كُلِّ تَعَدٍّ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهُوَ التَّمَنِّي وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِ كُلٍّ لِمَوَاهِبِهِ فِي الْجِدِّ وَالْكَسْبِ وَكُلُّ مَا يَتَمَنَّاهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ.
وَقَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي ذَلِكَ: وَلَمَّا نَهَى عَنِ الْقَتْلِ، وَعَنِ الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ بِالْفِعْلِ، وَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لِيَصِيرَ الظَّاهِرُ طَاهِرًا عَنِ الْمَعَاصِي الْوَخِيمَةِ نَهَى عَنِ التَّمَنِّي، فَإِنَّ
التَّمَنِّيَ قَدْ يَكُونُ حَسَدًا وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُنَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ وَالرِّضَى بِالْحَرَامِ حَرَامٌ، وَالتَّمَنِّي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُرُّ إِلَى الْأَكْلِ، وَالْأَكْلُ يَقُودُ إِلَى الْقَتْلِ، فَإِنَّ مَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَإِذَا انْتَهَى عَنْ ذَلِكَ كَانَ بَاطِنُهُ طَاهِرًا عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ بِحَسَبِ الطَّرِيقَةِ، لِيَكُونَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ، وَيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَيَرْضَى بِمَا قُسِمَ لَهُ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَمَّا نَهَى اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الطَّمَعِ فِي أَمْوَالِهِمْ.
وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَتْ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللهِ، تَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَةَ، وَالثَّانِيَةُ: عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النِّسَاءَ سَأَلْنَ الْجِهَادَ، فَقُلْنَ: وَدِدْنَا أَنَّ اللهَ جَعَلَ لَنَا الْغَزْوَ فَنُصِيبَ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُصِيبُ الرِّجَالُ، فَنَزَلَتْ، وَالثَّالِثَةُ: عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ قَالَا: لَمَّا نَزَلَ
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا: نَهَى أَوَّلًا عَنْ أَكْلِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ أَمْوَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ وَأَوْعَدَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَنَاهِي مَا يُغْفَرُ مِنْهَا وَمَا لَا يُغْفَرُ، ثُمَّ أَرْشَدَنَا بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى قَطْعِ عِرْقِ كُلِّ تَعَدٍّ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهُوَ التَّمَنِّي وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِ كُلٍّ لِمَوَاهِبِهِ فِي الْجِدِّ وَالْكَسْبِ وَكُلُّ مَا يَتَمَنَّاهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ.
وَقَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي ذَلِكَ: وَلَمَّا نَهَى عَنِ الْقَتْلِ، وَعَنِ الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ بِالْفِعْلِ، وَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لِيَصِيرَ الظَّاهِرُ طَاهِرًا عَنِ الْمَعَاصِي الْوَخِيمَةِ نَهَى عَنِ التَّمَنِّي، فَإِنَّ
التَّمَنِّيَ قَدْ يَكُونُ حَسَدًا وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُنَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ وَالرِّضَى بِالْحَرَامِ حَرَامٌ، وَالتَّمَنِّي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُرُّ إِلَى الْأَكْلِ، وَالْأَكْلُ يَقُودُ إِلَى الْقَتْلِ، فَإِنَّ مَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَإِذَا انْتَهَى عَنْ ذَلِكَ كَانَ بَاطِنُهُ طَاهِرًا عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ بِحَسَبِ الطَّرِيقَةِ، لِيَكُونَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ، وَيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَيَرْضَى بِمَا قُسِمَ لَهُ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَمَّا نَهَى اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الطَّمَعِ فِي أَمْوَالِهِمْ.
وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَتْ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللهِ، تَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَةَ، وَالثَّانِيَةُ: عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النِّسَاءَ سَأَلْنَ الْجِهَادَ، فَقُلْنَ: وَدِدْنَا أَنَّ اللهَ جَعَلَ لَنَا الْغَزْوَ فَنُصِيبَ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُصِيبُ الرِّجَالُ، فَنَزَلَتْ، وَالثَّالِثَةُ: عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ قَالَا: لَمَّا نَزَلَ
47
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (٤: ١١)، قَالَ الرِّجَالُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ بِحَسَنَاتِنَا كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ فَيَكُونَ أَجْرُنَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْ أَجْرِ النِّسَاءِ، وَقَالَتِ النِّسَاءُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا لَنَا الْمِيرَاثُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ نَصِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ الْوَاحِدِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَهِيَ لَا تَتَّفِقُ اتِّفَاقًا بَيِّنًا مَعَ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي بِالْحَسَدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: لَيْتَ مَا أُعْطِيَ فُلَانٌ مِنَ الْمَالِ وَالنِّعْمَةِ وَالْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ كَانَ عِنْدِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حَسَدًا، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: اللهُمَّ أَعْطِنِي مِثْلَهُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سَبَبُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْحَيْرَةُ فِي فَهْمِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَلَّفَ كُلًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَعْمَالًا فَمَا كَانَ خاصًّا بِالرِّجَالِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ النِّسَاءُ، وَمَا كَانَ خَاصًّا بِالنِّسَاءِ لَهُنَّ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُنَّ
فِيهِ الرِّجَالُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْآخَرِ، وَجَعَلَ الْخِطَابَ عَامًّا لِلْفَرِيقَيْنِ مَعَ أَنَّ الرِّجَالَ لَمْ يَتَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا نِسَاءً وَلَا أَنْ يَعْمَلُوا عَمَلَ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّسَاءُ هُنَّ اللَّوَاتِي تَمَنَّيْنَ عَمَلَ الرِّجَالِ، وَأَيُّ عَمَلِ الرِّجَالِ تَمَنَّيْنَ؟ تَمَنَّيْنَ أَخَصَّ أَعْمَالِ الرُّجُولِيَّةِ وَهُوَ حِمَايَةُ الذِّمَارِ، وَالدِّفَاعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْقُوَّةِ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ عِنَايَةٌ بِالنِّسَاءِ، وَتَلَطُّفٌ بِهِنَّ وَهُوَ مَوْضِعٌ لِلرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ لِضَعْفِهِنَّ وَإِخْلَاصِهِنَّ فِيمَ تَمَنَّيْنَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَلَّا يَظْهَرَ ذَلِكَ التَّمَنِّي النَّاشِئُ عَنِ الْحَيَاةِ الْمِلِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، فَإِنَّ تَمَنِّيَ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ غَرِيبٌ مِنَ النِّسَاءِ جِدًّا ; وَسَبَبُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ فِي عُنْفُوَانِ حَيَاتِهَا يَكُونُ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ فِيهَا مُشْتَرِكِينَ مَعَ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفِي آثَارِهَا، وَإِنَّهَا لَتَسْرِي فِيهَا سَرَيَانًا عَجِيبًا وَمَنْ عَرَفَ تَارِيخَ الْإِسْلَامِ وَنَهْضَةَ الْعَرَبِ بِهِ وَسِيرَةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ فِي زَمَنِهِ يَرَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَسِرْنَ مَعَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ مَنْقَبَةٍ وَكُلِّ عَمَلٍ، فَقَدْ كُنَّ يَأْتِينَ وَيُبَايِعْنَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِلْكَ الْمُبَايَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي (سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ)، كَمَا كَانَ يُبَايِعُهُ الرِّجَالُ، وَكُنَّ يَنْفِرْنَ مَعَهُمْ إِذَا نَفَرُوا لِلْقِتَالِ، يَخْدُمْنَ الْجَرْحَى وَيَأْتِينَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْتَصَّ النِّسَاءُ بِأَعْمَالِ الْبُيُوتِ، وَالرِّجَالُ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي فِي خَارِجِهَا لِيُتْقِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَلَهُ، وَيَقُومَ بِهِ كَمَا يَجِبُ مَعَ الْإِخْلَاصِ لَهُ، وَتَنْكِيرُ لَفْظِ نَصِيبٌ، لِإِفَادَةِ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْأَجْرُ عَلَى مَا عُمِلَ بِالْإِخْلَاصِ، أَيْ: فَفِي الْكَلَامِ حَثٌّ ضِمْنِيٌّ عَلَيْهِ ـ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ: لِيَسْأَلْهُ كُلٌّ مِنْكُمُ الْإِعَانَةَ وَالْقُوَّةَ عَلَى مَا نِيطَ بِهِ؛ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنَّ يَتَمَنَّى مَا نِيطَ بِالْآخَرِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ تَمَنِّي كُلِّ مَا هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْخِلْقِيَّةِ كَالْجَمَالِ وَالْعَقْلِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّيهَا لِمَنْ لَمْ يُعْطَهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَقَعُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ إِذْ يُحْمَدُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَا نَالَ الْآخَرُ وَيَتَمَنَّى لِنَفَسِهِ مِثْلَهُ وَخَيْرًا مِنْهُ بِالسَّعْيِ وَالْجِدِّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَجِّهُوا
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سَبَبُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْحَيْرَةُ فِي فَهْمِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَلَّفَ كُلًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَعْمَالًا فَمَا كَانَ خاصًّا بِالرِّجَالِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ النِّسَاءُ، وَمَا كَانَ خَاصًّا بِالنِّسَاءِ لَهُنَّ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُنَّ
فِيهِ الرِّجَالُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْآخَرِ، وَجَعَلَ الْخِطَابَ عَامًّا لِلْفَرِيقَيْنِ مَعَ أَنَّ الرِّجَالَ لَمْ يَتَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا نِسَاءً وَلَا أَنْ يَعْمَلُوا عَمَلَ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّسَاءُ هُنَّ اللَّوَاتِي تَمَنَّيْنَ عَمَلَ الرِّجَالِ، وَأَيُّ عَمَلِ الرِّجَالِ تَمَنَّيْنَ؟ تَمَنَّيْنَ أَخَصَّ أَعْمَالِ الرُّجُولِيَّةِ وَهُوَ حِمَايَةُ الذِّمَارِ، وَالدِّفَاعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْقُوَّةِ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ عِنَايَةٌ بِالنِّسَاءِ، وَتَلَطُّفٌ بِهِنَّ وَهُوَ مَوْضِعٌ لِلرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ لِضَعْفِهِنَّ وَإِخْلَاصِهِنَّ فِيمَ تَمَنَّيْنَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَلَّا يَظْهَرَ ذَلِكَ التَّمَنِّي النَّاشِئُ عَنِ الْحَيَاةِ الْمِلِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، فَإِنَّ تَمَنِّيَ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ غَرِيبٌ مِنَ النِّسَاءِ جِدًّا ; وَسَبَبُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ فِي عُنْفُوَانِ حَيَاتِهَا يَكُونُ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ فِيهَا مُشْتَرِكِينَ مَعَ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفِي آثَارِهَا، وَإِنَّهَا لَتَسْرِي فِيهَا سَرَيَانًا عَجِيبًا وَمَنْ عَرَفَ تَارِيخَ الْإِسْلَامِ وَنَهْضَةَ الْعَرَبِ بِهِ وَسِيرَةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ فِي زَمَنِهِ يَرَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَسِرْنَ مَعَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ مَنْقَبَةٍ وَكُلِّ عَمَلٍ، فَقَدْ كُنَّ يَأْتِينَ وَيُبَايِعْنَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِلْكَ الْمُبَايَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي (سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ)، كَمَا كَانَ يُبَايِعُهُ الرِّجَالُ، وَكُنَّ يَنْفِرْنَ مَعَهُمْ إِذَا نَفَرُوا لِلْقِتَالِ، يَخْدُمْنَ الْجَرْحَى وَيَأْتِينَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْتَصَّ النِّسَاءُ بِأَعْمَالِ الْبُيُوتِ، وَالرِّجَالُ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي فِي خَارِجِهَا لِيُتْقِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَلَهُ، وَيَقُومَ بِهِ كَمَا يَجِبُ مَعَ الْإِخْلَاصِ لَهُ، وَتَنْكِيرُ لَفْظِ نَصِيبٌ، لِإِفَادَةِ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْأَجْرُ عَلَى مَا عُمِلَ بِالْإِخْلَاصِ، أَيْ: فَفِي الْكَلَامِ حَثٌّ ضِمْنِيٌّ عَلَيْهِ ـ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ: لِيَسْأَلْهُ كُلٌّ مِنْكُمُ الْإِعَانَةَ وَالْقُوَّةَ عَلَى مَا نِيطَ بِهِ؛ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنَّ يَتَمَنَّى مَا نِيطَ بِالْآخَرِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ تَمَنِّي كُلِّ مَا هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْخِلْقِيَّةِ كَالْجَمَالِ وَالْعَقْلِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّيهَا لِمَنْ لَمْ يُعْطَهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَقَعُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ إِذْ يُحْمَدُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَا نَالَ الْآخَرُ وَيَتَمَنَّى لِنَفَسِهِ مِثْلَهُ وَخَيْرًا مِنْهُ بِالسَّعْيِ وَالْجِدِّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَجِّهُوا
48
أَنْظَارَكُمْ إِلَى مَا يَقَعُ تَحْتَ كَسْبِكُمْ وَلَا تُوَجِّهُوهَا إِلَى مَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكُمْ؛ فَإِنَّمَا الْفَضْلُ بِالْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ فَلَا تَتَمَنَّوْا شَيْئًا بِغَيْرِ كَسْبِكُمْ وَعَمَلِكُمْ اهـ.
أَقُولُ: قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: التَّمَنِّي تَشَهِّي حُصُولِ الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ وَحَدِيثُ
النَّفْسِ بِمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَمَنَّيْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَصِيرَ إِلَيَّ اهـ.
وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ التَّمَنِّيَ لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّ الِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ مُشْكِلًا، وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا الظَّنَّ مَنْ يُتْبِعُ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَيُسْلِسُ لِخَوَاطِرِهَا الْعِنَانَ، بَلْ يُلْقِي مِنْ يَدِهِ الْعِنَانَ وَاللِّجَامَ، حَتَّى تَكُونَ الْأَمَانِيُّ مِنْهُ كَالْأَحْلَامِ مِنَ النَّائِمِ لَا يَمْلِكُ دَفْعَهَا إِذَا أَتَتْ، وَلَا رَدَّهَا إِذَا غَرَبَتْ، وَشَأْنُ قُوَى الْإِرَادَةِ غَيْرُ هَذَا، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ عَزَائِمَ قَوِيَّةٍ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ بِهَذَا النَّهْيِ إِلَى تَحْكِيمِ الْإِرَادَةِ فِي خَوَاطِرِهِمُ الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِهَا أَنْفُسُهُمْ، لِتَصْرِفَهَا عَنِ الْجَوَلَانِ فِيمَا هُوَ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا يَصْرِفُونَ أَجْسَامَهُمْ أَنَّ تَجُولَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَتَوَجُّهِهَا فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ وَأَشْرَفُ كَالتَّفَكُّرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْخَلْقِ، وَلَا سِيَّمَا سُنَنُهُ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَفِّفُ عَنِ النَّفْسِ مَا تَحْمِلُهُ مِنْ أَثْقَالِ الْحَيَاةِ وَتَكَالِيفِهَا.
الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي كُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ غَيْرَهُ عَلَيْهِ يَتَضَمَّنُ مِنَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِانْتِهَاءُ وَهُوَ أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) الْعَمَلُ النَّافِعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ الْفَائِدَةُ تَامَّةً مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْإِتْقَانِ، وَلَا يَشْغَلُ النَّفْسَ بِالْأَمَانِي وَالتَّشَهِّي كَالْبِطَالَةِ وَالْكَسْرِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْكَسْبَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي (ثَانِيهِمَا) : تَوْجِيهُ الْفِكْرِ فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْعَمَلِ إِلَى مَا يُغَذِّي الْعَقْلَ وَيُزَكِّي النَّفْسَ، وَيَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَّرْنَاكَ بِهِ آنِفًا وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قُوَّةِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا تَقْوَى الْإِرَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ إِيجَازٌ بَدِيعٌ وَهُوَ يَشْمَلُ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضٍ ; وَمَا فَضَّلَ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضٍ وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخُصُوصِيَّةَ فَضْلٌ، أَيْ: زِيَادَةٌ فِي صَاحِبِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضِ النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ، وَهَذَا الْفَضْلُ أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) : مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَسْبُ وَلَا يُنَالُ بِالْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، وَلَا يُعَابُ الْمَفْضُولُ فِيهِ بِالتَّقْصِيرِ
وَلَا يُمْدَحُ الْفَاضِلُ فِيهِ بِالْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، كَاسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ وَقُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَشَرَفِ النَّسَبِ، فَتَمَنِّي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَزَايَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ سَخَافَةٍ فِي الْعَقْلِ، وَمَهَانَةٍ فِي النَّفْسِ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى مُعَالَجَتِهِ بِالْفَضْلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّفَاضُلُ الْحَقِيقِيُّ بَيْنَ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَحْوِذَ عَلَيْهِ الْأَمَانِيُّ فَتُنْسِيَهُ رَبَّهُ وَمَا أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ مِنْ طُرُقِ الْفَضْلِ، وَتُنْسِيَهُ نَفْسَهُ وَمَا أَوْدَعَتْهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالْقُدْرَةِ
أَقُولُ: قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: التَّمَنِّي تَشَهِّي حُصُولِ الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ وَحَدِيثُ
النَّفْسِ بِمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَمَنَّيْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَصِيرَ إِلَيَّ اهـ.
وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ التَّمَنِّيَ لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّ الِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ مُشْكِلًا، وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا الظَّنَّ مَنْ يُتْبِعُ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَيُسْلِسُ لِخَوَاطِرِهَا الْعِنَانَ، بَلْ يُلْقِي مِنْ يَدِهِ الْعِنَانَ وَاللِّجَامَ، حَتَّى تَكُونَ الْأَمَانِيُّ مِنْهُ كَالْأَحْلَامِ مِنَ النَّائِمِ لَا يَمْلِكُ دَفْعَهَا إِذَا أَتَتْ، وَلَا رَدَّهَا إِذَا غَرَبَتْ، وَشَأْنُ قُوَى الْإِرَادَةِ غَيْرُ هَذَا، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ عَزَائِمَ قَوِيَّةٍ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ بِهَذَا النَّهْيِ إِلَى تَحْكِيمِ الْإِرَادَةِ فِي خَوَاطِرِهِمُ الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِهَا أَنْفُسُهُمْ، لِتَصْرِفَهَا عَنِ الْجَوَلَانِ فِيمَا هُوَ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا يَصْرِفُونَ أَجْسَامَهُمْ أَنَّ تَجُولَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَتَوَجُّهِهَا فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ وَأَشْرَفُ كَالتَّفَكُّرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْخَلْقِ، وَلَا سِيَّمَا سُنَنُهُ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَفِّفُ عَنِ النَّفْسِ مَا تَحْمِلُهُ مِنْ أَثْقَالِ الْحَيَاةِ وَتَكَالِيفِهَا.
الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي كُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ غَيْرَهُ عَلَيْهِ يَتَضَمَّنُ مِنَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِانْتِهَاءُ وَهُوَ أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) الْعَمَلُ النَّافِعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ الْفَائِدَةُ تَامَّةً مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْإِتْقَانِ، وَلَا يَشْغَلُ النَّفْسَ بِالْأَمَانِي وَالتَّشَهِّي كَالْبِطَالَةِ وَالْكَسْرِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْكَسْبَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي (ثَانِيهِمَا) : تَوْجِيهُ الْفِكْرِ فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْعَمَلِ إِلَى مَا يُغَذِّي الْعَقْلَ وَيُزَكِّي النَّفْسَ، وَيَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَّرْنَاكَ بِهِ آنِفًا وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قُوَّةِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا تَقْوَى الْإِرَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ إِيجَازٌ بَدِيعٌ وَهُوَ يَشْمَلُ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضٍ ; وَمَا فَضَّلَ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضٍ وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخُصُوصِيَّةَ فَضْلٌ، أَيْ: زِيَادَةٌ فِي صَاحِبِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضِ النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ، وَهَذَا الْفَضْلُ أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) : مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَسْبُ وَلَا يُنَالُ بِالْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، وَلَا يُعَابُ الْمَفْضُولُ فِيهِ بِالتَّقْصِيرِ
وَلَا يُمْدَحُ الْفَاضِلُ فِيهِ بِالْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، كَاسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ وَقُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَشَرَفِ النَّسَبِ، فَتَمَنِّي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَزَايَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ سَخَافَةٍ فِي الْعَقْلِ، وَمَهَانَةٍ فِي النَّفْسِ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى مُعَالَجَتِهِ بِالْفَضْلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّفَاضُلُ الْحَقِيقِيُّ بَيْنَ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَحْوِذَ عَلَيْهِ الْأَمَانِيُّ فَتُنْسِيَهُ رَبَّهُ وَمَا أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ مِنْ طُرُقِ الْفَضْلِ، وَتُنْسِيَهُ نَفْسَهُ وَمَا أَوْدَعَتْهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالْقُدْرَةِ
49
عَلَى الْكَسْبِ، ثُمَّ تَحْمِلُهُ آلَامُ تِلْكَ الْأَمَانِيِّ عَلَى الْمَرْكَبِ الصَّعْبِ، وَهُوَ طَاعَةُ الْحَسَدِ بِالْإِيذَاءِ وَالْبَغْيِ، فَيَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ.
(وَمِنْهَا) مَا يُنَالُ بِالْجِدِّ وَالسَّعْيِ كَالْمَالِ وَالْجَاهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ أَوَّلًا بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِبُعْدِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ، كَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِتَمَنِّي هَذَا إِلَّا ضَعِيفُ الْهِمَّةِ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ، جَاهِلٌ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ وَآيَاتِ الْجِدِّ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا فَهُوَ يُرْشِدُهُ إِلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَهُوَ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَيَهْدِيهِ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا أُوتِيهِ مِنَ الْقُوَى فِي تَحْصِيلِ كُلِّ مَا يَرْغَبُ فِيهِ، فَالْجَاهُ الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا يُنَالُ بِالْجِدِّ وَالْكَسْبِ كَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْمَنَاصِبِ وَعَمَلِ الْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ الثَّرْوَةُ الْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تُنَالَ بِالْكَسْبِ وَالسَّعْيِ، وَالْمَوْرُوثُ مِنْهَا قَلَّمَا يَثْبُتُ وَيَنْمُو إِلَّا عِنْدَ الْعَامِلِينَ، وَالَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ كَأَهْلِ أَمْرِيكَا وَإِنْكِلْتِرَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الطَّرِيفِ دُونَ التَّلِيدِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْوَارِثِينَ مِنْهُمْ رَاهَنَ عَلَى كَسْبِ مِقْدَارٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ يُضَاهِي ثَرْوَتَهُ الْمَوْرُوثَةَ بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ، وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا غَيْرَ بَعِيدٍ فَمَا حَلَّ الْأَجَلُ إِلَّا وَذَلِكَ الْمِقْدَارُ الْعَظِيمُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ خَرَجَ مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ حَتَّى ثِيَابِهِ وَابْتَدَأَ عَمَلَهُ الِاسْتِقْلَالِيَّ بِالْخِدْمَةِ فِي الْحَمَّامِ، وَهِمَمُ الرِّجَالِ لَا يَقِفُ أَمَامَهَا شَيْءٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ غَافِلُونَ عَنِ اسْتِعْدَادِهِمْ، يَتَّكِلُونَ عَلَى اجْتِنَاءِ ثَمَرَةِ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ نَبَّهَنَا الْفَاطِرُ جَلَّ صُنْعُهُ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي وَالتَّلَهِّي بِالْبَاطِلِ إِلَى الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ، الَّذِي يُنَالُ بِهِ كُلُّ أَمَلٍ، فَقَالَ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، فَشَرَعَ الْكَسْبَ لِلنِّسَاءِ كَالرِّجَالِ فَأَرْشَدَ كُلًّا مِنْهُمَا إِلَى تَحَرِّي الْفَصْلِ بِالْعَمَلِ دُونَ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، وَحِكْمَةُ اخْتِيَارِ صِيغَةِ الِاكْتِسَابِ عَلَى صِيغَةِ الْكَسْبِ أَنَّ صِيغَةَ الِاكْتِسَابِ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكَلُّفِ، وَهُوَ اللَّائِقُ فِي مَقَامِ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَا تَطْلُبُونَ
مِنَ الْفَضْلِ إِنَّمَا يُنَالُ بِفَضْلِ الْعِنَايَةِ وَالْكُلْفَةِ فِي الْكَسْبِ، لَا بِمَا تُثِيرُهُ الْبِطَالَةُ مِنْ أَمَانِيِّ النَّفْسِ، وَمَا قِيلَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْكَسْبِ فِي الْخَيْرِ وَالِاكْتِسَابِ فِي الشَّرِّ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (٢: ٢٨٦)، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الصِّيغَةِ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا اخْتِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ [رَاجِعْ ١١٨ ج ٢ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَفِي التَّعْبِيرِ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا إِرْشَادٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكَلُّفِ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَكُلِّ مَا يَتَفَاضَلُ فِيهِ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ بِشَرْطِ الْتِزَامِ الْحَقِّ، وَإِرْشَادٌ إِلَى اعْتِمَادِ النَّاسِ فِي مَطَالِبِهِمْ وَرَغَائِبِهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ دُونَ الْكَسَلِ وَالتَّوَاكُلِ، وَاعْتِمَادِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُؤَيِّدَانِ لِذَلِكَ، فَمَا أَجْدَرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً مَثَلًا لِلْمُسْتَقِلِّينَ، فَالْمُسْلِمُ بِمُقْتَضَى إِسْلَامِهِ يَعْتَمِدُ عَلَى مَوَاهِبِهِ، وَقُوَاهُ فِي كُلِّ مَطَالِبِهِ مَعَ الرَّجَاءِ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْإِرْشَادِ إِلَى الِاكْتِسَابِ: وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ: وَمَهْمَا أَصَبْتُمْ بِالْجِدِّ وَالِاكْتِسَابِ فَلَا يُنْسِيَنَّكُمْ ذَلِكَ حَاجَتَكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ
(وَمِنْهَا) مَا يُنَالُ بِالْجِدِّ وَالسَّعْيِ كَالْمَالِ وَالْجَاهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ أَوَّلًا بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِبُعْدِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ، كَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِتَمَنِّي هَذَا إِلَّا ضَعِيفُ الْهِمَّةِ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ، جَاهِلٌ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ وَآيَاتِ الْجِدِّ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا فَهُوَ يُرْشِدُهُ إِلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَهُوَ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَيَهْدِيهِ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا أُوتِيهِ مِنَ الْقُوَى فِي تَحْصِيلِ كُلِّ مَا يَرْغَبُ فِيهِ، فَالْجَاهُ الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا يُنَالُ بِالْجِدِّ وَالْكَسْبِ كَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْمَنَاصِبِ وَعَمَلِ الْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ الثَّرْوَةُ الْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تُنَالَ بِالْكَسْبِ وَالسَّعْيِ، وَالْمَوْرُوثُ مِنْهَا قَلَّمَا يَثْبُتُ وَيَنْمُو إِلَّا عِنْدَ الْعَامِلِينَ، وَالَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ كَأَهْلِ أَمْرِيكَا وَإِنْكِلْتِرَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الطَّرِيفِ دُونَ التَّلِيدِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْوَارِثِينَ مِنْهُمْ رَاهَنَ عَلَى كَسْبِ مِقْدَارٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ يُضَاهِي ثَرْوَتَهُ الْمَوْرُوثَةَ بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ، وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا غَيْرَ بَعِيدٍ فَمَا حَلَّ الْأَجَلُ إِلَّا وَذَلِكَ الْمِقْدَارُ الْعَظِيمُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ خَرَجَ مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ حَتَّى ثِيَابِهِ وَابْتَدَأَ عَمَلَهُ الِاسْتِقْلَالِيَّ بِالْخِدْمَةِ فِي الْحَمَّامِ، وَهِمَمُ الرِّجَالِ لَا يَقِفُ أَمَامَهَا شَيْءٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ غَافِلُونَ عَنِ اسْتِعْدَادِهِمْ، يَتَّكِلُونَ عَلَى اجْتِنَاءِ ثَمَرَةِ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ نَبَّهَنَا الْفَاطِرُ جَلَّ صُنْعُهُ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي وَالتَّلَهِّي بِالْبَاطِلِ إِلَى الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ، الَّذِي يُنَالُ بِهِ كُلُّ أَمَلٍ، فَقَالَ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، فَشَرَعَ الْكَسْبَ لِلنِّسَاءِ كَالرِّجَالِ فَأَرْشَدَ كُلًّا مِنْهُمَا إِلَى تَحَرِّي الْفَصْلِ بِالْعَمَلِ دُونَ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، وَحِكْمَةُ اخْتِيَارِ صِيغَةِ الِاكْتِسَابِ عَلَى صِيغَةِ الْكَسْبِ أَنَّ صِيغَةَ الِاكْتِسَابِ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكَلُّفِ، وَهُوَ اللَّائِقُ فِي مَقَامِ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَا تَطْلُبُونَ
مِنَ الْفَضْلِ إِنَّمَا يُنَالُ بِفَضْلِ الْعِنَايَةِ وَالْكُلْفَةِ فِي الْكَسْبِ، لَا بِمَا تُثِيرُهُ الْبِطَالَةُ مِنْ أَمَانِيِّ النَّفْسِ، وَمَا قِيلَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْكَسْبِ فِي الْخَيْرِ وَالِاكْتِسَابِ فِي الشَّرِّ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (٢: ٢٨٦)، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الصِّيغَةِ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا اخْتِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ [رَاجِعْ ١١٨ ج ٢ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَفِي التَّعْبِيرِ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا إِرْشَادٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكَلُّفِ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَكُلِّ مَا يَتَفَاضَلُ فِيهِ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ بِشَرْطِ الْتِزَامِ الْحَقِّ، وَإِرْشَادٌ إِلَى اعْتِمَادِ النَّاسِ فِي مَطَالِبِهِمْ وَرَغَائِبِهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ دُونَ الْكَسَلِ وَالتَّوَاكُلِ، وَاعْتِمَادِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُؤَيِّدَانِ لِذَلِكَ، فَمَا أَجْدَرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً مَثَلًا لِلْمُسْتَقِلِّينَ، فَالْمُسْلِمُ بِمُقْتَضَى إِسْلَامِهِ يَعْتَمِدُ عَلَى مَوَاهِبِهِ، وَقُوَاهُ فِي كُلِّ مَطَالِبِهِ مَعَ الرَّجَاءِ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْإِرْشَادِ إِلَى الِاكْتِسَابِ: وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ: وَمَهْمَا أَصَبْتُمْ بِالْجِدِّ وَالِاكْتِسَابِ فَلَا يُنْسِيَنَّكُمْ ذَلِكَ حَاجَتَكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ
50
الْخَاصِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكُمْ، إِمَّا لِجَهْلِكُمْ بِهِ أَوْ بِطَرْقِهِ وَأَسْبَابِهِ، وَإِمَّا لِعَجْزِكُمْ عَنْهُ، كَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي الزِّرَاعَةِ أَوِ التِّجَارَةِ فَيُدْلِي إِلَيْهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي يَنَالُهَا كَسْبُهُ، وَيَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُتِمَّ فَضْلَهُ بِالْمَطَرِ الَّذِي يَنْمُو بِهِ الزَّرْعُ، وَاعْتِدَالِ الرِّيحِ لِيَسْلَمَ الْفُلْكُ، وَهَذَا مِمَّا يَجْهَلُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْجِزُ عَنْهُ.
وَمِنْ هُنَا تَفْهَمُ حِكْمَةَ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، فَهُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْإِلْهَامِ وَبِآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ كَيْفَ يَطْلُبُ الْمَنَافِعَ وَالْفَضْلَ، وَكُلَّمَا سَأَلَهُ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَالْعَمَلِ زَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَخَزَائِنُ جُودِهِ لَا تَنْفَدُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (١٥: ٢١)، وَلَا يَزَالُ الْعَامِلُونَ يَسْتَزِيدُونَهُ وَلَا يَزَالُ يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَفْضُلُونَ بِهِ الْقَاعِدِينَ الْبَطَّالِينَ، وَقَدْ بَلَغَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفَضْلِ حَدًّا بَعِيدًا جِدًّا ; حَتَّى كَادَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ بَعْضِ الشُّعُوبِ وَبَعْضِهِمُ الْآخَرِ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَبَعْضِ الْإِنْسَانِ.
أَلَا أُذُنٌ تَسْمَعُ وَعَيْنٌ تُبْصِرُ! ! كَيْفَ يَسْتَوْلِي الْعَدَدُ الْقَلِيلُ مِنْ أَهْلِ الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ
عَلَى أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِخِدْمَتِهِمْ كَمَا يُسَخِّرُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ؟ ! أَيُنْكِرُ أَصْحَابُ النُّفُوذِ الصُّورِيِّ وَالنُّفُوذِ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ طَلَبِ فَضْلِ اللهِ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالثَّرْوَةِ وَالسِّيَاسَةِ تَارَةً بِاسْمِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، وَأُخْرَى بِاسْمِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، قَدْ خَرَجَتِ السُّلْطَةُ عَلَيْهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَا هَذَا الْقَلِيلُ بِالَّذِي يَبْقَى لَهُمْ، أَيُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ وَالْعِلْمِ مِثْلُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَوَعَيْنُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَيَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ كَانُوا فَوْقَهُمْ أَيَّامَ كَانُوا هُمْ أَصْحَابَ أَهْلِ الْيَمِينِ، أَيُجِيزُ لَهُمُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا الْفَضْلَ الَّذِي أَصَابُوهُ بِكَسْبِهِمْ أَنْ يُضَيِّعُوهُ، ثُمَّ يُقْنِعُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي؟ ! فَإِلَى مَتَى هَذَا الْجَهْلُ وَهَذَا الْغُرُورُ؟ !
إِنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ فَضْلِ اللهِ فِي الدِّينِ كَمَا حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنَعُوا الِاسْتِقْلَالَ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَأَنْ تَطْلُبَهُ بِلِسَانِ حَالِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا وَلَوْ سَأَلَتْهُ لَأَعْطَاهَا اللهُ إِيَّاهُ، فَنَسْأَلُهُ أَنْ يَنْصُرَهَا عَلَيْهِمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ.
قَدْ قَتَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْحَسَدُ وَالتَّمَنِّي، كُلَّمَا ظَهَرَتْ آيَاتُ النُّبُوغِ فِي الْعِلْمِ، أَوِ الْعَمَلِ فِي رَجُلٍ مِنْهَا قَامَ الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ مَوَاهِبِهِ وَكَسْبِهِ، يُبَدِّلُونَ حَسَنَاتِهِ سَيِّئَاتٍ، وَيَبْغُونَهُ الْفِتَنَ وَيَضَعُونَ لَهُ الْعَثَرَاتِ، يَسْتَكْبِرُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَقِرُونَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَرَوْنَهَا أَهْلًا لِأَنْ تُدْرِكَ مَا أَدْرَكَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُصَغِّرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا اسْتَكْبَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَدْمِغَتِهِمْ، وَيُعَظِّمُونَ بِأَقْوَالِهِمْ
وَمِنْ هُنَا تَفْهَمُ حِكْمَةَ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، فَهُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْإِلْهَامِ وَبِآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ كَيْفَ يَطْلُبُ الْمَنَافِعَ وَالْفَضْلَ، وَكُلَّمَا سَأَلَهُ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَالْعَمَلِ زَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَخَزَائِنُ جُودِهِ لَا تَنْفَدُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (١٥: ٢١)، وَلَا يَزَالُ الْعَامِلُونَ يَسْتَزِيدُونَهُ وَلَا يَزَالُ يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَفْضُلُونَ بِهِ الْقَاعِدِينَ الْبَطَّالِينَ، وَقَدْ بَلَغَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفَضْلِ حَدًّا بَعِيدًا جِدًّا ; حَتَّى كَادَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ بَعْضِ الشُّعُوبِ وَبَعْضِهِمُ الْآخَرِ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَبَعْضِ الْإِنْسَانِ.
أَلَا أُذُنٌ تَسْمَعُ وَعَيْنٌ تُبْصِرُ! ! كَيْفَ يَسْتَوْلِي الْعَدَدُ الْقَلِيلُ مِنْ أَهْلِ الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ
عَلَى أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِخِدْمَتِهِمْ كَمَا يُسَخِّرُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ؟ ! أَيُنْكِرُ أَصْحَابُ النُّفُوذِ الصُّورِيِّ وَالنُّفُوذِ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ طَلَبِ فَضْلِ اللهِ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالثَّرْوَةِ وَالسِّيَاسَةِ تَارَةً بِاسْمِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، وَأُخْرَى بِاسْمِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، قَدْ خَرَجَتِ السُّلْطَةُ عَلَيْهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَا هَذَا الْقَلِيلُ بِالَّذِي يَبْقَى لَهُمْ، أَيُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ وَالْعِلْمِ مِثْلُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَوَعَيْنُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَيَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ كَانُوا فَوْقَهُمْ أَيَّامَ كَانُوا هُمْ أَصْحَابَ أَهْلِ الْيَمِينِ، أَيُجِيزُ لَهُمُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا الْفَضْلَ الَّذِي أَصَابُوهُ بِكَسْبِهِمْ أَنْ يُضَيِّعُوهُ، ثُمَّ يُقْنِعُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي؟ ! فَإِلَى مَتَى هَذَا الْجَهْلُ وَهَذَا الْغُرُورُ؟ !
إِنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ فَضْلِ اللهِ فِي الدِّينِ كَمَا حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنَعُوا الِاسْتِقْلَالَ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَأَنْ تَطْلُبَهُ بِلِسَانِ حَالِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا وَلَوْ سَأَلَتْهُ لَأَعْطَاهَا اللهُ إِيَّاهُ، فَنَسْأَلُهُ أَنْ يَنْصُرَهَا عَلَيْهِمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ.
قَدْ قَتَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْحَسَدُ وَالتَّمَنِّي، كُلَّمَا ظَهَرَتْ آيَاتُ النُّبُوغِ فِي الْعِلْمِ، أَوِ الْعَمَلِ فِي رَجُلٍ مِنْهَا قَامَ الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ مَوَاهِبِهِ وَكَسْبِهِ، يُبَدِّلُونَ حَسَنَاتِهِ سَيِّئَاتٍ، وَيَبْغُونَهُ الْفِتَنَ وَيَضَعُونَ لَهُ الْعَثَرَاتِ، يَسْتَكْبِرُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَقِرُونَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَرَوْنَهَا أَهْلًا لِأَنْ تُدْرِكَ مَا أَدْرَكَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُصَغِّرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا اسْتَكْبَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَدْمِغَتِهِمْ، وَيُعَظِّمُونَ بِأَقْوَالِهِمْ
51
مَا يُحَقِّرُونَهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ، يَقُولُونَ: مَا هُوَ فُلَانٌ؟ لَا يَعْلَمُ إِلَّا كَذَا وَكَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الصِّبْيَانُ، وَمَا هِيَ أَعْمَالُهُ الَّتِي تُذْكَرُ لَهُ؟ إِنَّهُ لَيَقْدِرُ عَلَيْهَا كُلُّ النَّاسِ، أَوْ إِنَّهُ يَقْصِدُ بِهَا السُّمْعَةَ وَالرِّيَاءَ، أَوْ ظَاهِرُهَا نَفْعٌ وَبَاطِنُهَا إِيذَاءٌ، وَلَكِنْ مَا بَالُهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا مِنْهُ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ؟، وَلِمَاذَا حَمَّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَنَاءَ الْكَيْدِ لَهُ وَالْمَكْرِ بِهِ؟ أَلَمْ يَرَوْا شَرًّا فِي الْأَرْضِ يَسْعَوْنَ فِي إِزَالَتِهِ إِلَّا عِلْمَهُ النَّاقِصَ، وَعَمَلَهُ النَّافِعَ الَّذِي يَخْشَوْنَ احْتِمَالَ ضَرَرِهِ، أَلَا مُحَاسِبٌ الْحَاسِدُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُسِيئُونَ إِلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُسِيئُونَ إِلَى مَحْسُودِيهِمْ؟ أَلَا يَجِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَصْرِفًا عَنْ نَارِ الْحَسَدِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ، قَبْلَ أَنْ تَأْكُلَ بَقَايَا الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ
وَقَدَرِهِ، وَقِسْمَتِهِ الْفَضْلَ بَيْنَ خَلْقِهِ؟ أَلَا لِلَّهِ دَرُّ التِّهَامِيِّ، حَيْثُ يَقُولُ:
أَلَا وَإِنَّ دُخُولَ النَّارِ فِي الْإِنْسَانِ قَدْ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْ دُخُولِهِ فِي النَّارِ، أَوْ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُهُ عَلَى التَّهَوُّكِ وَالتَّهَافُتِ عَلَى النَّارِ، وَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْحِسْدَةِ الْأَشْرَارِ يَتَمَنَّوْنَ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَ قَوْمِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِثْلُهُ أَوْ مِثْلُ مَا أُوتِيَهُ الْأَقْوَامُ الْآخَرُونَ؟ إِنِّي لَا أَرَى عِلَاجًا لِلْحَاسِدِينَ الْبَاغِينَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا نَشْرَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ فِيهَا حَتَّى يُمَيِّزَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْمُصْلِحِينَ وَالْمُفْسِدِينَ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ لِيَعْلَمُونَ أَنَّ نَشْرَ الْعِلْمِ فِي الْأُمَّةِ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ جَهْلَهُمْ وَسُوءَ حَالِهِمْ، فَهُمْ لَا يَمْقُتُونَ أَحَدًا مَقْتَهُمْ لِمَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ، فَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَهِيَ سَبِيلُ اللهِ، وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا بِمَا يُلَقِّنُونَهُ الْعَامَّةَ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي تُخَدِّرُ أَعْصَابَهَا وَتُبْقِيهَا عَلَى حَالِهَا، وَلَا نَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ.
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا.
وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ جِدًّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْثُ تَفْضِيلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْإِرْثِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِعُمُومِ التَّمَنِّي فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التَّحَاسُدِ وَتَمَنِّي مَا عِنْدَ الْغَيْرِ يَكُونُ فِي الْمَالِ، وَقَلَّمَا يَتَمَنَّى النَّاسُ مَا فَضَلَهُمْ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْجَاهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ الْجَاهَ يَسْتَتْبِعُ الْمَالَ فِي الْغَالِبِ، فَالْعَالِمُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا الْمُعْرِضُ عَنْهَا لَا يَكَادُ يَحْسُدُهُ عَلَى عِلْمِهِ أَحَدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ غَيْرِ الْعِلْمِ كَأَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُظْهِرًا لِجَهْلِ الْأَدْعِيَاءِ وَيَنْقُصُ مِنْ رِزْقِهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ.
وَقَدَرِهِ، وَقِسْمَتِهِ الْفَضْلَ بَيْنَ خَلْقِهِ؟ أَلَا لِلَّهِ دَرُّ التِّهَامِيِّ، حَيْثُ يَقُولُ:
إِنِّي لِأَرْحَمُ حُسَّادِي لِفَرْطِ مَا | ضَمَّتْ صُدُورُهُمْ مِنَ الْأَوْغَارِ |
نَظَرُوا صَنِيعَ اللهِ بِي فَعُيُونُهُمْ | فِي جَنَّةٍ وَقُلُوبُهُمْ فِي النَّارِ |
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا.
وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ جِدًّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْثُ تَفْضِيلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْإِرْثِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِعُمُومِ التَّمَنِّي فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التَّحَاسُدِ وَتَمَنِّي مَا عِنْدَ الْغَيْرِ يَكُونُ فِي الْمَالِ، وَقَلَّمَا يَتَمَنَّى النَّاسُ مَا فَضَلَهُمْ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْجَاهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ الْجَاهَ يَسْتَتْبِعُ الْمَالَ فِي الْغَالِبِ، فَالْعَالِمُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا الْمُعْرِضُ عَنْهَا لَا يَكَادُ يَحْسُدُهُ عَلَى عِلْمِهِ أَحَدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ غَيْرِ الْعِلْمِ كَأَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُظْهِرًا لِجَهْلِ الْأَدْعِيَاءِ وَيَنْقُصُ مِنْ رِزْقِهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ.
52
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ،
ثُمَّ نَهَى عَنْ تَمَنِّي أَحَدِ مَا فَضَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَالِ ; لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَسُوقُ إِلَى التَّعَدِّي وَإِنَّمَا أَوْرَدَ النَّهْيَ عَامًّا لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، وَالسِّيَاقُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّمَنِّي يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ فِي الثَّرْوَةِ وَهِيَ الْكَسْبُ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ الْغَالِبِ هُوَ الْكَسْبُ إِلَى غَيْرِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَقَالَ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ، فَالْمَوَالِي مَنْ لَهُمُ الْوِلَايَةُ عَلَى التَّرِكَةِ، وَ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا تَرَكَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ تَتِمُّ بِقَوْلِهِ: تَرَكَ وَالْمَعْنَى: وَلِكُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَهُنَّ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، مَوَالِي لَهُمْ حَقُّ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا يَتْرُكُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمَوَالِي هُمُ: الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي، وَالْأَزْوَاجُ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّفْصِيلُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَالْمُرَادُ هُنَا بِالَّذِينِ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمُ: الْأَزْوَاجُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَصِيرُ زَوْجًا لَهُ حَقُّ الْإِرْثِ بِالْعَقْدِ، وَالْمُتَعَارَفُ عِنْدَ النَّاسِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْيَدَيْنِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ، أَيْ: فَأَعْطُوا هَؤُلَاءِ الْمَوَالِيَ نَصِيبَهُمُ الْمَفْرُوضَ لَهُمْ وَلَا تَنْقُصُوهُمْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَمَّا كَانَ الْمِيرَاثُ مَوْضِعًا لِطَمَعِ بَعْضِ الْوَارِثِينَ ـ أَيْ: وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمُ الْمَالُ لِإِقَامَةِ الْمُورِثِ مَعَهُمْ ـ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ حَاضِرٌ يَشْهَدُ تَصَرُّفَكُمْ فِي التَّرِكَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ الطَّمَعُ وَحَسَدُ بَعْضِكُمْ لِبَعْضِ الْوَارِثِينَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ نَصِيبِهِ شَيْئًا سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا.
أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الَّذِي لَا يَعْثُرُ فِيهِ الْفِكْرُ، وَلَا يَكْبُو فِي مَيْدَانِهِ جَوَادُ الذِّهْنِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي الْإِعْرَابِ، وَلَا إِلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، فَأَيْنَ مِنْهُ تِلْكَ الْأَقْوَالُ الْمُتَكَلَّفَةُ الَّتِي انْتَزَعَهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنْ تَنْوِينِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ فَهُوَ هَاهُنَا بَدَلٌ مِنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَالْمَأْخَذُ الْقَرِيبُ الْمُتَبَادَرُ لِهَذَا الْمُضَافِ إِلَيْهِ هُوَ الْآيَةُ السَّابِقَةُ الَّتِي عُطِفَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَلِكُلٍّ فَاخْتَارَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْحُكْمِ فِي امْتِثَالِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَاخْتَارَ
جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْبُعْدَ فِي التَّقْدِيرِ فَقَدَّرُوا الْمُضَافَ إِلَيْهِ لَفْظَ تَرِكَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَيِّتٍ أَوْ قَوْمٍ، قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: وَلِكُلِّ تَرِكَةٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا يَلُونَهَا وَيَحُوزُونَهَا، مِمَّا تَرَكَ بَيَانٌ لِكُلٍّ مَعَ الْفَصْلِ بِالْعَامِلِ، أَوْ لِكُلِّ مَيِّتٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا مِمَّا تَرَكَ عَلَى أَنَّ مِنْ صِلَةُ مَوَالِي ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَارِثِ وَفِي تَرَكَ ضَمِيرُ كُلٍّ وَالْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ اسْتِئْنَافٌ مُفَسِّرٌ لِلْمَوَالِي وَفِيهِ خُرُوجُ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ الْأَقْرَبُونَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ كَمَا لَا يَتَنَاوَلُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ لِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْنَاهُمْ مَوَالِيَ حَظٌّ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ عَلَى أَنَّ
ثُمَّ نَهَى عَنْ تَمَنِّي أَحَدِ مَا فَضَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَالِ ; لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَسُوقُ إِلَى التَّعَدِّي وَإِنَّمَا أَوْرَدَ النَّهْيَ عَامًّا لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، وَالسِّيَاقُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّمَنِّي يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ فِي الثَّرْوَةِ وَهِيَ الْكَسْبُ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ الْغَالِبِ هُوَ الْكَسْبُ إِلَى غَيْرِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَقَالَ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ، فَالْمَوَالِي مَنْ لَهُمُ الْوِلَايَةُ عَلَى التَّرِكَةِ، وَ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا تَرَكَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ تَتِمُّ بِقَوْلِهِ: تَرَكَ وَالْمَعْنَى: وَلِكُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَهُنَّ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، مَوَالِي لَهُمْ حَقُّ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا يَتْرُكُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمَوَالِي هُمُ: الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي، وَالْأَزْوَاجُ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّفْصِيلُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَالْمُرَادُ هُنَا بِالَّذِينِ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمُ: الْأَزْوَاجُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَصِيرُ زَوْجًا لَهُ حَقُّ الْإِرْثِ بِالْعَقْدِ، وَالْمُتَعَارَفُ عِنْدَ النَّاسِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْيَدَيْنِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ، أَيْ: فَأَعْطُوا هَؤُلَاءِ الْمَوَالِيَ نَصِيبَهُمُ الْمَفْرُوضَ لَهُمْ وَلَا تَنْقُصُوهُمْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَمَّا كَانَ الْمِيرَاثُ مَوْضِعًا لِطَمَعِ بَعْضِ الْوَارِثِينَ ـ أَيْ: وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمُ الْمَالُ لِإِقَامَةِ الْمُورِثِ مَعَهُمْ ـ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ حَاضِرٌ يَشْهَدُ تَصَرُّفَكُمْ فِي التَّرِكَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ الطَّمَعُ وَحَسَدُ بَعْضِكُمْ لِبَعْضِ الْوَارِثِينَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ نَصِيبِهِ شَيْئًا سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا.
أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الَّذِي لَا يَعْثُرُ فِيهِ الْفِكْرُ، وَلَا يَكْبُو فِي مَيْدَانِهِ جَوَادُ الذِّهْنِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي الْإِعْرَابِ، وَلَا إِلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، فَأَيْنَ مِنْهُ تِلْكَ الْأَقْوَالُ الْمُتَكَلَّفَةُ الَّتِي انْتَزَعَهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنْ تَنْوِينِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ فَهُوَ هَاهُنَا بَدَلٌ مِنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَالْمَأْخَذُ الْقَرِيبُ الْمُتَبَادَرُ لِهَذَا الْمُضَافِ إِلَيْهِ هُوَ الْآيَةُ السَّابِقَةُ الَّتِي عُطِفَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَلِكُلٍّ فَاخْتَارَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْحُكْمِ فِي امْتِثَالِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَاخْتَارَ
جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْبُعْدَ فِي التَّقْدِيرِ فَقَدَّرُوا الْمُضَافَ إِلَيْهِ لَفْظَ تَرِكَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَيِّتٍ أَوْ قَوْمٍ، قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: وَلِكُلِّ تَرِكَةٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا يَلُونَهَا وَيَحُوزُونَهَا، مِمَّا تَرَكَ بَيَانٌ لِكُلٍّ مَعَ الْفَصْلِ بِالْعَامِلِ، أَوْ لِكُلِّ مَيِّتٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا مِمَّا تَرَكَ عَلَى أَنَّ مِنْ صِلَةُ مَوَالِي ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَارِثِ وَفِي تَرَكَ ضَمِيرُ كُلٍّ وَالْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ اسْتِئْنَافٌ مُفَسِّرٌ لِلْمَوَالِي وَفِيهِ خُرُوجُ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ الْأَقْرَبُونَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ كَمَا لَا يَتَنَاوَلُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ لِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْنَاهُمْ مَوَالِيَ حَظٌّ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ عَلَى أَنَّ
53
جَعَلْنَا مَوَالِيَ صِفَةُ كُلٍّ، وَالرَّاجِعُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْجُمْلَةُ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ اهـ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْأَوْلَادَ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْأَقْرَبِينَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلِمَاذَا لَمْ يَقُلْ مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (٤: ٧)، إِلَخْ، بَلْ فَسَّرَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمُتَوَارِثِينَ بِالْقَرَابَةِ، وَذَكَرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا وَرَدَ فِي إِرْثِ الْبَنَاتِ وَالزَّوْجَةِ.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ بِمَوَالِي الْمُوَالَاةِ وَرَوَوْا أَنَّ الْحَلِيفَ كَانَ يَرِثُ السُّدُسَ مِنْ مَالِ حَلِيفِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ (٨: ٧٥)، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ، فَجُعِلَ لَهُ السُّدُسُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ ـ وَذَكَرَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا ـ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذَا بِالْآيَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ بَدْرٍ، وَالْمَوَارِيثُ شُرِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَا لِأَنَّهَا بَعْدَهَا فِي تَرْتِيبِ السُّورَةِ، بَلْ لِأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَبُنِيَتْ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الْوَارِثِينَ نَصِيبًا يَجِبُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيْهِ تَمَامًا، فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُقَرِّرَةً لِلْإِرْثِ بِالتَّحَالُفِ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْرَعْ لِلنَّاسِ الْإِرْثَ بِالتَّحَالُفِ، وَإِنَّمَا أَبْطَلَهُ وَنَسَخَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَتَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ صَحَّ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَلَهُ إِرْثُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ دِيَةُ الْقَتْلِ، وَالَّذِي صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا آخَى فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ أَخَاهُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ جُمْلَةَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ اسْتِئْنَافِيَّةً، وَالْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا، قَالَ: وَالْمَعْنَى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ قَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الَّذِي نَسَخَ هَذَا الْإِرْثَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا (٣٣: ٦)، وَهُوَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، أَمَّا الْمَوَالِي فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فَهُمُ الْوَارِثُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي (١٩: ٥).
هَذَا وَإِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ قَدْ سَبَقَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ عَقْدُ النِّكَاحِ فَهُوَ
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ بِمَوَالِي الْمُوَالَاةِ وَرَوَوْا أَنَّ الْحَلِيفَ كَانَ يَرِثُ السُّدُسَ مِنْ مَالِ حَلِيفِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ (٨: ٧٥)، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ، فَجُعِلَ لَهُ السُّدُسُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ ـ وَذَكَرَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا ـ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذَا بِالْآيَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ بَدْرٍ، وَالْمَوَارِيثُ شُرِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَا لِأَنَّهَا بَعْدَهَا فِي تَرْتِيبِ السُّورَةِ، بَلْ لِأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَبُنِيَتْ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الْوَارِثِينَ نَصِيبًا يَجِبُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيْهِ تَمَامًا، فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُقَرِّرَةً لِلْإِرْثِ بِالتَّحَالُفِ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْرَعْ لِلنَّاسِ الْإِرْثَ بِالتَّحَالُفِ، وَإِنَّمَا أَبْطَلَهُ وَنَسَخَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَتَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ صَحَّ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَلَهُ إِرْثُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ دِيَةُ الْقَتْلِ، وَالَّذِي صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا آخَى فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ أَخَاهُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ جُمْلَةَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ اسْتِئْنَافِيَّةً، وَالْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا، قَالَ: وَالْمَعْنَى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ قَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الَّذِي نَسَخَ هَذَا الْإِرْثَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا (٣٣: ٦)، وَهُوَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، أَمَّا الْمَوَالِي فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فَهُمُ الْوَارِثُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي (١٩: ٥).
هَذَا وَإِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ قَدْ سَبَقَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ عَقْدُ النِّكَاحِ فَهُوَ
54
مُخْتَارٌ لَهُ لَا مُبْتَكَرٌ، وَقَدْ ذُهِلَ مَنْ قَالَ مِنْ نَاقِلِيهِ: إِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مُسْتِدِلًّا بِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ إِضَافَتُهُ إِلَى الْيَمِينِ ; فَإِنَّهُ لَا يُلْتَزَمُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يُوَافِقُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ اسْتِعْمَالٍ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مَعْهُودًا فِي كَلَامِ النَّاسِ قَبْلَهُ لِاسْتِلْزَامِ ذَلِكَ نَفْيَ الِابْتِكَارِ، وَأَنَّ كُلَّ اسْتِعْمَالٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْبَدَاهَةِ، فَكَمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَبْكَارِ الْأَسَالِيبِ الْحِسَانِ، اللَّاتِي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، وَمَا مِنْ بَلِيغٍ إِلَّا وَلَهُ مُخْتَرَعَاتٌ فِي الْبَيَانِ، لَمْ يَسْلُكْ فِجَاجَهَا مِنْ قَبْلِهِ إِنْسَانٌ، وَلِمَاذَا يُسْتَبْعَدُ إِسْنَادُ عَقْدِ النِّكَاحِ إِلَى الْأَيْمَانِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ، كَالْحَلِفِ وَالْبَيْعِ، وَالْمَعْهُودُ فِي جَمِيعِهَا وَضْعُ الْيَمِينِ فِي الْيَمِينِ؟ وَقَدْ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: عَقَدَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ عَاقَدَتْ بِأَلِفِ الْمُفَاعَلَةِ، وَقُرِئَ فِي شَوَاذٍّ: عَقَّدَتْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ.
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا.
لَمَّا نَهَى اللهُ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِمَادِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ عَلَى كَسْبِهِمْ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُؤْتُوا الْوَارِثَ نَصِيبَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَيَانِ ذِكْرُ تَفْضِيلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجِهَادِ كَانَ لِسَائِلٍ هُنَا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَكَانَ جَوَابُ سُؤَالِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَيْ: إِنَّ مِنْ شَأْنِهِمُ الْمَعْرُوفِ الْمَعْهُودِ الْقِيَامَ عَلَى النِّسَاءِ بِالْحِمَايَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ دُونَهُنَّ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحِمَايَةَ لَهُنَّ، وَأَنْ يَكُونَ حَظُّهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ مِنْ حَظِّهِنَّ ; لِأَنَّ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِنَّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ،
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا.
لَمَّا نَهَى اللهُ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِمَادِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ عَلَى كَسْبِهِمْ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُؤْتُوا الْوَارِثَ نَصِيبَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَيَانِ ذِكْرُ تَفْضِيلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجِهَادِ كَانَ لِسَائِلٍ هُنَا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَكَانَ جَوَابُ سُؤَالِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَيْ: إِنَّ مِنْ شَأْنِهِمُ الْمَعْرُوفِ الْمَعْهُودِ الْقِيَامَ عَلَى النِّسَاءِ بِالْحِمَايَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ دُونَهُنَّ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحِمَايَةَ لَهُنَّ، وَأَنْ يَكُونَ حَظُّهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ مِنْ حَظِّهِنَّ ; لِأَنَّ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِنَّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ،
55
وَأَعْطَاهُمْ مَا لَمْ يُعْطِهِنَّ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، فَكَانَ التَّفَاوُتُ فِي التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ أَثَرَ التَّفَاوُتِ فِي الْفِطْرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَثَمَّ سَبَبٌ آخَرُ كَسْبِيٌّ يُدَعِّمُ السَّبَبَ الْفِطْرِيَّ، وَهُوَ مَا أَنْفَقَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ; فَإِنَّ الْمُهُورَ تَعْوِيضٌ لِلنِّسَاءِ وَمُكَافَأَةٌ عَلَى دُخُولِهِنَّ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ تَحْتَ رِيَاسَةِ الرِّجَالِ، فَالشَّرِيعَةُ كَرَّمَتِ الْمَرْأَةَ إِذْ فَرَضَتْ لَهَا مُكَافَأَةً عَنْ أَمْرٍ تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ، وَنِظَامُ الْمَعِيشَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا قَيِّمًا عَلَيْهَا، فَجَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَاضَعُ النَّاسُ عَلَيْهَا بِالْعُقُودِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، كَأَنَّ الْمَرْأَةَ تَنَازَلَتْ بِاخْتِيَارِهَا عَنِ الْمُسَاوَاةِ التَّامَّةِ، وَسَمَحَتْ بِأَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَرَضِيَتْ
بِعِوَضٍ مَالِيٍّ عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (٢: ٢٢٨)، فَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ ; لِذَلِكَ كَانَ مِنْ تَكْرِيمِ الْمَرْأَةِ إِعْطَاؤُهَا عِوَضًا وَمُكَافَأَةً فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَجَعَلَهَا بِذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ؛ لِتَكُونَ طَيِّبَةَ النَّفْسِ مُثْلَجَةَ الصَّدْرِ قَرِيرَةَ الْعَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْفِطْرَةَ لَا تُجْبِرُ الْمَرْأَةَ عَلَى قَبُولِ عَقْدٍ يَجْعَلُهَا مَرْءُوسَةً لِلرَّجُلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنَّا نَرَى النِّسَاءَ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ يُعْطِينَ الرِّجَالَ الْمُهُورَ لِيَكُنَّ تَحْتَ رِيَاسَتِهِمْ، فَهَلْ هَذَا إِلَّا بِدَافِعِ الْفِطْرَةِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ عِصْيَانَهُ إِلَّا بَعْضُ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ تَسْمِيَةِ الْمُهُورِ أُجُورًا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ نَحْوًا مِمَّا تَقَدَّمَ هُنَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ مَنْ عَرَفْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ إِنْفَاقَ الْأَمْوَالِ هُنَا شَامِلًا لِلْمَهْرِ، وَلِمَا يَجِبُ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ الزَّوَاجِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ هُنَا هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْمَرْءُوسُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُوسُ مَقْهُورًا مَسْلُوبَ الْإِرَادَةِ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إِلَّا مَا يُوَجِّهُهُ إِلَيْهِ رَئِيسُهُ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّخْصِ قَيِّمًا عَلَى آخَرَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِرْشَادِهِ وَالْمُرَاقَبَةِ عَلَيْهِ فِي تَنْفِيذِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَيْهِ أَيْ: مُلَاحَظَتُهُ فِي أَعْمَالِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَمِنْهَا حِفْظُ الْمَنْزِلِ وَعَدَمُ مُفَارَقَتِهِ وَلَوْ لِنَحْوِ زِيَارَةِ أُولِي الْقُرْبَى إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَأْذَنُ بِهَا الرَّجُلُ وَيَرْضَى، أَقُولُ: وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ النَّفَقَةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلرَّجُلِ، فَهُوَ يُقَدِّرُ لِلْمَرْأَةِ تَقْدِيرًا إِجْمَالِيًّا يَوْمًا يَوْمًا أَوْ شَهْرًا شَهْرًا أَوْ سَنَةً سَنَةً، وَهِيَ تُنَفِّذُ مَا يُقَدِّرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرَى أَنَّهُ يُرْضِيهِ وَيُنَاسِبُهُ حَالُهُ مِنَ السَّعَةِ وَالضِّيقِ.
قَالَ: وَالْمُرَادُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تَفْضِيلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَوْ قَالَ: " بِمَا فَضَّلَهُمْ عَلَيْهِنَّ "، أَوْ قَالَ: " بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَيْهِنَّ " لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَظْهَرَ فِيمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ هِيَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ (٤: ٣٢)، وَهِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مِنْ بَدَنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، فَالرَّجُلُ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ، وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَنِ، (أَقُولُ) : يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْغِيَ بِفَضْلِ قُوَّتِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَثْقِلَ فَضْلَهُ وَتَعُدَّهُ خَافِضًا لِقَدْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا عَارَ
بِعِوَضٍ مَالِيٍّ عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (٢: ٢٢٨)، فَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ ; لِذَلِكَ كَانَ مِنْ تَكْرِيمِ الْمَرْأَةِ إِعْطَاؤُهَا عِوَضًا وَمُكَافَأَةً فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَجَعَلَهَا بِذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ؛ لِتَكُونَ طَيِّبَةَ النَّفْسِ مُثْلَجَةَ الصَّدْرِ قَرِيرَةَ الْعَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْفِطْرَةَ لَا تُجْبِرُ الْمَرْأَةَ عَلَى قَبُولِ عَقْدٍ يَجْعَلُهَا مَرْءُوسَةً لِلرَّجُلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنَّا نَرَى النِّسَاءَ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ يُعْطِينَ الرِّجَالَ الْمُهُورَ لِيَكُنَّ تَحْتَ رِيَاسَتِهِمْ، فَهَلْ هَذَا إِلَّا بِدَافِعِ الْفِطْرَةِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ عِصْيَانَهُ إِلَّا بَعْضُ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ تَسْمِيَةِ الْمُهُورِ أُجُورًا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ نَحْوًا مِمَّا تَقَدَّمَ هُنَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ مَنْ عَرَفْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ إِنْفَاقَ الْأَمْوَالِ هُنَا شَامِلًا لِلْمَهْرِ، وَلِمَا يَجِبُ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ الزَّوَاجِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ هُنَا هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْمَرْءُوسُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُوسُ مَقْهُورًا مَسْلُوبَ الْإِرَادَةِ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إِلَّا مَا يُوَجِّهُهُ إِلَيْهِ رَئِيسُهُ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّخْصِ قَيِّمًا عَلَى آخَرَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِرْشَادِهِ وَالْمُرَاقَبَةِ عَلَيْهِ فِي تَنْفِيذِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَيْهِ أَيْ: مُلَاحَظَتُهُ فِي أَعْمَالِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَمِنْهَا حِفْظُ الْمَنْزِلِ وَعَدَمُ مُفَارَقَتِهِ وَلَوْ لِنَحْوِ زِيَارَةِ أُولِي الْقُرْبَى إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَأْذَنُ بِهَا الرَّجُلُ وَيَرْضَى، أَقُولُ: وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ النَّفَقَةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلرَّجُلِ، فَهُوَ يُقَدِّرُ لِلْمَرْأَةِ تَقْدِيرًا إِجْمَالِيًّا يَوْمًا يَوْمًا أَوْ شَهْرًا شَهْرًا أَوْ سَنَةً سَنَةً، وَهِيَ تُنَفِّذُ مَا يُقَدِّرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرَى أَنَّهُ يُرْضِيهِ وَيُنَاسِبُهُ حَالُهُ مِنَ السَّعَةِ وَالضِّيقِ.
قَالَ: وَالْمُرَادُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تَفْضِيلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَوْ قَالَ: " بِمَا فَضَّلَهُمْ عَلَيْهِنَّ "، أَوْ قَالَ: " بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَيْهِنَّ " لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَظْهَرَ فِيمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ هِيَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ (٤: ٣٢)، وَهِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مِنْ بَدَنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، فَالرَّجُلُ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ، وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَنِ، (أَقُولُ) : يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْغِيَ بِفَضْلِ قُوَّتِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَثْقِلَ فَضْلَهُ وَتَعُدَّهُ خَافِضًا لِقَدْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا عَارَ
56
عَلَى الشَّخْصِ أَنْ كَانَ رَأْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ يَدِهِ، وَقَلْبُهُ أَشْرَفَ مِنْ
مَعِدَتِهِ مَثَلًا ; فَإِنَّ تَفَضُّلَ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ عَلَى بَعْضٍ بِجَعْلِ بَعْضِهَا رَئِيسًا دُونَ بَعْضٍ ـ إِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ الْبَدَنِ كُلِّهِ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى عُضْوٍ مَا، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَتَثْبُتُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ، كَذَلِكَ مَضَتِ الْحِكْمَةُ فِي فَضْلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْقُوَّةِ، وَلِلْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْحِمَايَةِ، ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَيَسَّرُ لَهَا بِهِ الْقِيَامُ بِوَظِيفَتِهَا الْفِطْرِيَّةِ وَهِيَ الْحَمْلُ وَالْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَطْفَالِ وَهِيَ آمِنَةٌ فِي سِرْبِهَا، مَكْفِيَّةُ مَا يُهِمُّهَا مِنْ أَمْرِ رِزْقِهَا، وَفِي التَّعْبِيرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ لِلْجِنْسِ لَا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ، فَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ تَفْضُلُ زَوْجَهَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بَلْ فِي قُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَمْ يُنَبِّهِ الْأُسْتَاذُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى ظُهُورِهِ مِنَ الْعِبَارَةِ وَتَصْدِيقِ الْوَاقِعِ لَهُ وَإِنِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ ضَعْفَهُ، وَبِهَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَفَادَتْهُمَا الْعِبَارَةُ ظَهَرَ أَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِنَّ التَّعْبِيرَ يَشْمَلُ مَا يَفْضُلُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَمَا يَفْضُلُ بِهِ أَفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْرَادَ جِنْسِهِ وَأَفْرَادَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَلَا تَأْتِي تِلْكَ الصُّوَرُ كُلُّهَا هُنَا، وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْعِبَارَةُ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَاكَ غَيْرُهُ هُنَا، عَلَى أَنَّنَا أَشَرْنَا ثَمَّةَ إِلَى ضَعْفِ صُورَةِ فَضْلِ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ بِمَا هُوَ خَاصٌّ بِهِنَّ مِنَ الْحَمْلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالرِّجَالُ لَا يَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ، وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ.
قَالَ: وَمَا بِهِ الْفَضْلُ قِسْمَانِ: فِطْرِيٌّ وَكَسْبِيٌّ، فَالْفِطْرِيُّ: هُوَ أَنَّ مِزَاجَ الرَّجُلِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَجْمَلُ، وَإِنَّكُمْ لَتَجِدُونَ مِنَ الْغَرَابَةِ أَنْ أَقُولَ: إِنَّ الرَّجُلَ أَجْمَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا الْجَمَالُ تَابِعٌ لِتَمَامِ الْخِلْقَةِ وَكَمَالِهَا، وَمَا الْإِنْسَانُ فِي جِسْمِهِ الْحَيِّ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَنِظَامُ الْخِلْقَةِ فِيهَا وَاحِدٌ، وَإِنَّنَا نَرَى ذُكُورَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ أَكْمَلَ وَأَجْمَلَ مِنْ إِنَاثِهَا، كَمَا تَرَوْنَ فِي الدِّيكِ وَالدَّجَاجَةِ، وَالْكَبْشِ وَالنَّعْجَةِ، وَالْأَسَدِ وَاللَّبُؤَةِ، وَمِنْ كَمَالِ خِلْقَةِ الرِّجَالِ وَجَمَالِهَا شَعْرُ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبَيْنِ، وَلِذَلِكَ يُعَدُّ الْأَجْرَدُ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَجِدُ دَوَاءً يُنْبِتُ الشَّعْرَ وَإِنْ كَانَ مِمَّنِ اعْتَادُوا حَلْقَ اللِّحَى، وَيَتْبَعُ قُوَّةَ الْمِزَاجِ وَكَمَالَ الْخِلْقَةِ قُوَّةُ الْعَقْلِ، وَصِحَّةُ النَّظَرِ فِي مَبَادِئِ الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِ الْأَطِبَّاءِ: الْعَقْلُ السَّلِيمُ فِي الْجِسْمِ السَّلِيمِ.
وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الْكَمَالُ فِي الْأَعْمَالِ
الْكَسْبِيَّةِ، فَالرِّجَالُ أَقْدَرُ عَلَى الْكَسْبِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ ; أَيْ: فَلِأَجْلِ هَذَا كَانُوا هُمُ الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَنْ يَحْمُوهُنَّ وَيَقُومُوا بِأَمْرِ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ فِي مُجْتَمَعِ الْعَشِيرَةِ الَّتِي يَضُمُّهَا الْمَنْزِلُ ; إِذْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ مِنْ رَئِيسٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَوْحِيدِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، انْتَهَى بِزِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ.
أَقُولُ: وَيَتْبَعُ هَذِهِ الرِّيَاسَةَ جَعْلُ عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي أَيْدِي الرِّجَالِ هُمُ الَّذِينَ يُبْرِمُونَهَا بِرِضَا النِّسَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَحُلُّونَهَا بِالطَّلَاقِ، وَأَوَّلُ مَا يَذْكُرُهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْرُوفِينَ
مَعِدَتِهِ مَثَلًا ; فَإِنَّ تَفَضُّلَ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ عَلَى بَعْضٍ بِجَعْلِ بَعْضِهَا رَئِيسًا دُونَ بَعْضٍ ـ إِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ الْبَدَنِ كُلِّهِ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى عُضْوٍ مَا، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَتَثْبُتُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ، كَذَلِكَ مَضَتِ الْحِكْمَةُ فِي فَضْلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْقُوَّةِ، وَلِلْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْحِمَايَةِ، ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَيَسَّرُ لَهَا بِهِ الْقِيَامُ بِوَظِيفَتِهَا الْفِطْرِيَّةِ وَهِيَ الْحَمْلُ وَالْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَطْفَالِ وَهِيَ آمِنَةٌ فِي سِرْبِهَا، مَكْفِيَّةُ مَا يُهِمُّهَا مِنْ أَمْرِ رِزْقِهَا، وَفِي التَّعْبِيرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ لِلْجِنْسِ لَا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ، فَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ تَفْضُلُ زَوْجَهَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بَلْ فِي قُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَمْ يُنَبِّهِ الْأُسْتَاذُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى ظُهُورِهِ مِنَ الْعِبَارَةِ وَتَصْدِيقِ الْوَاقِعِ لَهُ وَإِنِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ ضَعْفَهُ، وَبِهَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَفَادَتْهُمَا الْعِبَارَةُ ظَهَرَ أَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِنَّ التَّعْبِيرَ يَشْمَلُ مَا يَفْضُلُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَمَا يَفْضُلُ بِهِ أَفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْرَادَ جِنْسِهِ وَأَفْرَادَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَلَا تَأْتِي تِلْكَ الصُّوَرُ كُلُّهَا هُنَا، وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْعِبَارَةُ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَاكَ غَيْرُهُ هُنَا، عَلَى أَنَّنَا أَشَرْنَا ثَمَّةَ إِلَى ضَعْفِ صُورَةِ فَضْلِ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ بِمَا هُوَ خَاصٌّ بِهِنَّ مِنَ الْحَمْلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالرِّجَالُ لَا يَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ، وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ.
قَالَ: وَمَا بِهِ الْفَضْلُ قِسْمَانِ: فِطْرِيٌّ وَكَسْبِيٌّ، فَالْفِطْرِيُّ: هُوَ أَنَّ مِزَاجَ الرَّجُلِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَجْمَلُ، وَإِنَّكُمْ لَتَجِدُونَ مِنَ الْغَرَابَةِ أَنْ أَقُولَ: إِنَّ الرَّجُلَ أَجْمَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا الْجَمَالُ تَابِعٌ لِتَمَامِ الْخِلْقَةِ وَكَمَالِهَا، وَمَا الْإِنْسَانُ فِي جِسْمِهِ الْحَيِّ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَنِظَامُ الْخِلْقَةِ فِيهَا وَاحِدٌ، وَإِنَّنَا نَرَى ذُكُورَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ أَكْمَلَ وَأَجْمَلَ مِنْ إِنَاثِهَا، كَمَا تَرَوْنَ فِي الدِّيكِ وَالدَّجَاجَةِ، وَالْكَبْشِ وَالنَّعْجَةِ، وَالْأَسَدِ وَاللَّبُؤَةِ، وَمِنْ كَمَالِ خِلْقَةِ الرِّجَالِ وَجَمَالِهَا شَعْرُ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبَيْنِ، وَلِذَلِكَ يُعَدُّ الْأَجْرَدُ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَجِدُ دَوَاءً يُنْبِتُ الشَّعْرَ وَإِنْ كَانَ مِمَّنِ اعْتَادُوا حَلْقَ اللِّحَى، وَيَتْبَعُ قُوَّةَ الْمِزَاجِ وَكَمَالَ الْخِلْقَةِ قُوَّةُ الْعَقْلِ، وَصِحَّةُ النَّظَرِ فِي مَبَادِئِ الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِ الْأَطِبَّاءِ: الْعَقْلُ السَّلِيمُ فِي الْجِسْمِ السَّلِيمِ.
وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الْكَمَالُ فِي الْأَعْمَالِ
الْكَسْبِيَّةِ، فَالرِّجَالُ أَقْدَرُ عَلَى الْكَسْبِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ ; أَيْ: فَلِأَجْلِ هَذَا كَانُوا هُمُ الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَنْ يَحْمُوهُنَّ وَيَقُومُوا بِأَمْرِ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ فِي مُجْتَمَعِ الْعَشِيرَةِ الَّتِي يَضُمُّهَا الْمَنْزِلُ ; إِذْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ مِنْ رَئِيسٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَوْحِيدِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، انْتَهَى بِزِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ.
أَقُولُ: وَيَتْبَعُ هَذِهِ الرِّيَاسَةَ جَعْلُ عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي أَيْدِي الرِّجَالِ هُمُ الَّذِينَ يُبْرِمُونَهَا بِرِضَا النِّسَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَحُلُّونَهَا بِالطَّلَاقِ، وَأَوَّلُ مَا يَذْكُرُهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْرُوفِينَ
57
فِي هَذَا التَّفْضِيلِ النُّبُوَّةُ وَالْإِمَامَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، وَإِقَامَةُ الشَّعَائِرِ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْخُطْبَةِ فِي الْجُمْعَةِ، وَغَيْرِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَزَايَا تَابِعَةٌ لِكَمَالِ اسْتِعْدَادِ الرِّجَالِ، وَعَدَمِ الشَّاغِلِ لَهُمَا عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، عَلَى مَا فِي النُّبُوَّةِ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ أَسْبَابَ قِيَامِ الرِّجَالِ عَلَى شُئُونِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ هُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ اخْتِصَاصٌ لَا يُبْنَى عَلَيْهَا مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُبْنَى عَلَيْهَا أَنَّ كَلَّ رَجُلٍ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا رِجَالًا، وَأَمَّا الْإِمَامَةُ وَالْخُطْبَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا ذَكَرُوهُ ; فَإِنَّمَا كَانَ لِلرِّجَالِ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُمَيِّزُوا بِكُلِّ حُكْمٍ، وَلَوْ جَعَلَ الشَّرْعُ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْطُبْنَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ، وَيُؤَذِّنَّ وَيُقِمْنَ الصَّلَاةَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ قَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ يَغْفُلُونَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي تَعْلِيلِ حِكْمَةِ أَحْكَامِ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَيَلْتَمِسُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَحْكَامٍ أُخْرَى.
قَالَ تَعَالَى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَنْزِلِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ الْمَرْأَةُ فِيهَا تَحْتَ رِيَاسَةِ الرَّجُلِ، ذُكِرَ أَنَّهُنَّ فِيهَا قِسْمَانِ: صَالِحَاتٌ وَغَيْرُ صَالِحَاتٍ، وَأَنَّ مِنْ صِفَةِ الصَّالِحَاتِ الْقُنُوتَ، وَهُوَ السُّكُونُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا لِأَزْوَاجِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَحِفْظِ الْغَيْبِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَتَادَةُ: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ يَحْفَظْنَ فِي غَيْبَةِ الْأَزْوَاجِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا
غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا وَقَرَأَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْآيَةَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَيْبُ هُنَا هُوَ مَا يُسْتَحْيَا مِنْ إِظْهَارِهِ، أَيْ: حَافِظَاتٌ لِكُلِّ مَا هُوَ خَاصٌّ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالزَّوْجَيْنِ، فَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْهُنَّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا هُوَ خَاصٌّ بِالزَّوْجِ.
أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ هَذَا وُجُوبُ كِتْمَانِ مَا يَكُونُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ فِي الْخَلْوَةِ، وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ الرَّفَثِ، فَمَا بَالُكَ بِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ أَبْلَغُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَقَائِقِ كِنَايَاتِ النَّزَاهَةِ، تَقْرَؤُهَا خَرَائِدُ الْعَذَارَى جَهْرًا، وَيَفْهَمْنَ مَا تُومِئُ إِلَيْهِ مِمَّا يَكُونُ سِرًّا، وَهُنَّ عَلَى بُعْدٍ مِنْ خَطَرَاتِ الْخَجَلِ أَنْ تَمَسَّ وِجْدَانَهُنَّ الرَّقِيقَ بِأَطْرَافِ أَنَامِلِهَا، فَلِقُلُوبِهِنَّ الْأَمَانُ مِنْ تِلْكَ الْخَلَجَاتِ الَّتِي تَدْفَعُ الدَّمَ إِلَى الْوَجَنَاتِ، نَاهِيكَ بِوَصْلِ حِفْظِ الْغَيْبِ.
بِمَا حَفِظَ اللهُ فَالِانْتِقَالُ السَّرِيعُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْغَيْبِ الْخَفِيِّ إِلَى ذِكْرِ اللهِ الْجَلِيِّ، يَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ التَّمَادِي فِي التَّفَكُّرِ فِيمَا يَكُونُ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ مِنْ تِلْكَ الْخَفَايَا وَالْأَسْرَارِ، وَتَشْغَلُهَا بِمُرَاقَبَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: بِمَا حَفِظَ اللهُ بِمَا حَفِظَهُ لَهُنَّ فِي مُهُورِهِنَّ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ لَهُنَّ، يُرِيدُونَ أَنَّهُنَّ تَحْفَظْنَ حَقَّ الرِّجَالِ فِي غَيْبَتِهِمْ جَزَاءَ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ الْمَحْفُوظَيْنِ
قَالَ تَعَالَى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَنْزِلِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ الْمَرْأَةُ فِيهَا تَحْتَ رِيَاسَةِ الرَّجُلِ، ذُكِرَ أَنَّهُنَّ فِيهَا قِسْمَانِ: صَالِحَاتٌ وَغَيْرُ صَالِحَاتٍ، وَأَنَّ مِنْ صِفَةِ الصَّالِحَاتِ الْقُنُوتَ، وَهُوَ السُّكُونُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا لِأَزْوَاجِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَحِفْظِ الْغَيْبِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَتَادَةُ: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ يَحْفَظْنَ فِي غَيْبَةِ الْأَزْوَاجِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا
غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا وَقَرَأَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْآيَةَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَيْبُ هُنَا هُوَ مَا يُسْتَحْيَا مِنْ إِظْهَارِهِ، أَيْ: حَافِظَاتٌ لِكُلِّ مَا هُوَ خَاصٌّ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالزَّوْجَيْنِ، فَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْهُنَّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا هُوَ خَاصٌّ بِالزَّوْجِ.
أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ هَذَا وُجُوبُ كِتْمَانِ مَا يَكُونُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ فِي الْخَلْوَةِ، وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ الرَّفَثِ، فَمَا بَالُكَ بِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ أَبْلَغُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَقَائِقِ كِنَايَاتِ النَّزَاهَةِ، تَقْرَؤُهَا خَرَائِدُ الْعَذَارَى جَهْرًا، وَيَفْهَمْنَ مَا تُومِئُ إِلَيْهِ مِمَّا يَكُونُ سِرًّا، وَهُنَّ عَلَى بُعْدٍ مِنْ خَطَرَاتِ الْخَجَلِ أَنْ تَمَسَّ وِجْدَانَهُنَّ الرَّقِيقَ بِأَطْرَافِ أَنَامِلِهَا، فَلِقُلُوبِهِنَّ الْأَمَانُ مِنْ تِلْكَ الْخَلَجَاتِ الَّتِي تَدْفَعُ الدَّمَ إِلَى الْوَجَنَاتِ، نَاهِيكَ بِوَصْلِ حِفْظِ الْغَيْبِ.
بِمَا حَفِظَ اللهُ فَالِانْتِقَالُ السَّرِيعُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْغَيْبِ الْخَفِيِّ إِلَى ذِكْرِ اللهِ الْجَلِيِّ، يَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ التَّمَادِي فِي التَّفَكُّرِ فِيمَا يَكُونُ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ مِنْ تِلْكَ الْخَفَايَا وَالْأَسْرَارِ، وَتَشْغَلُهَا بِمُرَاقَبَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: بِمَا حَفِظَ اللهُ بِمَا حَفِظَهُ لَهُنَّ فِي مُهُورِهِنَّ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ لَهُنَّ، يُرِيدُونَ أَنَّهُنَّ تَحْفَظْنَ حَقَّ الرِّجَالِ فِي غَيْبَتِهِمْ جَزَاءَ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ الْمَحْفُوظَيْنِ
58
لَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا أَرَاكَ إِلَّا ذَاهِبًا مَعِي إِلَى وَهَنِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُزَالِهِ، وَتَكْرِيمِ أُولَئِكَ الصَّالِحَاتِ بِشَهَادَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ حِفْظُهُنَّ لِذَلِكَ الْغَيْبِ مِنْ يَدٍ تَلْمَسُ، أَوْ عَيْنٍ تُبْصِرُ، أَوْ أُذُنٍ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ، مُعَلَّلًا بِدَرَاهِمَ قُبِضْنَ، وَلُقَيْمَاتٍ يُرْتَقَبْنَ، وَلَعَلَّكَ بَعْدَ أَنْ تَمُجَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْبَلُ ذَوْقُكَ مَا قَبِلَهُ ذَوْقِي وَهُوَ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِمَا حَفِظَ اللهُ هِيَ صِنْوُ " بَاءِ " " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ "، وَأَنَّ الْمَعْنَى حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِحِفْظِ اللهِ أَيْ: بِالْحِفْظِ الَّذِي يُؤْتِيهِنَّ اللهُ إِيَّاهُ بِصَلَاحِهِنَّ ; فَإِنَّ الصَّالِحَةَ يَكُونُ لَهَا مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْوَاهُ مَا يَجْعَلُهَا مَحْفُوظَةً مِنَ الْخِيَانَةِ، قَوِيَّةً عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَةِ، أَوْ حَافِظَاتٌ لَهُ بِسَبَبِ أَمْرِ اللهِ بِحِفْظِهِ، فَهُنَّ يُطِعْنَهُ وَيَعْصِينَ الْهَوَى، فَعَسَى أَنْ يَصِلَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى نِسَاءِ عَصْرِنَا اللَّوَاتِي يَتَفَكَّهْنَ بِإِفْشَاءِ أَسْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَا يَحْفَظْنَ الْغَيْبَ فِيهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ شَيْءٌ مِنْ سُلْطَانِ التَّأْدِيبِ، وَإِنَّمَا سُلْطَانُهُمْ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَيَّنَهُ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ النُّشُوزُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ، فَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَخْرُجُ عَنْ حُقُوقِ الرَّجُلِ قَدْ تَرَفَّعَتْ عَلَيْهِ وَحَاوَلَتْ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ رَئِيسِهَا، بَلْ تَرَفَّعَتْ أَيْضًا عَنْ طَبِيعَتِهَا، وَمَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ فِي التَّعَامُلِ، فَتَكُونُ كَالنَّاشِزِ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي خَرَجَ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ خَوْفَ النُّشُوزِ بِتَوَقُّعِهِ فَقَطْ، وَبَعْضُهُمْ بِالْعِلْمِ بِهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ: لِمَ تَرَكَ لَفْظَ الْعِلْمِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ لَفْظَ الْخَوْفِ؟ أَوْ لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَاللَّاتِي يَنْشُزْنَ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ حِكْمَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ الْمَعِيشَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَعِيشَةَ مَحَبَّةٍ وَمَوَدَّةٍ وَتَرَاضٍ وَالْتِئَامٍ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُسْنِدَ النُّشُوزَ إِلَى النِّسَاءِ إِسْنَادًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُنَّ فِعْلًا، بَلْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ تُومِئُ إِلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ الْأَصْلِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ، وَتَطِيبُ بِهِ الْمَعِيشَةُ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ تَنْبِيهٌ لَطِيفٌ إِلَى مَكَانَةِ الْمَرْأَةِ، وَمَا هُوَ الْأَوْلَى فِي شَأْنِهَا، وَإِلَى مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنَ السِّيَاسَةِ لَهَا وَحُسْنِ التَّلَطُّفِ فِي مُعَامَلَتِهَا، حَتَّى إِذَا آنَسَ مِنْهَا مَا يَخْشَى أَنْ يُؤَوَّلَ إِلَى التَّرَفُّعِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَعَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَبْدَأَ بِالْوَعْظِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا، وَالْوَعْظُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْأَةِ، فَمِنْهُنَّ مَنْ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا التَّخْوِيفُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِقَابِهِ عَلَى النُّشُوزِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا التَّهْدِيدُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا، كَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْ بَعْضِ الرَّغَائِبِ كَالثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَالْحُلِيِّ، وَالرَّجُلُ الْعَاقِلُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْوَعْظُ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ أَمْرَأَتِهِ، وَأَمَّا الْهَجْرُ: فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْدِيبِ لِمَنْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَيَشُقُّ عَلَيْهَا هَجْرُهُ إِيَّاهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَنْشُزُ لَا تُبَالِي بِهَجْرِ زَوْجِهَا بِمَعْنَى إِعْرَاضِهِ عَنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى وَاهْجُرُوهُنَّ قَيِّدُوهُنَّ مِنْ هَجْرِ الْبَعِيرِ إِذَا شَدَّهُ بِالْهِجَارِ
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ شَيْءٌ مِنْ سُلْطَانِ التَّأْدِيبِ، وَإِنَّمَا سُلْطَانُهُمْ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَيَّنَهُ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ النُّشُوزُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ، فَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَخْرُجُ عَنْ حُقُوقِ الرَّجُلِ قَدْ تَرَفَّعَتْ عَلَيْهِ وَحَاوَلَتْ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ رَئِيسِهَا، بَلْ تَرَفَّعَتْ أَيْضًا عَنْ طَبِيعَتِهَا، وَمَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ فِي التَّعَامُلِ، فَتَكُونُ كَالنَّاشِزِ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي خَرَجَ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ خَوْفَ النُّشُوزِ بِتَوَقُّعِهِ فَقَطْ، وَبَعْضُهُمْ بِالْعِلْمِ بِهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ: لِمَ تَرَكَ لَفْظَ الْعِلْمِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ لَفْظَ الْخَوْفِ؟ أَوْ لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَاللَّاتِي يَنْشُزْنَ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ حِكْمَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ الْمَعِيشَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَعِيشَةَ مَحَبَّةٍ وَمَوَدَّةٍ وَتَرَاضٍ وَالْتِئَامٍ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُسْنِدَ النُّشُوزَ إِلَى النِّسَاءِ إِسْنَادًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُنَّ فِعْلًا، بَلْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ تُومِئُ إِلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ الْأَصْلِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ، وَتَطِيبُ بِهِ الْمَعِيشَةُ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ تَنْبِيهٌ لَطِيفٌ إِلَى مَكَانَةِ الْمَرْأَةِ، وَمَا هُوَ الْأَوْلَى فِي شَأْنِهَا، وَإِلَى مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنَ السِّيَاسَةِ لَهَا وَحُسْنِ التَّلَطُّفِ فِي مُعَامَلَتِهَا، حَتَّى إِذَا آنَسَ مِنْهَا مَا يَخْشَى أَنْ يُؤَوَّلَ إِلَى التَّرَفُّعِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَعَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَبْدَأَ بِالْوَعْظِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا، وَالْوَعْظُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْأَةِ، فَمِنْهُنَّ مَنْ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا التَّخْوِيفُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِقَابِهِ عَلَى النُّشُوزِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا التَّهْدِيدُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا، كَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْ بَعْضِ الرَّغَائِبِ كَالثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَالْحُلِيِّ، وَالرَّجُلُ الْعَاقِلُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْوَعْظُ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ أَمْرَأَتِهِ، وَأَمَّا الْهَجْرُ: فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْدِيبِ لِمَنْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَيَشُقُّ عَلَيْهَا هَجْرُهُ إِيَّاهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَنْشُزُ لَا تُبَالِي بِهَجْرِ زَوْجِهَا بِمَعْنَى إِعْرَاضِهِ عَنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى وَاهْجُرُوهُنَّ قَيِّدُوهُنَّ مِنْ هَجْرِ الْبَعِيرِ إِذَا شَدَّهُ بِالْهِجَارِ
59
وَهُوَ الْقَيْدُ الَّذِي يُقَيَّدُ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ بِشَيْءٍ، وَمَا هُمْ بِالْوَاقِفِينَ عَلَى أَخْلَاقِ النِّسَاءِ وَطِبَاعِهِنَّ ; فَإِنَّ مِنْهُنَّ مَنْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَيُزَيِّنُ لَهَا الطَّيْشُ وَالرُّعُونَةُ النُّشُوزَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْشُزُ امْتِحَانًا لِزَوْجِهَا لِيَظْهَرَ لَهَا أَوْ لِلنَّاسِ مِقْدَارُ شَغَفِهِ بِهَا وَحِرْصِهِ عَلَى رِضَاهَا، أَقُولُ: وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْشُزُ لِتَحْمِلَ زَوْجَهَا عَلَى إِرْضَائِهَا بِمَا تَطْلُبُ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ يُغْرِيهَا أَهْلُهَا بِالنُّشُوزِ لِمَآرِبَ لَهُمْ.
وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنِ الْهَجْرِ فِي الْمَضَاجِعِ ; لِأَنَّهُ بَدِيهِيٌّ، وَكَمْ تَخَبَّطَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْبَدِيهِيَّاتِ الَّتِي يَفْهَمُهَا الْأُمِّيُّونَ ; فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِأَيِّ عَامِّيٍّ: إِنَّ فُلَانًا يَهْجُرُ امْرَأَتَهُ فِي الْمَضْجَعِ أَوْ فِي مَحَلِّ الِاضْطِجَاعِ، أَوْ فِي الْمَرْقَدِ أَوْ مَحِلِّ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ رَأَوُا الْعِبَارَةَ مَحَلًّا لِاخْتِلَافِ أَفْهَامِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِمَا يُرَادُ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَأَخَلَّ بِمَا قَصَدَ فِي الْكِتَابَةِ مِنَ النَّزَاهَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَعْنَى اهْجُرُوا حُجَرَهُنَّ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ مَبِيتِهِنَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ اهْجُرُوهُنَّ بِسَبَبِ الْمَضَاجِعِ أَيْ: بِسَبَبِ عِصْيَانِهِنَّ إِيَّاكُمْ فِيهَا، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى النُّشُوزِ، فَمَا مَعْنَى جَعْلِهِ هُوَ الْمُرَادَ بِالْعِقَابِ؟ وَقَالَ بَعْضُ مَنْ فَسَّرَ الْهَجْرَ بِالتَّقْيِيدِ بِالْهِجَارِ: قَيِّدُوهُنَّ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا تَمَنَّعْنَ عَنْهُ، وَسَمَّى الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ بِتَفْسِيرِ الثُّقَلَاءِ، وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ هُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ وَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْعِبَارَةُ تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى مَنْعِ مَا جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْنًى لَهَا فَهُوَ يَقُولُ: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا بِهَجْرِ الْمَضْجَعِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْفِرَاشُ، وَلَا بِهَجْرِ الْحُجْرَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الِاضْطِجَاعُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِهَجْرٍ فِي الْفِرَاشِ نَفْسِهِ، وَتَعَمُّدُ هَجْرِ الْفِرَاشِ أَوِ الْحُجْرَةِ زِيَادَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ تَعَالَى، وَرُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْجَفْوَةِ، وَفِي الْهَجْرِ فِي الْمَضْجَعِ نَفْسِهِ مَعْنًى لَا يَتَحَقَّقُ بِهَجْرِ الْمَضْجَعِ، أَوِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ; لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمَضْجَعِ هُوَ الَّذِي يُهَيِّجُ شُعُورَ الزَّوْجِيَّةِ، فَتَسْكُنُ نَفْسُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَيَزُولُ اضْطِرَابُهُمَا الَّذِي أَثَارَتْهُ الْحَوَادِثُ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا هَجَرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَأَعْرَضَ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رُجِيَ أَنْ يَدْعُوَهَا ذَلِكَ الشُّعُورُ وَالسُّكُونُ النَّفْسِيُّ إِلَى سُؤَالِهِ عَنِ السَّبَبِ، وَيَهْبِطُ بِهَا مِنْ نَشَزِ الْمُخَالَفَةِ إِلَى صَفْصَفِ الْمُوَافَقَةِ، وَكَأَنِّي بِالْقَارِئِ وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِي لَمْ يَرَهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ وَلَا الْأَحْيَاءِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ فَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَالتَّبْرِيحُ الْإِيذَاءُ الشَّدِيدُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ ـ تَفْسِيرُهُ بِالضَّرْبِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، أَيْ: كَالضَّرْبِ بِالْيَدِ أَوْ بِقَصَبَةٍ صَغِيرَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ وَفِي امْرَأَتِهِ حَبِيبَةَ
وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنِ الْهَجْرِ فِي الْمَضَاجِعِ ; لِأَنَّهُ بَدِيهِيٌّ، وَكَمْ تَخَبَّطَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْبَدِيهِيَّاتِ الَّتِي يَفْهَمُهَا الْأُمِّيُّونَ ; فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِأَيِّ عَامِّيٍّ: إِنَّ فُلَانًا يَهْجُرُ امْرَأَتَهُ فِي الْمَضْجَعِ أَوْ فِي مَحَلِّ الِاضْطِجَاعِ، أَوْ فِي الْمَرْقَدِ أَوْ مَحِلِّ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ رَأَوُا الْعِبَارَةَ مَحَلًّا لِاخْتِلَافِ أَفْهَامِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِمَا يُرَادُ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَأَخَلَّ بِمَا قَصَدَ فِي الْكِتَابَةِ مِنَ النَّزَاهَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَعْنَى اهْجُرُوا حُجَرَهُنَّ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ مَبِيتِهِنَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ اهْجُرُوهُنَّ بِسَبَبِ الْمَضَاجِعِ أَيْ: بِسَبَبِ عِصْيَانِهِنَّ إِيَّاكُمْ فِيهَا، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى النُّشُوزِ، فَمَا مَعْنَى جَعْلِهِ هُوَ الْمُرَادَ بِالْعِقَابِ؟ وَقَالَ بَعْضُ مَنْ فَسَّرَ الْهَجْرَ بِالتَّقْيِيدِ بِالْهِجَارِ: قَيِّدُوهُنَّ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا تَمَنَّعْنَ عَنْهُ، وَسَمَّى الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ بِتَفْسِيرِ الثُّقَلَاءِ، وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ هُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ وَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْعِبَارَةُ تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى مَنْعِ مَا جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْنًى لَهَا فَهُوَ يَقُولُ: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا بِهَجْرِ الْمَضْجَعِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْفِرَاشُ، وَلَا بِهَجْرِ الْحُجْرَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الِاضْطِجَاعُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِهَجْرٍ فِي الْفِرَاشِ نَفْسِهِ، وَتَعَمُّدُ هَجْرِ الْفِرَاشِ أَوِ الْحُجْرَةِ زِيَادَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ تَعَالَى، وَرُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْجَفْوَةِ، وَفِي الْهَجْرِ فِي الْمَضْجَعِ نَفْسِهِ مَعْنًى لَا يَتَحَقَّقُ بِهَجْرِ الْمَضْجَعِ، أَوِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ; لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمَضْجَعِ هُوَ الَّذِي يُهَيِّجُ شُعُورَ الزَّوْجِيَّةِ، فَتَسْكُنُ نَفْسُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَيَزُولُ اضْطِرَابُهُمَا الَّذِي أَثَارَتْهُ الْحَوَادِثُ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا هَجَرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَأَعْرَضَ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رُجِيَ أَنْ يَدْعُوَهَا ذَلِكَ الشُّعُورُ وَالسُّكُونُ النَّفْسِيُّ إِلَى سُؤَالِهِ عَنِ السَّبَبِ، وَيَهْبِطُ بِهَا مِنْ نَشَزِ الْمُخَالَفَةِ إِلَى صَفْصَفِ الْمُوَافَقَةِ، وَكَأَنِّي بِالْقَارِئِ وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِي لَمْ يَرَهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ وَلَا الْأَحْيَاءِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ فَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَالتَّبْرِيحُ الْإِيذَاءُ الشَّدِيدُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ ـ تَفْسِيرُهُ بِالضَّرْبِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، أَيْ: كَالضَّرْبِ بِالْيَدِ أَوْ بِقَصَبَةٍ صَغِيرَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ وَفِي امْرَأَتِهِ حَبِيبَةَ
60
بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ فَلَطَمَهَا فَانْطَلَقَ أَبُوهَا مَعَهَا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: أَفْرَشْتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لِتَقْتَصَّ مِنْ زَوْجِهَا "، فَانْصَرَفَتْ مَعَ أَبِيهَا لِتَقْتَصَّ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ارْجِعُوا، هَذَا جِبْرَائِيلُ أَتَانِي وَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَتَلَاهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ: أَرَدْنَا أَمْرًا، وَأَرَادَ اللهُ أَمْرًا، وَالَّذِي أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَى خَيْرٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَامْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ.
يَسْتَكْبِرُ بَعْضُ مُقَلِّدَةِ الْإِفْرِنْجِ فِي آدَابِهِمْ مِنَّا مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ الْمَرْأَةِ النَّاشِزِ، وَلَا يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ تَنْشُزَ وَتَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ، فَتَجْعَلَهُ وَهُوَ رَئِيسُ الْبَيْتِ مَرْءُوسًا بَلْ مُحْتَقَرًا، وَتُصِرُّ عَلَى نُشُوزِهَا حَتَّى لَا تَلِينَ لِوَعْظِهِ وَنُصْحِهِ، وَلَا تُبَالِيَ بِإِعْرَاضِهِ وَهَجْرِهِ، وَلَا أَدْرِي بِمَ يُعَالِجُونَ هَؤُلَاءِ النَّوَاشِزَ؟ وَبِمَ يُشِيرُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ أَوْ يُعَامِلُوهُنَّ بِهِ؟ لَعَلَّهُمْ يَتَخَيَّلُونَ امْرَأَةً ضَعِيفَةً نَحِيفَةً، مُهَذَّبَةً أَدِيبَةً، يَبْغِي عَلَيْهَا رَجُلٌ فَظٌّ غَلِيظٌ، فَيُطْعِمُ سَوْطَهُ مِنْ لَحْمِهَا الْغَرِيضِ، وَيَسْقِيهِ مِنْ دَمِهَا الْعَبِيطِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الضَّرْبِ، وَإِنْ تَجَرَّمَ وَتَجَنَّى عَلَيْهَا وَلَا ذَنْبَ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ غِلَاظِ الْأَكْبَادِ مُتَحَجِّرِي الطِّبَاعِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَأْذَنَ بِمِثْلِ هَذَا الظُّلْمِ أَوْ يَرْضَى بِهِ، إِنَّ مِنَ الرِّجَالِ الْجَعْظَرِيَّ الْجَوَّاظَ الَّذِي يَظْلِمُ الْمَرْأَةَ بِمَحْضِ الْعُدْوَانِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصِيَّةِ أَمْثَالِهِمْ بِالنِّسَاءِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَأْتِي فِي حَقِّهِمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّحْكِيمِ، وَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ الْفَوَارِكَ الْمَنَاشِيصَ الْمُفَسِّلَاتِ اللَّوَاتِي يَمْقُتْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَيَكْفُرْنَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِنَّ، وَيَنْشُزْنَ عَلَيْهِمْ صَلَفًا وَعِنَادًا، وَيُكَلِّفْنَهُمْ مَا لَا
طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَأَيُّ فَسَادٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ إِذَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ التَّقِيِّ الْفَاضِلِ أَنْ يُخَفِّضَ مِنْ صَلَفِ إِحْدَاهِنَّ، وَيُدَهْوِرَهَا مِنْ نَشَزِ غُرُورِهَا بِسِوَاكٍ يَضْرِبُ بِهِ يَدَهَا، أَوْ كَفٍّ يَهْوِي بِهَا عَلَى رَقَبَتِهَا؟ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْإِفْرِنْجِ يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمُ الْعَالِمَاتِ الْمُهَذَّبَاتِ وَالْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ، الْمَائِلَاتِ الْمُمِيلَاتِ، فَعَلَ هَذَا حُكَمَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَمُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ، فَهُوَ ضَرُورَةٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْغَالُونَ فِي تَكْرِيمِ أُولَئِكَ النِّسَاءِ الْمُتَعَلِّمَاتِ، فَكَيْفَ تَسْتَنْكِرُ إِبَاحَتَهُ لِلضَّرُورَةِ فِي دِينٍ عَامٍّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْبَشَرِ؟ !.
يَسْتَكْبِرُ بَعْضُ مُقَلِّدَةِ الْإِفْرِنْجِ فِي آدَابِهِمْ مِنَّا مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ الْمَرْأَةِ النَّاشِزِ، وَلَا يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ تَنْشُزَ وَتَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ، فَتَجْعَلَهُ وَهُوَ رَئِيسُ الْبَيْتِ مَرْءُوسًا بَلْ مُحْتَقَرًا، وَتُصِرُّ عَلَى نُشُوزِهَا حَتَّى لَا تَلِينَ لِوَعْظِهِ وَنُصْحِهِ، وَلَا تُبَالِيَ بِإِعْرَاضِهِ وَهَجْرِهِ، وَلَا أَدْرِي بِمَ يُعَالِجُونَ هَؤُلَاءِ النَّوَاشِزَ؟ وَبِمَ يُشِيرُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ أَوْ يُعَامِلُوهُنَّ بِهِ؟ لَعَلَّهُمْ يَتَخَيَّلُونَ امْرَأَةً ضَعِيفَةً نَحِيفَةً، مُهَذَّبَةً أَدِيبَةً، يَبْغِي عَلَيْهَا رَجُلٌ فَظٌّ غَلِيظٌ، فَيُطْعِمُ سَوْطَهُ مِنْ لَحْمِهَا الْغَرِيضِ، وَيَسْقِيهِ مِنْ دَمِهَا الْعَبِيطِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الضَّرْبِ، وَإِنْ تَجَرَّمَ وَتَجَنَّى عَلَيْهَا وَلَا ذَنْبَ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ غِلَاظِ الْأَكْبَادِ مُتَحَجِّرِي الطِّبَاعِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَأْذَنَ بِمِثْلِ هَذَا الظُّلْمِ أَوْ يَرْضَى بِهِ، إِنَّ مِنَ الرِّجَالِ الْجَعْظَرِيَّ الْجَوَّاظَ الَّذِي يَظْلِمُ الْمَرْأَةَ بِمَحْضِ الْعُدْوَانِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصِيَّةِ أَمْثَالِهِمْ بِالنِّسَاءِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَأْتِي فِي حَقِّهِمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّحْكِيمِ، وَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ الْفَوَارِكَ الْمَنَاشِيصَ الْمُفَسِّلَاتِ اللَّوَاتِي يَمْقُتْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَيَكْفُرْنَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِنَّ، وَيَنْشُزْنَ عَلَيْهِمْ صَلَفًا وَعِنَادًا، وَيُكَلِّفْنَهُمْ مَا لَا
طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَأَيُّ فَسَادٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ إِذَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ التَّقِيِّ الْفَاضِلِ أَنْ يُخَفِّضَ مِنْ صَلَفِ إِحْدَاهِنَّ، وَيُدَهْوِرَهَا مِنْ نَشَزِ غُرُورِهَا بِسِوَاكٍ يَضْرِبُ بِهِ يَدَهَا، أَوْ كَفٍّ يَهْوِي بِهَا عَلَى رَقَبَتِهَا؟ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْإِفْرِنْجِ يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمُ الْعَالِمَاتِ الْمُهَذَّبَاتِ وَالْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ، الْمَائِلَاتِ الْمُمِيلَاتِ، فَعَلَ هَذَا حُكَمَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَمُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ، فَهُوَ ضَرُورَةٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْغَالُونَ فِي تَكْرِيمِ أُولَئِكَ النِّسَاءِ الْمُتَعَلِّمَاتِ، فَكَيْفَ تَسْتَنْكِرُ إِبَاحَتَهُ لِلضَّرُورَةِ فِي دِينٍ عَامٍّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْبَشَرِ؟ !.
61
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ النِّسَاءِ لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الْمُسْتَنْكَرِ فِي الْعَقْلِ أَوِ الْفِطْرَةِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، فَهُوَ أَمْرٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي حَالِ فَسَادِ الْبِيئَةِ وَغَلَبَةِ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ إِذَا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ رُجُوعَ الْمَرْأَةِ عَنْ نُشُوزِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَلَحَتِ الْبِيئَةُ، وَصَارَ النِّسَاءُ يَعْقِلْنَ النَّصِيحَةَ، وَيَسْتَجِبْنَ لِلْوَعْظِ، أَوْ يَزْدَجِرْنَ بِالْهَجْرِ، فَيَجِبُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الضَّرْبِ، فَلِكُلِّ حَالٍ حُكْمٌ يُنَاسِبُهَا فِي الشَّرْعِ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالرِّفْقِ بِالنِّسَاءِ، وَاجْتِنَابِ ظُلْمِهِنَّ، وَإِمْسَاكِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ تَسْرِيحِهِنَّ بِإِحْسَانٍ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنِّسَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
أَقُولُ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ فِي تَقْبِيحِ الضَّرْبِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَيَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ يَضْرِبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا آخِرَهُ؟ يُذَكِّرُ الرَّجُلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ الْخَاصِّ بِامْرَأَتِهِ، وَهُوَ أَقْوَى وَأَحْكَمُ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ يَتَّحِدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ اتِّحَادًا تَامًّا، فَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ صِلَتَهُ بِالْآخَرِ أَقْوَى مِنْ صِلَةِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِبَعْضٍ ـ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْوِحْدَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ كَنَفْسِهِ، مَهِينَةً كَمَهَانَةِ عَبْدِهِ، بِحَيْثُ يَضْرِبُهَا بِسَوْطِهِ أَوْ يَدِهِ؟ حَقًّا إِنَّ الرَّجُلَ الْحَيِيَّ الْكَرِيمَ لَيَتَجَافَى طَبْعُهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْجَفَاءِ، وَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ
يَطْلُبَ مُنْتَهَى الِاتِّحَادِ بِمَنْ أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْإِمَاءِ، فَالْحَدِيثُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَشْنِيعِ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَأَذْكُرُ أَنَّنِي هُدِيتُ إِلَى مَعْنَاهُ الْعَالِي قَبْلَ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى لَفْظِهِ الشَّرِيفِ، فَكُنْتُ كُلَّمَا سَمِعْتُ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ أَقُولُ: يَا لَلَّهِ الْعَجَبُ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعِيشَ عِيشَةَ الْأَزْوَاجِ مَعَ امْرَأَةٍ تُضْرَبُ، تَارَةً يَسْطُو عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ، فَتَكُونُ مِنْهُ كَالشَّاةِ مِنَ الذِّئْبِ، وَتَارَةً يَذِلُّ لَهَا كَالْعَبْدِ طَالِبًا مِنْهَا مُنْتَهَى الْقُرْبِ؟ وَلَكِنْ لَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَطِيبُ لَهُ هَذِهِ الْحَيَاةُ، فَإِذَا لَمْ تُقَدِّرِ امْرَأَتُهُ بِسُوءِ تَرْبِيَتِهَا تَكْرِيمَهُ إِيَّاهَا حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَمْ تَرْجِعْ عَنْ نُشُوزِهَا بِالْوَعْظِ وَالْهُجْرَانِ، فَارَقَهَا بِمَعْرُوفٍ وَسَرَّحَهَا بِإِحْسَانٍ إِلَّا أَنْ يَرْجُوَ صَلَاحَهَا بِالتَّحْكِيمِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَا يَضْرِبُ؛ فَإِنَّ الْأَخْيَارَ لَا يَضْرِبُونَ النِّسَاءَ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كَانَ الرِّجَالُ نُهُوا عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، ثُمَّ شَكُوهُنَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ضَرْبِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ فَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ بِالْحَظْرِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الضَّرْبَ عِلَاجٌ مُرٌّ، قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْخَيِّرُ الْحُرُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَزُولُ مِنَ الْبُيُوتِ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ يَعُمُّ التَّهْذِيبُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ.
أَقُولُ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ فِي تَقْبِيحِ الضَّرْبِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَيَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ يَضْرِبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا آخِرَهُ؟ يُذَكِّرُ الرَّجُلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ الْخَاصِّ بِامْرَأَتِهِ، وَهُوَ أَقْوَى وَأَحْكَمُ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ يَتَّحِدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ اتِّحَادًا تَامًّا، فَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ صِلَتَهُ بِالْآخَرِ أَقْوَى مِنْ صِلَةِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِبَعْضٍ ـ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْوِحْدَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ كَنَفْسِهِ، مَهِينَةً كَمَهَانَةِ عَبْدِهِ، بِحَيْثُ يَضْرِبُهَا بِسَوْطِهِ أَوْ يَدِهِ؟ حَقًّا إِنَّ الرَّجُلَ الْحَيِيَّ الْكَرِيمَ لَيَتَجَافَى طَبْعُهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْجَفَاءِ، وَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ
يَطْلُبَ مُنْتَهَى الِاتِّحَادِ بِمَنْ أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْإِمَاءِ، فَالْحَدِيثُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَشْنِيعِ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَأَذْكُرُ أَنَّنِي هُدِيتُ إِلَى مَعْنَاهُ الْعَالِي قَبْلَ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى لَفْظِهِ الشَّرِيفِ، فَكُنْتُ كُلَّمَا سَمِعْتُ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ أَقُولُ: يَا لَلَّهِ الْعَجَبُ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعِيشَ عِيشَةَ الْأَزْوَاجِ مَعَ امْرَأَةٍ تُضْرَبُ، تَارَةً يَسْطُو عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ، فَتَكُونُ مِنْهُ كَالشَّاةِ مِنَ الذِّئْبِ، وَتَارَةً يَذِلُّ لَهَا كَالْعَبْدِ طَالِبًا مِنْهَا مُنْتَهَى الْقُرْبِ؟ وَلَكِنْ لَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَطِيبُ لَهُ هَذِهِ الْحَيَاةُ، فَإِذَا لَمْ تُقَدِّرِ امْرَأَتُهُ بِسُوءِ تَرْبِيَتِهَا تَكْرِيمَهُ إِيَّاهَا حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَمْ تَرْجِعْ عَنْ نُشُوزِهَا بِالْوَعْظِ وَالْهُجْرَانِ، فَارَقَهَا بِمَعْرُوفٍ وَسَرَّحَهَا بِإِحْسَانٍ إِلَّا أَنْ يَرْجُوَ صَلَاحَهَا بِالتَّحْكِيمِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَا يَضْرِبُ؛ فَإِنَّ الْأَخْيَارَ لَا يَضْرِبُونَ النِّسَاءَ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كَانَ الرِّجَالُ نُهُوا عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، ثُمَّ شَكُوهُنَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ضَرْبِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ فَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ بِالْحَظْرِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الضَّرْبَ عِلَاجٌ مُرٌّ، قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْخَيِّرُ الْحُرُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَزُولُ مِنَ الْبُيُوتِ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ يَعُمُّ التَّهْذِيبُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ.
62
هَذَا وَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ قَدْ خَصُّوا النُّشُوزَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي يُبِيحُ الضَّرْبَ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِإِزَالَتِهِ بِخِصَالٍ قَلِيلَةٍ، كَعِصْيَانِ الرَّجُلِ فِي الْفِرَاشِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الدَّارِ بِدُونِ عُذْرٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ تَرْكَهَا الزِّينَةَ وَهُوَ يَطْلُبُهَا نُشُوزًا، وَقَالُوا: لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا أَيْضًا عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ كَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّشُوزَ أَعَمُّ فَيَشْمَلُ كُلَّ عِصْيَانٍ سَبَبُهُ التَّرَفُّعُ وَالْإِبَاءُ، وَيُفِيدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَإِنْ أَطْعَنْكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ: إِنْ أَطْعَنْكُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ التَّأْدِيبِيَّةِ فَلَا تَبْغُوا بِتَجَاوُزِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ مِنَ الْوَعْظِ، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ فَلْيَهْجُرْ، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ فَلْيَضْرِبْ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا أَيْضًا يَلْجَأُ إِلَى التَّحْكِيمِ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَانِتَاتِ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِنَّ حَتَّى فِي الْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، فَضْلًا عَنِ الْهَجْرِ وَالضَّرْبِ.
وَأَقُولُ: صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِوُجُوبِ هَذَا التَّرْتِيبِ فِي التَّأْدِيبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاو لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: دَلَّ عَلَى ذَلِكَ السِّيَاقُ وَالْقَرِينَةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذْ لَوْ عُكِسَ كَانَ اسْتِغْنَاءً بِالْأَشَدِّ عَنِ الْأَضْعَفِ، فَلَا يَكُونُ لِهَذَا فَائِدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرْتِيبُ مُسْتَفَادٌ
مِنْ دُخُولِ الْوَاوِ عَلَى أَجْزِئَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ، مُرَتَّبَةٍ عَلَى أَمْرٍ مُدْرَجٍ، فَإِنَّمَا النَّصُّ هُوَ الدَّالُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَمَعْنَى: لَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، لَا تَطْلُبُوا طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إِلَى إِيذَائِهِنَّ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، فَالْبَغْيُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ، أَيْ: فَلَا تَظْلِمُوهُنَّ بِطَرِيقٍ مَا، فَمَتَى اسْتَقَامَ لَكُمُ الظَّاهِرُ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْ مَطَاوِي السَّرَائِرِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا فَإِنَّ سُلْطَانَهُ عَلَيْكُمْ فَوْقَ سُلْطَانِكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَإِذَا بَغَيْتُمْ عَلَيْهِنَّ عَاقَبَكُمْ، وَإِذَا تَجَاوَزْتُمْ عَنْ هَفَوَاتِهِنَّ كَرَمًا وَشَمَمًا تَجَاوَزَ عَنْكُمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَتَى بِهَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَبْغِي عَلَى الْمَرْأَةِ بِمَا يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهَا، وَكَوْنِهِ أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَقْدَرَ، فَذَكَّرَهُ تَعَالَى بِعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لِيَتَّعِظَ وَيَخْشَعَ وَيَتَّقِيَ اللهَ فِيهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ بِظُلْمِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونُوا سَادَةً فِي بُيُوتِهِمْ إِنَّمَا يَلِدُونَ عَبِيدًا لِغَيْرِهِمْ، يَعْنِي أَنَّ أَوْلَادَهُمْ يَتَرَبَّوْنَ عَلَى ذُلِّ الظُّلْمِ فَيَكُونُونَ كَالْعَبِيدِ الْأَذِلَّاءِ لِمَنْ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْمَعِيشَةِ مَعَهُمْ.
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، الْخِلَافُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَكُونُ بِنُشُوزِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَالنُّشُوزُ يُعَالِجُهُ الرَّجُلُ بِأَقْرَبِ التَّأْدِيبَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا مَرَّ سَرْدُهُ، وَحَلَا وِرْدُهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَإِذَا تَمَادَى هُوَ فِي ظُلْمِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ إِنْزَالِهَا عَنْ نُشُوزِهَا، وَخِيفَ أَنْ يَحُولَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا دُونَ إِقَامَتِهِمَا لِحُدُودِ اللهِ تَعَالَى فِي الزَّوْجِيَّةِ، بِإِقَامَةِ أَرْكَانِهَا الثَّلَاثَةِ: السُّكُونُ، وَالْمَوَدَّةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَكَافِلِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ أَنْ يَبْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا عَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِهَا،
وَأَقُولُ: صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِوُجُوبِ هَذَا التَّرْتِيبِ فِي التَّأْدِيبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاو لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: دَلَّ عَلَى ذَلِكَ السِّيَاقُ وَالْقَرِينَةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذْ لَوْ عُكِسَ كَانَ اسْتِغْنَاءً بِالْأَشَدِّ عَنِ الْأَضْعَفِ، فَلَا يَكُونُ لِهَذَا فَائِدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرْتِيبُ مُسْتَفَادٌ
مِنْ دُخُولِ الْوَاوِ عَلَى أَجْزِئَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ، مُرَتَّبَةٍ عَلَى أَمْرٍ مُدْرَجٍ، فَإِنَّمَا النَّصُّ هُوَ الدَّالُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَمَعْنَى: لَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، لَا تَطْلُبُوا طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إِلَى إِيذَائِهِنَّ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، فَالْبَغْيُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ، أَيْ: فَلَا تَظْلِمُوهُنَّ بِطَرِيقٍ مَا، فَمَتَى اسْتَقَامَ لَكُمُ الظَّاهِرُ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْ مَطَاوِي السَّرَائِرِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا فَإِنَّ سُلْطَانَهُ عَلَيْكُمْ فَوْقَ سُلْطَانِكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَإِذَا بَغَيْتُمْ عَلَيْهِنَّ عَاقَبَكُمْ، وَإِذَا تَجَاوَزْتُمْ عَنْ هَفَوَاتِهِنَّ كَرَمًا وَشَمَمًا تَجَاوَزَ عَنْكُمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَتَى بِهَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَبْغِي عَلَى الْمَرْأَةِ بِمَا يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهَا، وَكَوْنِهِ أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَقْدَرَ، فَذَكَّرَهُ تَعَالَى بِعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لِيَتَّعِظَ وَيَخْشَعَ وَيَتَّقِيَ اللهَ فِيهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ بِظُلْمِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونُوا سَادَةً فِي بُيُوتِهِمْ إِنَّمَا يَلِدُونَ عَبِيدًا لِغَيْرِهِمْ، يَعْنِي أَنَّ أَوْلَادَهُمْ يَتَرَبَّوْنَ عَلَى ذُلِّ الظُّلْمِ فَيَكُونُونَ كَالْعَبِيدِ الْأَذِلَّاءِ لِمَنْ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْمَعِيشَةِ مَعَهُمْ.
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، الْخِلَافُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَكُونُ بِنُشُوزِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَالنُّشُوزُ يُعَالِجُهُ الرَّجُلُ بِأَقْرَبِ التَّأْدِيبَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا مَرَّ سَرْدُهُ، وَحَلَا وِرْدُهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَإِذَا تَمَادَى هُوَ فِي ظُلْمِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ إِنْزَالِهَا عَنْ نُشُوزِهَا، وَخِيفَ أَنْ يَحُولَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا دُونَ إِقَامَتِهِمَا لِحُدُودِ اللهِ تَعَالَى فِي الزَّوْجِيَّةِ، بِإِقَامَةِ أَرْكَانِهَا الثَّلَاثَةِ: السُّكُونُ، وَالْمَوَدَّةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَكَافِلِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ أَنْ يَبْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا عَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِهَا،
63
وَيَجِبُ عَلَى هَذَيْنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُوَجِّهَا إِرَادَتَهُمَا إِلَى إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَتَى صَدَقَتِ الْإِرَادَةُ كَانَ التَّوْفِيقُ الْإِلَهِيُّ رَفِيقَهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَيَجِبُ الْخُضُوعُ لِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ وَالْعَمَلُ بِهِ.
فَخَوْفُ الشِّقَاقِ تَوَقُّعُهُ بِظُهُورِ أَسْبَابِهِ، وَالشِّقَاقُ هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي شِقٍّ أَيْ فِي جَانِبٍ، وَالْحَكَمُ (بِالتَّحْرِيكِ) : مَنْ لَهُ حَقُّ الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ (
فِيكَ الْخَصْمُ وَأَنْتَ
الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ
) وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْخِ الْمُسِنِّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ لِرَوِيَّتِهِ وَتَجْرِبَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِبَعْثِهِمَا إِرْسَالُهُمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ لِيَنْظُرَا فِي شَكْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيَتَعَرَّفَا مَا يُرْجَى أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْتَرْضُوهُمَا بِالتَّحْكِيمِ، وَإِعْطَائِهِمَا حَقَّ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ " وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَمَرَهُمْ عَلِيٌّ أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهَلْهِ، وَرَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِمَا عَلَيَّ بِهِ، وَلِي، وَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ وَاللهِ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَذَا فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا تَفَاسَدَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَرَجُلًا مِثْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ، فَيَنْظُرَانِ أَيُّهُمَا الْمُسِيءُ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمُسِيءَ حَجَبُوا عَنْهُ امْرَأَتَهُ وَقَسَرُوهُ عَلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسِيئَةَ قَسَرُوهَا عَلَى زَوْجِهَا وَمَنَعُوهَا النَّفَقَةَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ أَمْرُهُمَا عَلَى أَنْ يُفَرِّقَا أَوْ يَجْمَعَا فَأَمْرُهُمَا جَائِزٌ، فَإِنْ رَأَيَا أَنْ يَجْمَعَا فَرَضِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَكَرِهَ ذَلِكَ الْآخَرُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الَّذِي رَضِيَ يَرِثُ الَّذِي كَرِهَ، وَلَا يَرِثُ الْكَارِهُ الرَّاضِيَ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلَيْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْحَكَمَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا آخَرَ، وَالنَّصُّ إِنَّمَا هُوَ فِي وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، لِيَجْتَهِدَا فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَهَلْ هُمَا قَاضِيَانِ يُنَفَّذُ حُكْمُهُمَا بِكُلِّ حَالٍ، أَمْ وَكِيلَانِ لَيْسَ لَهُمَا إِلَّا مَا وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِهِ؟ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَاكِمُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يُكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ، أَوْ كُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى مَنْ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهَذَا الْعَمَلِ مِمَّنْ يُمَثِّلُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْحُكَّامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَأَقَارِبُهُمَا، فَإِنْ قَامَ بِهِ الزَّوْجَانِ أَوْ ذَوُو الْقُرْبَى أَوِ الْجِيرَانُ فَذَاكَ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ أَمْرُهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَى فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمَا بِذَلِكَ،
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجِيهٌ، فَالْأَوَّلُ يُكَلِّفُ الْحُكَّامَ مُلَاحَظَةَ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ وَالِاجْتِهَادَ فِي إِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ، وَالثَّانِي يُكَلِّفُ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُلَاحِظَ بَعْضُهُمْ
فَخَوْفُ الشِّقَاقِ تَوَقُّعُهُ بِظُهُورِ أَسْبَابِهِ، وَالشِّقَاقُ هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي شِقٍّ أَيْ فِي جَانِبٍ، وَالْحَكَمُ (بِالتَّحْرِيكِ) : مَنْ لَهُ حَقُّ الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ (
فِيكَ الْخَصْمُ وَأَنْتَ
الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ
) وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْخِ الْمُسِنِّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ لِرَوِيَّتِهِ وَتَجْرِبَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِبَعْثِهِمَا إِرْسَالُهُمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ لِيَنْظُرَا فِي شَكْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيَتَعَرَّفَا مَا يُرْجَى أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْتَرْضُوهُمَا بِالتَّحْكِيمِ، وَإِعْطَائِهِمَا حَقَّ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ " وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَمَرَهُمْ عَلِيٌّ أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهَلْهِ، وَرَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِمَا عَلَيَّ بِهِ، وَلِي، وَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ وَاللهِ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَذَا فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا تَفَاسَدَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَرَجُلًا مِثْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ، فَيَنْظُرَانِ أَيُّهُمَا الْمُسِيءُ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمُسِيءَ حَجَبُوا عَنْهُ امْرَأَتَهُ وَقَسَرُوهُ عَلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسِيئَةَ قَسَرُوهَا عَلَى زَوْجِهَا وَمَنَعُوهَا النَّفَقَةَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ أَمْرُهُمَا عَلَى أَنْ يُفَرِّقَا أَوْ يَجْمَعَا فَأَمْرُهُمَا جَائِزٌ، فَإِنْ رَأَيَا أَنْ يَجْمَعَا فَرَضِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَكَرِهَ ذَلِكَ الْآخَرُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الَّذِي رَضِيَ يَرِثُ الَّذِي كَرِهَ، وَلَا يَرِثُ الْكَارِهُ الرَّاضِيَ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلَيْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْحَكَمَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا آخَرَ، وَالنَّصُّ إِنَّمَا هُوَ فِي وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، لِيَجْتَهِدَا فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَهَلْ هُمَا قَاضِيَانِ يُنَفَّذُ حُكْمُهُمَا بِكُلِّ حَالٍ، أَمْ وَكِيلَانِ لَيْسَ لَهُمَا إِلَّا مَا وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِهِ؟ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَاكِمُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يُكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ، أَوْ كُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى مَنْ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهَذَا الْعَمَلِ مِمَّنْ يُمَثِّلُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْحُكَّامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَأَقَارِبُهُمَا، فَإِنْ قَامَ بِهِ الزَّوْجَانِ أَوْ ذَوُو الْقُرْبَى أَوِ الْجِيرَانُ فَذَاكَ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ أَمْرُهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَى فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمَا بِذَلِكَ،
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجِيهٌ، فَالْأَوَّلُ يُكَلِّفُ الْحُكَّامَ مُلَاحَظَةَ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ وَالِاجْتِهَادَ فِي إِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ، وَالثَّانِي يُكَلِّفُ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُلَاحِظَ بَعْضُهُمْ
64
شِئُونَ بَعْضٍ، وَيُعِينَهُ عَلَى مَا تَحْسُنُ بِهِ حَالُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَظِيفَةِ الْحَكَمَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ لَا يَحْكُمَانِ إِلَّا بِمَا وُكِّلَا بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ (وَذَكَرَ مَذْهَبَ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِالِاخْتِصَارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا آنِفًا)، وَقَوْلُهُ: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَلَّا يَدَّخِرَا وُسْعًا فِي الْإِصْلَاحِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ صَحَّتْ إِرَادَتُهُمَا فَالتَّوْفِيقُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْعِنَايَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِحْكَامِ نِظَامِ الْبُيُوتِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَانْظُرُوا كَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ مُقَابِلَ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ التَّفْرِيقُ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ، لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى لَا يُذَكِّرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ، وَلِيُشْعِرَ النُّفُوسَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا التَّحْكِيمَ وَاجِبٌ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَبَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَاشْتَغَلُوا بِالْخِلَافِ فِيهِ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّ عِنَايَتَنَا بِالدِّينِ صَارَتْ مَحْصُورَةً فِي الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ، وَتَعَصُّبِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، مَعَ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَهَا هُمْ أُولَاءِ قَدْ أَهْمَلُوا هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْجَلِيلَةَ لَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَالْبُيُوتُ يَدِبُّ فِيهَا الْفَسَادُ، فَيَفْتِكُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَيَسْرِي مِنَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ.
إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، أَيْ: إِنَّهُ كَانَ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، عَلِيمًا، بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ، خَبِيرًا بِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبِأَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنِّي لَأَكَادُ أُبْصِرُ الْآيَةَ الْحَكِيمَةَ تُومِئُ بِالِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخِلَافِ يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ مِمَّا يُتَعَذَّرُ تَلَافِيهِ، وَهُوَ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ نَاشِئٌ عَنْ سُوءِ التَّفَاهُمِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، لَا عَنْ تَبَايُنٍ فِي الطِّبَاعِ، أَوْ عَدَاوَةٍ رَاسِخَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ الْخَبِيرَيْنِ بِدَخَائِلِ الزَّوْجَيْنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمَا أَنْ يُمَحِّصَا مَا عَلَقَ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي قُلُوبِهِمَا، مَهْمَا حَسُنَتِ النِّيَّةُ وَصَحَّتِ الْإِرَادَةُ.
إِنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَقْوَى رَابِطَةٍ تَرْبُطُ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهِيَ الصِّلَةُ الَّتِي بِهَا يَشْعُرُ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّهُ شَرِيكُ الْآخَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَادِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ،
حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤَاخَذُ بِالْآخَرِ عَلَى دَقَائِقِ خَطِرَاتِ الْحُبِّ، وَخَفَايَا خَلَجَاتِ الْقَلْبِ، يَسْتَشِفُّهَا مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، أَوْ تُوحِيهَا إِلَيْهِ حَرَكَاتُ الْأَجْفَانِ، أَوْ يَسْتَنْبِطُهَا مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، إِذَا لَمْ تُصَرِّحْ بِهَا شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ، فَهُمَا يَتَغَايَرَانِ فِي أَخْفَى مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيَكْتَفِيَانِ بِشَهَادَةِ الظِّنَّةِ وَالْوَهْمِ عَلَيْهِ، فَيُغْرِيهِمَا ذَلِكَ بِالتَّنَازُعِ فِي كُلِّ مَا يُقَصِّرُ فِيهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا، وَمَا أَكْثَرَهَا، وَأَعْسَرَ التَّوَقِّي مِنْهَا، فَكَثِيرًا مَا يُفْضِي التَّنَازُعُ إِلَى التَّقَاطُعِ، وَالتَّغَايُرُ إِلَى التَّدَابُرِ، فَإِنْ تَعَاتَبَا فَجَدَلٌ وَمِرَاءٌ، لَا اسْتِعْتَابَ وَاسْتِرْضَاءَ، حَتَّى يَحُلَّ الْكُرْهُ وَالْبَغْضَاءُ مَحَلَّ الْحُبِّ وَالْهَنَاءِ، لِذَلِكَ يَصِحُّ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ إِنْ كُنْتَ عَلِيمًا بِالْأَخْلَاقِ وَالطَّبْعِ، خَبِيرًا بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي أَرْسَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ هِيَ الْقَاعِدَةُ الثَّابِتَةُ
إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، أَيْ: إِنَّهُ كَانَ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، عَلِيمًا، بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ، خَبِيرًا بِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبِأَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنِّي لَأَكَادُ أُبْصِرُ الْآيَةَ الْحَكِيمَةَ تُومِئُ بِالِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخِلَافِ يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ مِمَّا يُتَعَذَّرُ تَلَافِيهِ، وَهُوَ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ نَاشِئٌ عَنْ سُوءِ التَّفَاهُمِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، لَا عَنْ تَبَايُنٍ فِي الطِّبَاعِ، أَوْ عَدَاوَةٍ رَاسِخَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ الْخَبِيرَيْنِ بِدَخَائِلِ الزَّوْجَيْنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمَا أَنْ يُمَحِّصَا مَا عَلَقَ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي قُلُوبِهِمَا، مَهْمَا حَسُنَتِ النِّيَّةُ وَصَحَّتِ الْإِرَادَةُ.
إِنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَقْوَى رَابِطَةٍ تَرْبُطُ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهِيَ الصِّلَةُ الَّتِي بِهَا يَشْعُرُ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّهُ شَرِيكُ الْآخَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَادِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ،
حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤَاخَذُ بِالْآخَرِ عَلَى دَقَائِقِ خَطِرَاتِ الْحُبِّ، وَخَفَايَا خَلَجَاتِ الْقَلْبِ، يَسْتَشِفُّهَا مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، أَوْ تُوحِيهَا إِلَيْهِ حَرَكَاتُ الْأَجْفَانِ، أَوْ يَسْتَنْبِطُهَا مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، إِذَا لَمْ تُصَرِّحْ بِهَا شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ، فَهُمَا يَتَغَايَرَانِ فِي أَخْفَى مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيَكْتَفِيَانِ بِشَهَادَةِ الظِّنَّةِ وَالْوَهْمِ عَلَيْهِ، فَيُغْرِيهِمَا ذَلِكَ بِالتَّنَازُعِ فِي كُلِّ مَا يُقَصِّرُ فِيهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا، وَمَا أَكْثَرَهَا، وَأَعْسَرَ التَّوَقِّي مِنْهَا، فَكَثِيرًا مَا يُفْضِي التَّنَازُعُ إِلَى التَّقَاطُعِ، وَالتَّغَايُرُ إِلَى التَّدَابُرِ، فَإِنْ تَعَاتَبَا فَجَدَلٌ وَمِرَاءٌ، لَا اسْتِعْتَابَ وَاسْتِرْضَاءَ، حَتَّى يَحُلَّ الْكُرْهُ وَالْبَغْضَاءُ مَحَلَّ الْحُبِّ وَالْهَنَاءِ، لِذَلِكَ يَصِحُّ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ إِنْ كُنْتَ عَلِيمًا بِالْأَخْلَاقِ وَالطَّبْعِ، خَبِيرًا بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي أَرْسَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ هِيَ الْقَاعِدَةُ الثَّابِتَةُ
فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَجَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ الذِّكْرَى مِنَ الْحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ يُرِيدَانِ إِصْلَاحَ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، كَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهَا وَلَا يَنْسَاهَا جَمِيعُ الْأَزْوَاجِ، تِلْكَ الْحِكْمَةُ هِيَ قَوْلُهُ لِلَّتِي صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا لَا تُحِبُّ زَوْجًا: " إِذَا كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ لَا تُحِبُّ أَحَدَنَا فَلَا تُخْبِرْهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَقَلَّ الْبُيُوتِ مَا بُنِيَ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا يَعِيشُ (أَوْ قَالَ يَتَعَاشَرُ) النَّاسُ بِالْحَسَبِ وَالْإِسْلَامِ، أَيْ: إِنَّ حَسَبَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَشَرَفَهُ إِنَّمَا يُحْفَظُ بِحُسْنِ عِشْرَتِهِ لِلْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ يَأْمُرُهُمَا بِأَنْ يَتَعَاشَرَا بِالْمَعْرُوفِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (٤: ١٩).
قَدِ اهْتَدَى الْإِفْرِنْجُ إِلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَبْحَرَ عِلْمُ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عِنْدَهُمْ، فَرَبَّوْا نِسَاءَهُمْ وَرِجَالَهُمْ عَلَى احْتِرَامِ رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى أَنْ يَجْتَهِدَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَعِيشَا بِالْمَحَبَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْعَدَا بِهَا فَلْيَعِيشَا بِالْحَسَبِ، وَهُوَ تَكْرِيمُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، وَمُرَاعَاتُهُ لِشَرَفِهِ، وَقِيَامُهُ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا عُرْفُ أُمَّتِهِمْ، ثُمَّ يَعْذُرُهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّهُ فَلَا يَذْكُرْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ سَعَادَةَ الْمَحَبَّةِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَالِصَةِ قَلَّمَا تَمَتَّعَ بِهَا زَوْجَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمْنِيَةَ كُلِّ الْأَزْوَاجِ، وَإِنَّمَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا الْمَوَدَّةَ الْعَمَلِيَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ بِإِبَاحَةِ الْمُخَالَطَةِ وَالتَّبَرُّجِ قَدْ أَفْرَطُوا فِي إِرْخَاءِ الْعِنَانِ، حَتَّى صَارَ الْأَزْوَاجُ يَتَسَامَحُونَ فِي السِّفَاحِ، أَوِ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ، وَهَذَانِ يَعْصِمُ مَجْمُوعَ أُمَّتِنَا مِنْهُ الْإِسْلَامُ.
وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا.
قَدِ اهْتَدَى الْإِفْرِنْجُ إِلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَبْحَرَ عِلْمُ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عِنْدَهُمْ، فَرَبَّوْا نِسَاءَهُمْ وَرِجَالَهُمْ عَلَى احْتِرَامِ رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى أَنْ يَجْتَهِدَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَعِيشَا بِالْمَحَبَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْعَدَا بِهَا فَلْيَعِيشَا بِالْحَسَبِ، وَهُوَ تَكْرِيمُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، وَمُرَاعَاتُهُ لِشَرَفِهِ، وَقِيَامُهُ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا عُرْفُ أُمَّتِهِمْ، ثُمَّ يَعْذُرُهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّهُ فَلَا يَذْكُرْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ سَعَادَةَ الْمَحَبَّةِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَالِصَةِ قَلَّمَا تَمَتَّعَ بِهَا زَوْجَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمْنِيَةَ كُلِّ الْأَزْوَاجِ، وَإِنَّمَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا الْمَوَدَّةَ الْعَمَلِيَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ بِإِبَاحَةِ الْمُخَالَطَةِ وَالتَّبَرُّجِ قَدْ أَفْرَطُوا فِي إِرْخَاءِ الْعِنَانِ، حَتَّى صَارَ الْأَزْوَاجُ يَتَسَامَحُونَ فِي السِّفَاحِ، أَوِ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ، وَهَذَانِ يَعْصِمُ مَجْمُوعَ أُمَّتِنَا مِنْهُ الْإِسْلَامُ.
وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا.
66
قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مَا نَصُّهُ: وَلَمَّا كَثُرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْوَصَايَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا نَتِيجَةَ التَّقْوَى (كَذَا) الْعَدْلُ وَالْفَضْلُ وَالتَّرْغِيبُ فِي نُوَالِهِ، وَالتَّرْهِيبُ مِنْ نَكَالِهِ، إِلَى أَنْ خَتَمَ ذَلِكَ بِإِرْشَادِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْمُعَامَلَةِ بِالْحُسْنَى، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِمَا هُوَ فِي الذُّرْوَةِ مِنْ حُسْنِ الْخِتَامِ مِنْ صِفَتَيِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى مَا خَتَمَ بِهِ الْآيَةَ الْآمِرَةَ بِالتَّقْوَى مِنَ الْوَصْفِ بِالرَّقِيبِ، اقْتَضَى ذَلِكَ تَكْرِيرَ التَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى الَّتِي افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالْأَمْرِ بِهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ حَتْمًا فَاتَّقُوهُ، عُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى نَحْوِ: وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ (٤: ٣٢)، أَوْ عَلَى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ (٤: ١)، الْخَلْقُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَلْقِ الْمَبْثُوثِينَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي هِيَ الْإِحْسَانُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَالِقِ، وَأَتْبَعَهَا الْإِحْسَانَ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلَائِقِ، فَقَالَ: وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَخْ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ أَبْعَدُ فِي الْعَطْفِ، وَأَحْسَنُ فِي التَّرْتِيبِ وَالْوَصْفِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَانَ خَاصًّا بِنِظَامِ الْقَرَابَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ،
وَحَالِ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْأُمَّةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْخُصُوصِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَنَا عَلَى بَعْضِ الْحُقُوقِ الْعُمُومِيَّةِ، وَهِيَ الْعِنَايَةُ بِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِنَايَةَ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مِنَ النَّاسِ، فَبَدَأَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى، وَعِبَادَتُهُ مِلَاكُ حِفْظِ الْأَحْكَامِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَهِيَ الْخُضُوعُ لَهُ تَعَالَى، وَتَمْكِينُ هَيْبَتِهِ وَخَشْيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ، وَالْخُشُوعُ لِسُلْطَانِهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُقِيمُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَغَيْرَهَا حَتَّى تَصْلُحَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ النِّيَّةُ عِنْدَنَا تَجْعَلُ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ عِبَادَاتٍ، كَالزَّارِعِ لِيُقِيمَ أَمْرَ بَيْتِهِ وَيَعُولَ مَنْ يُمَوِّنُهُ، وَيُفِيضَ مِنْ فَضْلِ كَسْبِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَيُسَاعِدَ عَلَى الْأَعْمَالِ ذَاتِ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، فَعَمَلُهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ يَجْعَلُ حَرْثَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ فَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَاعْبُدُوا اللهَ خَاصَّةً بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ " الْجَلَالُ "، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ كَمَا قُلْنَا تَشْمَلُ التَّوْحِيدَ وَجَمِيعَ مَا يَمُدُّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ.
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ (قَالَ) : اخْتَلَفَ تَعْبِيرُهُمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَالْإِشْرَاكُ بِاللهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ التَّعْطِيلِ بِالْأَوْلَى، أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ الشِّرْكَ هُوَ الْخُضُوعُ لِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ يُرْجَى صَاحِبُهَا وَيُخْشَى مِنْهُ مَا تَعْجِزُ الْمَخْلُوقَاتُ عَنْ مِثْلِهِ، وَهَذِهِ السُّلْطَةُ لَا تَكُونُ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ، وَلَا يُخْشَى سِوَاهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ عَادَةً ; لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِهِ تَعَالَى فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَهُ يُشْرِكُهُ فِيهِ كَانَ مُؤْمِنًا مُشْرِكًا وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٢: ١٠٦)، وَأَمَّا التَّعْطِيلُ فَهُوَ إِنْكَارُ الْأُلُوهِيَّةِ أَلْبَتَّةَ، أَيْ إِنْكَارُ تِلْكَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ كُلِّ قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ، وَفَوْقَ كُلِّ قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ، فَإِذَا نَهَى تَعَالَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ فِيمَا اسْتَأْثَرَ بِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَانَ خَاصًّا بِنِظَامِ الْقَرَابَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ،
وَحَالِ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْأُمَّةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْخُصُوصِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَنَا عَلَى بَعْضِ الْحُقُوقِ الْعُمُومِيَّةِ، وَهِيَ الْعِنَايَةُ بِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِنَايَةَ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مِنَ النَّاسِ، فَبَدَأَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى، وَعِبَادَتُهُ مِلَاكُ حِفْظِ الْأَحْكَامِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَهِيَ الْخُضُوعُ لَهُ تَعَالَى، وَتَمْكِينُ هَيْبَتِهِ وَخَشْيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ، وَالْخُشُوعُ لِسُلْطَانِهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُقِيمُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَغَيْرَهَا حَتَّى تَصْلُحَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ النِّيَّةُ عِنْدَنَا تَجْعَلُ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ عِبَادَاتٍ، كَالزَّارِعِ لِيُقِيمَ أَمْرَ بَيْتِهِ وَيَعُولَ مَنْ يُمَوِّنُهُ، وَيُفِيضَ مِنْ فَضْلِ كَسْبِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَيُسَاعِدَ عَلَى الْأَعْمَالِ ذَاتِ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، فَعَمَلُهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ يَجْعَلُ حَرْثَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ فَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَاعْبُدُوا اللهَ خَاصَّةً بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ " الْجَلَالُ "، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ كَمَا قُلْنَا تَشْمَلُ التَّوْحِيدَ وَجَمِيعَ مَا يَمُدُّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ.
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ (قَالَ) : اخْتَلَفَ تَعْبِيرُهُمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَالْإِشْرَاكُ بِاللهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ التَّعْطِيلِ بِالْأَوْلَى، أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ الشِّرْكَ هُوَ الْخُضُوعُ لِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ يُرْجَى صَاحِبُهَا وَيُخْشَى مِنْهُ مَا تَعْجِزُ الْمَخْلُوقَاتُ عَنْ مِثْلِهِ، وَهَذِهِ السُّلْطَةُ لَا تَكُونُ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ، وَلَا يُخْشَى سِوَاهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ عَادَةً ; لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِهِ تَعَالَى فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَهُ يُشْرِكُهُ فِيهِ كَانَ مُؤْمِنًا مُشْرِكًا وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٢: ١٠٦)، وَأَمَّا التَّعْطِيلُ فَهُوَ إِنْكَارُ الْأُلُوهِيَّةِ أَلْبَتَّةَ، أَيْ إِنْكَارُ تِلْكَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ كُلِّ قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ، وَفَوْقَ كُلِّ قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ، فَإِذَا نَهَى تَعَالَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ فِيمَا اسْتَأْثَرَ بِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ
67
مِنَ الْهِبَاتِ الَّتِي مَنَحَهَا خَلْقَهُ وَعُرِفَتْ مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمْ، فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ إِنْكَارِ وَجُودِهِ وَجَحْدِ أُلُوهِيَّتِهِ يَكُونُ أَوْلَى.
قَالَ: وَالْإِشْرَاكُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ بَعْضُ ضُرُوبِهِ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ بِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، يُقَرِّبُونَ الْمُتَوَسِّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَيَقْضُونَ الْحَاجَاتِ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُمْ، وَالْآيَاتُ
فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٠: ١٨)، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣٩: ٣).
وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ، فَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْضُهُمْ عَبَدَ أُمَّهُ السَّيِّدَةَ مَرْيَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَقَالَ اللهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩: ٣١)، وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ: أَنَّهُ كَانُوا يَضَعُونَ لَهُمْ أَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَيَتْبَعُونَهُمْ فِيهَا، وَسَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ، (قَالَ) : فَالشِّرْكُ أَنْوَاعٌ وَضُرُوبٌ، أَدْنَاهَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ الْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَهُ، وَأَشَدُّهَا وَأَقْوَاهَا مَا سَمَّاهُ اللهُ دُعَاءً وَاسْتِشْفَاعًا، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِهِمْ إِلَى اللهِ وَتَوْسِيطُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ تَعَالَى، فَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِهَذَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ، فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، وَأَقْوَى مَظَاهِرِهِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا مَعْنَاهُ أَتَمَّ التَّجَلِّي، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْفَعُ مَعَهُ صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا عِبَادَةٌ أُخْرَى.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ قَدْ فَشَا فِي الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، وَأَوْرَدَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ عَنِ الْمُعْتَقِدِينَ الْغَالِينَ فِي الْبَدَوِيِّ " شَيْخِ الْعَرَبِ " وَ " الدُّسُوقِيِّ " وَغَيْرِهِمَا لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَ الِاعْتِذَارَ لَهُمْ لَزَحْزَحَتِهُمْ عَنْ شِرْكٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ إِلَى شِرْكٍ أَقَلَّ مِنْهُ جَلَاءً وَوُضُوحًا، وَلَكِنَّهُ شِرْكٌ ظَاهِرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ الَّذِي وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ، الَّذِي لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهُ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَمِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُؤْمِنُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُحِبُّ أَنْ يُمْدَحَ عَلَيْهِ أَوْ يَتَلَذَّذَ بِالْمَدْحِ عَلَيْهِ (مَثَلًا).
أَقُولُ: ثُمَّ عَقَّبَ الْأَمْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا تَامًّا لَا تُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ،
يُقَالُ: أَحْسَنَ بِهِ وَأَحْسَنَ لَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِذَا تَعَدَّى الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِمَعْنَى الْعَطْفِ، وَعِنْدِي أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْبَاءِ أَبْلَغُ لِإِشْعَارِهَا بِإِلْصَاقِ الْإِحْسَانِ بِمَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ
قَالَ: وَالْإِشْرَاكُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ بَعْضُ ضُرُوبِهِ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ بِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، يُقَرِّبُونَ الْمُتَوَسِّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَيَقْضُونَ الْحَاجَاتِ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُمْ، وَالْآيَاتُ
فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٠: ١٨)، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣٩: ٣).
وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ، فَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْضُهُمْ عَبَدَ أُمَّهُ السَّيِّدَةَ مَرْيَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَقَالَ اللهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩: ٣١)، وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ: أَنَّهُ كَانُوا يَضَعُونَ لَهُمْ أَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَيَتْبَعُونَهُمْ فِيهَا، وَسَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ، (قَالَ) : فَالشِّرْكُ أَنْوَاعٌ وَضُرُوبٌ، أَدْنَاهَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ الْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَهُ، وَأَشَدُّهَا وَأَقْوَاهَا مَا سَمَّاهُ اللهُ دُعَاءً وَاسْتِشْفَاعًا، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِهِمْ إِلَى اللهِ وَتَوْسِيطُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ تَعَالَى، فَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِهَذَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ، فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، وَأَقْوَى مَظَاهِرِهِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا مَعْنَاهُ أَتَمَّ التَّجَلِّي، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْفَعُ مَعَهُ صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا عِبَادَةٌ أُخْرَى.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ قَدْ فَشَا فِي الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، وَأَوْرَدَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ عَنِ الْمُعْتَقِدِينَ الْغَالِينَ فِي الْبَدَوِيِّ " شَيْخِ الْعَرَبِ " وَ " الدُّسُوقِيِّ " وَغَيْرِهِمَا لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَ الِاعْتِذَارَ لَهُمْ لَزَحْزَحَتِهُمْ عَنْ شِرْكٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ إِلَى شِرْكٍ أَقَلَّ مِنْهُ جَلَاءً وَوُضُوحًا، وَلَكِنَّهُ شِرْكٌ ظَاهِرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ الَّذِي وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ، الَّذِي لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهُ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَمِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُؤْمِنُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُحِبُّ أَنْ يُمْدَحَ عَلَيْهِ أَوْ يَتَلَذَّذَ بِالْمَدْحِ عَلَيْهِ (مَثَلًا).
أَقُولُ: ثُمَّ عَقَّبَ الْأَمْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا تَامًّا لَا تُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ،
يُقَالُ: أَحْسَنَ بِهِ وَأَحْسَنَ لَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِذَا تَعَدَّى الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِمَعْنَى الْعَطْفِ، وَعِنْدِي أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْبَاءِ أَبْلَغُ لِإِشْعَارِهَا بِإِلْصَاقِ الْإِحْسَانِ بِمَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ
68
بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْسِنِ، وَالتَّعْدِيَةُ بِـ " إِلَى " تُشْعِرُ بِطَرَفَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ يَصِلُ الْإِحْسَانُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ.
وَالْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَطَبَقَاتِهِمْ، وَإِنَّ الْعَامِّيَّ الْجَاهِلَ لَيَدْرِي كَيْفَ يُحْسِنُ إِلَى وَالِدَيْهِ وَيُرْضِيهِمَا مَا لَا يَدْرِي الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّدَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ جِمَاعَ الْإِحْسَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَقُومَ بِخِدْمَتِهِمَا وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَخْشُنَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمَا، وَأَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ سَعَتِهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَلْقَاهُمَا إِلَّا عَابِسًا مُقَطِّبًا، أَوْ أَدَّى النَّفَقَةَ الَّتِي يَحْتَاجَانِ إِلَيْهَا، وَهُوَ يُظْهِرُ الْفَاقَةَ وَالْقِلَّةَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُحْسِنًا بِهِمَا، فَالتَّعْلِيمُ الْحَرْفِيُّ لَا يُحَدِّدُ الْإِحْسَانَ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، بَلِ الْعُمْدَةُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمَرْءِ وَإِخْلَاصُ قَلْبِهِ فِي تَحَرِّي ذَلِكَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَحَسَبِ فَهْمِهِ، لِأَكْمَلِ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ التَّفْصِيلِيِّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (١٧: ٢٣ - ٢٥)، فَأَنْتَ تَرَى الرَّبَّ الْعَلِيمَ الْحَكِيمَ الرَّحِيمَ قَدْ قَفَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْبَلِيغَةَ الدَّقِيقَةَ بِبَيَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فِي نَفْسِ الْوَلَدِ مِنْ قَصْدِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَأَنَّ التَّقْصِيرَ مَعَ هَذَا مَرْجُوُّ الْغُفْرَانِ، وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَالْغَزَالِيِّ فِي " الْإِحْيَاءِ "، وَابْنِ حَجَرٍ فِي " الزَّوَاجِرِ ".
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِعُمُومِ الْأَفْرَادِ، أَيْ: لِيُحْسِنْ كُلٌّ لِوَالِدَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ بِمَا بَذَلَا مِنَ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ فِي تَرْبِيَتِهِ بِكُلِّ رَحْمَةٍ وَإِخْلَاصٍ، وَقَدْ بَيَّنَتْ كُتُبُ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مَا لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ حُقُوقِ النَّفَقَةِ، وَبَيَّنَتْ كُتُبُ الدِّينِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ، وَالْمُرَادُ بِكُتُبِ الدِّينِ كُتُبُ آدَابِهِ " كَالْإِحْيَاءِ " لِلْغَزَالِيِّ وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْحُقُوقَ كُلَّهَا آيَتَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ـ وَذَكَرَهُمَا وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِمَا قَلِيلًا.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَاهُنَا مَسْأَلَةً مُهِمَّةً، قَلَّمَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَائِنَا بَيَّنَهَا كَمَا يَنْبَغِي، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْوَالِدَيْنِ يَتَعَذَّرُ إِرْضَاؤُهُمَا بِمَا يَسْتَطِيعُهُ أَوْلَادُهُمَا مِنَ الْإِحْسَانِ، بَلْ يُكَلِّفُونَ الْأَوْلَادَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَمَا أَعْجَبَ حِكْمَةَ اللهِ فِي خَلْقِ هَذَا الْإِنْسَانِ، قَلَّمَا تَجْدُ ذَا سُلْطَةٍ لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ فِي سُلْطَتِهِ حَتَّى الْوَالِدَيْنِ عَلَى أَوْلَادِهِمَا، وَهُمَا اللَّذَانِ آتَاهُمُ الْفَاطِرُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ مَا لَمْ يُؤْتِ سِوَاهُمَا، قَدْ تَظْلِمُ الْأُمُّ وَلَدَهَا قَلِيلًا مَغْلُوبَةً لِبَادِرَةِ الْغَضَبِ، أَوْ طَاعَةً لِمَا يَعْرِضُ مِنْ أَسْبَابِ الْهَوَى، كَأَنْ تَتَزَوَّجَ رَجُلًا تُحِبُّهُ وَهُوَ يَكْرَهُ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَكَأَنْ يَقَعَ التَّغَايُرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ امْرَأَةِ وَلَدِهَا، وَتَرَاهُ شَدِيدَ الْحُبِّ لِامْرَأَتِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُغْضِبَهَا لِأَجْلِ مَرْضَاتِهَا هِيَ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ
وَالْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَطَبَقَاتِهِمْ، وَإِنَّ الْعَامِّيَّ الْجَاهِلَ لَيَدْرِي كَيْفَ يُحْسِنُ إِلَى وَالِدَيْهِ وَيُرْضِيهِمَا مَا لَا يَدْرِي الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّدَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ جِمَاعَ الْإِحْسَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَقُومَ بِخِدْمَتِهِمَا وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَخْشُنَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمَا، وَأَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ سَعَتِهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَلْقَاهُمَا إِلَّا عَابِسًا مُقَطِّبًا، أَوْ أَدَّى النَّفَقَةَ الَّتِي يَحْتَاجَانِ إِلَيْهَا، وَهُوَ يُظْهِرُ الْفَاقَةَ وَالْقِلَّةَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُحْسِنًا بِهِمَا، فَالتَّعْلِيمُ الْحَرْفِيُّ لَا يُحَدِّدُ الْإِحْسَانَ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، بَلِ الْعُمْدَةُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمَرْءِ وَإِخْلَاصُ قَلْبِهِ فِي تَحَرِّي ذَلِكَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَحَسَبِ فَهْمِهِ، لِأَكْمَلِ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ التَّفْصِيلِيِّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (١٧: ٢٣ - ٢٥)، فَأَنْتَ تَرَى الرَّبَّ الْعَلِيمَ الْحَكِيمَ الرَّحِيمَ قَدْ قَفَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْبَلِيغَةَ الدَّقِيقَةَ بِبَيَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فِي نَفْسِ الْوَلَدِ مِنْ قَصْدِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَأَنَّ التَّقْصِيرَ مَعَ هَذَا مَرْجُوُّ الْغُفْرَانِ، وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَالْغَزَالِيِّ فِي " الْإِحْيَاءِ "، وَابْنِ حَجَرٍ فِي " الزَّوَاجِرِ ".
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِعُمُومِ الْأَفْرَادِ، أَيْ: لِيُحْسِنْ كُلٌّ لِوَالِدَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ بِمَا بَذَلَا مِنَ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ فِي تَرْبِيَتِهِ بِكُلِّ رَحْمَةٍ وَإِخْلَاصٍ، وَقَدْ بَيَّنَتْ كُتُبُ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مَا لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ حُقُوقِ النَّفَقَةِ، وَبَيَّنَتْ كُتُبُ الدِّينِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ، وَالْمُرَادُ بِكُتُبِ الدِّينِ كُتُبُ آدَابِهِ " كَالْإِحْيَاءِ " لِلْغَزَالِيِّ وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْحُقُوقَ كُلَّهَا آيَتَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ـ وَذَكَرَهُمَا وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِمَا قَلِيلًا.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَاهُنَا مَسْأَلَةً مُهِمَّةً، قَلَّمَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَائِنَا بَيَّنَهَا كَمَا يَنْبَغِي، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْوَالِدَيْنِ يَتَعَذَّرُ إِرْضَاؤُهُمَا بِمَا يَسْتَطِيعُهُ أَوْلَادُهُمَا مِنَ الْإِحْسَانِ، بَلْ يُكَلِّفُونَ الْأَوْلَادَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَمَا أَعْجَبَ حِكْمَةَ اللهِ فِي خَلْقِ هَذَا الْإِنْسَانِ، قَلَّمَا تَجْدُ ذَا سُلْطَةٍ لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ فِي سُلْطَتِهِ حَتَّى الْوَالِدَيْنِ عَلَى أَوْلَادِهِمَا، وَهُمَا اللَّذَانِ آتَاهُمُ الْفَاطِرُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ مَا لَمْ يُؤْتِ سِوَاهُمَا، قَدْ تَظْلِمُ الْأُمُّ وَلَدَهَا قَلِيلًا مَغْلُوبَةً لِبَادِرَةِ الْغَضَبِ، أَوْ طَاعَةً لِمَا يَعْرِضُ مِنْ أَسْبَابِ الْهَوَى، كَأَنْ تَتَزَوَّجَ رَجُلًا تُحِبُّهُ وَهُوَ يَكْرَهُ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَكَأَنْ يَقَعَ التَّغَايُرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ امْرَأَةِ وَلَدِهَا، وَتَرَاهُ شَدِيدَ الْحُبِّ لِامْرَأَتِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُغْضِبَهَا لِأَجْلِ مَرْضَاتِهَا هِيَ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ
69
قَلَّمَا تَرْضَى الْأُمُّ بِالْعَدْلِ وَتَعْذُرُ وَلَدَهَا فِي خُضُوعِهِ لِسُلْطَانِ الْحُبِّ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، بَلْ تَأْخُذُهَا عِزَّةُ الْوَالِدِيَّةِ، حَتَّى تَسْتَلَّ مِنْ صَدْرِهَا حَنَانَ الْأُمُومَةِ، وَيَطْغَى فِي نَفْسِهَا سُلْطَانُ اسْتِعْلَائِهَا عَلَى وَلَدِهَا، وَلَا يُرْضِيهَا إِلَّا أَنْ يَهْبِطَ مِنْ جَنَّةِ سَعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِأَجْلِهَا، وَرُبَّمَا تَلْتَمِسُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ زَوْجًا أُخْرَى يَنْفِرُ مِنْهَا طَبْعُهُ، وَمَا حِيلَتُهُ وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُ قَلْبُهُ، كَمَا أَنَّهَا تَظْلِمُهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِيَارِ، وَظُلْمُ الْآبَاءِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ الْأُمَّهَاتِ، وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَيَا وَيْحَ الْوَلَدِ الَّذِي يُصَابُ بِمِثْلِهِمَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَا جَاهِلَيْنِ بَلِيدَيْنِ يَتَعَذَّرُ إِقْنَاعُهُمَا.
وَلَعَلَّكَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ فِي أَخْبَارِ الْبَشَرِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَغْرَبَ مِنْ تَحَكُّمِ الْوَالِدَيْنِ فِي تَزْوِيجِ الْأَوْلَادِ بِمَنْ يَكْرَهُونَ، أَوْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى تَطْلِيقِ مَنْ يُحِبُّونَ، ثَبَتَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ " أَنَّ الثَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا "، فَلَيْسَ لِأَبِيهَا وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَنْ يَعْقِدُوا لَهَا إِلَّا عَلَى مَنْ تَخْتَارُهُ وَتَرْضَاهُ لِنَفْسِهَا ; لِأَنَّهَا لِمُمَارَسَتِهَا الرِّجَالَ تَعْرِفُ مَصْلَحَتَهَا، وَأَنَّ الْبِكْرَ عَلَى حَيَائِهَا وَغَرَارَتِهَا، وَعَدَمِ اخْتِبَارِهَا وَعِلْمِ مَا يَعْلَمُ الْأَبُ الرَّحِيمُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، يَجِبُ أَنْ تُسْتَأْذَنَ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَيُكْتَفَى مِنْ إِذْنِهَا بَصِمَاتِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تُظْهِرِ الرِّضَى بَلْ صَرَّحَتْ بِعَدَمِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْأَبَ وَلِيٌّ مُجْبَرٌ كَالشَّافِعِيَّةِ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ لِابْنَتِهِ بِدُونِ إِذْنِهَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالْمَهْرِ حَالًا، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا خَفِيَّةٌ، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلِيِّ الْعَاقِدِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَهَذَا قَوْلُهُمْ
فِي الْعَذْرَاءِ الْمُخَدَّرَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ أَبِيهِ بِتَزْوِيجِ نَفْسِهِ إِجْمَاعًا وَلَيْسَ لِأَبِيهِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَتَحَكَّمُ الْوَالِدُ فِي وَلَدِهِ بِمَا لَا يَحْكُمُ بِهِ الشَّرْعُ وَلَا تَرْضَى بِهِ الْفِطْرَةُ؟ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ ظُلْمِ الِاسْتِعْلَاءِ الَّذِي يُوهِمُ الرَّجُلَ أَنَّ ابْنَهُ كَعَبْدِهِ، يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مَعَهُ رَأْيٌ، وَلَا اخْتِيَارٌ فِي أَمْرِهِ، لَا فِي حَاضِرِهِ وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ جَاهِلًا بَلِيدًا، وَالْوَلَدُ عَالِمًا رَشِيدًا، وَعَاقِلًا حَكِيمًا؟ وَالْوَيْلُ كُلَّ الْوَيْلِ لِلْوَلَدِ إِذَا كَانَ وَالِدُهُ الْجَهُولُ الظَّلُومُ غَنِيًّا، وَكَانَ هُوَ مُعْوِزًا فَقِيرًا، فَإِنَّ وَالِدَهُ يَدِلُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِسُلْطَتَيْنِ، وَيُحَارِبُهُ بِسِلَاحَيْنِ، لَا يَهُولَنَّكَ أَيُّهَا السَّعِيدُ بِالْأَبَوَيْنِ الرَّحِيمَيْنِ مَا أَذْكُرُ مِنْ ظُلْمِ بَعْضِ الْوَالِدِينَ الْجَاهِلِينَ الْقُسَاةِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا لَا تَعْلَمُ، إِنِّي لَأَعْرِفُ مَا لَا تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَّهَاتِ اللَّوَاتِي تَحَكَّمْنَ فِي أَمْرِ زَوَاجِ بَنَاتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ تَحَكُّمًا كَانَ سَبَبَ الْمَرَضِ الْقَتَّالِ، وَالدَّاءِ الْعُضَالِ، فَالْمَوْتِ الزُّؤَامِ، ثُمَّ نَدِمْنَ نَدَامَةَ الْكَسْعَى وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ، وَلَعَلَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ تَحَكُّمَ الْآبَاءِ فِي ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَضَرُّ، وَأَدْهَى وَأَمَرُّ، عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ.
وَمِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِ الْوَالِدَيْنِ الْجَاهِلَيْنِ لِلْوَلَدِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ: مَنْعُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِ فِي تَرْقِيَةِ نَفْسِهِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى السَّفَرِ وَالتَّرْحَالِ، وَالْأَمْثِلَةُ
وَلَعَلَّكَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ فِي أَخْبَارِ الْبَشَرِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَغْرَبَ مِنْ تَحَكُّمِ الْوَالِدَيْنِ فِي تَزْوِيجِ الْأَوْلَادِ بِمَنْ يَكْرَهُونَ، أَوْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى تَطْلِيقِ مَنْ يُحِبُّونَ، ثَبَتَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ " أَنَّ الثَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا "، فَلَيْسَ لِأَبِيهَا وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَنْ يَعْقِدُوا لَهَا إِلَّا عَلَى مَنْ تَخْتَارُهُ وَتَرْضَاهُ لِنَفْسِهَا ; لِأَنَّهَا لِمُمَارَسَتِهَا الرِّجَالَ تَعْرِفُ مَصْلَحَتَهَا، وَأَنَّ الْبِكْرَ عَلَى حَيَائِهَا وَغَرَارَتِهَا، وَعَدَمِ اخْتِبَارِهَا وَعِلْمِ مَا يَعْلَمُ الْأَبُ الرَّحِيمُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، يَجِبُ أَنْ تُسْتَأْذَنَ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَيُكْتَفَى مِنْ إِذْنِهَا بَصِمَاتِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تُظْهِرِ الرِّضَى بَلْ صَرَّحَتْ بِعَدَمِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْأَبَ وَلِيٌّ مُجْبَرٌ كَالشَّافِعِيَّةِ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ لِابْنَتِهِ بِدُونِ إِذْنِهَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالْمَهْرِ حَالًا، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا خَفِيَّةٌ، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلِيِّ الْعَاقِدِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَهَذَا قَوْلُهُمْ
فِي الْعَذْرَاءِ الْمُخَدَّرَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ أَبِيهِ بِتَزْوِيجِ نَفْسِهِ إِجْمَاعًا وَلَيْسَ لِأَبِيهِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَتَحَكَّمُ الْوَالِدُ فِي وَلَدِهِ بِمَا لَا يَحْكُمُ بِهِ الشَّرْعُ وَلَا تَرْضَى بِهِ الْفِطْرَةُ؟ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ ظُلْمِ الِاسْتِعْلَاءِ الَّذِي يُوهِمُ الرَّجُلَ أَنَّ ابْنَهُ كَعَبْدِهِ، يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مَعَهُ رَأْيٌ، وَلَا اخْتِيَارٌ فِي أَمْرِهِ، لَا فِي حَاضِرِهِ وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ جَاهِلًا بَلِيدًا، وَالْوَلَدُ عَالِمًا رَشِيدًا، وَعَاقِلًا حَكِيمًا؟ وَالْوَيْلُ كُلَّ الْوَيْلِ لِلْوَلَدِ إِذَا كَانَ وَالِدُهُ الْجَهُولُ الظَّلُومُ غَنِيًّا، وَكَانَ هُوَ مُعْوِزًا فَقِيرًا، فَإِنَّ وَالِدَهُ يَدِلُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِسُلْطَتَيْنِ، وَيُحَارِبُهُ بِسِلَاحَيْنِ، لَا يَهُولَنَّكَ أَيُّهَا السَّعِيدُ بِالْأَبَوَيْنِ الرَّحِيمَيْنِ مَا أَذْكُرُ مِنْ ظُلْمِ بَعْضِ الْوَالِدِينَ الْجَاهِلِينَ الْقُسَاةِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا لَا تَعْلَمُ، إِنِّي لَأَعْرِفُ مَا لَا تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَّهَاتِ اللَّوَاتِي تَحَكَّمْنَ فِي أَمْرِ زَوَاجِ بَنَاتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ تَحَكُّمًا كَانَ سَبَبَ الْمَرَضِ الْقَتَّالِ، وَالدَّاءِ الْعُضَالِ، فَالْمَوْتِ الزُّؤَامِ، ثُمَّ نَدِمْنَ نَدَامَةَ الْكَسْعَى وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ، وَلَعَلَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ تَحَكُّمَ الْآبَاءِ فِي ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَضَرُّ، وَأَدْهَى وَأَمَرُّ، عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ.
وَمِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِ الْوَالِدَيْنِ الْجَاهِلَيْنِ لِلْوَلَدِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ: مَنْعُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِ فِي تَرْقِيَةِ نَفْسِهِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى السَّفَرِ وَالتَّرْحَالِ، وَالْأَمْثِلَةُ
70
وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَوَّلُ مَا خَطَرَ فِي بَالِي مِنْهَا عِنْدَ الْكِتَابَةِ الْآنَ اثْنَانِ: شَابٌّ عَاشِقٌ لِلْعِلْمِ كَانَ أَبُوهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ لِيَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي يَنْفِرُ مِنْهَا لِتَوَجُّهِ اسْتِعْدَادِهِ إِلَى الْعِلْمِ، فَفَرَّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى قُطْرٍ آخَرَ، ثُمَّ إِلَى قُطْرٍ آخَرَ، يَرْكَبُ الْأَهْوَالَ، وَيُصَارِعُ أَنْوَاءَ الْبِحَارِ، وَيُعْجِمُ عُودَ الذُّلِّ وَالضُّرِّ، وَيَذُوقُ طُعُومَ الْجُوعِ وَالْفَقْرِ، وَرَجُلٌ دُعِيَ إِلَى دَارٍ خَيْرٍ مِنْ دَارِهِ، وَقَرَارٍ أَشْرَفَ مِنْ قَرَارِهِ، وَرِزْقٍ أَوْسَعَ مِنْ رِزْقِهِ، فِي عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَمَلٍ فِي الْكَمَالِ أَعْلَى مِنْ سَابِقِ أَمَلِهِ، وَرَجَاءٍ فِي ثَوَابِ اللهِ أَعْظَمَ مِنْ رَجَائِهِ، فَاسْتَشْرَفَتْ لَهُ نَفْسُهُ، وَاطْمَأَنَّ بِهِ قَلْبُهُ، وَلَكِنَّ وَالِدَتَهُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ وَيَقْبَلَ النِّعْمَةَ، لَا حُبًّا فِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُمَارِيَ فِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، وَلَكِنْ حُبًّا فِي نَفْسِهَا، وَإِيثَارًا لِلَذَّتِهَا وَأُنْسِهَا، نَعَمْ إِنَّ الْعَجُوزَ أَلِفَتْ بَيْتَهَا وَمَنْ تُعَاشِرُ فِي بَلَدِهَا مِنَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ، فَآثَرَتْ لَذَّةَ الْبِيئَةِ الدُّنْيَا لِنَفْسِهَا، عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْعُلْيَا لِوَلَدِهَا، وَلَعَلَّهُ لَوِ اخْتَارَ الظَّعْنَ
لَاخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ، وَفَضَّلَتْ فِرَاقَهُ عَلَى صُحْبَتِهِ، وَبُعْدَهُ عَلَى قُرْبِهِ، وَنَبَزَتْهُ بِلَقَبِ الْعَاقِّ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تَتَعَدَّ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ، وَوَافَقَهَا الْجُمْهُورُ الْجَاهِلُ عَلَى ذَلِكَ لِبِنَائِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى الْمُسَلَّمَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَوْلَادَ هُمُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى بِرِّ وَالِدَيْهِمْ، وَأَنَّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَخْتَارَانِ لِوَلَدِهِمَا إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ لَهُ، وَأَنَّهُمَا يَتْرُكَانِ كُلَّ حُظُوظِهِمَا وَرَغَائِبِهِمَا لِأَجْلِهِ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ لِهَذَا أَصْلًا صَحِيحًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الدَّائِمَةِ، أَمَّا الْأُمُّ فَذَلِكَ شَأْنُهَا مَعَ الطِّفْلِ إِلَّا مَا تَأْتِي بِهِ بَوَادِرُ الْغَضَبِ مِنْ لَطْمَةٍ خَفِيفَةٍ تَسْبِقُ بِهَا الْيَدُ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ، أَوْ دَعْوَةٍ ضَعِيفَةٍ تُعَدُّ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَلِسَانُ حَالِهَا يُنْشِدُ:
أَدْعُو عَلَيْهِ وَقَلْبِي... يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا لَا
فَإِذَا كَبِرَ وَصَارَ لَهُ رَأْيٌ غَيْرُ رَأْيِهَا، وَهَوًى غَيْرُ هَوَاهَا ـ وَذَلِكَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ـ تَغَيَّرَ شَأْنُهَا مَعَهُ، وَهِيَ أَشَدُّ النَّاسِ حُبًّا لَهُ، فَلَا تُرَجِّحُ رَأْيَهُ وَهَوَاهُ فِي كُلِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، بَلْ لَا تَعْذُرُهُ أَيْضًا فِي كُلِّ مَا يَتْبَعُ فِيهِ وُجْدَانَهُ، وَيُرَجِّحُ فِيهِ اسْتِقْلَالَهُ، وَأَمَّا الْأَبُ فَهُوَ عَلَى فَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِأَمْرِ وَلَدِهِ أَضْعَفُ مِنَ الْأُمِّ حُبًّا وَرَحْمَةً وَإِيثَارًا، وَأَشَدُّ اسْتِنْكَارًا لِاسْتِقْلَالِ وَلَدِهِ دُونَهُ وَاسْتِكْبَارًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْسُو عَلَيْهِ وَيُؤْذِيهِ، وَيَشْمَتُ بِهِ وَيَحْرِمُهُ مِنْ مَالِهِ وَيُؤْثِرُ الْأَجَانِبَ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ الْغَنِيِّ مَعَ وَلَدِهِ الْمُحْتَاجِ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٩٦: ٦، ٧)، وَإِنَّ طُغْيَانَهُ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْفَضْلِ وَالِاسْتِعْلَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لِيَنْتَحِلُّ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَتَسَلَّقُ بِغُرُورِهِ إِلَى ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ: وَقَدْ كُنْتُ أُنْكِرُ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ قَوْلَهُ:
لَاخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ، وَفَضَّلَتْ فِرَاقَهُ عَلَى صُحْبَتِهِ، وَبُعْدَهُ عَلَى قُرْبِهِ، وَنَبَزَتْهُ بِلَقَبِ الْعَاقِّ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تَتَعَدَّ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ، وَوَافَقَهَا الْجُمْهُورُ الْجَاهِلُ عَلَى ذَلِكَ لِبِنَائِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى الْمُسَلَّمَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَوْلَادَ هُمُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى بِرِّ وَالِدَيْهِمْ، وَأَنَّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَخْتَارَانِ لِوَلَدِهِمَا إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ لَهُ، وَأَنَّهُمَا يَتْرُكَانِ كُلَّ حُظُوظِهِمَا وَرَغَائِبِهِمَا لِأَجْلِهِ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ لِهَذَا أَصْلًا صَحِيحًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الدَّائِمَةِ، أَمَّا الْأُمُّ فَذَلِكَ شَأْنُهَا مَعَ الطِّفْلِ إِلَّا مَا تَأْتِي بِهِ بَوَادِرُ الْغَضَبِ مِنْ لَطْمَةٍ خَفِيفَةٍ تَسْبِقُ بِهَا الْيَدُ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ، أَوْ دَعْوَةٍ ضَعِيفَةٍ تُعَدُّ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَلِسَانُ حَالِهَا يُنْشِدُ:
أَدْعُو عَلَيْهِ وَقَلْبِي... يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا لَا
فَإِذَا كَبِرَ وَصَارَ لَهُ رَأْيٌ غَيْرُ رَأْيِهَا، وَهَوًى غَيْرُ هَوَاهَا ـ وَذَلِكَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ـ تَغَيَّرَ شَأْنُهَا مَعَهُ، وَهِيَ أَشَدُّ النَّاسِ حُبًّا لَهُ، فَلَا تُرَجِّحُ رَأْيَهُ وَهَوَاهُ فِي كُلِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، بَلْ لَا تَعْذُرُهُ أَيْضًا فِي كُلِّ مَا يَتْبَعُ فِيهِ وُجْدَانَهُ، وَيُرَجِّحُ فِيهِ اسْتِقْلَالَهُ، وَأَمَّا الْأَبُ فَهُوَ عَلَى فَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِأَمْرِ وَلَدِهِ أَضْعَفُ مِنَ الْأُمِّ حُبًّا وَرَحْمَةً وَإِيثَارًا، وَأَشَدُّ اسْتِنْكَارًا لِاسْتِقْلَالِ وَلَدِهِ دُونَهُ وَاسْتِكْبَارًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْسُو عَلَيْهِ وَيُؤْذِيهِ، وَيَشْمَتُ بِهِ وَيَحْرِمُهُ مِنْ مَالِهِ وَيُؤْثِرُ الْأَجَانِبَ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ الْغَنِيِّ مَعَ وَلَدِهِ الْمُحْتَاجِ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٩٦: ٦، ٧)، وَإِنَّ طُغْيَانَهُ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْفَضْلِ وَالِاسْتِعْلَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لِيَنْتَحِلُّ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَتَسَلَّقُ بِغُرُورِهِ إِلَى ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ: وَقَدْ كُنْتُ أُنْكِرُ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ قَوْلَهُ: