تفسير سورة النساء

تفسير المنار
تفسير سورة سورة النساء من كتاب تفسير المنار المعروف بـتفسير المنار .
لمؤلفه محمد رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: افْتَتَحَ - سُبْحَانَهُ - السُّورَةَ بِتَذْكِيرِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ هَذَا تَمْهِيدًا وَبَرَاعَةَ مَطْلَعٍ لِمَا فِي السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْقَرَابَةِ بِالنَّسَبِ، وَالْمُصَاهَرَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَنْكِحَةِ، وَالْمَوَارِيثِ، فَبَيَّنَ الْقَرَابَةَ الْعَامَّةَ بِالْإِجْمَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَرْحَامَ، وَشَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا.
وَسُمِّيَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِنَّ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خِطَابٌ عَامٌّ لَيْسَ خَاصًّا بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ مَكَّةَ كَمَا فَعَلَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) لَاسِيَّمَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فِيهَا شَكٌّ، هَلْ هِيَ مَدَنِيَّةٌ أَمْ مَكِّيَّةٌ. وَلَفَظُ النَّاسِ اسْمٌ لِجِنْسِ الْبَشَرِ، قِيلَ: أَصْلُهُ " أُنَاسٌ " فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ عِنْدَ إِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ.
أَقُولُ: وَقَدْ عَزَا الرَّازِيُّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مَكَّةَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ -، وَقَالَ: وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَأَيَّدَهُ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: كَوْنِ اللَّامِ فِي النَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَكَوْنِ جَمِيعِهِمْ مَخْلُوقِينَ، وَمَأْمُورِينَ بِالتَّقْوَى. وَأَذْكُرُ أَنَّ أَقْدَمَ عِبَارَةٍ سَمِعْتُهَا فِي التَّفْسِيرِ فَوَعَيْتُهَا وَأَنَا صَغِيرٌ عَنْ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللهُ - هِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَانَ يُنَادِي أَهْلَ مَكَّةَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُنَادِ الْكُفَّارَ بِوَصْفِ الْكُفْرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [٦٦: ٧] وَهَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا يُنَادَوْنَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ كَلِمَةَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَثِيرَةٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَالْأَعْرَافِ، وَيُونُسَ، وَالْحَجِّ، وَالنَّمْلِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَوَرَدَتْ أَيْضًا فِي الْبَقَرَةِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْحُجُرَاتِ مِنَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ، فَخِطَابُ أَهْلِ مَكَّةَ فِيهَا هُوَ الْغَالِبُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعُمُّ غَيْرَهُمْ، وَوُرُودُهَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ
264
يُرَادُ بِهِ خِطَابُ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ابْتِدَاءً، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي فَاتِحَةِ النِّسَاءِ: إِنَّهَا خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، بَلْ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ نَحْوًا مِمَّا رَوَيْنَاهُ آنِفًا عَنِ الْوَالِدِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ النَّاقِلُونَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْخِطَابِ حَتَّى غَلِطَ فِيهِ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَإِنْ حَقَّقَ فِي الْإِتْقَانِ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: اتَّقُوا رَبَّكُمْ قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ كَثِيرًا، وَآخِرُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِتَقْوَى رَبِّ النَّاسِ وَمُغَذِّيهِمْ بِنِعَمِهِ، وَبَيْنَ وَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ الْخَلْقَ أَثَرُ الْقُدْرَةِ، وَمَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَّقَى وَيُحْذَرَ عِصْيَانُهُ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ أَحْكَامِ الْيَتَامَى، وَنَحْوِهَا كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خَافُوا اللهَ، وَاتَّقُوا اعْتِدَاءَ مَا وَضَعَهُ لَكُمْ مِنْ حُدُودِ الْأَعْمَالِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ أَقْرِبَاءُ يَجْمَعُكُمْ نَسَبٌ وَاحِدٌ، وَتَرْجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَعْطِفُوا عَلَى الضَّعِيفِ كَالْيَتِيمِ الَّذِي فَقَدَ وَالِدَهُ، وَتُحَافِظُوا عَلَى حُقُوقِهِ.
أَقُولُ: وَفِي ذِكْرِ لَفْظِ الرَّبِّ هُنَا مَا هُوَ دَاعِيَةٌ لِهَذَا الِاسْتِعْطَافِ، أَيْ رَبُّوا الْيَتِيمَ وَصِلُوا الرَّحِمَ كَمَا رَبَّاكُمْ خَالِقُكُمْ بِنِعَمِهِ وَحَبَاكُمْ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمَ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالظَّاهِرِ، فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ نِدَاءٍ مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، أَوْ قُرَيْشٍ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا جَازَ أَنْ يَفْهَمَ مِنْهُ
بَنُو قُرَيْشٍ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ قُرَيْشٌ أَوْ عَدْنَانُ، وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ عَامَّةً جَازَ أَنْ يَفْهَمُوا مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ يَعْرُبُ أَوْ قَحْطَانُ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ أَهْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَيْ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَفْهَمُ مِنْهُ مَا تَعْتَقِدُهُ، فَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ يَفْهَمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمُ، وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْبَشَرِ أَبًا يَحْمِلُونَ النَّفْسَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ (وَالْأَصْنَافُ الْكُبْرَى هِيَ الْأَبْيَضُ الْقُوقَاسِيُّ، وَالْأَصْفَرُ الْمَغُولِيُّ، وَالْأَسْوَدُ الزِّنْجِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبَعْضُ فُرُوعِ هَذَا تَكَادُ تَكُونُ أُصُولًا كَالْأَحْمَرِ الْحَبَشِيِّ، وَالْهِنْدِيِّ الْأَمِرِيكِيِّ، وَالْمَلَقِيِّ).
قَالَ: وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمَ قَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً بِالتَّنْكِيرِ: وَكَانَ الْمُنَاسِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولَ: وَبَثَّ مِنْهُمَا جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَيْفَ يَنُصُّ عَلَى نَفْسٍ مَعْهُودَةٍ وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ.
وَهَذَا الْعَهْدُ لَيْسَ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْرِفُونَ آدَمَ وَلَا حَوَّاءَ وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِمَا. وَهَذَا النَّسَبُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ مَثَلًا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنِ الْعِبْرَانِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلْبَشَرِ تَارِيخًا مُتَّصِلًا بِآدَمَ، وَحَدَّدُوا لَهُ زَمَنًا قَرِيبًا. وَأَهْلُ الصِّينِ يَنْسِبُونَ الْبَشَرَ إِلَى أَبٍ آخَرَ، وَيَذْهَبُونَ بِتَارِيخِهِ إِلَى زَمَنٍ أَبْعَدَ مِنَ الزَّمَنِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعِبْرَانِيُّونَ. وَالْعِلْمُ وَالْبَحْثُ
265
فِي آثَارِ الْبَشَرِ مِمَّا يَطْعَنُ فِي تَارِيخِ الْعِبْرَانِيِّينَ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نُكَلَّفُ تَصْدِيقَ تَارِيخِ الْيَهُودِ، وَإِنْ عَزَوْهُ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ لَا ثِقَةَ عِنْدِنَا بِأَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُ بَقِيَ كَمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى.
قَالَ: نَحْنُ لَا نَحْتَجُّ عَلَى مَا وَرَاءَ مُدْرَكَاتِ الْحِسِّ، وَالْعَقْلِ إِلَّا بِالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّنَا نَقِفُ عِنْدَ هَذَا الْوَحْيِ لَا نَزِيدُ، وَلَا نَنْقُصُ كَمَا قُلْنَا مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَقَدْ أَبْهَمَ اللهُ - تَعَالَى - هَهُنَا أَمْرَ النَّفْسِ الَّتِي خُلِقَ النَّاسُ مِنْهَا، وَجَاءَ بِهَا نَكِرَةً فَنَدَعُهَا عَلَى إِبْهَامِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ مَا يَقُولُهُ الْبَاحِثُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ أَبًا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَارِدٍ عَلَى كِتَابِنَا كَمَا يَرِدُ عَلَى كِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا حَمَلَ بَاحِثِيهِمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - وَوَحْيِهِ.
وَمَا وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ [٧: ٢٦] لَا يُنَافِي هَذَا، وَلَا يُعَدُّ نَصًّا قَاطِعًا فِي كَوْنِ جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ أَبْنَائِهِ، إِذْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ
مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ آدَمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَهُ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَفْسَدُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ.
وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ: إِذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَرُّوا النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هُنَا بِآدَمَ فَهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ وَلَا مِنْ ظَاهِرِهَا بَلْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [٧: ١٨٩] الْآيَةَ. فَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا ثَلَاثَةَ تَأْوِيلَاتٍ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ عَنِ الْقَفَّالِ، وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ. وَالْمُرَادُ: خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ إلخ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ قُصَيٌّ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ آدَمُ. وَأَجَابَ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِهِ هُوَ وَزَوْجُهُ بِالشِّرْكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَوْجِيهُ كَوْنِ قِصَّةِ آدَمَ نَفْسِهَا مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ الَّذِي حَمَلَ الْقَفَّالُ عَلَيْهِ آيَةَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِيَّةِ، وَالصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ آدَمَ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَنَا آدَمُونَ كَثِيرُونَ، قَالَ فِي رُوحِ الْمَعَانِي: وَذَكَرَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأَخْبَارِ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ خَبَرًا طَوِيلًا نَقَلَ فِيهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ قَبْلَ أَبِينَا آدَمَ ثَلَاثِينَ آدَمَ بَيْنَ كُلِّ آدَمَ، وَآدَمَ أَلْفُ سَنَةٍ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بَقِيَتْ خَرَابًا بَعْدَهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ عُمِّرَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ خُلِقَ أَبُونَا آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَرَوَى ابْنُ بَابَوَيْهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنِ الصَّادِقِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكَ تَرَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ بَشَرًا غَيْرَكُمْ، بَلَى، وَاللهِ لَقَدْ خَلَقَ أَلْفَ أَلْفَ
266
آدَمَ أَنْتُمْ فِي آخِرِ أُولَئِكَ الْآدَمِيِّينَ، وَقَالَ الْمِيثَمُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ لِلنَّهْجِ: وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ أَنَّهُ قَالَ: قَدِ انْقَضَى قَبْلَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَبُونَا أَلْفُ أَلْفِ آدَمَ، أَوْ أَكْثَرُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْأَكْبَرُ - قُدِّسَ سِرُّهُ - فِي فُتُوحَاتِهِ مَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّ قَبْلَ آدَمَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ آدَمَ غَيْرَهُ. وَفِي كِتَابِ الْخَصَائِصِ (لِابْنِ بَابَوَيْهِ كَمَا فِي الْهَامِشِ) مَا يَكَادُ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعَدُّدُ أَيْضًا الْآنَ، حَيْثُ رَوَى فِيهِ عَنِ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ عَالَمٍ، كُلُّ عَالَمٍ مِنْهُمْ أَكْبَرُ مِنْ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعِ
أَرَضِينَ، مَا يَرَى عَالَمٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَالَمًا غَيْرَهُمْ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُقُولٌ أُخْرَى فِي الْفُتُوحَاتِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ الْقَوْلُ بِكُفْرِ مَنْ يَقُولُ بِتَعَدُّدِ آدَمَ. وَهَذَا مِنْ جُرْأَتِهِ، وَجُرْأَةِ أَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَهَجَّمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَوْهَى الشُّبُهَاتِ.
لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ آدَمَ، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْأَبَ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ أَمْ لَا، لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُعَارَضَةِ الْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالتَّارِيخِيَّةِ لَهُ وَمِنْ تَنْكِيرِ مَا بَثَّهُ مِنْهَا، وَمِنْ زَوْجِهَا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْأَخِيرِ بِأَنَّ التَّنْكِيرَ لِمَنْ وُلِدَ مِنْهُمَا مُبَاشَرَةً كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَثَّ مِنْهُمَا كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَبَثَّ مِنْ هَؤُلَاءِ سَائِرَ النَّاسِ، وَعَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ غَيْرَ قَطْعِيٍّ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ أُصُولِيٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرِ هُنَا هَذَا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ، الْبَادِي الْبَشَرَةِ، الْمُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِنْسَانِ، وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ لَا يُرَدُّ عَلَى الْقُرْآنِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ، وَمَنِ اقْتَنَعَ بِقَوْلِهِمْ مِنْ أَنَّ لِلْبَشَرِ عِدَّةَ آبَاءٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ سَلَائِلُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَرُدُّ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تَرِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ آدَمَ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ كُلِّهِمْ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَنْفِي هَذَا الِاعْتِقَادَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ إِثْبَاتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَقَدْ صَرَّحْنَا بِهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ فَهِمَ مِنْ دَرْسِهِ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يُنَافِي هَذَا الِاعْتِقَادَ، أَيِ اعْتِقَادَ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ هَذَا تَصْرِيحًا، وَلَا تَلْوِيحًا، وَإِنَّمَا بَيَّنَ أَنَّ ثُبُوتَ مَا يَقُولُهُ الْبَاحِثُونَ فِي الْعُلُومِ، وَآثَارِ الْبَشَرِ، وَعَادِيَّاتِهِمْ وَالْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَنَّ لِلْبَشَرِ عِدَّةَ أُصُولٍ، وَمِنْ كَوْنِ آدَمَ لَيْسَ أَبًا لَهُمْ كُلِّهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ، وَلَا يُنَاقِضُهُ، وَيُمْكِنُ لِمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا بِالْقُرْآنِ بَلْ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا خَلَا مِنْ نَصٍّ قَاطِعٍ يُؤَيِّدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ الشَّائِعَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ - وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ - جَاءَ فِي ذَلِكَ بِمَا لَمْ تَسْتَطِعِ الْيَهُودُ أَنْ تُعَارِضَهُ مِنْ قَبْلُ بِدَعْوَى مُخَالَفَتِهِ
267
لِكُتُبِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْبَاحِثُونَ أَنْ يُعَارِضُوهُ مِنْ بَعْدُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ. وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يَقُولُ الَّذِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِيمَنْ يُوقِنُ بِدَلَائِلَ قَامَتْ عِنْدَهُ بِأَنَّ الْبَشَرَ مِنْ عِدَّةِ أُصُولٍ؟ هَلْ يَقُولُونَ
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَرْكُ يَقِينِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيمَانُهُ، وَلَا يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ، وَإِنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، وَأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ يُعَارِضُ يَقِينَهُ! ؟
هَذَا وَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ لَفْظِ النَّفْسِ - بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمُسَلَّمَاتِ - أَنَّهَا هِيَ الْمَاهِيَّةُ، أَوِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي كَانَ بِهَا الْإِنْسَانُ هُوَ هَذَا الْكَائِنُ الْمُمْتَازُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، أَيْ خَلَقَكُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ بُدِئَتْ بِآدَمَ - كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ - أَوْ بُدِئَتْ بِغَيْرِهِ وَانْقَرَضُوا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ وَالصُّوفِيَّةِ، أَوْ بُدِئَتْ بِعِدَّةِ أُصُولٍ انْبَثَّ مِنْهَا عِدَّةُ أَصْنَافٍ كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ، وَلَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُصُولُ أَوِ الْأَصْلُ مِمَّا ارْتَقَى عَنْ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ خُلِقَ مُسْتَقِلًّا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [٢٣: ١٢] الْآيَاتِ، وَسَنُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِهَا، أَوْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ مَا يُفِيدُهُ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ كَيْفِيَّةِ تَكْوِينِهِ.
عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكُلُّ قَوْلٍ يَصِحُّ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ هُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ هِيَ الْإِنْسَانِيَّةُ الَّتِي كَانُوا بِهَا نَاسًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَّفِقُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى خَيْرِ النَّاسِ، وَبِرِّهِمْ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ عَلَى كَوْنِهَا هِيَ الْحَقِيقَةُ الْجَامِعَةُ لَهُمْ، فَتَرَاهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِنْسَانِ يَقُولُونَ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَصْنَافِ: إِنَّهُمْ إِخْوَتُنَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَيَعُدُّونَ الْإِنْسَانِيَّةَ مَنَاطَ الْوَحْدَةِ، وَدَاعِيَةَ الْأُلْفَةِ وَالتَّعَاطُفِ بَيْنَ الْبَشَرِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَاهُمْ آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوِ الْقِرْدُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَذْكِيرِ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْكَلَامِ فِي حُقُوقِ الْأَيْتَامِ، وَالْأَرْحَامِ ; وَلَيْسَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا لِبَيَانِ مَسَائِلِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ بِالتَّفْصِيلِ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَنْحَلُّ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْإِشْكَالِ اللَّفْظِيِّ بِأَوْضَحَ مِمَّا حَلُّوهُ بِهِ.
أَمَّا حَقِيقَةُ النَّفْسِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا الْإِنْسَانُ وَتَتَحَقَّقُ وَحْدَةُ جِنْسِهِ عَلَى كَثْرَةِ أَصْنَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا اخْتَلَفَ فِيهَا مَنْ قَبْلَهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
هِيَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهَا بِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ الْحَيَاةُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ هِيَ جَوْهَرٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَادِّيٌّ، وَبَعْضُهُمْ إِنَّهُ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمَادَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْبَدَنِ، وَقِيلَ:
268
جِسْمٌ مُودَعٌ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ فَقِيلَ: هِيَ النَّفْسُ، وَقِيلَ غَيْرُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْوَقْفِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْكَلَامِ فِي حَقِيقَةِ الرُّوحِ، كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ نُقِلَتْ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَالْفَلْسَفَةِ، وَالتَّصَوُّفِ، وَلَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا بِمَذْهَبِهِ فِيهَا، وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْجِسْمِ هُوَ الْحَيَاةُ مَنْقُولٌ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَتْبَاعِهِ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْأَشَاعِرَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الرُّوحَ صُورَةٌ كَالْجَسَدِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَعْرِيفِ الرُّوحِ، وَشَرْحِ حَقِيقَتِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّهُ جِسْمٌ مُخَالِفٌ بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَحْسُوسِ، وَهُوَ جِسْمٌ نُورَانِيٌّ عُلْوِيٌّ خَفِيفٌ حَيٌّ مُتَحَرِّكٌ، يَنْفُذُ فِي جَوْهَرِ الْأَعْضَاءِ، وَيَسْرِي فِيهَا سَرَيَانَ الْمَاءِ فِي الْوَرْدِ، وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي الزَّيْتُونِ، وَالنَّارِ فِي الْفَحْمِ، فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ صَالِحَةً لِقَبُولِ الْآثَارِ الْفَائِضَةِ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْجِسْمِ اللَّطِيفِ مُشَابِكًا لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَفَادَهَا هَذِهِ الْآثَارَ الْفَائِضَةَ عَلَيْهَا مِنَ الْحِسِّ، وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْأَجْزَاءِ الْغَلِيظَةِ عَلَيْهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْآثَارِ فَارَقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ، وَانْفَصَلَ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ. اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ أَقْوَى النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الرُّوحِ، أَوِ النَّفْسِ - وَهُمَا يُطْلَقَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ - هِيَ أَنَّ الْعَقْلَ، وَالْحِفْظَ، وَالذُّكْرَ (بِالضَّمِّ) أَيِ الذَّاكِرَةَ، لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْجَسَدِ، أَوْ أَجْزَاءِ مَاهِيَّتِهِ، وَهِيَ أُمُورٌ ثَابِتَةٌ قَطْعًا، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَنْشَأٍ وُجُودِيٍّ غَيْرِ هَذَا الْجَسَدِ الْكَثِيفِ، حَتَّى إِنَّ الدِّمَاغَ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُهَا تَنْحَلُّ دَقَائِقُهُ حَتَّى يَنْدَثِرَ، وَيَزُولَ، ثُمَّ يَتَجَدَّدَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَتَبْقَى الْمُدْرَكَاتُ مَحْفُوظَةً فِي النَّفْسِ تَفِيضُهَا عَلَى الدِّمَاغِ الْجَدِيدِ بَعْدَ زَوَالِ مَا قَبْلَهُ فَيَتَذَكَّرُهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ عَبَّرَ الْأَقْدَمُونَ عَنْ مَنْشَئِهَا الْوُجُودِيِّ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَطِيفًا خَفِيًّا لِلَطَافَتِهِ بِالنَّفْسِ (بِسُكُونِ الْفَاءِ)، وَبِالرُّوحِ (بِضَمِّ الرَّاءِ) وَهُمَا قَرِيبَا الْمَعْنَى يَدُلَّانِ عَلَى أَلْطَفِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ كُلِّ النَّاسِ، فَالرُّوحُ (بِالضَّمِّ)، وَالرَّوْحُ (بِالْفَتْحِ) الَّذِي هُوَ التَّنَفُّسُ وَاحِدٌ فِي الْأَصْلِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ مَادَّةِ الرِّيحِ، فَإِنَّ
يَاءَ الرِّيحِ وَاوٌ قُلِبَتْ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، فَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ الَّذِي هُوَ مَنْشَأُ الْإِدْرَاكِ وَالْحَيَاةِ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِ أَلْطَفِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُدْرَكَةِ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْوَاضِعُونَ لِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي هِيَ أَلْطَفُ مِنَ الرِّيحِ، وَالنَّفْسِ كَالْأَيْدُرُوجِينِ وَالْكَهْرَبَاءِ لَأَطْلَقُوا لَفْظَهُمَا أَوْ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنْهُمَا عَلَى مَنْشَأِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ، وَسَبَبِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِقِي الْمَرْكَبَاتِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ (التِّرَامِ)، وَغَيْرَهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنِ التَّيَّارِ الْكَهْرَبَائِيِّ الَّذِي تَسِيرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْكَبَاتُ بِالنَّفَسِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ) فَالتَّسْمِيَةُ لَا تُعَيِّنُ حَقِيقَةَ الْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاضِعِينَ تَخَيَّلُوا مَنْشَأَ الْحَيَاةِ شَيْئًا فِي مُنْتَهَى اللَّطَافَةِ، وَالْخَفَاءِ مَعَ قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ
269
وَعِظَمِ آثَارِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَلَاسِفَةُ هُمُ الَّذِينَ بَحَثُوا كَعَادَتِهِمْ عَنْ حَقِيقَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا يَزَالُونَ يَبْحَثُونَ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [١٧: ٨٥] أَيْ إِنَّ قِلَّةَ مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ لَا يُمَكِّنُكُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ، وَأَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنَ الْعِلْمِ أَكْثَرَ مِمَّا أُوتِيَ أُولَئِكَ السَّائِلُونَ جَازَ أَنْ يَعْرِفُوهَا، لَمْ أَرَ مُوَضِّحًا، أَوْ مُقَرِّبًا لِمَعْنَى الرُّوحِ وَالنَّفْسِ فِي الْإِنْسَانِ كَالتَّمْثِيلِ بِالْكَهْرَبَائِيَّةِ، فَالْمَادِّيُّ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ لَا رُوحَ إِلَّا هَذَا الْعَرَضُ الَّذِي يُسَمَّى الْحَيَاةَ، يُشَبِّهُ الْجَسَدَ بِالْبَطَّارِيَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَيَقُولُ: إِنَّهَا بِوَضْعِهَا الْخَاصِّ وَبِمَا يُودَعُ فِيهَا مِنَ الْمَوَادِّ تَتَوَلَّدُ فِيهَا الْكَهْرَبَائِيَّةُ، فَإِذَا زَالَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فُقِدَتْ، وَكَذَلِكَ تَتَوَلَّدُ الْحَيَاةُ فِي الْبَدَنِ بِتَرْكِيبِ مِزَاجِهِ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ وَبِزَوَالِهَا تَزُولُ. وَيَقُولُ الْمُعْتَقِدُ اسْتِقْلَالَ الْأَرْوَاحِ: إِنَّ الْجَسَدَ يُشْبِهُ الْمَرْكَبَةَ الْكَهْرَبَائِيَّةَ، وَشِبْهَهَا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تُدَارُ بِالْكَهْرَبَاءِ، تُوَجَّهُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَعْمَلِ الْمُوَلِّدِ لَهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْآلَةُ عَلَى وَضْعٍ خَاصٍّ فِي أَجْزَائِهَا، وَأَدَوَاتِهَا كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِقَبُولِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَيْهَا، وَأَدَاءِ وَظِيفَتِهَا فِيهَا، وَإِنْ فُقِدَ مِنْهَا بَعْضُ الْأَدَوَاتِ الرَّئِيسِيَّةِ، أَوِ اخْتَلَّ وَضْعُهَا الْخَاصُّ، فَارَقَتْهَا الْكَهْرَبَائِيَّةُ، وَلَمْ تَعُدْ تَعْمَلُ بِهَا.
عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْكَهْرَبَاءَ قُوَّةٌ تَعْرِضُ لِلْمَادَّةِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي ذَاتِهَا، فَصَارُوا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ يُرَجِّحُونَ أَنَّهَا هِيَ أَصْلُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا أَيْ إِنَّهَا مَوْجُودَةٌ
بِذَاتِهَا، وَكُلُّ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى مَوْجُودَةٌ بِهَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الرُّوحِيِّينَ: إِنَّ الرُّوحَ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ الثَّابِتَةُ، وَإِنَّ قِوَامَ الْجَسَدِ بِهَا، فَهِيَ الْحَافِظَةُ لِوُجُودِهِ وَالْمُنَظِّمَةُ لِشُئُونِهِ الْحَيَوِيَّةِ، فَإِذَا فَارَقَتْهُ انْحَلَّ وَعَادَ إِلَى بَسَائِطِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ، وَالظَّوَاهِرِ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ الْجَدِيدُ فِي الْكَهْرَبَائِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ أَهْلِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَرُبَّمَا كَانَ سُلَّمًا مُوَصِّلًا إِلَيْهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْمَبْحَثِ فَنَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ، وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ لِهَذَا الْعَهْدِ فِي مَوْضِعٍ أَلْيَقَ بِهِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا فَمَعْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَظْهَرُ بِطَرِيقِ الِاسْتِخْدَامِ بِحَمْلِ النَّفْسِ عَلَى الْجِنْسِ، وَإِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ بِجَعْلِ الْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ يُنَاسِبُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، أَيْ وَحَّدَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ خَلَقَ لَهَا زَوْجَهَا مِنْ جِنْسِهَا. وَمَعْنَاهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ لِتِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ آدَمُ زَوْجًا مِنْهَا وَهِيَ حَوَّاءُ، قَالُوا: إِنَّهُ خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعِهِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ نَائِمٌ، وَذَلِكَ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ قَارِئِ الْقُرْآنِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَهُوَ: أَنَّ مَعْنَى " خَلَقَ مِنْهَا
270
زَوْجَهَا " خَلَقَهُ مِنْ جِنْسِهَا، فَكَانَ مِثْلَهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١] وَقَوْلُهُ: وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [١٦: ٧٢] وَقَوْلُهُ: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [٤٢: ١١] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [٩: ١٢٨] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [٣: ١٦٤] وَمِثْلُهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةِ الْجُمُعَةِ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ عِبَارَةِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَعِبَارَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، وَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ فَهُوَ غَيْرُ مُلْجَأٍ إِلَى إِلْصَاقِ ذَلِكَ بِالْآيَةِ، وَجَعْلِهِ تَفْسِيرًا لَهَا، وَإِخْرَاجِهَا عَنْ أُسْلُوبِ أَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ.
هَذَا وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهَا الْأُنْثَى ; وَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا حَيْثُ وَرَدَتْ، وَذَكَّرَ زَوْجَهَا الَّذِي خُلِقَ مِنْهَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ، فَقَالَ: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [٧: ١٨٩] وَعَلَيْهِ يَظْهَرُ افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِهَا، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالنِّسَاءِ أَكْثَرُ، وَأَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا هُوَ ثَابِتٌ إِلَى الْيَوْمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِنَ التَّوَالُدِ الْبِكْرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ إِنَاثَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الدُّنْيَا تَلِدُ عِدَّةَ بُطُونٍ بِدُونِ تَلْقِيحٍ مِنَ الذُّكُورِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ تَلْقِيحٌ لِبَعْضِ أُصُولِهَا، وَخَلْقُ زَوْجِهَا مِنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا ذَاتِهَا وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ كَانَتْ جَامِعَةً لِأَعْضَاءِ الذُّكُورَةِ، وَالْأُنُوثَةِ كَالدُّودَةِ الْوَحِيدَةِ، ثُمَّ ارْتَقَتْ، فَصَارَ أَفْرَادُهَا زَوْجَيْنِ، قَالَ بِهَذَا، وَذَاكَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ الْعَصْرِيِّينَ، وَمَحَلُّ تَحْقِيقِهِ تَفْسِيرُ آيَةٍ أُخْرَى.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهَيْنِ فِي عَطْفِ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ أَنْشَأَهَا، وَابْتَدَأَهَا وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى شَعْبُكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا إلخ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَكُمْ قَالَ: وَالْمَعْنَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ آدَمَ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ الْمُفَرَّعِ مِنْهُ، وَخَلَقَ مِنْهَا أُمَّكُمْ حَوَّاءَ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً غَيْرَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْفَائِتَةِ لِلْحَصْرِ. أَقُولُ: وَفِيهِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ وَنِسَاءً كَثِيرًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَكَّرَ " رِجَالًا "، " وَنِسَاءً "، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: كَثِيرًا إِشَارَةً إِلَى كَثْرَةِ الْأَنْوَاعِ، وَإِلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمَا آدَمَ وَحَوَّاءَ بَلْ كُلَّ زَوْجَيْنِ، وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ خَلْقِ الزَّوْجِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ النَّاسِ لَا يَقْتَضِي تَأَخُّرَهُ عَنْهُ فِي الزَّمَنِ ; فَإِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَلَا يُنَافِي كَوْنَ
271
الْكَلَامِ مُرَتَّبًا مُتَنَاسِقًا كَمَا تَطْلُبُ الْبَلَاغَةُ، فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ. يَقُولُ: إِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا إِجْمَالٌ فَصَّلَهُ بِبَيَانِ كَوْنِهِ خَلَقَ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّفْسِ زَوْجًا لَهَا، وَجَعَلَ النَّسْلَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَجَمِيعُ سَلَائِلِ الْبَشَرِ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ زَوْجَيْنِ ذَكَرٍ، وَأُنْثَى اهـ. وَيَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ آيَةُ الزُّمَرِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [٣٩: ٦] وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِمَا يُذْكَرُ فِي مَحَلِّهِ.
وَيَرُدُّ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَرَأْيِ الْجُمْهُورِ أَنَّ بَثَّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَعًا
يُنَافِي كَوْنَهُمْ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيُنَاقِضُهُ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى جَعْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ عِبَارَةً عَنِ الْجِنْسِ، وَالْحَقِيقَةِ الْجَامِعَةِ، فَكَوْنُهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يُنَافِي كَوْنَ هَذَا الْجِنْسِ خُلِقَ زَوْجَيْنِ ذَكَرًا، وَأُنْثَى، وَكَوْنَهُ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، بَلْ وَلَا جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ، عَنِ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَهُوَ كَوْنُ الزَّوْجِ خُلِقَ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّفْسِ خَلْقًا مُسْتَقِلًّا دُونَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الزَّوْجَ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ ذَاتِهَا بِخَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَ، وَنَفْسَ الْأَمْرِ أَنَّ النَّاسَ مَخْلُوقُونَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَهُمَا نَفْسَانِ ثِنْتَانِ سَوَاءٌ خُلِقَتَا مُسْتَقِلَّتَيْنِ، أَوْ خُلِقَتْ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [٤٩: ١٣] الْآيَةَ، وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَسْهَلُ، إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ نَفْسَيْنِ: إِحْدَاهُمَا مَخْلُوقَةٌ مِنَ الْأُخْرَى صَارُوا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِالْعَسِيرِ، فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ فِيهِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ كَلِمَةَ (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّخْلِيقِ وَالْإِيجَادِ وَقَعَ بِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَحَّ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَأَيْضًا فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا أَيْضًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ مِنَ التُّرَابِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِهَا مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَمِثْلُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ قَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ " تَسَاءَلُونَ " بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَأَصْلُهُ: تَتَسَاءَلُونَ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَخْرَجِ، وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَصِيحٌ مَعْهُودٌ عَنِ الْعَرَبِ فِي صِيغَةِ تَتَفَاعَلُونَ.
وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا اللهَ الَّذِي يَسْأَلُ بِهِ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِأَنْ يَقُولَ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَقْضِيَ هَذِهِ الْحَاجَةَ، يَرْجُو بِذَلِكَ إِجَابَةَ سُؤَالِهِ. فَمَعْنَى سُؤَالِهِ بِاللهِ سُؤَالُهُ بِإِيمَانِهِ بِهِ وَتَعْظِيمِهِ إِيَّاهُ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِ، أَيْ أَسْأَلُكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالْأَرْحَامَ فَقَدْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
مَعْطُوفٌ عَلَى الِاسْمِ الْكَرِيمِ، أَيْ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ
272
تَقْطَعُوهَا، أَوِ اتَّقُوا إِضَاعَةَ حَقِّ الْأَرْحَامِ بِأَنْ تَصِلُوهَا، وَلَا تَقْطَعُوهَا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي (بِهِ)، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَجَوَّزَ الْوَاحِدِيُّ نَصْبَهُ بِالْإِغْرَاءِ كَالْقَوْلِ الْمَأْثُورِ عَنْ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) : يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ. أَيِ الْزَمِ الْجَبَلَ وَلُذْ بِهِ. وَالْمَعْنَى: وَاحْفَظُوا الْأَرْحَامَ، وَأَدُّوا حُقُوقَهَا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ بِالْجَرِّ، قِيلَ: إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْجَارِّ، أَيْ وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ، وَقَدْ سُمِعَ عَطْفُ الِاسْمِ الْمُظْهَرِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُمْ:
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ غُوطٌ نَفَانِفُ
وَقَوْلُهُمْ:
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
وَقَدِ اعْتَرَضَ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى حَمْزَةَ فِي قِرَاءَتِهِ هَذِهِ ; لِأَنَّ مَا وَرَدَ قَلِيلًا عَنِ الْعَرَبِ لَا يَعُدُّونَهُ فَصِيحًا، وَلَا يَجْعَلُونَهُ قَاعِدَةً بَلْ يُسَمُّونَهُ شَاذًّا، وَهَذَا مِنَ اصْطِلَاحَاتِهِمْ، وَمِثْلُ هَذِهِ اللُّغَاتِ الَّتِي لَمْ يُنْقَلْ مِنْهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ قَدْ تَكُونُ فَصِيحَةً وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ النُّحَاةَ مَفْتُنُونَ بِقَوَاعِدِهِمْ، وَقَدْ نَبَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي تَحْكِيمِهَا فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا قَوَاعِدَهُمْ حُجَّةً عَلَى عَرَبِيٍّ مَا، وَقَالَ هُنَا: إِنَّ الْأَرْحَامَ إِمَّا مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَإِمَّا مَجْرُورٌ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي (بِهِ) وَهُوَ جَائِزٌ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَقَالَ الرَّازِيُّ هُنَا: وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ النُّحَاةِ أَنَّهُمْ يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ. وَلَا يَسْتَحْسِنُونَ إِثْبَاتَهَا بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَمُجَاهِدٍ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ.
هَذَا، وَإِنَّ الْمُنْكِرِينَ عَلَى حَمْزَةَ جَاهِلُونَ بِالْقِرَاءَاتِ، وَرِوَايَاتِهَا مُتَعَصِّبُونَ لِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ، وَالْكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ مِثْلَ هَذَا الْعَطْفِ مَقِيسًا، وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُمْ هَذَا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَطَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الِانْتِصَارِ لَهُ.
وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَهُ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا مُخِلٌّ بِالْبَلَاغَةِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهِ تَقْرِيرًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ كَمَا يُتَسَاءَلُ بِاللهِ - تَعَالَى -، وَهَذَا مِمَّا
مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذِكْرَ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا مِنْ مَقَامِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى هُنَا ; لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ تَمْهِيدٌ لِحِفْظِ حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ، وَالْتِزَامِ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّورَةُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ أَرْجَعَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ إِلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ بِجَعْلِ نَصْبِ (وَالْأَرْحَامَ) بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ:
273
تَسَاءَلُونَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأُجِيبَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَ مَمْنُوعًا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْحَلِفُ الَّذِي يُعْتَقَدُ وُجُوبُ الْبِرِّ بِهِ لَا مَا قُصِدَ بِهِ مَحْضُ التَّأْكِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي التَّأْكِيدِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ كَالتَّأْكِيدِ بِأَنَّ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ التَّسَاؤُلِ بِالْأَرْحَامِ هُوَ قَسَمًا بِهَا، وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّ السُّؤَالَ بِاللهِ غَيْرُ الْقَسَمِ بِاللهِ، وَالسُّؤَالَ بِالرَّحِمِ غَيْرُ الْحَلِفِ بِهَا. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي حَرَّرَ فِيهَا مَسْأَلَةَ التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ، فَقَالَ، وَأَجَادَ، وَحَقَّقَ كَعَادَتِهِ جَزَاهُ اللهُ عَنْ دِينِهِ، وَنَفْسِهِ خَيْرَ الْجَزَاءِ مَا نَصُّهُ: " وَأَمَّا السُّؤَالُ بِالْمَخْلُوقِ إِذَا كَانَتْ فِيهِ بَاءُ السَّبَبِ (فَهِيَ) لَيْسَتْ بَاءَ الْقَسَمِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ : لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لِأَبَرَّهُ وَقَالَ: رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ، كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ "، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكَذَلِكَ (حَدِيثُ) أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ، وَالْآخَرُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ...
" وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقْسِمُ عَلَى غَيْرِهِ لَيَفْعَلُ كَذَا، فَإِنْ حَنِثَهُ، وَلَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ لَا عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا، وَلَمْ يَفْعَلْهُ، فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ الْحَانِثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، فَهَذَا سُؤَالٌ وَلَيْسَ بِقَسَمٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يُجِبْ إِلَى سُؤَالِهِ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ:
مُؤْمِنُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ، وَقَدْ يُجِيبُ اللهُ دُعَاءَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ اللهَ الرِّزْقَ فَيَرْزُقُهُمْ، وَيَسْقِيهِمْ، وَإِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضُوا، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا.
" وَأَمَّا الَّذِينَ يُقْسِمُونَ عَلَى اللهِ فَيَبَرُّ قَسَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ، فَالسُّؤَالُ كَقَوْلِ السَّائِلِ لِلَّهِ: " أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ "، وَ " أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ " فَهَذَا سُؤَالُ اللهِ - تَعَالَى - بِأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِقْسَامًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَفْعَالَهُ هِيَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، فَمَغْفِرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، وَعَفْوُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْعَفُوِّ.
ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا سُئِلَ الْمَسْئُولُ بِشَيْءٍ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ سُئِلَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْئُولِ،
274
فَإِذَا قَالَ: " أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " كَانَ كَوْنُهُ مَحْمُودًا مَنَّانًا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَمُنَّ عَلَى عَبْدِهِ السَّائِلِ، وَكَوْنُهُ مَحْمُودًا هُوَ يُوجِبُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، وَحَمْدُ الْعَبْدِ لَهُ سَبَبُ إِجَابَةِ دُعَائِهِ ; لِهَذَا أَمَرَ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَقُولَ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، أَيِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ، فَالسَّمَاعُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، وَالْقَبُولِ.
ثُمَّ قَالَ: " وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ لِغَيْرِهِ أَسْأَلُكَ بِاللهِ فَإِنَّمَا سَأَلَهُ بِإِيمَانِهِ بِاللهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُحِبُّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْخَلْقِ لَاسِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ كَفَّ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ، وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي حَضِّ الْفَاعِلِ، فَلَا سَبَبَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِمُسَبِّبِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَلَّمَ الْخَارِجَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: " وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا، وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً، وَلَكِنْ خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سَخَطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ "، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا، فَحَقُّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ، وَحَقُّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ، فَهُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهُمْ، كَمَا يُسْأَلُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [٤٢: ٢٦] وَكَمَا يُسْأَلُ بِوَعْدِهِ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ يَقْتَضِي إِنْجَازَ مَا وَعَدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [٣: ١٩٣] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [٢٣: ١٠٩، ١١٠] وَيُشْبِهُ هَذَا مُنَاشَدَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ يَقُولُ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي وَكَذَلِكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ " أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - غَضِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ مُوسَى يَسْأَلُ رَبَّهُ، وَيَذْكُرُ مَا وَعَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ " فَإِنَّهُ سَأَلَهُ بِسَابِقِ وَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ. وَمِنَ السُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سُؤَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَوْا إِلَى غَارٍ فَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ، وَيَرْضَاهُ مَحَبَّةً تَقْتَضِي إِجَابَةَ صَاحِبِهِ: هَذَا سَأَلَ بِبِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ، وَهَذَا سَأَلَ بِعِفَّتِهِ التَّامَّةِ، وَهَذَا سَأَلَ بِأَمَانَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَقْتَ السَّحَرِ: " اللهُمَّ أَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُكَ، وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُكَ، وَهَذَا سَحَرُ فَاغْفِرْ لِي "، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الصَّفَا: " اللهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ "، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا.
" فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَسْأَلُكَ بِكَذَا نَوْعَانِ، فَإِنَّ الْبَاءَ قَدْ تَكُونُ لِلْقَسَمِ، وَقَدْ تَكُونُ
275
لِلسَّبَبِ، فَقَدْ تَكُونُ قَسَمًا بِهِ عَلَى اللهِ، وَقَدْ تَكُونُ سُؤَالًا بِسَبَبِهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَسَمُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، فَكَيْفَ عَلَى الْخَالِقِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ السُّؤَالُ بِالْمُعَظَّمِ كَالسُّؤَالِ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. فَنَقُولُ: قَوْلُ السَّائِلِ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، وَغَيْرِهِمْ، أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ، أَوْ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ جَاهٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةٌ، وَجَاهٌ، وَحُرْمَةٌ يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ اللهُ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُعَظِّمَ أَقْدَارَهُمْ، وَيَقْبَلَ شَفَاعَتَهُمْ إِذَا شَفَعُوا مَعَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [٢: ٢٥٥] وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُمْ، وَاقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا سُنَّ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهِ كَانَ سَعِيدًا، وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُمُ الَّذِي بَلَّغُوهُ عَنِ اللهِ كَانَ سَعِيدًا، وَلَكِنْ لَيْسَ نَفْسُ مُجَرَّدِ قَدْرِهِمْ، وَجَاهِهِمْ مِمَّا يَقْتَضِي إِجَابَةَ دُعَائِهِ إِذَا سَأَلَ اللهَ بِهِمْ حَتَّى يَسْأَلَ اللهَ بِذَلِكَ، بَلْ جَاهُهُمْ يَنْفَعُهُ إِذَا اتَّبَعَهُمْ،
وَأَطَاعَهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ عَنِ اللهِ، أَوْ تَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا سَنُّوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا إِذَا دَعَوْا لَهُ، وَشَفَعُوا فِيهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دُعَاءٌ، وَلَا شَفَاعَةٌ، وَلَا مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَشْفَعًا بِجَاهِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ بِجَاهِهِمْ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللهِ، بَلْ يَكُونُ قَدْ سَأَلَ بِأَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ سَبَبًا لِنَفْعِهِ، وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِمُطَاعٍ كَبِيرٍ: أَسْأَلُكَ بِطَاعَةِ فُلَانٍ لَكَ وَبِحُبِّكَ لَهُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَبِجَاهِهِ عِنْدَكَ الَّذِي أَوْجَبَتْهُ طَاعَتُهُ لَكَ، كَانَ قَدْ سَأَلَهُ بِأَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ. فَكَذَلِكَ إِحْسَانُ اللهِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ، وَتَعْظِيمُهُ لِأَقْدَارِهِمْ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لَهُ، وَطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ إِجَابَةَ دُعَاءِ مَنْ يَسْأَلُ بِهِمْ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ إِجَابَةَ دُعَائِهِ بِسَبَبٍ مِنْهُ لِطَاعَتِهِ لَهُمْ، أَوْ سَبَبٍ مِنْهُمْ لِشَفَاعَتِهِمْ لَهُ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا وَهَذَا فَلَا سَبَبَ اهـ.
ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْسَامَ عَلَى اللهِ - سُبْحَانَهُ - بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِمَخْلُوقٍ أَصْلًا. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِشَفَاعَةِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَجَائِزٌ. وَالْأَعْمَى كَانَ قَدْ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَمَا طَلَبَ الصَّحَابَةُ مِنْهُ الِاسْتِسْقَاءَ، وَقَوْلُهُ: " أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لِي ; وَلِهَذَا كَانَ تَمَامُ الْحَدِيثِ " اللهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ "، فَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ بِاللهِ وَحْدَهُ
276
لَا بِالرَّحِمِ، وَتَسَاؤُلُهُمْ بِاللهِ - تَعَالَى - يَتَضَمَّنُ إِقْسَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِاللهِ وَتَعَاهُدَهُمْ بِاللهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ قَوْلُهُمْ: أَسْأَلُكَ بِاللهِ وَبِالرَّحِمِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ سُؤَالِهِمْ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى جَوَازِهِ، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَسْأَلُكَ بِالرَّحِمِ لَيْسَ إِقْسَامًا بِالرَّحِمِ، وَالْقَسَمُ هُنَا لَا يَسُوغُ لَكِنْ بِسَبَبِ الرَّحِمِ، أَيْ لِأَنَّ الرَّحِمَ تُوجِبُ لِأَصْحَابِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقًا، كَسُؤَالِ الثَّلَاثَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَكَسُؤَالِنَا بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَفَاعَتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رَوَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ إِذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ جَعْفَرٍ أَعْطَاهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ، فَإِنَّ الْإِقْسَامَ بِغَيْرِ جَعْفَرٍ أَعْظَمُ، بَلْ مِنْ بَابِ حَقِّ
الرَّحِمِ ; لِأَنَّ حَقَّ اللهِ إِنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبِ جَعْفَرٍ، وَجَعْفَرٌ حَقُّهُ عَلَى عَلِيٍّ " اهـ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَرَبَّاكُمْ بِنِعَمِهِ، اتَّقُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا حُدُودَهُ فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ لَكُمْ لِإِصْلَاحِ شَأْنِكُمْ، فَإِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكُنْتُمْ جِنْسًا وَاحِدًا، تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ بِتَعَاوُنِ أَفْرَادِهِ، وَاتِّحَادِهِمْ، وَحِفْظِ بَعْضِهِمْ حُقُوقَ بَعْضٍ. فَتَقْوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهَا شُكْرٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَفِيهَا تَرْقِيَةٌ لِوَحْدَتِكُمُ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَعُرُوجٌ لِلْكَمَالِ فِيهَا. وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ فِي حُقُوقِ الرَّحِمِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ حُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِأَنْ تَصِلُوا الْأَرْحَامَ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِوَصْلِهَا، ، وَتَحْذَرُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ قَطْعِهَا، اتَّقُوهُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي تَقْوَاهُ مِنَ الْخَيْرِ لَكُمُ الَّذِي يُذَكِّرُكُمْ بِهِ تَسَاؤُلُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ، وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْأَعْلَى عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَبِحُقُوقِ الرَّحِمِ، وَمَا فِي هَذَا التَّسَاؤُلِ مِنْ الِاسْتِعْطَافِ، وَالْإِيلَافِ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي هَاتَيْنِ الرَّابِطَتَيْنِ بَيْنَكُمْ: رَابِطَةِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَتَعْظِيمِ اسْمِهِ، وَرَابِطَةِ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ ; فَإِنَّكُمْ إِذَا فَرَّطْتُمْ فِي ذَلِكَ أَفْسَدْتُمْ فِطْرَتَكُمْ، فَتَفْسَدُ الْبُيُوتُ وَالْعَشَائِرُ، وَالشُّعُوبُ، وَالْقَبَائِلُ. إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا أَيْ مُشْرِفًا عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَمَنَاشِئِهَا مِنْ نُفُوسِكُمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَحْوَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُشَرِّعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُصْلِحُ شَأْنَكُمْ وَيَعُدُّكُمْ بِهِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. " الرَّقِيبُ ": وَصْفٌ بِمَعْنَى الرَّاقِبِ مِنْ: رَقَبَهُ إِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، وَمِنْهُ الْمَرْقَبُ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُشْرِفُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا دُونَهُ. وَأُطْلِقَ بِمَعْنَى الْحِفْظِ، لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَبِهِ فَسَّرَهُ هُنَا مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَّرَنَا هُنَا بِمُرَاقَبَتِهِ لَنَا لِتَنْبِيهِنَا إِلَى الْإِخْلَاصِ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ تَذَكَّرَ أَنَّ اللهَ مُشْرِفٌ عَلَيْهِ مُرَاقِبٌ لِأَعْمَالِهِ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَّقِيَهُ، وَيَلْتَزِمَ حُدُودَهُ.
277
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا وَآتُوا: أَعْطُوا، الْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَهُوَ مِنَ النَّاسِ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ السِّنَّ الَّتِي يَسْتَغْنِي فِيهَا عَنْ كَفَالَتِهِ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ مَنْ فَقَدَ أُمَّهُ صَغِيرًا ; لِأَنَّ إِنَاثَ الْحَيَوَانِ هِيَ الَّتِي تَكْفُلُ صِغَارَهَا. وَكُلُّ مُنْفَرِدٍ يَتِيمٌ، وَمِنْهُ الدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ جَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَالَى مَا يَعُدُّونَهُ بِهِ مِقْيَاسًا ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ " يَتِيمٍ " قَدْ جُمِعَ هَذَا الْجَمْعَ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ إِلَى آخِرِ مَا قَالُوا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَيْ لَا تَأْخُذُوا الْخَبِيثَ فَتَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنَ الطَّيِّبِ. يُقَالُ تَبَدَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ. وَاسْتَبْدَلَهُ بِهِ إِذَا أَخَذَ الْأَوَّلَ بَدَلًا مِنَ الثَّانِي الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ، أَوْ فِي شَرَفِ الْحُصُولِ وَمَظِنَّتِهِ، يُسْتَعْمَلَانِ دَائِمًا بِالتَّعَدِّي إِلَى الْمَأْخُوذِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَإِلَى الْمَتْرُوكِ بِالْبَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [٢: ٦١] وَأَمَّا التَّبْدِيلُ فَيُسْتَعْمَلُ بِالْوَجْهَيْنِ. وَالْخَبِيثُ مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخَسَاسَةً مَحْسُوسًا كَانَ أَوْ مَعْقُولًا، مِنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ وَهُوَ صَدَؤُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَأَصْلُهُ الرَّدِيءُ الدُّخْلَةُ الْجَارِي مَجْرَى خَبَثِ الْحَدِيدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِلَ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْكَذِبَ فِي الْمَقَالِ، وَالْقَبِيحَ فِي الْفِعَالِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ. قَالَ: وَأَصْلُ (الطَّيِّبِ) مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ وَمَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ.
أَقُولُ: وَهُوَ كَمُقَابِلِهِ يُوصَفُ بِهِ الشَّخْصُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [٢٤: ٢٦] وَالْأَشْيَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
[٧: ١٥٧] وَقَوْلُهُ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [- ٧: ٥٨] وَالْأَعْمَالُ، وَمِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهَا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْعَمَلَ الْخَبِيثَ بِالْعَمَلِ الطَّيِّبِ أَنْ تَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنْهُ. وَمِنْهُ مَثَلُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ (١٤: ٢٤ - ٢٦). وَ (الْحُوبُ) : الْإِثْمُ، وَمَصْدَرُهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَذَكَرَ الرَّاغِبُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ كَلِمَةُ " حُوبٍ " لِزَجْرِ الْإِبِلِ. قَالَ: وَفُلَانٌ يَتَحَوَّبُ مِنْ كَذَا أَيْ يَتَأَثَّمُ. وَقَوْلُهُمْ: أَلْحَقَ اللهُ بِهِ أَيِ الْمَسْكَنَةَ وَالْحَاجَةَ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ الْحَاجَةُ الَّتِي تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى ارْتِكَابِ الْإِثْمِ، وَالْحَوْبَاءُ قِيلَ: هِيَ النَّفْسُ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ النَّفْسُ الْمُرْتَكِبَةُ لِلْحُوبِ اهـ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) تَفْسِيرُهُ بِالْإِثْمِ وَبِالظُّلْمِ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ الْإِثْمُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْأَعْشَى:
فَإِنِّي وَمَا كَلَّفْتُمُونِي مِنْ أَمْرِكُمْ لِيُعْلَمَ مَنْ أَمْسَى أَعَقَّ وَأَحْوَبَا
وَحَابَ يَحُوبُ حُوبًا وَحَابًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُمَا كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُهُ التَّحَوُّبُ وَهُوَ التَّوَجُّعُ، فَالْحُوبُ: ارْتِكَابُ مَا يُتَوَجَّعُ مِنْهُ. وَتُقسِطُوا تَعْدِلُوا مِنَ الْإِقْسَاطِ، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ، وَيُقَالُ قَسَطَ إِذَا جَارَ. قَالَ - تَعَالَى -: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [٤٩: ٩] وَقَالَ: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [٧٢: ١٥ وَكِلَاهُمَا مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَقَالَ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ] ٧: ٢٩ [وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [٤: ١٣٥] وَالْقِسْطُ فِي الْأَصْلِ: النَّصِيبُ بِالْعَدْلِ. وَقَالُوا: قَسَطَ فُلَانٌ بِوَزْنِ جَلَسَ إِذَا أَخَذَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وَنَصِيبَهُ. وَقَالُوا: أَقْسَطَ إِذَا أَعْطَى غَيْرَهُ قِسْطَهُ وَنَصِيبَهُ. كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَقْسَطَ لِلسَّلْبِ، فَقَسَطَ بِمَعْنَى: عَدَلَ، وَأَقْسَطَ بِمَعْنَى: أَزَالَ الْقِسْطَ فَلَمْ يُقِمْهُ، كَمَا يُقَالُ فِي شَكَا وَأَشْكَى، فَإِنَّ أَشْكَاهُ بِمَعْنَى أَزَالَ شَكْوَاهُ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: كَأَنَّ الْهَمْزَةَ لِلسَّلْبِ.
فَانْكِحُوا مَعْنَاهُ: فَتَزَوَّجُوا، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى مَا يُقْصَدُ مِنَ الْعَقْدِ، وَلَوْ بِدُونِهِ. وَقَوْلُهُ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مَعْنَاهُ: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، فَتِلْكَ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ مَعْدُولَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْمُكَرَّرَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ حَسُنَ اخْتِيَارُ الْأَلْفَاظِ الْمَعْدُولَةِ الدَّالَّةِ عَلَى
الْعَدَدِ الْمُكَرَّرِ، وَكَانَتْ مِنَ الْإِيجَازِ لِيُصِيبَ كُلَّ مَنْ يُرِيدُ الْجَمْعَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُخَاطَبِينَ ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، أَوْ ثَلَاثًا فَقَطْ، أَوْ أَرْبَعًا فَقَطْ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ غَايَةٌ فِي التَّعَدُّدِ بِشَرْطِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا تَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَلَوْ أَفْرَدْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى. أَيْ
279
لَوْ قُلْتَ لِلْجَمْعِ: اقْتَسِمُوا الْمَالَ الْكَثِيرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْكَلَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ دِرْهَمَيْنِ فَقَطْ لَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ.
قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ جَاءَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ دُونَ " أَوْ "؟ قُلْتُ كَمَا جَاءَ بِالْوَاوِ فِي الْمِثَالِ الَّذِي حَذَوْتُهُ لَكَ، وَلَوْ ذَهَبْتَ تَقُولُ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، أَوْ أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهَا فَيَجْعَلُوا بَعْضَ الْقَسْمِ عَلَى تَثْنِيَةٍ وَبَعْضَهُ عَلَى تَثْلِيثٍ، وَبَعْضَهُ عَلَى تَرْبِيعٍ، وَذَهَبَ مَعْنَى تَجْوِيزِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْوَاوُ. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْوَاوَ دَلَّتْ عَلَى إِطْلَاقِ أَنْ يَأْخُذَ النَّاكِحُونَ مَنْ أَرَادُوا نِكَاحَهَا مِنَ النِّسَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ إِنْ شَاءُوا مُخْتَلِفِينَ فِي تِلْكَ الْأَعْدَادِ، وَإِنْ شَاءُوا وَمُتَّفِقِينَ فِيهَا مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهُوَ يَنْقُلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ دَلَالَةِ الْعِبَارَةِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الْوَاحِدِ بَيْنَ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَهُوَ مَجْمُوعُ ٢ و٣ و٤ وَبَعْضٌ آخَرُ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ ١٨ وَهُوَ مَجْمُوعُ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثٍ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٍ أَرْبَعٍ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: وَزِّعْ هَذَا الْمَالَ عَلَى الْفُقَرَاءِ قِرْشَيْنِ قِرْشَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، مَعْنَاهُ أَعْطِ بَعْضَهُمُ اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَبَعْضَهُمْ ثَلَاثَةً فَقَطْ، وَبَعْضَهُمْ أَرْبَعَةً فَقَطْ، وَلِلْمُوَزِّعِ الْخِيَارُ فِي التَّخْصِيصِ، وَلَا يُجَوِّزُ لَهُ هَذَا النَّصُّ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ ٩ قُرُوشٍ، وَلَا ١٨ قِرْشًا. وَاسْتِدْلَالُ بَعْضِهِمْ عَلَى صِحَّةِ مَا قِيلَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَعَقْدِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ ; لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَتَعُولُوا تَجُورُوا، وَأَصْلُ الْعَوْلِ: الْمَيْلُ، يَقُولُونَ: عَالَ الْمِيزَانُ إِذَا مَالَ، وَمِيزَانٌ عَائِلٌ. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ. وَيُرْوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَيُقَالُ عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ: إِذَا مَانَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ أَرَادَ لِئَلَّا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْآيَةِ.
وَصَدُقَاتِهِنَّ جَمْعُ - صَدُقَةٍ بِضَمِّ الدَّالِّ - وَهُوَ الصَّدَاقُ بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا أَيْ مَا تُعْطَى الْمَرْأَةُ مِنْ مَهْرِهَا، وَإِيتَاءُ النِّسَاءِ صَدُقَاتِهِنَّ يَحْتَمِلُ الْمُنَاوَلَةَ بِالْفِعْلِ، وَيَحْتَمِلُ الِالْتِزَامَ وَالتَّخْصِيصَ، يُقَالُ: أَصْدَقَهَا، وَأَمْهَرَهَا بِكَذَا إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ.
وَقَوْلُهُ: نِحْلَةً رُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرُهَا بِالْفَرِيضَةِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ وَالْهِبَةِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَالٌ تَأْخُذُهُ بِلَا عِوَضٍ مَالِيٍّ، وَجَعَلَهَا الرَّاغِبُ مُشْتَقَّةً مِنَ النَّحْلِ كَأَنَّهَا عَطِيَّةٌ كَمَا يَجْنِي النَّحْلُ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُعَارِضُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ فَرْضِيَّةِ الْمَهْرِ، وَعَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهُ بِدُونِ رِضَا الْمَرْأَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قُلْنَا إِنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْأَهْلِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْأَزْوَاجِ
280
وَهُوَ يَتَسَلْسَلُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [٤: ٣٦] الْآيَةَ ; وَلِذَلِكَ افْتَتَحَهَا بِالتَّذْكِيرِ بِالْقَرَابَةِ، وَالْأُخُوَّةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْأُمَّةِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ طَفِقَ يُبَيِّنُ حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ مِنَ النَّاسِ كَالْيَتَامَى، وَالنِّسَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ، وَيَأْمُرُ بِالْتِزَامِهَا، فَقَالَ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَالْيَتِيمُ لُغَةً: مَنْ مَاتَ أَبُوهُ مُطْلَقًا، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَمَتَى بَلَغَ زَالَ يُتْمُهُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ سَفِيهٌ، فَإِنَّهُ يَبْقَى حُكْمُ الْيَتِيمِ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ الْحَجْرُ. وَمَعْنَى إِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ هُوَ جَعْلُهَا لَهُمْ خَاصَّةً، وَعَدَمُ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْبَاطِلِ، أَيْ أَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يَزُولَ يُتْمُهُمْ بِالرُّشْدِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى فَعِنْدَ ذَلِكَ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَا بَقِيَ لَهُمْ بَعْدَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ فِي زَمَنِ الْيُتْمِ وَالْقُصُورِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي إِعْطَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ فِي حَالَتَيِ الْيُتْمِ، وَالرُّشْدِ، كُلُّ حَالَةٍ بِحَسَبِهَا، وَتِلْكَ خَاصَّةٌ بِحَالِ الرُّشْدِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ تَجَوُّزٌ كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ نَفَقَةَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِيتَاءُ مَالٍ لِلْيَتِيمِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ وَجَعْلُهُ خَاصَّةً، وَعَدَمُ هَضْمِ شَيْءٍ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْيَتِيمَ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ الْمُرَادُ بِالْخَبِيثِ: الْحَرَامُ، وَبِالطَّيِّبِ: الْحَلَالُ، أَيْ لَا تَتَمَتَّعُوا بِمَالِ الْيَتِيمِ فِي الْمَوَاضِعِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي مِنْ شَأْنِكُمْ أَنْ تَتَمَتَّعُوا فِيهَا بِأَمْوَالِكُمْ، يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ التَّمَتُّعُ بِمَالِ نَفْسِهِ فِي الطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ،
فَإِذَا عَرَضَ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي هُوَ قَيِّمٌ وَوَصِيٌّ عَلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَمْتَعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَقَدْ جَعَلَ مَالَ الْيَتِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَدَلًا مِنْ مَالِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى التَّبَدُّلِ وَالِاسْتِبْدَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ أَيْ تَأْكُلُوهَا مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلْوَلِيِّ مَالٌ يَضُمُّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَكْلَهُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَضْمُومٍ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ بِالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَقِيلَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ جَوَازُ أَكْلِ الْوَصِيِّ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ.
أَقُولُ: وَمُرَادُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِنَفْيِ التَّجَوُّزِ مِنَ الْآيَةِ يَعُمُّ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَمْوَالِ سَالِمَةً لَهُمْ، وَعَدَمِ اغْتِيَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِيتَائِهِمْ إِيَّاهَا هُوَ تَسْلِيمُهُمْ إِيَّاهَا بَعْدَ الرُّشْدِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْيَتَامَى بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ - كَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ وَكُتُبِ الْأُصُولِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى دَسِّهِ فِي هَذِهِ - وَقِيلَ: أَكْلُ أَمْوَالِهِمْ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى هُوَ خَلْطُهَا بِهَا، وَتَقَدَّمَ حُكْمُ مُخَالَطَتِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ آيَةَ ٢٢٠ مِنْهَا فِي ص٢٧١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢.
281
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَبَدُّلِ الْخَبِيثِ بِالطَّيِّبِ، وَالْأَظْهَرُ فِيهِ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِيمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَخْذِ الْجَيِّدِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَوَضْعِ الرَّدِيءِ بَدَلَهُ، وَأَخْذِ السَّمِينِ مِنْهُ، وَإِعْطَائِهِ الْهَزِيلَ، وَنَسَبَهُ الرَّازِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ، قَالَ: وَطَعَنَ فِيهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لَا تَبَدُّلٌ.
وَعَبَّرَ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّصَرُّفُ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ شَائِعٌ مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [٢: ١٨٨] وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَأْخُذُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا أَيْ إِنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ، أَوْ تَبَدُّلَ الْخَبِيثِ بِالطَّيِّبِ مِنْهُ،
أَوْ مَا ذُكِرَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ - وَكَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ - كَانَ فِي حُكْمِ اللهِ حُوبًا كَبِيرًا أَيْ إِثْمًا عَظِيمًا.
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا هَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ السُّورَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّسَاءِ بِمُنَاسَبَةِ الْيَتَامَى، وَقِيلَ: بِالْيَتَامَى بِأَنْفُسِهِمْ أَصَالَةً، وَأَمْوَالِهِمْ تَبَعًا، وَمَا قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْوَالِ خَاصَّةً. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَالتَّفْسِيرِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ خَالَتَهُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ: " يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا يُشْرِكُهَا فِي مَالِهِ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا، وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ ". قَالَ عُرْوَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: " ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ ; فَأَنْزَلَ اللهُ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [٤: ١٢٧] قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ ".
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ عَنْهَا، قَالَتْ: " أُنْزِلَتْ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْيَتِيمَةُ وَهُوَ وَلِيُّهَا، وَوَارِثُهَا، وَلَهَا مَالٌ، وَلَيْسَ لَهَا أَحَدٌ يُخَاصِمُ دُونَهَا فَلَا يَنْكِحُهَا لِمَالِهَا فَيَضْرِبُهَا، وَيُسِيءُ صُحْبَتَهَا، فَقَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يَقُولُ: خُذْ مَا أَحْلَلْتُ لَكُمْ وَدَعْ هَذِهِ الَّتِي تَضْرِبُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أُخْرَى عَنْهَا فِيمَا يُحَالُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
282
قَالَتْ: " أُنْزِلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ
تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَعْضُلُهَا، فَلَا يَتَزَوَّجُهَا وَلَا يُزَوِّجُهَا غَيْرَهُ ".
أَقُولُ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَسُوقَةً فِي الْأَصْلِ لِلْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ حَقِّ يَتَامَى النِّسَاءِ فِي أَمْوَالِهِنَّ، وَأَنْفُسِهِنَّ، وَالْمُرَادُ بِالْيَتَامَى فِيهَا النِّسَاءُ، وَبِالنِّسَاءِ غَيْرُ الْيَتَامَى، أَيْ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أَيْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي يَتَامَى النِّسَاءِ فَتُعَامِلُوهُنَّ كَمَا تُعَامِلُونَ غَيْرَهُنَّ فِي الْمَهْرِ، وَغَيْرِهِ، أَوْ أَحْسَنَ، فَاتْرُكُوا التَّزَوُّجَ بِهِنَّ، وَتَزَوَّجُوا مَا حَلَّ لَكُمْ، أَوْ مَا رَاقَ لَكُمْ، وَحَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ غَيْرِهِنَّ. قَالَ رَبِيعَةُ: اتْرُكُوهُنَّ، فَقَدْ أَحْلَلْتُ لَكُمْ أَرْبَعًا. أَيْ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِهِنَّ حَتَّى لَا يَظْلِمُوهُنَّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ قَوْلَ عَائِشَةَ بِالْمَعْنَى مُخْتَصَرًا: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِذَا أَرَدْتُمُ التَّزَوُّجَ بِالْيَتِيمَةِ وَخِفْتُمْ أَنْ تُسَهِّلَ عَلَيْكُمُ الزَّوْجِيَّةُ أَنْ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهَا فَاتْرُكُوا التَّزَوُّجَ بِهَا، وَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الرَّشِيدَاتِ.
أَقُولُ: وَالرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَقْوَالِ عَائِشَةَ ظَاهِرٌ وَلَا يَظْهَرُ عَلَى رِوَايَةِ الْعَضْلِ، وَهُوَ مَنْعُهُنَّ مِنَ التَّزَوُّجِ إِلَّا أَنْ كَانُوا يَعْتَذِرُونَ عَنِ الْعَضْلِ بِإِرَادَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ، وَيَمْطُلُونَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَا أَيَّدَهُ بِالرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ حَذَرًا عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى أَنْ يُتْلِفَهَا أَوْلِيَاؤُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَزَوَّجُ الْعَشْرَ مِنَ النِّسَاءِ، وَالْأَكْثَرَ، وَالْأَقَلَّ، فَإِذَا صَارَ مُعْدَمًا مَالَ عَلَى مَالِ يَتِيمِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ فَأَنْفَقَهُ، أَوْ تَزَوَّجَ بِهِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ خِفْتُمْ عَلَى أَمْوَالِ أَيْتَامِكُمْ أَنْ تُنْفِقُوهَا فَلَا تَعْدِلُوا فِيهَا مِنْ أَجْلِ حَاجَتِكُمْ إِلَيْهَا لِمَا يَلْزَمُكُمْ مِنْ مُؤَنِ نِسَائِكُمْ، فَلَا تَجَاوَزُوا فِيمَا تَنْكِحُونَ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَإِنْ خِفْتُمْ أَيْضًا مِنَ الْأَرْبَعِ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ، فَاقْتَصِرُوا عَلَى الْوَاحِدَةِ، أَوْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ثُمَّ رُوِيَ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا، وَيَتَغَايَرُونَ فِي الْكَثْرَةِ، وَيُغِيرُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَتَزَوَّجُ بِمَالِ الْيَتِيمِ مَا شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَصَرَ الرِّجَالَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ أَجْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى.
أَقُولُ: إِنَّ الْإِفْضَاءَ بِذَلِكَ إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى قَدْ جُعِلَ حُجَّةً عَلَى تَقْلِيلِ التَّزَوُّجِ
لِظُهُورِ قُبْحِهِ، وَفِي ذَلِكَ التَّعَدُّدِ مِنَ الْمَضَرَّاتِ الْآنَ مَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْآيَةِ وَجْهًا ثَالِثًا فَقَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَتَحَوَّبُونَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَلَا يَتَحَوَّبُونَ فِي النِّسَاءِ أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِنَّ، فَقِيلَ لَهُمْ كَمَا
283
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الْيَتَامَى، فَكَذَلِكَ فَخَافُوا فِي النِّسَاءِ أَلَّا تَعْدِلُوا فِيهِنَّ، وَلَا تَنْكِحُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ، وَلَا تَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ خِفْتُمْ أَيْضًا أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الزِّيَادَةِ عَنِ الْوَاحِدَةِ فَلَا تَنْكِحُوا إِلَّا مَا لَا تَخَافُونَ أَنْ تَجُورُوا فِيهِنَّ مِنْ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْكِحُونَ عَشْرًا مِنَ النِّسَاءِ الْأَيَامَى، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ شَأْنَ الْيَتِيمِ، فَتَفَقَّدُوا مِنْ دِينِهِمْ شَأْنَ الْيَتِيمِ، وَتَرَكُوا مَا كَانُوا يَنْكِحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (أَيْ لَمْ يَتَفَقَّدُوهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَتَأَثَّمُوا مِمَّا فِيهِ مِنْ ظُلْمِ النِّسَاءِ) فَقَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَنَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَنْكِحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكِحُونَ عَشْرًا مِنَ النِّسَاءِ، وَنِسَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَنَّهُ وَعَظَهُمْ فِي الْيَتَامَى، وَفِي النِّسَاءِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ، وَمُجَاهِدٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ابْنُ جَرِيرٍ) : وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهَا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَكَذَلِكَ فَخَافُوا فِي النِّسَاءِ فَلَا تَنْكِحُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مَا لَا تَخَافُونَ أَنْ تَجُورُوا فِيهِ مِنْهُنَّ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ، فَإِنْ خِفْتُمُ الْجَوْرَ فِي الْوَاحِدَةِ أَيْضًا فَلَا تَنْكِحُوهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلَّا تَجُورُوا عَلَيْهِنَّ.
قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - افْتَتَحَ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَخَلَطَهَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ. ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِنِ اتَّقَوُا اللهَ فِي ذَلِكَ فَتَحَرَّجُوا فِيهِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّقَاءِ اللهِ، وَالتَّحَرُّجِ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِمْ ظَنُّ التَّحَرُّجِ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، وَأَعْلَمَهُمْ كَيْفَ التَّخَلُّصُ لَهُمْ مِنَ الْجَوْرِ فِيهِنَّ كَمَا عَرَّفَهُمُ الْمُخَلِّصَ مِنَ الْجَوْرِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَقَالَ: انْكِحُوا إِنْ أَمِنْتُمُ الْجَوْرَ فِي النِّسَاءِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا أَبَحْتُ لَكُمْ مِنْهُنَّ، وَحَلَّلْتُهُ، مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ إلخ. مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ آنِفًا، ثُمَّ قَالَ:
فَفِي الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَتَعْدِلُوا فِيهَا، فَكَذَلِكَ فَخَافُوا أَلَّا تُقْسِطُوا فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ فَلَا تَتَزَوَّجُوا مِنْهُنَّ إِلَّا مَا أَمِنْتُمْ مَعَهُ الْجَوْرَ إلخ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى هُوَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مَعَ ضَمِيمَةِ قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعْدِلُوا فَإِنَّ هَذَا أَفْهَمُ أَنَّ اللَّازِمَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِقْسَاطُ فِي النِّسَاءِ، وَالتَّحْذِيرُ
284
مِنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ عَدَمُ الْإِقْسَاطِ فِيهِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُخَافَ كَمَا يُخَافُ عَدَمُ الْإِقْسَاطِ فِي الْيَتَامَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ تُغْضِبُ اللهَ، وَتُوجِبُ سَخَطَهُ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِأَوْضَحَ مِمَّا بَيَّنَهُ هُوَ بِهِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ فِي النِّسَاءِ، وَتَقْلِيلُ الْعَدَدِ الَّذِي يُنْكَحُ مِنْهُنَّ مَعَ الثِّقَةِ بِالْعَدْلِ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَسْأَلَةِ فِي ذَاتِهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَتْهُ عَائِشَةُ - وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ - فَمَسْأَلَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ جَاءَتْ بِالتَّبَعِ لَا بِالْأَصَالَةِ. وَكَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ مَنْعُهُمْ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى لِيُنْفِقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمُ الْكَثِيرَاتِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْوُجُوهِ، وَإِنْ قَالَ الرَّازِيُّ إِنَّهُ أَقْرَبُهَا.
وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْمَعَانِي مِنْ قَبِيلِ رَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ مِنْ مَعَانِيهِ، وَاسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا، وَالَّذِي يُقَرِّرُهُ كَاتِبُ هَذَا الْكَلَامِ فِي دُرُوسِ التَّفْسِيرِ
دَائِمًا هُوَ أَنْ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ، وَالْجُمَلِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُرْشِدَةً إِلَى إِبْطَالِ كُلِّ تِلْكَ الضَّلَالَاتِ وَالْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّةُ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، وَأَمْرِ النِّسَاءِ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْيَتَامَى بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالتَّزَوُّجِ بِهِنَّ طَمَعًا فِي أَمْوَالِهِنَّ يَأْكُلُهَا الرَّجُلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ عَضْلِهِنَّ لِيَبْقَى الْوَلِيُّ مُتَمَتِّعًا بِمَا لَهُنَّ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ الزَّوْجُ، وَمَنْ ظَلَمَ النِّسَاءَ بِتَزَوُّجِ الْكَثِيرَاتِ مِنْهُنَّ مَعَ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَهِمَهُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ هُنَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَ ذِكْرُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْيَتَامَى، وَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَلَوْ بِوَاسِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَقَالَ: إِنْ أَحْسَسْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمُ الْخَوْفَ مِنْ أَكْلِ مَالِ الزَّوْجَةِ الْيَتِيمَةِ فَعَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَزَوَّجُوا بِهَا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ لَكُمْ مَنْدُوحَةً عَنِ الْيَتَامَى بِمَا أَبَاحَهُ لَكُمْ مِنَ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِنَّ إِلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَلَكِنْ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، أَوِ الزَّوْجَتَيْنِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَلْتَزِمُوا وَاحِدَةً فَقَطْ، وَالْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ يَصْدُقُ بِالظَّنِّ وَالشَّكِّ فِيهِ، بَلْ يَصْدُقُ بِتَوَهُّمِهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَغْتَفِرُ الْوَهْمَ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو مِنْهُ عِلْمٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَالَّذِي يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً، أَوْ أَكْثَرَ هُوَ الَّذِي يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ، بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ ذَلِكَ، وَيَكُونُ التَّرَدُّدُ فِيهِ ضَعِيفًا.
قَالَ: وَلَمَّا قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا
285
أَيْ أَقْرَبُ مِنْ عَدَمِ الْجَوْرِ، وَالظُّلْمِ، فَجَعَلَ الْبُعْدَ مِنَ الْجَوْرِ سَبَبًا فِي التَّشْرِيعِ وَهَذَا مُؤَكِّدٌ لِاشْتِرَاطِ الْعَدْلِ، وَوُجُوبِ تَحَرِّيهِ، وَمُنَبِّهٌ إِلَى أَنَّ الْعَدْلَ عَزِيزٌ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [٤: ١٢٩] وَقَدْ يُحْمَلُ هَذَا عَلَى الْعَدْلُ فِي مَيْلِ الْقَلْبِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ مُنْتِجًا عَدَمَ جَوَازِ التَّعَدُّدِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَمَا كَانَ يَظْهَرُ وَجْهُ قَوْلِهِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَاللهُ يَغْفِرُ لِلْعَبْدِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ طَاقَتِهِ مِنْ مَيْلِ قَلْبِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمِيلُ فِي آخِرِ عَهْدِهِ إِلَى عَائِشَةَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ نِسَائِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخُصُّهَا بِشَيْءٍ دُونَهُنَّ. أَيْ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ وَإِذْنِهِنَّ، وَكَانَ
يَقُولُ: اللهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ أَيْ مِنْ مَيْلِ الْقَلْبِ.
قَالَ: فَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَتَيْنِ عَلِمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ مُضَيَّقٌ فِيهِ أَشَدَّ التَّضْيِيقِ كَأَنَّهُ ضَرُورَةٌ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُبَاحُ لِمُحْتَاجِهَا بِشَرْطِ الثِّقَةِ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالْأَمْنِ مِنَ الْجَوْرِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ مَعَ هَذَا التَّضْيِيقِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّعَدُّدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَفَاسِدِ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُرَبِّيَ أُمَّةً فَشَا فِيهَا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ زَوْجَتَانِ لِزَوْجٍ وَاحِدٍ لَا تَسْتَقِيمُ لَهُ حَالٌ، وَلَا يَقُومُ فِيهِ نِظَامٌ، بَلْ يَتَعَاوَنُ الرَّجُلُ مَعَ زَوْجَاتِهِ عَلَى إِفْسَادِ الْبَيْتِ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدُوٌّ لِلْآخَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ الْأَوْلَادُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَمَفْسَدَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ تَنْتَقِلُ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَى الْبُيُوتِ، وَمِنَ الْبُيُوتِ إِلَى الْأُمَّةِ.
قَالَ: كَانَ لِلتَّعَدُّدِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَوَائِدُ أَهَمُّهَا صِلَةُ النَّسَبِ، وَالصِّهْرِ الَّذِي تَقْوَى بِهِ الْعَصَبِيَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الضَّرَرِ مِثْلُ مَا لَهُ الْآنَ ; لِأَنَّ الدِّينَ كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي نُفُوسِ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ، وَكَانَ أَذَى الضَّرَّةِ لَا يَتَجَاوَزُ ضَرَّتَهَا. أَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّ الضَّرَرَ يَنْتَقِلُ مِنْ كُلِّ ضَرَّةٍ إِلَى وَلَدِهَا إِلَى وَالِدِهِ إِلَى سَائِرِ أَقَارِبِهِ، فَهِيَ تُغْرِي بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَالْبَغْضَاءَ: تُغْرِي وَلَدَهَا بِعَدَاوَةِ إِخْوَتِهِ، وَتُغْرِي زَوْجَهَا بِهَضْمِ حُقُوقِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ بِحَمَاقَتِهِ يُطِيعُ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، فَيَدِبُّ الْفَسَادُ فِي الْعَائِلَةِ كُلِّهَا، وَلَوْ شِئْتَ تَفْصِيلَ الرَّزَايَا وَالْمَصَائِبِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لَأَتَيْتُ بِمَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الْمُؤْمِنِينَ، فَمِنْهَا: السَّرِقَةُ، وَالزِّنَا، وَالْكَذِبُ، وَالْخِيَانَةُ، وَالْجُبْنُ، وَالتَّزْوِيرُ، بَلْ مِنْهَا الْقَتْلُ، حَتَّى قَتَلَ الْوَلَدُ وَالِدَهُ، وَالْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَالزَّوْجَةُ زَوْجَهَا، وَالزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، كُلُّ ذَلِكَ وَاقِعٌ ثَابِتٌ فِي الْمَحَاكِمِ ; وَنَاهِيكَ بِتَرْبِيَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ قِيمَةَ الزَّوْجِ وَلَا قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَهِيَ جَاهِلَةٌ بِنَفْسِهَا، وَجَاهِلَةٌ بِدِينِهَا، لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إِلَّا خُرَافَاتٍ وَضَلَالَاتٍ تَلَقَّفَتْهَا مِنْ أَمْثَالِهَا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا كُلُّ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَكُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فَلَوْ تَرَبَّى النِّسَاءُ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً صَحِيحَةً يَكُونُ بِهَا الدِّينُ هُوَ صَاحِبَ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى، عَلَى قُلُوبِهِنَّ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَى الْغَيْرَةِ لَمَا كَانَ هُنَالِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ ضَرَرُهُ قَاصِرًا عَلَيْهِنَّ فِي الْغَالِبِ. أَمَّا وَالْأَمْرُ عَلَى مَا نَرَى، وَنَسْمَعُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْبِيَةِ الْأُمَّةِ مَعَ فُشُوِّ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِيهَا،
286
فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا الْحَنَفِيَّةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ بِيَدِهِمُ الْأَمْرُ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمُ
الْحُكْمُ، فَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الدِّينَ أُنْزِلَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَخَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مِنْ أُصُولِهِ مَنْعَ الضَّرَرِ، وَالضِّرَارِ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَى شَيْءٍ مَفْسَدَةٌ فِي زَمَنٍ لَمْ تَكُنْ تَلْحَقُهُ فِيمَا قَبْلَهُ فَشَكَّ فِي وُجُوبِ تَغَيُّرِ الْحُكْمِ، وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ: يَعْنِي عَلَى قَاعِدَةِ (دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ). قَالَ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ.
هَذَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ الْأَوَّلِ الَّذِي فَسَّرَ فِيهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ فِي الدَّرْسِ الثَّانِي: تَقَدَّمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مُضَيَّقَةٌ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهَا مَا يَصْعُبُ تَحَقُّقُهُ فَكَأَنَّهُ نَهَى عَنْ كَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا، أَوْ فَاسِدًا، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ عَارِضَةٌ لَا تَقْتَضِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ، فَقَدْ يَخَافُ الظُّلْمَ، وَلَا يَظْلِمُ، ثُمَّ يَتُوبُ فَيَعْدِلُ فَيَعِيشُ عِيشَةً حَلَالًا.
قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَاحِدَةً أَيْ فَالْزَمُوا زَوْجًا وَاحِدَةً، أَوْ أَمْسِكُوا زَوْجًا وَاحِدَةً مَعَ الْعَدْلِ - وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا كَثِيرَاتٍ - أَوِ الْزَمُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاكْتَفُوا بِالتَّسَرِّي بِهِنَّ بِغَيْرِ شَرْطٍ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْعَوْلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ، فَإِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْفِرَاشِ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذْ لَا حَقَّ لَهُنَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَهُنَّ الْحَقُّ فِي الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ. وَهَذَا لَا يُفِيدُ حِلَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي التَّمَتُّعِ بِالْجَوَارِي الْمَمْلُوكَاتِ بِحَقٍّ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، مَهْمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَمَا شُوهِدَ، وَلَا يَزَالُ يُشَاهَدُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ إِلَى الْآنَ انْتَهَى كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي سَمِعْتُ مِنْهُ أَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الزِّيَادَةِ فِي الْإِمَاءِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عِنْدِي.
أَقُولُ: هَذَا، وَإِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ الطَّبِيعِيِّ فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ يَكُونُ بِهَا كَمَا تَكُونُ بِهِ زَوْجًا، وَلَكِنَّهُ ضَرُورَةٌ تَعْرِضُ لِلِاجْتِمَاعِ، وَلَاسِيَّمَا فِي الْأُمَمِ الْحَرْبِيَّةِ كَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَهُوَ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، وَاشْتُرِطَ فِيهِ عَدَمُ الْجَوْرِ، وَالظُّلْمِ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبَاحِثُ أُخْرَى كَبَحْثِ حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ، وَالْعَدَدِ، وَبَحْثِ إِمْكَانِ مَنْعِ الْحُكَّامِ لِمَفَاسِدِ التَّعَدُّدِ بِالتَّضْيِيقِ فِيهِ إِذَا عَمَّ ضَرَرُهُ كَمَا هِيَ الْحَالُ فِي الْبِلَادِ
الْمِصْرِيَّةِ كَمَا يُقَالُ، فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ يَكْثُرُونَ هُنَا مَا لَا يَكْثُرُونَ فِي بِلَادِ الشَّامِ، وَبِلَادِ التُّرْكِ مَعَ كَوْنِ الْأَخْلَاقِ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْهَا هُنَاكَ فِي الْغَالِبِ. وَلَنَا فِي حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ فَتْوَى نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ هَذَا نَصُّهَا.
287
(حِكْمَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ) (س ٢٠ مِنْ نَجِيبٍ أَفَنْدِي قِنَاوِيٍّ أَحَدِ طَلَبَةِ الطِّبِّ فِي أَمْرِيكَا: يَسْأَلُنِي كَثِيرٌ مِنْ أَطِبَّاءِ الْأَمِرِيكَانِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَيَقُولُونَ: كَيْفَ يَجْمَعُ الْمُسْلِمُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ نِسْوَةٍ؟ فَأَجَبْتُهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَهِمْتُ مِنَ الْآيَةِ مُدَافَعَةً عَنْ دِينِي وَقُلْتُ: إِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّهُ عِنْدَمَا يَتَزَوَّجُ الْجَدِيدَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكْرَهَ الْقَدِيمَةَ، فَكَيْفَ يَعْدِلُ بَيْنَهُمَا، وَاللهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، فَالْأَحْسَنُ وَاحِدَةٌ، هَذَا مَا قُلْتُهُ وَرُبَّمَا أَقْنَعَهُمْ، وَلَكِنْ أُرِيدُ مِنْكُمُ التَّفْسِيرَ وَتَوْضِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا قَوْلُكُمْ فِي الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا؟.
(ج) إِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ يَرَوْنَ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الْأَزْوَاجِ أَكْبَرَ قَادِحٍ فِي الْإِسْلَامِ مُتَأَثِّرِينَ بِعَادَاتِهِمْ، وَتَقْلِيدِهِمُ الدِّينِيِّ، وَغُلُوِّهِمْ فِي تَعْظِيمِ النِّسَاءِ، وَبِمَا يَسْمَعُونَ وَيَعْلَمُونَ عَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ عِدَّةَ زَوْجَاتٍ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ الْحَيَوَانِيِّ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِمَا قَيَّدَ الْقُرْآنُ بِهِ جَوَازَ ذَلِكَ، وَبِمَا يُعْطِيهِ النَّظَرُ مِنْ فَسَادِ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ، وَزَوْجَاتٍ لَهُنَّ أَوْلَادٌ يَتَحَاسَدُونَ، وَيَتَنَازَعُونَ، وَيَتَبَاغَضُونَ. وَلَا يَكْفِي مِثْلُ هَذَا النَّظَرِ لِلْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ كُبْرَى كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ لَا بُدَّ قَبْلَ الْحُكْمِ مِنَ النَّظَرِ فِي طَبِيعَةِ الرَّجُلِ، وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ، وَالْغَرَضِ مِنْهَا، وَفِي عَدَدِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ فِي الْأُمَمِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَعِيشَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ، وَكَفَالَةِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، أَوِ الْعَكْسِ، أَوِ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِنَفْسِهِ، وَفِي تَارِيخِ النُّشُوءِ الْبَشَرِيِّ لِيُعْلَمَ هَلْ كَانَ النَّاسُ فِي طَوْرِ الْبَدَاوَةِ يَكْتَفُونَ بِأَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَنْظُرُ هَلْ جَعَلَ الْقُرْآنُ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَمْرًا دِينِيًّا مَطْلُوبًا، أَمْ رُخْصَةً تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِشُرُوطٍ مُضَيَّقٍ فِيهَا؟
أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ أَعْرَفُ النَّاسِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ طَبِيعَةِ الرَّجُلِ
وَطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ، وَأَهَمِّ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا، وَمِمَّا نَعْلَمُ نَحْنُ بِالْإِجْمَالِ أَنَّ الرَّجُلَ بِطَبِيعَتِهِ أَكْثَرُ طَلَبًا لِلْأُنْثَى مِنْهَا لَهُ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ رَجُلٌ عِنِّينٌ لَا يَطْلُبُ النِّسَاءَ بِطَبِيعَتِهِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَطْلُبْنَ الرِّجَالَ بِطَبِيعَتِهِنَّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُغْرَمَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَحْبُوبَةً مِنَ الرَّجُلِ، وَكَثِيرَةُ التَّفَكُّرِ فِي الْحُظْوَةِ عِنْدَهُ لَوُجِدَ فِي النِّسَاءِ مِنَ الزَّاهِدَاتِ فِي التَّزَوُّجِ أَضْعَافُ مَا يُوجَدُ الْآنَ. وَهَذَا الْغَرَامُ فِي الْمَرْأَةِ هُوَ غَيْرُ الْمَيْلِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ الطَّبِيعِيَّةِ فِيهَا، وَفِي الرَّجُلِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْعَجُوزَ، وَالَّتِي لَا تَرْجُو زَوَاجًا عَلَى التَّزَيُّنِ بِمِثْلِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْعَذْرَاءُ الْمُعَرِّضَةُ، وَالسَّبَبُ عِنْدِي فِي هَذَا مُعْظَمُهُ اجْتِمَاعِيٌّ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي طَبِيعَةِ النِّسَاءِ، وَاعْتِقَادِهِنَّ الْقُرُونَ الطَّوِيلَةَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى حِمَايَةِ الرِّجَالِ، وَكَفَالَتِهِمْ وَكَوْنِ عِنَايَةِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى قَدْرِ حُظْوَتِهَا عِنْدَهُ، وَمَيْلِهِ إِلَيْهَا، أَحَسَّ النِّسَاءُ بِهَذَا فِي الْأَجْيَالِ الْفِطْرِيَّةِ فَعَمَلْنَ لَهُ حَتَّى صَارَ مَلَكَةً مَوْرُوثَةً فِيهِنَّ حَتَّى
288
إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُبْغِضُ الرَّجُلَ، وَيُؤْلِمُهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهَا، وَيَمْتَهِنَهَا، وَإِنَّهُنَّ لَيَأْلَمْنَ أَنْ يَرَيْنَ رَجُلًا - وَلَوْ شَيْخًا كَبِيرًا أَوْ رَاهِبًا مُتَبَتِّلًا - لَا يَمِيلُ إِلَى النِّسَاءِ، وَلَا يَخْضَعُ لِسِحْرِهِنَّ، وَيَسْتَجِيبُ لِرُقْيَتِهِنَّ. وَنَتِيجَةُ هَذَا أَنَّ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِي الرَّجُلِ أَقْوَى مِنْهَا فِي الْمَرْأَةِ، فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ أُولَى.
ثُمَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي مَيْلِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى إِلَى الْآخَرِ الْمَيْلَ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الزَّوَاجِ هِيَ التَّنَاسُلُ الَّذِي يُحْفَظُ بِهِ النَّوْعُ، كَمَا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي شَهْوَةِ التَّغَذِّي هِيَ حِفْظُ الشَّخْصِ. وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِلنَّسْلِ نِصْفَ الْعُمُرِ الطَّبِيعِيِّ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قُوَّةَ الْمَرْأَةِ تَضْعُفُ عَنِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ فِي الْغَالِبِ، فَيَنْقَطِعُ دَمُ حَيْضِهَا وَبُوَيْضَاتُ التَّنَاسُلِ مِنْ رَحِمِهَا، وَالْحِكْمَةُ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالْأَطِبَّاءُ أَعْلَمُ بِتَفْصِيلِهَا، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ نِصْفُ عُمُرِ الرِّجَالِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْأُمَّةِ مُعَطَّلًا مِنَ النَّسْلِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الزَّوَاجِ، إِذَا فُرِضَ أَنَّ الرَّجُلَ يَقْتَرِنُ بِمَنْ تُسَاوِيهِ فِي السِّنِّ، وَقَدْ يَضِيعُ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَاشَ الْعُمُرَ الطَّبِيعِيَّ كَمَا يَضِيعُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَ بِمَنْ هِيَ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَضِيعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عُمُرِهِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ، وَهُوَ فِي سِنِّ الْخَمْسِينَ بِمَنْ هِيَ فِي الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ يَضِيعُ عَلَيْهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَرَضٍ،
أَوْ هَرَمٍ عَاجِلٍ، أَوْ مَوْتٍ قَبْلَ بُلُوغِ السِّنِّ الطَّبِيعِيِّ يَطْرَأُ مِثْلُهُ عَلَى النِّسَاءِ قَبْلَ سِنِّ الْيَأْسِ، وَقَدْ لَاحَظَ هَذَا الْفَرْقَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَالَ: لَوْ تَرَكْنَا رَجُلًا وَاحِدًا مَعَ مِائَةِ امْرَأَةٍ سَنَةً وَاحِدَةً لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِ فِي السَّنَةِ مِائَةُ إِنْسَانٍ، وَأَمَّا إِذَا تَرَكْنَا مِائَةَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةً كَامِلَةً فَأَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِمْ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَا تُنْتِجُ أَحَدًا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ يُفْسِدُ حَرْثَ الْآخَرِ. وَمَنْ لَاحَظَ عِظَمَ شَأْنِ كَثْرَةِ النَّسْلِ فِي سُنَّةِ الطَّبِيعَةِ، وَفِي حَالِ الْأُمَمِ يَظْهَرُ لَهُ عِظَمُ شَأْنِ هَذَا الْفَرْقِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَانِيَةٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَوَالِيدَ مِنَ الْإِنَاثِ أَكْثَرُ مِنَ الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ تَرَى الرِّجَالَ عَلَى كَوْنِهِمْ أَقَلَّ مِنَ النِّسَاءِ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنِ التَّزَوُّجِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلنِّسَاءِ، وَمُعْظَمُ ذَلِكَ فِي الْجُنْدِيَّةِ وَالْحُرُوبِ، وَفِي الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الزَّوَاجِ، وَنَفَقَاتِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي أَصْلِ نِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَفِيمَا جَرَتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ الشُّعُوبِ، وَالْأُمَمِ إِلَّا مَا شَذَّ، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ الْمُسْتَعِدِّ لِلزَّوَاجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ اضْطَرَّتِ الْحَالُ إِلَى تَعْطِيلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ النَّسْلِ الَّذِي تَطْلُبُهُ الطَّبِيعَةُ وَالْأُمَّةُ مِنْهُنَّ وَإِلَى إِلْزَامِهِنَّ مُجَاهَدَةَ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِي طَبِيعَتِهِنَّ، وَذَلِكَ يُحْدِثُ أَمْرَاضًا بَدَنِيَّةً، وَعَقْلِيَّةً كَثِيرَةً يُمْسِي بِهَا أُولَئِكَ الْمِسْكِينَاتُ
289
عَالَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَبَلَاءً فِيهَا بَعْدَ أَنْ كُنَّ نِعْمَةً لَهَا، أَوْ إِلَى إِبَاحَةِ أَعْرَاضِهِنَّ وَالرِّضَا بِالسِّفَاحِ.
وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِنَّ - لَا سِيَّمَا إِذَا كُنَّ فَقِيرَاتٍ - مَا لَا يَرْضَى بِهِ ذُو إِحْسَاسٍ بَشَرِيٍّ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ هَذِهِ الْمَصَائِبَ قَدِ انْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ حَتَّى أَعْيَا النَّاسَ أَمْرُهَا، وَطَفِقَ أَهْلُ الْبَحْثِ يَنْظُرُونَ فِي طَرِيقِ عِلَاجِهَا فَظَهَرَ لِبَعْضِهِمْ أَنَّ الْعِلَاجَ الْوَحِيدَ هُوَ إِبَاحَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ.
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنِ ارْتَأَى هَذَا الرَّأْيَ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ، وَقَدْ نَقَلْنَا ذَلِكَ عَنْهُنَّ فِي مَقَالَةٍ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ (تُرَاجَعُ فِي ص٧٤١ مِنْهُ)، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا عَجِيبًا لِأَنَّ النِّسَاءَ يَنْفِرْنَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ طَبْعًا، وَهُنَّ يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى الشُّعُورِ، وَالْوِجْدَانِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْكُمْنَ بِمُقْتَضَى
الْمَصْلَحَةِ، وَالْبُرْهَانِ، بَلْ إِنَّ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ صَارَتْ مَسْأَلَةً وِجْدَانِيَّةً عِنْدَ رِجَالِ الْإِفْرِنْجِ تَبَعًا لِنِسَائِهِمْ حَتَّى لَا تَجِدَ الْفَيْلَسُوفَ مِنْهُمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبْحَثَ فِي فَوَائِدِهَا، وَفِي وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا بَحْثَ بَرِيءٍ مِنَ الْغَرَضِ - طَالِبٍ كَشْفَ الْحَقِيقَةِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ثَالِثَةٌ.
وَأَنْتَقِلُ بِكَ مِنْ هَذَا إِلَى اكْتِنَاهِ حَالِ الْمَعِيشَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَأُشْرِفُ بِكَ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكَافِلَ لِلْمَرْأَةِ، وَسَيِّدَ الْمَنْزِلِ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ، وَعَقْلِهِ، وَكَوْنِهِ أَقْدَرَ عَلَى الْكَسْبِ، وَالدِّفَاعِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [٤: ٣٤] وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُدَبِّرَةَ الْمَنْزِلِ، وَمُرَبِّيَةَ الْأَوْلَادِ لِرِقَّتِهَا، وَصَبْرِهَا، وَكَوْنِهَا كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ وَاسِطَةً فِي الْإِحْسَاسِ وَالتَّعَقُّلِ بَيْنَ الرَّجُلِ، وَالطِّفْلِ، فَيَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً لِنَقْلِ الطِّفْلِ الذَّكَرِ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلرُّجُولَةِ وَلِجَعْلِ الْبِنْتِ كَمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اللُّطْفِ وَالدَّعَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِعَمَلِهَا الطَّبِيعِيِّ.
وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الْبَيْتَ مَمْلَكَةٌ صُغْرَى كَمَا أَنَّ مَجْمُوعَ الْبُيُوتِ هُوَ الْمَمْلَكَةُ الْكُبْرَى، فَلِلْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ إِدَارَةُ نِظَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ، وَلِلرَّجُلِ مَعَ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ إِدَارَةُ نِظَارَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْأَشْغَالِ الْعُمُومِيَّةِ، وَالْحَرْبِيَّةِ، وَالْخَارِجِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ نِظَامِ الْفِطْرَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَيِّمَةَ الْبَيْتِ، وَعَمَلُهَا مَحْصُورًا فِيهِ لِضَعْفِهَا عَنِ الْعَمَلِ الْآخَرِ بِطَبِيعَتِهَا، وَبِمَا يَعُوقُهَا مِنَ الْحَبَلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَمُدَارَاةِ الْأَطْفَالِ، وَكَانَتْ بِذَلِكَ عَالَةً عَلَى الرَّجُلِ كَانَ مِنَ الشَّطَطِ تَكْلِيفُهَا الْمَعِيشَةَ الِاسْتِقْلَالِيَّةَ بَلْهَ السِّيَادَةَ، وَالْقِيَامَ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَمَاذَا نَعْمَلُ، وَالنِّسَاءُ (قَدْ يَكُنَّ) أَكْثَرَ مِنَ الرِّجَالِ عَدَدًا؟ أَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُبَاحَ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَفَالَةُ عِدَّةِ نِسَاءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِي أَعْقَابِ الْحُرُوبِ الَّتِي تَجْتَاحُ الرِّجَالَ، وَتَدَعُ النِّسَاءَ لَا كَافِلَ لِلْكَثِيرِ مِنْهُنَّ وَلَا نَصِيرَ؟ وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ فِي خَارِجِ الْمَنْزِلِ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى أَعْمَالِهِ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّ الْمَنْزِلَ لَا يَشْمَلُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى مُسَاعَدَةٍ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَعْمَالِهَا الْكَثِيرَةِ كَمَا تَقْضِي قَوَاعِدُ عِلْمِ
290
الِاقْتِصَادِ فِي تَوْزِيعِ الْأَعْمَالِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْ يُسَاعِدُهَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الرِّجَالِ لِمَا فِي ذَلِكَ
مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَمِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ عِدَّةُ نِسَاءٍ مَصْلَحَتُهُنَّ عِمَارَتُهُ - كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ رَابِعَةٌ.
وَإِذَا رَجَعْتَ مَعِي إِلَى الْبَحْثِ فِي تَارِيخِ النُّشُوءِ فِي الزَّوَاجِ، وَالْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ)، أَوْ فِي الِازْدِوَاجِ، وَالْإِنْتَاجِ تَجِدُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكْثَرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَحَلٍّ لِبَيَانِ السَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ فِي ذَلِكَ، بَلْ ثَبَتَ بِالْبَحْثِ أَنَّ الْقَبَائِلَ الْمُتَوَحِّشَةَ كَانَ فِيهَا النِّسَاءُ حَقًّا مُشَاعًا لِلرِّجَالِ بِحَسَبِ التَّرَاضِي، وَكَانَتِ الْأُمُّ هِيَ رَئِيسَةَ الْبَيْتِ إِذِ الْأَبُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فِي الْغَالِبِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ كُلَّمَا ارْتَقَى يَشْعُرُ بِضَرَرِ هَذَا الشُّيُوعِ، وَالِاخْتِلَاطِ، وَيَمِيلُ إِلَى الِاخْتِصَاصِ، فَكَانَ أَوَّلَ اخْتِصَاصٍ فِي الْقَبِيلَةِ أَنْ يَكُونَ نِسَاؤُهَا لِرِجَالِهَا دُونَ رِجَالِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى، وَمَا زَالُوا يَرْتَقُونَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بِعِدَّةِ نِسَاءٍ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ حَسَبَ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ، فَانْتَقَلَ بِهَذَا تَارِيخُ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) إِلَى دَوْرٍ جَدِيدٍ صَارَ فِيهِ الْأَبُ عَمُودَ النَّسَبِ، وَأَسَاسَ الْبَيْتِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ، وَالْإِنْكِلِيزِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُتُبٍ لَهُمْ فِي تَارِيخِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ)، وَمِنْ هُنَا يَذْهَبُ الْإِفْرِنْجُ إِلَى أَنَّ نِهَايَةَ الِارْتِقَاءِ هُوَ أَنْ يُخَصَّ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنْ مَاذَا يَقُولُونَ فِي الْعَوَارِضِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تُلْجِئُ إِلَى أَنْ يَكْفُلَ الرَّجُلُ عِدَّةً مِنَ النِّسَاءِ لِمَصْلَحَتِهِنَّ، وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَلِاسْتِعْدَادِهِ الطَّبِيعِيِّ لِذَلِكَ، وَلِيُخْبِرُونَا هَلْ رَضِيَ الرِّجَالُ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَقَنَعُوا بِالزَّوَاجِ الْفَرْدِيِّ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الْيَوْمِ؟ أَيُوجَدُ فِي أُورُبَّا فِي كُلِّ مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا يَزْنِي؟ كَلَّا. إِنَّ الرَّجُلَ بِمُقْتَضَى طَبِيعَتِهِ، وَمَلَكَاتِهِ الْوِرَاثِيَّةِ لَا يَكْتَفِي بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِذِ الْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِغِشْيَانِ الرَّجُلِ إِيَّاهَا، كَمَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُسْتَعِدَّةً لِثَمَرَةِ هَذَا الْغِشْيَانِ وَفَائِدَتِهِ، وَهُوَ النَّسْلُ فَدَاعِيَةُ الْغِشْيَانِ فِي الرَّجُلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَكِنَّ قَبُولَهُ مِنَ الْمَرْأَةِ مَحْصُورٌ فِي أَوْقَاتٍ، وَمَمْنُوعٌ فِي غَيْرِهَا، فَالدَّاعِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْمَرْأَةِ لِقَبُولِ الرَّجُلِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ اعْتِدَالِ الْفِطْرَةِ عَقِبَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْحَيْضِ وَحَالِ الْحَمْلِ وَالْإِثْقَالِ فَتَأْبَى طَبِيعَتُهَا ذَلِكَ. وَأَظُنُّ أَنَّهُ لَوْلَا تَوْطِينُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى إِرْضَاءِ الرَّجُلِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُ، وَلَوْلَا مَا يُحْدِثُهُ
التَّذَكُّرُ وَالتَّخَيُّلُ لِلَذَّةٍ وَقَعَتْ فِي إِبَّانِهَا مِنَ التَّعَمُّلِ لِاسْتِعَادَتِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَالْعَادَاتِ الْعُمُومِيَّةِ لَكَانَ النِّسَاءُ يَأْبَيْنَ الرِّجَالَ فِي أَكْثَرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ الَّتِي لَا يَكُنَّ فِيهَا مُسْتَعِدَّاتٍ لِلْعُلُوقِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْإِنْتَاجِ، وَمِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ يُعْلَمُ أَنَّ اكْتِفَاءَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُنْدَفِعًا بِطَبِيعَتِهِ إِلَى الْإِفْضَاءِ إِلَيْهَا فِي أَيَّامٍ طَوِيلَةٍ هِيَ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَعِدَّةٍ لِقَبُولِهِ أَظْهَرُهَا أَيَّامُ الْحَيْضِ، وَالْإِثْقَالِ بِالْحَمْلِ، وَالنِّفَاسِ، وَأَقَلُّهَا ظُهُورًا أَيَّامُ الرَّضَاعِ لَا سِيَّمَا الْأَيَّامُ الْأُولَى، وَالْأَخِيرَةُ مِنْ
291
أَيَّامِ طُهْرِهَا. وَقَدْ يُنَازَعُ فِي هَذِهِ لِغَلَبَةِ الْعَادَةِ فِيهَا عَلَى الطَّبِيعَةِ، وَأَمَّا اكْتِفَاءُ الْمَرْأَةِ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ فِي طَبِيعَتِهَا، وَلَا لِمَصْلَحَةِ النَّسْلِ، بَلْ هُوَ الْمُوَافِقُ لِذَلِكَ إِذْ لَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ فِي حَالٍ مُسْتَعِدَّةً فِيهَا لِمُلَامَسَةِ الرَّجُلِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ مَا دَامَا فِي اعْتِدَالِ مِزَاجِهِمَا، وَلَا نَذْكُرُ الْمَرَضَ ; لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَآدَابِهَا أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا شُغْلٌ بِتَمْرِيضِ الْآخَرِ فِي وَقْتِ مُصَابِهِ عَنِ السَّعْيِ وَرَاءَ لَذَّتِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ مُحَقِّقِي الْأُورُبِّيِّينَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْأَزْوَاجِ الَّذِي وُجِدَ فِي بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْمُتَوَحِّشَةِ كَانَ سَبَبُهُ قِلَّةَ الْبَنَاتِ لِوَأْدِ الرِّجَالِ إِيَّاهُنَّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ خَامِسَةٌ.
بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَجِلْ طَرْفَكَ مَعِي فِي تَارِيخِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تَجِدْ أَنَّهَا كَانَتْ قَدِ ارْتَفَعَتْ إِلَى أَنْ صَارَ فِيهَا الزَّوَاجُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْأَصْلُ فِي تَكْوِينِ الْبُيُوتِ، وَالرَّجُلُ هُوَ عَمُودُ الْبَيْتِ، وَأَصْلُ النَّسَبِ، وَلَكِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا بِعَدَدٍ، وَلَا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ، وَكَانَ اخْتِلَافُ عِدَّةِ رِجَالٍ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يُعَدُّ مِنَ الزِّنَا الْمَذْمُومِ، وَكَانَ الزِّنَا عَلَى كَثْرَتِهِ يَكَادُ يَكُونُ خَاصًّا بِالْإِمَاءِ، وَقَلَّمَا يَأْتِيهِ الْحَرَائِرُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِأَنْ تَتَبَضَّعَ مِنْ رَجُلٍ يُعْجِبُهَا ابْتِغَاءَ نَجَابَةِ الْوَلَدِ، وَالزِّنَا لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا، وَلَا عَارًا صُدُورُهُ مِنَ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُعَابُ مِنْ حَرَائِرِ النِّسَاءِ. وَقَدْ حَظَرَ الْإِسْلَامُ الزِّنَا عَلَى الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا حَتَّى الْإِمَاءِ، فَكَانَ يَصْعُبُ جِدًّا عَلَى الرِّجَالِ قَبُولُ الْإِسْلَامِ، وَالْعَمَلُ بِهِ مَعَ هَذَا الْحَجْرِ بِدُونِ إِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتُبِيحَ الزِّنَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ مُبَاحٌ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَادِسَةٌ.
وَلَا تَنْسَ مَعَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ غَايَةَ التَّرَقِّي فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسَعَادَةِ الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) أَنْ يَكُونَ تَكَوُّنُ الْبَيْتِ مِنْ زَوْجَيْنِ فَقَطْ يُعْطِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ مِيثَاقًا غَلِيظًا عَلَى الْحُبِّ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالثِّقَةِ، وَالِاخْتِصَاصِ، حَتَّى إِذَا مَا رُزِقَا أَوْلَادًا كَانَتْ
عِنَايَتُهُمَا مُتَّفِقَةً عَلَى حُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ لِيَكُونُوا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُمَا، وَيَكُونَا قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ فِي الْوِفَاقِ، وَالْوِئَامِ، وَالْحُبِّ، وَالْإِخْلَاصِ - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ سَابِعَةٌ.
إِذَا أَنْعَمْتَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا وَعَرَفْتَ فَرْعَهَا، وَأَصْلَهَا تَتَجَلَّى لَكَ هَذِهِ النَّتِيجَةُ، أَوِ النَّتَائِجُ، وَهِيَ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْحَيَاةِ الدِّينِيَّةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ فِي بَابِهِ، وَالْكَمَالِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُرَبَّى النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَقْتَنِعُوا بِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَحُولُ دُونَ أَخْذِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِهِ، وَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى كَفَالَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِأَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِمَصْلَحَةِ الْأَفْرَادِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ كَأَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ عَاقِرٍ فَيَضْطَرُّ إِلَى غَيْرِهَا لِأَجْلِ النَّسْلِ، وَيَكُونُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، أَوْ مَصْلَحَتِهِمَا مَعًا أَلَّا يُطَلِّقَهَا، وَتَرْضَى بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهَا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَلِكًا، أَوْ أَمِيرًا، أَوْ تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي سِنِّ الْيَأْسِ وَيَرَى الرَّجُلُ أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِلْإِعْقَابِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ غَيْرِ وَاحِدَةٍ، وَكِفَايَةِ أَوْلَادِ كَثِيرِينَ، وَتَرْبِيَتِهِمْ، أَوْ يَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكْفِي لِإِحْصَانِهِ
292
لِأَنَّ مِزَاجَهُ يَدْفَعُهُ إِلَى كَثْرَةِ الْإِفْضَاءِ وَمِزَاجَهَا بِالْعَكْسِ، أَوْ تَكُونُ فَارِكًا مِنْشَاصًا (أَيْ تَكْرَهُ الزَّوْجَ)، أَوْ يَكُونُ زَمَنُ حَيْضِهَا طَوِيلًا يَنْتَهِي إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي الشَّهْرِ، وَيَرَى نَفْسَهُ مُضْطَرًّا إِلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: التَّزَوُّجِ بِثَانِيَةٍ، أَوِ الزِّنَا الَّذِي يُضِيعُ الدِّينَ، وَالْمَالَ، وَالصِّحَّةَ، وَيَكُونُ شَرًّا عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ ضَمِّ وَاحِدَةٍ إِلَيْهَا مَعَ الْعَدْلِ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ فِي الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ اسْتُبِيحَ الزِّنَا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا التَّعَدُّدُ بِالْمَرَّةِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَدُّدُ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ كَأَنْ تَكْثُرَ فِيهَا النِّسَاءُ كَثْرَةً فَاحِشَةً كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي مِثْلِ الْبِلَادِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَفِي كُلِّ بِلَادٍ تَقَعُ فِيهَا حَرْبٌ مُجْتَاحَةٌ تَذْهَبُ بِالْأُلُوفِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، فَيَزِيدُ عَدَدُ النِّسَاءِ زِيَادَةً فَاحِشَةً تَضْطَرُّهُنَّ إِلَى الْكَسْبِ، وَالسَّعْيِ فِي حَاجِ الطَّبِيعَةِ، وَلَا بِضَاعَةَ لِأَكْثَرِهِنَّ فِي الْكَسْبِ سِوَى أَبْضَاعِهِنَّ، وَإِذَا هُنَّ بَذَلْنَهَا فَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ مَا وَرَاءَ بَذْلِهَا مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا كَافِلَ لَهَا إِذَا اضْطُرَّتْ إِلَى الْقِيَامِ بِأَوَدِ نَفْسِهَا، وَأَوَدِ وَلَدٍ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ، وَلَاسِيَّمَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ وَمُدَّةِ الرَّضَاعَةِ بَلِ الطُّفُولِيَّةِ كُلِّهَا، وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ كَاتِبَاتِ الْإِنْكِلِيزِ بِوُجُوبِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي حَالِ الْبَنَاتِ اللَّوَاتِي يَشْتَغِلْنَ فِي الْمَعَامِلِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْعُمُومِيَّةِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُنَّ مِنْ هَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشَّقَاءِ، وَالْبَلَاءِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُبِيحُ
تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ هِيَ ضَرُورَاتٌ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَكَانَ الرِّجَالُ إِنَّمَا يَنْدَفِعُونَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ فِي الْغَالِبِ إِرْضَاءً لِلشَّهْوَةِ لَا عَمَلًا بِالْمَصْلَحَةِ، وَكَانَ الْكَمَالُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ - جُعِلَ التَّعَدُّدُ فِي الْإِسْلَامِ رُخْصَةً لَا وَاجِبًا، وَلَا مَنْدُوبًا لِذَاتِهِ، وَقُيِّدَ بِالشَّرْطِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَأَكَّدَتْهُ تَأْكِيدًا مُكَرَّرًا فَتَأَمَّلْهَا.
قَالَ - تَعَالَى -: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ فِي حُقُوقِ الْأَيْتَامِ، وَلَمَّا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِالْيَتِيمَةِ الْغَنِيَّةِ لِيَتَمَتَّعَ بِمَالِهَا، وَيَهْضِمَ حُقُوقَهَا لِضَعْفِهَا حَذَّرَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ النِّسَاءَ أَمَامَكُمْ كَثِيرَاتٌ، فَإِذَا لَمْ تَثِقُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِالْقِسْطِ فِي الْيَتَامَى إِذَا تَزَوَّجْتُمْ بِهِنَّ فَعَلَيْكُمْ بِغَيْرِهِنَّ، فَذَكَرَ مَسْأَلَةَ التَّعَدُّدِ بِشَرْطِهَا ضِمْنًا لَا اسْتِقْلَالًا (عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ)، وَالْإِفْرِنْجُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا مَسْأَلَةً مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ فِي الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ إِنَّ الِاكْتِفَاءَ بِوَاحِدَةٍ أَدْنَى، وَأَقْرَبُ لِعَدَمِ الْعَوْلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ، وَالْمَيْلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، مِنْ " عَالَ الْمِيزَانُ إِذَا مَالَ "، وَهُوَ الْأَرْجَحُ فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ، فَأَكَّدَ أَمْرَ الْعَدْلِ، وَجَعَلَ مُجَرَّدَ تَوَقُّعِ الْإِنْسَانِ عَدَمَ الْعَدْلِ مِنْ نَفْسِهِ كَافٍ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّعَدُّدِ. وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ يَتَزَوَّجُ بِثَانِيَةٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَغَرَضٍ صَحِيحٍ يَأْمَنُ الْجَوْرَ ; لِذَلِكَ كَانَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّ الذَّوَّاقِينَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا لِمُجَرَّدِ التَّنَقُّلِ فِي التَّمَتُّعِ يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ
293
عَلَى ظُلْمِ الْأُولَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَزَوَّجُ لِأَجْلِ أَنْ يَغِيظَهَا، وَيُهِينَهَا، وَلَا شَّكَّ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ فِي الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ خَرَابُ الْبُيُوتِ، بَلْ وَخَرَابُ الْأُمَمِ، وَالنَّاسُ عَنْهُ غَافِلُونَ بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ.
هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا الْآنَ فِي الْجَوَابِ كَتَبْنَاهُ بِقَلَمِ الْعَجَلَةِ عَلَى أَنَّنَا كُنَّا قَدْ أَرْجَأْنَا الْجَوَابَ لِنُمْعِنَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنُرَاجِعَ كِتَابًا، أَوْ رِسَالَةً فِي مَوْضُوعِهَا لِأَحَدِ عُلَمَاءِ أَلْمَانْيَا قِيلَ لَنَا: إِنَّهَا تُرْجِمَتْ، وَطُبِعَتْ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ بَقِيَ فِي نَفْسِ السَّائِلِ الشَّيْءُ فَلْيُرَاجِعْنَا فِيهِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ اهـ.
وَكَتَبْنَا فِي الرَّدِّ عَلَى لُورْدِ كُرُومَرْ فِي (ص٢٢٥ م ١٠) مِنَ الْمَنَارِ مَا نَصُّهُ: طَالَمَا انْتَقَدَ الْأُورُبِّيُّونَ عَلَى الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ مَشْرُوعِيَّةَ الطَّلَاقِ، وَتَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ،
وَهُمَا لَمْ يُطْلَبَا، وَلَمْ يُحْمَدَا فِيهِ، وَإِنَّمَا أُجِيزَا ; لِأَنَّهُمَا مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، فَشَرَعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ كِتَابُهُمُ (الْإِنْجِيلُ) إِلَّا لِعِلَّةِ الزِّنَا، وَأَمَّا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ تَعْرِضُ الضَّرُورَةُ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ مَصْلَحَةِ النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ كَأَنْ تَغْتَالَ الْحَرْبُ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ، فَيَكْثُرُ مَنْ لَا كَافِلَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ فَيَكُونُ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَكُنَّ ضَرَائِرَ، وَلَا يَكُنَّ فَوَاجِرَ يَأْكُلْنَ بِأَعْرَاضِهِنَّ، وَيُعَرِّضْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِذَلِكَ لِمَصَائِبَ تَرْزَحُهُنَّ أَثْقَالُهَا، وَقَدْ أَنْشَأَ الْقَوْمُ يَعْرِفُونَ وَجْهَ الْحَاجَةِ بَلِ الضَّرُورَةِ إِلَى هَذَا كَمَا عَرَفُوا وَجْهَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَقَامَ غَيْرُ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَاءِ الْإِنْكِلِيزِ الْكَاتِبَاتِ الْفَاضِلَاتِ يُطَالِبْنَ فِي الْجَرَائِدِ بِإِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ رَحْمَةً بِالْعَامِلَاتِ الْفَقِيرَاتِ، وَبِالْبَغَايَا الْمُضْطَرَّاتِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي الْمَنَارِ تَرْجَمَةُ بَعْضِ مَا كَتَبَتْ إِحْدَاهُنَّ فِي جَرِيدَةِ (لندن ثروت) مُسْتَحْسِنَةً رَأْيَ الْعَالِمِ (تومس) فِي أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِتَقْلِيلِ الْبَنَاتِ الشَّارِدَاتِ إِلَّا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، وَمَا كَتَبَتِ الْفَاضِلَةُ " مس أني رود " فِي جَرِيدَةِ (الاسترن ميل) وَالْكَاتِبَةُ " اللادي كوك " فِي جَرِيدَةِ (الايكو) فِي ذَلِكَ (رَاجِعْ ص٤٨١ م ٤).
إِنَّ قَاعِدَةَ الْيُسْرِ فِي الْأُمُورِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأَسَاسِيَّةِ لِبِنَاءِ الْإِسْلَامِ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [٢: ١٨٥] وَمَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [٥: ٦] وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَحْرِيمُ أَمْرٍ تُلْجِئُ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، أَوِ الْخَاصَّةُ (كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَقَالَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَغَيْرِهَا) وَهُوَ مِمَّا يَشُقُّ امْتِثَالُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَاسِيَّمَا عَلَى مَنِ اعْتَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِيهِ كَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ السُّكُوتُ عَنْهُ وَتَرْكُ النَّاسِ وَشَأْنَهُمْ فِيهِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَلَّلَ الْعَدَدُ، وَيُقَيَّدَ بِقَيْدٍ ثَقِيلٍ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَهُوَ شَرْطٌ يَعِزُّ تَحَقُّقُهُ، وَمَنْ فَقِهَهُ، وَاخْتَبَرَ حَالَ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ يَتَجَلَّى لَهُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَمْ يَلْتَزِمِ الشَّرْطَ، وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَزَوَاجُهُ غَيْرُ إِسْلَامِيٍّ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى فِيهَا بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأُورُبِّيِّينَ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ كَمَا يَعْتَرِفُ بِهِ بَعْضُ فُضَلَائِهِمْ، وَفُضْلَيَاتِهِمُ
الْآنَ: وَأَمَّا
294
الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا هِدَايَتَهُ، فَصَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَالْعِنَايَةِ بِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ مِنَّا إِلَى إِقْنَاعِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَضْلِ الْإِسْلَامِ، مَعَ بَقَاءِ أَهْلِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَخَازِي، وَالْآثَامِ، إِذْ لَوْ رَجَعُوا إِلَيْهِ لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ اهـ.
أَمَّا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ اقْتِرَاحِ بَعْضِ كَاتِبَاتِ الْإِفْرِنْجِ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ فَهُوَ مَا أَوْدَعْنَاهُ مَقَالَةً عُنْوَانُهَا (النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ) نُشِرَتْ فِي (ص٤٨١ م ٤) مِنَ الْمَنَارِ، وَهَاكَ الْمَقْصُودَ مِنْهَا:
لَمَّا تَنَبَّهَ أَهْلُ أُورُبَّا إِلَى إِصْلَاحِ شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَرْقِيَةِ مَعِيشَتِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ اعْتَنَوْا بِتَرْبِيَةِ النِّسَاءِ وَتَعْلِيمِهِنَّ، فَكَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي تَرْقِيَتِهِمْ، وَتَقَدُّمِهِمْ، وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْلُغُ كَمَالَهَا إِلَّا بِالتَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَعْنِي بِالْإِسْلَامِيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ لَا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ، وَلَا قَبْلَ الْيَوْمِ بِقُرُونٍ، فَقَدْ قُلْتُ آنِفًا: إِنَّهُمْ مَا رَعَوْا تَعَالِيمَ دِينِهِمْ حَقَّ رِعَايَتِهَا ; وَلِهَذَا وُجِدَتْ مَعَ التَّرْبِيَةِ الْأُورُبِّيَّةِ لِلنِّسَاءِ جَرَاثِيمُ الْفَسَادِ، وَنَمَتْ هَذِهِ الْجَرَاثِيمُ، فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا الْأَدْوَاءُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالْأَمْرَاضُ الْمَدَنِيَّةُ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُهَا بِشِدَّةٍ فِي الدَّوْلَةِ السَّابِقَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ فَرَنْسَا فَضَعُفَ نَسْلُهَا، وَقَلَّتْ مَوَالِيدُهَا قِلَّةً تُهَدِّدُهَا بِالِانْقِرَاضِ، وَالذَّنْبُ فِي ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ.
حَذَّرَ مِنْ مَغَبَّةِ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْعُقَلَاءُ، وَحَذَّرَ مِنْ عَوَاقِبِهِ الْكُتَّابُ الْأَذْكِيَاءُ، وَصَرَّحَ مَنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الدِّيَانَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِتَمَنِّي الرُّجُوعِ إِلَى تَعَالِيمِهَا الْمُرْضِيَةِ، وَفَضَائِلِهَا الْحَقِيقِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي أَضَلَّ الْمَرْأَةَ، وَأَفْسَدَ تَرْبِيَتَهَا، وَأَنَّ بَعْضَ فُضْلَيَاتِ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ صَرَّحَتْ بِتَمَنِّي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ لِيَكُونَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ قَيِّمٌ وَكَفِيلٌ مِنَ الرِّجَالِ.
جَاءَ فِي جَرِيدَةِ (لاغوص ويكلي ركورد) فِي الْعَدَدِ الصَّادِرِ فِي ٢٠ مِنْ إِبْرِيلَ (نِيسَانَ) سَنَةَ ١٩٠١ نَقْلًا عَنْ جَرِيدَةِ (لندن ثروت) بِقَلَمِ كَاتِبَةٍ فَاضِلَةٍ مَا تَرْجَمَتُهُ مُلَخَّصًا:
لَقَدْ كَثُرَتِ الشَّارِدَاتُ مِنْ بَنَاتِنَا، وَعَمَّ الْبَلَاءُ، وَقَلَّ الْبَاحِثُونَ عَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَإِذَا كُنْتُ امْرَأَةً تَرَانِي أَنْظُرُ إِلَى هَاتِيكَ الْبَنَاتِ، وَقَلْبِي يَتَقَطَّعُ شَفَقَةً عَلَيْهِنَّ، وَحُزْنًا، وَمَاذَا عَسَى يُفِيدُهُنَّ بَثِّي، وَحُزْنِي، وَتَوَجُّعِي، وَتَفَجُّعِي، وَإِنْ شَارَكَنِي فِيهِ النَّاسُ جَمِيعًا؟ لَا فَائِدَةَ إِلَّا فِي الْعَمَلِ بِمَا يَمْنَعُ هَذِهِ الْحَالَةَ الرَّجِسَةَ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْعَالِمِ الْفَاضِلِ (تُومَسْ)، فَإِنَّهُ رَأَى الدَّاءَ، وَوَصْفَ
لَهُ الدَّوَاءَ الْكَافِلَ لِلشِّفَاءِ وَهُوَ (الْإِبَاحَةُ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ)، وَبِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ يَزُولُ الْبَلَاءُ لَا مَحَالَةَ، وَتُصْبِحُ بَنَاتُنَا رَبَّاتِ بُيُوتٍ، فَالْبَلَاءُ كُلُّ الْبَلَاءِ فِي إِجْبَارِ الرَّجُلِ الْأُورُبِّيِّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا التَّحْدِيدُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ بَنَاتِنَا شَوَارِدَ، وَقَذَفَ بِهِنَّ إِلَى الْتِمَاسِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفَاقُمِ الشَّرِّ إِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ. أَيُّ ظَنٍّ وَخَرَصٍ يُحِيطُ بِعَدَدِ الرِّجَالِ الْمُتَزَوِّجِينَ الَّذِينَ لَهُمْ أَوْلَادٌ غَيْرُ شَرْعِيِّينَ أَصْبَحُوا كَلًّا، وَعَالَةً، وَعَارًا عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ؟ فَلَوْ كَانَ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ مُبَاحًا لَمَا حَاقَ بِأُولَئِكَ الْأَوْلَادِ وَبِأُمَّهَاتِهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْهُونِ، وَلَسَلِمَ عِرْضُهُنَّ، وَعِرْضُ أَوْلَادِهِنَّ، فَإِنَّ مُزَاحَمَةَ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ سَتُحِلُّ بِنَا الدَّمَارَ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ حَالَ خِلْقَتِهَا تُنَادِي بِأَنَّ عَلَيْهَا مَا لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ
295
مَا لَيْسَ عَلَيْهَا، وَبِإِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ تُصْبِحُ كُلُّ امْرَأَةٍ رَبَّةَ بَيْتٍ، وَأُمَّ أَوْلَادٍ شَرْعِيِّينَ ".
وَنَشَرَتِ الْكَاتِبَةُ الشَّهِيرَةُ (مِسْ أَنِي رُودْ) مَقَالَةً مُفِيدَةً فِي جَرِيدَةِ (الاسترن ميل) فِي الْعَدَدِ الصَّادِرِ مِنْهَا فِي ١٠ مِنْ مَايُو (أَيَارَ) سَنَةَ ١٩٠١ نَقْتَطِفُ مِنْهَا مَا يَأْتِي لِتَأْيِيدِ مَا تَقَدَّمَ: " لَأَنْ يَشْتَغِلَ بَنَاتُنَا فِي الْبُيُوتِ خَوَادِمَ أَوْ كَالْخَوَادِمِ خَيْرٌ، وَأَخَفُّ بَلَاءً مِنَ اشْتِغَالِهِنَّ فِي الْمَعَامِلِ، حَيْثُ تُصْبِحُ الْبِنْتُ مُلَوَّثَةً بِأَدْرَانٍ تَذْهَبُ بِرَوْنَقِ حَيَاتِهَا إِلَى الْأَبَدِ. أَلَا لَيْتَ بِلَادَنَا كَبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا الْحِشْمَةُ، وَالْعَفَافُ، وَالطَّهَارَةُ رِدْءٌ، الْخَادِمَةُ وَالرَّقِيقُ يَتَنَعَّمَانِ بِأَرْغَدِ عَيْشٍ، وَيُعَامَلَانِ كَمَا يُعَامَلُ أَوْلَادُ الْبَيْتِ، وَلَا تُمَسُّ الْأَعْرَاضُ بِسُوءٍ. نَعَمْ إِنَّهُ لَعَارٌ عَلَى بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ تَجْعَلَ بَنَاتِهَا مَثَلًا لِلرَّذَائِلِ بِكَثْرَةِ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، فَمَا بَالُنَا لَا نَسْعَى وَرَاءَ مَا يَجْعَلُ الْبِنْتَ تَعْمَلُ بِمَا يُوَافِقُ فِطْرَتَهَا الطَّبِيعِيَّةَ مِنَ الْقِيَامِ فِي الْبَيْتِ، وَتَرْكِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ لِلرِّجَالِ سَلَامَةً لِشَرَفِهَا ".
وَقَالَتِ الْكَاتِبَةُ الشَّهِيرَةُ (اللِّادِي كُوكْ) بِجَرِيدَةِ (ألايكو) مَا تَرْجَمَتُهُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ: " إِنَّ الِاخْتِلَاطَ يَأْلَفُهُ الرِّجَالُ ; وَلِهَذَا طَمِعَتِ الْمَرْأَةُ بِمَا يُخَالِفُ فِطْرَتَهَا وَعَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ الِاخْتِلَاطِ تَكُونُ كَثْرَةُ أَوْلَادِ الزِّنَا، وَهُنَا الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَالرَّجُلُ الَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ يَتْرُكُهَا، وَشَأْنَهَا تَتَقَلَّبُ عَلَى مَضْجَعِ الْفَاقَةِ، وَالْعَنَاءِ، وَتَذُوقُ مَرَارَةَ الذُّلِّ، وَالْمَهَانَةِ، وَالِاضْطِهَادِ، بَلْ وَالْمَوْتِ أَيْضًا، أَمَّا الْفَاقَةُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ وَثِقَلَهُ، وَالْوَحَمَ وَدُوَارَهُ مِنْ
مَوَانِعِ الْكَسْبِ الَّذِي تُحَصِّلُ بِهِ قُوتَهَا، وَأَمَّا الْعَنَاءُ فَهُوَ أَنَّهَا تُصْبِحُ شِرِّيرَةً حَائِرَةً لَا تَدْرِي مَاذَا تَصْنَعُ بِنَفْسِهَا، وَأَمَّا الذُّلُّ وَالْعَارُ فَأَيُّ عَارٍ بَعْدَ هَذَا؟ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَكَثِيرًا مَا تَبْخَعُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِالِانْتِحَارِ وَغَبَرِهِ.
هَذَا وَالرَّجُلُ لَا يُلِمُّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ، وَعَلَيْهَا التَّبِعَةُ مَعَ أَنَّ عَوَامِلَ الِاخْتِلَاطِ كَانَتْ مِنَ الرَّجُلِ.
" أَمَا آنَ لَنَا أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا يُخَفِّفُ - إِذَا لَمْ نَقُلْ عَمَّا يُزِيلُ - هَذِهِ الْمَصَائِبَ الْعَائِدَةَ بِالْعَارِ عَلَى الْمَدَنِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ؟ أَمَا آنَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ طُرُقًا تَمْنَعُ قَتْلَ أُلُوفٍ مِنَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا ذَنْبَ لَهُمْ بَلِ الذَّنْبُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي أَغْرَى الْمَرْأَةَ الْمَحْبُوبَةَ عَلَى رِقَّةِ الْقَلْبِ الْمُقْتَضِي تَصْدِيقَ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْوُعُودِ، وَيُمَنِّي بِهِ مِنَ الْأَمَانِيِّ حَتَّى إِذَا قَضَى مِنْهَا وَطَرًا تَرَكَهَا وَشَأْنَهَا تُقَاسِي الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
" يَا أَيُّهَا الْوَالِدَانِ لَا يَغُرَّنَّكُمَا بَعْضُ دُرَيْهِمَاتٍ تَكْسِبُهَا بَنَاتُكُمَا بِاشْتِغَالِهِنَّ فِي الْمَعَامِلِ، وَنَحْوِهَا، وَمَصِيرُهُنَّ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، عَلِّمُوهُنَّ الِابْتِعَادَ عَنِ الرِّجَالِ، أَخْبِرُوهُنَّ بِعَاقِبَةِ الْكَيْدِ الْكَامِنِ لَهُنَّ بِالْمِرْصَادِ، لَقَدْ دَلَّنَا الْإِحْصَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَلَاءَ النَّاتِجَ مِنْ حَمْلِ الزِّنَا يَعْظُمُ، وَيَتَفَاقَمُ حَيْثُ يَكْثُرُ اخْتِلَاطُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ أَكْثَرَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ الزِّنَا مِنَ الْمُشْتَغِلَاتِ فِي الْمَعَامِلِ، وَالْخَادِمَاتِ فِي الْبُيُوتِ، وَكَثِيرٍ مِنَ السَّيِّدَاتِ الْمُعَرَّضَاتِ لِلْأَنْظَارِ، وَلَوْلَا الْأَطِبَّاءُ الَّذِينَ يُعْطُونَ
296
الْأَدْوِيَةَ لِلْإِسْقَاطِ لِرَأَيْنَا أَضْعَافَ مَا نَرَى الْآنَ، لَقَدْ أَدَّتْ بِنَا هَذِهِ الْحَالُ إِلَى حَدٍّ مِنَ الدَّنَاءَةِ لَمْ يَكُنْ تَصَوُّرُهَا فِي الْإِمْكَانِ حَتَّى أَصْبَحَ رِجَالُ مُقَاطَعَاتٍ مِنْ بِلَادِنَا لَا يَقْبَلُونَ الْبِنْتَ زَوْجَةً مَا لَمْ تَكُنْ مُجَرَّبَةً أَيْ عِنْدَهَا أَوْلَادٌ مِنَ الزِّنَا يُنْتَفَعُ بِشُغْلِهِمْ! ! وَهَذَا غَايَةُ الْهُبُوطِ بِالْمَدَنِيَّةِ، فَكَمْ قَاسَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ مَرَارَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَتَّى قَدَرَتْ عَلَى كَفَالَتِهِمْ وَالَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى أُولَئِكَ الْأَطْفَالِ، وَلَا يَتَعَهَّدُهُمْ بِشَيْءٍ، وَيْلَاهُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ التَّعِيسَةِ، تُرَى مَنْ كَانَ مُعِينًا لَهَا فِي الْوَحَمِ وَدُوَارِهِ، وَالْحَمْلِ وَأَثْقَالِهِ، وَالْوَضْعِ وَآلَامِهِ، وَالْفِصَالِ وَمَرَارَتِهِ؟ " اهـ.
ذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ فِي وَجْهِ الْحَاجَةِ تَارَةً وَالضَّرُورَةِ تَارَةً إِلَى تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَيُزَادُ عَلَيْهِ مَا عُلِمَ مِنْهُ ضِمْنًا مِنْ كَثْرَةِ النَّسْلِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، وَطَبْعًا، فَإِذَا كَانَ مَنْعُ التَّعَدُّدِ لَاسِيَّمَا فِي أَعْقَابِ الْحُرُوبِ، وَكَثْرَةُ النِّسَاءِ يُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَهُوَ مِمَّا يُقَلِّلُ النَّسْلَ كَانَ مِمَّا يَلِيقُ
بِالشَّرِيعَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُرَغِّبَةِ فِي كَثْرَةِ النَّسْلِ وَالْمُشَدِّدَةِ فِي مَنْعِ الزِّنَا أَنْ تُبِيحَ التَّعَدُّدَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ مَعَ التَّشْدِيدِ فِي مَنْعِ مَضَرَّاتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا بِأَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَفْرِيقْيَا، وَغَيْرِهَا، وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَهْمَا كَانَ مِنْ ضَرَرِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فَهُوَ لَا يَبْلُغُ ضَرَرَ قِلَّةِ النَّسْلِ الَّذِي مُنِيَتْ بِهِ فَرَنْسَا بِانْتِشَارِ الزِّنَا وَقِلَّةِ الزَّوَاجِ، وَسَتَتْبَعُهَا إِنْكِلْتِرَا، وَغَيْرُهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَلَى شَاكِلَتِهِمَا فِي التَّسَاهُلِ فِي الْفِسْقِ، أَمَّا مَنْعُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِذَا فَشَا ضَرَرُهُ، وَكَثُرَتْ مَفَاسِدُهُ، وَثَبَتَ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ أَنَّ الْجُمْهُورَ لَا يَعْدِلُونَ فِيهِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بَلْهَ الضَّرُورَةَ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ وَجْهٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمْحَةِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُبَاحَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ مَا دَامَتِ الْمَفْسَدَةُ قَائِمَةً بِهِ، وَالْمَصْلَحَةُ بِخِلَافِهِ، بَلْ مَنَعَ عُمَرُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي عَامِ الرَّمَادَةِ أَنْ يُحَدَّ سَارِقٌ ; وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ أُخْرَى لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَيَانِهَا، وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَتْوَى فِي ذَلِكَ ذَكَرْنَاهَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ.
لَكِنَّ الْإِفْرِنْجَ يُبَالِغُونَ فِي وَصْفِ مَفَاسِدِ التَّعَدُّدِ، وَكَذَا الْمُتَفَرْنِجُونَ كَدَأْبِ النَّاسِ فِي التَّسْلِيمِ لِلْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ، وَالتَّقْلِيدِ لَهَا. وَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا قَالَهُ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى التَّعَدُّدِ إِلَّا لِتَنْفِيرِ الذَّوَّاقِينَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ كَثِيرًا، وَيُطَلِّقُونَ كَثِيرًا لِمَحْضِ التَّنَقُّلِ فِي اللَّذَّةِ، وَالْإِغْرَاقِ فِي طَاعَةِ الشَّهْوَةِ مَعَ عَدَمِ التَّهْذِيبِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ.
أَلَا إِنَّ التَّهْذِيبَ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْإِنْسَانُ قِيمَةَ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ التَّعَدُّدَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَهَذِهِ الْحَيَاةُ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١] قَلَّمَا تَتَحَقَّقُ عَلَى كَمَالِهَا مَعَ التَّعَدُّدِ لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ; وَلِذَلِكَ يَقِلُّ فِي الْمَذْهَبَيْنِ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، وَإِنَّنِي لَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي فِي مِصْرَ وَسُورِيَةَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدَةٍ.
297
وَقَدْ صَدَقَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا تَرْبِيَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ لَقَلَّ ضَرَرُ التَّعَدُّدِ فِينَا حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَ غَيْرَةَ الضَّرَائِرِ، بَلْ أَعْرِفُ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ، وَالِاخْتِبَارِ الشَّخْصِيِّ أَنَّ بَعْضَ الضَّرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ قَدْ عِشْنَ مَعِيشَةَ الْوِفَاقِ وَالْمَحَبَّةِ، وَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُنَادِي الْأُخْرَى " يَا أُخْتِي "، وَقَدْ تَزَوَّجَ كَبِيرُ قَرْيَةٍ فِي لُبْنَانَ فَلَمْ يُولَدْ لَهُ فَتَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْأُولَى، وَرِضَاهَا ابْتِغَاءَ النَّسْلِ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا، وَكَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَتَا مُتَحَابَّتَيْنِ كَالْأُخْتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تَعْتَنِي بِتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَخِدْمَتِهِ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ عِنَايَةَ أُمِّهِ بِهِ كَانَتْ أَقَلَّ، وَمَاتَ الرَّجُلُ عَنْهُمَا فَلَمْ تَتَفَرَّقَا مِنْ بَعْدِهِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا عَدْلُهُ وَتَدَيُّنُهُمَا. نَعَمْ إِنَّ الْوِفَاقَ صَارَ مِنَ النَّادِرِ، وَيَصْدُقُ عَلَى أَكْثَرِ الضَّرَائِرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَزَوَّجْتُ اثْنَتَيْنِ لِفَرْطِ جَهْلِي وَقَدْ حَازَ الْبَلَا زَوْجُ اثْنَتَيْنِ
فَقُلْتُ أَعِيشُ بَيْنَهُمَا خَرُوفًا أُنَعَّمُ بَيْنَ أَكْرَمِ نَعْجَتَيْنِ
فَجَاءَ الْأَمْرُ عَكْسَ الْقَصْدِ دَوْمًا عَذَابٌ دَائِمٌ بِبَلِيَّتَيْنِ
لِهَذِي لَيْلَةٌ وَلِتِلْكَ أُخْرَى نِقَارٌ دَائِمٌ فِي اللَّيْلَتَيْنِ
رِضَا هَذَى يُهَيِّجُ سُخْطَ هَذِي فَلَا أَخْلُو مِنْ إِحْدَى السَّخْطَتَيْنِ
وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَقَالَةٌ فِي حُكْمِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَشُرُوطِهِ، وَمَضَارِّهِ الْمُشَاهَدَةِ بِمِصْرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ نَشَرَهَا فِي جَرِيدَةِ الْوَقَائِعِ الرَّسْمِيَّةِ فِي ٩ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ١٢٩٨ نَنْشُرُهَا هُنَا اسْتِيفَاءً لِلْبَحْثِ وَهِيَ.
((حُكْمُ الشَّرِيعَةِ فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ)) قَدْ أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ لِلرَّجُلِ الِاقْتِرَانَ بِأَرْبَعٍ مِنَ النِّسْوَةِ إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِرَانُ بِغَيْرِ وَاحِدَةٍ قَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إِعْطَاءَ كُلٍّ مِنْهُنَّ حَقَّهَا اخْتَلَّ نِظَامُ الْمَنْزِلِ، وَسَاءَتْ مَعِيشَةُ الْعَائِلَةِ، إِذِ الْعِمَادُ الْقَوِيمُ لِتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ هُوَ بَقَاءُ الِاتِّحَادِ، وَالتَّآلُفِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ. وَالرَّجُلُ إِذَا خَصَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ دُونَ الْبَاقِيَاتِ، وَلَوْ بِشَيْءٍ زَهِيدٍ كَأَنْ يَسْتَقْضِيَهَا حَاجَةً فِي يَوْمِ الْأُخْرَى امْتَعَضَتْ تِلْكَ الْأُخْرَى، وَسَئِمَتِ الرَّجُلَ لِتَعَدِّيهِ عَلَى حُقُوقِهَا بِتَزَلُّفِهِ إِلَى مَنْ لَا حَقَّ لَهَا، وَتَبَدَّلَ الِاتِّحَادُ بِالنَّفْرَةِ، وَالْمَحَبَّةُ بِالْبُغْضِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَاعَةُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْعُلَمَاءُ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ يَجْمَعُونَ
بَيْنَ النِّسْوَةِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِ اللهِ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يَأْتُونَ حُجْرَةَ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَى إِلَّا بِإِذْنِهَا.
298
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُطَافُ بِهِ وَهُوَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ عَلَى بُيُوتِ زَوْجَاتِهِ مَحْمُولًا عَلَى الْأَكْتَافِ حِفْظًا لِلْعَدْلِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالْإِقَامَةِ فِي بَيْتِ إِحْدَاهُنَّ خَاصَّةً، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ إِحْدَى نِسَائِهِ سَأَلَ: فِي أَيِّ بَيْتٍ أَكُونُ غَدًا؟ فَعَلِمَ نِسَاؤُهُ أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ نَوْبَةِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ فِي الْمُقَامِ عِنْدَهَا مُدَّةَ الْمَرَضِ، فَقَالَ: هَلْ رَضِيتُنَّ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ، فَلَمْ يُقِمْ فِي بَيْتِ عَائِشَة حَتَّى عَلِمَ رِضَاهُنَّ. وَهَذَا الْوَاجِبُ الَّذِي حَافَظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى نَصَائِحِهِ، وَوَصَايَاهُ، فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ آخِرَ مَا أَوْصَى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثٌ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِنَّ حَتَّى لَجْلَجَ لِسَانُهُ، وَخَفِيَ كَلَامُهُ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، اللهَ اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ فِي أَيْدِيكُمْ - أَيْ أُسَرَاءُ - أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ وَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ دُونَ الْأُخْرَى - وَفِي رِوَايَةٍ، وَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا - جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَذِرُ عَنْ مَيْلِهِ الْقَلْبِيِّ بِقَوْلِهِ: اللهُمَّ هَذَا - أَيِ الْعَدْلُ فِي الْبَيَاتِ وَالْعَطَاءِ - جُهْدِي فِيمَا أَمْلِكُ وَلَا طَاقَةَ لِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ - يَعْنِي الْمَيْلَ الْقَلْبِيَّ - وَكَانَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا.
وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَسْمِ فِي الْبَيْتُوتَةِ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ، وَفِيهَا، وَفِي الْعَطَاءِ أَعْنِي النَّفَقَةَ عِنْدَ غَالِبِهِمْ حَتَّى قَالُوا: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ أَنْ يُطَوِّفَهُ عَلَى نِسَائِهِ. وَقَالُوا لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الدُّخُولُ عِنْدَ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ فِي نَوْبَةِ الْأُخْرَى إِلَّا لِضَرُورَةٍ مُبِيحَةٍ غَايَتَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهَا مِنْ خَارِجِ الْبَابِ، وَالسُّؤَالُ عَنْ حَالِهَا بِدُونِ دُخُولٍ، وَصَرَّحَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ بِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ عِنْدَ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ دُونَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ بِحُجْرَتِهَا، وَلَا يَذْهَبَ إِلَى ضَرَّتِهَا إِلَّا لِمَانِعِ بَرْدٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ ظَاهِرَ آيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَنَّ الْعَدْلَ فَرْضٌ فِي الْبَيْتُوتَةِ، وَفِي الْمَلْبُوسِ، وَالْمَأْكُولِ، وَالصُّحْبَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فَحْلٍ
وَعِنِّينٍ، وَمَجْبُوبٍ، وَمَرِيضٍ وَصَحِيحٍ. وَقَالُوا: إِنَّ الْعَدْلَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ شَرْعًا إِذْ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهَا. وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَعْدِلْ وَرُفِعَ إِلَى الْقَاضِي وَجَبَ نَهْيُهُ، وَزَجْرُهُ، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ بِالضَّرْبِ لَا بِالْحَبْسِ ; وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مُحَافَظَةً عَلَى الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ مِنَ الزَّوَاجِ، وَهُوَ التَّعَاوُنُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ السُّلُوكِ فِيهَا.
أَفَبَعْدَ الْوَعِيدِ الشَّرْعِيِّ، وَذَاكَ الْإِلْزَامِ الدَّقِيقِ الْحَتْمِيِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، وَلَا تَحْوِيلًا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ تَوَهُّمِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسْوَةِ فَضْلًا عَنْ تَحَقُّقِهِ؟ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَنَا الْجَمْعُ بَيْنَ نِسْوَةٍ لَا يَحْمِلُنَا عَلَى جَمْعِهِنَّ إِلَّا قَضَاءُ شَهْوَةٍ فَانِيَةٍ، وَاسْتِحْصَالُ لَذَّةٍ وَقْتِيَّةٍ غَيْرَ مُبَالِينَ بِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، فَإِنَّا نَرَى أَنَّهُ إِنْ
299
بَدَتْ لِإِحْدَاهُنَّ فُرْصَةٌ لِلْوِشَايَةِ عِنْدَ الزَّوْجِ فِي حَقِّ الْأُخْرَى صَرَفَتْ جُهْدَهَا مَا اسْتَطَاعَتْ فِي تَنْمِيقِهَا، وَإِتْقَانِهَا، وَتَحْلِفُ بِاللهِ إِنَّهَا لَصَادِقَةٌ فِيمَا افْتَرَتْ - وَمَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْكَاذِبَاتِ - فَيَعْتَقِدُ الرَّجُلُ أَنَّهَا أَخْلَصَتْ لَهُ النُّصْحَ لِفَرْطِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا، وَيُوسِعُ الْأُخْرَيَاتِ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَسَبًّا فَظِيعًا، وَيَسُومُهُنَّ طَرْدًا، وَنَهْرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيمَا أَلْقَى إِلَيْهِ ; إِذْ لَا هِدَايَةَ عِنْدَهُ تُرْشِدُهُ إِلَى تَمْيِيزِ صَحِيحِ الْقَوْلِ مِنْ فَاسِدِهِ، وَلَا نُورَ بَصِيرَةٍ يُوقِفُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَتَضْطَرِمُ نِيرَانُ الْغَيْظِ فِي أَفْئِدَةِ هَاتِيكَ النِّسْوَةِ، وَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الزَّوْجِ، وَالْمَرْأَةِ الْوَاشِيَةِ، وَيَكْثُرُ الْعِرَاكُ، وَالْمُشَاجَرَةُ بَيْنَهُنَّ بَيَاضَ النَّهَارِ وَسَوَادَ اللَّيْلِ، وَفَضْلًا عَنِ اشْتِغَالِهِنَّ بِالشِّقَاقِ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَعْمَالِ الْمَنْزِلِ يُكْثِرْنَ مِنْ خِيَانَةِ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ وَأَمْتِعَتِهِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ ; فَإِنَّهُنَّ دَائِمًا يَتَوَقَّعْنَ مِنْهُ الطَّلَاقَ ; إِمَّا مِنْ خُبْثِ أَخْلَاقِهِنَّ، أَوْ مِنْ رَدَاءَةِ أَفْكَارِ الزَّوْجِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَكِلَاهُمَا لَا يَهْدَأُ لَهُ بَالٌ، وَلَا يَرِقُّ لَهُ عَيْشٌ.
وَمِنْ شِدَّةِ تَمَكُّنِّ الْغَيْرَةِ وَالْحِقْدِ فِي أَفْئِدَتِهِنَّ تَزْرَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي ضَمِيرِ وَلَدِهَا مَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَلَدِّ الْأَعْدَاءِ لِإِخْوَتِهِ أَوْلَادِ النِّسْوَةِ الْأُخْرَيَاتِ، فَإِنَّهَا دَائِمًا تَمْقُتُهُمْ، وَتَذْكُرُهُمْ بِالسُّوءِ عِنْدَهُ، وَهُوَ يَسْمَعُ، وَتُبَيِّنُ لَهُ امْتِيَازَهُمْ عَنْهُ عِنْدَ وَالِدِهِمْ، وَتُعَدِّدُ لَهُ وُجُوهَ الِامْتِيَازِ، فَكُلُّ ذَلِكَ وَمَا شَابَهَهُ إِنْ أُلْقِيَ إِلَى الْوَلَدِ حَالَ الطُّفُولَةِ يَفْعَلُ فِي نَفْسِهِ فِعْلًا لَا يَقْوَى عَلَى إِزَالَتِهِ بَعْدَ تَعَقُّلِهِ، فَيَبْقَى نَفُورًا مِنْ أَخِيهِ عَدُوًّا لَهُ (لَا نَصِيرًا،
وَظَهِيرًا لَهُ عَلَى اجْتِنَاءِ الْفَوَائِدِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَخِ).
وَإِنْ تَطَاوَلَ وَاحِدٌ مِنْ وَلَدِ تِلْكَ عَلَى آخَرَ مِنْ وَلَدِ هَذِهِ - وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا لَفَظَ إِنْ كَانَ خَيْرًا، أَوْ شَرًّا لِكَوْنِهِ صَغِيرًا - انْتَصَبَ سُوقُ الْعِرَاكِ بَيْنَ وَالِدَتَيْهِمَا، وَأَوْسَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ الْأُخْرَى بِمَا فِي وُسْعِهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْفُحْشِ وَمُسْتَهْجَنَاتِ السَّبِّ - وَإِنْ كُنَّ مِنَ الْمُخَدَّرَاتِ فِي بُيُوتِ الْمُعْتَبَرِينَ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْجِهَاتِ خُصُوصًا الرِّيفِيَّةَ، وَإِذَا دَخَلَ الزَّوْجُ عَلَيْهِنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَسَّرَ عَلَيْهِ إِطْفَاءُ الثَّوْرَةِ مِنْ بَيْنِهِنَّ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَلِينِ الْجَانِبِ ; إِذْ لَا يَسْمَعْنَ لَهُ أَمْرًا، وَلَا يَرْهَبْنَ مِنْهُ وَعِيدًا ; لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ مِنَ الْمُنَازَعَاتِ، وَالْمُشَاجَرَاتِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، أَوْ غَيْرِهَا الَّتِي أَفْضَتْ إِلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ، وَانْتِهَاكِ وَاجِبَاتِهِ عِنْدَهُنَّ، أَوْ لِكَوْنِهِ ضَعِيفَ الرَّأْيِ، أَحْمَقَ الطَّبْعِ، فَتَقُودُهُ تِلْكَ الْأَسْبَابُ إِلَى فَضِّ هَذِهِ الْمُشَاجَرَةِ بِطَلَاقِهِنَّ جَمِيعًا، أَوْ بِطَلَاقِ مَنْ هِيَ عِنْدَهُ أَقَلُّ مَنْزِلَةً فِي الْحُبِّ - وَلَوْ كَانَتْ أَمَّ أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ - فَتَخْرُجُ مِنَ الْمَنْزِلِ سَائِلَةَ الدَّمْعِ، حَزِينَةَ الْخَاطِرِ، حَامِلَةً مِنَ الْأَطْفَالِ عَدِيدًا فَتَأْوِي بِهِمْ إِلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا إِنْ كَانَ، ثُمَّ لَا يَمْضِي عَلَيْهَا بِضْعَةُ أَشْهُرٍ عِنْدَهُ إِلَّا سَئِمَهَا، فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ رَدِّ الْأَوْلَادِ إِلَى أَبِيهِمْ، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّ زَوْجَتَهُ الْحَالِيَّةَ تُعَامِلُهُمْ بِأَسْوَأَ مِمَّا عُومِلُوا بِهِ مِنْ عَشِيرَةِ أَبِيهَا. وَلَا تَسَلْ عَنْ أُمِّ الْأَوْلَادِ إِذَا طُلِّقَتْ، وَلَيْسَ لَهَا مَنْ تَأْوِي إِلَيْهِ فَإِنَّ شَرْحَ مَا تُعَانِيهِ مِنْ أَلَمِ الْفَاقَةِ وَذُلِّ النَّفْسِ لَيْسَ يُحْزِنُ
300
الْقَلْبَ بِأَقَلَّ مِنَ الْحُزْنِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِمَا تُسَامُ بِهِ صِبْيَتُهَا مِنَ الطَّرْدِ، وَالتَّقْرِيعِ يَئِنُّونَ مِنَ الْجُوعِ، وَيَبْكُونَ مِنْ أَلَمِ الْمُعَامَلَةِ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاقِعٍ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ الْغَرَّاءَ كَلَّفَتِ الزَّوْجَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ، وَأَوْلَادِهِ مِنْهَا حَتَّى تُحْسِنَ تَرْبِيَتَهُمْ، وَعَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْحَضَانَةِ إِنْ خَرَجَتْ مِنْ عِلَّتِهَا وَتَزَوَّجَتْ. فَإِنَّ الزَّوْجَ وَإِنْ كَلَّفَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِذَلِكَ لَكِنْ لَا يَرْضَخُ لِأَحْكَامِهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يُكَلِّفُهُ نَفَقَاتٍ كَبِيرَةٍ إِلَّا مُكْرَهًا مَجْبُورًا، وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطَالِبَهُ بِحَقِّهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ، إِمَّا لِبُعْدِ مَرْكَزِهِ، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَتَتْرُكُ بَنِيهَا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مُدَّةَ أُسْبُوعٍ، أَوْ أُسْبُوعَيْنِ حَتَّى يَسْتَحْضِرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ، وَرُبَّمَا آبَتْ إِلَيْهِمْ حَامِلَةً صَكًّا بِالْتِزَامِهِ بِالدَّفْعِ لَهَا كُلَّ شَهْرٍ مَا أَوْجَبَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْبِضَ مِنْهُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ أَوْ يَذْهَبُ بِالْعَوَزِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ
مُصِرًّا عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ ; لِكَوْنِهِ مُتَحَقِّقًا مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُخَاطِرَ بِنَفْسِهَا إِلَى الْعَوْدَةِ لِلشِّكَايَةِ لِوَهْنِ قُوَاهَا، وَاشْتِغَالِهَا بِمَا يُذْهِبُ الْحَاجَةَ الْوَقْتِيَّةَ، أَوْ حَيَاءً مِنْ شِكَايَةِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْيَافِ يَعُدُّونَ مُطَالَبَةَ الْمَرْأَةِ بِنَفَقَتِهَا عَيْبًا فَظِيعًا، فَهِيَ تُفَضِّلُ الْبَقَاءَ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَتْعَابِ الشَّاقَّةِ طَلَبًا لِمَا تُقِيمُ بِهِ بِنْيَتَهَا هِيَ وَبَنِيهَا عَلَى الشِّكَايَةِ الَّتِي تُوجِبُ لَهَا الْعَارَ، وَرُبَّمَا لَمْ تَأْتِ بِالثَّمَرَةِ الْمَقْصُودَةِ. وَغَيْرُ خَفِيٍّ أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَرْأَةِ الْإِثْمَ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَمُعَانَاةَ الْبَلَايَا الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي أَقَلُّهَا ابْتِذَالُ مَاءِ الْوَجْهِ تُؤَثِّرُ فِي أَخْلَاقِهَا فَسَادًا، وَفِي طِبَاعِهَا قُبْحًا ; مِمَّا يَذْهَبُ بِكَمَالِهَا، وَيُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيرِهَا عِنْدَ الرَّاغِبِينَ فِي الزَّوَاجِ، وَلَرُبَّمَا أَدَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمُورُ إِلَى أَنْ تَبْقَى أَيِّمًا مُدَّةَ شَبَابِهَا تَتَجَرَّعُ غُصَصَ الْفَاقَةِ، وَالذُّلِّ، وَإِنْ خَطَبَهَا رَجُلٌ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا أَقَلَّ مَنْزِلَةً وَأَصْغَرَ قَدْرًا مِنْ بَعْلِهَا السَّابِقِ، أَوْ كَهْلًا قَلَّتْ رَغْبَةُ النِّسَاءِ فِيهِ، وَيَمْكُثُ زَمَنًا طَوِيلًا يُقَدِّمُ رِجْلًا، وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى خَشْيَةً عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَائِلَةِ زَوْجِهَا السَّالِفِ ; فَإِنَّهَا تُبْغِضُ أَيَّ شَخْصٍ يُرِيدُ زَوَاجَ امْرَأَتِهِ وَتُضْمِرُ لَهُ السُّوءَ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ، كَأَنَّ مُطَلِّقَهَا يُرِيدُ أَنْ تَبْقَى أَيِّمًا إِلَى الْمَمَاتِ رَغْبَةً فِي نَكَالِهَا، وَإِسَاءَتِهَا إِنْ طَلَّقَهَا كَارِهًا لَهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ طَلَاقُهَا نَاشِئًا عَنْ حَمَاقَةِ الرَّجُلِ لِإِكْثَارِهِ مِنَ الْحَلِفِ بِهِ عِنْدَ أَدْنَى الْأَسْبَابِ، وَأَضْعَفِ الْمُقْتَضَيَاتِ - كَمَا هُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ الْآنَ - اشْتَدَّ حَنَقُهُ وَغَيْرَتُهُ عَلَيْهَا، وَتَمَنَّى لَوِ اسْتَطَاعَ سَبِيلًا إِلَى قَتْلِهَا، أَوْ قَتْلِ مَنْ يُرِيدُ الِاقْتِرَانَ بِهَا.
وَكَأَنِّي بِمَنْ يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، وَتِلْكَ الْمُعَاشَرَةَ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ، وَأَدْنِيَائِهِمْ، وَأَمَّا ذَوُو الْمَقَامَاتِ، وَأَهْلُ الْيَسَارِ فَلَا نُشَاهِدُ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مَالًا لُبَدًا عَلَى مُطَلَّقَاتِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ مِنْهَا، وَعَلَى نِسْوَتِهِمُ الْعَدِيدَاتِ فِي بُيُوتِهِمْ، فَلَا ضَيْرَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الزَّوَاجِ إِلَى الْحَدِّ الْجَائِزِ، وَالطَّلَاقِ إِذَا أَرَادُوا، بَلِ الْأَجْمَلُ وَالْأَلْيَقُ بِهِمْ
301
اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ قَاعِدَةً لِلنَّهْيِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّبِيِّ، وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْأُمَّةِ خُصُوصًا وَآيَةُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ لَمْ تُنْسَخْ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذًا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِمَدْلُولِهَا مَا دَامَ الْكِتَابُ.
نَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْمَقَالُ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْكَثِيرَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَذَوِي الْيَسَارِ يَطْرُدُونَ نِسَاءَهُمْ مَعَ أَوْلَادِهِنَّ، فَتُرَبَّى أَوْلَادُهُنَّ عِنْدَ أَقْوَامٍ غَيْرِ عَشِيرَتِهِمْ لَا يَعْتَنُونَ بِشَأْنِهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِمْ، وَكَثِيرًا مَا رَأَيْنَا الْآبَاءَ يَطْرُدُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَهُمْ كِبَارٌ مَرْضَاةً لِنِسَائِهِمُ الْجَدِيدَاتِ، وَيُسِيئُونَ إِلَى النِّسَاءِ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَحْمِلُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَلَى تَزَوُّجِ ثَانِيَةٍ إِلَّا إِرَادَةُ الْإِضْرَارِ بِالْأُولَى - وَهَذَا شَائِعٌ كَثِيرٌ - وَعَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِ أَنَّ ذَوِي الْيَسَارِ قَائِمُونَ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ النَّفَقَاتِ لَا يُمْكِنُنَا إِلَّا أَنْ نَقُولَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ: إِنَّ إِنْفَاقَهُمْ عَلَى النِّسْوَةِ، وَتَوْفِيَةَ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْقَسْمِ فِي الْمَبِيتِ لَيْسَ عَلَى نِسْبَةٍ عَادِلَةٍ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَى الرَّجُلِ لِزَوْجَاتِهِ، فَهَذِهِ النَّفَقَةُ تَسْتَوِي مَعَ عَدَمِهَا مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجَاتِ الْوَاجِبَةِ الرِّعَايَةِ كَمَا أَمَرَنَا بِهِ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ. فَإِذًا لَا تُمَيُّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا قَدِ ارْتَكَبَ مَا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ وَنَهَتْ عَنْهُ نَهْيًا شَدِيدًا، خُصُوصًا وَأَنَّ مَضَرَّاتِ اجْتِمَاعِ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ ; فَإِنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَبْقَى فِي بَيْتِ الْغَنِيِّ سَنَةً، أَوْ سَنَتَيْنِ بَلْ ثَلَاثًا بَلْ خَمْسًا بَلْ عَشْرًا لَا يَقْرَبُهَا الزَّوْجُ خَشْيَةَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ (مَنْ يَمِيلُ إِلَيْهَا مَيْلًا شَدِيدًا)، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِخَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا مِنْ بَأْسِهِ فَتَضْطَرُّ إِلَى فِعْلِ مَا لَا يَلِيقُ، وَبَقِيَّةُ الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ عَلَى عَدَاوَةِ إِخْوَانِهِمْ بَلْ وَأَبِيهِمْ أَيْضًا مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرَ مِنْهَا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ، وَلَا تَصِحُّ الْمُكَابَرَةُ فِي إِنْكَارِ هَذَا الْأَمْرِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ آثَارِهِ فِي غَالِبِ الْجِهَاتِ وَالنَّوَاحِي، وَتَطَايُرِ شَرِّهِ فِي أَكْثَرِ الْبِقَاعِ مِنْ بِلَادِنَا وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْطَارِ الْمَشْرِقِيَّةِ.
فَهَذِهِ مُعَامَلَةُ غَالِبِ النَّاسِ عِنْدَنَا مِنْ أَغْنِيَاءَ، وَفُقَرَاءَ فِي حَالَةِ التَّزَوُّجِ بِالْمُتَعَدِّدَاتِ ; كَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةَ اللهِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ بَلِ اتَّخَذُوهُ طَرِيقًا لِصَرْفِ الشَّهْوَةِ، وَاسْتِحْصَالِ اللَّذَّةِ لَا غَيْرَ، وَغَفَلُوا عَنِ الْقَصْدِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، وَهَذَا لَا تُجِيزُهُ الشَّرِيعَةُ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ. فَاللَّازِمُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ إِمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعَدْلِ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ - عَمَلًا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً وَأَمَّا آيَةُ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِآيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ وَإِمَّا أَنْ يَتَبَصَّرُوا قَبْلَ طَلَبِ التَّعَدُّدِ فِي الزَّوْجَاتِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ
302
شَرْعًا مِنَ الْعَدْلِ، وَحِفْظِ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ، وَحِفْظِ النِّسَاءَ مِنَ الْغَوَائِلِ الَّتِي تُؤَدِّي بِهِنَّ إِلَى الْأَعْمَالِ غَيْرِ اللَّائِقَةِ، وَلَا يَحْمِلُوهُنَّ عَلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَبِأَوْلَادِهِمْ، وَلَا يُطَلِّقُوهُنَّ إِلَّا لِدَاعٍ وَمُقْتَضٍ شَرْعِيٍّ شَأْنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللهَ، وَيُوَقِّرُونَ شَرِيعَةَ الْعَدْلِ، وَيُحَافِظُونَ عَلَى حُرُمَاتِ النِّسَاءِ، وَحُقُوقِهِنَّ، وَيُعَاشِرُونَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُفَارِقُونَهُنَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَهَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلُ الْأَتْقِيَاءُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النِّسْوَةِ إِلَى الْحَدِّ الْمُبَاحِ شَرْعًا، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَلِيلًا فِي كُلِّ بَلَدٍ، وَإِقْلِيمٍ لَكِنَّ أَعْمَالَهُمْ وَاضِحَةُ الظُّهُورِ تَسْتَوْجِبُ لَهُمُ الثَّنَاءَ الْعَمِيمَ، وَالشُّكْرَ الْجَزِيلَ، وَتُقَرِّبُهُمْ مِنَ اللهِ الْعَادِلِ الْعَزِيزِ. انْتَهَى كَلَامُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَفِيهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ [٤: ١٢٩] وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ التَّعَدُّدَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَخِلَافُ الْكَمَالِ، وَيُنَافِي سُكُونَ النَّفْسِ، وَالْمَوَدَّةَ، وَالرَّحْمَةَ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ زَوَاجِ مَنْ لَمْ يُقِمْهَا وَبَيْنَ ازْدِوَاجِ الْعَجْمَاوَاتِ، وَنَزَوَانِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ مَعَ الثِّقَةِ بِمَا اشْتَرَطَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - فِيهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَمَرْتَبَةُ الْعَدْلِ دُونَ مَرْتَبَةِ سُكُونِ النَّفْسِ وَالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلَيْسَ وَرَاءَهُ إِلَّا ظُلْمُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ، وَامْرَأَتِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأُمَّتِهِ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
وَأَمَّا حِكْمَةُ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْهَا مَا هُوَ كَفَالَةُ بَعْضِ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْهَا مَا لَهُ سَبَبٌ سِيَاسِيٌّ، أَوْ عِلْمِيٌّ دِينِيٌّ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فَتْوَى فِي ذَلِكَ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ مِنَ الْمَنَارِ (ص٦٩٩) وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ.
(تَعَدُّدُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (س) مُصْطَفَى أَفَنْدِي رُشْدِي الْمِرْلِيُّ بِالزَّقَازِيقِ: مَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ مِمَّا أَبَاحَهُ الْقُرْآنُ الشَّرِيفُ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِأَرْبَعٍ فَمَا دُونَهَا وَتَعَيُّنُ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعَدْلِ؟
(ج) إِنَّ الْحِكْمَةَ الْعَامَّةَ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَالْقِيَامَ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالِاشْتِغَالَ بِسِيَاسَةٍ، وَمُدَافَعَةِ الْمُعْتَدِينَ دُونَ سِنِّ الشَّبَابِ، وَرَاحَةِ الْبَالِ هِيَ السِّيَاسَةُ الرَّشِيدَةُ، فَأَمَّا خَدِيجَةُ، وَهِيَ الزَّوْجُ الْأُولَى فَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهَا وَرَاءَ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ مَعْرُوفَةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ السُّؤَالِ.
وَقَدْ عَقَدَ بَعْدَ وَفَاتِهَا عَلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ وَكَانَتْ قَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ الْهَاجِرَاتِ لِأَهْلِيهِنَّ خَوْفَ
303
الْفِتْنَةِ، وَلَوْ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا (وَكَانَ ابْنَ عَمِّهَا) لَعَذَّبُوهَا وَفَتَنُوهَا فَكَفَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَافَأَهَا بِهَذِهِ الْمِنَّةِ الْعَظِيمَةِ.
ثُمَّ بَعْدَ شَهْرٍ عَقَدَ عَلَى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحِكْمَةِ فِي التَّزَوُّجِ بِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ بِبَدْرٍ، وَهِيَ إِكْرَامُ صَاحِبَيْهِ وَوَزِيرَيْهِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا)، وَإِقْرَارُ أَعْيُنِهِمَا بِهَذَا الشَّرَفِ الْعَظِيمِ، (كَمَا أَكْرَمَ عُثْمَانَ، وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بِبَنَاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَصْحَابِهِ، وَأَخْلَصُهُمْ خِدْمَةً لِدِينِهِ).
وَأَمَّا التَّزَوُّجُ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْلُو كُلَّ حِكْمَةٍ، وَهِيَ إِبْطَالُ تِلْكَ الْبِدَعِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ لَاحِقَةً بِبِدْعَةِ التَّبَنِّي كَتَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجَةِ الْمُتَبَنَّى بَعْدَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَشَرْنَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ مَقَالَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدُهُمَا لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، فَلْيُرَاجِعْهُمَا السَّائِلُ هُنَاكَ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْحِكْمَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِجُوَيْرِيَةَ، وَهِيَ بَرَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ سَيِّدِ قَوْمِهِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَسَرُوا مِنْ قَوْمِهَا مِائَتَيْ بَيْتٍ بِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْتِقَ الْمُسْلِمُونَ الْأَسْرَى فَتَزَوَّجَ بِسَيِّدَتِهِمْ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ: أَصْهَارُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْبَغِي أَسْرُهُمْ وَأَعْتَقُوهُمْ، فَأَسْلَمَ بَنُو الْمُصْطَلِقِ - لِذَلِكَ - أَجْمَعُونَ، وَصَارُوا عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُحَارِبِينَ لَهُمْ وَعَوْنًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَسَنٌ فِي سَائِرِ الْعَرَبِ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِزَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ فِي (أُحُدٍ)، وَحِكْمَتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِنْ فُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى كَانُوا يَدْعُونَهَا أُمَّ الْمَسَاكِينِ لِبِرِّهَا بِهِمْ، وَعِنَايَتِهَا بِشَأْنِهِمْ، فَكَافَأَهَا - عَلَيْهِ التَّحِيَّةُ
وَالسَّلَامُ - عَلَى فَضَائِلِهَا بَعْدَ مُصَابِهَا بِزَوْجِهَا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَدَعْهَا أَرْمَلَةً تُقَاسِي الذُّلَّ الَّذِي كَانَتْ تُجِيرُ مِنْهُ النَّاسَ، وَقَدْ مَاتَتْ فِي حَيَاتِهِ.
وَتَزَوَّجَ بَعْدَهَا أُمَّ سَلَمَةَ (وَاسْمُهَا هِنْدٌ) وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا (عَبْدُ اللهِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ أَسَدِ ابْنُ عَمَّةِ الرَّسُولِ بَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ) أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَتُجِلُّهُ، حَتَّى إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ خَطَبَاهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَلَمَّا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَلِي اللهَ أَنْ يَأْجُرَكِ فِي مُصِيبَتِكِ وَيُخْلِفَكِ خَيْرًا قَالَتْ: وَمَنْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَمِنْ هُنَا يَعْلَمُ السَّائِلُ وَغَيْرُهُ مِقْدَارَ مُصَابِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْفَاضِلَةِ بِزَوْجِهَا، وَقَدْ رَأَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا عَزَاءَ لَهَا عَنْهُ إِلَّا بِهِ، فَخَطَبَهَا فَاعْتَذَرَتْ بِأَنَّهَا مُسِنَّةٌ وَأُمُّ أَيْتَامٍ، فَأَحْسَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَابَ - وَمَا كَانَ إِلَّا مُحْسِنًا - وَتَزَوَّجَ بِهَا، وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ
304
الزَّوَاجَ لَيْسَ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ الْمُبَاحِ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ لِفَضْلِهَا الَّذِي يَعْرِفُهُ الْمُتَأَمِّلُ بِجَوْدَةِ رَأْيِهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلِتَعْزِيَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا زَوَاجُهُ بِأُمِّ حَبِيبَةَ رَمْلَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ لَا تَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ عَرَفَ سِيرَتَهَا الشَّخْصِيَّةَ، وَعَرَفَ عَدَاوَةَ قَوْمِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَرَغْبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، كَانَتْ رَمْلَةُ عِنْدَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ، وَهَاجَرَتْ مَعَهُ إِلَى الْحَبَشَةِ الثَّانِيَةِ فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ، وَثَبَتَتْ هِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَانْظُرُوا إِلَى إِسْلَامِ امْرَأَةٍ يُكَافِحُ أَبُوهَا بِقَوْمِهِ النَّبِيَّ وَيَتَنَصَّرُ زَوْجُهَا، وَهِيَ مَعَهُ فِي هِجْرَةٍ مَعْرُوفٍ سَبَبُهَا، أَمِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ تُضَيَّعَ هَذِهِ الْمُؤْمِنَةُ الْمُوقِنَةُ بَيْنَ فِتْنَتَيْنِ؟ أَمْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَكْلُفَهَا مَنْ تَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ أَصْلَحُ لَهَا؟
كَذَلِكَ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي زَوَاجِ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ سَيِّدِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَدْ قُتِلَ أَبُوهَا مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَكَانَ أَخَذَهَا دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا سَيِّدَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، فَاسْتَحْسَنَ رَأْيَهُمْ، وَأَبَى أَنْ تُذَلَّ هَذِهِ السَّيِّدَةُ بِأَنْ تَكُونَ أَسِيرَةً عِنْدَ مَنْ تَرَاهُ دُونَهَا فَاصْطَفَاهَا، وَأَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، وَوَصَلَ سَبَبَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ
يُنْزِلُ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ.
وَآخِرُ أَزْوَاجِهِ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ (وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَسَمَّاهَا مَيْمُونَةَ)، وَالَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَيْهِ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا الثَّانِي أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهِيَ خَالَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَا أَدْرِي هَلْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي تَزَوُّجِهِ بِهَا تَشَعُّبُ قَرَابَتِهَا فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي مَخْزُومٍ أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ؟
وَجُمْلَةُ الْحِكْمَةِ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاعَى الْمَصْلَحَةَ فِي اخْتِيَارِ كُلِّ زَوْجٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ (عَلَيْهِنَّ الرِّضْوَانُ) فِي التَّشْرِيعِ، وَالتَّأْدِيبِ فَجَذَبَ إِلَيْهِ كِبَارَ الْقَبَائِلِ بِمُصَاهَرَتِهِمْ، وَعَلَّمَ أَتْبَاعَهُ احْتِرَامَ النِّسَاءِ وَإِكْرَامَ كَرَائِمِهِنَّ، وَالْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ، وَقَرَّرَ الْأَحْكَامَ بِذَلِكَ، وَتَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ تِسْعَ أُمَّهَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّمْنَ نِسَاءَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَلِيقُ بِهِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّمْنَهُ مِنَ النِّسَاءِ
305
دُونَ الرِّجَالِ، وَلَوْ تَرَكَ وَاحِدَةً فَقَطْ لَمَا كَانَتْ تُغْنِي فِي الْأُمَّةِ غِنَاءَ التِّسْعِ، وَلَوْ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ بِتَعَدُّدِ الزَّوَاجِ مَا يُرِيدُهُ الْمُلُوكُ، وَالْأُمَرَاءُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالْحَلَالِ فَقَطْ لَاخْتَارَ حِسَانَ الْأَبْكَارِ عَلَى أُولَئِكَ الثَّيِّبَاتِ الْمُكْتَهِلَاتِ كَمَا
قَالَ لِمَنِ اخْتَارَ ثَيِّبًا: هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ، وَإِنَّ أَسْرَارَ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَى مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهَا كُلِّهَا أَفْكَارُ مِثْلِنَا اهـ.
وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ بِغَيْرِ حَصْرٍ، وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعَةً مِنْهُنَّ، وَيُسَرِّحَ الْأُخْرَيَاتِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُنَّ يُمْسِكُ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ أَوَّلًا إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَأْثُورُ فِي كُتُبِ السُّنَنِ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا - وَفِي لَفْظٍ آخَرَ - أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلَمِيِّ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسَدِيِّ حِينَ أَسْلَمَا، وَكَانَ عِنْدَ الْأَوَّلِ خَمْسٌ، وَعِنْدَ الثَّانِي ثَمَانٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِمْسَاكَ الْأَرْبَعِ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَالثِّقَةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِنَّ هُوَ عُمْدَةُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ، لَا لِأَنَّ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، بَلْ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُمْ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَذِكْرُ الْأَرْبَعِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْخَمْسِ فَأَكْثَرَ، فَلَمَّا حَتَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ أَلَّا يُمْسِكُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَاحْتِمَالِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ، وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأُصُولِ قَائِلُونَ بِجَوَازِ بَيَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ عَمَلِيَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَهِيَ أَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَوَّلَ ذَلِكَ الْمُجَوِّزُونَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ - كَبَعْضِ الشِّيعَةِ - بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِمُفَارَقَةِ مَا زَادَ عَنِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُنَّ كَانَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ الذَّاتِيِّ كَالنَّسَبِ الْقَرِيبِ وَالرَّضَاعِ.
وَهُوَ تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قِيلَ فِي الِاحْتِمَالِ لَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْتَرْ أَرْبَعًا أَوْ
أَمْسِكْ أَرْبَعًا، فَالِاخْتِيَارُ وَتَنْكِيرُ لَفْظِ أَرْبَعٍ كُلٌّ مِنْهُمَا يَأْبَى مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ لَا يَتِمُّ مَعَ مُخَالَفَةِ الشِّيعَةِ فِي ذَلِكَ، أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا مَا قَالُوا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ ; لِأَنَّ الرِّقَّ خِلَافُ مَقْصِدِ الشَّرْعِ
306
وَخِلَافُ الْأَصْلِ، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي مُخَاطَبَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ مِنَ الْأَزْوَاجِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ لِلْوُجُوبِ، فَالزَّوَاجُ وَاجِبٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ أَعْظَمَ سُنَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي رَغَّبَ فِيهَا دِينُ الْفِطْرَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: النُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ (مَا) عَلَى " مَنْ " فِي قَوْلِهِ: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَهِيَ إِرَادَةُ الْوَصْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَانْكِحُوا أَيَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهِنَّ مِنَ الثَّيِّبَاتِ وَالْأَبْكَارِ وَذَوَاتِ الْجَمَالِ وَذَوَاتِ الْمَالِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ كَلِمَةُ " مَا " أَوْ تَغْلِبُ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ لَا الْوَصْفُ. فَيَقُولُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَاتِهِ، وَشَخْصِهِ وَتَقُولُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ فَأُنْزِلْنَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يَأْبَاهُ هَذَا الْمَقَامُ الَّذِي قُرِّرَ فِيهِ تَكْرِيمُهُنَّ، وَحِفْظُ حُقُوقِهِنَّ، وَحُرِّمَ فِيهِ ظُلْمُهُنَّ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَ (أَوْ) فِيهِ لِلتَّسْوِيَةِ يَعْنِي إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَأَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالتَّسَرِّي. وَظَاهِرُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَاحِدَةَ يَطْلُبُ فِي نِكَاحِهَا الْعَدْلَ، فَإِنْ خَافَ أَلَّا يَعْدِلَ فِي مُعَامَلَتِهَا لَجَأَ إِلَى التَّسَرِّي، وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ الْجَمَاهِيرُ الْعَجْزَ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْحُرَّةِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ لَا فِي التَّسَرِّي بِهَا، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [٤: ٢٥] الْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً هَذَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ يُرَجِّحُ كَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِيهِنَّ لَا أَنَّ حُكْمَ تَعَدُّدِهِنَّ فِي الزَّوْجِيَّةِ جَاءَ عَرَضًا وَتَبَعًا لِأَحْكَامِ الْيَتَامَى مِنْهُنَّ، أَيْ وَأَعْطُوا النِّسَاءَ اللَّوَاتِي تَعْقِدُونَ عَلَيْهِنَّ
مُهُورَهُنَّ نِحْلَةً، أَيْ عَطَاءَ نِحْلَةٍ، أَيْ فَرِيضَةً لَازِمَةً عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيحٍ: فَرِيضَةً مُسَمَّاةً، وَقِيلَ: دِيَانَةً مِنَ النِّحْلَةِ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النِّحْلَةَ: الْمَهْرُ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ النِّحْلَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْحُلُهُ الْإِنْسَانُ وَيُعْطِيهِ هِبَةً عَنْ طِيبِ نَفْسٍ بِدُونِ مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا. قَالَ:
الصَّدُقَاتُ: جَمْعُ صَدُقَةٍ بِضَمِّ الدَّالِّ، وَفِيهِ لُغَاتٌ، مِنْهَا الصَّدَاقُ: وَهُوَ مَا يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ فِي هَذَا الْعَطَاءِ مَعْنَى أَعْلَى مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي لَاحَظَهُ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَنَّ الصَّدَاقَ وَالْمَهْرَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ عَنِ الْبِضْعِ، وَالثَّمَنِ لَهُ، كَلَّا إِنَّ الصِّلَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَعْلَى، وَأَشْرَفُ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَفَرَسِهِ، أَوْ جَارِيَتِهِ،
307
وَلِذَلِكَ قَالَ: نِحْلَةً فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُلَاحَظَ هُوَ أَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْمَحَبَّةِ، وَصِلَةِ الْقُرْبَى، وَتَوْثِيقِ عُرَى الْمَوَدَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَأَنَّهُ وَاجِبُ حَتْمٍ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ كَمَا يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَالْمُسْتَأْجِرُ، وَتَرَى عُرْفَ النَّاسِ جَارِيًا عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا الْعَطَاءِ بَلْ يَشْفَعُهُ الزَّوْجُ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ.
أَقُولُ: الْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لِلْأَزْوَاجِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ الْيَتَامَى، وَغَيْرَ الْيَتَامَى، وَيَأْمُرُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُعْطُوهُنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ مُهُورِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ بِالنِّيَابَةِ عَنْهُنَّ، وَكَانَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُزَوِّجُهَا وَيَأْخُذُ صَدَاقَهَا لِنَفْسِهِ دُونَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُعْطِي الرَّجُلَ أُخْتَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ أُخْتَهُ فَلَا يُصِيبُ الْأُخْتَيْنِ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ جُمْلَةً، فَالزَّوْجُ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ وَأَنَّهُ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَالْوَلِيُّ يَأْخُذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ لِمَنْفَعَةٍ لَهُ، وَلَا أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَهْرِ شَيْئًا إِذَا هُوَ قَبَضَهُ مِنَ الزَّوْجِ بِاسْمِهَا إِلَّا أَنْ تَسْمَحَ هِيَ لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ بِرِضَاهَا، وَاخْتِيَارِهَا، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أَيْ إِنْ طَابَتْ نُفُوسُهُنَّ بِإِعْطَائِكُمْ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ وَلَوْ كُلَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ: (مِنْهُ) لِلْبَيَانِ، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَا يَجُوزُ هِبَتُهُ كُلِّهِ، وَلَا أَخْذُهُ إِنْ هِيَ وَهَبَتْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ اللَّيْثُ.
فَأَعْطَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، وَلَا إِلْجَاءٍ بِسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَلَا إِخْجَالٍ بِالْخِلَابَةِ وَالْخُدْعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ وَلَا خَدِيعَةٍ - فَكُلُوهُ أَكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا، مِنْ هَنُوءِ الطَّعَامِ وَمَرُوئِهِ إِذَا كَانَ سَائِغًا لَا غَصَصَ فِيهِ، وَلَا تَنْغِيصَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَنِيءُ مَا يَسْتَلِذُّهُ الْآكِلُ، وَالْمَرِيءُ مَا تَجْمُلُ عَاقِبَتُهُ كَأَنْ يَسْهُلَ هَضْمُهُ، وَتَحْسُنَ تَغْذِيَتُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ - رَاجِعْ ص١٦٠ ج٢ [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]- وَبِكَوْنِهِ هَنِيئًا مَرِيئًا لَا تَبِعَةَ فِيهِ، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْ مَالِ امْرَأَتِهِ إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْسَهَا طَيِّبَةٌ بِهِ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا فَحَمَلَهَا الْخَجَلُ أَوِ الْخَوْفُ عَلَى إِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ. وَعَلَامَاتُ الرِّضَا، وَطِيبِ النَّفْسِ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّابِسُونَ لِبَاسَ الصَّالِحِينَ الْمُتَحَلَّوْنَ بِعُقُودِ السِّبَحِ الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ شِفَاهَهُمْ وَيَلُوكُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يُسَمُّونَهُ ذِكْرًا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ أَمْوَالِ نِسَائِهِمْ إِذَا أَعْطَيْنَهَا، أَوْ أَجَزْنَ أَخْذَهَا بِالتَّرْهِيبِ، أَوِ الْخِدَاعِ، أَوِ الْخَجَلِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُنَّ أَعْطَيْنَنَا، وَلَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [٤: ٢٠] فَإِذَا شَدَّدَ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي طَوْرِ الْمُفَارَقَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي طَوْرِ الِاجْتِمَاعِ وَالْمُعَاشَرَةِ؟.
308
أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ طَوْرَ الْمُفَارَقَةِ هُوَ طَوْرُ مُغَاضَبَةٍ، فَفِي الطَّبْعِ دَاعِيَةٌ لِلْمُشَاحَّةِ فِيهِ، وَأَمَّا طَوْرُ عَقْدِ الْمُصَاهَرَةِ فَهُوَ طَوْرُ الرَّغْبَةِ، وَالتَّحَبُّبِ، وَإِظْهَارِ الزَّوْجِ أَهْلِيَّتَهُ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ كَفَالَةِ الْمَرْأَةِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ غَلَبَ حُبُّ الدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارِ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى عَلَى الْعَوَاطِفِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَحُبِّ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، فَصَارَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَقْوَامُهُمَا يُمَاكِسُونَ فِي الْمَهْرِ كَمَا يُمَاكِسُونَ فِي سِلَعِ التِّجَارَةِ وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ بَاطِنَ الْمَرْأَةِ فِيهَا مَعْلُومٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ، فَيَدَّعِي الْأَخْذَ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَاللهُ - تَعَالَى - لَمْ يَقُلْ (فَإِنْ أَعْطَيْنَكُمْ) حَتَّى يُقَالَ حَصَلَ الْعَطَاءُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَإِنَّمَا نَاطَ الْحِلَّ بِطِيبِ نُفُوسِهِنَّ عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ طِيبُ النَّفْسِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ لَمَا نَاطَ - سُبْحَانَهُ - الْحُكْمَ بِهِ، فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ: إِذَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ أَكْلِ مَا تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ هُوَ أَنْ
يَكُونَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، وَتَعْلَمُونَ أَنَّهَا إِنَّمَا أَعْطَتْ مَا أَعْطَتْ كَارِهَةً أَوْ مُكْرَهَةً لِمَا اتَّخَذْتُمُوهُ مِنَ الْوَسَائِلِ، فَكَيْفَ تُخَادِعُونَ رَبَّكُمْ وَتُكَابِرُونَ أَنْفُسَكُمْ؟
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا
الْمُفْرَدَاتُ: (السَّفُهَاءُ) جَمْعُ سَفِيهٍ مِنَ السَّفَهِ وَالسَّفَاهَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ السَّفَهَ هُوَ الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ، وَالْفِكْرِ، أَوِ الْأَخْلَاقِ. وَأَصْلُهُ الِاضْطِرَابُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: السَّفَهُ خِفَّةٌ فِي الْبَدَنِ، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ سَفِيهٌ: كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ، وَثَوْبٌ سَفِيهٌ: رَدِيءُ النَّسْجِ. وَاسْتُعْمِلَ فِي خِفَّةِ النَّفْسِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.
309
ثُمَّ جَعْلُ السَّفَهِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ السُّفَهَاءِ هُنَا، وَمَثَّلَ لِلسَّفَهِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا [٧٢: ٤]. فَالسُّفَهَاءُ هُنَا هُمُ الْمُبَذِّرُونَ أَمْوَالَهُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَهَا فِيمَا لَا يَنْبَغِي وَيُسِيئُونَ التَّصَرُّفَ بِإِنْمَائِهَا وَتَثْمِيرِهَا - قِيَامًا تَقُومُ بِهَا أُمُورُ مَعَايِشِكُمْ فَتَحُولُ دُونَ وُقُوعِكُمْ فِي الْفَقْرِ، وَقَرَأَهَا نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ (قِيَمًا)، وَهُوَ بِمَعْنَى قِيَامًا كَمَا يَأْتِي. قَالَ الرَّاغِبُ الْقِيَامَ وَالْقِوَامُ: اسْمٌ لِمَا يَقُومُ بِهِ الشَّيْءُ، أَيْ يَثْبُتُ، كَالْعِمَادِ، وَالسِّنَادِ لِمَا يَعْمِدُ بِهِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ. وَفُسِّرَتْ فِي الْكَشَّافِ بِقَوْلِهِ: أَيْ تَقُومُونَ بِهَا، وَتَتَعَيَّشُونَ، وَلَوْ ضَيَّعْتُمُوهَا لَضِعْتُمْ قَالَ: وَقُرِئَ (قِيَمًا) بِمَعْنَى قِيَامًا كَمَا جَاءَ عِوَذًا بِمَعْنَى عِيَاذًا - وَارْزُقُوهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَهُوَ الْعَطَاءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّصِيبِ مِنَ الشَّيْءِ، وَقَدْ يُخَصُّ بِالطَّعَامِ، قِيلَ: وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا لِمُقَابَلَتِهِ بِالْكِسْوَةِ. كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْمُرْضِعَاتِ:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [٢: ٢٣٣] وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَعَمُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَوْلُهُ: آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا مَعْنَاهُ أَبْصَرْتُمْ مِنْهُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الرُّشْدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا إِبْصَارَ إِينَاسٍ، وَهُوَ الِاسْتِيضَاحُ، وَاسْتَعْبَرَ لِلتَّبْيِينِ كَمَا فِي الْكَشَّافِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرُّشْدَ الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالْحِفْظُ لِلْمَالِ إِسْرَافًا وَبِدَارًا مَصْدَرَانِ لِـ أَسْرَفَ وَبَادَرَ، فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَغَلَبَ فِي الْأَمْوَالِ، وَيُقَابِلُهُ الْقَتْرُ، وَهُوَ النَّقْصُ فِي النَّفَقَةِ عَمَّا يَنْبَغِي، قَالَ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [٢٠: ٦٧] يُقَالُ: قَتَرَ - يَقْتُرُ بِوَزْنِ نَصَرَ يَنْصُرُ، وَقَتَّرَ يُقَتِّرُ - بِالتَّشْدِيدِ - وَالْقَوَامُ كَالْقِيَامِ: هُوَ الْقَصْدُ بَيْنَهُمَا الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَعِيشَةُ وَتَثْبُتُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبِدَارُ: الْمُبَادَرَةُ أَيِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: بَادَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ وَبَدَرْتُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكْبَرُوا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، أَيْ كِبَرُهُمْ فِي السِّنِّ، يُقَالُ: كَبِرَ يَكْبَرُ - بِوَزْنِ عَلِمَ يَعْلَمُ، إِذَا كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَأَمَّا كَبُرَ يَكْبُرُ - بِضَمِّ الْبَاءِ - فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، فَهُوَ كَعَظُمَ يَعْظُمُ حِسًّا، أَوْ مَعْنًى فَلْيَسْتَعْفِفْ فَلْيَعِفَّ مُبَالِغًا فِي الْعِفَّةِ، أَوْ فَلْيُطَالِبْ نَفْسَهُ بِالْعِفَّةِ وَيَحْمِلْهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الشَّهَوَاتِ، أَوْ مَلَكَةٍ فِي النَّفْسِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَطَلَبُهَا يَكُونُ بِالتَّعَفُّفِ وَهُوَ تَكَلُّفُ الْعِفَّةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، حَتَّى تَسْتَحْكِمَ الْمَلَكَةُ فِي النَّفْسِ بِالتَّكْرَارِ، وَالْمُمَارَسَةِ كَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ، وَالْمَلَكَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ بِالتَّرْبِيَةِ.
الْمَعْنَى: اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ بِالسُّفَهَاءِ هُنَا. فَقِيلَ: هُمُ الْيَتَامَى، وَالنِّسَاءُ. وَقِيلَ: النِّسَاءُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ لِلْمُخَاطَبِينَ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ سَفِيهٍ مِنْ صَغِيرٍ، وَكَبِيرٍ، وَذَكَرٍ، وَأُنْثَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَجَعَلَ الْخِطَابَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ لِيَشْمَلَ النَّهْيُ كُلَّ مَالٍ يُعْطَى لِأَيِّ سَفِيهٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [٢: ١٨٨]- ص١٥٧ ج ٢ [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ
310
السَّابِقَةِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَبِإِيتَاءِ النِّسَاءِ صَدُقَاتِهِنَّ أَيْ مُهُورِهِنَّ، وَأَتَى فِي قَوْلِهِ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا بِشَرْطٍ لِلْإِيتَاءِ يَعُمُّ الْأَمْرَيْنِ السَّابِقَيْنِ ; أَيْ أَعْطُوا كُلَّ يَتِيمٍ مَالَهُ إِذَا بَلَغَ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ صَدَاقَهَا إِلَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا سَفِيهًا لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ أَنْ تُعْطُوهُ إِيَّاهُ لِئَلَّا يُضَيِّعَهُ، وَيَجِبُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لَهُ، أَوْ يَرْشُدَ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَمْوَالَكُمُ وَلَمْ يَقُلْ أَمْوَالَهُمْ مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ،
وَالْمَالَ لِلسُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي وِلَايَتِهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا ضَاعَ هَذَا الْمَالُ وَلَمْ يَبْقَ لِلسَّفِيهِ مِنْ مَالِهِ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ إِضَاعَةُ مَالِ السَّفِيهِ مُفْضِيَةً إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْوَلِيِّ، فَكَأَنَّ مَالَهُ عَيْنُ مَالِهِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ إِذَا رَشَدُوا وَأَمْوَالُهُمْ مَحْفُوظَةٌ لَهُمْ، وَتَصَرَّفُوا فِيهَا تَصَرُّفَ الرَّاشِدِينَ، وَأَنْفَقُوا مِنْهَا فِي الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَإِنَّهُ يُصِيبُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ حَظٌّ مِنْهَا.
ثَالِثًا: التَّكَافُلُ فِي الْأُمَّةِ، وَاعْتِبَارُ مَصْلَحَةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا عَيْنُ مُصْلَحَةِ الْآخَرِينَ، كَمَا قُلْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى.
وَذَهَبَ (الْجَلَالُ) إِلَى أَنَّهُ أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمُ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ - وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ - وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ السُّفَهَاءَ هُنَا هُمْ أَوْلَادُ الْمُخَاطَبِينَ الصِّغَارُ إِلَّا لِحَيْرَتِهِ فِي هَذِهِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: أَمْوَالَكُمُ وَقَوْلِهِ: لَكُمْ وَعَدَمِ ظُهُورِ النُّكْتَةِ لَهُ فِي إِيثَارِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
أَقُولُ: وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِجَوَابَيْنِ تَبَعًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بَلْ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا التَّصَرُّفَ فِيهِ، قَالَ: وَيَكْفِي لِحُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْجَلَالُ. ثَانِيهِمَا قَوْلُهُ: إِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِجْرَاءً لِلْوَحْدَةِ بِالنَّوْعِ مَجْرَى الْوَحْدَةِ بِالشَّخْصِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [٩: ١٢٨] وَقَوْلُهُ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤: ٢٥] وَقَوْلُهُ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [٢: ٥٤] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [٢: ٨٥] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ مَا كَانَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا وَكَانَ الْكُلُّ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَكَذَا هَاهُنَا الْمَالُ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَنْتَفِعُ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ ; فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ حَسُنَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ اهـ.
أَقُولُ: وَهَذَا أَوْسَعُ مِمَّا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي النَّوْعِ
311
كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْمِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ اتَّحَدَتْ مَصَالِحُهُمْ بِمَصَالِحِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي النَّظَائِرِ، وَالشَّوَاهِدِ الَّتِي أَوْرَدَهَا، فَإِنَّ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقَتْلٍ، أَيْ قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي النَّوْعِ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أُمَّةٌ لَهَا مِلَّةٌ تَرْتَبِطُ بِهَا مَصَالِحُهُمْ فَخَالَفُوهَا فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ لِتَكَافُلِهِمْ بِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الذَّنْبِ، وَعَدَمِ التَّنَاهِي عَنْهُ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَتَلُوا قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ نَوْعِ
الْبَشَرِ لَمَا كَانُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْأَمْرِ، وَلَمَا قِيلَ لَهُمْ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَالرَّاجِحُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ قَوْمُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتِ الْبَعْثَةُ عَامَّةً كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي تَكْلِيفِهِمُ اتِّبَاعَهُ وَفِي كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ.
فَلَا بُدَّ فِي إِقَامَةِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ، أَوِ الْقَوْمِيَّةِ، أَوِ الْأَهْلِيَّةِ مَقَامَ الْوَحْدَةِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ اشْتِرَاكِ أَفْرَادِ النَّوْعِ، أَوِ الْقَوْمِ، أَوِ الْأَهْلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، كَمَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَوْجِيهِ إِسْنَادِ مَا فَعَلَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَأْثِيرِ أَعْمَالِ السَّلَفِ فِي الْخَلَفِ بِالْوِرَاثَةِ وَالْقُدْوَةِ، وَلَوْ جُعِلَتِ الْوَحْدَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ وَحْدَةَ الْقَرَابَةِ وَالْكَفَالَةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ الْوَحْدَةِ الْأُمِّيَّةِ، وَالْقَوْمِيَّةِ الَّتِي قَالَ بِهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَكَانَ الْمَعْنَى أَظْهَرَ، كَمَا أَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ فِي الْأَمْوَالِ مُطَّرِدٌ تَظْهَرُ فِيهِ الْوَحْدَةُ دَائِمًا، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ جَعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَتَكَافُلِهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِنَظَائِرِهَا الْكَثِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرِدَاتِ مَعْنَى جَعْلِ الْأَمْوَالِ قِيَامًا لِلنَّاسِ تَقُومُ وَتَثْبُتُ بِهَا مَنَافِعُهُمْ وَمَرَافِقُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَيَبْلُغَ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى الِاقْتِصَادِ، وَبَيَانِ فَائِدَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ السُّفَهَاءِ، وَبَيَانِ غَائِلَتِهِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهِ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنَافِعَكُمْ وَمَرَافِقَكُمُ الْخَاصَّةَ وَمَصَالِحَكُمُ الْعَامَّةَ لَا تَزَالُ قَائِمَةً ثَابِتَةً مَا دَامَتْ أَمْوَالُكُمْ فِي أَيْدِي الرَّاشِدِينَ الْمُقْتَصِدِينَ مِنْكُمُ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ تَثْمِيرَهَا وَتَوْفِيرَهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَ الْمَصْلَحَةِ فِي إِنْفَاقِ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْهَا، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي أَيْدِي السُّفَهَاءِ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ الْحُدُودَ الْمَشْرُوعَةَ، وَالْمَعْقُولَةَ يَتَدَاعَى مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ سَالِمًا، وَيَسْقُطُ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَصَالِحِ قَائِمًا، فَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الِاقْتِصَادِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأَمْوَالِ كَالْأُمُورِ كُلِّهَا ; وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:
312
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [٢٥: ٦٧] فَهَذِهِ الْآيَةُ شَارِحَةٌ لِلَّفْظِ قِيَامًا فِي الْآيَةِ
الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ نَهَانَا الْقُرْآنُ عَنِ التَّبْذِيرِ حَتَّى فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ وَالتَّصَدُّقِ الْمُؤَكَّدِ وَجَعَلَ الْمُبَذِّرَ كَالشَّيْطَانِ مُبَالِغًا فِي الْكُفْرِ، وَبَيَّنَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُتَوَسِّعِ فِي النَّفَقَةِ إِلَى حَدِّ الْإِسْرَافِ كَمَا فِي آيَاتِ ٢٦ - ٢٩ مِنَ السُّورَةِ ١٧ (الْإِسْرَاءِ).
وَفِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ فَمِنْهَا مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ "، رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ "، وَغَيْرُهُمْ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى: " مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَتِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ - " مَنِ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللهُ وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللهُ " إلخ. رَوَاهُ الْبَّزَّارُ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْغَنِيِّ حَدِيثُ سَعْدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: " إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْحَفِيَّ "، وَحَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى إلخ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا.
فَإِذَا جَرَى لَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْحِكَمِ حَتَّى صِرْنَا أَشَدَّ الْأُمَمِ إِسْرَافًا، وَتَبْذِيرًا، وَإِضَاعَةً لِلْأَمْوَالِ، وَجَهْلًا بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، وَتَثْمِيرِهَا، وَإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ بِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي أَزْمِنَةِ التَّارِيخِ مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ قِيَامِ مَصَالِحِ الْأُمَمِ، وَمَرَافِقِهَا، وَعَظَمَةِ شَأْنِهَا عَلَى الْمَالِ حَتَّى إِنَّ الْأُمَمَ الْجَاهِلَةَ بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ، الَّتِي لَيْسَ فِي أَيْدِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ قَدْ صَارَتْ مُسْتَذَلَّةً، وَمُسْتَعْبَدَةً لِلْأُمَمِ الْغَنِيَّةِ بِالْبَرَاعَةِ فِي الْكَسْبِ، وَالْإِحْسَانِ فِي الِاقْتِصَادِ؟
وَمَاذَا جَرَى لِتِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي يَقُولُ لَهَا كِتَابُهَا الدِّينِيُّ كَمَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى " (١٩: ٢٣) إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ [٢٤] وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ "، وَيَقُولَ كَمَا فِي
(٦: ٢٤) مِنْهُ: " لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا لِلَّهِ وَالْمَالِ [٢٥] لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ " إلخ. وَفِي (١٠: ٩) مِنْهُ: " لَا تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً " - مَاذَا جَرَى لَهَا فِي دِينِهَا حَتَّى صَارَتْ أَبْرَعَ الْخَلْقِ فِي فُنُونِ الثَّرْوَةِ، وَالِاقْتِصَادِ، وَأَبْعَدَهَا عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ، وَسَادَتْ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ عَلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْأَرْضِ؟ أَلَا وَهِيَ أُمَمُ الْإِفْرِنْجَةِ.
313
وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مَدَنِيَّةً إِسْلَامِيَّةً مَعَ مُخَالَفَتِنَا لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ، كَمَا خَالَفَهُ جَمَاهِيرُنَا فِي أَكْثَرِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ؟ وَكَيْفَ جَازَ أَنْ تُسَمَّى مَدَنِيَّتُهُمْ مَدَنِيَّةً مَسِيحِيَّةً مَعَ بِنَاءِ تَعَالِيمِ الْمَسِيحِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَبُغْضِ الْمَالِ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا غَيْرَهُمْ، وَهُمْ لَهَا مُخَالِفُونَ، وَعَنْهَا مُعْرِضُونَ! ! !
أَمَّا السَّبَبُ فِيمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي دُنْيَانَا، وَمُخَالَفَةِ نَصِّ كِتَابِنَا فَهُوَ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ، وَهُوَ أَنَّنَا أَخَذْنَا بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْنَا، وَتَرَكْنَا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، وَنَبَذْنَاهُ وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَأَخَذْنَا فِي الْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ الَّتِي هِيَ رُوحُ حَيَاةِ الْأُمَمِ بِأَقْوَالِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ لَبَسُوا عَلَيْنَا بِلِبَاسِ الصَّالِحِينَ، فَنَفَثُوا فِي الْأُمَّةِ سُمُومَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّزْهِيدِ، وَالْحَثِّ عَلَى إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَكْثَرُهُمْ إِنْفَاقَ كَسْبِ الْكَاسِبِينَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ كُسَالَى لَا يَكْسِبُونَ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ بِحُبِّ اللهِ مَشْغُولُونَ!
وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا أَفَاوِيقَ حَتَّى مَا تُدِرُّ لَهَا ثُعْلُ
حَتَّى صَارَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ جَمِيعِ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ إِدْرَارُ الْمَالِ وَالرِّزْقِ عَلَى عُلَمَاءِ الدِّينِ، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ " الصَّالِحِينَ "، فَهُمْ يَأْكُلُونَ مَالَ الْأُمَّةِ بِدِينِهِمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّ لَهُمُ الْفَضْلَ عَلَيْهَا بِقَبُولِهِ مِنْهَا، وَإِنْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ تَحْرِيضٌ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، وَتَعْرِيفٌ بِقِيمَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُبَذِّرَ أَمْوَالَهُ، وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَعْرَفِ النَّاسِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ وُجُوهِ الْحَلَالِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذَا مَا نَسْمَعُهُ مِنْ خُطَبَاءِ مَسَاجِدِنَا مِنْ تَزْهِيدِ النَّاسِ وَغَلِّ أَيْدِيهِمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِالْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُ يَعْدِلُ عَنِ
الْكَسْبِ الشَّرِيفِ إِلَى الْكَسْبِ الْمَرْذُولِ مِنَ الْغِشِّ، وَالْحِيلَةِ، وَالْخِدَاعِ ; ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَيَّالٌ بِطَبْعِهِ إِلَى الرَّاحَةِ، فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ مِنَ الْخُطَبَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْمَعْرُوفِينَ بِالصُّلَحَاءِ عِبَارَاتِ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُرْضِي بِهَا مَيْلَهُ إِلَى الرَّاحَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْكَسْبِ فَيَخْتَارُ أَقَلَّهُ سَعْيًا، وَأَخَفَّهُ مُؤْنَةً، وَهُوَ أَخَسُّهُ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ الشَّرَفِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّزْهِيدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسَاقُ لِأَجْلِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، بَلْ إِنَّ خُطَبَاءَنَا، وَوُعَّاظَنَا قَدْ زَهَّدُوا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَقَطَعُوهُنَّ عَنِ الْآخِرَةِ فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِجَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِمَا يَعِظُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَارِفِ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْجَمْعَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ أَمَّا مَنْ فَسَّرُوا
314
السُّفَهَاءَ بِأَوْلَادِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنِسَائِهِمْ مَعًا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلُوا إِضَافَةَ أَمْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَيْهِمْ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَقَالُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِذَا امْتَنَعَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ وِلْدَانَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ خَشْيَةَ أَنْ يُبَذِّرُوهَا، وَيُتْلِفُوهَا، وَهِيَ قِيَامُكُمْ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ مَعَاشِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَوَلَّوْا أَنْتُمْ إِصْلَاحَهَا، وَتَثْمِيرَهَا، وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا فِي طَعَامِهِمْ، وَكِسْوَتِهِمْ، فَهِيَ فِي وُجُوبِ إِنْفَاقِ الرَّجُلِ عَلَى زَوْجِهِ وَأَوْلَادِهِ الْقَاصِرِينَ الَّذِينَ لَا يُحْسِنُونَ الْكَسْبَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمَنْ قَالُوا إِنَّ الْكَلَامَ فِي السُّفَهَاءِ عَامَّةً، وَفِي حِفْظِ الْأَوْلِيَاءِ لِأَمْوَالِهِمْ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهَا يَا أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ عُهِدَ إِلَيْكُمْ حِفْظُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ، وَتَثْمِيرُهَا حَتَّى كَأَنَّهَا - بِهَذَا التَّصَرُّفِ وَبِارْتِبَاطِ مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا بِمَصَالِحِكُمْ، وَبِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ وَالْعَشِيرَةِ وَوَحْدَتِهَا - أَمْوَالُكُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُنْفِقُوا عَلَى السُّفَهَاءِ، فَتُقَدِّمُوا لَهُمْ كِفَايَتَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ، وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالُوا: إِنَّ لَفْظَ السُّفَهَاءِ عَامٌّ فِي أَوْلَادِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنِسَائِهِمْ، وَالْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ، وَلَفْظَ أَمْوَالِكُمْ عَامٌّ فِيمَا هُوَ لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَمَا هُوَ لِلسُّفَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ - وَقُلْنَا إِنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ - جَعَلُوا مَعْنَاهَا شَامِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ مِنَ السُّفَهَاءِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِهِ أَيْ مَالِ نَفْسِهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: اجْعَلُوهَا
مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَتَرَبَحُوا ; حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ فَلَا يَأْكُلُهَا الْإِنْفَاقُ اهـ. أَيْ إِنَّ مَا يُنْفَقُ مِنْ أَصْلِهِ، وَصُلْبِهِ يَنْقُصُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَذْهَبَ كُلُّهُ، وَتَبِعَ الْكَشَّافَ فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرِّزْقُ يَعُمُّ وُجُوهَ الْإِنْفَاقِ كُلَّهَا كَالْأَكْلِ، وَالْمَبِيتِ، وَالزَّوَاجِ، وَالْكِسْوَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَاكْسُوهُمْ فَخَصَّ الْكِسْوَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَسَاهَلُونَ فِيهَا أَحْيَانًا، وَتَخْصِيصُ (الْجَلَالِ) - أَيْ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ نَقَلَ هُوَ عَنْهُمْ - الرِّزْقَ بِالْإِطْعَامِ لَا يَصِحُّ اهـ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الرِّزْقَ مِنَ الْعِبَادِ هُوَ الْإِجْرَاءُ الْمُوَظَّفُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ رَزَقَ عِيَالَهُ أَيْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ اهـ. يَعْنِي أَنَّ كُلَّ النَّفَقَاتِ الْمُرَتَّبَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ تُسَمَّى رِزْقًا، وَهُوَ مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ أَخَصُّ مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ هُوَ جَعْلُهُمُ الرِّزْقَ هُنَا شَامِلًا لِأَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ بِالنَّصِّ حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الطَّعَامُ، وَالْكِسْوَةُ دُونَ الْإِيوَاءِ، وَالتَّرْبِيَةِ، وَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا بِتَعْلِيمِهِمْ مَا يَجِبُ عِلْمُهُ وَمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، نَقَلَهُ الرَّازِيُّ، عَنِ الزَّجَّاجِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَعْدُ الْجَمِيلُ لِلسَّفِيهِ بِإِعْطَائِهِ مَالَهُ عِنْدَ الرُّشْدِ. وَقِيلَ: بَلْ وَعْدُهُ بِزِيَادَةِ الْإِدْرَارِ عَلَيْهِ وَالتَّوْسِعَةِ عِنْدَ زِيَادَةِ رِبْحِ الْمَالِ وَغَلَبَتِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ. وَفَصَّلَ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَبِيًّا (أَيْ صَغِيرًا وَلَوْ أُنْثَى)
315
فَالْوَلِيُّ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ، وَهُوَ خَازِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا زَالَ صِبَاهُ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ سَفِيهًا، وَعَظَهُ، وَنَصَحَهُ، وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ عَاقِبَتَهُ الْفَقْرُ، وَالِاحْتِيَاجُ إِلَى الْخَلْقِ إِلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ الْكَرِيمَةُ، وَتَأْلَفُهُ، وَيُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ وَهُوَ: مَا تُنْكِرُهُ وَتَمُجُّهُ. فَالْمَعْرُوفُ هُنَا: يَشْمَلُ تَطْيِيبَ الْقُلُوبِ بِإِفْهَامِ السَّفِيهِ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَيْهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَيَشْمَلُ النُّصْحَ، وَالْإِرْشَادَ، وَتَعْلِيمَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ، وَمَا يَعُدُّهُ لِلرُّشْدِ، فَإِنَّ السَّفَهَ كَثِيرًا مَا يَكُونُ عَارِضًا لِلشَّخْصِ لَا فِطْرِيًّا، فَإِذَا عُولِجَ بِالنُّصْحِ وَالتَّأْدِيبِ
حَسُنَتْ حَالُهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَمَرَ اللهُ أَوْلِيَاءَ السُّفَهَاءِ بِهِ زِيَادَةً عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَثْمِيرِهَا، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْهَا.
أَقُولُ: فَأَيْنَ مَكَانُ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ نَعْرِفُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي سَفَهِهِمْ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْبَابِ الرُّشْدِ لِيَبْقَوْا مُتَمَتِّعِينَ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ؟
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرْطَ أَوِ الصِّفَةَ الَّتِي يَجِبُ بِهَا إِيتَاءُ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَمَا أَمَرَ فِي آيَةِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَانَ مُجْمَلًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ، وَوَقْتِهِ، وَمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ابْتِلَاءِ الْيَتِيمِ: كَيْفَ يَكُونُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْطَى شَيْئًا مِنَ الْمَالِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ فَيُرَى تَصَرُّفُهُ كَيْفَ يَكُونُ؟ فَإِنْ أَحْسَنَ فِيهِ كَانَ رَاشِدًا، وَإِلَّا كَانَ سَفَهُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِعْطَاءَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، فَمَنْ أَعْطَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ وَمُجَازِفًا بِالْمَالِ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يُحْضِرَهُ الْوَلِيُّ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةَ، وَيُطْلِعَهُ عَلَى كَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَيَسْأَلَهُ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ، فَإِذَا رَأَى أَجْوِبَتَهُ سَدِيدَةً، وَرَأْيَهُ صَالِحًا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ رَشُدَ.
وَاعْتُرِضَ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يُغْنِي عَنِ الْفِعْلِ شَيْئًا، فَإِنَّ قَلِيلًا مِنَ النَّبَاهَةِ يَكْفِي لِإِحْسَانِ الْجَوَابِ إِنْ قِيلَ لَهُ مَا تَقُولُ فِي ثَمَنِ هَذَا؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ نُسَمِّيهِمْ أَذْكِيَاءَ وَمُتَعَلِّمِينَ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ فِي الزِّرَاعَةِ عَنْ عِلْمٍ يَقُولُ: يَنْبَغِي كَذَا مِنَ السَّمَادِ وَكَذَا مِنَ السَّقْيِ وَالْعَذْقِ، فَإِذَا أُرْسِلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَكُلِّفَ الْعَمَلَ يَنَامُ مُعْظَمَ النَّهَارِ، وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا، أَوْ يَعْمَلُ فَيُسِيءُ الْعَمَلَ، وَلَا يُحْسِنُهُ، بَلْ تَرَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَخْلَاقِ وَكَيْفِيَّةِ مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَيُحْسِنُ الْقَوْلَ كَمَا يَنْبَغِي وَلَكِنَّهُ يُسِيءُ فِي الْمُعَامَلَةِ فَيَكُونُ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ، فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي قَدْ غَفَلَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُقَلَاءُ وَهِيَ أَنَّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّجْرِبَةِ بَوْنًا شَاسِعًا، فَكَمَا رَأَيْنَا أُنَاسًا مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الْكَلَامِ السُّفَهَاءِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِينَ إِذَا سَأَلْتَهُمْ عَنْ طُرُقِ
316
الِاقْتِصَادِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَتَدْبِيرِ الثَّرْوَةِ أَجَابُوكَ
أَحْسَنَ جَوَابٍ مَبْنِيٍّ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّجَارِبِ، وَإِنْعَامِ النَّظَرِ، ثُمَّ هُمْ يُسَفَّهُونَ فِي عَمَلِهِمْ وَيُبَذِّرُونَ الْأَمْوَالَ تَبْذِيرًا يُسَارِعُونَ فِيهِ إِلَى الْفَقْرِ، أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ رَجُلًا تَرَكَ لَهُ وَالِدُهُ ثَرْوَةً قُدِّرَتْ قِيمَتُهَا بِمِلْيُونِ جُنَيْهٍ (أَيْ بِأَلْفِ أَلْفِ جُنَيْهٍ) فَأَتْلَفَهَا بِإِسْرَافِهِ، وَهُوَ الْآنَ يَطْلُبُ إِعَانَةً مِنَ الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ! !
قَالَ: فَالرَّأْيُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ، وَأَصْوَبُ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ عَلَيْهِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَمْنُوعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالرُّشْدِ هُوَ إِعْطَاءُ الْيَتِيمِ مَالَهُ كُلَّهُ لِيَسْتَقِلَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَأَمَّا إِعْطَاؤُهُ طَائِفَةً مِنْهُ لِيَتَصَرَّفَ فِيهَا تَحْتَ مُرَاقَبَةِ الْوَلِيِّ ابْتِلَاءً وَاخْتِيَارًا لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ بَلْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ: وَحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ ابْتَلُوا الْيَتَامَى إِلَى ابْتِدَاءِ الْبُلُوغِ، وَكَوْنُهَا ابْتِدَائِيَّةً لَا يُنَافِي كَوْنَهَا لِلْغَايَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَا يُفَارِقُهَا، وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ وَالَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْمُفْرَدِ فِي الْإِعْرَابِ، فَسَمَّوُا الْأُولَى الِابْتِدَائِيَّةَ وَهِيَ الَّتِي لَا تَجُرُّ الْمُفْرَدَ، وَسَمَّوُا الثَّانِيَةَ الْجَارَّةَ وَهِيَ الَّتِي تَجُرُّ الْمُفْرَدَ. وَالْغَايَةُ فِي الْأُولَى هِيَ مَفْهُومُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَيِ ابْتَلُوهُمْ إِلَى ابْتِدَاءِ الْحَدِّ الَّذِي يَبْلُغُونَ فِيهِ سِنَّ النِّكَاحِ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَمِرُّوا عَلَى الِابْتِلَاءِ إِلَى أَنْ تَأْنَسُوا مِنْهُمُ الرُّشْدَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْطَى مَالَهُ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَرْشُدْ، وَجُمْلَةُ فَإِنْ آنَسْتُمْ جَوَابُ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا.
أَقُولُ: إِنَّ بُلُوغَ النِّكَاحِ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى السِّنِّ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْمَرْءُ مُسْتَعِدًّا لِلزَّوَاجِ، وَهُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ، فَفِي هَذِهِ السِّنِّ تُطَالِبُهُ بِأَهَمِّ سُنَنِهَا وَهِيَ سُنَّةُ الْإِنْتَاجِ، وَالنَّسْلِ فَتَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجًا، وَأَبًا وَرَبَّ بَيْتٍ وَرَئِيسَ عَشِيرَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ لَهُ إِلَّا بِالْمَالِ، فَوَجَبَ حِينَئِذٍ إِيتَاؤُهُ مَالَهُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ سَفِيهًا، وَخِيفَ أَنْ يُضَيِّعَ مَالَهُ فَيَعْجِزُ عَمَّا تُطَالِبُهُ بِهِ الْفِطْرَةُ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. وَفِي هَذِهِ السِّنِّ يُكَلَّفُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْأُخْرَوِيُّ، فَالرُّشْدُ حُسْنُ التَّصَرُّفِ وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ فِيهِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ صِحَّةِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِحَسَبِهِ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَمْرُ الدُّنْيَا خَاصَّةً، وَقَدْ يُرَادُ أَمْرُ الدِّينِ خَاصَّةً ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْفَاسِقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي
دِينِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ، لِأَنَّ الرُّشْدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَعْنِي بِهِ إِلَّا أَمْرَ الدُّنْيَا. وَقَدْ يُقَالُ إِذَا كَانَ فَسِقُهُ مِمَّا يَتَنَاوَلُ الْأُمُورَ الْمَالِيَّةَ كَمَنْعِ الْحُقُوقِ، وَإِتْلَافِ الْمَالِ بِالْإِسْرَافِ فِي الْخُمُورِ، وَالْفُجُورِ وَجَبَ الْحَجْرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ خَاصَّةً كَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ مَثَلًا فَلَا يَجِبُ الْحَجْرُ.
نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ الْخِلَافَ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الرُّشْدِ، كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: هُوَ الْعَقْلُ، وَقَوْلِ قَتَادَةَ: هُوَ الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ حُسْنُ الْحَالِ
317
وَالصَّلَاحُ فِي الْأَمْوَالِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِمَعْنَى الرُّشْدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْعَقْلُ وَإِصْلَاحُ الْمَالِ ; لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَحَوْزَ مَا فِي يَدِهِ عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فِي دِينِهِ - إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ هَذَا وَإِيضَاحِهِ.
وَتَنْكِيرُ الرُّشْدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَهُوَ لِبَيَانِ نَوْعٍ مِنَ الرُّشْدِ يُنَافِي الْإِسْرَافَ فِي الْمَالِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا مَا.
وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا أَيْ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى مُسْرِفِينَ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهَا، وَلَا مُبَادِرِينَ كِبَرَهُمْ إِلَيْهَا، أَيْ مُسَابِقِينَ الْكِبَرَ فِي السِّنِّ الَّذِي يَأْخُذُونَهَا بِهِ مِنْ أَيْدِيكُمْ فَتَكُونُوا طَالِبِينَ لِأَكْلِ هَذَا الْمَالِ كَمَا يَطْلُبُهُ كِبَرُ سِنِّ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ السَّابِقُ هُوَ الَّذِي يَظْفَرُ بِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِسْرَافًا وَبِدَارًا هُوَ كَالْأَمْرِ قَبْلَهُ تَفْصِيلٌ لِلْآيَةِ النَّاهِيَةِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَى أَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ. وَقَدْ قَيَّدَ النَّهْيَ هُنَا بِالْإِسْرَافِ وَهُوَ صَرْفُ مَالِ الْيَتِيمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَلَوْ عَلَى الْيَتِيمِ نَفْسِهِ. وَسَمَّى هَذَا أَكْلًا لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ، وَالْأَكْلُ يُطْلَقُ عَلَى إِضَاعَةِ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّ ضَمَّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ لَا يُسَمَّى إِسْرَافًا، وَقَيَّدَهُ أَيْضًا بِالْبِدَارِ وَالْمُسَابَقَةِ لِكِبَرِ الْيَتِيمِ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ الضَّعِيفَ الذِّمَّةِ يَسْتَعْجِلُ بِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ الَّتِي لَهُ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ لِئَلَّا تَفُوتَهُ إِذَا كَبِرَ الْيَتِيمُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَهَاتَانِ الْحَالَانِ: الْإِسْرَافُ وَبِدَارٌ وَمُسَابَقَةُ كِبَرِ الْيَتِيمِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ، هُمَا مِنْ مَوَاضِعِ الضَّعْفِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، فَنَبَّهَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمَا، وَنَهَى عَنْهُمَا لِيُرَاقِبَ الْوَلِيُّ رَبَّهُ فِيهِمَا إِذَا عَرَضَتَا لَهُ.
أَقُولُ: إِنَّ مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَيْنِ، وَوَقَفَ عَلَى تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِمَا يَرَى أَنَّهُمَا مِمَّا يَعْرِضُ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَمُخَادَعَةُ النَّفْسِ لِلْإِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي حَدِّ الْإِسْرَافِ، وَخَفَاءِ وِجْهِ مَنْفَعَةِ الْوَلِيِّ فِي الْمُسَابَقَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَا كَانَ مَوْضِعَ خِلَافٍ، وَخَفَاءٍ لَا يُنْكِرُهُ، وَلَا يَنْتَقِدُهُ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ يَسْهُلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلَ مَا فَعَلَهُ الْوَلِيُّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ وُضِعَ فِي مَحَلِّهِ، وَعُمِلَ فِي وَقْتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا قَدْ تَغُشُّ الْوَلِيَّ فِيهِ نَفْسُهُ حَتَّى يُصَدِّقَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْبَاطِنِ، وَيَكْتَفِي بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ أَحَدٌ مِرَاءً ظَاهِرًا تَتَّضِحُ فِيهِ خِيَانَتُهُ ; فَلِأَجْلِ هَذَا، وَذَاكَ صَرَّحَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ لِيَتَدَبَّرَهُ أُولُو الْأَلْبَابِ.
أَمَّا الْأَكْلُ مِنْهَا بِغَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مُبَادَرَةٍ خَوْفَ أَخْذِهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ - كَمَا هُوَ شَأْنُ الْخَائِنِ - فَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ غَنِيًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ فَلْيَعِفَّ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ لِيُطَالِبْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْهَا عَلَى الْعَفِّ عَنْهُ نَزَاهَةً وَشَرَفَ
318
نَفْسٍ. وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَصْرِفُ بَعْضَ وَقْتِهِ، أَوْ كُلَّهُ فِي تَثْمِيرِهِ، وَحِفْظِهِ فَلْيَأْكُلْ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يُبِيحُهُ الشَّرْعُ وَلَا يَسْتَنْكِرُهُ أَهْلُ الْمُرُوءَةِ، وَالْفَضْلِ، وَلَا يَعُدُّونَهُ طَمَعًا، وَلَا خِيَانَةً.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْفُقَهَاءُ فِي الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَذِنَ اللهُ بِهِ لِلْوَلِيِّ الْفَقِيرِ فَقِيلَ: هُوَ الْقَرْضُ يَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وَعِبَارَةُ الْأَخِيرِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ: إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَسْتَقْرِضْ مِنْهُ ; فَإِنْ وَجَدَ مَيْسَرَةً فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَقْرَضَ مِنْهُ فَذَلِكَ أَكْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ مِثْلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَزَادَ: وَإِنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يُوسِرْ يَتَحَلَّلُهُ مِنَ الْيَتِيمِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَتَحَلَّلُهُ مِنْ وَلِيِّهِ ; وَهُوَ يَعْنِي وَلِيَّهُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ كَمَا يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا قَضَاهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْأَكْلِ بِالْمَعْرُوفِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْكُلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ. وَوَضَّحَهُ السُّدِّيُّ، فَقَالَ: يَأْكُلُ مَعَهُ بِأَصَابِعِهِ لَا يُسْرِفُ
فِي الْأَكْلِ، وَلَا يَلْبَسُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَدُكَ مَعَ أَيْدِيهِمْ، وَلَا تَتَّخِذْ مِنْهُ قَلَنْسُوَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ: هُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَوَارَى الْعَوْرَةَ. أَيْ قَدْرَ الضَّرُورَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْكِسْوَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَلَّةِ الْمَالِ كَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ، وَصُوفِهَا، وَثَمَرَاتِ الشَّجَرِ، وَغَلَّةِ الزَّرْعِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ رَقَبَةِ الْمَالِ شَيْئًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَأْخُذُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: يَضَعُ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ كَقَدْرِ خِدْمَتِهِ وَقَدْرِ عَمَلِهِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي يَتَوَلَّى تَدْبِيرَ أَمْوَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: إِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَيْسَ مَالًا لِلْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَسْتَقْرِضُ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْأُجَرَاءِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِهَا حَالُ غِنًى وَلَا حَالُ فَقْرٍ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْأَكْلَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْقَرْضُ وَالْأُجْرَةُ، وَلَا يُبَاحُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ بِلَا غَوْصٍ كَسَائِرِ أَمْوَالِ النَّاسِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَمْوَالِ الْمَجَانِينِ وَالْمَعَاتِيهِ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَكْلِ لَا يَظْهَرُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَقَدْ يَظْهَرُ فِي الْأُجْرَةِ.
وَأَقُولُ: مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَيْسَ لِي مَالٌ، وَإِنِّي وَلِيُّ يَتِيمٍ، فَقَالَ: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْيَتِيمَ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْوَلِيِّ كَوَلَدِهِ وَالْخَيْرُ لَهُ فِي تَرْبِيَتِهِ أَنْ يُخَالِطَهُ الْوَلِيُّ هُوَ وَأَهْلُهُ فِي الْمُؤَاكَلَةِ، وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَنِيًّا، وَلَا طَمَعَ لَهُ فِي مَالِهِ كَانَ الْيَتِيمُ هُوَ الرَّابِحُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ، وَإِنْ كَانَ يُصْرَفُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ فَقِيرًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ
319
إِصَابَةِ بَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الْغَنِيِّ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ، وَثَمَرِهِ مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ بَيْنَ الْخُلَطَاءِ غَيْرَ مُصِيبٍ مِنْ رَقَبَةِ الْمَالِ شَيْئًا، وَلَا مُتَأَثِّلٍ لِنَفْسِهِ مِنْهُ عَقَارًا، وَلَا مَالًا آخَرَ، وَلَا مُسْتَخْدِمًا مَالَهُ فِي مَصَالِحِهِ وَمَرَافِقِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ آكِلًا بِالْمَعْرُوفِ، هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [٢: ٢٢٠] فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ [ص٢٧١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَيْ لِيُعْرَفَ أَمْرُ رُشْدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ
وَلِتَظْهَرَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِكُمْ وَلِتُحْسَمَ مَادَّةُ النِّزَاعِ بَيْنَكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَفَعَ إِلَى الْيَتِيمِ مَالَهُ (أَيْ عِنْدَ بُلُوغِ رُشْدِهِ) فَلْيَدْفَعْهُ إِلَيْهِ بِالشُّهُودِ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -. وَهَذَا الْإِشْهَادُ وَاجِبٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ مَنْدُوبٌ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ أَمْرُ إِرْشَادٍ لَا أَمْرَ وُجُوبٍ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَوَامِرَ الْمَارَّةَ كُلَّهَا لِلْإِيجَابِ الْقَطْعِيِّ، وَالنَّوَاهِيَ كُلَّهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِثْلُ مَا سَبَقَهُ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ هُوَ أَنَّ النَّاسَ تَهَاوَنُوا بِأَمْرِ الْإِشْهَادِ وَأَهْمَلُوهُ مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ، فَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَى الْفُقَهَاءِ التَّأْوِيلَ، وَرَأَوْهُ أَوْلَى مِنْ تَأْثِيمِ النَّاسِ وَجَعْلِ أَكْثَرِهِمْ مُخَالِفِينَ لِمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّ الْإِشْهَادَ حَتْمٌ، وَأَنَّ تَرْكَهُ يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ، وَالتَّخَاصُمِ، وَالتَّقَاضِي كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي زَمَنٍ مَا مُسْتَمْسِكِينَ بِعُرْوَةِ الدِّينِ اسْتِمْسَاكًا عَامًّا، وَكَانَ الْيَتَامَى يُحْسِنُونَ الظَّنَّ فِي الْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَتَّهِمُونَهُمْ، وَأَنَّ الْإِشْهَادَ لَمْ يَكُنْ مُحَتَّمًا عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ هَذَا. أَفَلَيْسَ هَذَا الزَّمَنُ الْمَعْلُومُ مُخَالِفًا لِذَلِكَ الزَّمَنِ الْمَجْهُولِ مُخَالَفَةً تَقْتَضِي أَنْ يُجْعَلَ الْإِشْهَادُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ لِقَطْعِ عِرْقِ الْخِصَامِ وَنُزُوعِ النَّفْسِ إِلَى النِّزَاعِ وَالْمُشَاغَبَةِ؟
وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا أَيْ وَكَفَى بِاللهِ رَقِيبًا عَلَيْكُمْ وَشَهِيدًا يُحَاسِبُكُمْ عَلَى مَا أَظْهَرْتُمْ وَمَا أَسْرَرْتُمْ، أَوْ كَفَى بِاللهِ كَافِيًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ. الْحَسْبُ (بِسُكُونِ السِّينِ) فِي الْأَصْلِ: الْكِفَايَةُ، وَفَسَّرَ الرَّاغِبُ الْحَسِيبَ: بِالرَّقِيبِ، وَفَسَّرَهُ السُّدِّيُّ: بِالشَّهِيدِ، فَهَلْ هَذَانِ مَعْنَيَانِ مُسْتَقِلَّانِ أَمْ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَسِيبُ: هُوَ الْمُرَاقِبُ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِهَذَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ الْقَاطِعِ لِعِرْقِ النِّزَاعِ لِيَدُلَّنَا عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ - وَإِنْ حَصَلَ، وَكَانَ يُسْقِطُ الدَّعْوَى عِنْدَ الْقَاضِي بِالْمَالِ - لَا يُسْقِطُ الْحَقَّ
320
عِنْدَ اللهِ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ خَائِنًا ; إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ - تَعَالَى - مَا يَخْفَى عَلَى الشُّهُودِ وَالْحُكَّامِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَوْصِيَاءَ الْخُبَثَاءَ الَّذِينَ نَعْرِفُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَ اللهِ فِي ذَلِكَ قَطُّ ; فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمُ الْخِيَانَةُ وَأَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَالسُّفَهَاءِ وَالْأَوْقَافِ بِالْحِيَلِ حَتَّى إِنَّهُ يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُولَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ عَشَرَةُ أَشْخَاصٍ يَصْلُحُونَ لِلْوِصَايَةِ عَلَى الْيَتِيمِ، أَوِ السَّفِيهِ، وَالْوَقْفِ، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ عَلَى الْوَقْفِ كَالْوِصَايَةِ عَلَى الْيَتِيمِ. فَانْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِاخْتِبَارِ الْيَتِيمِ، وَدَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ رُشْدَهُ، وَمِنَ النَّهْيِ
عَنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهُ بِطُرُقِ الْإِسْرَافِ وَمُبَادَرَةِ كِبَرِهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ، ثُمَّ التَّنْبِيهِ إِلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى - الَّتِي تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ عَنْهُ: أَنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبَاءَ الدَّاخِلَةَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَى بِاللهِ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى كَفَى اللهُ حَسِيبًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْفَاعِلَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ، وَالْبَاءَ حَرْفُ جَرٍّ أَصْلِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَطْبِيقِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعُوهَا - أَوْ قَالَ قَعَّدُوهَا - وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى مَعَ وُجُودِ الْبَاءِ هُوَ غَيْرُ الْمَعْنَى مَعَ عَدَمِهَا، فَلَهَا مَعْنًى فِي الْكَلَامِ كَيْفَمَا أُعْرِبَتْ، وَإِنَّ (كَفَى) فِعْلٌ لَيْسَ لَهُ فَاعِلٌ، وَالْجَارَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ أَشَدُّ مَنْ يُرَاقِبُ وَيُحَاسِبُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ فَرَائِدِ الْبَلَاغَةِ الْمَسْمُوعَةِ الَّتِي لَا تُحْتَذَى، وَلَا يُؤْتَى بِمِثْلٍ لَهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ النَّادِرِ مِثْلُهَا فِي حُسْنِهَا، فَلَا يُمْكِنُ تَطْبِيقُهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ الدَّائِرِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْفَهَاهَةِ عَلَى السَّوَاءِ.
أَقُولُ: وَيَحْسُنُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا مَا قَالَهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْغَايَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُوَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ النَّحْوِيَّةَ، وَنَحْوَهَا (كَقَوَاعِدِ الْبَيَانِ)، وُضِعَتْ بَعْدَ وَضْعِ اللُّغَةِ لَا قَبْلَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً شَامِلَةً لِكُلِّ كَلَامٍ. وَلَكِنَّ النُّحَاةَ حَاوَلُوا إِدْخَالَ كُلِّ الْكَلَامِ فِي قَوَاعِدِهِمْ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ النَّادِرِ الِاسْتِعْمَالِ: إِنَّهُ وَرَدَ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي وَضَعْنَاهَا فَهُوَ نَظْمٌ سَمَاعِيٌّ يُحْفَظُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ الشَّائِعِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الْقَوَاعِدُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شَاذٌّ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ بُلَدَاءِ الْأَعْرَابِ لَا حُسْنَ فِيهِ، وَقِسْمٌ كَالدُّرَرِ الْيَتِيمَةِ انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ، فَكَانَ لَهُ أَحْسَنُ تَأْثِيرٍ فِي الْكَلَامِ، وَيُوجَدُ كُلٌّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ فِي كُلِّ لُغَةٍ، وَمَا يُوجَدُ مِنْهُ فِي كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ أَعْلَاهُ، وَأَبْلَغُهُ.
321
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا
لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا
الْمُفْرَدَاتُ: وَلْيَخْشَ أَمْرٌ مِنَ الْخَشْيَةِ، وَهِيَ كَمَا فِي الْمَعَاجِمِ الْخَوْفُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: هِيَ خَوْفٌ يَشُوبُهُ تَعْظِيمٌ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ بِمَا يُخْشَى مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ خُصَّ الْعُلَمَاءُ بِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [٣٥: ٢٨].
وَأَقُولُ: إِنَّ الْقَيْدَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَظْهَرُ فِي كُلِّ الشَّوَاهِدِ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَنْتَرَةَ خَوْفٌ مَشُوبٌ بِتَعْظِيمٍ وَلَا عِلْمٍ فِيمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:
وَلَقَدْ خَشِيتُ بِأَنْ أَمُوتَ وَلَمْ تَكُنْ لِلْحَرْبِ دَائِرَةٌ عَلَى ابْنَيْ ضَمْضَمِ
فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ فَرْقٌ فَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْخَشْيَةُ هِيَ الْخَوْفُ فِي مَحَلِّ الْأَمَلِ. وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَرْفُ الْخَشْيَةِ يَجِدُ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا، وَلَعَلَّ أَصْلَ الْخَشْيَةِ مِنْ مَادَّةِ خَشَتِ النَّخْلَةُ تَخْشُو إِذَا جَاءَ تَمْرُهَا دَقَلًا (رَدِيئًا)، وَهِيَ مِمَّا يُرْجَى مِنْهَا الْجَيِّدُ. وَلَمْ يَرِدْ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ مَفْعُولٍ وَلْيَخْشَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالتَّلَبُّسِ بِالْخَشْيَةِ كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى [٨٠: ٨، ٩] أَوْ حَذَفَ الْمَفْعُولَ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصَوُّرِهِ إِلَى كُلِّ مَا يُخْشَى فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لِيَسْتَشْعِرُوا خَوْفًا مِنْ مَعَرَّتِهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِيَخْشَوُا اللهَ.
قَوْلًا سَدِيدًا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّدِيدُ هُوَ الْعَدْلُ وَالصَّوَابُ. وَهُوَ لَا يَكُونُ مِنَ الْمُتَدَيِّنِ
إِلَّا مُوَافِقًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ. وَقَالُوا: سَدَّ قَوْلُهُ يَسِدُّ " بِكَسْرِ السِّينِ " إِذَا كَانَ سَدِيدًا، وَهُوَ يَسِدُّ فِي الْقَوْلِ إِسْدَادًا: يُصِيبُ السَّدَادَ " بِالْفَتْحِ ": وَهُوَ الْقَصْدُ وَالصَّوَابُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَالسِّدَادُ " بِكَسْرٍ ": الْبُلْغَةُ، وَمَا يُسَدُّ بِهِ الشَّيْءُ كَالثَّغْرِ، وَالْقَارُورَةِ. وَقَوْلُهُمْ: " سَدَادٌ مِنْ عَوَزٍ " وَرَدَ بِفَتْحِ السِّينِ وَبِكَسْرِهَا، وَهُوَ الْأَفْصَحُ. وَإِذَا كَانَ السَّدِيدُ
مَأْخُوذًا مِنْ سَدِّ الثَّغْرِ، وَنَحْوِهِ فَالْقَوْلُ السَّدِيدُ: هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي تُدْرَأُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ، وَتُحْفَظُ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا أَنَّ سَدَادَ الثَّغْرِ يَمْنَعُ اسْتِطْرَاقَ شَيْءٍ مِنْهُ يَضُرُّ مَا وَرَاءَهُ.
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ (وَسَيُصَلَّوْنَ) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِصْلَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا مِنَ الصِّلِيِّ. يُقَالُ: صَلَى اللَّحْمَ صَلْيًا " بِوَزْنٍ رَمَاهُ رَمْيًا " شَوَاهُ. فَإِذَا رَمَاهُ فِي النَّارِ يُرِيدُ إِحْرَاقَهُ يُقَالُ: أَصْلَاهُ إِصْلَاءً، وَصَلَّاهُ تَصْلِيَةً، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى الثُّلَاثِيِّ، وَالرُّبَاعِيِّ وَاحِدًا، كُلٌّ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ وَفِي الْإِلْقَاءِ لِأَجْلِ الْإِحْرَاقِ، وَالْإِفْسَادِ. وَصَلَّى يَدَهُ بِالنَّارِ: سَخَّنَهَا، وَأَدْفَأَهَا، وَاصْطَلَى: اسْتَدْفَأَ. وَأَصْلَاهُ النَّارَ وَصَلَّاهُ إِيَّاهَا: أَدْخَلَهُ إِيَّاهَا، وَأَصْلَاهُ فِيهَا أَدْخَلَهُ فِيهَا، وَصَلَيْتُ النَّارَ قَاسَيْتُ حَرَّهَا. وَالصَّلَى - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - وَالصِّلَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ -: الْوَقُودُ. وَيُطْلَقُ الصِّلَاءُ عَلَى الشِّوَاءِ أَيْ مَا يُشْوَى، قَالَ السَّيِّدَ الْأَلُوسِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ أَصْلَ الصِّلِيِّ الْقُرْبُ مِنَ النَّارِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الدُّخُولِ مَجَازًا - اهـ. وَ (السَّعِيرُ) النَّارُ الْمُسْتَعِرَةُ أَيِ الْمُشْتَعِلَةُ، يُقَالُ: سَعَرْتُ النَّارَ سَعْرًا وَسَعَّرْتُهَا تَسْعِيرًا أَشْعَلْتُهَا، قَالَ الرَّازِيُّ: وَالسَّعِيرُ مَعْدُولٌ عَنْ مَسْعُورَةٍ كَمَا عُدِلَ كَفٌّ خَضِيبٌ عَنْ مَخْضُوبَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: سَعِيرًا لِأَنَّ الْمُرَادَ نَارٌ مِنَ النِّيرَانِ مُبْهَمَةٌ لَا يَعْرِفُ غَايَةَ شِدَّتِهَا إِلَّا اللهُ. اهـ. فَهُوَ يَعْنِي أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّهْوِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ أَيْ يَصْلَوْنَ أَوْ يُصْلِيهِمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ سَعِيرًا خَاصًّا مِنَ السَّعْرِ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا مَنْ هَضَمَ حُقُوقَ الْيَتَامَى، وَأَكَلَ أَمْوَالَهُمْ ظُلْمًا.
الْمَعْنَى أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، وَلَا الصِّغَارَ الذُّكُورَ حَتَّى يُدْرِكُوا، فَمَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ، وَابْنًا صَغِيرًا، فَجَاءَ ابْنَا عَمِّهِ خَالِدٌ، وَعُرْفُطَةُ - وَهُمَا عَصَبَتُهُ - فَأَخَذَا مِيرَاثَهُ كُلَّهُ فَأَتَتِ امْرَأَتُهُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فَنَزَلَتْ " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَطَرِيقُ الْكَلْبِيِّ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ هِيَ أَوْهَى الطُّرُقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَضْعَفُهَا، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُمِّ كُجَّةَ، وَابْنَةِ كُجَّةَ، وَثَعْلَبَةَ، وَأَوْسِ بْنِ سُوَيْدٍ، وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانَ أَحَدُهُمْ
323
زَوْجَهَا، وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُوُفِّيَ زَوْجِي، وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ فَلَمْ نُوَرَّثْ، فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَرْكَبُ فَرَسًا، وَلَا تَحْمِلُ كَلًّا، وَلَا تَنْكِئُ عَدُوًّا، يُكْسَبُ عَلَيْهَا، وَلَا تَكْتَسِبُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ، زَادَ ابْنُ زَيْدٍ: وَلَا الصِّغَارِ - لَمْ يَذْكُرُوا وَاقِعَةً مُعَيَّنَةً.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَدِيدٌ، وَهُوَ انْصِرَافٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ثَلَاثِ آيَاتٍ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إلخ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى لَا يَزَالُ مُتَّصِلًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ التَّفْصِيلَ فِي حُرْمَةِ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَأَمَرَ بِإِعْطَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ إِذَا رَشَدُوا، ذَكَرَ أَنَّ الْمَالَ الْمَوْرُوثَ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْأَوْلِيَاءُ لِلْيَتَامَى يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ خِلَافًا لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ، فَهَذَا تَفْصِيلٌ آخَرُ فِي الْمَالِ نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي الْإِعْطَاءِ وَوَقْتِهِ، وَشَرْطِهِ. وَمَالُ الْيَتَامَى إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: إِذَا كَانَ لِلْيَتَامَى مَالٌ مِمَّا تَرَكَهُ لَهَا الْوَالِدَانِ، وَالْأَقْرَبُونَ فَهُمْ فِيهِ عَلَى الْفَرِيضَةِ لَا فَرْقَ فِي شَرِكَةِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِيهِ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَعَنَى بِقَوْلِهِ: نَصِيبًا مَفْرُوضًا أَنَّهُ حَقٌّ مُعَيَّنٌ مَقْطُوعٌ بِهِ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُصَهُمْ مِنْهُ شَيْئًا.
وَأَقُولُ - زِيَادَةً فِي إِيضَاحِ رَأْيِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ -: إِنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ كَانَتْ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ هَضْمِ حَقِّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ، وَبَيَانِ حُقُوقِ الْيَتَامَى، وَالزَّوْجَاتِ، وَمَنْعِ ظُلْمِهِنَّ، فَمَنَعَ فِيهَا أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ بِالِاسْتِبْدَالِ الَّذِي يُؤْخَذُ فِيهِ جِيِّدُ الْيَتِيمِ وَيُعْطَى رَدِيئًا بَدَلَهُ، وَمَنَعَ أَكْلَ مُهُورِ النِّسَاءِ، أَوْ عَضْلَهُنَّ لِلتَّمَتُّعِ بِأَمْوَالِهِنَّ، أَوْ تَزْوِيجَهُنَّ بِغَيْرِ مَهْرٍ، أَوْ الِاسْتِكْثَارَ مِنْهُنَّ لِأَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ ظُلْمِهِنَّ - فَكَمَا حَرَّمَ هَذَا كُلَّهُ فِيمَا تَقَدَّمَ حَرَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعَ تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ - فَالْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى، وَالنِّسَاءِ وَمَنْعِ
الظُّلْمِ الَّذِي كَانَ يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمَا. وَذُكِرَ بِلَفْظِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ عَامٌّ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: نَصِيبًا مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِمَعْنَى أَعْنِي نَصِيبًا مَفْرُوضًا، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ كَقَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ كَأَنَّهُ قَالَ قِسْمَةً مَفْرُوضَةً. كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ انْتِصَابَهُ عَلَى الْحَالِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أَيْ إِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ - الَّتِي يَتْرُكُهَا الْمُوَرِّثُ لِوَرَثَتِهِ، أَوْ قِسْمَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ الرُّشْدِ أَوِ الْوَصِيَّةِ - أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِلْوَارِثِينَ، أَوِ الْمُوصَى لَهُمْ، وَمِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَانْفَحُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي أَصَابَكُمْ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا كَدْحٍ، وَقُولُوا
324
لَهُمْ قَوْلًا حَسَنًا تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ وَتَسْتَحْسِنُهُ وَلَا تُنْكِرُهُ الْأَذْوَاقُ السَّلِيمَةُ وَلَا تَمُجُّهُ، وَالْمُرَادُ بِذَوِي الْقُرْبِ - الَّذِينَ يَحْضُرُونَ قِسْمَةَ الْوَرَثَةِ - مَنْ لَا يَرِثُ مِنْهُمْ، وَقَرِيبُ الْوَارِثِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا، فَالْأَخُ مِنَ الْأَبِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِأَخِ الْمَيِّتِ الشَّقِيقِ وَهُوَ لَا يَرِثُ، وَكَذَلِكَ الْعَمُّ وَالْخَالُ وَالْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ يُعَدُّونَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِلْوَارِثِ الَّذِي لَا يَرِثُونَ مَعَهُ، وَقَدْ يَسْرِي إِلَى نُفُوسِهِمُ الْحَسَدُ فَيَنْبَغِي التَّوَدُّدُ إِلَيْهِمْ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ بِإِعْطَائِهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْرُوثِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَلَوْ بِصِفَةِ الْهِبَةِ، أَوِ الْهَدِيَّةِ، أَوْ إِعْدَادِ طَعَامٍ لَهُمْ يَوْمَ الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَشُكْرِ النِّعَمِ. وَوَجْهُ إِعْطَاءِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ظَاهِرٌ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ لِأَرْبَابِ الْمَالِ الَّذِينَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَ الْيَتَامَى الَّذِينَ رَشَدُوا كَانَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعِظَهُمْ وَيُرْشِدَهُمْ إِلَى مَا يَنْبَغِي فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِ أَرْبَابِ الْمَالِ. وَالْأَدَبُ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْكِتَابُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هُوَ اعْتِبَارُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَى الْوَارِثِينَ عَفْوًا بِغَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ، وَلَا سَعْيٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْخَلُوا بِهِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ مِنْ أُمَّتِهِمْ، وَيَتْرُكُوهُمْ يَذْهَبُونَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ مُضْطَرِبِي النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْحِرْمَانُ مَدْعَاةَ حَسَدِهِ لِلْوَارِثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمَعْرُوفِ: فَهُوَ مَا تَطِيبُ بِهِ نُفُوسُ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ عِنْدَمَا يَأْخُذُونَ مَا يُفَاضُ
عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَثْقُلَ عَلَى عَزِيزِ النَّفْسِ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُهُ، وَيَرْضَى الطَّامِعُ فِي أَكْثَرِ مِمَّا أُعْطِيَ بِمَا أُعْطِيَ، فَإِنَّ مِنَ الْفُقَرَاءِ مَنْ يُظْهِرُ اسْتِقْلَالَ مَا نَالَهُ، وَاسْتِكْثَارَ مَا نَالَ سِوَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاطَفَ مِثْلُ هَذَا، وَلَا يُغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ.
قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنْ يَتَضَايَقُوا، وَيَتَبَرَّمُوا مِنْ حُضُورِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَغَيْرِهِمْ مَجْلِسَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (أَنَّ كَمَا أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يُحِبُّونَ أَنْ يَحْضُرُوا وَيَعْرِفُوا مَا نَالَ ذَوِي قُرْبَاهُمْ) وَمَنْ كَانَ كَارِهًا لِشَيْءٍ تَظْهَرُ كَرَاهَتُهُ لَهُ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، فَعَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْأَدَبَ فِي الْحَدِيثِ لِنُهَذِّبَ بِهِ هَذِهِ السَّجِيَّةَ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [٧٠: ١٩] الْآيَاتِ.
قَالَ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ لِلنَّدْبِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَحُدِّدَ، وَقُدِّرَ كَمَا حُدِّدَتِ الْمَوَارِيثُ، وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلٍ ; فَقَدْ يَجِبُ الْعَطَاءُ وَيُوكَلُ الْأَمْرُ فِي الْمِقْدَارِ إِلَى الْمُعْطِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَهَجَرَهُ النَّاسُ كَمَا هَجَرُوا الْعَمَلَ بِآيَةِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ دُخُولِ الْبُيُوتِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ نَدْبٌ أَوْ مَنْسُوخٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ: وَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ رَأْيًا، وَمَذْهَبًا وَيُحَاوِلَ جَرَّ الْقُرْآنِ إِلَيْهِ، وَتَحْوِيلَهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ بِإِخْرَاجِ الْأَلْفَاظِ عَنْ ظَوَاهِرِ مَعَانِيهَا الْمُتَبَادِرَةِ مِنْهَا، وَإِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَا أَنْ فَوَّضَ أَمْرَ مِقْدَارِ مَا نُعْطِيهِ إِلَيْنَا وَجَعَلَهُ مِمَّا يَتَفَاضَلُ فِيهِ الْأَسْخِيَاءُ.
325
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ: أَنَّ مَا أُمِرْنَا أَنْ نَرْزُقَهُمْ مِنْهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ هُوَ الْأَعْيَانُ الْمَنْقُولَةُ، وَأَمَّا الْأَرْضُ وَالرَّقِيقُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَرْضَخَ مِنْهُ بِشَيْءٍ بَلْ يَكْتَفِي حِينَئِذٍ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ، أَوْ بِإِطْعَامٍ كَمَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الرِّزْقِ هُنَا وَسَيَأْتِي.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالضَّحَّاكِ قَالَا: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَضْعَفِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَصَرَّحَ
مُجَاهِدٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ مَا طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ مَدَنِيَّاتٍ تَرَكَهُنَّ النَّاسُ، هَذِهِ الْآيَةُ، وَآيَةُ الِاسْتِئْذَانِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٢٤: ٥٨] وَهَذِهِ الْآيَةُ: يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [٤٩: ١٣] اهـ. وَخَصَّهَا بَعْضُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِقِسْمَةِ الْوَصِيَّةِ لِأُولِي قُرْبَى الْمُوصِي ; وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ فَهِمُوا كَمَا فَهِمَ مَنْ قَالَ بِالنَّسْخِ أَنَّ أُولِي الْقُرْبَى هُمُ الْوَارِثُونَ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِرِزْقِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَسْخِ هَذَا الْأَمْرِ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِقِسْمَةِ الْوَصِيَّةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ - مِمَّا قَدَّمْنَاهُ - أَنَّهُ يَشْمَلُ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَقِسْمَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ رُشْدِهِمْ، وَقِسْمَةَ الْوَصَايَا، وَهِيَ فِي التَّرِكَةِ أَظْهَرُ لِاتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ فِيمَا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ - أَيِ الرِّزْقَ وَالْعَطَاءَ - لِأُولِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ إِنْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمِيرَاثِ صَغِيرًا، وَقَسَّمَ عَلَيْهِ الْمِيرَاثَ وَلِيُّ مَالِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لِوَلِيِّ مَالِهِ أَنْ يُقَسِّمَ مِنْ مَالِهِ وَوَصِيَّتِهِ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، لَكِنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا. قَالُوا: وَالَّذِي أَمَرَهُ اللهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا هُوَ وَلِيُّ مَالِ الْيَتِيمِ، إِذَا قَسَّمَ مَالَ الْيَتِيمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُرَكَاءِ الْيَتِيمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ مَالِهِ أَحَدُ الْوَرَثَةِ، فَيُعْطِيهِمْ مِنْ نَصِيبِهِ، وَيُعْطِيهِمْ مَنْ يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي مَالِهِ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ، قَالُوا: فَأَمَّا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ فَالَّذِي يُوَلَّى عَلَى مَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ مَالِهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهُ شَيْئًا. اهـ. وَسَاقَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي أَمْوَالِ الصِّغَارِ، وَالْكِبَارِ لِأُولِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ كِبَارًا تَوَلَّوْا عِنْدَ الْقِسْمَةِ إِعْطَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا تَوَلَّى ذَلِكَ وَلِيُّ مَالِهِمْ اهـ. وَأَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَلَكِنَّهُمَا تَأَوَّلَا الرِّزْقَ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ، فَكَانَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَأْمُرَانِ بِذَبْحِ شَاةٍ، وَصُنْعِ طَعَامٍ لِمَنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ مِمَّنْ ذُكِرَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْضُرُونَ فَيُعْطَوْنَ الشَّيْءَ وَالثَّوْبَ الْخَلِقَ.
326
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ فِي الْآيَةِ مِنَ السَّلَفِ أَوْجَبُوا رِزْقَ مَنْ حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ مِمَّنْ ذَكَرَتْهُمُ الْآيَةُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ مَا قِيلَ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّمَا يُرْزَقُونَ مِنْ مَالِ الْكَبِيرِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلِيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُطَالَبِينَ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْمُطَالَبُونَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُعَلِّلَةً لِلْأَمْرِ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فِي تِلْكَ مُتَّصِلَةً بِهَا مُبَاشَرَةً، ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى بَعْضُ حَاضِرِي الْقِسْمَةِ عَنْ رِزْقِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَهَا. وَهَذَا يَكْثُرُ فِي النَّاسِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ الْوُجَهَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَحَبَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُوهِمُ الْغَيْرَةَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُذَكِّرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحُولُونَ دُونَ عَمَلِ الْبِرِّ بِأَنْ يَخَافُوا اللهَ أَنْ يَتْرُكُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَرَثَةً ضُعَفَاءَ يَحْتَاجُونَ مَا يَحْتَاجُهُ حَاضِرُو الْقِسْمَةِ وَطَالِبُو الْبِرِّ مِنَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَيُعَامَلُوا بِالْحِرْمَانِ وَالْقَسْوَةِ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ بِمِثْلِ مَا يُحِبُّونَ أَنْ تُعَامَلَ بِهِ ذُرِّيَّتُهُمْ إِذَا تَرَكُوهُمْ ضِعَافًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى الْيَتَامَى، فَهُوَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ بِابْتِلَائِهِمْ، وَاخْتِبَارِهِمْ بِالْعَمَلِ لِيُعْرَفَ رُشْدُهُمْ أَمَرَهُمْ بِإِحْسَانِ الْقَوْلِ لَهُمْ أَيْضًا ; فَإِنَّ الْيَتِيمَ يَجْرَحُهُ أَقَلُّ قَوْلٍ يُهِينُ وَلَاسِيَّمَا ذِكْرُ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ بِسُوءٍ. وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَسَاهُلِ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا حَافِظِينَ لِلْأَمْوَالِ مُحْسِنِينَ فِي الْمُعَامَلَةِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ يَتِيمٌ فِي بَيْتٍ إِلَّا وَيُمْتَهَنُ وَيُقْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَذِكْرِ وَالِدَيْهِ بِمَا يَشِينُهُمَا ; وَلِذَلِكَ وَرَدَ التَّأْكِيدُ بِالْوَصِيَّةِ بِالْيَتَامَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَقُولُ: وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْهَا - لِاخْتِيَارِهِ أَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي قِسْمَةِ الْوَصَايَا - أَنَّهَا فِي الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مُوصِيًا يُوصِي فِي مَالِهِ، وَيَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَأْمُرُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَخَافُوا عَلَى ذُرِّيَّةِ هَذَا الرَّجُلِ مِثْلَ مَا يَخَافُونَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ تَرَكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا فَلَا يَقُولُوا فِي الْوَصِيَّةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَضُرَّ بِذُرِّيَّةِ الْمُوصِي كَالتَّرْغِيبِ فِي تَكْثِيرِ الْوَصِيَّةِ لِلْغُرَبَاءِ، بَلْ يَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا بِأَنْ يُرَغِّبُوهُ فِيمَا يَرْضَوْنَ مِثْلَهُ لِأَنْفُسِهِمْ،
وَلِذُرِّيَّتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ فِي وُلَاةِ الْيَتَامَى يَأْمُرُهُمُ اللهُ بِأَنْ يُحْسِنُوا مُعَامَلَتَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمُ الضِّعَافِ لَوْ تَرَكُوهُمْ وَمَاتُوا عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: " يَعْنِي بِذَلِكَ الرَّجُلَ يَمُوتُ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ ضِعَافٌ يَخَافُ عَلَيْهِمُ الْعَيْلَةَ (أَيِ الْفَقْرَ) وَالضَّيْعَةَ، وَيَخَافُ بَعْدَهُ أَلَّا يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَلِيهِمْ، يَقُولُ: فَإِنْ وَلِيَ مِثْلَ ذُرِّيَّتِهِ ضِعَافًا يَتَامَى فَلْيُحْسِنْ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَأْكُلْ أَمْوَالَهُمْ إِسْرَافًا وَبِدَارًا خَشْيَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يَكْفِيهِمْ أَمْرَ ذُرِّيَّتِهِمْ بَعْدَهُمْ "، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا قَالَهُ
327
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَعْنَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ كَمَا بَيَّنَ هُنَاكَ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْوَرَثَةِ بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ مَنْ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْأَقَارِبِ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْسِنَ النَّاسُ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّتِهِمْ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى أَنْ يَتَّقُوا اللهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ رِزْقِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ مُؤَكِّدًا لِمِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ.
وَفِيهَا قَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَنْ يَتَبَصَّرُوا فِي أَمْرِ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلَا يُسْرِفُوا فِي الْوَصِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحِبُّ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالثُّلُثِ إِلَّا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَقَالَ: " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ; لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ " أَيْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ فِي ذُرِّيَّتِهِمْ، وَلْيَقُولُوا فِي تَقْرِيرِ الْوَصِيَّةِ قَوْلًا سَدِيدًا، أَيْ قَرِيبًا مِنَ الْعَدْلِ، وَالْمَصْلَحَةِ، بَعِيدًا مِنَ اسْتِطْرَاقِ الْمَضَرَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَشْمَلَ كُلَّ مَا ذُكِرَ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: لِيَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ - أَوْ لِيَخْشَ الْعَاقِبَةَ، أَوِ اللهَ - الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا بَعْدَهُمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا أَنْ يُسِيءَ النَّاسُ مُعَامَلَتَهُمْ وَيُهِينُوهُمْ فَلَا يَقُولُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِذُرِّيَّةِ أَحَدٍ، بَلْ لِيَقُولُوا قَوْلًا مُحْكَمًا يَسُدُّ مَنَافِذَ الضَّرَرِ فَكَمَا يُدِينُ الْمَرْءُ يُدَانُ.
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا أَيْ ظَالِمِينَ فِي أَكْلِهَا أَوْ أَكْلًا عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ وَهَضْمِ الْحَقِّ لَا أَكْلًا بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، أَوِ اقْتِرَاضًا، أَوْ تَقْدِيرًا لِأُجْرَةِ الْعَمَلِ كَمَا أَذِنَ اللهُ لِلْفَقِيرِ فِي آيَةٍ سَابِقَةٍ، وَكَمَا أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ بِدَلَائِلَ
أُخْرَى إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أَيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ، فَقَدْ شَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الظَّرْفِيَّةِ كَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْمَظْرُوفُ مَالِئًا لِلظَّرْفِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْبُطُونِ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَمْثِيلِ الْوَاقِعِ بِكَمَالِ هَيْئَتِهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [٤٨: ١١].
نَارًا أَيْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِعَذَابِ النَّارِ أَوْ مَا يُشْبِهُ النَّارَ فِي ضَرَرِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ أَفْوَاهَهُمْ تُمْلَأُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمْرًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُمْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ يُجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرٌ مِنْ نَارٍ فَيُقْذَفُ فِي أَجْوَافِهِمْ، أَيْ مُثِّلَ لَهُ عَذَابُهُمْ بِمَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِجَعْلِ أَكْلِ النَّارِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِجَعْلِ يَأْكُلُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لِلْحَالِ بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وَهُوَ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَحُجَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَلْيَ السَّعِيرِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دُخُولِ النَّارِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَكْلُ النَّارِ لِمَنْ يَأْكُلُهَا بَعْدَ دُخُولِهَا، أَيْ دُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا ; لِأَنَّ جُلَّ الْعَذَابِ فِيهَا يَكُونُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ لَكَانَ لَفْظُهَا هَكَذَا: " فَسَيَأْكُلُونَ نَارًا وَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا " فَالْأَكْلُ عَذَابُ بَاطِنِ الْبَدَنِ لِأَنَّ مُعْظَمَ اغْتِيَالِ الْمَالِ يَكُونُ لِلْأَكْلِ، وَالصِّلِيُّ عَذَابُ ظَاهِرِهِ فَهُوَ جَزَاءُ اللِّبَاسِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَكِنَّهُ
328
لَمَّا ذَكَرَ يَأْكُلُونَ غُفْلًا مِنْ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ " يَصْلَوْنَ " مَقْرُونًا بِالسِّينِ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ الِاسْتِقْبَالِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ الْآنَ مَالَا خَيْرَ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ ; لِأَنَّهُ فِي قُبْحِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ كَالنَّارِ، أَوْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُجْزَوْنَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْمَجَازُ فِي أَكْلِ النَّارِ فَقَالَ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وَلَمْ أَرَ أَحَدًا حَقَّقَ هَذَا الْبَحْثَ وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي الْآيَةِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.
يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
329
أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِيمَا قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَوَائِلِ السُّورَةِ بِإِعْطَاءِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا لَا يُحْسِنُ تَثْمِيرَ الْمَالِ وَلَا حِفْظَهُ، فَيُثَمِّرُهُ لَهُ الْوَلِيُّ وَيَحْفَظُهُ لَهُ إِلَى أَنْ يَرْشُدَ، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَبْطَلَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِهِمْ. فَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ أَحْكَامَ الْمِيرَاثِ وَفَرَائِضِهِ، فَكَانَ بَيَانُهُ فِي هَاتَيْنِ، وَآيَةٌ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ بَعْدَ نُزُولِهَا فَبَطَلَ بِهَا، وَبِقَوْلِهِ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [٨: ٧٥] مَا كَانَ مِنْ نِظَامِ التَّوَارُثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
أَمَّا الْجَاهِلِيَّةُ فَكَانَتْ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَهَا ثَلَاثَةً:
أَحَدُهَا: النَّسَبُ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ، وَيُقَاتِلُونَ الْأَعْدَاءَ، وَيَأْخُذُونَ الْغَنَائِمَ لَيْسَ لِلضَّعِيفَيْنِ: الطِّفْلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ.
ثَانِيهَا: التَّبَنِّي، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَنَّى وَلَدَ غَيْرِهِ فَيَرِثُهُ،
وَيَكُونُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ التَّبَنِّيَ بِآيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَنَفَّذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِمُطَلَّقَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
ثَالِثُهَا: الْحَلِفُ وَالْعَهْدُ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي، وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ. فَإِذَا تَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتُرِطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَبْطُلْ إِلَّا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ جَعَلَ التَّوَارُثَ أَوَّلًا بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ الْبَعِيدَ، وَلَا يَرِثُهُ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَاخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَقَدْ نُسِخَ هَذَا، وَذَاكَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ أَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ ثَلَاثَةٌ: النَّسَبُ، وَالصِّهْرُ، وَالْوَلَاءُ، وَحِكْمَةُ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالرَّحِمِ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لِقِلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّنَاصُرِ، وَالتَّكَافُلِ بَيْنَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَتَرَكَ ذُو الْمَالِ مِنْهُمْ فِيهَا.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ قَدْ نُسِخَتْ أَيْضًا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ، وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُفَصِّلَتَيْنِ لِأَحْكَامِ الْإِرْثِ قَدْ جَعَلَتَا الْوَصِيَّةَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ، وَأَكَّدَتْ ذَلِكَ بِتَكْرَارِهِ عِنْدَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرَائِضِ فِيهَا، وَتَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَأْكِيدٌ يُنَافِي النَّسْخَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [٢: ١٨٠] الْآيَاتِ [
330
فِي ص١٠٨ - وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَأَعَادَ مَا قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ فَتَرَكْنَا إِعَادَتَهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالْإِحَالَةِ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّهِ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: " جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. فَقَالَ: يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ
فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ أَوَّلُ تَرِكَةٍ قُسِّمَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ عَامٌّ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأُمَّةِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ وَيُنَفِّذُونَ الْوَصِيَّةَ، وَلِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْآيَةَ، وَمَا بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْآيَةَ. وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ; إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا - وَمِنْهَا تِلْكَ الْآيَةُ الْمُجْمَلَةُ - فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَالتَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَيَجُوزُ عَلَى فَرْضِ التَّأْخِيرِ، وَالتَّرَاخِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى أَبْطَلَتْ هَضْمَ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالطِّفْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ. وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ نُزُولِهَا قَدْ كَثُرُوا وَكَثُرَ أَقَارِبُهُمْ مِنْهُمْ، وَاسْتَعَدُّوا بِذَلِكَ لِنَسْخِ أَسْبَابِ الْإِرْثِ الْأُولَى الْمُوَقَّتَةِ بِأَسْبَابِ الْإِرْثِ الدَّائِمَةِ فَلَمَّا اسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ نَزَلَ التَّفْصِيلُ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ.
يُوصِيكُمُ اللهُ مِنَ الْإِيصَاءِ وَالِاسْمُ الْوَصِيَّةُ، وَهِيَ كَمَا أَفْهَمُ مِنْ ذَوْقِ اللُّغَةِ، وَاسْتِعْمَالِ أَهْلِهَا فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهَا: مَا تَعْهَدُ بِهِ إِلَى غَيْرِكَ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ أَوِ الْبَعِيدِ، يَقُولُونَ: يُسَافِرُ فُلَانٌ إِلَى بَلَدِ كَذَا، وَأَوْصَيْتُهُ، أَوْ وَصَّيْتُهُ بِأَنْ يُحْضِرَ لِي مَعَهُ كَذَا، وَيَقُولُونَ: وَصَّيْتُ الْمُعَلِّمَ بِأَنْ يُرَاقِبَ آدَابَ الصَّبِيِّ وَيُؤَدِّبَهُ عَلَى مَا يُسِيءُ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ الْحَاضِرِ، أَوِ الْعَمَلِ أَوْصَيْتُ، وَلَا وَصَّيْتُ. وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ لَوْلَا أَنَّنِي رَأَيْتُ الرَّازِيَّ يَنْقُلُ عَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّ الْإِيصَاءَ بِمَعْنَى الْإِيصَالِ، يُقَالُ وَصَّى يَصِي مِنَ الثُّلَاثِيِّ
331
بِمَعْنَى وَصَلَ يَصِلُ، وَأَوْصَى يُوصِي بِمَعْنَى أَوْصَلَ
يُوصِلُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي الْآيَةِ يُوصِلُكُمُ اللهُ إِلَى إِيفَاءَ حُقُوقِ أَوْلَادِكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ مَعْنَاهَا يَفْرِضُ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الرَّاغِبِ فَرَأَيْتُهُ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ التَّقَدُّمُ إِلَى الْغَيْرِ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْضٌ وَاصِيَةٌ مُتَّصِلَةُ النَّبَاتِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُرْجِعْنِي عَنْ فَهْمِي الْأَوَّلِ.
فِي أَوْلَادِكُمْ أَيْ فِي شَأْنِ أَوْلَادِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ، أَوْ مِيرَاثِهِمْ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِمَّا تَتْرُكُونَهُ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا أَمْ إِنَاثًا كِبَارًا أَمْ صِغَارًا: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ، فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي مَفْهُومِ الْأَوْلَادِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لَفْظَ الْأَوْلَادِ يَتَنَاوَلُهُمْ حَقِيقَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أَوْلَادٌ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي قِيَامِ أَوْلَادِ الْبَنِينَ مَقَامَ وَالِدَيْهِمْ عِنْدَ فَقْدِهِمْ وَعَدَمِ إِرْثِهِمْ مَعَ وُجُودِهِمْ لِأَنَّ النَّسَبَ لِلذُّكُورِ كَمَا قَالَ الشِّعْرُ:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا، وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَسَنِ ابْنِ بِنْتِهِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -: ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ - كَمَا فِي الصَّحِيحِ - مَبْنِيٌّ عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ فِي جَعْلِ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بِنْتِهِ، أَوْ مِنْ صُلْبِ عَلِيٍّ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. وَأَمَّا الْخُنْثَى فَيُنْظَرُ فِي عَلَامَاتِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِيهِ، فَأَيُّهُمَا رَجَحَ حُكِمَ بِهِ. وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ لِلْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ الْعَارِفِينَ.
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ يُعْرَفُ بِالْبَوْلِ، فَالْعُضْوُ الَّذِي يَبُولُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يُرَجِّحُ ذُكُورَتَهُ أَوْ أُنُوثَتَهُ.
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْوَصِيَّةِ فِي إِرْثِ الْأَوْلَادِ، وَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي بَابِهِ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - أَيْ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلُ نَصِيبِ اثْنَتَيْنِ مِنْ إِنَاثِهِمْ إِذَا كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَاخْتِيرَ فِيهَا هَذَا التَّعْبِيرُ لِلْإِشْعَارِ بِإِبْطَالِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مَنْعِ تَوْرِيثِ النِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ إِرْثَ الْأُنْثَى مُقَرَّرًا مَعْرُوفًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَهُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ جَعَلَهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّشْرِيعِ، وَجَعَلَ إِرْثَ الذَّكَرِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ يُعْرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: لِلْأُنْثَى نِصْفُ حَظِّ الذَّكَرِ، وَإِذًا لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَلْتَئِمُ السِّيَاقُ بَعْدَهُ كَمَا تَرَى ; أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا تَرَاهُ فِي بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ تَقْدِيمِ
بَيَانِ مَا لِلْإِنَاثِ بِالْمَنْطُوقِ الصَّرِيحِ مُطْلَقًا، أَوْ مَعَ مُقَابَلَتِهِ بِمَا لِلذُّكُورِ كَمَا تَرَى فِي فَرَائِضِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الْفَرَائِضِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ غَيْرُ بَيَانِ هَذِهِ النُّكْتَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ نُكْتَةِ الْخِطَابِ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ حَظِّ الذَّكَرِ كَحَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هِيَ أَنَّ الذَّكَرَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى
332
نَفْسِهِ، وَعَلَى زَوْجِهِ، فَكَانَ لَهُ سَهْمَانِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَهِيَ تُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ كَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ نَصِيبُ الْأُنْثَى مِنَ الْإِرْثِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الذَّكَرِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفَقَاتِهِمَا.
وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ نَقْصِ عُقُولِهِنَّ، وَغَلَبَةِ شَهْوَتِهِنَّ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي الْوُجُوهِ الْمُنْكَرَةِ فَهُوَ قَوْلٌ مُنْكَرٌ شَنِيعٌ، وَضَعْفُ عُقُولِهِنَّ لَا يَقْتَضِي نَقْصَ نَصِيبِهِنَّ، بَلْ رُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي زِيَادَتَهُ كَضَعْفِ أَبْدَانِهِنَّ لِقِلَّةِ حِيلَتِهِنَّ فِي الْكَسْبِ وَعَجْزِهِنَّ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْهُ ; وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْمِيرَاثَ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْمَعْقُولِ، وَمَا أَرَى الرِّوَايَةَ صَحِيحَةً، كَمَا أَنَّ مَعْنَاهَا غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِمَا عَلِمْتُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا. وَأَمَّا مَا يَزْعُمُونَ مِنْ كَوْنِ شَهْوَتِهِنَّ أَقْوَى مِنْ شَهْوَةِ الرِّجَالِ، وَمَا بَنَوْهُ عَلَيْهِ مِنْ إِفْضَائِهِ إِلَى كَثْرَةِ إِنْفَاقِ الْمَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ بِالِاخْتِيَارِ أَنَّ الرِّجَالَ هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الْكَثِيرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ إِرْضَاءِ شَهَوَاتِهِمْ، وَقَلَّمَا نَسْمَعُ أَنَّ امْرَأَةً أَنْفَقَتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَهُنَّ يَأْخُذْنَ وَلَا يُعْطِينَ، وَالرِّجَالُ هُمُ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى شَهْوَةً، وَأَشَدُّ ضَرَاوَةً، نَعَمْ إِنَّ النِّسَاءَ يَمِلْنَ إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالشَّرْعُ يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ فَلَا تَكُونُ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عُلِمَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُنَّ كَثِيرًا مَا يُرَجِّحْنَ الِاقْتِصَادَ إِذَا كَانَ أَمْرُ النَّفَقَةِ مَوْكُولًا إِلَيْهِنَّ ; فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَالِدِ، أَوِ الزَّوْجِ فَلَا يَكَادُ إِسْرَافُهُنَّ يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَلِهَذَا نَرَى بَعْضَ الرِّجَالِ الْمُقْتَصِدِينَ يَكِلُونَ أَمْرَ النَّفَقَةِ فِي بُيُوتِهِمْ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ فَتَقِلُّ النَّفَقَةُ وَيَتَوَفَّرُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَتَوَفَّرُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَوْلَادِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا، وَيَخْرُجُ بِالسُّنَّةِ إِذْ تَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْكَافِرَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ لِمَا عُلِمَ مِنْ
أَنَّ كُفْرَهُ قَطَعَ الصِّلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْمُؤْمِنِ كَمَا عُلِمَ مِنْ سُورَةِ هُودٍ الْمَكِّيَّةِ، قَالَ - تَعَالَى -: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [١١: ٤٥، ٤٦] فَقَدْ أُخْرِجَ مِنْ أَهْلِهِ بِكُفْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فِي الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ بِالْأَوْلَادِ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ لَفْظَ أَوْلَادِكُمْ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ابْتِدَاءً، لَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ.
وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْقَاتِلُ عَمْدًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَيَخْرُجُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَقُولُ: إِنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ الْإِرْثِ عُقُوبَةٌ مَالِيَّةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالسُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَنْ يُعَاقَبَ أَيُّ مُذْنِبٍ بِعُقُوبَةٍ مَالِيَّةٍ، أَوْ بَدَنِيَّةٍ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأُمَمِ، أَيْ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ عَقْلًا وَلَا قُبْحَ
333
فِيهِ. فَمَنْعُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ هُوَ فَرْعُ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ فَهُوَ لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لِعُمُومِهِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا ; إِذْ يُقَالُ: إِنَّ لَهُ حَقَّهُ مِنَ الْإِرْثِ بِنَصِّ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّرِيعَةَ عَاقَبَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ لِوَالِدِهِ بِحِرْمَانِهِ مِنْ حَقِّهِ فِي تَرِكَتِهِ لِيَرْتَدِعَ أَمْثَالُهُ، وَتُسَدَّ ذَرِيعَةُ الْفَسَادِ عَلَى الْأَشْرَارِ الطَّامِعِينَ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ التَّمَتُّعَ بِمَا فِي أَيْدِي وَالِدَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَمَنِ اسْتَعْجَلَ الشَّيْءَ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ.
وَيَدْخُلُ فِيهِ الرَّقِيقُ أَيْضًا، وَالرِّقُّ مَانِعٌ مِنَ الْإِرْثِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَمْلِكُ، بَلْ كُلُّ مَا يَصِلُ إِلَى يَدِهِ مِنَ الْمَالِ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ، وَمَالِكِهِ، فَلَوْ أَعْطَيْنَاهُ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْئًا لَكُنَّا مُعْطِينَ ذَلِكَ لِسَيِّدِهِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ هُوَ الْوَارِثُ بِالْفِعْلِ، وَلَمَّا كَانَ الرِّقُّ عَارِضًا، وَخِلَافَ الْأَصْلِ، وَمَرْغُوبًا عَنْهُ فِي الشَّرْعِ جُعِلَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْآيَةِ، وَإِطْلَاقَهَا، وَلَا تُعَدُّ مُنَافَاتُهُ لِلْإِرْثِ خُرُوجًا مِنْ حُكْمِهَا.
وَأَمَّا الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ الْوَارِدِ عَلَى لِسَانِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ، أَوْ مِنْ كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمَأْمُورِ هُوَ بِتَبْلِيغِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ، وَإِنَّهُ اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِحَدِيثِ: نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الشِّيعَةِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِيهِ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي فَرَأَيْنَا أَنْ نَنْقُلَ كَلَامَهُ فِيهِ بِنَصِّهِ قَالَ:
" وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْعُمُومِ الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُتَنَاوِلَةِ لَهُ لُغَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَأَخَذَ الشِّيعَةُ بِالْعُمُومِ، وَعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَطَعَنُوا بِذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَيْثُ لَمْ يُورِثِ الزَّهْرَاءَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَتْ لَهُ بِزَعْمِهِمْ: يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، أَنْتَ تَرِثُ أَبَاكَ، وَأَنَا لَا أَرِثُ أَبِي، أَيُّ إِنْصَافٍ هَذَا! ؟ وَقَالُوا: إِنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَبِتَسْلِيمِ أَنَّهُ رَوَاهُ غَيْرُهُ أَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ بَلْ آحَادٌ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْآحَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَدَّ خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً لَمَّا كَانَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْكِنُوهُنَّ [٦٥: ٦] فَقَالَ: " كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ امْرَأَةٍ؟ " فَلَوْ جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْآحَادِ لَخَصَّصَ بِهِ، وَلَمْ يَرُدَّهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ كَوْنَهُ خَبَرَ امْرَأَةٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِهِ، وَأَيْضًا الْعَامُّ وَهُوَ الْكِتَابُ قَطْعِيٌّ، وَالْخَاصُّ وَهُوَ خَبَرُ الْآحَادِ ظَنِّيٌّ، فَيَلْزَمُ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ، وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [٢٧: ١٦] وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ - حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
334
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [١٩: ٥، ٦] فَإِنَّ ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَرِثُونَ وَيُورَثُونَ.
" وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ بِمَحْضِرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: " أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ؟ قَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ - تَعَالَى - هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: اللهُمَّ نَعَمْ ".
فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَفِي كُتُبِ الشِّيعَةِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَقَدْ رَوَى الْكِلِينِيُّ فِي الْكَافِي، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا أَحَادِيثَ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ. وَكَلِمَةُ " إِنَّمَا " مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ قَطْعًا بِاعْتِرَافِ الشِّيعَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرِّثُونَ غَيْرَ الْعِلْمِ، وَالْأَحَادِيثِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالتَّوَارِيخِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمَعْصُومِينَ عِنْدَ الشِّيعَةِ، وَالْمَحْفُوظِينَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَمِلُوا بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّ تَرِكَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَقَعَتْ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُعْطُوا مِنْهَا الْعَبَّاسَ وَلَا بَنِيهِ وَلَا الْأَزْوَاجَ الْمُطَهَّرَاتِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ الْمِيرَاثُ جَارِيًا فِي تِلْكَ التَّرِكَةِ لَشَارَكُوهُمْ فِيهَا قَطْعًا.
" فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا التَّوَاتُرُ فَحَبَّذَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، وَبَقِيَ الْخَبَرُ مِنَ الْآحَادِ فَنَقُولُ: إِنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِجَوَازِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - خَصَّصُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [٤: ٢٤] وَيَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، فَخُضَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَنْكِحُوا الْمَرْأَةَ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَالشِّيعَةُ أَيْضًا قَدْ خَصَّصُوا عُمُومَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُوَرِّثُونَ الزَّوْجَةَ مِنَ الْعَقَارِ، وَيَخُصُّونَ أَكْبَرَ أَبْنَاءِ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ بِالسَّيْفِ، وَالْمُصْحَفِ، وَالْخَاتَمِ، وَاللِّبَاسِ، بِدُونِ بَدَلٍ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ
335
فِيمَا مَرَّ. وَيَسْتَنِدُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَحَادِيثِ آحَادٍ تَفَرَّدُوا بِرِوَايَتِهَا مَعَ أَنَّ عُمُومَ الْآيَاتِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِخَبَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مُجَابٌ عَنْهُ بِأَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا رَدَّ خَبَرَ ابْنَةِ قَيْسٍ لِتَرَدُّدِهِ فِي صِدْقِهَا، وَكَذِبِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصْدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ. فَعَلَّلَ الرَّدَّ بِالتَّرَدُّدِ فِي
صِدْقِهَا وَكَذِبِهَا لَا بِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ. وَكَوْنُ التَّخْصِيصِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ مَرْدُودٌ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَقَعَ فِي الدَّلَالَةِ ; لِأَنَّهُ دَفْعٌ لِلدَّلَالَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ، فَلَمْ يَلْزَمْ تَرْكُ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ بَلْ هُوَ تَرْكٌ لِلظَّنِّيِّ بِالظَّنِّيِّ.
" وَمَا زَعَمُوهُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرُوهُمَا عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ فِي غَايَةِ الْوَهْنِ ; لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ فِيهِمَا وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ، وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ لَا وِرَاثَةَ الْعُرُوضِ وَالْأَمْوَالِ.
" وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا كَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْكِلِينِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَرِثَ سُلَيْمَانَ ; فَإِنَّ وِرَاثَةَ الْمَالِ بَيْنَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ بِوَجْهٍ. وَأَيْضًا إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّأْرِيخِ - كَانَ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ ابْنًا، وَكُلُّهُمْ كَانُوا وَرَثَةً بِالْمَعْنَى الَّذِي يَزْعُمُهُ الْخَصْمُ. فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ بِالذِّكْرِ دُونَ بَعْضٍ فِي وِرَاثَةِ الْمَالِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ خُصُوصِيَّةٍ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَا بِخِلَافِ وِرَاثَةِ الْعِلْمِ، وَالنُّبُوَّةِ.
وَأَيْضًا تَوْصِيفُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتِلْكَ الْوِرَاثَةِ مِمَّا لَا يُوجِبُ كَمَالًا، وَلَا يَسْتَدْعِي امْتِيَازًا ; لِأَنَّ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَأَيُّ دَاعٍ لِذِكْرِ هَذِهِ الْوِرَاثَةِ فِي بَيَانِ فَضَائِلِ هَذَا النَّبِيِّ وَمَنَاقِبهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -! ؟ " وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ أَيْضًا، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوِرَاثَةِ فِيهَا وِرَاثَةَ الْمَالِ كَانَ الْكَلَامُ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِالسَّفْسَطَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِآلِ يَعْقُوبَ حِينَئِذٍ إِنْ كَانَ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ يَلْزَمُ أَنَّ مَالَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَاقِيًا غَيْرَ مَقْسُومٍ إِلَى عَهْدِ زَكَرِيَّا، وَبَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَهُوَ كَمَا تَرَى! ! وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ يَحْيَى وَارِثًا جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَهَذَا أَفْحَشُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بَعْضَ الْأَوْلَادِ، أَوْ أُرِيدَ مِنْ يَعْقُوبَ غَيْرُ الْمُتَبَادِرِ وَهُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، يُقَالُ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي وَصْفِ هَذَا الْوَلِيِّ عِنْدَ طَلَبِهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ يَرِثُ أَبَاهُ، وَيَرِثُ بَعْضَ ذَوِي قَرَابَتِهِ؟ وَالِابْنُ وَارِثُ الْأَبِ وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْوِرَاثَةَ تُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْوَلِيِّ بِلَا تَكَلُّفٍ وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَأْكِيدٍ.
وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْأَنْظَارِ الْعَالِيَةِ، وَهِمَمِ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي انْقَطَعَتْ مِنْ تَعَلُّقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي، وَاتَّصَلَتْ بِحَظَائِرِ الْقُدْسِ الْحَقَّانِيِّ مَيْلٌ لِلْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ حَتَّى يَسْأَلَ
حَضْرَةُ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مَالُهُ وَيَصِلُ إِلَى يَدِهِ مَتَاعُهُ، وَيُظْهِرُ لِفَوَاتِ ذَلِكَ
336
الْحُزْنَ وَالْخَوْفَ ; فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي صَرِيحًا كَمَالَ الْمَحَبَّةِ، وَتَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ سَاحَتِهِ الْعَلِيَّةِ وَهِمَّتِهِ الْقُدْسِيَّةِ، وَأَيْضًا لَا مَعْنَى لِخَوْفِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ صَرْفِ بَنِي أَعْمَامِهِ مَالَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الصَّرْفُ فِي طَاعَةٍ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ فَلِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَانْتَقَلَ الْمَالُ إِلَى الْوَارِثِ وَصَرَفَهُ فِي الْمَعَاصِي فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا عِتَابَ، عَلَى أَنَّ دَفْعَ هَذَا الْخَوْفِ كَانَ مُتَيَسِّرًا لَهُ بِأَنْ يَصْرِفَهُ، وَيَتَصَدَّقَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى - قَبْلَ وَفَاتِهِ وَيَتْرُكُ وَرَثَتَهُ عَلَى أَنْقَى مِنَ الرَّاحَةِ، وَاحْتِمَالُ مَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَعَدَمُ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَنْتَهِضُ عِنْدَ الشِّيعَةِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عِنْدَهُمْ يَعْلَمُونَ وَقْتَ مَوْتِهِمْ. فَمَا مُرَادُ ذَلِكَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوِرَاثَةِ إِلَّا وِرَاثَةَ الْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَالْعِلْمِ، وَالنُّبُوَّةِ الْمُرَشِّحَةِ لِمَنْصِبِ الْحُبُورَةِ ; فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَشِيَ مِنْ أَشْرَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُحَرِّفُوا الْأَحْكَامَ الْإِلَهِيَّةَ، وَالشَّرَائِعَ الرَّبَّانِيَّةَ، وَلَا يَحْفَظُوا عِلْمَهُ، وَلَا يَعْمَلُوا بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَسَادِ الْعَظِيمِ، فَطَلَبَ الْوَلَدَ لِيُجْرِيَ أَحْكَامَ اللهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ، وَيُرَوِّجَ الشَّرِيعَةَ، وَيَكُونَ مَحَطَّ رِحَالِ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَاتِّصَالِ الثَّوَابِ، وَالرَّغْبَةِ فِي مِثْلِهِ مِنْ شَأْنِ ذَوِي النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْقُلُوبِ الطَّاهِرَةِ الزَّكِيَّةِ.
" فَإِنْ قِيلَ الْوِرَاثَةُ فِي وِرَاثَةِ الْعِلْمِ مَجَازٌ وَفِي وِرَاثَةِ الْمَالِ حَقِيقَةٌ وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ بِلَا ضَرُورَةٍ، فَمَا الضَّرُورَةُ هُنَا؟ أُجِيبُ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَا حِفْظُ كَلَامِ الْمَعْصُومِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَأَيْضًا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ الْوِرَاثَةِ حَقِيقَةً فِي الْمَالِ فَقَطْ بَلْ صَارَ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصًّا بِالْمَالِ، وَفِي أَصْلِ الْوَضْعِ إِطْلَاقُهُ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ، وَالْمَالِ، وَالْمَنْصِبِ صَحِيحٌ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَجَازٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَجَازَ مُتَعَارَفٌ، وَمَشْهُورٌ بِحَيْثُ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ خُصُوصًا فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ [٣٥: ٣٢] وَأُورِثُوا الْكِتَابَ [٤٢: ١٤] إِلَى غَيْرِ مَا آيَةٍ ".
" وَمِنَ الشِّيعَةِ مَنْ أَوْرَدَ هُنَا بَحْثًا: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَمْ يُوَرِّثْ أَحَدًا فَلِمَ أُعْطِيَتْ أَزْوَاجُهُ الطَّاهِرَاتُ حُجُرَاتِهِنَّ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مُغَالَطَةٌ لِأَنَّ إِفْرَازَ الْحُجُرَاتِ لِلْأَزْوَاجِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُنَّ لَا مِنْ جِهَةِ الْمِيرَاثِ، بَلْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى كُلَّ حُجْرَةٍ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَصَارَتِ الْهِبَةُ مَعَ الْقَبْضِ مُتَحَقِّقَةً وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ، وَقَدْ بَنَى
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ ذَلِكَ لِفَاطِمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) وَأُسَامَةَ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمَا، وَكَانَ كُلُّ مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِمَّا بَنَاهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ عَلَى عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ مَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَسَنَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ اسْتَأْذَنَ مِنْ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) وَسَأَلَهَا أَنْ تُعْطِيَهُ مَوْضِعًا لِلدَّفْنِ فِي جِوَارِ جَدِّهِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْحُجْرَةُ مِلْكَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِئْذَانِ، وَالسُّؤَالِ مَعْنًى، وَفِي الْقُرْآنِ نَوْعُ إِشَارَةٍ إِلَى كَوْنِ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ مَالِكَاتٍ لِتِلْكَ الْحُجَرِ، حَيْثُ قَالَ
337
سُبْحَانَهُ -: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [٣٣: ٣٣] فَأَضَافَ الْبُيُوتَ إِلَيْهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ: فِي بُيُوتِ الرَّسُولِ.
" وَمِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ أَجَابَ عَنْ أَصْلِ الْبَحْثِ بِأَنَّ الْمَالَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ فِي حُكْمِ الْوَقْفِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ لِخَلِيفَةِ الْوَقْتِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ كَمَا خَصَّ الصِّدِّيقُ جَنَابَ الْأَمِيرِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) بِسَيْفٍ، وَدِرْعٍ، وَبَغْلَةٍ شَهْبَاءَ تُسَمَّى الدُّلْدُلَ مَعَ أَنَّ الْأَمِيرَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَمْ يَرِثِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهٍ، وَقَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّ الصِّدِّيقَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ بَعْضًا مِنْ مَتْرُوكَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَاطِمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فَدَكَ مَعَ أَنَّهَا طَلَبَتْهَا إِرْثًا، وَانْحَرَفَ مِزَاجُ رِضَاهَا (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) بِالْمَنْعِ إِجْمَاعًا، وَعَدَلَتْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى دَعْوَى الْهِبَةِ، وَأَتَتْ بَعَلِيٍّ، وَالْحَسَنَيْنِ، وَأُمِّ أَيْمَنَ لِلشَّهَادَةِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ بِزَعْمِ الشِّيعَةِ، وَلَمْ تُمَكَّنْ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ رَآهُمَا الْخَلِيفَةُ إِذْ ذَاكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَسْلَمِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَبْقَرِيَّةِ، وَالصَّوْلَةِ الْحَيْدَرِيَّةِ، وَأَطَالَ فِيهِ.
" وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) خَصَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَبَرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِلَا شُبْهَةٍ، وَالْعَمَلُ بِسَمَاعِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ سَمِعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ.
" وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ تَقْسِيمَ الْخَبَرِ إِلَى الْمُتَوَاتِرِ وَغَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يُشَاهِدُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعُوا خَبَرَهُ بِوَاسِطَةِ
الرُّوَاةِ لَا فِي حَقِّ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعَ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَخَبَرُ " نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ قَطْعِيٌّ ; لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ كَالْمُتَوَاتِرِ بَلْ أَعْلَى كَعْبًا مِنْهُ، وَالْقَطْعِيُّ يُخَصِّصُ الْقَطْعِيَّ اتِّفَاقًا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ، وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا نِسْبَةُ الْوِرَاثَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - لِمَا عَلِمْتَ.
" وَدَعْوَى الزَّهْرَاءِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فَدَكًا بِحَسَبِ الْوِرَاثَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الْخَبَرِ بَلْ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخِلٍّ بِقَدْرِهَا، وَرِفْعَةِ شَأْنِهَا، وَمَزِيدِ عِلْمِهَا، وَكَذَا أَخْذُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ حُجُرَاتِهِنَّ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا مَرَّ وَجَلَا، وَعُدُولُهَا إِلَى دَعْوَى الْهِبَةِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ عِنْدَنَا، بَلِ الْمُتَحَقِّقُ دَعْوَى الْإِرْثِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهَا دَعْوَى الْهِبَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا أَتَتْ بِأُولَئِكَ الْأَطْهَارِ شُهُودًا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَمْ تَكُنْ فَدَكُ فِي قَبْضَةِ الزَّهْرَاءِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) فِي وَقْتٍ، فَلَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لِطَلَبِ الشُّهُودِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ أُولَئِكَ الْأَطْهَارَ شَهِدُوا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ بَلْ لَمْ يَقْضِ بِهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ الْقَضَاءِ هُنَا وَالرَّدِّ ; فَإِنَّ الثَّانِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ لِتُهْمَةِ كَذِبٍ مَثَلًا، وَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِمْضَاءِ لِفَقْدِ بَعْضِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ بَعْدَ الْعَدَالَةِ، وَانْحِرَافُ مِزَاجِ رِضَا الزَّهْرَاءِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْبَشَرِيَّةِ. وَقَدْ
338
غَضِبَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَخِيهِ الْأَكْبَرِ هَارُونَ حَتَّى أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَرَأْسِهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ قَدْرَيْهِمَا شَيْئًا، عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرْضَاهَا (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مُسْتَشْفِعًا إِلَيْهَا بِعَلِيٍّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَرَضِيَتْ عَنْهُ كَمَا فِي مِدْرَاجِ النُّبُوَّةِ، وَكِتَابِ الْوَفَاءِ، وَشَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِلدَّهْلَوِيِّ وَغَيْرِهَا.
" وَفِي مَحَاجِّ السَّالِكِينَ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْإِمَامِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْفَصْلَ حَيْثُ رَوَوْا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا رَأَى فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - انْقَبَضَتْ عَنْهُ، وَهَجَرَتْهُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ فَدَكَ كَبُرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، فَأَرَادَ اسْتِرْضَاءَهَا، فَأَتَاهَا، فَقَالَ: صَدَقْتِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا ادَّعَيْتِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسِّمُهَا فَيُعْطِي الْفُقَرَاءَ، وَالْمَسَاكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ بَعْدَ أَنْ يُؤْتِيَ مِنْهَا قُوتَكُمْ فَمَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِهَا؟ فَقَالَتْ: أَفْعَلُ فِيهَا كَمَا كَانَ أَبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ فِيهَا، فَقَالَ: لَكِ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ أَفْعَلَ فِيهَا مَا كَانَ يَفْعَلُ أَبُوكِ فَقَالَتْ: وَاللهِ لَتَفْعَلَنَّ! فَقَالَ: وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: اللهُمَّ
اشْهَدْ، وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ وَأَخَذَتِ الْعَهْدَ عَلَيْهِ. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعْطِيهِمْ مِنْهَا قُوتَهُمْ، وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ.
" وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ عَدَمِ تَمْكِينِهَا - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ دَفْعُ الِالْتِبَاسِ، وَسَدُّ بَابِ الطَّلَبِ الْمُنْجَرِّ إِلَى كَسْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُلُوبِ، أَوْ تَضْيِيقِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَرَدَ " الْمُؤْمِنُ إِذَا ابْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ اخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا " عَلَى أَنَّ رِضَا الزَّهْرَاءِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - بَعْدُ عَلَى الصِّدِّيقِ سَدَّ بَابَ الطَّعْنِ عَلَيْهِ أَصَابَ فِي الْمَنْعِ أَمْ لَمْ يُصِبْ، وَسُبْحَانَ الْمُوَفِّقِ لِلصَّوَابِ، وَالْعَاصِمِ أَنْبِيَاءَهُ عَنِ الْخَطَأِ فِي فَصْلِ الْخِطَابِ " اهـ.
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً أَيْ فَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ - وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ - وَقِيلَ: الْمَوْلُودَاتُ، أَوِ الْوَارِثَاتُ نِسَاءً لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أَيْ زَائِدَاتٍ عَلَى اثْنَتَيْنِ مَهْمَا بَلَغَ عَدَدُهُنَّ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَالِدُهُنَّ الْمُتَوَفَّى، أَوْ وَالِدَتُهُنَّ وَإِنْ كَانَتِ الْمَوْلُودَةُ، أَوِ الْوَارِثَةُ امْرَأَةً وَاحِدَةً وَنَصْبُ " وَاحِدَةً " هُوَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَهَا نَافِعٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ فَإِنْ وُجِدَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ مَعَهَا أَخٌ وَلَا أُخْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ مِمَّا تَرَكَ، وَالْبَاقِي لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، يُعْرَفُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ مَحَلِّهِ.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي إِرْثِ الْأَوْلَادِ وَهُمْ أَقْرَبُ الطَّبَقَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ، وَقَدْ فَصَّلَ فِيهِ فُرُوضَ الْإِنَاثِ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِذَا كُنَّ مَعَ الذُّكُورِ كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْهُنَّ، فَإِذَا كَانَا ذَكَرًا، وَأُنْثَى مَثَلًا أَخَذَ الذَّكَرُ الثُّلُثَيْنِ، وَالْأُنْثَى الثُّلُثَ، وَإِذَا كَانُوا ذَكَرًا، وَأُنْثَيَيْنِ أَخَذَ الذَّكَرُ النِّصْفَ وَالْأُنْثَيَانِ النِّصْفَ الْآخَرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِفُهُ، وَهُوَ رُبْعُ التَّرِكَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
وَإِذَا كُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ بِالْإِرْثِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِنَّ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ، وَالثُّلُثَانِ لِلْجَمْعِ، وَسَكَتَ عَنِ الثِّنْتَيْنِ، فَاخْتُلِفَ فِيهِمَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لَهُمَا النِّصْفَ كَالْوَاحِدَةِ،
339
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَهُمَا الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِوُجُوهٍ أَظْهَرُهَا اثْنَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ مَعَ الْأُنْثَى الْوَاحِدَةِ يَرِثُ الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ
الثُّلُثَانِ هُمَا حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ حُكْمَهَا مَأْخُوذٌ مِنْ مَنْطُوقِ الْآيَةِ، وَيَدُلُّ لَهُ عَطْفُ حُكْمِ الْجَمْعِ مِنْهُنَّ وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ حُكْمِ الْوَاحِدَة بِالْفَاءِ.
(وَثَانِيهِمَا) : الْقِيَاسُ عَلَى الْأَخَوَاتِ ; فَإِنَّهُ ذَكَرَ حُكْمَهُنَّ فِي آخِرِ السُّورَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [٤: ١٧٦]، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ مَجْمُوعِ الْكَلَامِ عَلَى إِرْثِ الْبَنَاتِ هُنَا وَالْأَخَوَاتِ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَقَدْ تَرَكَ هُنَاكَ حُكْمَ الْجَمْعِ مِنَ الْأَخَوَاتِ كَمَا تَرَكَ هَنَا حُكْمَ الِاثْنَتَيْنِ مِنَ الْبَنَاتِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ حُكْمُ الْمَتْرُوكِ مِنَ الْأُخْرَى فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِبَاكِ. وَسَنُعِيدُ بَيَانَهُ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ.
وَلَسْتُ أَرْضَى قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ فَوْقَ زَائِدَةٌ، وَلَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى اثْنَتَيْنِ فَفَوْقَ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي الْإِنَاثِ أَنَّ الْبَنَاتِ لَا يَسْتَغْرِقُ فَرْضُهُنَّ التَّرِكَةَ، وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَلَدَ الذَّكَرَ إِذَا انْفَرَدَ يَأْخُذُ التَّرِكَةَ كُلَّهَا، وَإِذَا كَانَ مَعَهُ أَخٌ لَهُ فَأَكْثَرُ كَانَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا، أَوْ بَيْنَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ حُكْمِ الْأَوْلَادِ إِلَى حُكْمِ الْوَالِدَيْنِ، وَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مُسْتَحِقِّي الْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ يَتَّصِلُونَ بِالْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَقَالَ:
وَلِأَبَوَيْهِ أَيْ أَبَوَيِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ لَا يَتَوَقَّفُ الذِّهْنُ فِي ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ لَا يَتَفَاضَلَانِ فِيهَا كَمَا يَتَفَاضَلُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَقَامِ الْأُمِّ بِحَيْثُ تُسَاوِي الْأَبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَلَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَا يَتَفَاضَلَانِ فِي الزَّوْجِيَّةِ، وَغَيْرِهَا. وَهَذَا إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ الَّذِي يَتَقَاسَمُهُ الْوَالِدَانِ يَكُونُ لِأَوْلَادِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ مَا، لَا وَلَدَ صُلْبٍ، وَلَا وَلَدَ ابْنٍ، أَوِ ابْنِ ابْنٍ إلخ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَقَطْ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ انْحِصَارِ الْإِرْثِ فِيهِمَا وَهَاهُنَا يَدْخُلُ الْأَبَوَانِ فِي قَاعِدَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كُلٌّ فِي طَبَقَتِهِ، وَإِنَّمَا تَسَاوَيَا مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ لِيَكُونَ احْتِرَامُهُمْ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَفْضُلُ الْأُمَّ هَنَا بِالْفَرِيضَةِ بَلْ لَهُ السُّدُسُ فَرْضًا وَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِالتَّعْصِيبِ إِذْ لَا عُصَبَةَ هُنَا سِوَاهُ. وَإِنَّمَا كَانَ حَظُّ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْإِرْثِ أَقَلَّ مِنْ حَظِّ الْأَوْلَادِ مَعَ مُعْظَمِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ ; لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي الْغَالِبِ
أَقَلَّ حَاجَةً مِنَ الْأَوْلَادِ إِمَّا لِكِبَرِهِمَا، وَقِلَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِمَا، وَإِمَّا لِاسْتِقْلَالِهِمَا، وَتَمَوُّلِهِمَا، وَإِمَّا لِوُجُودِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا مِنْ أَوْلَادِهِمَا الْأَحْيَاءِ، وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا صِغَارًا لَا يَقْدِرُونَ
340
عَلَى الْكَسْبِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى كِبَرِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى نَفَقَةِ الزَّوَاجِ، وَتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، فَلِهَذَا، وَذَاكَ كَانَ حَظُّهُمْ مِنَ الْإِرْثِ أَكْثَرَ مِنْ حَظِّ الْوَالِدَيْنِ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ أَيِ الْمَيِّتِ مَعَ إِرْثِ أَبَوَيْهِ لَهُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ ذُكُورًا، أَوْ إِنَاثًا مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، كُلُّ جَمْعٍ مِنْهُمْ يَحْجُبُ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يَحْجُبُهَا الْوَاحِدُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَخَوَيْنِ أَوِ الْأُخْتَيْنِ، فَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمَا كَالْجَمْعِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ: بِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَإِنَّمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى بِهِ مَنْ قَبْلِي، وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ. فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الِاثْنَيْنِ لَا يُعَدَّانِ جَمْعًا، وَإِجَازَةُ عُثْمَانَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [٦٦: ٤] وَلَيْسَ لِلْمُخَاطَبَتَيْنِ بِهَذَا إِلَّا قَلْبَانِ. وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، فَالْعَرَبُ إِنَّمَا تَجْمَعُ الْمُثَنَّى إِذَا أَضَافَتْهُ إِلَى ضَمِيرِهِ كَرَاهَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ " هَذَانِ جَمَاعَةٌ "، وَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِي الْجَمْعِ اللُّغَوِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَقَلِّ مَا تَحْصُلُ بِهِ فَضِيلَةُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَوَصَفَ النِّسَاءَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى اثْنَتَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ، وَهُوَ - كَمَا تَرَى - لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا قَالَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ. جَرَى عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، فَقَالُوا: إِنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ وَحَقِيقَتَهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقَ، فَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي الِاثْنَيْنِ كَانَتْ مَجَازًا.
إِذًا مَا هُوَ دَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى حَجْبِ الْأُمِّ بِالْأَخَوَيْنِ، وَبِالْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ مَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ)، وَلَيْسَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَعْلَمَ مِنْهُمْ، وَلَا أَدَقَّ فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ؟ الظَّاهِرُ لَنَا أَنَّ اللُّغَةَ إِذَا لَمْ تَدُلَّ فِي أَصْلِهَا عَلَى دُخُولِ الِاثْنَيْنِ فِي إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلَوْ عَلَى قِلَّةٍ، بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنَ الشَّوَاهِدِ. فَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَعَلَ لِلِاثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمْعِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْإِرْثِ، إِذْ جَعَلَ لِلْأُخْتَيْنِ، وَالْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ مِنَ الْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ ذَكَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْبِنْتَيْنِ الْمَسْكُوتَ عَنْهُمَا كَالْأُخْتَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا، وَالْأَخَوَاتِ الْمَسْكُوتَ عَنْهُنَّ كَالْبَنَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِنَّ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِي أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا حَذَفَ نَظِيرَهُ مِنْ مُقَابِلِهِ، وَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا بَيَّنَ
341
نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاحْتِبَاكِ كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [٧٢: ٢١] أَيْ لَا ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَلَا رَشَدًا، وَلَا إِغْوَاءً، وَقَوْلِهِ: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا [٧٦: ١٣] أَيْ لَا شَمْسًا، وَلَا قَمَرًا، وَلَا حَرًّا، وَلَا زَمْهَرِيرًا - إِذَا جَازَ لَنَا هَذَا وَعَدَدْنَاهُ مِنْ مَنْطُوقِ الْقُرْآنِ، أَوْ مَفْهُومِهِ أَفَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْأَخَوَيْنِ وَالْأُخْتَيْنِ لَهُمَا حُكْمُ الْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَدَمُ الْفَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيْنَ الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ؟ بَلَى، وَبِهَذَا عَمِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَخِلَافُ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ لَا يُنَافِي هَذَا الِاصْطِلَاحَ الشَّرْعِيَّ، وَاللُّغَةُ عَلَى وَضْعِهَا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ.
وَلَكِنَّ لَهُ هَاهُنَا رَأْيًا آخَرَ يُخَالِفُ فِيهِ الْجُمْهُورَ، رُبَّمَا كَانَ أَقْرَبَ مِمَّا قَالُوا إِلَى الْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِخْوَةَ الَّذِينَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ يَأْخُذُونَ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوهَا عَنْهُ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِلْأَبِ، فَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِحَجْبِهِمْ إِيَّاهَا إِلَّا أَخَذُهُمْ لِمَا نَقَصَ مِنْ فَرْضِهَا، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْحَجْبِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُمْ سَبَبًا لِزِيَادَةِ نَصِيبِ الْأَبِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّهُمْ يَحْجُبُونَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ شَيْئًا، فَيَكُونُ مَا بَقِيَ - وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ - كُلُّهُ لِلْأَبِ، سُدُسٌ مِنْهُ بِالْفَرْضِ لِأَنَّ فَرْضَهُ كَفَرْضِهَا، وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ، فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ
هُنَا أَقْرَبُ إِلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُمُ السَّابِقُ أَقْرَبُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْعَكْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
ذَكَرَتِ الْآيَةُ حُكْمَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْوَلَدِ وَحُكْمَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا وَارِثٌ آخَرُ، وَحُكْمَهُمَا مَعَ الْإِخْوَةِ، وَبَقِيَ حُكْمُهُمَا مَعَ الزَّوْجِ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ وَهُوَ النِّصْفُ إِنْ كَانَ رَجُلًا، وَالرُّبْعُ إِنْ كَانَ أُنْثَى، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْأَبَوَيْنِ ثُلُثُهُ لِلْأُمِّ، وَبَاقِيهِ لِلْأَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَأْخُذُ الزَّوْجُ نَصِيبَهُ، وَتَأْخُذُ الْأُمُّ الثُّلُثَ، أَيْ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا، وَيَأْخُذُ الْأَبُ مَا بَقِيَ. وَقَالَ: لَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَفِي الْمَسْأَلَةِ صُورَتَانِ، أَوْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ، وَيُسَمِّيهِمَا الْفَرْضِيُّونَ بِالْعُمَرِيَّتَيْنِ، وَبِالْغَرَاوَيْنِ، وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ:
(إِحْدَاهُمَا) : زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبْعُ، وَهُوَ ٣ مِنْ ١٢ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ ٣ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ ٦ فَيَجْرِي حَظُّ الْأَبَوَيْنِ عَلَى قَاعِدَةِ " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ "، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْأَصْلِ عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ٤ مِنْ ١٢ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ ٥ فَلَا يَجْرِي عَلَى الْقَاعِدَةِ.
(وَثَانِيَتُهُمَا) : زَوْجٌ وَأَبَوَانِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ٦ مِنْ ١٢ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ ٢ مِنْ ١٢ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي ٤ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْأَصْلِ وَهُوَ
342
مِنْ ١٢ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ اثْنَانِ، فَيَكُونُ عَلَى عَكْسِ الْقَاعِدَةِ، إِذْ يَكُونُ لِلْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ. فَرَأْيُ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقُرْآنِ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ، وَفِي الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْإِخْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الزَّوْجَيْنِ كَمَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَافَقَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ فَقَطْ.
وَمِنَ الِاعْتِبَارِ فِي هَذَا: أَنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ مُقَدَّمَةٌ فِي الْإِرْثِ عَلَى حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ إِنَّمَا يَتَقَاسَمَانِ مَا يَبْقَى بَعْدَ أَخْذِ الزَّوْجِ حِصَّتَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَوْجِيهِ هَذَا: إِنَّ الزَّوْجَيْنِ لَمَّا كَانَ يَتَوَارَثَانِ بِالزَّوْجِيَّةِ الْعَارِضَةِ لَا بِالْقَرَابَةِ كَانَ فَرْضُهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْوَصِيَّةِ لَهُ التَّقْدِيمُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ، وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْوَارِثِينَ بِالْقَرَابَةِ.
وَنَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاطَّرَدَ تَقْدِيمُ فَرْضِ الزَّوْجِ مَعَ الْأَوْلَادِ، وَالْإِخْوَةِ، فَقُدِّمَ كَالْوَصِيَّةِ، وَقُسِّمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَوْلَادِ، أَوِ الْإِخْوَةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّ حَقَّ الْأَزْوَاجِ فِي الْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَا
أَشْرَفَ، وَأَجْدَرَ مِنَ الزَّوْجِ بِالِاحْتِرَامِ. ذَلِكَ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَكُونَانِ عِنْدَ زَوَاجِ الْوَلَدِ عَرِيقَيْنِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِأَنْفُسِهِمَا فِي الْمَعِيشَةِ مِنْ جِهَةٍ، وَأَقَلَّ حَاجَةً إِلَى الْمَالِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَأَزْوَاجُهُمُ الَّذِينَ أَوِ اللَّوَاتِي فِي سِنِّهِمْ غَالِبًا لِانْصِرَامِ أَكْثَرِ أَعْمَارِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا إِذَا احْتَاجَا إِلَى مَالِ الْأَوْلَادِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَجْمُوعِ أَوْلَادِهِمَا، وَأَمَّا الزَّوْجَانِ فَإِنَّهُمَا يَعِيشَانِ مُجْتَمِعَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمِّمٌ لِوُجُودِ الْآخَرِ حَتَّى كَأَنَّهُ نِصْفُ مَاهِيَّتِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِانْفِصَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ وَالِدَيْهِ لِاتِّصَالِهِ بِالْآخَرِ. فَبِهَذَا كَانَتْ حُقُوقُ الْمَعِيشَةِ بَيْنَهُمَا آكَدَ ; وَلِهَذَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ فِي النَّفَقَةِ هُوَ الْحَقَّ الْأَوَّلَ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا رَغِيفَيْنِ وَسَدَّ رَمَقَهُ بِأَحَدِهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِيَ لِامْرَأَتِهِ لَا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ وَلَا لِغَيْرِهِمَا مِنْ أَقَارِبِهِ. فَصِلَةُ الزَّوْجِيَّةِ أَشَدُّ وَأَقْوَى صِلَةٍ حَيَوِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ حَتَّى إِنَّ صِلَةَ الْبُنُوَّةِ فَرْعٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْأَوْلَادِ أَقْوَى مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَيْ يُوصِيكُمُ اللهُ وَيَعْهَدُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِأَوْلَادِ مَنْ يَمُوتُ مِنْكُمْ كَذَا وَلِأَبَوَيْهِ كَذَا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ: يُوصَى بِهَا أَيْ يَقَعُ الْإِيصَاءُ بِهَا مِنَ الْمَيِّتِ هَكَذَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ: (يُوصَى) بِفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ " يُوصِي " بِكَسْرِ الصَّادِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَوَصَفَ الْوَصِيَّةَ بِأَنَّهَا يُوصَى بِهَا لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا، وَالتَّحَقُّقِ مِنْ نِسْبَتِهَا إِلَى الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهَا. هَذَا مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي، وَقِيلَ: إِنَّ فَائِدَةَ الْوَصْفِ التَّرْغِيبُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالنَّدْبُ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: فَائِدَتُهُ التَّعْمِيمُ أَوْ دَيْنٍ أَيْ وَمِنْ بَعْدِ دَيْنٍ يَتْرُكُهُ عَلَيْهِ. وَقُدِّمَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى الدَّيْنِ فِي الذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْمِيرَاثِ شَاقَّةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا فِي الْوَفَاءِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي التَّرِكَةِ، وَيَلِيهِ الْوَصِيَّةُ فَهِيَ مِمَّا فَضَلَ عَنِ الدَّيْنِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ أَدَائِهِمَا هُوَ الَّذِي يُقْسَمُ عَلَى الْوَارِثِينَ. وَعَطَفَ
343
الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِأَوْ دُونَ الْوَاوِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْوُجُوبِ مُتَقَدِّمَانِ عَلَى الْقِسْمَةِ مَجْمُوعَيْنِ أَوْ مُنْفَرِدَيْنِ.
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ بَيَانِ مَا فَرَضَ اللهُ لِلْأَوْلَادِ، وَالْوَالِدَيْنِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَمَا اشْتَرَطَ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ فَاضِلًا عَنِ
الْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ أَيْ فُرِضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ لَا هَوَادَةَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَقْرَبُ نَفْعًا لَكُمْ. أَآبَاؤُكُمْ أَمْ أَبْنَاؤُكُمْ فَلَا تَتَّبِعُوا فِي قِسْمَةِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إِعْطَائِهَا لِلْأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الْأَعْدَاءَ، وَحِرْمَانِ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ. بَلِ اتَّبِعُوا مَا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ فَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ نَفْعًا لَكُمْ، مِمَّا تَقُومُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مَصَالِحُكُمْ، وَتَعْظُمُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ أُجُورُكُمْ..
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَصِيَّةِ، أَيْ لَا تَدْرُونَ أَيُّ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، أَمَنْ يُوصِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَيُمَهِّدُ لَكُمْ طَرِيقَ الْمَثُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ بِإِمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ تُبَاشِرُونَهُ فَتَكُونُونَ جَدِيرِينَ بِأَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَهُ، وَالْخَيْرُ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ؟ أَمْ مَنْ لَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ فَيُوَفِّرُ لَكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا؟ بَلِ اللهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَثَّلُوا أَمْرَهُ، وَتَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَا تَتَبَرَّمُوا بِإِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَثُرَتْ، وَلَا تَذْكُرُوا الْمُوصِيَ إِلَّا بِالْخَيْرِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَهُوَ لِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِشُئُونِكُمْ، وَلِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ الَّتِي يُقَدِّرُ بِهَا الْأَشْيَاءَ قَدْرَهَا، وَيَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا، لَا يَشْرَعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَالْمَنْفَعَةُ لَكُمْ ; إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَالْمَنَافِعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْغَرَضِ، وَالْهَوَى اللَّذَيْنِ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يَمْنَعَا مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِعْطَاءِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ فَرَائِضِ عَمُودِ النَّسَبِ فِي الْقَرَابَةِ، وَهُوَ الْأَوْلَادُ، وَالْوَالِدُونَ، وَقَدَّمَ الْأَهَمَّ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَالِ الْمَتْرُوكِ، وَهُمُ الْأَوْلَادُ دُونَ الْأَشْرَفِ وَهُمُ الْوَالِدُونَ - بَيَّنَ فَرَائِضَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُمَا سَبَبٌ لِحُصُولِ الْأَوْلَادِ، وَالسَّبَبُ إِنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ وَالْمُسَبِّبُ هُوَ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي قُوَّةِ رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَالْوُجُوهُ فِي التَّفَاضُلِ تُخَالِفُ الِاعْتِبَارَاتِ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -:
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ اللَّوَاتِي تَحَقَّقَتْ بِهِنَّ الزَّوْجِيَّةُ بِأَكْمَلِ مَعْنَاهَا بِالدُّخُولِ بِهِنَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ مَا مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَاحِدًا كَانَ
أَوْ أَكْثَرَ، مِنْ بَطْنِهَا مُبَاشَرَةً، أَوْ مِنْ صُلْبِ بَنِيهَا، أَوْ بَنِي بَنِيهَا فَنَازِلًا، وَالْبَاقِي لِأَوْلَادِهَا، وَوَالِدَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَحْجُبُ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ وَالْبَاقِي مِنَ
344
التَّرِكَةِ لِلْأَقْرَبِ إِلَيْهَا مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ، وَذَوَى الْأَرْحَامِ، يُعْلَمُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ أَيْ إِنَّمَا يَكُونُ لَكُمْ ذَلِكَ فِي تَرْكِهِنَّ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَتَيْنِ. بَعْدَ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ، إِذْ لَيْسَ لِوَارِثٍ شَيْءٌ إِلَّا مِمَّا يَفْضَلُ عَنْهُمَا إِنْ كَانَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ مَا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي أَوْلَادِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ مِنْكُمْ زَوْجٌ وَاحِدَةٌ كَانَ لَهَا وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَانِ فَأَكْثَرَ اشْتَرَكَتَا، أَوِ اشْتَرَكْنَ فِيهِ بِالْمُسَاوَاةِ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لِمُسْتَحِقِّهِ شَرْعًا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَأُولِي الْأَرْحَامِ لَكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ وَالْبَاقِي لِوَلَدِكُمْ عَلَا أَوْ نَزَلَ، وَلِمَنْ عَسَاهُ يُوجَدُ مَعَهُ مِنْ وَالِدَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَبِهَذَا كَانَ لِلذَّكَرِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَنْ تَرَكَ زَوْجَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا كَانَ لَهُنَّ نَصِيبُ الزَّوْجِ الْوَاحِدَةِ فَلَا تَطَّرِدُ فِيهِنَّ قَاعِدَةُ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَنْقُصُ نَصِيبُهُ مِنْ إِرْثِ امْرَأَتِهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. فَمَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، وَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الزَّوْجَيْنِ، أَوِ الثَّلَاثِ، أَوِ الْأَرْبَعِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ الْوَاحِدَةِ؟ أَقُولُ: الْحِكْمَةُ الظَّاهِرَةُ لَنَا مِنْ ذَلِكَ هِيَ إِرْشَادُ اللهِ إِيَّانَا إِلَى أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الَّذِي نَجْرِي عَلَيْهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ هِيَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنَّمَا أَبَاحَ لِلرَّجُلِ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ إِلَى أَرْبَعٍ بِشَرْطِهِ الْمُضَيَّقِ ; لِأَنَّ التَّعَدُّدَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوقُ إِلَيْهَا الضَّرُورَةُ أَحْيَانًا، وَقَدْ تَكُونُ لِخَيْرِ النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ - كَمَا شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي آيَةِ إِبَاحَةِ التَّعَدُّدِ، وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ - وَنَذْكُرُ مَا قُلْنَاهُ فِي حِكْمَةِ جَعْلِ حَظِّ الذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَمَا هُنَا يُلَاقِي مَا هُنَاكَ، وَيَتَّفِقُ مَعَهُ، وَالنُّصُوصُ
يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَوْ كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ لِجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِنَ الْأَوْلَادِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلِلزَّوْجَيْنِ، وَالزَّوْجَاتِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الزَّوْجِ الْوَاحِدَةِ، وَلَكِنَّ التَّعَدُّدَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ مِنَ الْأُمُورِ النَّادِرَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فَلَمْ يُرَاعِهِ فِي أَحْكَامِهِ. وَالْأَحْكَامُ إِنَّمَا تُوضَعُ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْغَالِبِ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.
وَلَمَّا بَيَّنَ ـ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ ـ أَحْكَامَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ مُبَاشَرَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَيِّتِ بِالْوَاسِطَةِ، وَهُوَ الْكَلَالَةُ فَقَالَ:
وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ أَيْ أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ تُورَثُ كَلَالَةً أَيْ حَالَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَالَةً، أَيْ ذَا كَلَالَةٍ، أَوِ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ مُورَثٌ كَلَالَةً أَيْ ذَا كَلَالَةٍ، وَهُوَ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. وَاللَّفْظُ مَصْدَرُ كَلَّ يَكِلُّ، بِمَعْنَى الْكَلَالِ، وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ غَيْرِ قَرَابَةِ الْوَلَدِ، وَالْوَالِدِ لِضَعْفِهَا بِالنِّسْبَةِ
345
إِلَى قَرَابَةِ الْأُصُولِ، وَالْفُرُوعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَلَّتِ الرَّحِمُ بَيْنَ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْقَرَابَةُ، وَحَمَلَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ كَلَّ عَنْهُ إِذَا تَبَاعَدَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَرَابَةُ الْبَعِيدَةُ كَلَالَةً، ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَجْهًا ثَانِيًا. وَذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا هُوَ أَنَّ الْكَلَالَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ، وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ؟ وَالْكُلُّ لِإِحَاطَتِهِ بِمَا يَدْخَلُ فِيهِ، وَيُقَالُ: تَكَلَّلَ السَّحَابُ إِذَا صَارَ مُحِيطًا بِالْجَوَانِبِ. قَالَ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ إِنَّمَا سُمُّوا بِالْكَلَالَةِ ; لِأَنَّهُمْ كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْإِنْسَانِ، وَكَالْإِكْلِيلِ الْمُحِيطِ بِرَأْسِهِ، أَمَّا قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهَا يَتَفَرَّعُ الْبَعْضُ عَنِ الْبَعْضِ، وَيَتَوَلَّدُ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَتَزَايَدُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَسَبٌ تَتَابَعَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ كَالرُّمْحِ أُنْبُوبًا عَلَى أُنْبُوبِ
فَأَمَّا الْقَرَابَةُ الْمُغَايِرَةُ لِقَرَابَةِ الْوِلَادَةِ، وَهِيَ كَالْإِخْوَةِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأَعْمَامِ، وَالْعَمَّاتِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لِنَسَبِهِمُ اتِّصَالٌ، وَإِحَاطَةٌ بِالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ اهـ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْكَلَالَةَ يُوصَفُ بِهَا
الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ، وَيُرَادُ بِهَا مَنْ يَرِثُهُ غَيْرُ أَوْلَادِهِ، وَيُوصَفُ بِهَا الْوَارِثُ، وَيُرَادُ بِهِ مَنْ سِوَى الْأَوْلَادِ، وَالْوَالِدَيْنِ، وَرَجَحَ هَذَا بِحَدِيثٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ كَغَيْرِهِ أَنَّ لَفْظَ الْكَلَالَةِ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا يُثَنَّى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ صِفَةٌ كَالْهَجَاجَةِ لِلْأَحْمَقِ.
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ سِوَى الْوَلَدِ مِنَ الْوَارِثِينَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ. رَوَاهُمَا عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْهُ التَّوَقُّفُ، وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْخِلَافَةُ، وَالْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَى ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يُوَرَّثُ الْكَلَالَةُ؟ فَقَالَ: أَوَ لَيْسَ اللهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ؟ ثُمَّ قَرَأَ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [٤: ١٧٦] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ، فَقَالَ لِحَفْصَةَ: إِذَا رَأَيْتِ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَيِّبَ نَفْسٍ فَاسْأَلِيهِ عَنْهَا، فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: أَبُوكِ ذَكَرَ لَكِ هَذَا؟ مَا أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا أَبَدًا فَكَانَ يَقُولُ: مَا أَرَانِي اعْلَمُهَا أَبَدًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ أَمْرَ الْجَدِّ، وَالْكَلَالَةِ فِي كَتِفٍ (أَيْ عَظْمِ كَتِفٍ)، ثُمَّ طَفِقَ يَسْتَخِيرُ
346
رَبَّهُ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، فَلَمَّا طُعِنَ دَعَا بِالْكَتِفِ، فَمَحَاهَا ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ كَتَبْتُ كِتَابًا فِي الْجَدِّ، وَالْكَلَالَةِ، وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللهَ فِيهِ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَدْرُوا مَا كَانَ فِي الْكَتِفِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ غَرِيبِةٌ فِي مَعْنَاهَا. فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَمْ يَشْتَبِهْ فِيهِ مَنْ دُونَ عُمَرَ، وَلَا مَنْ فِي طَبَقَتِهِ، وَلِلَّهِ فِي الْبَشَرِ شُئُونٌ، وَقَلَّمَا تَقْرَأُ تَرْجَمَةَ رَجُلٍ عَظِيمٍ إِلَّا وَتَجِدُ فِيهَا أَنَّهُ انْفَرَدَ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ فِي بَابِهِ.
إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ آيَتَيْنِ فِي الْكَلَالَةِ: الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَرِثُهُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ مِنَ الْكَلَالَةِ فَقَطْ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ إِلَى بَيَانِ مَا يَأْخُذُهُ إِخْوَةُ الْعَصَبِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ
بَعْدَ ذَلِكَ إِرْثُ كَلَالَةٍ فِيهِ إِخْوَةُ عَصَبٍ، وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي جَعَلَتْ لِلْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفَ إِذَا انْفَرَدَتْ، وَلِلْأُخْتَيْنِ فَأَكْثَرَ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْأَخِ فَأَكْثَرَ كُلَّ التَّرِكَةِ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [٤: ١٧٦] فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يَعْنِي بِهِ الْأَخَ، أَوِ الْأُخْتَ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ ; لِأَنَّ الْأَخَوَيْنِ مِنَ الْعَصَبِ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ فَرْضَ الْأُمِّ، فَإِنَّهُ إِمَّا السُّدُسُ، وَإِمَّا الثُّلُثُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُفَسِّرُونَ علىْ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ بِزِيَادَةِ " مِنَ الْأُمِّ "، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِزِيَادَة " مِنْ أُمٍّ " وَقَالُوا: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ أَيْ غَيْرَ الْمُتَوَاتِرَةِ تُخَصِّصُ ; لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ أَحَادِيثِ الْآحَادِ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ قِرَاءَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْهُمَا فَظَنُّوا أَنَّ كَلِمَةَ: " مِنَ الْأُمِّ " قِرَاءَةٌ، وَأَنَّهُمَا يَعُدَّانِهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَرَى أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابِيُّ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ بِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي تَلَقَّى ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ فَظَنَّ الصَّحَابِيُّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْقُرْآنَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَالِيَةُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَا دَخْلَ هَاهُنَا لِلَفْظِ الرَّاوِي فِي التَّرْجِيحِ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ بِالْمَعْنَى.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَخَ مِنَ الْأُمِّ يَأْخُذُ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَكَذَلِكَ الْأُخْتُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَلَّ مَحَلَّ أُمِّهِ فَأَخَذَ نَصِيبَهَا. وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أَخَذُوا الثُّلُثَ وَكَانُوا فِيهِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِهِمْ، وَأُنْثَاهُمْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ، وَفِيهِ قِرَاءَةُ " يُوصَى " بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ هَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
347
بِقَوْلِهِ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ أَيْ مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ
لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ كَانُوا يُعْطُونَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ لِلرِّجَالِ مِنْ عَصَبَتِهِمْ دُونَ النِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ، فَفَرَضَ - سُبْحَانَهُ - لِلنِّسَاءِ مَا فَرَضَهُ فَكُنَّ شَرِيكَاتٍ لِلرِّجَالِ، وَجَعَلَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ فِي الْإِرْثِ سَوَاءً، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْفَحْوَى فَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْعَصَبَاتِ إِذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَسُنَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةً فَيَكُونُ اتِّبَاعُهَا مُقَدَّمًا عَلَى عُرْفِهِمْ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ.
ثُمَّ قَالَ: غَيْرَ مُضَارٍّ أَيْ ذَلِكَ الْحَقُّ فِي الْوَرَثَةِ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ يُوصِي بِهَا الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِهَا وَرَثَتَهُ، وَحَدَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَصِيَّةَ الْجَائِزَةَ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَقَالَ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ ضِرَارٌ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُنَفَّذُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ الضِّرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْ إِذَا قَصَدَهُ الْمُوصِي، وَأَيْضًا مِنْ بَعْدِ دَيْنٍ صَحِيحٍ لَمْ يَعْقِدْهُ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُقِرَّ بِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، لِأَجْلِ مُضَارَّةِ الْوَرَثَةِ. وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِمَّنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَعْصِيَةٌ أَيْضًا، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَرِحُهَا الْمُبْغِضُونَ لِلْوَارِثِينَ لَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانُوا كَلَالَةً ; وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْقَيْدُ فِي وَصِيَّةِ إِرْثِ الْكَلَالَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى مُضَارَّةِ الْوَالِدَيْنِ، أَوِ الْأَوْلَادِ وَكَذَا الْأَزْوَاجُ نَادِرٌ جِدًّا، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ.
وَصِيَّةً مِنَ اللهِ أَيْ يُوصِيكُمْ بِذَلِكَ، وَصِيَّةً مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالْإِذْعَانِ لَهَا، وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِكُمْ، وَمَنَافِعِكُمْ وَبِنِيَّاتِ الْمُوصِينَ مِنْكُمْ حَلِيمٌ لَا يَسْمَحُ لَكُمْ بِأَنْ تُعَجِّلُوا بِعُقُوبَةِ مَنْ تَسْتَاءُونَ مِنْهُ، وَمُضَارَّتِهِ بِالْوَصِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لَكُمْ بِحِرْمَانِ النِّسَاءِ، وَالْأَطْفَالِ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ لَا يُعَجِّلُ بِالْعِقَابِ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا فِي الْجَزَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَسَى أَنْ يَتُوبَ الْمُخَالِفُ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَأَيْتُ فِي كُرَّاسَةٍ لِبَعْضِ تَلَامِيذِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامًا نَقَلَهُ مِنْ دَرْسِهِ فِي تَفْسِيرِ: وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ هَذَا مِثَالُهُ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَعْنَى، وَاخْتِلَافٍ فِي الْأُسْلُوبِ: هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى أَخْذِ وَصِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَحْكَامِهِ بِقُوَّةٍ، وَتَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّهُ
- تَعَالَى - فَرَضَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمَصْلَحَةِ لَنَا "، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِذَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ - تَعَالَى شَأْنُهُ - أَعْلَمُ مِنَّا بِمَصَالِحِنَا، وَمَنَافِعِنَا فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُذْعِنَ لِوَصَايَاهُ، وَفَرَائِضِهِ، وَنَعْمَلَ بِمَا يُنْزِلُهُ عَلَيْنَا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَكَمَا
348
يُشِيرُ اسْمُ " الْعَلِيمِ " هُنَا إِلَى وَضْعِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ بِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَمَنْفَعَتِهِمْ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى وُجُوبِ مُرَاقَبَةِ الْوَارِثِينَ، وَالْقُوَّامِ عَلَى التَّرِكَاتِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي عِلْمِهِمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ ; لِأَنَّهُ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ مَنْ يَلْتَزِمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَحَالُ مَنْ يَتَعَدَّى تِلْكَ الْحُدُودَ بِأَكْلِ شَيْءٍ مِنَ الْوَصَايَا، أَوِ الدَّيْنِ، أَوْ حَقِّ صِغَارِ الْوَارِثِينَ، أَوِ النِّسَاءِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ لَهُمْ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْجَاهِلِيَّةُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَلِلتَّذْكِيرِ بِعِلْمِهِ - تَعَالَى - هُنَا فَائِدَتَانِ: فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَفَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ التَّنْفِيذِ.
وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ الظَّاهِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَقْرِنَ وَصْفَ الْعِلْمِ بِوَصْفِ الْحِكْمَةِ كَالْآيَةِ الْأُخْرَى، فَيُقَالُ: " وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ فِي إِيثَارِ الْوَصْفِ بِالْحِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَشْرِيعٍ، وَحَثٍّ عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ ; لَا مَقَامَ حَثٍّ عَلَى التَّوْبَةِ فَيُؤْتَى فِيهِ بِالْحِلْمِ الَّذِي يُنَاسِبُ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ التَّذْكِيرَ بِعِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِإِنْذَارِ مَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَهُ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ، وَالْفَرَائِضِ، وَوَعِيدِهِ، وَكَانَ تَحَقُّقُ الْإِنْذَارِ، وَالْوَعِيدِ بِعِقَابِ مُعْتَدِي الْحُدُودِ وَهَاضِمِ الْحُقُوقِ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الذَّنْبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةَ غُرُورِ الْغَافِلِ، ذَكَّرَنَا - تَعَالَى - هُنَا بِحِلْمِهِ لِنَعْلَمَ أَنَّ تَأَخُّرَ نُزُولِ الْعِقَابِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ الْوَعِيدَ وَالْإِنْذَارَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْجَرَاءَةِ، وَالِاغْتِرَارِ، فَإِنَّ الْحَلِيمَ هُوَ الَّذِي لَا تَسْتَفِزُّهُ الْمَعْصِيَةُ إِلَى التَّعْجِيلِ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَيْسَ فِي الْحِلْمِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَغُرَّنَّ الطَّامِعَ فِي الِاعْتِدَاءِ، وَأَكْلِ الْحُقُوقِ تَمَتُّعُ بَعْضِ الْمُعْتَدِينَ بِمَا أَكَلُوا بِالْبَاطِلِ، فَيَنْسَى عِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ، وَوَعِيدَهُ لِأَمْثَالِهِمْ، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ فَيَتَجَرَّأُ عَلَى مِثْلِ مَا تَجَرَّءُوا عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ، وَلَا يَغُرَّنَّ الْمُعْتَدِيَ نَفْسَهُ تَأَخُّرُ نُزُولِ الْوَعِيدِ بِهِ، فَيَتَمَادَى فِي الْمَعْصِيَةِ بَدَلًا مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، لَا يَغُرَّنَّ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّهُ إِمْهَالٌ يَقْتَضِيهِ الْحِلْمُ، لَا إِهْمَالٌ
مِنَ الْعَجْزِ أَوْ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَفَائِدَةُ الْمُذْنِبِ مِنْ حِلْمِ الْحَلِيمِ الْقَادِرِ أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ وَقْتًا لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِي بَشَاعَةِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَإِذَا أَصَرَّ الْمُذْنِبُ عَلَى ذَنْبِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْحِلْمِ فَائِدَةٌ فِي إِصْلَاحِ شَأْنِهِ، يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الْحَلِيمِ لَهُ أَشَدَّ مِنْ عِقَابِ السَّفِيهِ عَلَى الْبَادِرَةِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَمِنَ الْأَمْثَالِ فِي ذَلِكَ: " اتَّقُوا غَيْظَ الْحَلِيمِ " ذَلِكَ بِأَنَّ غَيْظَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ آخِرِ دَرَجَاتِ الْحِلْمِ إِذَا لَمْ تُبْقِ الذُّنُوبُ مِنْهُ شَيْئًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ انْتِقَامُهُ عَظِيمًا. نَعَمْ إِنَّ حِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - لَا يَزُولُ، وَلَكِنَّهُ يُعَامِلُ بِهِ كُلَّ أَحَدٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [١٣: ٨] فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْتَرَّ بِحِلْمِهِ - تَعَالَى -، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِكَرَمِهِ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [٨٢: ٦ - ٩].
349
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ تَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ حُدُودًا لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ يَنْتَهُونَ مِنْهَا إِلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزُوهَا، وَيَتَعَدَّوْهَا. وَهَكَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِهِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَكَذَا الْمُبَاحَاتِ، فَإِنَّ لَهَا حُدُودًا إِذَا تَجَاوَزَهَا الْمُكَلَّفُ وَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ فَقَدْ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [٧: ٣١] أَقُولُ: فَمَدَارُ الطَّاعَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي دَائِرَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ، وَمَدَارُ الْعِصْيَانِ عَلَى اعْتِدَائِهَا ; وَلِذَلِكَ وَصَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُبَيِّنَةَ كَوْنَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ حُدُودًا بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ مُطْلَقًا، فَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ إلخ. طَاعَةُ اللهِ - تَعَالَى - هِيَ اتِّبَاعُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ عَنْ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَطَاعَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ عَيْنُ طَاعَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [٤: ٨٠] وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ إِذًا فِي ذِكْرِ طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ ذِكْرِ طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى -؟ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ طَاعَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَطَاعَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا تَتَّحِدَانِ فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى فِيمَا يُسْنِدُهُ الرَّسُولُ إِلَى رَبِّهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ يَأْمُرُ الرَّسُولُ بِأَشْيَاءَ، وَيَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ بِاجْتِهَادِهِ، فَإِذَا جَزَمَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِرْشَادِ، أَوْ الِاسْتِحْبَابِ، وَالنَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، أَوْ الِاسْتِهْجَانِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالْقَضَائِيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِمَامُ الْأُمَّةِ، وَحَاكِمُهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُقِرُّ رُسُلَهُ عَلَى خَطَإٍ فِي اجْتِهَادِهِمْ، بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ إِعْطَاءِ الِاجْتِهَادِ حَقَّهُ الْمُوصِلَ إِلَى مَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا أَذِنَ لِبَعْضِ مَنِ اسْتَأْذَنَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [٩: ٤٣] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَوْ مَعَ الْعِتَابِ كَمَا عَاتَبَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْمُوَافِقِ لِاجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي قَبُولِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
350
إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [٦٧، ٦٨] مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَكَمَا عَاتَبَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى الْمُسْتَرْشِدِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [٨٠: ١] إلخ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا يَقُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالْعَادَاتِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ دِينًا، وَلَا قَضَاءً، وَلَا سِيَاسَةً ; وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: طَاعَةُ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ بِعَيْنِهَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُنَا بِمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ اللهُ مِنْ مَصَالِحِنَا الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ طَاعَةَ الرَّسُولِ مَعَ طَاعَةِ اللهِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ قَبْلَ الْيَهُودِيَّةِ، وَبَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِعَقْلِهِ، وَعِلْمِهِ عَنِ الْوَحْيِ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا عَلِيمًا حَكِيمًا، وَأَعْمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلِي مِنَ الْخَيْرِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الرُّسُلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِطَبِيعَتِهِ النَّوْعِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الدِّينِ، وَأَنَّهَا هِيَ
الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحَوَاسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ. فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ فِي عَصْرٍ مِنْ عُصُورِهِ كَافِيًا لِهِدَايَةِ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِهِ، وَمُرَقِّيًا لَهُ بِدُونِ مَعُونَةِ الدِّينِ.
أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا مِنْ جَانِبِ الْمُرْتَابِينَ وَالْمَلَاحِدَةِ: أَنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ لَا يَدِينُونَ بِدِينٍ وَهُمْ فِي دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْأَفْكَارِ، وَالْآدَابِ، وَحُسْنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ، وَتَنْفَعُ النَّاسَ، حَتَّى إِنَّ الْعَاقِلَ الْمُجَرَّدَ عَنِ التَّعَصُّبِ الدِّينِيِّ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلَهُ بَلْ يَسْعَى كَثِيرٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ لَجَعْلِ الْأُمَمِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي آدَابِهِمْ، وَارْتِقَائِهِمْ.
وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا (أَوَّلًا) بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هِدَايَةِ الْجَمَاعَاتِ مِنَ الْبَشَرِ، وَالْقَبَائِلِ، وَالْأُمَمِ الَّذِينَ يَتَحَقَّقُ بِارْتِقَائِهِمْ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَوِيَّةً، أَوْ مَدَنِيَّةً، وَقَدْ عَلَّمَنَا التَّارِيخُ أَنَّهُ لَمْ تَقُمْ مَدَنِيَّةٌ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَنِيَّاتِ الَّتِي وَعَاهَا وَعَرَفَهَا إِلَّا عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ حَتَّى مَدَنِيَّاتُ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْكَلَدَانِيِّينَ، وَالْيُونَانِيِّينَ، وَعَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِهِدَايَتِهَا، فَنَحْنُ بِهَذَا نَرَى أَنَّ تِلْكَ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةَ كَانَ لَهَا أَصْلٌ إِلَهِيٌّ، ثُمَّ سَرَتِ الْوَثَنِيَّةُ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى غَلَبَتْ عَلَى أَصْلِهَا، كَمَا سَرَتْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي بَقِيَ أَصْلُهَا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ. وَلَيْسَ لِلْبَشَرِ دِيَانَةٌ يَحْفَظُ التَّارِيخُ أَصْلَهَا حِفْظًا تَامًّا إِلَّا الدِّيَانَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ دَوَّنَ فِي أَسْفَارِهِ كَيْفِيَّةَ سَرَيَانِ الْوَثَنِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوِ الْخَفِيَّةِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهَا كَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَسَائِرِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّأْوِيلُ أَوِ الْجَهْلُ، حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ
351
فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَحْكَامِهِ الظَّاهِرَةِ غَيْرَ قَلِيلٍ مِمَّا يُخَالِفُونَ بِهِ جِيرَانَهُمْ كَجَوَازِ أَكْلِ لَحْمِ الْبَقَرِ فِي الْأَطْرَافِ الشَّاسِعَةِ مِنَ الْهِنْدِ، وَكَيْفِيَّةِ الزَّوَاجِ، وَدَفْنِ الْمَوْتَى فِي بَعْضِ بِلَادِ رُوسْيَا وَغَيْرِهَا! ! فَمَنْ عَلِمَ هَذَا لَا يَسْتَبْعِدُ تَحَوُّلَ الدِّيَانَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْقَدِيمَةِ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ.
فَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ وَهِدَايَةُ الدِّينِ أَسَاسُ كُلِّ مَدَنِيَّةٍ ; لِأَنَّ الِارْتِقَاءَ الْمَعْنَوِيَّ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الِارْتِقَاءِ الْمَادِّيِّ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَقْرَأُ فِي كَلَامِ شَيْخِ الْفَلَاسِفَةِ الِاجْتِمَاعِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ (هربرت سبنسر) أَنَّ آدَابَ الْأُمَمِ وَفَضَائِلَهَا الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَدَنِيَّتِهَا مُسْتَنِدَةٌ كُلُّهَا إِلَى الدِّينِ وَقَائِمَةٌ عَلَى أَسَاسِهِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُحَاوِلُونَ تَحْوِيلَهَا عَنْ أَسَاسِ
الدِّينِ، وَبِنَاءَهَا عَلَى أَسَاسِ الْعِلْمِ، وَالْعَقْلِ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا هَذَا التَّحْوِيلُ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ فِي طَوْرِ التَّحْوِيلِ فِي فَوْضَى أَدَبِيَّةٍ لَا تُعْرَفُ عَاقِبَتُهَا، وَلَا يُحَدَّدُ ضَرَرُهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. وَقَدْ قَالَ هُوَ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامُ فِي حَدِيثٍ لَهُ مَعَهُ: إِنَّ الْفَضِيلَةَ قَدِ اعْتَلَّتْ فِي الْأُمَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَضَعُفَتْ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ مِنْ حَيْثُ قَوِيَ فِيهَا الطَّمَعُ الْمَادِّيُّ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأُمَّةَ الْإِنْكِلِيزِيَّةَ مِنْ أَشَدِّ أُمَمِ أُورُبَّا تَمَسُّكًا بِالدِّينِ مَعَ كَوْنِ مَدَنِيَّتِهَا أَثْبَتَ، وَتَقَدُّمِهَا أَعَمَّ ; لِأَنَّ الدِّينَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ بِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ الْفَضَائِلِ، وَالْآدَابِ، عَلَى أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ الْأُورُبِّيَّةَ بَعِيدَةٌ عَنْ رُوحِ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الْمَالِ وَالسُّلْطَانِ وَزِينَةِ الدُّنْيَا، فَلَوْلَا غَلَبَةُ بَعْضِ آدَابِ الْإِنْجِيلِ عَلَى تِلْكَ الْأُمَمِ لَأَسْرَفُوا فِي مَدَنِيَّتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ إِسْرَافًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْبِرِّ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَإِذًا لَبَادَتْ مَدَنِيَّتُهُمْ سَرِيعًا. وَمَنْ يَقُلْ إِنَّهُ سَيَكُونُ أَبْعَدَهَا عَنِ الدِّينِ أَقْرَبُهَا إِلَى السُّقُوطِ، وَالْهَلَاكِ لَا يَكُونُ مِفْتَاتًا فِي الْحُكْمِ وَلَا بَعِيدًا عَنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِيهِ.
فَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ الْأَوَّلِ عَنْ ذَلِكَ الْإِيرَادِ: أَنَّ وُجُودَ أَفْرَادٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ غَيْرِ الْمُتَدَيِّنِينَ لَا يَنْقُضُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ كَوْنِ الدِّينِ هُوَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَسُوقُهُ إِلَى كَمَالِهِ الْمَدَنِيِّ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَسُوقُهُ إِلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ.
وَثَانِيًا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّ فُلَانًا الْمُلْحِدَ الَّذِي يَرَاهُ عَالِيَ الْأَفْكَارِ وَالْآدَابِ قَدْ نَشَأَ عَلَى الْإِلْحَادِ وَتَرَبَّى عَلَيْهِ مِنْ صِغَرِهِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى فِي ذَلِكَ عَنِ الدِّينِ، لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُرَبِّي أَوْلَادَهَا عَلَى الْإِلْحَادِ، وَإِنَّنَا نَعْرِفُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي مُقَدِّمَةِ الْمُرْتَقِينَ بَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، وَاتِّبَاعًا لِآدَابِ دِينِهِمْ، وَفَضَائِلِهِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الْإِلْحَادُ فِي الْكِبَرِ بَعْدَ الْخَوْضِ فِي الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تُنَاقِضُ بَعْضَ أُصُولِ ذَلِكَ الدِّينِ الَّذِي نَشَئُوا عَلَيْهِ، وَالْفَلْسَفَةُ قَدْ تُغَيِّرُ بَعْضَ عَقَائِدِ الْإِنْسَانِ، وَآرَائِهِ، وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يُقَبِّحُ لَهُ الْفَضَائِلَ وَالْآدَابَ الدِّينِيَّةَ، أَوْ يَذْهَبُ بِمَلَكَاتِهِ، وَأَخْلَاقِهِ الرَّاسِخَةِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا يَسْطُو الْإِلْحَادُ عَلَى بَعْضِ آدَابِ الدِّينِ كَالْقَنَاعَةِ بِالْمَالِ الْحَلَالِ فَيُزَيِّنُ لِصَاحِبِهِ
352
أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ مِنَ الْحَرَامِ كَأَكْلِ حُقُوقِ النَّاسِ، وَالْقِمَارِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّقِيَ مَا يَجْعَلُهُ حَقِيرًا بَيْنَ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أَوْ يُلْقِيهِ فِي السِّجْنِ، وَكَالْعِفَّةِ فِي الشَّهَوَاتِ فَيُبِيحُ لَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ
مَا لَا يُخِلُّ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. هَذَا إِذَا كَانَ رَاقِيًا فِي أَفْكَارِهِ، وَآدَابِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الرَّاقِينَ مِنْهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ، وَالنَّسْلِ إِلَّا الْقُوَّةُ الْقَاهِرَةُ، وَلَوْلَا أَنَّ دُوَلَ أُورُبَّا قَدْ نَظَّمَتْ فِرَقَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى الْحُقُوقِ مِنَ الشِّحْنَةِ وَالشُّرْطَةِ (الْبُولِيسِ وَالضَّابِطَةِ) أَتَمَّ تَنْظِيمٍ وَجَعَلَتِ الْجُيُوشَ الْمُنَظَّمَةَ عَوْنًا لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَمَا حُفِظَ لِأَحَدٍ عِنْدَهَا عِرْضٌ وَلَا مَالٌ، وَلَعَمَّتْ بِلَادَهَا الْفَوْضَى وَالِاخْتِلَالُ، وَلَقَدْ كَانَتِ الْحُقُوقُ وَالْأَعْرَاضُ مَحْفُوظَةً فِي الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ هَذِهِ الْقُوَى الْمُنَظَّمَةِ أَيَّامَ كَانَ الدِّينُ مَرْعِيًّا فِي الْآدَابِ، وَالْأَحْكَامِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ طَاعَةَ اللهِ وَرُسُلِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا، عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ هُنَا قَدْ جَاءَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّعَادَةِ الدَّائِمَةِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى ; وَلِذَلِكَ كَانَ جَزَاءُ الشَّرْطِ فِي الطَّاعَةِ هُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَإِنَّنَا نُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقِ، وَأَنَّهَا أَرْقَى مِمَّا نَرَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا لِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ وَمَنْ يُطِعْ إلخ، وَجَمَعَ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ فِيهَا مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا، فَإِنَّ مَنْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ - وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ مِنْ قَبْلُ، وَسَيَأْتِي فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِأَنَّهُ الصَّافِي الدَّائِمُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ بِجَانِبِهِ الْفَوْزُ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ الْمُنَغَّصَةِ بِالشَّوَائِبِ وَالْأَكْدَارِ.
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَقَدْ جِيءَ بِالْحَالِ هُنَا مُفْرَدًا كَالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: يُدْخِلْهُ فَقَالَ: خَالِدًا مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ وَقَدِ اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ فِي نُكْتَةِ ذَلِكَ أَنَّ فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إِشَارَةً إِلَى تَمَتُّعِهِمْ بِالِاجْتِمَاعِ، وَأُنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَالْمُنْعِمُ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ الْمَعَرِّي الْحَكِيمُ:
وَلَوْ أَنِّي حُبِيتُ الْخُلْدَ وَحْدِي لَمَا أَحْبَبْتُ بِالْخُلْدِ انْفِرَادَا
وَأَمَّا مَنْ قَذَفَهُ عِصْيَانُهُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي النَّارِ فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَمْنَعُهُ عَنِ الْأُنْسِ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ وَحِيدٌ لَا يَجِدُ لَذَّةً فِي الِاجْتِمَاعِ بِغَيْرِهِ وَلَا أُنْسًا، فَلَمَّا كَانَ لَا يَتَمَتَّعُ بِمَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ الِاجْتِمَاعِ كَانَ كَأَنَّهُ وَحِيدٌ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ خَالِدًا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا
الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [٤٣: ٣٩].
353
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْعَاصِيَ الْمُتَعَدِّيَ لِلْحُدُودِ يَكُونُ خَالِدًا فِي النَّارِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعْصِيَةِ الْقَطْعِيَّةِ الْكَبِيرَةِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ مَاتَ كَافِرًا، وَأَمَّا مَنْ مَاتَ عَاصِيًا فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، وَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ وَيَغْفِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ، ثُمَّ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤: ١١٦] وَسَتَأْتِي الْآيَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ يَجْعَلُ الْآيَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَصْلًا يُرْجِعُ إِلَيْهِ سَائِرَ الْآيَاتِ وَلَوْ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالتَّأْوِيلِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُخْتَلِفِينَ إِلَى أَنَّ تَعَدِّيَ حُدُودِ اللهِ - تَعَالَى - هُنَا يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحُدُودِ لَا جِنْسُهَا، وَمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ كُلَّهَا وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّعَدِّيَ يَصْدُقُ بِالْبَعْضِ وَهُوَ يَكُونُ مِنَ الْكُفْرِ وَجُحُودِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، وَالْجُحُودُ: إِمَّا صَرِيحٌ، وَإِمَّا غَيْرُ صَرِيحٍ، وَلَكِنَّهُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ، فَإِنَّ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ إِنْسَانٍ، وَإِعْطَاءَهُ لِآخَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ إِنْكَارِ حُكْمِ اللهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، أَوِ الشَّكِّ فِيهِ، وَإِنَّ الْحَاكِمَ إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَهُ السَّرِقَةُ فَحَبَسَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلْحَدِّ الَّذِي أَوْجَبَ اللهُ مُعَاقَبَةَ السَّارِقِ بِهِ، أَوْ مُسْتَقْبِحًا لَهُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ صَاحِبُهُ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ: وَإِذَا تَأَمَّلْتُمْ فِي هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ تَجِدُونَهُ لَفْظِيًّا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُصِرِّ عَلَى الذَّنْبِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ فِي النَّاجِينَ الْمُسَارِعِينَ إِلَى الْجَنَّةِ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٣: ١٣٥]-[رَاجِعْ ص١١٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ مِنَ التَّفْسِيرِ]- فَإِنَّ مَنْ يَعْمَلُ الذَّنْبَ، وَلَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِ عِنْدَ ارْتِكَابِهِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا يُعَدُّ مُصِرًّا عَالِمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنْ لِلْمُذْنِبِ حَالَتَيْنِ، وَإِنَّنَا نُعِيدُ ذَلِكَ وَلَا نَزَالُ نُلِحُّ فِي تَقْرِيرِهِ إِلَى أَنْ نَمُوتَ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: غَلَبَةُ الْبَاعِثِ النَّفْسِيِّ مِنَ الشَّهْوَةِ، أَوِ الْغَضَبِ عَلَى الْإِنْسَانِ حَتَّى يَغِيبَ عَنْ ذِهْنِهِ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، وَقَلْبُهُ غَائِبٌ
عَنِ الْوَعِيدِ غَيْرُ مُتَذَكِّرٍ لِلنَّهْيِ، وَإِذَا تَذَكَّرَهُ يَكُونُ ضَعِيفًا كَنُورٍ ضَئِيلٍ يَلُوحُ فِي ظُلْمَةِ ذَلِكَ الْبَاعِثِ الْمُتَغَلِّبِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ أَوْ يَخْتَفِيَ، فَإِذَا سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ غَضَبُهُ وَتَذَكَّرَ النَّهْيَ وَالْوَعِيدَ نَدِمَ وَتَابَ، وَوَقَعَ مِنْ نَفْسِهِ فِي أَشَدِّ اللَّوْمِ وَالْعِتَابِ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعِقَابِ، وَصَاحِبُهُ جَدِيرٌ بِالنَّجَاةِ فِي يَوْمِ الْمَآبِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى الذَّنْبِ جَرِيئًا عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا ارْتِكَابَهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ بِتَرْكِهِ لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ تَذَكُّرُ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدْ أَحَاطَتْ
354
بِهِ خَطِيئَتُهُ حَتَّى آثَرَ طَاعَةَ شَهْوَتِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢: ٨١] فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّفْسِيرِ.
رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ يَطْمَعُونَ فِي عَفْوِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَنْ يُصِرُّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ - تَعَالَى - عَامِدًا عَالِمًا بِنَهْيهِ، وَوَعِيدِهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِصِدْقِ خَبَرِهِ، وَلَا مُذْعِنًا لِشَرْعِهِ الَّذِي تُنَالُ رَحْمَتُهُ وَرِضَاهُ بِالْتِزَامِهِ، وَعَذَابُهُ وَبَأْسُهُ بِاعْتِدَاءِ حُدُودِهِ، فَيَكُونُ إِذًا مُسْتَهْزِئًا بِهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الْعِصْيَانِ مَعَ عَدَمِ اسْتِشْعَارِ الْخَوْفِ، وَالنَّدَمِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَصِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْتُهُ يَكُونُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا لَا حَقِيقِيًّا.
أَقُولُ: هَذَا بَسْطُ مَا قَرَّرَهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِذَا تَذَكَّرَ الْقَارِئُ طَرِيقَتَنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَجَازَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - إِذْ بَسَطْنَاهَا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي بَابِ الْفَتَاوَى مِنَ الْمَنَارِ - فَإِنَّهُ يَزْدَادُ عِلْمًا وَبَيِّنَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَعْنِي بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَأْثِيرَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا فِي النَّفْسِ إِلَى أَلَّا يَبْقَى لِلْإِيمَانِ سُلْطَانٌ عَلَيْهَا، وَسَنُعِيدُ الْقَوْلَ فِيهِ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ إلخ.
وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ عَذَابَ الرُّوحِ بِالْإِهَانَةِ، يَعْنِي رَحِمَهُ اللهُ أَنَّ بَدَنَ هَذَا الْعَاصِي يُعَذَّبُ فِي النَّارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ
حَيَوَانٌ يَتَأَلَّمُ، وَرُوحُهُ تَتَأَلَّمُ بِالْإِهَانَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ يَشْعُرُ بِمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ، فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - النَّجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَالْفَوْزَ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا
قَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: (نَظْمِ الدُّرَرِ، فِي تَنَاسُبِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ) بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ
355
السَّابِقَةِ مُبَيِّنًا وَجْهَ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا نَصُّهُ: " وَلَمَّا تَقَدَّمَ - سُبْحَانَهُ - فِي الْإِيصَاءِ بِالنِّسَاءِ، وَكَانَ الْإِحْسَانُ فِي الدُّنْيَا تَارَةً يَكُونُ بِالثَّوَابِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالزَّجْرِ، وَالْعِقَابِ ; لِأَنَّ مَدَارَ الشَّرَائِعِ عَلَى الْعَدْلِ، وَالْإِنْصَافِ، وَالِاحْتِرَازِ فِي كُلِّ بَابٍ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ - خَتَمَ - سُبْحَانَهُ - بِإِهَانَةِ الْعَاصِي، وَكَانَ إِحْسَانًا إِلَيْهِ بِكَفِّهِ عَنِ الْفَسَادِ ; لِئَلَّا يُلْقِيَهُ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَكَانَ مِنْ أَفْحَشِ الْعِصْيَانِ الزِّنَا، وَكَانَ الْفَسَادُ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرَ، وَالْفِتْنَةُ بِهِنَّ أَكْبَرَ، وَالضَّرَرُ مِنْهُنَّ أَخْطَرَ، وَقَدْ يُدْخِلْنَ عَلَى الرِّجَالِ مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَوْلَادِهِمْ قَدَّمَهُنَّ فِيهِ اهْتِمَامًا بِزَجْرِهِنَّ " اهـ.
وَأَقُولُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالَّتِي قَبْلَهُمَا - وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي كَوْنِ آيِ الْإِرْثِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ النِّسَاءِ حَتَّى جَعَلَ إِرْثَ الْأُنْثَى فِيهَا أَصْلًا، أَوْ كَالْأَصْلِ يُبْنَى غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعْرَفُ بِهِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [فِي ص٣٢٢ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَكَانَ الْكَلَامُ قَبْلَهَا فِي تَوْرِيثِ النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ، وَالْقِسْطِ فِيهِنَّ وَعَدَدِ مَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ مَعَ الْعَدْلِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا جَاءَ حُكْمُ إِتْيَانِهِنَّ الْفَاحِشَةَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مُقَدَّمًا عَلَى حُكْمِ إِتْيَانِ الرِّجَالِ الْفَاحِشَةَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، وَبَيْنَ حُكْمِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كُرْهًا وَعَضْلِهِنَّ لِأَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ،
وَحُكْمِ مَا يَحْرُمُ مِنْهُنَّ فِي النِّكَاحِ. وَقَدْ أَحْسَنَ الْبِقَاعِيُّ فِي تَوْجِيهِ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ ذِكْرِ النِّسَاءِ هُنَا بِعِلَاقَتِهِ بِالْإِرْثِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشَةِ بِالزِّنَا الَّذِي يَقْضِي إِلَى تَوْرِيثِ وَلَدِ الزِّنَا، وَلَكِنَّنَا لَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ الْفَسَادَ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الرِّجَالِ بَلِ الرِّجَالُ أَكْثَرُ جُرْأَةً عَلَى الْفَوَاحِشِ وَإِتْيَانًا لَهَا، وَلَوْ أَمْكَنَ إِحْصَاءُ الزُّنَاةِ، وَالزَّوَانِي لَعَرَفَ ذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ اللَّاتِي: جَمْعٌ سَمَاعِيٌّ لِكَلِمَةِ الَّتِي أَوْ بِمَعْنَى الْجَمْعِ. وَيَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مَعْنَاهَا يَفْعَلْنَ الْفِعْلَةَ الشَّدِيدَةَ الْقُبْحِ، وَهِيَ الزِّنَا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَالسِّحَاقُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَصْلُ الْإِتْيَانِ وَالْإِتِيِّ الْمَجِيءُ، تَقُولُ: جِئْتُ الْبَلَدَ وَأَتَيْتُ الْبَلَدَ، وَجِئْتُ زَيْدًا، وَأَتَيْتُهُ، وَيَجْعَلُونَ مَفْعُولَهُمَا حَدَثًا فَيَكُونَانِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، وَمِنْهُ فِي الْمَجِيءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ صَاحِبِ مُوسَى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [١٨: ٧٤] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [١٩: ٨٩] وَاسْتِعْمَالُ الْإِتْيَانِ فِي الزِّنَا، وَاللِّوَاطِ هُوَ الشَّائِعُ كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَفْعُولُهُ حَدَثًا كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَمَا بَعْدَهَا، وَيَكُونُ شَخْصًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ [٧: ٨١] إلخ، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ، وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِثَالًا فِي اسْتِعْمَالِ الْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ بَيْنَ يَدِي وَأَنَا فِي فُنْدُقِ الْمُسَافِرِينَ كُتُبٌ أُرَاجِعُ فِيهَا مِنْ نِسَائِكُمْ أَيْ يَفْعَلْنَهَا حَالَ كَوْنِهِنَّ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَيِ اطْلُبُوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وَالْخِطَابُ
356
لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً ; لِأَنَّهُمْ مُتَكَافِلُونَ فِي أُمُورِهِمُ الْعَامَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْحُكَّامَ الَّذِينَ يُنَفِّذُونَ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُونَ الْحُدُودَ. وَلَفْظُ الْأَرْبَعَةِ يُطْلَقُ عَلَى الذُّكُورِ، فَالْمُرَادُ أَرْبَعَةٌ مِنْ رِجَالِكُمْ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: " مَضَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أَلَّا تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ " فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ قِيَامَ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَا يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ فَهُوَ خَاصٌّ بِمَا عَدَاهَا، وَكَأَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ إِبْعَادُ النِّسَاءِ عَنْ مَوَاقِفِ الْفَوَاحِشِ، وَالْجَرَائِمِ، وَالْعِقَابِ، وَالتَّعْذِيبِ رَغْبَةً فِي أَنْ يَكُنَّ دَائِمًا غَافِلَاتٍ عَنِ الْقَبَائِحِ لَا يُفَكِّرْنَ
فِيهَا، وَلَا يَخُضْنَ مَعَ أَرْبَابِهَا، وَأَنْ تُحْفَظَ لَهُنَّ رِقَّةُ أَفْئِدَتِهِنَّ فَلَا يَكُنَّ سَبَبًا لِلْعِقَابِ، وَاشْتَرَطُوا فِي الشُّهَدَاءِ أَيْضًا أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا.
فَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهِنَّ بِإِتْيَانِهَا: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَيْ فَاحْبِسُوهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَامْنَعُوهُنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا عِقَابًا لَهُنَّ، وَحَيْلُولَةً بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْفَاحِشَةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَمَنْعِهِنَّ الْخُرُوجَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لِمُجَرَّدِ الْغَيْرَةِ، أَوْ مَحْضِ التَّحَكُّمِ مِنَ الرِّجَالِ، وَإِتْبَاعِهِمْ لِأَهْوَائِهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ التَّوَفِّي: الْقَبْضُ، وَالِاسْتِيفَاءُ، أَيْ حَتَّى تُقْبَضَ أَرْوَاحُهُنَّ بِالْمَوْتِ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا. فَسَّرَ الْجُمْهُورُ السَّبِيلَ بِمَا يَشْرَعُهُ اللهُ - تَعَالَى - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْفَاحِشَةِ هُنَا عِنْدَهُمْ، فَجَعَلُوا الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ عِقَابًا مُؤَقَّتًا مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْقِيتِ، وَرَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ نَفْيُ سَنَةٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَدِيثُ مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ لَا نَاسِخٌ، وَالَّذِينَ يُجِيزُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْأَحَادِيثِ جَعَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ نَاسِخًا لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ النَّاسِخُ لَهُ آيَةُ النُّورِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [٢٤: ٢] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْجَائِزِ أَلَّا تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِأَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُوصِيَ بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ بَعْدَ أَنْ يُحْدَدْنَ صِيَانَةً لَهُنَّ عَنْ مِثْلِ مَا جَرَى عَلَيْهِنَّ بِسَبَبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ وَالتَّعَرُّضِ لِلرِّجَالِ، وَيَكُونُ السَّبِيلُ - عَلَى هَذَا - النِّكَاحَ الْمُغْنِيَ عَنِ السِّفَاحِ. وَقَوْلُهُ هَذَا أَوْ تَجْوِيزُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ آيَةِ الْحَدِّ سَابِقَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْجُمْهُورِ الْمَبْنِيُّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ نَزَلَتْ أَوَّلًا فَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِرِوَايَاتٍ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ بِالزِّنَا حُبِسَتْ فِي السِّجْنِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَخَذَ الْمَهْرَ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدٌّ، وَلَا يُجَامِعُهَا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ إِذَا زَنَتْ حُبِسَتْ
فِي الْبَيْتِ وَأَخَذَ زَوْجُهَا مَهْرَهَا
357
حَتَّى جَاءَتِ الْحُدُودُ فَنَسَخَتْهَا. وَلَكِنَّنَا إِذَا بَحَثْنَا فِي مَتْنِ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ كَيْفَمَا كَانَ سَنَدُهُمَا نَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ فِيهِمَا عَمَلًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ إِجَازَةٌ لِأَخْذِ الْمَهْرِ، بَلِ الْآيَاتُ قَبْلَهَا، وَبَعْدَهَا تُحَرِّمُ أَكْلَ الرَّجُلِ شَيْئًا مَا مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْبِسُونَهَا فِي السِّجْنِ أَيْ لَا فِي بَيْتِهَا، وَصَرَّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَبَدْئِهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ، أَوِ اسْتِصْحَابِ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا الْعَمَلَ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَلَا يَظْهَرُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَبَدْئِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ كُلُّهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُتَّصِلَةٌ بِهَا، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ السَّبِيلَ بِالْمَوْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبِيلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ دَاعِيَةُ السِّحَاقِ، وَالشِّفَاءُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَرَضًا، وَعَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ: التَّوْبَةُ وَصَلَاحُ الْحَالِ، وَيُرَجِّحُهُ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْ عِقَابِ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ إِنْ تَابَا، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَدْلِهِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ كَحُكْمِ الرِّجَالِ، فَالْإِبْهَامُ وَالْإِجْمَالُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ يُفَسِّرُهُ الْإِيضَاحُ وَالتَّفْصِيلُ فِي آخِرِ مَا بَعْدَهَا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَحْكَامُ التَّوْبَةِ بِعْدَهُمَا قَالَ - تَعَالَى -:
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ أَيْ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ وَهِيَ هُنَا الزِّنَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاللِّوَاطُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَعَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ، وَالْأَمْرُ مَعًا فِي قَوْلِ (الْجَلَالَيْنِ) وَالْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ فِي الْأَوَّلِ الزَّانِي، وَالزَّانِيَةُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وَفِي الثَّانِي الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ يَجْعَلُ الْقَابِلَ كَالْفَاعِلِ وَفِي الثَّالِثِ، وَاللَّائِطُ وَلَا تَجُوزُ فِيهِ فَآذُوهُمَا. بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - تَفْسِيرُ الْإِيذَاءِ بِالتَّعْيِيرِ وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ تَفْسِيرُهُ بِالتَّعْيِيرِ، وَالتَّوْبِيخِ فَقَطْ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا الزِّنَا - كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - فَالْعِقَابُ كَانَ تَعْزِيرًا مُفَوَّضًا إِلَى الْأُمَّةِ وَإِلَّا جَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْإِيذَاءِ الْحَدُّ الْمَشْرُوعُ نَفْسُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ فَهِيَ مُبَيِّنَةٌ، وَمُحَدِّدَةٌ
لِلْإِيذَاءِ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا هُنَا فِي الزِّنَا، وَإِلَّا فَتِلْكَ خَاصَّةٌ بِحُكْمِ الزِّنَا ; لِأَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِيهِ، وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِاللِّوَاطِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي عِقَابِ مَنْ يَأْتِيهِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَتَخْصِيصُهُ الْفَاحِشَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاللِّوَاطِ الَّذِي هُوَ اسْتِمْتَاعُ الرَّجُلِ بِالرَّجُلِ، وَالْفَاحِشَةَ فِيمَا قَبْلَهَا بِالسِّحَاقِ الَّذِي هُوَ اسْتِمْتَاعُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِ تِلْكَ خَاصَّةً بِالنِّسَاءِ، وَهَذِهِ خَاصَّةً بِالذُّكُورِ، فَهَذَا مَرْجِعٌ لَفْظِيٌّ يُدَعِّمُهُ مَرْجِعٌ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ نَاطِقًا بِعُقُوبَةِ الْفَوَاحِشِ الثَّلَاثِ، وَكَوْنُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ
358
مُحْكَمَتَيْنِ، وَالْإِحْكَامُ أَوْلَى مِنَ النَّسْخِ حَتَّى عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِهِ. وَسَتَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ.
فَإِنْ تَابَا رَجَعَا عَنِ الْفَاحِشَةِ وَنَدِمَا عَلَى فِعْلِهَا وَأَصْلَحَا الْعَمَلَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ يُقْبِلُ عَلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ الْعِصْيَانِ لِيُطَهِّرَ نَفْسَهُ وَيُزَكِّيَهَا مِنْ دَرَنِهِ وَيُقَوِّيَ فِيهَا دَاعِيَةَ الْخَيْرِ عَلَى دَاعِيَةِ الشَّرِّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا أَيْ كُفُّوا عَنْ إِيذَائِهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا أَيْ مُبَالِغًا فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ عِبَادِهِ شَدِيدَ الرَّحْمَةِ بِهِمْ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الْعِقَابَ لِيَنْزَجِرَ الْعَاصِي، وَلَا يَتَمَادَى فِيمَا يُفْسِدُهُ فَيَهْلِكَ، وَيَكُونَ قُدْوَةً فِي الشَّرِّ وَالْخُبْثِ - وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ " التَّوَّابِ الرَّحِيمِ " فِي [ص٤١: ج: ٢ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا مُلَخَّصُهُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَتَيْنِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الزِّنَا خَاصَّةً وَلِأَجْلِ الْفِرَارِ مِنَ التَّكْرَارِ، قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الْمُحْصَنَاتِ أَيِ الثَّيِّبَاتِ، فَهُنَّ اللَّوَاتِي كُنَّ يُحْبَسْنَ فِي الْبُيُوتِ إِذَا زَنَيْنَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، وَالثَّانِيَةُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ، وَالْمُحْصَنَاتِ، أَيْ فِي الْأَبْكَارِ، وَلِهَذَا كَانَ الْعِقَابُ فِيهَا أَخَفَّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَالْآيَتَانِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَنْسُوخَتَانِ بِالْحَدِّ الْمَفْرُوضِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَهُوَ السَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِلنِّسَاءِ اللَّوَاتِي يُمْسَكْنَ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنْ يَبْقَى فِي نَظْمِ الْآيَةِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَوَفِّي الْمَوْتِ وَمِنْ جَعْلِ السَّبِيلِ قَدْ جُعِلَ غَايَةً لِلْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِإِنْزَالِ حُكْمٍ جَدِيدٍ فِيهِنَّ ; إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَمُتْنَ أَوْ يُنْزِلَ اللهُ فِيهِنَّ حُكْمًا جَدِيدًا. وَقَدْ فَسَّرَ السَّبِيلَ بَعْضُهُمْ بِالزَّوَاجِ كَأَنْ يُسَخِّرَ اللهُ لِلْمَرْأَةِ الْمَحْبُوسَةِ رَجُلًا آخَرَ يَتَزَوَّجُهَا. وَقَدْ
وَافَقَ الْجَلَالُ الْجُمْهُورَ فِي الْأُولَى، وَخَالَفَهُمْ فِي الثَّانِيَةِ، فَقَالَ: إِنَّهَا فِي الزِّنَا وَاللِّوَاطِ مَعًا، ثُمَّ رَجَّحَ أَنَّهَا فِي اللِّوَاطِ، فَتَكُونُ الْأُولَى مَنْسُوخَةً عَلَى رَأْيِهِ، وَالثَّانِيَةُ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ. وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْآيَتَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ الْأُولَى فِي الْمُسَاحِقَاتِ، وَالثَّانِيَةَ فِي اللِّوَاطِ، فَلَا نَسْخَ، وَحِكْمَةُ حَبْسِ الْمُسَاحِقَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَعْتَادُ الْمُسَاحَقَةَ تَأْبَى الرِّجَالَ، وَتَكْرَهُ قُرْبَهُمْ - أَيْ فَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ حَرْثًا لِلنَّسْلِ - فَتُعَاقَبُ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْبَيْتِ، وَالْمَنْعِ مِنْ مُخَالَطَةِ أَمْثَالِهَا مِنْ نِسَاءٍ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تَتَزَوَّجَ.
أَقُولُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تَكْرَهَ السِّحَاقَ، وَتَمِيلَ إِلَى الرِّجَالِ فَتُقْبِلُ عَلَى بَعْلِهَا إِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، وَتَتَزَوَّجُ إِنْ كَانَتْ أَيِّمًا. قَالَ: وَفِي إِسْنَادِ جَعْلِ السَّبِيلِ لَهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - إِشَارَةٌ إِلَى عُسْرِ النُّزُوعِ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الذَّمِيمَةِ، وَالشِّفَاءِ مِنْهَا حَتَّى بِالتَّرْكِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْحَبْسِ فَكَأَنَّهَا لَا تَزُولُ إِلَّا بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ - تَعَالَى -.
قَالَ: وَاعْتُرِضَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بَأَنَّ تَفْسِيرَ الْفَاحِشَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَبِأَنَّ
359
الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ اللِّوَاطِ. فَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ بِهِ وَنَاهِيكَ بِمُجَاهِدٍ.
وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ، وَيَفْهَمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَرْوِيًّا عَنْ أَحَدٍ بِشَرْطِ أَلَّا يَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا، وَأَجَابَ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الصَّحَابَةَ إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ اللِّوَاطِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْآيَةِ نَزَلَتْ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَا حَدَّ فِيهَا. وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يَجْلِسُونَ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَدَارَسُونَهُ، وَيَتَدَبَّرُونَهُ لِلِاهْتِدَاءِ، وَالِاتِّعَاظِ، وَهُمْ يَفْهَمُونَهُ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، فَإِذَا سَأَلَهُمْ سَائِلٌ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ ذَكَرُوا لَهُ تَفْسِيرَهَا يَسْكُتُونَ عَنْ حُكْمِ الشَّيْءِ السِّنِينَ الطِّوَالَ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ذَكَرُوا حُكْمَهَا، فَإِذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حُكْمُ السِّحَاقِ، وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَنَا رِوَايَةً عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَلَا حُكْمًا مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ بِالْحَبْسِ لِأَجْلِهِ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ هَذَا، وَذَاكَ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِمْ. وَيَشْهَدُ بِهِ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ يَضَعُ عِقَابًا عَلَى فَاحِشَةٍ، أَوْ جَرِيمَةٍ فَيَمْتَنِعُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ. فَلَا تَقَعُ أَوَّلًا تَظْهَرُ فِيهِمْ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى أَحَدٍ، فَهَذَا مِمَّا نَحْمَدُ اللهَ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَنَحْمَدُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَلَا نَعُدُّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلَاتِ فَالْحَقُّ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْآيَتَيْنِ.
قَالَ: وَبَحَثُوا فِي جَمْعِ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ، وَتَثْنِيَةِ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا، وَعَدُّوهُ مُشْكِلًا، وَمَا هُوَ بِمُشْكِلٍ بَلْ نُكْتَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ أَنَّ النِّسَاءَ لَمَّا كُنَّ لَا يَجِدْنَ مِنَ الْعَارِ فِي السِّحَاقِ مَا يَجِدُهُ الرَّجُلُ فِي إِتْيَانِ مِثْلِهِ كَانَتْ فَاحِشَةُ السِّحَاقِ مَظِنَّةَ الشُّيُوعِ وَالْإِظْهَارِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَفَاحِشَةُ اللِّوَاطِ مَظِنَّةَ الْإِخْفَاءِ حَتَّى لَا تَكَادَ تَتَجَاوَزُ اللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا، فَفِي التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُثَنَّى إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَتَقْدِيرٌ لِكَوْنِ فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ عَارًا فَاضِحًا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ التَّعْبِيرِ بِالْجَمْعِ، وَالتَّثْنِيَةِ مِنْ بَابِ التَّنْوِيعِ فَذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الِاشْتِبَاهِ.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
360
لَمَّا ذَكَرَ - تَعَالَى - أَنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الْإِصْلَاحِ تَقْتَضِي تَرْكَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّوَّابِ الرَّحِيمِ، أَيِ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ كَثِيرًا، وَيَعْفُو بِهَا عَنْهُمْ - عَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ شَرْطِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فَقَالَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ أَيْ إِنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي أَوْجَبَ اللهُ - تَعَالَى - قَبُولَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِوَعْدِهِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ كَرَمِهِ، وَفَضْلِهِ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَالسُّوءُ: هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ الَّذِي يَسُوءُ فَاعِلَهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا سَلِيمَ الْفِطْرَةِ كَرِيمَ النَّفْسِ، أَوْ يَسُوءُ النَّاسَ، وَيَصْدُقُ عَلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ. وَالْجَهَالَةُ: الْجَهْلُ وَتَغْلِبُ فِي السَّفَاهَةِ الَّتِي تُلَابِسُ النَّفْسَ عِنْدَ ثَوْرَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ سَوْرَةِ الْغَضَبِ فَتَذْهَبُ بِالْحِلْمِ، وَتُنْسِي الْحَقَّ، وَالْمُرَادُ بِالزَّمَنِ الْقَرِيبِ: الْوَقْتُ الَّذِي تَسْكُنُ تِلْكَ الثَّوْرَةُ، أَوْ تَنْكَسِرُ بِهِ تِلْكَ السَّوْرَةُ، وَيَثُوبُ إِلَى فَاعِلِ السَّيِّئَةِ حِلْمُهُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ دِينُهُ وَعَقْلُهُ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى تَفْسِيرِ الزَّمَنِ
الْقَرِيبِ بِمَا قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَنْفِي قَبُولَ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَتُوبُونَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ مُذْنِبٍ حَتْمًا، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتِ الْوَقْتَ الَّذِي لَا تُقْبَلُ فِيهِ تَوْبَةُ مُذْنِبٍ قَطُّ، وَمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَحَلُّ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَكُلَّمَا قَرُبَ وَقْتُ التَّوْبَةِ مِنْ وَقْتِ اقْتِرَافِ الذَّنْبِ كَانَ الرَّجَاءُ أَقْوَى، وَكُلَّمَا بَعُدَ الْوَقْتُ بِالْإِصْرَارِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَالتَّسْوِيفِ كَانَ الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ هُوَ الْأَرْجَحُ ; لِأَنَّ الْإِصْرَارَ قَدْ يَنْتَهِي قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ بِالرَّيْنِ، وَالْخَتْمِ، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [٢: ٧] وَتَفْسِيرَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [٢: ٨١] مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ [رَاجِعْ ص١٢٠ و٣٠٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ١ وَكَذَا ص٣٠٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٣ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَسَنُعِيدُ بَيَانَهُ أَيْضًا. وَكَمْ غَرَّتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ النَّاسَ وَجَرَّأَتْهُمْ عَلَى الْإِصْرَارِعَلَى الذُّنُوبِ، وَالْآثَامِ، وَأَوْهَمَتْهُمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَضُرُّهُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى الْمَعَاصِي طُولَ حَيَاتِهِ إِذَا تَابَ قَبْلَ بُلُوغِ رُوحِهِ الْحُلْقُومَ، فَصَارَ الْمَغْرُورُونَ يُسَوِّفُونَ بِالتَّوْبَةِ حَتَّى يُوبِقَهُمُ التَّسْوِيفُ، فَيَمُوتُوا قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ التَّوْبَةِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ تُقْرَنَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَآيَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [٢٠: ٨٢] وَقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [٤٠: ٧] وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْآثَارِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ. كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْنُطَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، وَيَيْأَسَ مِنْ قَبُولِهِ إِيَّاهُ إِذَا هُوَ تَابَ وَأَنَابَ إِلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَلَيْسَ
361
مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ التَّمَادِي فِي الذُّنُوبِ إِذَا هُوَ تَابَ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَلَوْ بِسَاعَةٍ ; فَإِنَّ حَمْلَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُخَالِفٌ لِهَدْيِ كِتَابِ اللهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا، وَلِسُنَنِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ نَفْسَهُ تَتَدَنَّسُ بِالذُّنُوبِ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى مُزَاوَلَتِهَا لَهَا تَتَمَكَّنُ فِيهَا، وَتَرْسَخُ، فَلَا تَزُولُ إِلَّا بِتَزْكِيَتِهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ
فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ يُنَاسِبُ زَمَنَ الدَّنَسِ مَعَ تَرْكِ أَسْبَابِ الدَّنَسِ، وَأَمَّا التَّرْكُ وَحْدَهُ فَلَا يَكْفِي، كَمَا إِذَا وَرَدَتِ الْأَقْذَارُ، وَالْأَدْنَاسُ الْحِسِّيَّةُ عَلَى ثَوْبٍ زَمَنًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ لَا يُنَظَّفُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهَا عَنْهُ. عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ إِذَا تَكَرَّرَتْ تَصِيرُ عَادَاتٍ تَمْلِكُ عَلَى النَّفْسِ أَمْرَهَا حَتَّى تَصِيرَ التَّوْبَةُ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ وَأَشَقِّهَا ; لِأَنَّهَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنِ اقْتِلَاعِ الْمَلَكَاتِ الَّتِي تَكَيَّفَ بِهَا الْمَجْمُوعُ الْعَصَبِيُّ، فَمَا أَخْسَرَ صَفْقَةَ الْمُسَوِّفِينَ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِكَلَامِ أَسْرَى الْعِبَارَاتِ وَغَيْرِ الْمُفَسِّرِينَ!
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ التَّوْبَةَ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَهَا، وَحَالَهَا تَرْغِيبًا فِيهَا، وَتَنْفِيرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا شَدَّدَ فِي شَرْطِ قَبُولِهَا، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِأَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ مَعَ الْعُصَاةِ فِي مُعَاقَبَتِهِمْ، وَتَأْدِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ فَرَضَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُعَاقَبَةَ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ، وَأَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ تَابَ بِشَرْطِ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرْحٌ لِذَلِكَ الْإِصْلَاحِ أَيْ إِنْ تَابُوا مِثْلَ هَذِهِ التَّوْبَةِ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَكُفُّوا عَنْ عِقَابِهِمْ.
وَيَذْكُرُونَ هَاهُنَا مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَيْهِ - تَعَالَى -. وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ لَهُ سُلْطَةٌ يُوجِبُ بِهَا عَلَى اللهِ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ! وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَمَالِ الَّذِي أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمَشِيئَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ظَاهِرُهُ وُجُوبُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى اللهِ قَدْ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقِ الْعَرَبِ فِي التَّخَاطُبِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَلَكِنْ بِإِيجَابِ اللهِ - تَعَالَى - لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ عَاقِلٌ أَنَّ قَانُونًا يَحْكُمُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ. فَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيًّا ظَاهِرًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ.
وَالسُّوءُ هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ، وَالْجَهَالَةُ: تَصْدُقُ بِمَعْنَى السَّفَاهَةِ، وَبِمَعْنَى الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ، فَالسَّفَاهَةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَفَاهَةً لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَجْهَلُ عَاقِبَتَهَا الرَّدِيئَةَ، أَوْ يَجْهَلُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْجَهَالَةِ هُنَا: الْعِصْيَانُ، وَالْمُخَالَفَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجَهَالَةِ لِبَيَانِ قُبْحِهِ، وَلِتَضَمُّنِهِ لِلْجَهَالَةِ، وَتَنْزِيلِ الْعَاصِي مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ التَّامِّ بِمِقْدَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ مِنَ الْعِقَابِ لَا تَعَمُّدُ الْعِصْيَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاقِصَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الذُّنُوبِ، وَوَجْهِ تَرَتُّبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا، وَدَرَجَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ وَتَحَتُّمِهِ يَقَعُ فِي الذَّنْبِ،
وَيَعْمَلُ السُّوءَ بِاخْتِيَارِهِ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَمِلَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّفْعُ لِنَفْسِهِ، كَاللِّصِّ يَعْلَمُ أَنَّ السَّرِقَةَ مُحَرَّمَةٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا حَتْمٌ ; لِأَنَّ
362
عِنْدَهُ احْتِمَالَاتٍ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ تُشَكِّكُهُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ وَعِيدِ السَّارِقِ، كَشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَالْجِيرَانِ الصَّالِحِينَ، وَكَاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَكَالْمُكَفِّرَاتِ. فَإِذَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ يَسْرِقُهُ، وَتَذَكَّرَ الْوَعِيدَ عَلَى السَّرِقَةِ يَنْتَصِبُ فِي ذِهْنِهِ مِيزَانُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ الْعَاجِلِ بِمَا يَسْرِقُهُ، وَالْعِقَابِ الْآجِلِ عَلَى هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الشَّكُّ فِي الْعِقَابِ رَجَحَتْ كِفَّةُ دَاعِيَةِ السَّرِقَةِ ; لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَسْرُوقِ يَقِينِيٌّ، وَالْعِقَابَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ نَفْعَهُ لَهُ وَرُجْحَانَهُ عَلَى مُقَابِلِهِ إِنْ خَطَرَ فِي بَالِهِ الْمُقَابِلُ، فَعَلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا مَعَ التَّلَبُّسِ بِالْجَهْلِ، وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَهُوَ لَا يَرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةَ إِلَّا جَهْلًا بِحَقِيقَةِ الْوَعِيدِ، أَوْ مُتَأَوِّلًا لَهُ يُمَثِّلُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ انْتِظَارِ الشَّفَاعَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ، أَوْ مَغْلُوبًا بِشَهْوَةٍ، أَوْ بِغَضَبٍ، فَإِذَا زَالَتِ الْجَهَالَةُ عَنْ قَرِيبٍ فَتَابَ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً حَتْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ هُوَ أَنْ يَتُوبَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَالْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ. وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَهُوَ مُدْرِكٌ يَعْقِلُ، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ: أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ: إِنَّ مَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا تَقَعُ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ إِلَّا عَنْ بَادِرَةِ غَضَبٍ، أَوْ شَهْوَةٍ، أَوْ جَهْلٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ، فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَمَلُ السُّوءِ إِلَّا هَفْوَةً بَعْدَ هَفْوَةٍ، وَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ السُّوءَ مُفْرَدًا، وَقَالَ فِيمَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ بِالْجَمْعِ، فَأَشْعَرَنَا أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ حَتْمًا مِمَّنْ تَقَعُ الذُّنُوبُ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا، وَيُلِمُّ وَاحِدُهُمْ بِهَا إِلْمَامًا، وَلَكِنَّهُ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، ثُمَّ قَدْ يَطُوفُ بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ طَائِفٌ آخَرُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَيَعُودُ ثَانِيَةً إِلَى الْعِصْيَانِ، وَيُتْبِعُهُ التَّوْبَةَ وَالْإِحْسَانَ فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْخَطِيئَةُ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ قَرِيبٍ بِالْقُرْبِ مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمُذْنِبُ التَّائِبُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ عَارِفٌ بِتَحْرِيمِ الذَّنْبِ وَلَكِنْ تُلِمُّ بِهِ تِلْكَ
الْجَهَالَةُ الَّتِي تُحْدِثُ الرُّعُونَةَ فِي الْإِرَادَةِ، فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ فَيُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتُوبُ. وَرَجُلٌ وَقَعَ فِي الذَّنْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَكِنَّهُ عَلَى جَهْلِهِ بِبَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ لَيْسَ رَاضِيًا بِجَهْلِهِ، وَلَا مُهْمِلًا لِأَمْرِ دِينِهِ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ وَيَسْأَلُ وَيَتَعَلَّمُ فَلَا يَطُولُ عَلَيْهِ الْأَمَدُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا كَانَ أَلَمَّ بِهِ مُحَرَّمٌ فَيَتُوبُ مِنْهُ حَالًا. فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. فَالْقُرْبُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ زَمَنًا طَوِيلًا لِجَهْلِهِ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، ثُمَّ عَلِمَ فَتَابَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى -
363
يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَقَدْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ الْعِلْمِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَأَرْكَانِهَا.
أَقُولُ: إِنَّ هَاهُنَا شَيْئًا يَجِبُ تَدَبُّرُهُ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سُوءٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ يَعْمَلُهُ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ لَا تَتَدَنَّسُ نَفْسُهُ بِالْعَمَلِ، وَإِنْ طَالَ عَلَيْهِ الزَّمَنُ، أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعَمَلُ مُجَرِّئًا لَهَا عَلَى الْمَعَاصِي مُوَطِّنًا لَهَا عَلَى الشُّرُورِ، فَإِذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَهُ مِنَ السُّوءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ضَارٌّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ دِينًا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ غَالِبًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ حَالًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلِفَهُ ; فَإِنَّهُ مَا أَلِفَهُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي نَظَرِهِ، فَمَلَكَةُ اخْتِيَارِ الْحَسَنِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى السَّيِّئِ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ الْمُصَرِّفَةَ لِإِرَادَتِهِ، فَلِذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مِنْ قَرِيبٍ مَتَى جَاءَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ، كَمَا سَهُلَ عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أَنْ يَكُونُوا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ، وَالْفَوَاضِلِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشَّرِّ - عَلَى نُشُوئِهِمْ فِي الْوَثَنِيَّةِ، وَعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ ذَوِي سَلَامَةٍ فِي الْفِطْرَةِ، وَحُبٍّ لِلْخَيْرِ، وَبُغْضٍ لِلشَّرِّ، وَمَا كَانَ يَنْقُصُهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ بِحَقِيقَةِ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ، وَكُنْهِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْإِسْلَامُ سَارَعُوا إِلَيْهِ، وَكَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ بِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يُنَازِعُ فِي كَوْنِ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ جَاهِلًا أَنَّهُ سُوءٌ مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ، وَيَرَى أَنَّ رُجُوعَهُ عَمَّا كَانَ عَمِلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ سُوءًا لَا يُسَمَّى تَوْبَةً، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: " وَالتَّعْبِيرُ بِالسُّوءِ " إلخ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اخْتَارَ كَوْنَ لَفْظِ الْجَهَالَةِ عَامًّا يَشْمَلُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سُوءٌ، وَيُصِرُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا
مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَكِنَّهُ يَتَّبِعُ هَوَى نَفْسِهِ، وَيُؤْثِرُ إِرْضَاءَ شَهْوَتِهَا وَغَضَبِهَا عَلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَمَنْفَعَةِ عِبَادِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي تَضْرَى نَفْسُهُ بِالشَّرِّ وَتَأْنَسُ بِالسُّوءِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَلَكَةً لَهَا مُصَرِّفَةً لِإِرَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا حَتَّى تَصِلَ الدَّرَكَةَ الَّتِي تَتَعَذَّرُ مَعَهَا التَّوْبَةُ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ بِالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا، وَالطَّبْعِ عَلَيْهَا، وَإِحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ بِهَا، وَضَرَبَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلَ النُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ آنِفًا وَمِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَقَدْ سُئِلْتُ مَرَّةً: لِمَاذَا لَمْ تَفْسَدْ أَخْلَاقُ الْيَابَانِيِّينَ، وَتَنْحَطَّ هِمَمُهُمْ، وَتَصْغُرْ نُفُوسُهُمْ مَعَ فُشُوِّ الزِّنَا فِيهِمْ؟ فَقُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ دِينًا، وَلَا قُبْحَهُ عَقْلًا ; وَلِذَلِكَ يَكُونُ ضَرَرُهُ فِي الْأَخْلَاقِ قَلِيلًا، وَلَكِنَّ ضَرَرَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ قَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ التَّائِبِينَ إِلَى طَبَقَاتٍ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ عَرِيقٌ فِي الشَّرِّ كَأَنَّهُ عُجِنَ بِطِينَتِهِ ; ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةَ تَسْبِقُ
364
فِيهِ الشَّهَوَاتِ الْعَقْلِيَّةَ، فَهُوَ يَأْلَفُ الشَّهَوَاتِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَجِيءُ الْعَقْلُ لِيَضَعَ لِتِلْكَ الشَّهَوَاتِ النِّظَامَ وَالْقَوَانِينَ، وَالْعِلْمَ بِمَا شُرِعَ فِيهَا مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَكُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ هَفْوَةٌ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِفَ الْعَقْلُ وَيَفْقَهَ أَسْرَارَ النَّقْلِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ كَبِيرُ النَّفْسِ، عَالِي الِاسْتِعْدَادِ إِذَا وَقَعَ فِي الْخَطِيئَةِ مَرَّةً كَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْبَرُ عِبْرَةٍ، وَهُوَ لَا يَقَعُ فِيهَا إِلَّا وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ عَوَاقِبِهَا وَمُصَوِّرًا إِيَّاهَا بِصُورَةٍ أَحْسَنَ مِنْ صُورَتِهَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَ الشَّيْءِ قُبَيْلَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَإِذَا أَلَمَّ الْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ بِالذَّنْبِ، وَذَاقَ لَذَّتَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعُودُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ الَّذِي حَجَبَتْهُ عَنْهُ الشَّهْوَةُ، وَيَقْوَى فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ ضَعُفَ مِنْ نُورِ الْبَصِيرَةِ، فَيُوَازِنُ بَيْنَ هَذِهِ اللَّذَّةِ، وَبَيْنَ قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَا لَهَا مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَهَانَةِ نَفْسِهِ، وَسُوءِ اخْتِيَارِهِ مَا عَسَى أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ إِذَا عَادَ إِلَى ذَلِكَ، وَاعْتَادَهُ وَعُرِفَ بِهِ فَيَنْدَمُ، وَيُقْلِعُ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَيَصْرِفُهَا عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ أَقْوَى فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَرْسَخُ، فَكُلَّمَا أَطَاعُوهَا فِي مَعْصِيَةٍ قَامَتِ الْخَوَاطِرُ الْإِلَهِيَّةُ تُحَارِبُهَا بِلَوْمِ صَاحِبِهَا، وَتَوْبِيخِهِ حَتَّى تَنْتَصِرَ عَلَيْهَا،
وَتَقْهَرَهَا قَهْرًا لَا تَقُومُ لَهَا بَعْدَهُ قَائِمَةٌ، وَهَؤُلَاءِ يُعَدُّونَ مِنَ التَّوَّابِينَ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ تَقْوَى بِالْمُجَاهَدَةِ عَلَى اجْتِنَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَّا اللَّمَمَ فَتَكُونُ الْحَرْبُ فِي نُفُوسِهِمْ سِجَالًا بَيْنَ مَا يُلِمُّونَ بِهِ مِنَ الضَّمَائِرِ، وَبَيْنَ الْخَوَاطِرِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُنْدُ الْإِيمَانِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَعُودُ إِلَيْهِ، يَلُومُ نَفْسَهُ، وَيَنْدَمُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَهَؤُلَاءِ فِي أَدْنَى طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ. وَالنَّفْسُ الْبَاقِيَةُ أَرْخَصُ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّفْسِ الْفَانِيَةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَحَلٌّ لِلرَّجَاءِ ; لِأَنَّ لَهُمْ زَاجِرًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُذَكِّرُهُمْ دَائِمًا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَقِبَ كُلِّ خَطِيئَةٍ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقْوَى هَذَا الزَّاجِرُ الْمُذَكِّرُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْمُزَيِّنَةِ لِلْخَطِيئَةِ، فَإِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْإِثْمِ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ ضَرَاوَةً، وَالنَّفْسَ جُرْأَةً فَتَكْرَارُ تَذْكِيرِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ يُحْدِثُ فِيهَا أَلَمًا يُقَاوِمُ تِلْكَ الضَّرَاوَةَ بِتَقْرِيعِ النَّفْسِ وَتَحْقِيرِهَا وَتَصْوِيرِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لَهَا، فَتَكُونُ الْحَرْبُ سِجَالًا، وَأَثَرُ الْآلَامِ فِي النَّفْسِ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ اللَّذَّاتِ فَإِمَّا أَنْ تَنْتَصِرَ الْخَوَاطِرُ وَالزَّوَاجِرُ الْإِلَهِيَّةِ بِذَلِكَ فَيَلْحَقُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ بِبَعْضِ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ الَّتِي صَحَّتْ تَوْبَتُهَا، وَإِمَّا أَنْ تَنْكَسِرَ أَمَامَ جُنْدِ الشَّهْوَةِ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا الْخَطِيئَةُ فَيَكُونَ مِنَ الْمُصِرِّينَ الْهَالِكِينَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَإِذَا تَرَاخَتْ تَوْبَتُهُمْ لَا يَطُولُ عَلَيْهَا الزَّمَنُ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - يَتُوبُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا
365
كَوْنُ فِعْلِ السُّوءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ جَهَالَةٍ ; إِذْ مِثْلُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَتَقْوَاهُمْ لَا يَعْتَمِدُ الذَّنْبَ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَكَوْنُ التَّوْبَةِ قَرِيبَةً مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَدَعْ لَهُ مَجَالًا يَرْسَخُ بِهِ فِي النَّفْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ مُفَرَّعًا عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، وَهُوَ كَوْنُ قَبُولِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، أَيْ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا ; لِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ مُقَرَّرٌ حَتْمًا، وَمَوْعُودٌ بِهِ وَعْدًا مَقْضِيًّا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ حَصْرِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَصْرِ، وَلِاسْتِحْضَارِهِمْ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِي بَالِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ إِشْرَاكُ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ فِيهِ، وَضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ، أَيْ يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ وَيَعُودُ بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا فَمِنْ عِلْمِهِ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَمَصَالِحِهِمْ، وَحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْبَةَ بِشَرْطَيْهَا مَقْبُولَةً حَتْمًا ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَاصِي تَوْبَةٌ لَفَسَدَ النَّاسُ، وَهَلَكُوا ; لِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ، أَوْ سَوْرَةِ غَضَبٍ يَسْتَرْسِلُ حِينَئِذٍ فِي الْمَعَاصِي، وَالسَّيِّئَاتِ، وَيَتَعَمَّدُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ هَالِكٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَتِهَا، أَمَا وَقَدْ شَرَعَ اللهُ - تَعَالَى - بِحِكْمَتِهِ قَبُولَ التَّوْبَةِ، فَقَدْ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْفَضِيلَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ يُغْفَرُ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يُعْفَى عَنْهَا لَمَا آثَرَ النَّاسُ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ إِلَّا حَيْثُ تَكُونُ شَهَوَاتُهُمْ وَمَهَبُّ أَهْوَائِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، وَالتَّوْبَةَ الْخَادِعَةَ الْكَذُوبَ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا التَّوْبَةَ النَّصُوحَ دُونَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، أَوِ الْأَذْكَارِ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ، فَالْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ لَا تَطْهُرُ نَفْسُهُ مِنْ دَنَسِهِ بِعَمَلِ طَاعَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ أَحْسَنَ فِيهَا، وَأَخْلَصَ، فَكَيْفَ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ لَهَا صُورِيًّا تَقْلِيدِيًّا لَا يَمَسُّ سَوَادَ قَلْبِهِ قَطُّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى عِنَايَتِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَلَا خَشْيَتِهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَأَلْفَاظِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ! وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَيْنَ التَّوْبَةِ، وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا. وَإِنْ أَرَدْتَ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا - إِلَى قَوْلِهِ - وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [٣: ١٦، ١٧] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [٣: ١٣٥] وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا إِلَى نُكْتَةِ ذِكْرِ صِفَةَ الْعِلْمِ، وَصِفَةِ الْحِكْمَةِ هُنَا بِقَرِيبٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَذِكْرِ غُرُورِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْخَلَفِ الطَّالِحِ بِالْأَذْكَارِ الْقَوْلِيَّةِ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَيْهَا، وَظَنِّهِمْ أَنَّهَا تُنْجِيهِمْ فِي
366
الْآخِرَةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذُّنُوبِ، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَيْهَا، وَقَالَ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ اسْتَثْقَلَتِ التَّكَالِيفَ لِجَهْلِهَا بِفَائِدَتِهَا، فَفَسَقَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَاتَّبَعَتْ أَهْوَاءَهَا، وَجَعَلَتْ حَظَّهَا مِنَ الدِّينِ بَعْضَ الْأَذْكَارِ، وَالْأَوْرَادِ السَّهْلَةِ الَّتِي لَا تَمْنَعُهَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَأَهْوَائِهَا شَيْئًا، فَصَارَ الدِّينُ عِنْدَ
أَكْثَرِهِمْ عِبَارَةً عَنْ حَرَكَاتٍ لِسَانِيَّةٍ، وَبَدَنِيَّةٍ لَا تُهَذِّبُ خُلُقًا، وَلَا تُصْلِحُ عَمَلًا، وَقَدِ اتَّبَعَ الْكَثِيرُونَ مِنَّا سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [٤٧: ٢٤]
بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - حَالَ مَنْ ضَمِنَ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ قَالَ مُبَيِّنًا حَالَ مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ عِنْدَهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ وَلَمْ يَقُلْ هُنَا "، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ " إلخ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقَطْعِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ وُقُوعِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ لَهُمْ، وَلَوْ نَفَى كَوْنَهَا مِمَّا أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَهُمْ، وَلَا مَقْطُوعٍ بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَنَالُونَهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ النَّفْيِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَفَى ثُبُوتَ التَّوْبَةِ لَهُمْ لَيْسُوا مِمَّنِ اقْتَضَتِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَتَأْثِيرِ أَعْمَالِهِ فِي صِفَاتِ نَفْسِهِ، وَمَلَكَاتِهَا، ثُمَّ تَرَتُّبِ أَعْمَالِهِ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَمَلَكَاتِهِ ; بِأَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَرْجِعُ عَنِ السَّيِّئَاتِ بَعْدَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، وَيَنْخَلِعُ عَنْهَا، وَيُطَهِّرُ قَلْبَهُ، وَيُزَكِّي نَفْسَهُ مِنْ أَدْرَانِهَا فَيَكُونُ أَهْلًا لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَعْطِفَ عَلَيْهِ ; وَمَحَلًّا لِاسْتِجْلَابِ نِعَمِهِ فَيَعُودُ مَا نَفَرَ مِنْهَا بِالْمَعَاصِي إِلَيْهِ، بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي أَمْثَالِهِمْ أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَلَا تَدَعُ لِلطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ مَكَانًا مِنْ نُفُوسِهِمْ فَيُصِرُّونَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَحْضُرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، وَيَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ الَّتِي تَمَتَّعَ فِيهَا بِمَا كَانَ يَتَمَتَّعُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي تُبْتُ وَمَا هُوَ مِنَ التَّائِبِينَ، بَلْ مِنَ الْمُدَّعِينَ الْكَاذِبِينَ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَالَ هُنَاكَ: يَعْمَلُونَ السُّوءَ وَهَاهُنَا: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَالْجَمْعُ هَاهُنَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَكُونُ بِالْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ، فَالْمُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ وَاحِدٍ مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتْمًا، وَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْهَا، وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ يُغْرِي صَاحِبَهُ بِأَفْرَادٍ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا، أَوْ جِنْسِهَا، وَالشَّرُّ دَاعِيَةُ الشَّرِّ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ دَاعِيَةُ الْخَيْرِ.
قَالَ: وَقَالَ هُنَاكَ: ثُمَّ يَتُوبُونَ فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ هَاهُنَا: قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فَبَيَّنَ أَنَّ وَاحِدَ هَؤُلَاءِ يَدَّعِي التَّوْبَةَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَجْزِ عَنِ الذَّنْبِ، أَيْ أَنَّ قَلْبَهُ لَمْ يَنْخَلِعْ مِنَ الذَّنْبِ، وَنَفْسَهُ لَمْ تَرْغَبْ عَنْهُ فَيَكُونُ تَائِبًا. وَإِنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ يَعِيثُ فِي أَرْضِ آخَرَ فَسَادًا فَظَفِرَ بِهِ هَذَا وَوَضَعَ السَّيْفَ عَلَى عُنُقِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ رَأْسَهُ عَنْ بَدَنِهِ فَاسْتَغَاثَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْإِفْسَادِ، وَلَكِنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَنْفِرْ مِنْهُ، وَلَمْ تَسْتَقْبِحْهُ لِأَنَّهُ فَسَادٌ، فَهِيَ إِذَا زَالَ الْخَوْفُ تَعُودُ
367
إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَلَا تَلْقَى مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ ; وَلِهَذَا قَيَّدَ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ الْآنَ وَالْآنِيَّةُ تُنَافِي الِاسْتِمْرَارَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ " يَتُوبُونَ " هُنَاكَ، وَمِنْ هُنَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُمَيِّزَ الْحَقَّ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي رَوَوْهَا فِي حُضُورِ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَالُ الْحَشْرَجَةِ، أَوِ الْغَرْغَرَةِ، أَوْ ذَهَابِ التَّمْيِيزِ، وَالْإِدْرَاكِ، وَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ قَوْلٌ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ، وَالْيَأْسُ مِنَ الْحَيَاةِ.
وَ " حَتَّى " ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مُنْهَمِكِينَ فِيهَا إِلَى حُضُورِ مَوْتِهِمْ وَصُدُورِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ، وَأَقُولُ: وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَيْدَ " عَلَى اللهِ " فَقَالَ: الْمَعْنَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ أَيْ قَبُولُهَا حَتْمًا لِهَؤُلَاءِ، وَنَفْيُ التَّحْقِيقِ غَيْرُ تَحَقُّقِ النَّفْيِ، فَيَكُونُ أَمْرُ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُبْهَمًا يُفَوَّضُ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -. وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادِرُ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَ هُنَا أَحَادِيثَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، أَوْ تَبْلُغْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ، وَإِنِّي أُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ أَدْرَكَ الْمُذْنِبُ قُبْحَ مَا كَانَ عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَرِهَهُ وَنَدِمَ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ، وَزَالَ مَيْلُهُ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَاشَ لَمَا عَادَ إِلَيْهِ، أَيْ مَعَ الرَّوِيَّةِ، وَالتَّعَمُّدِ كَمَا كَانَ، وَمَا كُلُّ تَصَوُّرٍ لِقُبْحِ الذَّنْبِ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِهِ، فَإِنَّ لِلتَّصَوُّرَاتِ، وَالتَّصْدِيقَاتِ مَرَاتِبَ لَا يُعْتَدُّ مِنْهَا فِي بَابِ الْعِلْمِ النَّافِعِ إِلَّا بِالْقَوِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ; لِرُجْحَانِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَضَرَبَ مَثَلًا لِلتَّصْدِيقِ الْمَرْجُوحِ: تَصْدِيقُهُ مَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ لَهُ مِنْ أَنَّ صَوْتَهُ يَضُرُّهُ الْحَامِضُ وَقَدْ أَيَّدَتِ التَّجْرِبَةُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعُدُّهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا تَامًّا لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِعِلْمٍ وِجْدَانِيٍّ
أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَلِفَتِ النَّفْسُ مِنْ إِدْرَاكِ لَذَّةِ الْحَامِضِ وَطَلَبِ الطَّبِيعَةِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ عِلْمًا تَامًّا لَمَا تَنَاوَلَ الْحَامِضَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي الْعَمَلِ فَلَا تَجِدُ عَنْ طَاعَتِهِ مَصْرِفًا.
قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ الصُّوفِيَّةُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ الِاعْتِقَادَ أَوِ الْإِدْرَاكَ لَا يَكُونُ عِلْمًا صَحِيحًا نَافِعًا يُثِيبُ اللهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا صَارَ ذَوْقًا، وَيَعْنُونَ بِصَيْرُورَتِهِ ذَوْقًا أَنْ يَصِيرَ وِجْدَانًا لِلنَّفْسِ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيَكُونَ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَيْهَا. فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَحْدُثُ لِلْمُصِرِّ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْمُسْتَأْنِسِ بِهَا فِي عَامَّةِ أَيَّامِ الْحَيَاةِ مِثْلُ هَذَا الْوِجْدَانِ لِقُبْحِهَا، وَكَرَاهَتِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُدَنِّسَةٌ لِلنَّفْسِ مُبْعِدَةٌ لَهَا عَنْ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، أَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ هُوَ إِدْرَاكُ الْعَجْزِ عَنْهَا، وَالْيَأْسِ مِنْهَا، وَكَرَاهَةِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ قُرْبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ؟ وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا الْأَخِيرُ تَوْبَةً مِنَ الذَّنْبِ، وَرُجُوعًا إِلَى مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، وَإِنَّمَا يُجَازِي النَّاسَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَسْلَمِ، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي دَرْسَيْنِ، وَهُوَ مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى لَا يَخْلُو مِنْ تَكْرَارٍ مُفِيدٍ عَلَى تَصَرُّفِنَا فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَالْحَذْفِ، وَالزِّيَادَةِ الَّتِي تُجْلِي الْمَعْنَى، وَلَا تُغَيِّرُهُ، وَالْوُصُولُ إِلَى
368
تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ، وَالْبَسْطِ، وَالْإِيضَاحِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرٌ لِلتَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى مَنْ سُوَرٍ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَبْلُ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أَيْ لَا تَوْبَةَ لِأُولَئِكَ وَلَا هَؤُلَاءِ - وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا ذِكْرَ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِ بَدِيهِيًّا لَا سِيَّمَا بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا سَبَقَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، فَالْأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لِلْكَافِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْعُ مَا يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ مَا حَكَاهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [٢٣: ١٠٧] وَلَا أَتَذَكَّرُ الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ نَفْيِ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَالْإِيذَانُ بِأَنَّهَا كَالْعَدَمِ، وَأَنْ ذَوِيهَا فِي مَرْتَبَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ فِي تَكْرِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ إِشْعَارًا بِكَوْنِ حَالِ الْمُسَوِّفِينَ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِ الْجَدْوَى أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ الْكُفَّارُ، وَبَعْضُهُمْ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْفُسَّاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالْكُفَّارِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ.
وَاخْتَارَ شَيْخُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ هُنَا: مَا هُوَ دُونَ الشِّرْكِ، وَعَدَمُ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ، وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُوجَدُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِذَاتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ كَالْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللهِ، وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِالْوَحْيِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقِسْمٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لِيُعْمَلَ بِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْفَرَائِضِ، وَكَوْنِ أَدَائِهَا مِنْ أَسْبَابِ رِضْوَانِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَبِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَوْنِ اقْتِرَافِهَا مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِهِ - تَعَالَى - وَعِقَابِهِ، أَيْ فَوْقَ مَا فِي الْفَرَائِضِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْجَمْعِيَّاتِ، وَيُسَمِّي أَبُو حَامِدٍ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عِلْمَ الْمُكَاشَفَةِ، وَالثَّانِيَ عِلْمَ الْمُعَامَلَةِ، وَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّئَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهَا، وَصِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِسُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَذَابِهِ، وَهُوَ - أَيِ الْغَزَالِيُّ - لَا يَنْفِي إِيمَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ فَاتَتْهُ ثَمَرَتُهُ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَقَطْ، بَلْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يَضُرُّهُ فَهُوَ لَا يَأْتِيهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَارْتِبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ، وَإِرَادَتِهِمْ بِعُلُومِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ، بَلْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْإِنْسَانِ وَطَبْعِهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْمَلُ فِيهِ بِقَوْلِ مَنْ لَا ثِقَةَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُ لِعَدَمِ عَدَالَتِهِ. وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ مَثَلًا فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ:
369
إِذَا كُنْتَ جَائِعًا وَلَمْ تَجِدْ إِلَّا طَعَامًا أَخْبَرَكَ رَجُلٌ يَهُودِيُّ لَا تَثِقُ بِرِوَايَتِهِ فِي أَخْبَارِهِ أَنَّهُ مَسْمُومٌ، أَفَلَا تَبْنِي عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَتْرُكُ الْأَكْلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ؟ بَلْ إِنَّكَ لَتَقُولُ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَلَا أُعَرِّضُ نَفْسِي لِلْهَلَاكِ بِهَذَا الطَّعَامِ! وَقَدْ أَخْبَرَكَ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ الصَّادِقُ الْأَمِينُ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ سُمُومٌ مُهْلِكَةٌ لِلْأَرْوَاحِ مُفْضِيَةٌ إِلَى سُخْطِ اللهِ، وَعَذَابِهِ، فَكَيْفَ تَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِ، وَالْجَزْمَ بِصِدْقِهِ، وَأَنْتَ تَجْعَلُ
خَبَرَهُ دُونَ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي تَجْزِمُ بِعَدَمِ عَدَالَتِهِ! ؟ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَذْكُرُ حَدِيثَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إلخ. أَيْ إِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ مُلَابِسًا التَّلَبُّسَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَيْهَا بَعْدَ الْعَمَلِ تَأَلَّمَتْ فَبَعَثَهَا الْأَلَمُ عَلَى التَّوْبَةِ، كَمَا حَقَّقَهُ فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ، وَكَوْنِهَا مُرَكَّبَةً مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ: الْعِلْمُ يُوجِبُ الْحَالَ، وَالْحَالُ تُوجِبُ الْعَمَلَ، أَيْ إِنَّ الْعِلْمَ بِحُرْمَةِ الذَّنْبِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حَالًا مُؤَثِّرَةً تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبِ إِلَى آخِرِ مَا حَقَّقَهُ، وَبَيَّنَهُ بِالتَّفْصِيلِ فَيُرَاجَعُ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِحْيَاءِ.
قَالَ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْفَرِيقَانِ الْبَعِيدَانِ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ، وَهِدَايَةِ الشَّرِيعَةِ، الْمُسْتَعْبَدَانِ لِسُلْطَانِ الشَّهْوَةِ وَشَيْطَانِ الرَّذِيلَةِ، قَدْ أَعْتَدْنَا، وَهَيَّأْنَا لَهُمْ عَذَابًا مُؤْلِمًا فِي دَارِ الْجَزَاءِ بِمَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ إِلَى أَنْ وَافَاهُمُ الْمَمَاتُ قَدْ دَسَّى نُفُوسَهُمْ، وَأَفْسَدَ قُلُوبَهُمْ، فَصَارُوا مِنَ التُّحُوتِ، تَهْبِطُ خَطَايَاهُمْ بِأَرْوَاحِهِمْ إِلَى هَاوِيَةِ الْهَوَانِ. وَتَعْجَزُ عَنِ الْعُرُوجِ إِلَى فَرَادِيسِ الْجِنَانِ، وَمَعَاهِدِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
370
قَالُوا فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ: لَمَّا نَهَى - سُبْحَانَهُ - فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى وَالْأَمْوَالِ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ
عَنْ نَوْعٍ مِنْ الِاسْتِنَانِ بِسُنَنِهِمْ فِي النِّسَاءِ أَنْفُسِهِنَّ أَوْ أَمْوَالِهِنَّ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي النِّسَاءِ، وَالْبُيُوتِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ اسْتِطْرَادًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ، أَوْ حَمِيمُهُ وَتَرَكَ جَارِيَةً أَلْقَى عَلَيْهَا ابْنُهُ، أَوْ حَمِيمُهُ ثَوْبَهُ فَمَنَعَهَا مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً حَبْسَهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا "، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ: " كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا: وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ "، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كُبَيْشَةَ ابْنَةِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ مِنَ الْأَوْسِ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلَا أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحُ. فَنَزَلَتْ ". وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، فَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا، أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ الزَّهْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَحْبِسُ الْمَرْأَةَ عِنْدَهُ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا، وَيَنْتَظِرُ مَوْتَهَا حَتَّى يَرِثَهَا. قَالَ - تَعَالَى -:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا أَيْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَيُّهَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الشِّرْكِ وَتَقَالِيدِهِ الْجَائِرَةِ وَآمَنُوا بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَضْمِ حُقُوقِ النِّسَاءِ فَتَجْعَلُوهُنَّ مِيرَاثًا لَكُمْ كَالْأَمْوَالِ، وَالْعُرُوضِ، وَالْعَبِيدِ، وَتَتَصَرَّفُوا بِهِنَّ كَمَا تَشَاءُونَ، فَإِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَإِنْ شَاءَ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَمَنَعَهَا الزَّوَاجَ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَضْلُ الْآتِي ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا أَمْوَالَ النِّسَاءِ كَرْهًا بِأَنْ تُمْسِكُوهُنَّ عَلَى كُرْهٍ لِأَجْلِ أَنْ يَمُتْنَ فَتَرِثُوهُنَّ، وَقَوْلُهُ: (كَرْهًا) قَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ حَيْثُ وَقَعَ، وَوَافَقَهُمَا عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ فِي الْأَحْقَافِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَهُوَ بالضَّبْطَيْنِ مَصْدَرٌ لِـ كَرِهَ ضِدِّ أَحَبَّ (كَمَا وَرَدَ الضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ وَفَتْحِهَا)، وَقِيلَ الْكُرْهُ بِالضَّمِّ: الْإِكْرَاهُ، وَبِالْفَتْحِ: الْكَرَاهِيَةُ، وَقِيلَ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَعَلَى
مَا أُكْرِهَ الْمَرْءُ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْكُرْهِ هُنَا فَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَرِثُوهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ كَارِهَاتٍ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِهِنَّ مُكْرَهَاتٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِهِنَّ كَارِهِينَ لَكُمْ، وَقِيلَ: حَالَ كَوْنِكُمْ مَكْرُوهِينَ لَهُنَّ، وَكُلُّ هَذِهِ
371
الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ، وَلَفْظُ الْكُرْهِ لَيْسَ قَيْدًا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَحْتَقِرُ النِّسَاءَ وَتَعُدُّهُنَّ مِنْ قَبِيلِ الْمَتَاعِ، وَالْعُرُوضِ حَتَّى كَانَ الْأَقْرَبُونَ يَرِثُونَ زَوْجَةَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ كَمَا يَرِثُونَ مَالَهُ، فَحَرَّمَ اللهُ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَفْظُ الْكُرْهِ هُنَا لَيْسَ قَيْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرِثُونَهُنَّ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ.
وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ أَصْلُ (الْعَضْلِ) : التَّضْيِيقُ، وَالْمَنْعُ، وَالشِّدَّةُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْعُضَالُ، أَيِ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا مَنْجَاةَ مِنْهُ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ كَمَا هُوَ مَفْهُومُ التَّحْرِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَرِثُوا النِّسَاءَ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " لَا " لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَ (تَعْضُلُوهُنَّ) مَعْطُوفٌ عَلَى (لَا تَرِثُوا) وَالْمَعْنَى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ إِرْثُ النِّسَاءِ، وَلَا عَضْلُهُنَّ، أَيْ وَلَا التَّضْيِيقُ عَلَيْهِنَّ، لِأَجْلِ أَنْ تَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، أَيْ أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مِنْ مِيرَاثٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَكَافُلِهِمْ فَيَصْدُقُ بِمَا أَعْطَوْهُ لِلنِّسَاءِ مِنْ مِيرَاثٍ، وَمَهْرِ زَوَاجٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ لِلْأَزْوَاجِ، وَبَعْضُهُمْ لِلْوَرَثَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ كَانَ يَعْضُلُ النِّسَاءَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ يَنْكِحُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ فَلَعَلَّهَا مَا تُوَافِقُهُ فَيُفَارِقُهَا عَلَى أَلَّا تَتَزَوَّجَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيَأْتِي بِالشُّهُودِ فَيَكْتُبُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَإِذَا خَطَبَهَا خَاطِبٌ فَإِنْ أَعْطَتْهُ، وَأَرْضَتْهُ أَذِنَ لَهَا، وَإِلَّا عَضَلَهَا. وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يُضَيِّقُونَ عَلَيْهِنَّ لِيَفْتَدِينَ مِنْهُمْ بِالْمَالِ، وَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [٢: ٢٣١] وَقَوْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [٢: ٢٢٩] وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَخَصَّ الْآيَةَ فِي الْجِلَالَيْنِ بِالْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ، وَرَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ: لَيْسَ مَعْنَى الْعَضْلِ هُنَا مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) مِنْ أَنَّهُ الْمَنْعُ مِنْ زَوَاجِ الْغَيْرِ بَلْ مَعْنَاهُ لَا تُضَارُّوهُنَّ، وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لِيَكْرَهْنَكُمْ،
وَيَضْطَرِرْنَ إِلَى الِافْتِدَاءِ مِنْكُمْ ; فَقَدْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ مَنْ يُعْجِبُهُمْ حُسْنُهَا، وَيُزَوِّجُونَ مَنْ لَا تُعْجِبُهُمْ أَوْ يُمْسِكُونَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ بِمَا كَانَتْ وَرِثَتْ مِنْ قَرِيبِ الْوَارِثِ، أَوْ مَا كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْ صَدَاقٍ، وَنَحْوِهِ، أَوِ الْمَجْمُوعِ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، وَرُبَّمَا كَلَّفُوهَا الزِّيَادَةَ إِنْ عَلِمُوا أَنَّهَا تَسْتَطِيعُهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْعَضْلُ الْمُحَرَّمُ هُنَا. أَقُولُ: وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. أَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الْمَرْأَةَ فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ، وَهَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آيَتَيِ الْمَوَارِيثِ.
372
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ الْفَاحِشَةُ: الْفِعْلَةُ الشَّنِيعَةُ الشَّدِيدَةُ الْقُبْحِ، وَكَلِمَةُ " مُبَيِّنَةٍ " قَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَيْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ ظَاهِرَةٍ مُتَبَيِّنَةٍ أَوْ مُبَيِّنَةٍ حَالَ صَاحِبِهَا فَاضِحَةٍ لَهُ. وَقَدْ وَرَدَ: بَيَّنَ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ اللَّازِمِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْفَاحِشَةَ الْمُبَيِّنَةَ هُنَا هِيَ النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ " إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ عَلَيْكُمْ "، وَرُوِيَ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَرَءَا " إِلَّا أَنْ يُفْحِشْنَ " دُونَ لَفْظِ " عَلَيْكُمْ "، وَعِنْدِي أَنَّهُمَا ذَكَرَا الْآيَةَ بِالْمَعْنَى فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّهُمَا رَوَيَا ذَلِكَ قِرَاءَةً فَعَنَيَا لَفْظَ الْقُرْآنِ. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَغَيْرِهِ أَنَّهَا: الزِّنَا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمَعْنَى لَا تَعْضُلُوهُنَّ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَوْ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ إِلَّا الْحَالَ أَوِ الزَّمَنَ الَّذِي يَأْتِينَ فِيهِ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ دُونَ الظِّنَّةِ وَالشُّبْهَةِ، فَإِذَا نَشَزْنَ عَنْ طَاعَتِكُمْ بِالْمَعْرُوفِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ يَنْفَعْ مَعَهُنَّ التَّأْدِيبُ الَّذِي سَيُذْكَرُ فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَاءَتْ عِشْرَتُهُنَّ لِذَلِكَ، أَوْ تَبَيَّنَ ارْتِكَابُهُنَّ لِلزِّنَا، أَوِ السِّحَاقِ فَلَكُمْ حِينَئِذٍ أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ ; لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ مِنْ صَدَاقٍ وَغَيْرِهِ إِذْ لَا يُكَلِّفُكُمُ اللهُ أَنْ تَخْسَرُوا عَلَيْهِنَّ مَا لَكَمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي يَجِيءُ فِيهَا الْفُحْشُ مِنْ جَانِبِهِنَّ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ [٢: ٢٢٩] وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْفَاحِشَةَ هُنَا هِيَ الزِّنَا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا النُّشُوزُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الْفُحْشُ بِالْقَوْلِ. وَالصَّوَابُ عَدَمُ تَعْيِينِهَا وَتَخْصِيصِهَا
بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَلْ تَبْقَى عَلَى إِطْلَاقِهَا فَتَصْدُقُ بِالسَّرِقَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْفَاحِشَةِ الْمَمْقُوتَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ فِيهَا هَذَا الْوَصْفُ الْمَنْصُوصُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً، أَيْ ظَاهِرَةً فَاضِحَةً لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ هَذَا الْقَيْدُ لِئَلَّا يَظْلِمَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِإِصَابَتِهَا الْهَفْوَةَ وَاللَّمَمَ، أَوْ بِمُجَرَّدِ سُوءِ الظَّنِّ وَالتُّهَمِ، فَمِنَ الرِّجَالِ الْغَيُورُ السَّيِّئُ الظَّنِّ يُؤَاخِذُ الْمَرْأَةَ بِالْهَفْوَةِ فَيَعُدُّهَا فَاحِشَةً، وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ الْمُضَارَّةَ لِأَجْلِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْهَا بَعْضَ مَا كَانَ آتَاهَا مِنْ صَدَاقٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُضَارَّةَ لِأَخْذِ جَمِيعِ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ حَرَامٌ بِالْأَوْلَى، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى امْرَأَتِهِ إِذَا أَتَتْ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكْرَهُ الرَّجُلَ وَتَمِيلُ إِلَى غَيْرِهِ فَتُؤْذِيهِ بِفُحْشٍ مِنَ الْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، لِيَمَلَّهَا وَيَسْأَمَ مُعَاشَرَتَهَا، فَيُطَلِّقَهَا، فَتَأْخُذَ مَا كَانَ آتَاهَا، وَتَتَزَوَّجَ آخَرَ تَتَمَتَّعُ مَعَهُ بِمَالِ الْأَوَّلِ، وَرُبَّمَا فَعَلَتْ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَتْ بِالْأَوَّلِ. وَإِذَا عَلِمَ النِّسَاءُ أَنَّ الْعَضْلَ، وَالتَّضْيِيقَ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَمِمَّا أُبِيحَ لَهُمْ إِذَا هُنَّ أَهَنَّهُمْ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُفُّهُنَّ عَنِ ارْتِكَابِهَا وَالِاحْتِيَالِ بِهَا عَلَى أَرْذَلِ الْكَسْبِ.
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تُحْسِنُوا عِشْرَةَ نِسَائِكُمْ بِأَنْ تَكُونَ
373
مُصَاحَبَتُكُمْ وَمُخَالَطَتُكُمْ لَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي تَعْرِفُهُ، وَتَأْلَفُهُ طِبَاعُهُنَّ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ شَرْعًا، وَلَا عُرْفًا، وَلَا مُرُوءَةً، فَالتَّضْيِيقُ فِي النَّفَقَةِ، وَالْإِيذَاءُ بِالْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، وَكَثْرَةُ عُبُوسِ الْوَجْهِ، وَتَقْطِيبِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ كُلُّ ذَلِكَ يُنَافِي الْعِشْرَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَفِي الْمُعَاشَرَةِ مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ وَالْمُسَاوَاةِ، أَيْ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُعَاشِرْنَكُمْ كَذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يُدْخِلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَتَزَيَّنَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الزِّينَةِ لِأَنَّهَا تَتَزَيَّنُ لَهُ، وَالْغَرَضُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَدْعَاةَ سُرُورِ الْآخَرِ، وَسَبَبَ هَنَائِهِ فِي مَعِيشَتِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ " الْمَعْرُوفَ " بَعْضُهُمْ بِالنَّصَفَةِ فِي الْقَسْمِ، وَالنَّفَقَةِ، وَالْإِجْمَالِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ تَفْسِيرًا سَلْبِيًّا، فَقَالَ هُوَ أَلَّا يُسِيءَ إِلَيْهَا، وَلَا يَضُرَّهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَعِيفٌ، وَجَعَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْمَدَارَ فِي الْمَعْرُوفِ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَسْتَنْكِرُهُ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَبِهَا بِحَسَبِ طَبَقَتِهِمَا فِي النَّاسِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ. وَأَدْخَلَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ الْخَادِمَةِ لَهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَخْدِمْنَ أَنْفُسَهُنَّ، وَكَانَ الزَّوْجُ قَادِرًا عَلَى أُجْرَةِ الْخَادِمَةِ. وَقَلَّمَا يُقَصِّرُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا يَجِبُ لِلنِّسَاءِ مِنَ النَّفَقَةِ، بَلْ هُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمِلَلِ إِنْفَاقًا
عَلَى النِّسَاءِ، وَأَقَلُّهُمْ إِرْهَاقًا لَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ، وَلَكِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى، قَصَّرُوا فِي إِعْدَادِ الْبَنَاتِ لِلزَّوْجِيَّةِ الصَّالِحَةِ بِمَا يَجِبُ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الصِّحِّيَّةِ، وَالتَّعْلِيمِ الْمُغَذِّي لِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ فَعَسَى أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ قَرِيبٍ.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ لِعَيْبٍ فِي الْخُلُقِ، أَوِ الْخَلْقِ مِمَّا لَا يُعَدُّ ذَنْبًا لَهُنَّ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ لَيْسَ فِي أَيْدِيهِنَّ، أَوِ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِنَّ فِي خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَالْقِيَامِ بِشُئُونِهِ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِهِ النِّسَاءُ وَكَذَا الرِّجَالُ فِي أَعْمَالِهِمْ، أَوِ الْمَيْلِ مِنْكُمْ إِلَى غَيْرِهِنَّ، فَاصْبِرُوا وَلَا تَعْجَلُوا بِمُضَارَّتِهِنَّ، وَلَا بِمُفَارَقَتِهِنَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا فَهَذَا الرَّجَاءُ عِلَّةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنْ جَزَاءِ الشَّرْطِ، وَمِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ بَلْ أَهَمُّهُ وَأَعْلَاهُ الْأَوْلَادُ النُّجَبَاءُ، فَرُبَّ امْرَأَةٍ يَمَلُّهَا زَوْجُهَا وَيَكْرَهُهَا، ثُمَّ يَجِيئُهُ مِنْهَا مَنْ تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ مِنَ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ فَيَعْلُو قَدْرُهَا عِنْدَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ شَاهَدْنَا، وَشَاهَدَ النَّاسُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا، وَنَاهِيكَ بِهِ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [٢٥: ٧٤].
نِعَمُ الْإِلَهِ عَلَى الْعِبَادِ كَثِيرَةٌ وَأَجَلُّهُنَّ نَجَابَةُ الْأَوْلَادِ
وَمِنْهَا أَنْ يُصْلِحَ حَالَهَا بِصَبْرِهِ، وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ، فَتَكُونَ أَعْظَمَ أَسْبَابِ هَنَائِهِ فِي انْتِظَامِ مَعِيشَتِهِ، وَحُسْنِ خِدْمَتِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا أُصِيبَ بِالْأَمْرَاضِ، أَوْ بِالْفَقْرِ، وَالْعَوَزِ، فَكَثِيرًا مَا يَكْرَهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِبَطَرِهِ بِصِحَّتِهِ، وَغِنَاهُ، وَاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَمَتَّعَ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَأَجْمَلَ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُسْلَبَ مَا أَبْطَرَهُ مِنَ النِّعْمَةِ، وَيَكُونَ لَهُ مِنْهَا إِذَا صَبَرَ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ الْبَطَرِ خَيْرُ سَلْوَى، وَعَوْنٍ فِي أَيَّامِ الْمَرَضِ، أَوِ الْعَوَزِ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي يَكْرَهُ زَوْجَهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ مِثْلَ هَذَا وَيَتَذَكَّرَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ عَيْبٍ تَصْبِرُ امْرَأَتُهُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، غَيْرَ مَا وَطَّنَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ،
374
وَقَدْ بَيَّنَّا حَاجَةَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى مَوَدَّةِ الْآخَرِ، وَرَحْمَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ فِي مَقَالَاتِ (الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ) فَتُرَاجَعْ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمَنَارِ، وَرُبَّمَا نُودِعُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١].
هَذَا، وَإِنَّ التَّعْلِيلَ فِي الْآيَةِ يُرْشِدُنَا إِلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ تَأْتِي فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا فِي
النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ لَهُ، مَتَى جَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرُ تَظْهَرُ قِيمَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَرَفَ الْعُقَلَاءُ صِدْقَهَا بِالتَّجَارِبِ، وَلِأَجْلِ التَّنْبِيهِ لَهَا قَالَ - تَعَالَى -: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [٢: ٢١٦] وَلَمْ يَقُلْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا امْرَأَةً، ثُمَّ إِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَاحْتِمَالِهِ فَوَائِدَ أُخْرَى غَيْرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكْرُوهِ نَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْمَحْبُوبِ، فَالصَّابِرُ الْمُحْتَمِلُ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ بِصَبْرِهِ، وَرَوِيَّتِهِ سَوَاءٌ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِهِ خَيْرٌ أَمْ لَا، وَمِنَ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَيْرٌ الْقِتَالُ بِالْحَقِّ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَكْرُوهٌ طَبْعًا، وَنَاهِيكَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَنَصْرِهِ، وَظُهُورِ أَهْلِهِ، وَخِذْلَانِ الْبَاطِلِ وَحِزْبِهِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامٌ حَسَنٌ هُنَاكَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُوصِي أَهْلَهُ بِحُسْنِ مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَرِهْنَ الْأَزْوَاجَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ خَيْرٌ.
وَإِنَّمَا يُبِيحُ مُؤَاخَذَتَهُنَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَضْلِ حَتَّى يَفْتَدِينَ بِالْمَالِ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بِحَيْثُ يَكُونُ إِمْسَاكُهُنَّ سَبَبًا لِمَهَانَةِ الرَّجُلِ وَاحْتِقَارِهِ، أَوْ إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ. وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا جَمِيعَ حَقِّهَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -:
[٢: ٢١٦] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَيْ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ جَدِيدَةٍ تَرْغَبُونَ فِيهَا مَكَانَ زَوْجٍ سَابِقَةٍ تَرْغَبُونَ عَنْهَا لِكَرَاهَتِكُمْ لَهَا وَعَدَمِ طَاقَتِكُمُ الصَّبْرَ عَلَى مُعَاشَرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَهِيَ لَمْ تَأْتِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، وَقَدْ آتَيْتُمْ مِنْ قَبْلُ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا مِنَ الْمَالِ أَيْ مَالًا كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ أَخَذْنَهُ وَحُزْنَهُ فِي أَيْدِيهِنَّ، أَوِ الْتَزَمْتُمُوهُ لَهُنَّ فَصَارَ دِينًا فِي ذِمَّتِكُمْ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِصَاحِبَتِهِ؛ لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَسْتَبْدِلُونَ غَيْرَهَا بِهَا لِأَجْلِ هَوَاكُمْ، وَتَمَتُّعِكُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ مِنْهَا يُبِيحُ لَكُمْ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْهُ كَأَنْ تَكُونَ هِيَ الطَّالِبَةَ لِفِرَاقِكُمُ الْمُسِيئَةَ إِلَيْكُمْ لِأَجْلِ حَمْلِكُمْ عَلَى طَلَاقِهَا، فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا يُبِيحُ لَكُمْ ذَلِكَ فَبِأَيِّ وَجْهٍ تَسْتَحِلُّونَ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا؟ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ
وَتَوْبِيخٍ، أَيْ أَتَأْخَذُونَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَاهِتِينَ إِيَّاهَا كَاذِبِينَ عَلَيْهَا بِنِسْبَةِ الْفَاحِشَةِ إِلَيْهَا؟ ! فَالْبُهْتَانُ هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ الْمَكْذُوبَ عَلَيْهِ، وَيُسْكِتُهُ مُتَحَيِّرًا، يُقَالُ: بَهَتَهُ فَبُهِتَ، أَيِ افْتَرَى عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِافْتِرَاءِ فَأَدْهَشَهُ، وَأَسْكَتَهُ مُتَحَيِّرًا. وَالْإِثْمُ الْحَرَامُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ ذِكْرَ إِرَادَةِ الِاسْتِبْدَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِعَدَمِ حِلِّ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا، وَهُوَ لَا يُرِيدُ تَزَوُّجَ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا كَرِهَ عِشْرَتَهَا، أَوِ اخْتَارَ الْوَحْدَةَ، وَعَدَمَ التَّقَيُّدِ بِالنِّسَاءِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا كَمَا يُعْلَمُ مِنَ اشْتِرَاطِ الْإِتْيَانِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ إِنْكَارٌ آخَرُ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ إِيحَاشِهَا بِالطَّلَاقِ، وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا أَكَّدَ بِهِ الْإِنْكَارَ الْأَوَّلَ مُبَالَغَةً فِي التَّنْفِيرِ، أَوْ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِ مَنْ تَمَتَّعَ بِامْرَأَتِهِ وَعَامَلَهَا مُعَامَلَةَ الْأَزْوَاجِ، وَهِيَ أَشَدُّ صِلَةٍ حَيَوِيَّةٍ بَيْنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ رَغِبَ عَنْهَا، وَأَرَادَ فِرَاقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ تُلْجِئَهُ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ، أَوْ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ، وَلَمْ يَتَأَثَّمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا الَّذِي آتَاهَا فِي حَالِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالرَّغْبَةِ فِيهَا. يَقُولُ: كَيْفَ تَأْخُذُونَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ مَالِهِنَّ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ قَدْ أَفْضَيْتُمْ إِلَيْهِنَّ، أَيْ خَلَصْتُمْ، وَوَصَلْتُمْ إِلَيْهِنَّ ذَلِكَ الْخُلُوصَ الْخَاصَّ بِالزَّوْجَيْنِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ تَمَامَ التَّحَقُّقِ، فَيُلَابِسُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ حَتَّى كَأَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَجْلِهِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى التَّثْنِيَةِ " زَوْجٍ "، وَبِهِ يَتَكَوَّنُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ نِسْبَتُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ؟ أَبَعْدَ هَذَا الْإِفْضَاءِ وَالْمُلَابَسَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَاصِلُ الْبَاذِلُ هُوَ الْقَاطِعَ لِلصِّلَةِ الْعَظِيمَةِ طَامِعًا فِي مَالِ الْآخَرِ الْمَظْلُومِ، وَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ:
وَبِتْنَا وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ ثَالِثٌ كَزَوْجِ حَمَامٍ أَوْ كَغُصْنَيْنِ هَكَذَا
فَمِنْ بَعْدِ هَذَا الْوَصْلِ وَالْوُدِّ كُلِّهِ أَكَانَ جَمِيلًا مِنْكَ تَهْجُرُ هَكَذَا؟
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِفْضَاءِ هُنَا الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ فِيهَا الْمُلَامَسَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَهُمْ إِنَّمَا يُفَسِّرُونَ بِمَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ مَعَ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ، فَالْجُمْلَةُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا لَا يَحْسُنُ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ
تَعْدِيَةُ الْإِفْضَاءِ بِـ إِلَى الدَّالِّ عَلَى مُنْتَهَى الِاتِّصَالِ. وَهَذَا مِنْ حُسْنِ نَزَاهَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّعْبِيرِ وَأَدَبِهِ الْعَالِي فِي الْخِطَابِ، وَمِنَ الدِّقَّةِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ نُكْتَةِ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ أَيْ مَعَ كَوْنِ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَقَدْ أَفْضَيْتُمْ إِلَيْهِنَّ، أَوْ أَفْضَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْآخَرِ، وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ الْآخَرِ وَبَعْضِهِ الْمُتَمِّمِ لِوُجُودِهِ، فَكَأَنَّ بَعْضَ الْحَقِيقَةِ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ بَعْضِهَا الْآخَرِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْإِفْضَاءِ وَاتَّحَدَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا أَيْ عَهْدًا شَدِيدًا مُوَثَّقًا يَرْبُطُكُمْ بِهِنَّ أَقْوَى الرَّبْطِ
376
وَأَحْكَمَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الْمِيثَاقَ هُوَ مَا أَخَذَ اللهُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [٢: ٢٢٩] قَالَ: وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيُقَالُ: اللهُ عَلَيْكَ لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ كَلِمَةُ النِّكَاحِ، أَيْ صِيغَةُ الْعَقْدِ الَّتِي حَلَّتْ بِهِ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الرِّجَالَ مِنْ مُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ النِّسَاءُ مِنَ الرِّجَالِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِمَعْنَى الْإِفْضَاءِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ شُئُونِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهُوَ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١] فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ هِيَ أَقْوَى مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ فِي تَرْكِ أَبَوَيْهَا، وَإِخْوَتِهَا، وَسَائِرِ أَهْلِهَا، وَالرِّضَا بِالِاتِّصَالِ بِرَجُلٍ غَرِيبٍ عَنْهَا تُسَاهِمُهُ السَّرَّاءَ وَالضَّرَّاءَ، فَمِنْ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى - فِي هَذَا الْإِنْسَانِ أَنْ تَقْبَلَ الْمَرْأَةُ بِالِانْفِصَالِ مِنْ أَهْلِهَا ذَوِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهَا، لِأَجْلِ الِاتِّصَالِ بِالْغَرِيبِ، تَكُونُ زَوْجًا لَهُ وَيَكُونُ زَوْجًا لَهَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ أَقْوَى مِنْ كُلِّ مَا يَكُونُ بَيْنَ ذَوِي الْقُرْبَى، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْدِمُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَتَرْضَى بِأَنْ تَتْرُكَ جَمِيعَ أَنْصَارِهَا وَأَحِبَّائِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا إِلَّا وَهِيَ وَاثِقَةٌ بِأَنْ تَكُونَ صِلَتُهَا بِهِ أَقْوَى مَنْ كُلِّ صِلَةٍ، وَعِيشَتُهَا مَعَهُ أَهْنَأَ مَنْ كُلِّ عِيشَةٍ، وَهَذَا مِيثَاقٌ فِطْرِيٌّ مِنْ أَغْلَظِ الْمَوَاثِيقِ، وَأَشَدِّهَا إِحْكَامًا، وَإِنَّمَا يَفْقَهُ هَذَا الْمَعْنَى الْإِنْسَانُ الَّذِي يُحِسُّ إِحْسَاسَ الْإِنْسَانِ، فَلْيَتَأَمَّلْ تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي يُنْشِئُهَا اللهُ - تَعَالَى - بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ يَجِدُ أَنَّ
الْمَرْأَةَ أَضْعَفُ مِنَ الرَّجُلِ، وَأَنَّهَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ تُسَلِّمُ نَفْسَهَا إِلَيْهِ، مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى هَضْمِ حُقُوقِهَا، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَعْتَمِدُ فِي هَذَا الْإِقْبَالِ وَالتَّسْلِيمِ؟ وَمَا هُوَ الضَّمَانُ الَّذِي تَأْخُذُهُ عَلَيْهِ، وَالْمِيثَاقُ الَّذِي تُوَاثِقُهُ بِهِ؟ مَاذَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الْمَرْأَةِ إِذَا قِيلَ لَهَا: إِنَّكِ سَتَكُونِينَ زَوْجًا لِفُلَانٍ. إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَخْطُرُ فِي بَالِهَا عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، أَوِ التَّفَكُّرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْ عَنْهُ هُوَ أَنَّهَا سَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهَا عِنْدَ أَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ اسْتَقَرَّ فِي فِطْرَتِهَا وَرَاءَ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ: هُوَ عَقْلٌ إِلَهِيٌّ، وَشُعُورٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَ فِيهَا مَيْلًا إِلَى صِلَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ تَعْهَدْهَا مِنْ قَبْلُ، وَثِقَةً مَخْصُوصَةً لَا تَجِدُهَا فِي أَحَدٍ مِنَ الْأَهْلِ، وَحُنُوًّا مَخْصُوصًا لَا تَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا الْبَعْلَ، فَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ الَّذِي أَخَذَتْهُ مِنَ الرَّجُلِ بِمُقْتَضَى نِظَامِ الْفِطْرَةِ الَّذِي يُوَثَّقُ بِهِ مَا لَا يُوَثَّقُ بِالْكَلَامِ الْمُوَثَّقِ بِالْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ، وَبِهِ تَعْتَقِدُ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا بِالزَّوَاجِ قَدْ أَقْبَلَتْ عَلَى سَعَادَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا سَعَادَةٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ لَمْ تَرَ مَنْ رَضِيَتْ بِهِ زَوْجًا، وَلَمْ تَسْمَعْ لَهُ مِنْ قَبْلُ كَلَامًا، فَهَذَا مَا عَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ، وَذَكَّرَنَا بِهِ - وَهُوَ مَرْكُوزٌ فِي أَعْمَاقِ نُفُوسِنَا - بِقَوْلِهِ: إِنَّ النِّسَاءَ قَدْ أَخَذْنَ مِنَ الرِّجَالِ بِالزَّوَاجِ مِيثَاقًا غَلِيظًا، فَمَا هِيَ قِيمَةُ مَنْ لَا يَفِي بِهَذَا الْمِيثَاقِ، وَمَا هِيَ مَكَانَتُهُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ؟ انْتَهَى. بِتَصَرُّفٍ مَا.
377
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِالْآيَتَيْنِ عَلَى مَنْعِ الْخُلْعِ - وَهُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ - طَلَاقُ الْمَرْأَةِ عَلَى عِوَضٍ تَبْذُلُهُ لِلرَّجُلِ، كَأَنْ تَتْرُكُ لَهُ مَا كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْهُ مِنْ صَدَاقٍ وَغَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مَا هُنَا نَاسِخٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [٢: ٢٢٩] وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ تِلْكَ نَاسِخَةٌ لِهَذِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا جَعَلَهُ نَاسِخًا هُوَ الْمُتَأَخِّرُ، وَإِنَّمَا أَعْيَاهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ فَحَكَمُوا بِنَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَآيَةُ النَّسْخِ التَّنَافِي، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا هُنَا وَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا عُلِمَ مِنَ التَّفْسِيرِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِعَدَمِ النَّسْخِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا هُوَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، وَالْمُبَاحُ هُنَاكَ مَا افْتَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا بِرِضَاهَا لِتَعَذُّرِ الِاتِّفَاقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذِكْرِ الْقِنْطَارِ هُنَا عَلَى جَوَازِ التَّغَالِي فِي الْمُهُورِ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي جَوَازِ جَعْلِ الْقِنْطَارِ مَهْرًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِيتَاءُ الْقِنْطَارِ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْهَدَايَا،
وَالْمِنَحِ، وَلَكِنْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) نَهَى عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يُزَادَ فِي الصَّدَاقِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [٤: ٢٠] فَقَالَ: " اللهُمَّ عَفْوًا، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ! "، ثُمَّ رَجَعَ فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: " إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا فِي صَدُقَاتِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ "، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً خَاصَمَتْ عُمَرَ فَخَصَمَتْهُ. وَفِي الْمُوَفَّقِيَّاتِ لِلزُّبَيْرِ بْنِ بِكَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُصْعَبٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ " لَا تَزِيدُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً - أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ - فَمَنْ زَادَ أُوقِيَّةً جُعِلَتِ الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: مَا ذَاكَ لَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: " امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ "، وَنَقُولُ: نَعَمْ، إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُحَدِّدْ مِقْدَارَ الصَّدَاقِ لِلْمَرْأَةِ، بَلْ تَرَكَتْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَيُعْطِي كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْإِرْشَادُ إِلَى الْيُسْرِ فِي ذَلِكَ وَعَدَمِ التَّغَالِي فِيهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ إِنَّ خَيْرَ النِّسَاءِ أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ: إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَفِي مَعْنَاهُمَا حَدِيثُهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ: أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا كَذَا رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً.
هَذَا وَإِنَّ التَّغَالِيَ فِي الْمُهُورِ قَدْ صَارَ مِنْ أَسْبَابِ قِلَّةِ الزَّوَاجِ ; لِأَنَّهُ يُكَلِّفُ الرِّجَالَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَقِلَّةُ الزَّوَاجِ تُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَالْفَسَادِ، وَيَكُونُ الْغَبْنُ فِي ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ أَكْثَرَ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا يَنْتَهِي بِالسُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِرَدِّ الْفِعْلِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ النِّسَاءُ فِي
378
الْإِسْلَامِ هُنَّ اللَّوَاتِي يُعْطِينَ الْمُهُورَ لِلرِّجَالِ لِيَتَزَوَّجُوهُنَّ، كَمَا هِيَ عَادَةُ النَّصَارَى. وَإِنَّكَ لَتَرَى هَذِهِ الْعَادَةَ الضَّارَّةَ مُتَمَكِّنَةً فِي بَعْضِ النَّاسِ تَمَكُّنًا غَرِيبًا حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ لِلْكُفْءِ الصَّالِحِ الَّذِي لَا يَطْمَعُ فِي مِثْلِهِ إِذَا كَانَ لَا يُعْطِيهِ مَا يَرَاهُ لَائِقًا بِمَقَامِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَدْ يُزَوِّجُهَا لِمَنْ لَا يُرْضِيهِ دِينُهُ، وَلَا خُلُقُهُ، وَلَا يَرْجُو لَهَا الْهَنَاءَ عِنْدَهُ إِذَا هُوَ أَعْطَاهُ الْمِقْدَارَ الْكَثِيرَ الَّذِي يُخَيِّلُ إِلَيْهِ
جَهْلُهُ أَنَّهُ لَائِقٌ بِمَقَامِهِ، وَهَكَذَا تَتَحَكَّمُ الْعَادَاتُ الضَّارَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْفَاسِدَةُ بِالنَّاسِ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَيْهِمْ نِظَامَ مَعِيشَتِهِمْ، وَهُمْ لِجَهْلِهِمْ أَوْ ضَعْفِ عَزَائِمِهِمْ يَنْقَادُونَ لَهَا صَاغِرِينَ!
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ، وَقَدْ كَانَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ حُكْمُ نِكَاحِ الْيَتَامَى، وَعَدَدُ مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ بِشَرْطِهِ. وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ذَكَرَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ بِأَنْ يُطَلِّقَ هَذِهِ وَيَنْكِحَ تِلْكَ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَصِلَ ذَلِكَ بِبَيَانِ مَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُ مِنْهُنَّ، وَقَدْ بَيَّنَ مَا يَجِبُ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي مُعَاشَرَتِهِنَّ، وَقَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ: لَمَّا كَرَّرَ الْإِذْنَ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مَنْطُوقًا، وَمَفْهُومًا، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِذْنُ فِي نِكَاحِ مَا طَابَ مِنَ النِّسَاءِ، وَكَانَ الطَّيِّبُ شَرْعًا يَحْمِلُ عَلَى الْحِلِّ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى مَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ لِذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ فَقَالَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ.
أَقُولُ: قَدَّمَ هَذَا النِّكَاحَ عَلَى غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ فِي آيَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَمْ يَسْرُدْهُ مَعَ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّهُ عَلَى قُبْحِهِ كَانَ فَاشِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَاكَ ذَمَّهُ بِمِثْلِ مَا ذَمَّ بِهِ الزِّنَا
379
لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ كَمَا تَرَى فِي آخِرِ الْآيَةِ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنِ امْرَأَتِهِ كَانَ ابْنُهُ أَحَقَّ بِهَا أَنْ يَنْكِحَهَا إِنْ شَاءَ إِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، أَوْ يَنْكِحُهَا
مَنْ شَاءَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ قَامَ ابْنُهُ مِحْصَنٌ فَوَرِثَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ أَمِّ عُبَيْدٍ بِنْتِ ضَمْرَةَ، وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُوَرِّثْهَا مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: ارْجِعِي لَعَلَّ اللهَ يُنْزِلُ فِيكِ شَيْئًا فَنَزَلَتْ وَلَا تَنْكِحُوا الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ أَيْضًا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا أَيْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَقِبَ وُقُوعِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقِصَّةِ بِلَفْظٍ آخَرَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى، وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مِحْصَنٍ الْمَذْكُورِ، وَفِي الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، وَفِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَفِي مَنْظُورِ بْنِ رَيَّانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مُلَيْكَةَ بِنْتَ خَارِجَةَ.
وَالنِّكَاحُ هُوَ الزَّوَاجُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [٢: ٢٣٠] أَنَّ النِّكَاحَ لَهُ إِطْلَاقَانِ: يُطْلَقُ عَلَى عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى مَا وَرَاءَ الْعَقْدِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، أَيْ مَجْمُوعُهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَاكَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى الْوَطْءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْإِطْلَاقَيْنِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ، وَأَيِّهِمَا الْمَجَازِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَإِنَّمَا كَمَالُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الْعَقْدُ، وَمَا وَرَاءَهُ كَمَا قُلْنَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ الَّذِي تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ، وَتُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الْغَالِبِ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْوَطْءُ، وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) النِّكَاحَ هُنَا بِالْعَقْدِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا أَبُوكَ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ "، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآبَاءِ مَا يَشْمَلُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مَعْنَاهُ لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ لَا تُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا قَدْ مَاتَ مِنْهُنَّ، وَرَوَوْهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ، وَقَطْعُ عِرْقِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَسَدُّ بَابِ إِبَاحَتِهَا سَدًّا مُحْكَمًا، وَهُوَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ إِنَّ نِكَاحَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ كَانَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَأَيَّدَتْهَا الشَّرِيعَةُ
الَّتِي هَدَاهُمْ إِلَيْهَا أَمْرًا فَاحِشًا شَدِيدَ الْقُبْحِ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَقْتًا أَيْ مَمْقُوتًا مَقْتًا شَدِيدًا عِنْدَ ذَوِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ الْمَقْتِ، وَهُوَ الْبُغْضُ الشَّدِيدُ أَوْ بُغْضُ الِاحْتِقَارِ، وَالِاشْمِئْزَازِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نِكَاحَ الْمَقْتِ، وَسُمِّيَ الْوَلَدُ مِنْهُ مَقْتِيًّا، وَمَقِيتًا، أَيْ مَبْغُوضًا مُحْتَقَرًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ بِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُ ذَلِكَ النِّكَاحِ الَّذِي اعْتَادَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَبِئْسَ مَنْ يَسْلُكُهُ.
380
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا النِّكَاحَ، وَإِنْ كَانَ سَبِيلًا مَسْلُوكًا إِلَّا أَنَّهُ سَبِيلٌ سَيِّئٌ، وَلَمْ يَزِدْهُ السَّيْرُ فِيهِ إِلَّا قُبْحًا، وَمَقْتًا، وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: " مَرَاتِبُ الْقُبْحِ ثَلَاثٌ: الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ، وَالْقُبْحُ الشَّرْعِيُّ، وَالْقُبْحُ الْعَادِيُّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - هَذَا النِّكَاحَ بِكُلِّ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: فَاحِشَةً إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَقْتًا إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الشَّرْعِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَسَاءَ سَبِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الْعَادِيِّ ".
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَخِيرَ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَادِيُّ ; أَيْ إِنَّهُ عَادَةٌ، وَلَكِنَّهَا قَبِيحَةٌ وَمَا قَبْلَهُ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الطَّبْعِيُّ، أَيْ أَنَّ الطِّبَاعَ تَمْقُتُ هَذَا لِاسْتِقْبَاحِهَا إِيَّاهُ، وَالْأَوَّلُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْعِبَارَاتِ، وَفَاتَهُ هُوَ ذِكْرُ الْقُبْحِ الطَّبْعِيِّ، وَأَمَّا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِوُرُودِ الْوَحْيِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ. فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ حَرَّمَ حَلَائِلَ الْآبَاءِ، وَعَلَّلَهُ بِمَا فِيهِ الْقَبَائِحُ الثَّلَاثُ.
هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَمَا كَانَ يَنْكِحُ آبَاؤُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ كَالنِّكَاحِ بِدُونِ شُهُودٍ. وَنِكَاحِ الشِّغَارِ: وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ فِي الزَّوَاجِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا رَجُلًا آخَرَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ هَذَا مُوَلِّيَتَهُ، وَلَا مَهْرَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا تَكُونُ كَمَهْرٍ لِلْأُخْرَى.
وَعِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ الرِّوَايَاتِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ لِلْآيَةِ، وَنَقْلِ قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ - الزِّنَا - هَذَا نَصُّهَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ
نِكَاحَ آبَائِكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْكُمْ فَمَضَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً " إلخ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا قَوْلَ مَنْ ذَكَرْتَ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرْتَ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَأَنْتَ تَذْكُرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا نُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا نِكَاحَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إِذْ كَانَتْ " مَا " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِغَيْرِ بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ النَّهْيَ - عَنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ دُونَ سَائِرِ مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمْ حَرَامًا ابْتِدَاءُ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ بِنَهْيِ اللهِ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - لَقِيلَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِذْ كَانَ " مَنْ " لِبَنِي آدَمَ، وَ " مَا " لِغَيْرِهِمْ، وَلَا تَقُلْ - أَيْ حِينَئِذٍ - وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَا مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَنَاكَحُونَهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ. فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
381
بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاكَحُونَهُ فِي شِرْكِهِمْ. وَمَعْنَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِلَّا مَا قَدْ مَضَى إِلَى آخِرِ مَا قَالَ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا - سُبْحَانَهُ - أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ لِعِلَّةٍ ثَابِتَةٍ مَا فِي النِّكَاحِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي صِلَةِ الْبَشَرِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، أَوْ لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ دَاخِلَةٌ فِي عِدَّةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: نِكَاحُ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَيْ حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوا أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْإِيجَازِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ حَكَمَ الْآنَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَمَنْعِهِ، فَهُوَ إِنْشَاءُ حُكْمٍ جَدِيدٍ. وَأُمَّهَاتُنَا هُنَّ اللَّوَاتِي لَهُنَّ صِفَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ أُصُولِنَا - وَلَفْظُ الْأُمِّ يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ كَأُمِّ الْكِتَابِ، وَأُمِّ الْقُرَى - فَيَدْخُلُ فِيهِنَّ الْجَدَّاتُ، وَكَذَلِكَ فَهِمَهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: نِكَاحُ الْفُرُوعِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: وَبَنَاتُكُمْ وَهُنَّ اللَّوَاتِي وُلِدْنَ لَنَا مِنْ أَصْلَابِنَا، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ مِنْ تَلْقِيحِنَا، أَوْ وُلِدْنَ لِأَوْلَادِنَا، أَوْ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِنَا، وَإِنْ سَلَفُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كُنَّا سَبَبًا فِي وِلَادَتِهِنَّ، وَأُصُولًا لَهُنَّ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وِلَادَةُ الْبِنْتِ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ؟ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَعَمْ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِنْتُهُ مِنَ
الزِّنَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهَا ابْنَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَرِثُهُ إِلَّا إِذَا اسْتَلْحَقَهَا ; لِأَنَّ الْإِرْثَ حَقٌّ تَابِعٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْفِرَاشِ، أَوْ الِاسْتِلْحَاقِ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَيْسَ وَلَدَ فِرَاشٍ فَلَا نَسَبَ لَهُ، وَلَا إِرْثَ مَا لَمْ يُسْتَلْحَقْ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ إِذَا عُرِفْتَ هُوَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزَّانِيَةِ يَلْحَقُهَا، وَيَرِثُهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُمُّهُ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَبَاحَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ مِنَ الزِّنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ اسْتِلْحَاقُ وَلَدِهِ مِنَ الزِّنَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وَلَدُهُ، بِأَنْ يَكُونَ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ بِذَاتِ فِرَاشٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُلَامِسْهَا فِيهِ رَجُلٌ قَطُّ، وَبَقِيَتْ مَحْبُوسَةً عَنِ الرِّجَالِ حَتَّى ظَهَرَ حَمْلُهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْبِنْتِ مِنَ الزِّنَا حُرْمَةُ الْبِنْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ بَلْ تَحْرِيمُ بِنْتِ الزِّنَا أَوْلَى.
هَذَا، وَإِنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُبَالُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ نُطَفَهُمْ، وَلَا أَيْنَ يَضَعُونَ نَسْلَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْنِي بِذَاتِ الْفِرَاشِ، فَيُضِيعُ وَلَدَهُ وَيُلْحِقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ مَنْ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ، فَتَكُونُ لَهُ جَمِيعُ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ عِنْدَهُ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهِيَ " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْسُقُ بِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى قَتْلِ حَمْلِهَا عِنْدَ وَضْعِهِ، أَوْ عَلَى إِلْقَائِهِ حَيْثُ يُرْجَى أَنْ يَلْتَقِطَهُ مَنْ يُرَبِّيهِ لِيَجْعَلَهُ خَادِمًا كَالرَّقِيقِ، أَوْ فِي بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي تُرَبَّى فِيهَا اللُّقَطَاءُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَلَا يُبَالِي الْفَاسِقُ أَخَرَجَ وَلَدُهُ شَقِيًّا
382
أَمْ سَعِيدًا، مُؤْمِنًا، أَمْ كَافِرًا! ! فَلَعَنَ اللهُ الزُّنَاةَ، مَا أَعْظَمَ شَرَّهُمْ فِي جَمَاعَةِ الْبَشَرِ، وَلَعَنَ اللهُ الزَّوَانِيَ مَا أَكْثَرَ شَرَّهُنَّ وَأَعْظَمَ بُهْتَانَهُنَّ، فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ لَتَحْمِلُ مَا لَا يَحْمِلُهُ مَنْ يَفْجُرُ بِهَا مِنَ الْعَنَاءِ وَالشَّقَاءِ وَتَوْبِيخِ الضَّمِيرِ، فَهُوَ يَسْفَحُ مَاءً لَا يَدْرِي مَا يَكُونُ وَرَاءَهُ، وَهِيَ الَّتِي تَعَلَّقُ بِهَا الْمُصِيبَةُ فَتُعَانِي مِنْ أَثْقَالِ حَمْلِهَا مَا تُعَانِي، ثُمَّ تُلْقِي حَمْلَهَا عَلَى فِرَاشِ زَوْجِهَا وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْسَى طُولَ الْحَيَاةِ أَنَّهَا أَلْقَتْ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا بُهْتَانًا افْتَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَتْهُ مِنْ حُقُوقِ عَشِيرَتِهِ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ تُلْقِيهِ إِلَى يَدِ غَيْرِهَا، وَقَلْبُهَا مُعَلَّقٌ بِهِ قَلِقٌ عَلَيْهِ لَا يَسْكُنُ لَهُ اضْطِرَابٌ إِلَّا أَنْ يَسْلُبَهَا الْفِسْقُ أَفْضَلَ عَاطِفَةٍ، وَشُعُورٍ تَتَحَلَّى بِهِمَا الْمَرْأَةُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَسْتَعْمِلُ الْأَدْوِيَةَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْحَمْلِ، فَتَضُرُّ نَفْسَهَا وَرُبَّمَا أَفْسَدَتْ رَحِمَهَا.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْحَوَاشِي الْقَرِيبَةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَأَخَوَاتُكُمْ سَوَاءٌ كُنَّ شَقِيقَاتٍ لَكُمْ، أَوْ كُنَّ مِنَ الْأُمِّ وَحْدَهَا، أَوِ الْأَبِ وَحْدَهُ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَوْلَادُ الْأَجْدَادِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَأَوْلَادُ الْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَعَمَّةُ جَدِّهِ، وَخَالَتُهُ، وَعَمَّةُ جَدَّتِهِ، وَخَالَاتُهَا لِلْأَبَوَيْنِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، إِذِ الْمُرَادُ بِالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ الْإِنَاثُ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْخُئُولَةِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْوَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَيْ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ التَّالِيَةِ:
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا حَرُمَ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعَةِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ كَالنَّسَبِ بَيَّنَهَا - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَسَمَّى الْمُرْضِعَةَ أُمًّا لِلرَّضِيعِ، وَبِنْتَهَا أُخْتًا لَهُ، فَأَعْلَمَنَا بِذَلِكَ أَنَّ جِهَةَ الرَّضَاعَةِ كَجِهَةِ النَّسَبِ تَأْتِي فِيهَا الْأَنْوَاعُ الَّتِي جَاءَتْ فِي النَّسَبِ كُلُّهَا، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَمَّا أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ عَمِّهِ حَمْزَةَ، أَيْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَيَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ وَفِي صَحِيحِهِمَا أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: ائْذَنِي لِأَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ فَإِنَّهُ عَمُّكِ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ. وَعَلَى هَذَا جَرَى جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، فَجَعَلُوا زَوْجَ الْمُرْضِعَةِ أَبًا لِلرَّضِيعِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهُ، وَفُرُوعُهُ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ ; لِأَنَّهُ صَاحِبُ اللَّقَاحِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ اللَّبَنِ الَّذِي تَغَذَّى مِنْهُ أَيِ الرَّضِيعُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَتَانِ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا
383
جَارِيَةً (أَيْ بِنْتًا)، وَالْأُخْرَى غُلَامًا، أَيَحِلُّ لِلْغُلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ؟ " قَالَ: لَا! اللَّقَاحُ وَاحِدٌ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَلَوْلَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمَا فَهِمْنَا مِنَ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ خَاصٌّ بِالْمُرْضِعَةِ، وَيَنْتَشِرُ فِي أُصُولِهَا، وَفُرُوعِهَا لِتَسْمِيَتِهَا أُمًّا، وَتَسْمِيَةِ بِنْتِهَا أُخْتًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا أَبًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ تَحْرُمَ جَمِيعُ فُرُوعِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّضِيعِ، كَمَا أَنَّ تَسْمِيَةَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأُمَّهَاتِ فَالتَّسْمِيَةُ يُرَاعَى فِيهَا الِاعْتِبَارُ
الَّذِي وُضِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَمَنْ رَضَعَ مِنِ امْرَأَةٍ كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ جُزْءًا مِنْهُ ; لِأَنَّهُ تَكَوَّنَ مِنْ لَبَنِهَا فَصَارَتْ فِي هَذَا كَأُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ، وَصَارَ أَوْلَادُهَا إِخْوَةً لَهُ ; لِأَنَّ لِتَكْوِينِ أَبْدَانِهِمْ أَصْلًا وَاحِدًا هُوَ ذَلِكَ اللَّبَنُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَظْهَرُ فِي أَوْلَادِ زَوْجِهَا مِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى إِلَّا مِنْ بَعْدُ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ بِلَقَاحِهِ سَبَبًا لِتَكَوُّنِ اللَّبَنِ فِي الْمَرْأَتَيْنِ قَدْ صَارَ أَصْلًا لِأَوْلَادِهِمَا، إِذْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْ لَقَاحِهِ تَنَاوَلَهُ مَعَ اللَّبَنِ فَاشْتَرَكَا فِي سَبَبِ اللَّبَنِ، أَوْ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي تَكَوَّنَ بَعْضُ بَدَنِهِمَا مِنْهُ فَكَانَا أَخَوَيْنِ لَا يَحِلُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا، وَالْآخَرُ أُنْثَى ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا فِيمَا سَبَقَ: إِنَّ حُرْمَةَ الرَّضَاعَةِ تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ بِنْتِ الزِّنَا عَلَى وَالِدِهَا بِالْأَوْلَى.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ مِنْ جِهَةِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ دُونَهَا. فَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَعَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. قَالَتْ زَيْنَبُ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقَرْنٍ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي وَيَقُولُ: أَقْبِلِي عَلَيَّ فَحَدِّثِينِي، أَرَى أَنَّهُ أَبِي، وَمَا وُلِدَ مِنْهُ فَهُمْ إِخْوَتِي، إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَيَّ يَخْطُبُ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتِي عَلَى حَمْزَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ حَمْزَةُ لِلْكَلْبِيَّةِ، فَقُلْتُ لِرَسُولِهِ: وَهَلْ تَحِلُّ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أُخْتِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِهَذَا الْمَنْعَ مِنْ قِبَلِكِ، أَمَّا مَا وَلَدَتْ أَسْمَاءُ فَهُمْ إِخْوَتُكِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسُوا لَكِ بِإِخْوَةٍ، فَأَرْسِلِي فَاسْأَلِي عَنْ هَذَا، فَأَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ - وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ - فَقَالُوا لَهَا: إِنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا. فَأَنْكَحَتْهَا إِيَّاهُ فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ عَنْهَا، " قَالُوا: وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِهَذَا - أَيْ بِأَنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ - عَنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، فَالْمَسْأَلَةُ لَمْ تَكُنْ إِجْمَاعِيَّةً. وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ قَوْلَ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ وُصُولِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَيْهِمْ فِيهِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ لِقِيَامِ مَا يُعَارِضُ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَهُمْ، وَيُقَالُ عَلَى الْأَوَّلِ: إِنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَعَلَى
الثَّانِي إِنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُمْ عَارَضَتْهُ عِنْدَنَا النُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ، وَمَتَى ثَبَتَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ امْتَنَعَ الْعُدُولُ عَنْهَا
384
لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَارَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَصْحَابُنَا لَا يَرَوْنَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ بَأْسًا حَتَّى أَتَاهُمُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ بِخَبَرِ أَبِي الْقُعَيْسِ، أَيْ فَأَخَذُوا بِهِ وَرَجَعُوا عَنْ رَأْيِهِمُ الْأَوَّلِ.
فَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ هُوَ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ أَمٌّ لِمَنْ رَضَعَ مِنْهَا، وَجَمِيعَ أَوْلَادِهَا إِخْوَةٌ لَهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ آبَاؤُهُمْ، وَأُصُولَهَا أُصُولٌ لَهُ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا كَمَا تَحْرُمُ بِنْتُهَا وَإِخْوَتُهَا خُئُولَةٌ لَهُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهَا. وَأَنَّ زَوْجَ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ أَبٌ لِلرَّضِيعِ أُصُولُهُ أُصُولٌ لَهُ، وَفُرُوعُهُ فُرُوعٌ لَهُ، وَإِخْوَتُهُ عُمُومَةٌ لَهُ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّةَ بِنْتٍ مِنْ بَنَاتِهِ سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ مُرْضِعَتِهِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ أَوْلَادَهُ مِنَ الْمُرْضِعَةِ إِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ لِلرَّضِيعِ، وَمِنْ غَيْرِهَا إِخْوَةٌ لِأَبٍ كَمَا أَنَّ أَوْلَادَهَا هِيَ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِ لَقَاحِ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ الرَّضِيعُ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ، أَوِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَمَّاتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُنَّ إِخْوَةُ أَبِيهِ بِالرَّضَاعَةِ، فَالسَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ - وَقَدْ ذُكِرْنَ بِالتَّفْصِيلِ - مُحَرَّمَاتٍ بِالرَّضَاعَةِ أَيْضًا. وَأَمَّا إِخْوَةُ الرَّضِيعِ، وَأَخَوَاتُهُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَعُوا مِثْلَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي تَكْوِينِ بِنْيَتِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَادَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي بِنْيَتِهِ فَيُبَاحُ لِلْأَخِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ أَرْضَعَتْ أَخَاهُ، أَوْ أُمَّهَا، أَوْ بِنْتَهَا، وَيُبَاحُ لِلْأُخْتِ أَنْ تَتَزَوَّجَ صَاحِبَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَ مِنْهُ أَخُوهَا، أَوْ أُخْتُهَا، أَوْ أَبَاهُ، أَوِ ابْنَهُ مَثَلًا.
وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّسَاهُلُ فِي أَمْرِ الرَّضَاعَةِ فَيُرْضِعُونَ الْوَلَدَ مِنَ امْرَأَةٍ، أَوْ مِنْ عِدَّةِ نِسْوَةٍ، وَلَا يَعْنُونَ بِمَعْرِفَةِ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ وَإِخْوَتِهَا، وَلَا أَوْلَادِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا وَإِخْوَتِهِ لِيَعْرِفُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَحُقُوقِ هَذِهِ الْقَرَابَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ، فَكَثِيرًا مَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ أُخْتَهُ، أَوْ عَمَّتَهُ، أَوْ خَالَتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِمَا يُسَمَّى إِرْضَاعًا فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُحَرِّمُ
الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ - وَالْإِمْلَاجَةُ: الْمَرَّةُ مِنْ أَمْلَجَتْهُ ثَدْيَهَا إِذَا جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ أَيْ يَمُصُّهُ - وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ " وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ مِنَ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعَةِ كَكَثِيرِهَا، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ
385
إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَهُوَ إِحْدَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَابْنِ حَزْمٍ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ إِلَى قَوْلٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ فَأَكْثَرَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ فَانْحَصَرَ التَّحْرِيمُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِمَا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُنَالِكَ مَذْهَبٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ، وَيُرْوَى عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَمَذْهَبٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ عَائِشَةَ.
وَرِوَايَةُ الْخَمْسِ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَلَيْهَا الْعَمَلُ عِنْدَهَا، وَبِهَا يَقُولُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فِيهِ إِلَى الْقَوْلِ بِنَسْخِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَهِيَ تَتَّفِقُ مَعَ حَدِيثِ مَنْعِ تَحْرِيمِ الْمَصَّتَيْنِ وَالْإِمْلَاجَتَيْنِ، وَيُعَدُّ تَقْيِيدًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا قَالُوا: وَتَقْيِيدُ بَيَانٍ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ.
قَالَ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْإِطْلَاقِ أَوْ إِلَى التَّحْرِيمِ بِالثَّلَاثِ فَمَا فَوْقَهَا: إِنَّ عَائِشَةَ نَقَلَتْ رِوَايَةَ الْخَمْسِ نَقْلَ قُرْآنٍ لَا نَقْلَ حَدِيثٍ فَهِيَ لَمْ تُثْبِتْ قُرْآنًا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَمْ تُثْبِتْ سُنَّةً فَنَجْعَلُهَا بَيَانًا لِلْقُرْآنِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِنَسْخِهَا لِئَلَّا يَلْزَمَ ضَيَاعُ
شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُنْسَخَ الْمَدْلُولُ بِنَسْخِ الدَّالِّ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَعَمَلُ عَائِشَةَ بِهِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى إِثْبَاتِهِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهَا أَنَّهَا لَا تَقُولُ بِنَسْخِ تِلَاوَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَيَزْدَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قُرْآنًا يُتْلَى لَمَا بَقِيَ عِلْمُهُ خَاصًّا بِعَائِشَةَ، بَلْ كَانَتِ الرِّوَايَاتُ تَكْثُرُ فِيهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ جَمَاهِيرُ النَّاسِ، وَيَحْكُمُ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَلِ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَابِعِ الْخُلَفَاءِ وَأَوَّلِ الْأَئِمَّةِ الْأَصْفِيَاءِ الْقَوْلُ بِالْإِطْلَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ قَالَ بِالْخَمْسِ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهَا، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ بِذَلِكَ اتِّبَاعٌ لَهَا ; لِأَنَّهَا خَالَتُهُ، وَمُعَلِّمَتُهُ، وَاتِّبَاعُهُ لَهَا لَا يَزِيدُ قَوْلَهَا قُوَّةً وَلَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً. ثُمَّ إِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهَا فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ، فَاللَّفْظُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ رَوَاهُ عَنْهَا مُسْلِمٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نَزَلَ أَيْضًا خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ " نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنَسَخَ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ إِلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ "
386
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ " كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ سَقَطَ: لَا يُحَرِّمُ إِلَّا عَشْرُ رَضَعَاتٍ أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " فَهِيَ لَمْ تُبَيِّنْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَفْظَ الْقُرْآنِ، وَلَا السُّورَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ ذَلِكَ لَفْظُ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ " ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ، وَالْعَمَلَ كَانَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الْقَائِلَةَ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَآيَةُ الْخَمْسِ الرَّضَعَاتِ مِمَّا يُتْلَى مِنَ الْقُرْآنِ "، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ التِّلَاوَةُ، وَلَكِنَّهُ يَتْبَعُهُ الْحُكْمُ، وَالْعَمَلُ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ الْعَشْرَ، وَالْخَمْسَ ذُكِرَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَوَصَفَ الْخَمْسَ بِالْمَعْلُومَاتِ قَالَ: ثُمَّ سَقَطَ أَيْ نُسِخَ فَبَطَلَ حُكْمُ الْخَمْسِ بِذَلِكَ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهَا، وَهُوَ الْعَمَلُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْسِ. وَلَهَا فِيهِ حَدِيثُ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَفِيهِ أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ، وَأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَتِهَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَسَتَأْتِي، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ سَلَفًا وَخَلَفًا، فَلَا يَعْمَلُ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْخَمْسِ كَالشَّافِعِيَّةِ. وَوَصْفُ الْخَمْسِ
بِالْمَعْلُومَاتِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ دُونَ الْعَشْرِ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ سَالِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَصْفِ الْعَشْرِ بِهَا أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَشْرِ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَغْوًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ وَصْفٍ لِلْعَشْرِ يَتَّفِقُ مَعَ السِّيَاقِ وَيَرْتَضِيهِ الْأُسْلُوبُ. فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ مُضْطَرِبَةٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَقَاءِ التِّلَاوَةِ، وَبَعْضُهَا عَلَى نَسْخِهَا، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ وَالْخَمْسِ نَزَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ نَزَلَ أَوَّلًا ثُمَّ تَرَاخَى الْأَمْرُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ حُكْمُ الْخَمْسِ نَاسِخًا لِمَا زَادَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا رَجَّحْنَا هَذَا الْأَخِيرَ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالثَّلَاثَةُ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ مَقَامُهُ اللَّائِقُ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ سِيَاقٌ آخَرُ يُنَاسِبُ أَنْ تُوضَعَ فِيهِ تِلْكَ الْعِبَارَةُ ثُمَّ تُحْذَفَ مِنْهُ، فَالْأَقْرَبُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ إِذًا أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْآيَةِ (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ)، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ عَمِلَ فِيهَا النَّاسُ بِقَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى عَشْرٍ - اسْتِبْدَالُ لَفْظِ " خَمْسٍ " بِلَفْظِ " عَشْرٍ "، وَبَقِيَ النَّاسُ يَقْرَءُونَهَا هَكَذَا إِلَى مَا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا سَأَلَ سَائِلٌ لِمَاذَا لَمْ تَثْبُتْ حِينَئِذٍ فِي الْقُرْآنِ؟ أَجَابَهُ الْجَامِدُونَ عَلَى الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصٍ لِمَعَانِيهَا بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهَا لِأَنَّ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُوُفِّيَ وَهُمْ يَتْلُونَهَا لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ!.
وَلَا يُبَالِي أَصْحَابُ هَذَا الْجَوَابِ بِمُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [١٥: ٩] ثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ
387
لَمْ يُثْبِتُوهَا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا نُسِخَتْ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ: إِنَّهَا كَانَتْ تُقْرَأُ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّسْخُ. وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ وَأَبْعَدُ عَنْ مَثَارِ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ بِرِوَايَةٍ آحَادِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْمُتَبَادِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ. وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: إِذَا صَحَّ هَذَا: فَمَا هِيَ حِكْمَةُ نَسْخِ الْعَشْرِ بِالْخَمْسِ عِنْدَ عَائِشَةَ، وَمَنْ عَمِلَ بِرِوَايَتِهَا، وَنَسْخِ الْخَمْسِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ قَبِلَ رِوَايَتَهَا وَادَّعَى أَنَّ الْخَمْسَ نُسِخَتْ أَيْضًا بِنَسْخِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ؟ لَعَلَّ أَظْهَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِهِ عَنْ هَذَا هُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا هِيَ التَّدْرِيجُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ كَمَا وَقَعَ فِي
تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، بَلْ لَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ شَيْءٌ آخَرُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولُوهُ، وَإِذَا أَنْصَفُوا رَأَوُا الْفَرْقَ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الرَّضَاعِ وَاسِعًا جِدًّا، فَإِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يُؤَثِّرُ فِي الْعَصَبِ تَأْثِيرًا يُغْرِي الشَّارِبَ بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ حَتَّى يَشُقَّ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فَجْأَةً، وَلَا كَذَلِكَ تَرْكُ نِكَاحِ الْمُرْضِعَةِ أَوْ بِنْتِهَا مَثَلًا، ثُمَّ إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ - وَهِيَ كَوْنُ بَعْضِ بِنْيَةِ الرَّضِيعِ مُكَوَّنَةً مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي رَضَعَهُ - تَتَحَقَّقُ بِالرَّضْعَةِ، أَوِ الثَّلَاثِ، أَوِ الْخَمْسِ فَكَيْفَ يَجْعَلُهَا الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَشْرًا، ثُمَّ خَمْسًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهَا، وَيَدَّعِي نَسْخَهَا؟ وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ يُقَالُ: مَنِ اسْتَفَادَ مِنْ هَذَا التَّدْرِيجِ فَتَزَوَّجَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا، أَوْ بِنْتَ مَنْ رَضَعَ هُوَ مِنْهَا تِسْعًا، أَوْ ثَمَانِيَ أَوْ سَبْعًا أَوْ سِتًّا؟ ثُمَّ مَاذَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ نَسْخِ الْعَشْرِ؟ هَلْ فَارَقُوا أَزْوَاجَهُمْ، أَمْ عُفِيَ عَنْهُمْ، وَجُعِلَ التَّحْرِيمُ بِمَا دُونَ الْعَشْرِ خَاصًّا بِغَيْرِهِمْ؟
الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِهَذَا النَّسْخِ حِكْمَةٌ، وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْعِلَّةِ، وَإِنَّ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ عَائِشَةَ لَأَهْوَنُ مِنْ قَبُولِهَا مَعَ عَدَمِ عَمَلِ جُمْهُورٍ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ بِهَا كَمَا عَلِمْتَ، فَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ رِوَايَتَهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمِثْلِ الْبُخَارِيِّ، وَبِمَنْ قَالُوا بِاضْطِرَابِهَا خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْ مَعْنَاهَا فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَوَ لَيْسَ رَدُّ عَمْرَةَ، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِهَا أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِنُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَلَا فَائِدَةٌ، تَمَّ نَسْخُهُ، أَوْ سُقُوطُهُ، أَوْ ضَيَاعُهُ، فَإِنَّ عَمْرَةَ زَعَمَتْ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَرَى أَنَّ الْخَمْسَ لَمْ تُنْسَخْ، وَإِذًا لَا نَعْتَدُّ بِرِوَايَتِهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالْمُخْتَارُ التَّحْرِيمُ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ إِلَّا الْمَصَّةَ وَالْمَصَّتَيْنِ إِذْ لَا تُسَمَّى رَضْعَةً فِي الْغِذَاءِ، وَبِمَعْنَاهَا الْإِمْلَاجَةُ وَالْإِمْلَاجَتَانِ، فَإِنَّهُ مِنْ مَلْجِ الْوَلِيدِ الثَّدْيَ إِذَا مَصَّهُ وَأَمْلَجَتْهُ إِيَّاهُ جَعَلَتْهُ يَمْلُجُهُ، فَإِنْ رَضَعَ رَضْعَةً تَامَّةً ثَبَتَتْ بِهَا الْحُرْمَةُ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
وَفِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ لِلنِّكَاحِ بَحْثٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِسِنِّ الرَّضِيعِ، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي سِنِّهِ، وَمُدَّتِهِ الْمَحْدُودَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [٢: ٢٣٣] وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
388
وَأَحْمَدَ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الظَّاهِرِيَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ مَا كَانَ قَبْلَ الْفَطْمِ، فَإِنْ فُطِمَ الرَّضِيعُ، وَلَوْ قَبْلَ السَّنَتَيْنِ امْتَنَعَ تَأْثِيرُ رَضَاعِهِ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ رَضَاعُهُ إِلَى مَا بَعْدَ السَّنَتَيْنِ، وَلَمْ يُفْطَمْ كَانَ رَضَاعُهُ مُحَرَّمًا، وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ تَصِحَّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُ فِي الْفِطَامِ لِحَوْلٍ ثُمَّ الرَّضَاعِ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِي، قَالَ: إِنْ تَمَادَى فِيهِ كَانَ مُحَرِّمًا، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّضَاعَ يُؤَثِّرُ فِي الصِّغَرِ دُونَ الْكِبَرِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا تَحْدِيدًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.
وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ إِلَى التَّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ شَيْخًا، وَهَذَا مَذْهَبُ عَائِشَةَ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَقَالَ بِهِ عُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سَعْدٍ، وَعُمْدَتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ فِي وَاقِعَةِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي مُسْلِمٍ، وَمُفَصَّلَةٍ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي الْوَاقِعَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَتُجْلِي مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهَا، فَيُعْرَفُ أَمْثَلُهَا، وَهُوَ أَنَّ " أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنَّى سَالِمًا، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَكَانَ يُدْعَى ابْنَهُ، فَلَمَّا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ التَّبَنِّيَ صَارَ سَالِمٌ أَجْنَبِيًّا مِنْ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فِرَاقُهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ وَصَارَ مِنَ الْحَرَجِ دُخُولُهُ عَلَى بَيْتِ أَبِي حُذَيْفَةَ كَمَا كَانَ يَدْخُلُ، وَامْرَأَتُهُ فِي مِهْنَتِهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِبْدَاءِ شَيْءٍ مِنْ زِينَتِهَا الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِبْدَاءَاهَا لِغَيْرِ الْمَحَارِمِ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي، وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فَضْلًا (أَيْ فِي فَضْلِ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ وَقْتَ الشُّغْلِ، أَوِ النَّوْمِ)، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ هَذَا سِيَاقُ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ تَعْنِي مِنْ حِلِّ دُخُولِهِ بَعْدَ تَحْرِيمِ التَّبَنِّي لَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ فِي عِفَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مَكَانَ الِابْنِ مِنْ قُوَّةِ دِينِهِ، وَتَقْوَاهُ فِي
الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ هِيَ، وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْفَاضِلَاتِ. فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا سَقَتْهُ لَبَنَهَا فِي إِنَاءٍ.
يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي مَعْنَاهُ مَا أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَحَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَمَعْنَى " فِي الثَّدْيِ " فِي زَمَنِهِ أَيْ سِنِّ الرَّضَاعَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ
389
عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ " يُرْوَى " أَنْشَرَ " بِالرَّاءِ أَيْ بَسْطَهُ، وَمَدَّهُ، وَأَنْشَزَ بِالزَّايِ وَمَعْنَاهُ رَفَعَهُ. وَبَسْطُ الْعِظَامِ وَارْتِفَاعُهَا كِلَاهُمَا يَكُونَانِ بِنُمُوِّهَا، وَالْكَبِيرُ لَا تَنْمُو عِظَامُهُ، وَتَرْتَفِعُ بِالرَّضَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْغَذَاءِ - وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَأَفْتَى بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ.
قَالَ بَعْضُ الذَّاهِبِينَ إِلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ فِي الْكِبَرِ لَاسِيَّمَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ: إِنَّ حَدِيثَ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ مَنْسُوخٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ حِينَ حُرِّمَ التَّبَنِّي، وَإِنْ خَفِيَ نَسْخُهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِسَالِمٍ، وَالتَّخْصِيصُ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ الْحُكُومَاتِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْقَوَانِينِ وَيُسَمُّونَهُ الِاسْتِثْنَاءَ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: لَيْسَ حَدِيثُ سَهْلَةَ بِمَنْسُوخٍ، وَلَا مَخْصُوصٍ بِسَالِمٍ، وَلَا عَامٍّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لِمَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ سَالِمٍ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَهْلِهِ فِي عَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ دُخُولِهِ عَلَى أَهْلِهِ ; أَيْ مَعَ انْتِفَاءِ الرِّيبَةِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَاجَةِ تَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَكَمْ مِنْ بَيْتٍ كَرِيمٍ يَثِقُ رَبُّهُ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ خَدَمِهِ قَدْ جَرَّبَ أَمَانَتَهُ، وَعِفَّتَهُ، وَصِدْقَهُ مَعَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى إِدْخَالِهِ عَلَى امْرَأَتِهِ، أَوْ إِلَى جَعْلِهِ مَعَهَا فِي سَفَرٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ صِلَتَهُ بِهِ، وَبِهَا بِجَعْلِهِ وَلَدًا لَهُمَا فِي الرَّضَاعَةِ بِشُرْبِ شَيْءٍ مِنْ لَبَنِهَا مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِحِكْمَتِهَا أَلَا يَكُونَ أَوْلَى! بَلَى وَإِنَّ هَذَا اللَّبَنَ لَيُحْدِثُ فِي كُلٍّ مِنْهُمْ عَاطِفَةً جَدِيدَةً.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُحَرَّمَاتُ الْمُصَاهَرَةِ، أَيِ الَّتِي تَعْرِضُ بِسَبَبِ الزَّوَاجِ، وَتَحْتَهُ الْأَنْوَاعُ الْآتِيَةُ قَالَ تَعَالَى: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ يَدْخُلُ فِي الْأُمَّهَاتِ أُمُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ وَجَدَّاتُهَا، وَيَدْخُلُ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَدْخُلُ بِهَا الرَّجُلُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا تَدْخُلَ فِي مِثْلِ
قَوْلِهِ - تَعَالَى -: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [٢: ٢٢٣] وَقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [٢: ١٨٧] وَقَوْلِهِ: لَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [٢: ٢٣١] وَلَا قَوْلِهِ: لِلَّذِينِ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [٢: ٢٢٦] لِأَنَّ الطَّلَاقَ، وَالْإِيلَاءَ خَاصٌّ بِالزَّوْجَاتِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي تَحْرِيمِ أُمِّ الْمَرْأَةِ دُخُولُهُ بِهَا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْتَرِطِ الدُّخُولَ هُنَا كَمَا اشْتَرَطَهُ فِي بِنْتِهَا كَمَا يَأْتِي، وَهِيَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَكُونُ مِنْ نِسَائِهِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ، أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا. وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ فَلَا تُعَدُّ مِنْ نِسَائِهِ إِلَّا إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا وَحِينَئِذٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا.
390
وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يَدْخُلُ فِيهِ تَحْرِيمُ بَنَاتِ امْرَأَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ حَتَّى عَامَّةُ الْمُوَلَّدِينَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَنَاتُ بَنَاتِهَا، وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا، وَإِنْ سَفَلْنَ ; لِأَنَّهُنَّ مِنْ بَنَاتِهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ أُمُّ زَوْجَةِ الِابْنِ وَبِنْتُهَا، وَالرَّبَائِبُ: جَمْعُ رَبِيبَةٍ، وَرَبِيبُ الرَّجُلِ وَلَدُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، سُمِّيَ رَبِيبًا لَهُ لِأَنَّهُ يَرُبُّهُ كَمَا يَرُبُّ وَلَدَهُ أَيْ يَسُوسُهُ، فَهُوَ مَعْنَى مَرْبُوبٍ، وَالْقَاعِدَةُ أَنْ يُقَالَ فِي مُؤَنَّثِهِ رَبِيبٌ كَمُذَكَّرِهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ رَبِيبَةٌ لِأَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا. وَالْجَمَاهِيرُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وَصْفٌ لِبَيَانِ الشَّأْنِ الْغَالِبِ فِي الرَّبِيبَةِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا (وَالْحِجْرُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الْحِضْنُ، وَهُوَ مَكَانٌ مَا يَحْجُرُهُ وَيَحُوطُهُ الْإِنْسَانُ أَمَامَ صَدْرِهِ بَيْنَ عَضُدَيْهِ وَسَاعِدَيْهِ) كَمَا قَالَ: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [١٧: ٣١] لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْتُلُونَهُمْ إِلَّا مِنْ خَشْيَةِ الْفَقْرِ، أَوْ مِنَ الْفَقْرِ وَذَلِكَ لَيْسَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ، فَلَوْ قَتَلُوهُمْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَانَ مُحَرَّمًا أَيْضًا. وَيُقَالُ: فَلَانٌ فِي حَجْرِ فُلَانٍ أَيْ فِي كَنَفِهِ وَرِعَايَتِهِ، قَالُوا وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ جَعْلِ الرَّبِيبَةِ فِي الْحِجْرِ حَقِيقَةً أَوْ تَجَوُّزًا، كَأَنْ تَكُونَ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنْ زَوْجِ أُمِّهَا يَخْلُو بِهَا، وَيُسَافِرُ مَعَهَا، وَيُعَامِلُهَا بِكُلِّ مَا يُعَامِلُ بِهِ بِنْتَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِإِشْعَارِ الرَّجُلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُوَضِّحُ لَهُ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ، وَيُقَرِّرُهَا
فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ كَوْنُ بِنْتِ زَوْجَتِهِ فِي مَكَانِ بِنْتِهِ ; لِأَنَّ زَوْجَتَهُ كَنَفْسِهِ فَفَرْعُهَا كَفَرْعِهِ، فَهُوَ وَصْفٌ يُحَرِّكُ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ فِي الرَّجُلِ، وَهُوَ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِهِ يَحْنُو عَلَيْهَا حُنُوَّهُ عَلَى بِنْتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.
وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَيْدٌ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْنَةُ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: " كَانَ عِنْدِي امْرَأَةٌ فَتُوُفِّيَتْ وَقَدْ وَلَدَتْ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهَا " (أَيْ حَزِنْتُ) فَلَقِيَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: تُوُفِّيَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَ: لَهَا بِنْتٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَهِيَ بِالطَّائِفِ، قَالَ: كَانَتْ فِي حِجْرِكَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: انْكِحْهَا. قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؟ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِكَ إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِكَ " وَيُرْوَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّتِي لَا تَكُونُ فِي حِجْرِهِ لَا تَكُونُ رَبِيبَةً لَهُ فِي الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَرُبُّهَا وَلَا يَسُوسُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يَجِدُ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا، أَوْ لَا تَجْتَمِعُ مَعَهَا عَاطِفَةُ الشَّهْوَةِ، فَالِاحْتِيَاطُ عِنْدِي أَلَّا يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَخْلُوَ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَجِدْ لَهَا فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةَ الْأُبُوَّةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
391
عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَةَ تَحْرُمُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِ الزَّوْجِ ; لِأَنَّهُ تَفْرِيعٌ لِبَيَانِ مَفْهُومِ مَا قُيِّدَ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَلَوْ كَانَ الْكَوْنُ فِي الْحُجُورِ قَيْدًا أَيْضًا لَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، أَوْ لَمْ تَكُنْ رَبَائِبُكُمْ فِي حُجُورِكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ. وَالْجُنَاحُ فَسَّرُوهُ بِالْإِثْمِ، وَعِنْدِي أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالتَّضْيِيقِ، وَالْأَذَى أَحْكَمُ، وَأَوْلَى، قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: " وَالْجُنَاحُ مَا تَحْمِلُ مِنَ الْهَمِّ، وَالْأَذَى، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
وَلَاقَيْتُ مِنْ جُمْلٍ وَأَسْبَابِ حُبِّهَا جُنَاحَ الَّذِي لَاقَيْتُ مِنْ تِرْبِهَا قَبْلُ
وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ وَلَا تَضْيِيقَ " اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَقَدَ نِكَاحَهُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا.
وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا
لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ نَظَرَ إِلَى مَا هُنَالِكَ مِنْهَا بِشَهْوَةٍ، بَلْ قَالُوا أَيْضًا: إِذَا لَمَسَ يَدَ أُمِّ امْرَأَتِهِ فِي حَالِ الشَّهْوَةِ، وَلَوْ خَطَأً فَإِنَّ امْرَأَتَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَأَلْحَقُوا ذَلِكَ بِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْقِيَاسِ وَتَوَسَّعُوا فِي ذَلِكَ تَوَسُّعًا ضَيَّقُوا فِيهِ تَضْيِيقًا! وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ كَالنَّسَبِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَبِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُنَافِي ذَلِكَ فَاللَّوَاتِي يُزْنَى بِهِنَّ، أَوْ يُلْمَسْنَ، أَوْ يُقَبَّلْنَ، أَوْ يُنْظَرُ لَهُنَّ بِشَهْوَةٍ لَا يَصِرْنَ مِنْ نِسَاءِ الزُّنَاةِ، أَوِ الْمُتَمَتِّعِينَ مِنْهُنَّ بِمَا دُونَ الزِّنَا، فَعِبَارَةُ الْقُرْآنِ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِنَصِّهَا، وَلَا فَحْوَاهَا، وَحِكْمَةُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَعِلَّتُهَا لَا تَظْهَرُ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ هُوَ مِمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَحْيَانًا، وَمَا كَانَ الشَّارِعُ لِيَسْكُتَ عَنْهُ فَلَا يَنْزِلَ بِهِ قُرْآنٌ، وَلَا تَمْضِيَ بِهِ سُنَّةٌ، وَلَا يَصِحَّ فِيهِ خَبَرٌ، وَلَا أَثَرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَانُوا قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَ الزِّنَا فِيهَا فَاشِيًّا بَيْنَهُمْ، فَلَوْ فَهِمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْرَكًا فِي الشَّرْعِ، أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهِ عِلَلُهُ، وَحِكَمُهُ لَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مَا يُفْتُونَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ - سُبْحَانَهُ -: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ الْحَلَائِلُ: جَمْعُ حَلِيلَةٍ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: حَلِيلٌ، وَاللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُلُولِ ; فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ يَحِلَّانِ مَعًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَفِرَاشٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: مِنَ الْحِلِّ بِالْكَسْرِ، أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَلَالٌ لِلْآخَرِ، وَقِيلَ: مِنْ حَلِّ الْإِزَارِ (بِفَتْحِ الْحَاءِ)، وَيَدْخُلُ فِي الْحَلَائِلِ الْإِمَاءُ اللَّوَاتِي يُسْتَمْتَعُ بِهِنَّ، وَاللَّفْظُ يَصْدُقُ عَلَيْهِنَّ بِكُلِّ مَعْنًى قِيلَ فِي اشْتِقَاقِهِ. وَيَدْخُلُ فِي الْأَبْنَاءِ أَبْنَاءُ الصُّلْبِ مُبَاشَرَةً، وَبِوَاسِطَةٍ كَابْنِ الِابْنِ، وَابْنِ الْبِنْتِ، فَحَلَائِلُهُمَا تَحْرُمُ عَلَى الْجَدِّ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الِابْنُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ لَا بِالذَّاتِ، وَلَا بِالْوَاسِطَةِ فَهُوَ يَخْرُجُ بِهَذَا الْقَيْدِ بِحَسَبِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ، وَبِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ: وَلَكِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ - إِلَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلٍ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ ابْنَ الرَّضَاعِ تَحْرُمُ حَلِيلَتُهُ إِمَّا لِدُخُولِهِ فِي الْأَبْنَاءِ هُنَا، وَجَعَلَ الْقَيْدَ لِإِخْرَاجِ الدَّعِيِّ الَّذِي يُتَبَنَّى، وَإِمَّا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْآخَرُونَ بِأَنَّ حُرْمَةَ امْرَأَةِ الِابْنِ
392
لَا تَحْرُمُ بِالنَّسَبِ، وَإِنَّمَا تَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ، فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، وَبِأَنَّ الدَّعِيَّ لَيْسَ ابْنًا فَيَحْتَاجُ إِلَى إِخْرَاجِهِ لَا حَقِيقَةً كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ، وَلَا شَرْعًا، وَلَا عُرْفًا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا أَنْزَلَ:
وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [٣٣: ٤] بَطَلَ هَذَا الْعُرْفُ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَقْرِيرِ حُجَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَصُّهُ:
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَدِلَّتِنَا، وَعُمْدَتُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّ تَحْرِيمَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَالْأَبْنَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالصِّهْرِ لَا بِالنَّسَبِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَصَرَ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ عَلَى نَظِيرِهِ مِنَ النَّسَبِ لَا عَلَى شَقِيقِهِ وَهُوَ الصِّهْرُ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. (قَالُوا) : وَالتَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ فَرْعٌ عَلَى تَحْرِيمِ النَّسَبِ لَا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، فَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ أَصْلٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَاللهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَنُصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ أَلْبَتَّةَ بِنَصٍّ، وَلَا إِيمَاءٍ، وَلَا إِشَارَةٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يَحْرُمَ بِهِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَفِي ذَلِكَ إِرْشَادٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ بِالصِّهْرِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ لَقَالَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ. (قَالُوا) : وَأَيْضًا فَالرَّضَاعُ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ، وَلِهَذَا أَخَذَ مِنْهُ بَعْضَ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ، وَالْمَحْرَمِيَّةُ فَقَطْ دُونَ التَّوَارُثِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَسَائِرِ أَحْكَامِ النَّسَبِ، فَهُوَ نَسَبٌ ضَعِيفٌ، فَأَخَذَ بِحَسَبِ ضَعْفِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ النِّسَبِ، وَلَمْ يَقْوَ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ النِّسَبِ، وَهِيَ أَلْصَقُ بِهِ مِنَ الْمُصَاهَرَةِ مَعَ قُصُورِهِ عَنْ أَحْكَامِ مُشْبِهِهِ وَشَقِيقِهِ، وَأَمَّا الْمُصَاهَرَةُ، وَالرَّضَاعُ فَإِنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شُبْهَةَ نَسَبٍ، وَلَا بَعْضِيَّةَ، وَلَا اتِّصَالَ. (قَالُوا) : وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الصِّهْرِيَّةِ ثَابِتًا لَبَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا يُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ، فَمِنَ اللهِ الْبَيَانُ وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، وَالِانْقِيَادُ، فَهَذَا مُنْتَهَى النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ ظَفِرَ فِيهَا بِحُجَّةٍ فَلْيُرْشِدْ إِلَيْهَا، وَلِيَدُلَّ عَلَيْهَا ; فَإِنَّا لَهَا مُنْقَادُونَ، وَبِهَا مُعْتَصِمُونَ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ " انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَبَارَكَ اسْمُهُ مَا يَحْرُمُ بِالْأَسْبَابِ الثَّابِتَةِ، وَقَدَّمَ الْأَقْوَى فِي عِلَّتِهِ، وَحِكْمَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَحْرُمُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ إِذَا زَالَ يَزُولُ التَّحْرِيمُ فَقَالَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَيْ وَحَرُمَ عَلَيْكُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْوَلَدُ سَوَاءٌ كَانَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ. هَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَعُلَمَاءُ التَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمُ الْخِلَافُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَعَ إِطْلَاقِ إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ
قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ سَائِرَ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَامٌّ فِي النِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ، فَلَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَاءِ
393
هَذَا وَحْدَهُ مِنْهَا. وَأَنَّ إِطْلَاقَ إِبَاحَةِ مَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ إِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِسَبَبِ الْحِلِّ دُونَ شُرُوطِهِ الَّتِي تُعْلَمُ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى، فَمَنْ مَلَكَ إِحْدَى مَحَارِمِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، وَلَوْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي اسْتِمْتَاعِ الْمِلْكِ لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ، وَبِنْتِهَا فِي ذَلِكَ، وَمَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ؟ وَالْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالنِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ، كَأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِإِحْدَاهُمَا، وَمُتَزَوِّجًا الْأُخْرَى، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهِمَا مَعًا.
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّمَ إِحْدَاهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، كَأَنْ يُعْتِقَ الْمَمْلُوكَةَ، أَوْ يَهَبَهَا، وَيُسَلِّمَهَا لِلْمَوْهُوبَةِ لَهُ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأُخْتَانِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَقَدْ فَهِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالضَّابِطُ فِي هَذَا أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ لَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَحَرُمَ عَلَيْهِ بِهَا نِكَاحُ الْأُخْرَى: وَهُوَ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْعِلَّةُ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْحِكْمَةُ.
ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أَيْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا ذَكَرَ لَكِنْ مَا سَلَفَ لَكُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَا تُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقِيلَ: إِلَّا مَا سَلَفَ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ. وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْكُمْ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَنْتُمُ الْتَزَمْتُمُ الْعَمَلَ بِشَرِيعَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَمِنْ مَغْفِرَتِهِ أَنْ يَمْحُوَ مِنْ نُفُوسِكُمْ أَثَرَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي تُنَافِي سَلَامَةَ الْفِطْرَةِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِكُمْ أَنْ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لَكُمْ، وَتَوْثِيقُ رَوَابِطِ الْقَرَابَةِ، وَالصِّهْرِ، وَالرَّضَاعِ بَيْنَكُمْ لِتَتَرَاحَمُوا، وَتَتَعَاطَفُوا، وَتَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى فَتَنَالُوا تَمَامَ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
394

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيَانُ بَقِيَّةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَحَلِّ مَا عَدَاهُ، وَحُكْمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَمَا فَصَلْنَاهُمَا عَمَّا قَبْلَهُمَا إِلَّا لِأَنَّ مَنْ قَسَّمُوا الْقُرْآنَ إِلَى ثَلَاثِينَ جُزْءًا جَعَلُوهُمَا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْخَامِسِ، وَقَدْ رَاعَوْا فِي هَذَا التَّقْسِيمِ مِنَ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَكَانَ الْمُنَاسِبَ لِلْمَعْنَى
أَنْ يَجْعَلُوا أَوَّلَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (٤: ٢٩)، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَالْمُحْصَنَاتُ: جَمْعُ مُحْصَنَةٍ بِفَتْحِ الصَّادِ، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْصَنَ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ كَسْرُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْفَتْحُ عَنْهُ، وَالْإِحْصَانُ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَنِيعُ الْمَحْمِيُّ، فَفِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ الشَّدِيدِ، وَيُقَالُ: حَصُنَتِ الْمَرْأَةُ ـ بِضَمِّ الصَّادِ ـ حِصْنًا وَحَصَانَةً، أَيْ: عَفَّتْ فَهِيَ حَاصِنٌ وَحَاصِنَةٌ وَحَصَانٌ وَحَصْنَاءُ ـ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا ـ قَالَ الشَّاعِرُ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
وَيُقَالُ: أُحْصِنَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي حِصْنِ الرَّجُلِ وَحِمَايَتِهِ، وَيُقَالُ: أَحْصَنَهَا أَهْلُهَا إِذَا زَوَّجُوهَا، وَمِنْ شَأْنِ الْمُتَزَوِّجَةِ أَنْ تُحَصِّنَ نَفْسَهَا فَتَكْتَفِيَ بِزَوْجِهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى الرِّجَالِ لِأَجْلِ حَاجَةِ الطَّبِيعَةِ، وَتُحَصِّنَ زَوْجَهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ الْمُعَوَّلُ فِي الْإِحْصَانِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ ـ بِفَتْحِ الصَّادِ ـ اسْمُ فَاعِلٍ نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَلُّ أَفْعَلَ اسْمُ فَاعِلِهِ بِالْكَسْرِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ: أَحْصَنَ، أَلْفَجَ إِذَا ذَهَبَ مَالُهُ، وَأَسْهَبَ إِذَا كَثُرَ كَلَامُهُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْعَفِيفَةَ يُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ - بِفَتْحِ الصَّادِ - وَمُحْصِنَةٌ - بِكَسْرِهَا - وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ فَيُقَالُ لَهَا: مُحْصَنَةٌ - بِالْفَتْحِ - لَا غَيْرَ، وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - وَمِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ الْمَشْهُورُونَ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَقِيلَ: هُنَّ الْحَرَائِرُ، وَقِيلَ: عَامٌّ فِي الْحَرَائِرِ وَالْعَفَائِفِ وَالْمُتَزَوِّجَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ: هُنَّ الْحَرَائِرُ الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَسَيَأْتِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَا يُرَجِّحُهُ، وَلِمَاذَا قَالَ: مِنَ النِّسَاءِ وَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُغْنِيَةٌ عَنْ هَذَا الْقَيْدِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: النُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ: تَأْكِيدُ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَرَ قَوْلَهُ كَافِيًا وَافِيًا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِغُمُوضِ
النُّكْتَةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَنْ يُفَسِّرُهَا لِي لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، أَيْ: لَسَافَرَ إِلَيْهِ وَإِنْ بَعُدَ مَكَانُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ يَكَادُ يَكُونُ بَدِيهِيًّا ; فَإِنَّ لَفْظَ الْمُحْصَنَاتِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَفِيفَاتُ، أَوِ الْمُسْلِمَاتُ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْ هُنَا: مِنَ النِّسَاءِ، لَتَوَهَّمَ أَنَّ (الْمُحْصَنَاتِ) إِنَّمَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُنَّ إِذَا كُنَّ مُسْلِمَاتٍ، فَأَفَادَ هَذَا الْقَيْدُ الْعُمُومَ وَالْإِطْلَاقَ، أَيْ أَنَّ عَقْدَ الزَّوْجِيَّةِ مُحْتَرَمٌ مُطْلَقًا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكَافِرَاتِ وَالْحَرَائِرِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، فَيَحْرُمُ تَزَوُّجُ أَيَّةِ امْرَأَةٍ فِي عِصْمَةِ رَجُلٍ وَحِصْنِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ
4
أَيْ: إِلَّا مَا سَبَيْتُمْ مِنْهُنَّ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ تُدَافِعُونَ فِيهَا عَنْ حَقِيقَتِكُمْ، أَوْ تُؤَمِّنُونَ بِهَا دَعْوَةَ دِينِكُمْ، وَرَأَيْتُمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَلَّا تُعَادَ السَّبَايَا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْحَلُّ عَقْدُ زَوْجِيَّتِهِنَّ وَيَكُنَّ حَلَالًا لَكُمْ بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تَحَرُّجُ الصَّحَابَةِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِسَبَايَا (أَوْطَاسٍ) وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ التَّصْرِيحُ بِاشْتِرَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ بِوَضْعِ الْحَامِلِ لِحَمْلِهَا وَحَيْضِ غَيْرِهَا، ثُمَّ طُهْرِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ مَنْ سُبِيَ مَعَهَا زَوْجُهَا لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ، فَاعْتَبَرُوا فِي الْحِلِّ اخْتِلَافَ الدَّارِ: دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ لَا دَخْلَ فِي حِلِّ السَّبَايَا، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ أَنَّ مَنْ سُبِيَتْ دُونَ زَوْجِهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَحِلُّ لِلسَّابِي بَعْدَ اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا لِلشَّكِّ فِي حَيَاةِ زَوْجِهَا، أَيْ: وَعَدَمُ الطَّمَعِ فِي لُحُوقِهِ بِهَا إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ بَقِيَ حَيًّا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ، وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ فِي حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَمْلُوكَاتِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الشَّأْنُ الْغَالِبُ أَنْ يُقْتَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِنَّ وَيَفِرَّ بَعْضُهُمُ الْآخَرُ حَتَّى لَا يَعُودَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَفَالَةُ هَؤُلَاءِ السَّبَايَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ الْفِسْقِ، كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَهُنَّ وَلِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ـ أَوْ أَكْثَرَـ كَافِلٌ يَكْفِيهَا هَمَّ الرِّزْقِ وَبَذْلَ الْعِرْضِ لِكُلِّ طَالِبٍ، وَلَا يَخْفَى
مَا فِي هَذَا الْأَخِيرِ مِنَ الشَّقَاءِ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى بِلَادِهِنَّ فَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا حَيًّا عَادَتْ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ زَوْجُهَا مَفْقُودًا تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ أَوْ كَانَ شَرُّ فِسْقِهَا عَلَى قَوْمِهَا؟ نَقُولُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ مَا فَرَضَ السَّبْيَ وَلَا أَوْجَبَهُ وَلَا حَرَّمَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ حَتَّى لِلسَّبَايَا أَنْفُسِهِنَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمِنْهَا أَنْ تَسْتَأْصِلَ الْحَرْبُ جَمِيعَ الرِّجَالِ مِنْ قَبِيلَةٍ مَحْدُودَةِ الْعَدَدِ مَثَلًا، فَإِنْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ تُرَدَّ السَّبَايَا إِلَى قَوْمِهِنَّ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ، أَوْ وَجَبَ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَكُلُّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ دِينِيَّةً - كَمَا قَيَّدْنَا - فَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ لِمَطَامِعِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِ الْمُلُوكِ فَلَا يُبَاحُ فِيهَا السَّبْيُ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
الْمُحْصَنَاتُ: الْمُتَزَوِّجَاتُ، وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ بِالسَّبْيِ فِي حَرْبٍ دِينِيَّةٍ وَأَزْوَاجُهُنَّ كُفَّارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُنَّ، وَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ يَشْمَلُ الْمَمْلُوكَةَ الْمُتَزَوِّجَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يَفْتَرِشَهَا بِالْإِجْمَاعِ! فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُمُومَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْبِبَّاتِ، وَسَكَتَ عَنِ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُتَزَوِّجَاتِ ; لِأَنَّ التَّزَوُّجَ بِالْمَمْلُوكَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ، وَالذَّوْقِ وَالْعَقْلِ، فَهُوَ كَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ; وَلِذَلِكَ شَدَّدَ فِيهِ - كَمَا يَأْتِي - وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ التَّنْزِيلِ اهـ.
5
أَقُولُ: وَالَّذِي تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي أَنَّ الْمُرَادَ بِـ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ هُنَا نُشُوءُ الْمِلْكِ وَحُدُوثُهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ لَا يُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ، فَالْمَعْنَى: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ أَيِ الْمُتَزَوِّجَاتُ إِلَّا مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْمِلْكُ، وَإِنَّمَا يَطْرَأُ الْمِلْكُ عَلَى الْمُتَزَوِّجَةِ بِالسَّبْيِ بِشَرْطِهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ الَّتِي زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا فَالزَّوَاجُ فِيهَا هُوَ الَّذِي طَرَأَ عَلَى الْمِلْكِ بِجَعْلِ الْمِلْكِ مَا لَهُ مِنْ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا الْمَالِكُ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِنَحْوِ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ كَانَ بَائِعًا أَوْ وَاهِبًا مَا يَمْلِكُهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الِاسْتِمْتَاعَ الَّذِي صَارَ حَقَّ الزَّوْجِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمِلْكَ الْجَدِيدَ يُبْطِلُ نِكَاحَهَا فَتُطَلَّقُ عَلَى زَوْجِهَا وَتَحِلُّ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ عَمَلًا بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورَ الْإِمَامِيَّةِ، وَلَوْلَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ
بِزَوَاجِ الْأَمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَوْنِ الْبَائِعِ أَوِ الْوَاهِبِ إِنَّمَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ مَا يَمْلِكُ، لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحَ مِنْ مَذْهَبِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا يَعُمُّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالْعَفِيفَاتِ وَالْحَرَائِرَ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَعُمُّ مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالتَّسَرِّي، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ كُلُّ أَجْنَبِيَّةٍ إِلَّا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ بِمِلْكِ الْعَيْنِ الَّذِي يَتْبَعُهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَالسُّدِّيِّ مِنْ مُفَسِّرِي التَّابِعِينَ، وَفُقَهَائِهِمْ وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا تَرَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ كَافِرَةً وَسَبَاهَا الْمُسْلِمُونَ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا بِالسَّبْيِ أَوْلَى مِنْ بُطْلَانِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ أَيْ: كَتَبَ اللهُ عَلَيْكُمْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ النِّسَاءِ كِتَابًا مُؤَكَّدًا ; أَيْ: فَرَضَهُ فَرْضًا ثَابِتًا مُحْكَمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَكُمْ فِيهِ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ (٤: ٢٦).
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (وَأُحِلَّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، [٤: ٢٣) (فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، فَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْطُوفًا عَلَى " كَتَبَ " الْمُقَدَّرَةِ النَّاصِبَةِ لِقَوْلِهِ: كِتَابَ اللهِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ اللَّفْظِ وَلَا مَانِعَ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى حُرِّمَتْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُحَرِّمَ هُنَاكَ هُوَ الْمُحَلِّلُ هُنَا وَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالْمُرَادُ بِـ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ الْمُبِينُ تَحْرِيمُهُ هُوَ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا فَحْوَاهُ فَهُوَ لِكَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ بِنَصٍّ ظَاهِرٍ، وَلَا قِيَاسٍ وَاضِحٍ، جَعَلَ وَرَاءَهُ خَارِجًا عَنْ مُحِيطِ مَدْلُولِهِ وَإِفَادَتِهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا لَيْسَ وَرَاءَهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (٤: ٢٣)، وَكَذَلِكَ كَوْنُ مُحَرَّمَاتِ الرَّضَاعِ سَبْعًا كَمُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ.
6
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ مِنْ أَكْثَرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَبَقِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ غَيْرُ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ، وَمِثْلُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، وَقَدْ
قَالَ: إِنَّهُ أُحِلَّ لَنَا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَرُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ آنِفًا وَنَحْوُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِجْمَاعًا أَوْ بِنُصُوصٍ أُخْرَى كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَالْمُشْرِكَةِ، وَالْمُرْتَدَّةِ! وَالْجَوَابُ: أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ يُؤْخَذُ مِمَّا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْضَهُ، فَدَخَلَ فِي الْأُمَّهَاتِ الْجَدَّاتُ، وَفِي الْبَنَاتِ بَنَاتُ الْأَوْلَادِ إِلَخْ، وَبَعْضُهَا يُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَلَى مُطَلِّقِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَالسِّرُّ فِي النَّصِّ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ يُعْلِمُنَا بِالنَّصِّ عَلَى الْوَاقِعِ أَلَّا نَتَعَرَّضَ إِلَّا لِلْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ الْمَفْرُوضَةَ وَالْمُتَخَيَّلَةَ لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ لَهَا وَلَا الِاشْتِغَالُ بِهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ (٤: ٢٢)، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيَانًا لَهَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا حُرِّمَ لِسَبَبٍ آخَرَ كَتَحْرِيمِ الْمُشْرِكَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا ذُكِرَ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمْ لَا، فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا هَاهُنَا جَمِيعَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعَةِ وَالصِّهْرِ، وَهُوَ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلُّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمُحَرَّمَاتِ بِنَصٍّ أَوْ دَلَالَةٍ كَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ، وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ إِلَخْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ حِلُّ مَا حُرِّمَ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى لِسَبَبٍ عَارِضٍ يَزُولُ بِزَوَالِهِ كَنِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالْمُرْتَدَّةِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ لِلْمُتَعَلِّمِ عِنْدَمَا تَقْرَأُ لَهُ كِتَابَ الطَّهَارَةِ: لَا تَلْبَسْ ثَوْبًا مُتَنَجِّسًا، ثُمَّ تَقُولَ لَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ كِتَابِ اللِّبَاسِ: لَا تَلْبَسِ الْحَرِيرَ وَلَا الْمَنْسُوجَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَالْبَسْ كُلَّ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّيَابِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيهَا، فَهَلْ تُدْخِلُ فِي عُمُومِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّوْبَ الْمُنَجَّسَ؟ لَا. لَا، إِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَسْمَحُ لَهُ السِّيَاقُ، وَالْمَقَامُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، فَإِذَا كَانَ السِّيَاقُ فِي نَوْعٍ لَهُ جِنْسٌ أَوْ أَجْنَاسٌ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ خُرُوجَ الْعَامِّ عَنْ سِيَاقِ النَّوْعِ وَتَنَاوُلَهُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ السَّافِلِ أَوِ الْعَالِي لِذَلِكَ النَّوْعِ، فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْبُسْتَانِ لِلْفَعَلَةِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الْأَشْجَارَ غَيْرَ الْمُثْمِرَةِ لِتَكُونَ خَشَبًا: لَا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ الصَّغِيرَ وَاقْطَعُوا كُلَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الْكُلِّيَّةِ أَفْرَادُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ
لَا جِنْسَ الشَّجَرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَعُمُّ الْمُثْمِرَ، وَمِثَلُ الثِّيَابِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَشْبَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مَعْنَاهُ: أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَبْتَغُوهُ
7
أَوْ إِرَادَةَ أَنْ تَبْتَغُوهُ، أَيْ تَطْلُبُوهُ بِأَمْوَالِكُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: أَحَلَّهُ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوهُ، أَيْ أَحَلَّ لَكُمْ طَلَبَهُ بِأَمْوَالِكُمْ تَدْفَعُونَهَا مَهْرًا لِلزَّوْجَةِ، أَوْ ثَمَنًا لِلْأَمَةِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ قَصْدُ إِحْصَانِ الْأَمَةِ كَمَا يَجِبُ قَصْدُ إِحْصَانِ الزَّوْجَةِ لِقَوْلِهِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَإِنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِلْعَامِلِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ مُحْصِنِينَ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ، أَيْ مُحْصِنِينَ أَنْفُسَكُمْ وَمَنْ تَطْلُبُونَهَا بِمَا لَكُمْ بِاسْتِغْنَاءِ كُلٍّ مِنْكُمَا بِالْآخَرِ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُحَرَّمِ ; فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تَسُوقُ كُلَّ ذَكَرٍ بِدَاعِيَةِ النَّسْلِ إِلَى الِاتِّصَالِ بِأُنْثَى، وَكُلَّ أُنْثَى إِلَى الِاتِّصَالِ بِذَكَرٍ لِيَزْدَوِجَا وَيُنْتِجَا، وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي يَمْنَعُ هَذِهِ الدَّاعِيَةَ الْفِطْرِيَّةَ أَنْ تَذْهَبَ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَيَتَّصِلَ كُلُّ ذَكَرٍ بِأَيَّةِ امْرَأَةٍ وَاتَتْهُ وَكُلُّ امْرَأَةٍ بِأَيِّ رَجُلٍ وَاتَاهَا، بِأَنْ يَكُونَ غَرَضُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْمُشَارَكَةَ فِي سَفْحِ الْمَاءِ الَّذِي تُفْرِزُهُ الْفِطْرَةُ لِإِيثَارِ اللَّذَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْبَشَرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّاعِيَةُ الْفِطْرِيَّةُ سَائِقَةً لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسَيْنِ؛ لِأَنْ يَعِيشَ مَعَ فَرْدٍ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ عِيشَةَ الِاخْتِصَاصِ لِتَتَكَوَّنَ بِذَلِكَ الْبُيُوتُ وَيَتَعَاوَنَ الزَّوْجَانِ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمَا، فَإِذَا انْتَفَى قَصْدُ هَذَا الْإِحْصَانِ انْحَصَرَتْ طَاعَةُ الدَّاعِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ فِي قَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَسَادُ الْعَامُّ الَّذِي لَا تَنْحَصِرُ مَصَائِبُهُ فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ أُمَّةُ فَرَنْسَا قَدْ قَلَّ فِيهَا النِّكَاحُ وَكَثُرَ السِّفَاحُ بِضَعْفِ الدِّينِ فِي عَاصِمَتِهَا (بَارِيسَ) وَأُمَّهَاتِ مُدُنِهَا، فَقَلَّ نَسْلُهَا، وَوَقَفَ نَمَاؤُهَا، وَفَتَكَ النِّسَاءُ، وَمَسَنَ الرِّجَالُ، وَضَعُفَتِ الدَّوْلَةُ فَصَارَتْ دُونَ خَصْمِهَا حَتَّى اضْطُرَّتْ إِلَى الِاعْتِزَازِ بِمُحَالَفَةِ دَوْلَةٍ مُضَادَّةٍ لَهَا فِي شَكْلِ حُكُومَتِهَا وَمَدَنِيَّتِهَا وَهِيَ الدَّوْلَةُ الرُّوسِيَّةُ، وَلَوْلَا الثَّرْوَةُ الْوَاسِعَةُ وَالْعُلُومُ الزَّاخِرَةُ وَالسِّيَاسَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى أُصُولِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ لَأَسْرَعَ إِلَيْهَا الْهَلَاكُ كَمَا أَسْرَعَ إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي كَثُرَ مُتْرَفُوهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الثَّابِتُ فِي سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ فَدَمَّرَهَا اللهُ تَدْمِيرًا، وَمَا أُرَاهَا إِلَّا أَوَّلَ دَوْلَةٍ تَسْقُطُ فِي أُورُوبَّا إِذَا ظَلَّ هَذَا الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ عَلَى هَذَا النَّمَاءِ فِيهَا.
وَقَدْ خَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَصْدَ الْإِحْصَانِ بِالرِّجَالِ، وَخَصَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِالنِّسَاءِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ إِحْصَانَ الْمَرْأَةِ وَحِفْظَهَا أَنْ يَنَالَهَا أَحَدٌ سِوَاهُ؛ لِيَكُنَّ عَفِيفَاتٍ طَاهِرَاتٍ، وَلَا يَكُونُ التَّزَوُّجُ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ وَسَفْحِ الْمَاءِ وَإِرَاقَتِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَجَلُ اهـ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَتَتِمُّ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ مَا قَصَّرَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِحْصَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِعْطَاءِ الْمَرْأَةِ حَقَّهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَعَمُّدُ التَّقْصِيرِ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ الْفِسْقُ ; فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِفْسَادَ الْبُيُوتِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْسَادُ الْأُمَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِمَمْلُوكَتِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِزَوْجَتِهِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُهَا مِنَ الزِّنَا، فَهَلْ يَكْفِي هَذَا الْمَنْعُ فِي إِحْصَانِ الْأَمَةِ دُونَ إِحْصَانِ الزَّوْجَةِ، أَمْ يَقُولُونَ: إِنَّ شِرَاءَ الْإِمَاءِ لِأَجْلِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
8
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُمْ وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ وَمُنْطَبِقًا عَلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ؟
الْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ فِيهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحِكَمِهِ الْعَالِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى بَيْنَ الْأُمَمِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مَنْعًا باتًّا وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ مَصَائِبَهُ وَمَهَّدَ السُّبُلَ لِمَنْعِهِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتٌ تَقْتَضِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ مَنْعَهُ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ تُعَارِضُ الْمَنْعَ وَتُرَجِّحُ عَلَيْهِ، كَانَ لِأُولِي الْأَمْرِ مَنْعُهُ ; فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ تَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ إِبْطَالِ الْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحَلَّ إِبَاحَةِ الِاسْتِرْقَاقِ الْحَرْبُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي يُحَارِبُنَا فِيهَا الْكُفَّارُ، وَنُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِنَا كَمَنْعِنَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَدْ خَيَّرَ اللهُ تَعَالَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا فِي أَسْرَى هَذِهِ الْحَرْبِ لِقَوْلِهِ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً (٤٧: ٤)، أَيْ: فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ وَتُطْلِقُوهُمْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمْ فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، (٤٧: ٤)، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: آلَاتَهَا وَأَثْقَالَهَا الَّتِي لَا تَقُومُ إِلَّا بِهَا كَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَيْ: حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ اهـ، وَالْمُسَالِمُ مَنْ لَا يُحَارِبُ
الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، فَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى مِنَ الرِّجَالِ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يُخْشَى أَنْ يَعُودُوا إِلَى حَرْبِنَا، أَفَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا ضَرَرَ مِنْ إِطْلَاقِهِنَّ وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي اسْتِرْقَاقِهِنَّ؟ وَنَاهِيكَ بِالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَأْرِيثِ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَسَائِرِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَوْقَ كُلِّ ضَرَرٍ، وَمَفْسَدَتَهُ شَرٌّ مِنْ كُلِّ مَفْسَدَةٍ.
هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ هُنَا إِلَى مَسْأَلَةٍ يَجْهَلُهَا الْعَوَامُّ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْقُرُونُ لَا الْأَعْوَامُ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ الشَّائِعَ الْمَعْرُوفَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَوِ الْعُصُورِ غَيْرُ شَرْعِيٍّ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي بِلَادِ السُّودَانِ، وَمَا كَانَ فِي بِلَادِ الْبِيضِ كَبَنَاتِ الشَّرَاكِسَةِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُبَعْنَ فِي الْآسِتَانَةِ جَهْرًا قَبْلَ الدُّسْتُورِ وَكُلُّهُنَّ حَرَائِرُ مِنْ بَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ، وَمَعَ هَذَا كُنْتَ تَرَى الْعُلَمَاءَ سَاكِتِينَ عَنْ بَيْعِهِنَّ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ بِغَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحَتَّى لَوْ سَأَلْتَ الْفَقِيهَ عَنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ شَرْحِهَا لَهُ لَأَفْتَاكَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِرْقَاقَ مُحَرَّمٌ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا قَالَ لَكَ: وَإِنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ مِثْلَهُ وَهُوَ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِأَحَدِ أَهْلِ الْآسِتَانَةِ وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا وَسَأَلْتُهُ: هَلْ بَقِيَ لِهَذَا الرَّقِيقِ الْبَاطِلِ أَثَرٌ هُنَا بَعْدَ الدُّسْتُورِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ وَغَيْرُ رَسْمِيٍّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحِجَازِ أَيْضًا، وَمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْمَلَ وَرَاءَ بَيَانِ حُرْمَةِ هَذَا الْعَمَلِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ!
9
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، الِاسْتِمْتَاعُ بِالشَّيْءِ هُوَ التَّمَتُّعُ أَوْ طُولُ التَّمَتُّعِ بِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَتَاعِ، أَيِ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ (٩: ٦٩)، أَيْ نَصِيبِكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي اسْتَمْتَعْتُمْ لِلتَّأْكِيدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلطَّلَبِ الَّذِي هُوَ الْغَالِبُ فِي مَعْنَاهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الصِّيغَةِ لِلطَّلَبِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَالْأُجُورُ: جَمْعُ أَجْرٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: الثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ الَّذِي يُعْطَى فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، ثُمَّ خُصَّ بَعْدَ زَمَنِ التَّنْزِيلِ
أَوْ غَلَبَ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْفَرِيضَةُ: الْحِصَّةُ الْمَفْرُوضَةُ أَيِ الْمُقَدَّرَةُ الْمُحَدَّدَةُ، مِنْ فَرْضِ الْخَشَبَةِ إِذَا حَزَّهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَدِّرُونَ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْمَقَايِيسِ وَالْأَعْدَادِ بِفَرْضِ الْخَشَبِ، وَأَقْرَبُ شَاهِدٍ عِنْدِي عَلَى هَذَا مَا يُفْرَضُ عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ اللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ، حَيْثُ أُقِيمُ الْآنَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَبَائِعُ اللَّبَنِ بُلْغَارِيٌّ وَأَصْحَابُ الْبَيْتِ الَّذِي أُقِيمُ فِيهِ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ لِي مِنْهُ، وَيَفْرِضُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَرْضًا فِي خَشَبَةٍ، وَفِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ يُحَاسِبُونَنِي وَيُحَاسِبُونَهُ بِهَذِهِ الْفُرُوضِ.
وَيُطْلَقُ الْفَرْضُ وَالْفَرِيضَةُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللهُ مِنَ التَّكَالِيفِ إِيجَابًا حَتْمًا ; لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْخَشَبِ يَكُونُ قَطْعِيًّا لَا مَحَلَّ لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى، فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ مِنْ أُولَئِكَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا تَزَوُّجَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمُ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، أَيْ: تَزَوَّجْتُمُوهَا فَأَعْطُوهَا الْأَجْرَ وَالْجَزَاءَ بَعْدَ أَنْ تَفْرِضُوهُ لَهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (٤: ٤)، أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاحِظَ فِي الْمَهْرِ غِنًى أَعْلَى مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ وَالْعِوَضِ؛ فَإِنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُلَاحَظَ فِيهِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَأَقُولُ: إِنَّ تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ هُنَا أَجْرًا، أَيْ ثَوَابًا وَجَزَاءً لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَعْنَى سُكُونِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَارْتِبَاطِهِ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الرُّومِ، كَمَا لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ حُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِالْمُسَاوَاةِ ص ٣٠٠ ج٢ [الْهَيْئَةُ الْعَامَّةُ لِلْكِتَابِ]، وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ دَرَجَةً هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ، وَرِيَاسَةِ الْمَنْزِلِ الَّذِي يُعَمِّرَانِهِ، وَالْعَشِيرَةِ الَّتِي يُكَوِّنَانِهَا بِالِاشْتِرَاكِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ هُوَ فَاعِلَ الِاسْتِمْتَاعِ، أَيِ الِانْتِفَاعِ، وَهِيَ الْقَابِلَةُ لَهُ وَالْمُوَاتِيَةُ فِيهِ، فَرَضَ لَهَا سُبْحَانَهُ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الِامْتِيَازِ الَّذِي جَعَلَهُ لِلرَّجُلِ جَزَاءً وَأَجْرًا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهَا، وَيَتِمُّ بِهِ الْعَدْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَالْمَهْرُ لَيْسَ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ، وَلَا جَزَاءً لِلزَّوْجِيَّةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا سِرُّهُ وَحِكْمَتُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهَا جَامِعٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ الْآنَ، وَلَمْ يَكُنْ خَطَرَ عَلَى بَالِي مِنْ قَبْلُ عَلَى وُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَهَلْ يُعْطَى هَذَا الْأَجْرُ الْمَفْرُوضُ وَالْمَهْرُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ أَوْ بَعْدَهُ؟
إِذَا قُلْنَا:
10
إِنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي: اسْتَمْتَعْتُمْ لِلطَّلَبِ يَكُونُ الْمَعْنَى: فَمَنْ طَلَبْتُمْ أَنْ تَتَمَتَّعُوا أَوْ تَنْتَفِعُوا بِتَزَوُّجِهَا فَأَعْطُوهَا الْمَهْرَ الَّذِي تَفْرِضُونَهُ لَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ عَطَاءَ فَرِيضَةٍ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ فَرِيضَةً تَفْرِضُونَهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِلطَّلَبِ، يَكُونُ الْمَعْنَى فَمَنْ تَمَتَّعْتُمْ بِتَزَوُّجِهَا مِنْهُنَّ بِأَنْ دَخَلْتُمْ بِهَا أَوْ صِرْتُمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الدُّخُولِ بِهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَعْطُوهَا مَهْرَهَا عَطَاءَ فَرِيضَةٍ، أَوِ افْرِضُوهُ لَهَا فَرِيضَةً، أَوْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَرِيضَةً لَا هَوَادَةَ فِيهَا، أَوْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَهْرِ فَرِيضَةً مِنْكُمْ أَوْ مِنْهُ تَعَالَى، فَالْمَهْرُ يُفْرَضُ وَيُعَيَّنُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِيتَاءً وَإِعْطَاءً حَتَّى قَبْلَ الْقَبْضِ، يَقُولُونَ حَتَّى الْآنَ: عَقَدَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةَ وَأَمْهَرَهَا بِأَلْفٍ أَوْ أَعْطَاهَا عَشَرَةَ آلَافٍ مَثَلًا، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَيْضًا: فَرَضَ لَهَا كَذَا فَرِيضَةً ; وَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنَّ الَّذِي فَرَضَ الْفَرِيضَةَ هُوَ الزَّوْجُ بِتَقْدِيمِهِ فِي التَّقْدِيرِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً (٢: ٢٣٦)، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ (٢: ٢٣٧)، فَالْمَهْرُ يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ بِفَرْضِهِ وَتَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ وَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُعْطَى، وَالْعَادَةُ أَنْ يُعْطَى كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يُجِبُ كُلُّهُ إِلَّا بِالدُّخُولِ ; لِأَنَّ مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ لَا كُلُّهُ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْطَاؤُهُ بَعْدَهُ، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْمَرْأَةِ بِمُعَجَّلِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهَا، أَوْ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالدُّخُولِ، بَلْ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ الْمَعْهُودِ فَيَغْلِبُ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً.
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ: لَا حَرَجَ وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ تَعَالَى إِذَا تَرَاضَيْتُمْ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهَا أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا أَوْ حَطِّهَا كُلِّهَا، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ تَكُونُوا فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَمَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ تَصْلُحُ بِهَا شُئُونُكُمْ، وَتَرْتَقِي بِهَا أُمَّتُكُمْ، وَالشَّرْعُ يَضَعُ لَكُمْ قَوَاعِدَ الْعَدْلِ، وَيَهْدِيكُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَيَضَعُ لِعِبَادِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ بِحِكْمَتِهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ صَلَاحَ حَالِهِمْ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَوْجَبَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَفْرِضَ لِمَنْ يُرِيدُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا أَجْرًا يُكَافِئُهَا بِهِ عَلَى قَبُولِ قِيَامِهِ وَرِيَاسَتِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَذِنَ
لَهُ وَلَهَا فِي التَّرَاضِي عَلَى مَا يَرَيَانِ الْخَيْرَ فِيهِ لَهُمَا وَالِائْتِلَافَ وَالْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمَا.
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ ; فَإِنَّهَا قَدْ بَيَّنَتْ مَا يَحِلُّ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَا حُرِّمَ فِيمَا قَبْلَهَا وَفِي صَدْرِهَا، وَبَيَّنَتْ كَيْفِيَّتَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَالٍ يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ وَبِأَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِحْصَانَ دُونَ مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِسَفْحِ الْمَاءِ، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ " نِكَاحُ الْمُتْعَةِ ": وَهُوَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ شَهْرٍ مَثَلًا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ رُوِيَتْ عَنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَبِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ
11
فِي الْمُتْعَةِ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ شَاذَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ قُرْآنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا صَحَّتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ مِنْ مِثْلِ هَذَا آحَادًا، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ فَهْمٌ لِصَاحِبِهِ، وَفَهْمُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ حُجَّةً فِي الدِّينِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ النَّظْمُ وَالْأُسْلُوبُ يَأْبَاهُ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالنِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ لَا يَقْصِدُ الْإِحْصَانَ دُونَ الْمُسَافَحَةِ، بَلْ يَكُونُ قَصْدُهُ الْأَوَّلُ الْمُسَافَحَةَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نَوْعٌ مَا مِنْ إِحْصَانِ نَفْسِهِ وَمَنْعِهَا مِنَ التَّنَقُّلِ فِي دِمَنِ الزِّنَا ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مَا مِنْ إِحْصَانِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُؤَجِّرُ نَفْسَهَا كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ لِرَجُلٍ فَتَكُونُ كَمَا قِيلَ:
كُرَةٌ حُذِفَتْ بِصَوَالِجَةٍ فَتَلَقَّفَهَا رَجُلٌ رَجُلُ
ثُمَّ إِنَّهُ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى هَذَا، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٢٣: ٥ - ٧)، أَيِ: الْمُتَجَاوِزُونَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُمْ إِلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ لَا تُعَارِضُ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بَلْ هِيَ بِمَعْنَاهَا فَلَا نَسْخَ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَمَتَّعُ بِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً فَيَكُونُ لَهَا عَلَى الرَّجُلِ مِثْلُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشِّيعَةِ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا أَحْكَامَ الزَّوْجَةِ وَلَوَازِمَهَا، فَلَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْأَرْبَعِ اللَّوَاتِي تَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ، بَلْ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْكَثِيرِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا يَقُولُونَ بِرَجْمِ الزَّانِي الْمُتَمَتِّعِ إِذْ لَا يَعُدُّونَهُ مُحْصَنًا، وَذَلِكَ قَطْعٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُسْتَمْتِعِينَ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ صَرِيحٌ مِنْهُمْ، وَنَقَلَ عَنْهُمْ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَمَتَّعَ بِهَا لَيْسَ لَهَا إِرْثٌ وَلَا نَفَقَةٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عِدَّةٌ! وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا شِبْهَ دَلِيلٍ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَخِّصُ لِأَصْحَابِهِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا، ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهَا نَهْيًا مُؤَبَّدًا، وَأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ لِلْعِلْمِ بِمَشَقَّةِ اجْتِنَابِ الزِّنَا مَعَ الْبُعْدِ عَنْ نِسَائِهِمْ فَكَانَتْ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ خَلِيَّةٍ نِكَاحًا مُؤَقَّتًا وَأَقَامَ مَعَهَا ذَلِكَ الزَّمَنَ الَّذِي عَيَّنَهُ، فَذَلِكَ أَهْوَنُ مِنْ تَصَدِّيهِ لِلزِّنَا بِأَيَّةِ امْرَأَةٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَمِيلَهَا، وَيَرَى أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْمُتْعَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يَقْرُبُ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي مَنْعِ الزِّنَا مَنْعًا بَاتًّا كَمَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكِلْتَا الْفَاحِشَتَيْنِ كَانَتْ فَاشِيَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ فُشُوَّ الزِّنَا كَانَ فِي الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الرُّخْصَةَ بِالْمُتْعَةِ لَمْ تُنْسَخْ، أَوْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ وَالِاخْتِيَارِ، لَا فِي حَالِ الْعَنَتِ وَالِاضْطِرَارِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا فِي الْأَسْفَارِ، وَأَشْهَرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ بِهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ
12
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ فِيهَا قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ سَارَتْ بِفُتْيَاكَ الرُّكْبَانُ، وَقَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ، قَالَ: وَمَا قَالُوا؟ قُلْتُ: قَالُوا:
قَدْ قُلْتُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ
هَلْ لَكَ فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةٌ تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، مَا بِهَذَا أَفْتَيْتُ! وَمَا هِيَ إِلَّا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا تَحِلُّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجِيزُهَا إِلَّا لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ، وَعَجَزَ عَنِ التَّزَوُّجِ الَّذِي مَبْنَى عَقْدِهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا مَفَرَّ لَهُ مِنَ الزِّنَا إِلَّا بِهَذَا الزَّوَاجِ الْمُوَقَّتِ، وَرَوَوْا أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ خَطَّأَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي رَأْيِهِ هَذَا، فَرَجَعَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْبَلَدَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ مُقِيمٌ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وَتُصْلِحُ لَهُ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ:
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (٢٣: ٦)، فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَاهُمَا فَهُوَ حَرَامٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُعَارَضَةٌ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ، وَبِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا مَكِّيَّةٌ، وَبِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي التَّارِيخِ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُسَافِرُ إِلَى الْبَلَدِ فَيُقِيمُ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ مُعَرَّضِينَ لِلْقَتْلِ أَيْنَمَا ثُقِفُوا، نَعَمْ إِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَيْسَ مُحَالًا وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَمْ تَرِدْ بِهِ رِوَايَةٌ مُعَيَّنَةٌ عَنْ أَحَدٍ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ كَانَ شَائِعًا، فَعِبَارَةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَتِمُّ عَلَيْهَا وَتَشْهَدُ أَنَّهَا لُفِّقَتْ فِي عَهْدِ حَضَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، فَالْإِنْصَافُ أَنَّ مَجْمُوعَ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى إِصْرَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَلَى فَتْوَاهُ بِالْمُتْعَةِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ مُعَارَضٌ بِالنُّصُوصِ، وَيُقَابِلُهُ اجْتِهَادُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْعُمْدَةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِهَا وُجُوهٌ، (أَوَّلُهَا) : مَا عَلِمْتَ مِنْ مُنَافَاتِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، إِنْ لَمْ نَقُلْ لِنُصُوصِهِ، (وَثَانِيهَا) : الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَحْرِيمِهَا تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ جَمَعَ مُتُونَهَا وَطُرُقَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ وَإِلَى شَرْحِ النَّوَوِيِّ لَهُ، وَكَذَا شَرْحُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ لِلْبُخَارِيِّ (وَثَالِثُهَا) : نَهْيُ عُمَرَ عَنْهَا فِي خِلَافَتِهِ وَإِشَادَتُهُ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ وَإِقْرَارُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ عَلَى مُنْكَرٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْجِعُونَهُ إِذَا أَخْطَأَ، وَمِنْهُ مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا (٤: ٢٠)، [رَاجِعْ ص ٣٧٥
13
وَمَا بَعْدَهَا جـ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، فَقَدْ خَطَّأَتْهُ امْرَأَةٌ فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهَا وَاعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْقُضُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنَ الشِّيعَةِ: إِنَّهُمْ سَكَتُوا تَقِيَّةً، وَقَدْ تَعَلَّقُوا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَنَا مُحَرِّمُهَا "، فَقَالُوا: إِنَّهُ حَرَّمَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَا يُعْتَدُّ بِتَحْرِيمِهِ، وَلَوْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى نَصٍّ لَذَكَرَهُ، وَأُجِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَسْنَدَ التَّحْرِيمَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيِّ، فَيَظْهَرُ أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ اللَّفْظَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، فَإِنْ صَحَّ أَنَّهُ لَفْظُهُ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مُبَيِّنٌ تَحْرِيمَهَا أَوْ مُنَفِّذٌ لَهُ، وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِسْنَادُ التَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ وَالْإِبَاحَةِ إِلَى مُبَيِّنِ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالُوا: حَرَّمَ الشَّافِعِيُّ النَّبِيذَ، وَأَحَلَّهُ أَوْ أَبَاحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، لَمْ يَعْنُوا أَنَّهُمَا شَرَّعَا ذَلِكَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ أَنَّهُمْ بَيَّنُوهُ بِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الدَّلِيلِ، وَقَدْ كُنَّا قُلْنَا فِي " مُحَاوَرَاتِ الْمُصْلِحِ وَالْمُقَلِّدِ " الَّتِي نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ: إِنَّ عُمَرَ مَنَعَ الْمُتْعَةَ اجْتِهَادًا مِنْهُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ فَنَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّاهِدِ وَالْمِثَالِ، لَا التَّمْحِيصِ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ.
وَتَقُولُ الشِّيعَةُ: إِنَّ لَدَيْهِمْ رِوَايَاتٍ عَنْ آلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَاطِعَةً بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَأَسَانِيدِهَا لِنَحْكُمَ فِيهَا فَأَيْنَ هِيَ؟ وَلَكِنْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ إِمَامَ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ مَعَ الْمُحَرِّمِينَ لَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْغُلَاةِ فِي التَّعَصُّبِ مِنْهُمْ: إِنَّا لَا نَقْبَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا رِوَايَةُ الْخَصْمِ؛ وَلِأَنَّ شِيعَتَهُ أَعْلَمُ بِأَقْوَالِهِ، وَيُجِيبُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنَّهُ تَمْوِيهٌ وَمُغَالَطَةٌ ; فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي كَانَتِ الشِّيعَةُ بِهَا شِيعَةً، وَأَهْلُ السُّنَّةِ هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي يُهِمُّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يُحَرِّرَ الرِّوَايَةَ فِيهَا عَنْ عُلَمَاءِ الصَّاحِبَةِ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كَوْنِ عَلِيٍّ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ رُوَاةَ الْأَحَادِيثِ الْمُدَوَّنَةِ فِي دَوَاوِينِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ قِسْمَانِ: مِنْهُمُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ مَذْهَبًا فَيُتَّهَمُوا بِتَأْيِيدِهِ بِالرِّوَايَاتِ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَالرِّوَايَةُ هِيَ الْأَصْلُ وَإِلَّا مَا صَحَّ مِنْهَا يَذْهَبُونَ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلْمَذَاهِبِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، وَقَدْ كَانَ عُدُولُهُمْ يَرْوُونَ مَا يُوَافِقُهَا وَمَا يُخَالِفُهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ اللهَ بِالصِّدْقِ فِي الرِّوَايَةِ وَيَكِلُونَ إِلَى فُقَهَائِهِمْ بَيَانَ مَعْنَاهَا وَتَرْجِيحَ الْمُتَعَارَضِ مِنْهَا، بَلْ لَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْ طَعْنٍ فِي بَعْضِ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ، فَعَدَالَةُ الرُّوَاةِ هِيَ الْعُمْدَةُ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى قَوَاعِدِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَرَاجِمِ الرِّجَالِ وَتَمْحِيصِ مَا قِيلَ فِي جَرْحِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْكِرَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ كَانَتْ سَبَبًا لِلْوَضْعِ وَالْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ نَقْدَ الرُّوَاةِ الْمُقَلِّدِينَ هُوَ أَهَمُّ مَسَائِلِ هَذَا الْفَنِّ، وَلَكِنَّ مَسْأَلَةَ الْمُتْعَةِ لَمْ تَكُنْ فِي عَصْرِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ عَدَّلَ الْمُحَدِّثُونَ
14
مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَثِيرًا مِنَ الشِّيعَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَا سَعَةَ فِي التَّفْسِيرِ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ بَلْ أَخْشَى أَنْ أَكُونَ قَدْ خَرَجْتُ بِهَذَا الْبَحْثِ عَنْ مِنْهَاجِي فِيهِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ
الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَعَنِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ تَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَادِيهِمْ، عَلَى أَنَّنِي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنَ التَّعَصُّبِ وَالتَّحَيُّزِ إِلَى غَيْرِ مَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ الْحَقُّ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَقَدْ بَدَأْتُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْبَحْثِ وَأَنَا أَنْوِي أَلَّا أَكْتُبَ فِيهِ إِلَّا بِضْعَةَ أَسْطُرٍ ; لِأَنَّنِي لَا أُرِيدُ تَحْرِيرَ الْقَوْلِ فِي الرِّوَايَاتِ هُنَا، وَلَيْسَ عِنْدِي حَيْثُ أَكْتُبُ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ فَأُرَاجِعَهَا فِيهِ، وَلَكِنْ مَا كَتَبْتُهُ هُوَ صَفْوَتَهَا وَصَفْوَةَ مَا قَالُوهُ فِيهَا، فَإِنِ اطَّلَعْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلشِّيعَةِ بِأَسَانِيدِهَا، فَرُبَّمَا نَكْتُبُ فِي ذَلِكَ مَقَالًا نُمَحِّصُ فِيهِ مَا وَرَدَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْكُمُ فِيهِ بِمَا نَعْتَقِدُ مِنْ قَوَاعِدِ التَّعَرُّضِ وَالتَّرْجِيحِ وَنَنْشُرُ ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ.
هَذَا، وَإِنَّ تَشْدِيدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي مَنْعِ الْمُتْعَةِ يَقْتَضِي مَنْعَ النِّكَاحِ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَكُونُ صَحِيحًا إِذَا نَوَى الزَّوْجُ التَّوْقِيتَ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّ كِتْمَانَهُ إِيَّاهُ يُعَدُّ خِدَاعًا وَغِشًّا، وَهُوَ أَجْدَرُ بِالْبُطْلَانِ مِنَ الْعَقْدِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوْقِيتُ، وَيَكُونُ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا، وَلَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ إِلَّا الْعَبَثَ بِهَذِهِ الرَّابِطَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِيثَارُ التَّنَقُّلِ فِي مَرَاتِعِ الشَّهَوَاتِ بَيْنَ الذَوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى ذَلِكَ غِشًّا وَخِدَاعًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ أُخْرَى مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَذَهَابِ الثِّقَةِ حَتَّى بِالصَّادِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِالزَّوَاجِ حَقِيقَتَهُ، وَهُوَ إِحْصَانُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَإِخْلَاصُهُ لَهُ وَتَعَاوُنُهُمَا عَلَى تَأْسِيسِ بَيْتٍ صَالِحٍ بَيْنَ بُيُوتِ الْأُمَّةِ.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ الِاسْتِطَاعَةُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي طَوْعِكَ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِكَ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنَ الْإِطَاقَةِ، وَالطَّوْلُ: الْغِنَى وَالْفَضْلُ مِنَ الْمَالِ وَالْحَالِ، أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُطَالِبِ وَالرَّغَائِبِ، وَالْمُحْصَنَاتُ: فُسِّرَتْ هُنَا بِالْحَرَائِرِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالْفَتَيَاتِ وَهُنَّ الْإِمَاءُ، وَالْحُرِّيَّةُ كَانَتْ عِنْدَهُمْ دَاعِيَةَ الْإِحْصَانِ، وَالْبِغَاءُ شَأْنُ الْإِمَاءِ، قَالَتْ
هِنْدُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ؟ وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُنَّ بِهَذَا اللَّقَبِ إِرْشَادٌ إِلَى تَكْرِيمِهِنَّ ; فَإِنَّ الْفَتَاةَ تُطْلَقُ عَلَى الشَّابَّةِ وَعَلَى الْكَرِيمَةِ السَّخِيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُعَبِّرُوا عَنْ عَبِيدِكُمْ وَإِمَائِكُمْ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمِلْكِ، بَلْ بِلَفْظِ الْفَتَى وَالْفَتَاةِ الْمُشْعِرِ بِالتَّكْرِيمِ، وَمِنْ هُنَا أَخَذَ مُبَلِّغُ الْقُرْآنِ وَمَبَيِّنُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَوْلَهُ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أَمَتِي، وَلَا يَقُلِ الْمَمْلُوكُ: رَبِّي ; لِيَقْلِ الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَلِيَقُلِ الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي، فَإِنَّكُمُ الْمَمْلُوكُونَ، وَالرَّبُّ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ أَيْضًا إِلَى زِيَادَةِ تَكْرِيمِ الْأَرِقَّاءِ إِذَا كَبِرُوا فِي السِّنِّ بِتَقْلِيلِ الْخِدْمَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ إِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ.
15
وَالْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فِي الْمَالِ أَوِ الْحَالِ لِنِكَاحِ الْمُحْصَنَاتِ، أَوْ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ اسْتِطَاعَةَ طَوْلٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الطَّوْلِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا نِكَاحَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأُمِرْتُمْ أَنْ تَقْصِدُوا بِالِاسْتِمْتَاعِ وَالِانْتِفَاعِ بِنِكَاحِهِنَّ الْإِحْصَانَ لَهُنَّ وَلِأَنْفُسِكُمْ، فَلْيَنْكِحِ امْرَأَةً مِنْ نَوْعِ مَا مَلَكْتُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ، أَيْ: إِمَائِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ تَبَعًا لِجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ كَوْنِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ النِّكَاحَ الثَّابِتَ، لَا الْمُتْعَةَ الَّتِي هِيَ اسْتِئْجَارٌ عَارِضٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ الِانْتِفَاعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلرَّجُلِ الَّذِي شَكَا مِنَ امْرَأَتِهِ وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِطَلَاقِهَا: " فَاسْتَمْتِعْ بِهَا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ تُجِيزُ الْمُتْعَةَ بِالْحَرَائِرِ لَمَا كَانَ لِوَصْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَا فَائِدَةٌ، وَأَيُّ امْرِئٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُتْعَةَ لِعَدَمِ الطَّوْلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ فَيَجْعَلَ بِهَا نَسْلَهُ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَسْتَطِيعُهَا لِعَدَمِ رَغْبَةِ النِّسَاءِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْعَارِ، قُلْنَا: إِنْ صَحَّ أَنَّ هَذَا مِنْ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ فَهُوَ لَا يُفِيدُ هَذَا الْقَائِلَ ; لِأَنَّ سَبَبَ عَدِّ الْمُتْعَةِ عَارًا فِي الْغَالِبِ هُوَ تَحْرِيمُهَا، وَمَنْ لَا يُحَرِّمُهَا كَالشِّيعَةِ فَإِنَّمَا يُبِيحُونَهَا فِي الْغَالِبِ اعْتِقَادًا فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الزِّنَا الْمُطْلَقِ أَشَدُّ لِغَلَبَةِ شُعُورِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الزِّنَا الْمُطْلَقِ أَشَدُّ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ مِنْ عَارِ الْمُتْعَةِ، وَقَلَّمَا يَتْرُكُهُ أَحَدٌ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُهُ مَنْ يَتْرُكُهُ تَدَيُّنًا فِي الْغَالِبِ، وَخَوْفًا مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْهُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الزِّنَا كَانَ عَلَى الْمُتْعَةِ أَقْدَرَ، وَمِنَ الْغَفْلَةِ أَنْ تُقَيَّدَ الْأَحْكَامُ
بِعَادَاتِ بَعْضِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ كَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَنٍ حَتَّى مِنَ التَّشْرِيعِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الطَّوْلَ هُنَا بِالْمَالِ الَّذِي يُدْفَعُ مَهْرًا، وَهُوَ تَحَكُّمٌ ضَيَّقُوا بِهِ مَعْنَى الْكَلِمَةِ، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ الطُّولِ بِالضَّمِّ، فَمَعْنَاهَا الْفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ، وَالْفَضْلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالطَّبَقَاتِ، وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ الْمَهْرَ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُبْعُ دِينَارٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُؤَيِّدُهُ، بَلْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِمُرِيدِ الزَّوَاجِ: " الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ "، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ: " تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ "، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ النَّبِيُّ بِالْتِمَاسِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَتَزَوَّجَ بَعْضُهُمْ بِنَعْلَيْنِ، وَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يُقَيِّدِ السَّلَفُ الْمَهْرَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَتَفْسِيرُ الطَّوْلِ بِالْغِنَى لَا يُلَائِمُ تَحْدِيدَ الْمُحَدِّدِينَ ; فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَجِدُ أَمَةً يَرْضَى أَنْ يُزَوِّجَهَا سَيِّدُهَا بِأَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ نَعْلَيْنِ، وَفَسَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ـ أَوْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ـ بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ يَسْتَمْتِعُ بِنِكَاحِهَا بِالْفِعْلِ، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مُتَزَوِّجًا امْرَأَةً حُرَّةً مُؤْمِنَةً فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً، فَحَاصِلُهُ عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرَّةِ
16
وَالْأَمَةِ (قَالَ) : وَالطَّوْلُ أَوْسَعُ مِنْ كُلِّ مَا قَالُوهُ، وَهُوَ الْفَضْلُ وَالسَّعَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَالْمَادِّيَّةُ، فَقَدْ يَعْجِزُ الرَّجُلُ عَنِ التَّزَوُّجِ بِحُرَّةٍ، وَهُوَ ذُو مَالٍ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْمَهْرِ الْمُعْتَادِ لِنُفُورِ النِّسَاءِ مِنْهُ لِعَيْبٍ فِي خَلْقِهِ أَوْ خُلُقِهِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ بِغَيْرِ الْمَهْرِ مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، فَإِنَّ لَهَا حُقُوقًا كَثِيرَةً فِي النَّفَقَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْأَمَةِ مِثْلُ تِلْكَ الْحُقُوقِ كُلِّهَا، فَفَقْدُ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ لَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمُؤْمِنَاتِ لَيْسَ بِقَيْدٍ فِي الْحَرَائِرِ وَلَا فِي الْإِمَاءِ أَيْضًا، وَإِنْ قِيلَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، فَإِنَّهُ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُنَّ أُولَئِكَ الْوَثَنِيَّاتُ اللَّوَاتِي لَا كِتَابَ لِقَوْمِهِنَّ، وَسَكَتَ عَنْ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَالنَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ لَا يَشْمَلُهُنَّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ص ٢٨٢ ج ٢ تَفْسِيرٌ - فَكَانَ الزَّوَاجُ مَحْصُورًا فِي الْمُؤْمِنَاتِ، فَذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ الْوَاقِعُ، أَيْ: وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَرَّضِينَ لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِحِلِّ زَوَاجِهِنَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ
قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الْوَصْفِ بِالْمُؤْمِنَةِ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْجِيحِهَا عَلَى الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.
أَقُولُ: فِي هَذَا أَحْسَنُ تَخْرِيجٍ وَتَوْجِيهٍ لِمَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُمْ يَبْنُونَهُ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَمَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ الْمُؤْمِنَةَ بَلْهَ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَظَاهِرُ وَصْفِ الْفَتَيَاتِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَدْ أَحَلَّ اللهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ـ وَهُنَّ الْحَرَائِرُ ـ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُنَّ الْعَفَائِفُ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ الْمَائِدَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ نَاسِخَةً لِمَفْهُومِهِ، أَوْ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِهِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ خَاصٌّ، وَعِنْدِي أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ تَارَةً يَكُونُ مُرَادًا، وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُرَادًا، فَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذَا الْمَالَ أَوِ انْسَخْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ الْفُقَرَاءِ تَعَيَّنَ أَلَّا يُوَزَّعَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ مَقْصُودَةٌ لِمَعْنًى فِيهَا كَانَ هُوَ سَبَبَ الْعَطَاءِ، وَإِذَا قُلْتَ: وَزِّعْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى الْخَدَمِ الْوَاقِفِينَ بِالْبَابِ، جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا لِلْوَاقِفِ مِنْهُمْ وَالْقَاعِدِ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ هَاهُنَا ذُكِرَتْ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ الْمُعْتَادِ لَا لِمَعْنًى فِي الْوُقُوفِ يَقْتَضِي الْعَطَاءَ، فَبِالْقَرَائِنِ تُعْرَفُ الصِّفَةُ الَّتِي يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَالصِّفَةُ الَّتِي لَا يُرَادُ مَفْهُومُهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مِنَ الْقَرِينَةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْوَصْفِ بِـ الْمُؤْمِنَاتِ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ إِلَّا الْمُشْرِكَاتُ وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِنَصِّ آيَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَوْلَا الْقَيْدُ هُنَا لَتُوُهِّمَ نَسْخُ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ هَذَا الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَفَهِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَسْبِيَّاتِ الْمُشْرِكَاتِ حَلَالٌ فَاسْتَمْتَعُوا بِهِنَّ يَوْمَ أَوْطَاسٍ، فَالْمَفْهُومُ هُنَا خَاصٌّ بِالْمُشْرِكَاتِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُنَّ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فَحَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ حَتَّى يُؤْمِنَّ ; لِأَنَّ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسَةً
17
خَاصَّةً بِالْعَرَبِ وَهِيَ عَدَمُ إِقْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ؛ لِيَكُونُوا كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يُقِرُّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَيَرْضَى مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ ; وَلِذَلِكَ أَجَازَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُوَادَّتِهِمْ أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ وَيَتَزَوَّجُوا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَقَرَّ الْمَجُوسَ عَلَى دِينِهِمْ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فَلَهُ حُكْمُهُمْ كَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ رَفَعَ شَأْنَ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَسَاوَى بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْإِيمَانِ وَدَرَجَاتِ قُوَّتِهِ، وَكَمَالِهِ، فَرُبَّ أَمَةٍ أَكْمَلَ إِيمَانًا مِنْ حُرَّةٍ فَتَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، أَيْ: فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ تَعُدُّوا نِكَاحَ الْأَمَةِ عَارًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الْإِيمَانِ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (٣: ١٩٥)، وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (٩: ٧١)، وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (٩: ٦٧)، إِلَخْ، وَقِيلَ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي النَّسَبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا تَرَى فَالْإِيمَانُ هُوَ الْمُرَادُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَنْكِحَ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهَا نَقْصُ الشِّرْكِ وَنَقْصُ الرِّقِّ.
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أَيْ: فَإِذَا رَغِبْتُمْ فِي نِكَاحِهِنَّ ـ لَمَّا رَفَعَ الْإِيمَانُ مِنْ شَأْنِهِنَّ ـ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَهْلِ هُنَا الْمَوَالِي الْمَالِكُونَ لَهُنَّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْمُرَادُ مَنْ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِينَ، فَلِلْأَبِ أَوِ الْجَدِّ، أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْوَصِيِّ تَزْوِيجُ أَمَةِ الْيَتِيمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي الْفِقْهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ فِي تَزْوِيجِ أَوْلِيَائِهَا لَهَا وَعَدَمِ تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ أَوْلَى مِنَ الْحُرَّةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى إِذْنِ أَوْلِيَائِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ رِضَا الْمَوْلَى بِتَزْوِيجِهَا مِنْ تَوَلِّي وَلِيِّهَا فِي النَّسَبِ لِلْعَقْدِ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا فَالْمَوْلَى أَوِ الْقَاضِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ.
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: وَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي تَفْرِضُونَهَا لَهُنَّ، فَالْمَهْرُ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَهُوَ لَهَا لَا لِمَوْلَاهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَآتُوا أَهْلَهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ بِأَنَّ قَيْدَ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مُعْتَبَرٌ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَهْرَ عِنْدَهُنَّ هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ حَقِّهِ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَهْرَ لَهَا لَا يُنْكِرُ أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ، وَكَوْنُ مِلْكِهِ لِسَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا يَرَى أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ حَقُّ الزَّوْجَةِ تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا وَيَكُونُ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا فِي مُقَابَلَةِ رِيَاسَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُ الْأَمَةِ الَّتِي يُزَوِّجَهَا أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهَا
بِحَقِّ الْمِلْكِ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ لَهَا تُصْلِحُ بِهِ شَأْنَهَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِذَا عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلرَّقِيقِ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا كَمِلْكِ الْأَمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ لِمَهْرِهَا، فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ
18
ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَوْ قَوَاعِدِ فِقْهِهِ؟ وَالْمَوْلَى مُخَيَّرٌ ـ مَعَ خُضُوعِهِ لِحُكْمِ رَبِّهِ ـ إِنْ شَاءَ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ، بَلْ فَتَاتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ مُكْتَفِيًا بِمَا قَرَّرَهُ لَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ امْتِلَاكِ ذُرِّيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الزَّوْجِ عِوَضًا مَالِيًّا وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْمَعْرُوفِ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مُتَعَلِّقًا بِإِيتَاءِ الْأُجُورِ، وَبَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ، أَيْ: وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَكُمْ فِي حُسْنِ التَّعَامُلِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَإِذْنِ الْأَهْلِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِيتَاءُ الْأُجُورِ بِالْمَعْرُوفِ مَعْنَاهُ بِالْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا كَمَا قَالَ فِي الْحَرَائِرِ: فَرِيضَةً لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِيهِ أَخَفُّ وَالْأَمْرَ أَهْوَنُ، وَالتَّسَاهُلُ فِي أُجُورِ الْإِمَاءِ مَعْهُودٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي إِعْطَائِهَا الْمَهْرَ مَعَ كَوْنِهَا لَا تَمْلِكُ ; لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يَقْبِضُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ - أَوْ قَالَ: أَصْحَابِ مَالِكٍ - أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَوَّجَ جَارِيَتَهُ فَقَدْ جَعَلَ لِلزَّوْجِ ضَرْبًا مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا لَا يُشَارِكُهُ هُوَ فِيهِ، فَمَا تَأْخُذُهُ مِنَ الزَّوْجِ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَسْقَطَ السَّيِّدُ حَقَّهُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْهُ، بَلْ يَكُونُ لَهَا وَحْدَهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، قَيْدٌ لِقَوْلِهِ: فَانْكِحُوهُنَّ أَوْ لِقَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مَعْنَاهُ الْمُتَزَوِّجَاتِ، أَيْ: أَعْطُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ مُتَزَوِّجَاتٍ مِنْكُمْ لَا مُسْتَأْجَرَاتٍ لِلْبِغَاءِ جَهْرًا وَهُنَّ الْمُسَافِحَاتُ، وَلَا سِرًّا وَهُنَّ مُتَّخِذَاتُ الْأَخْدَانِ، فَالْخِدْنُ: هُوَ الصَّاحِبُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَكَانَ الزِّنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: سِرٌّ وَعَلَانِيَةٌ، وَعَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْخَاصُّ السِّرِّيُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ خِدْنٌ يَزْنِي بِهَا سِرًّا فَلَا تَبْذُلُ نَفْسَهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْعَامُّ الْجَهْرِيُّ: هُوَ الْمُرَادُ بِالسِّفَاحِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْبِغَاءُ، وَكَانَ الْبَغَايَا مِنَ الْإِمَاءِ، وَكُنَّ يَنْصِبْنَ الرَّايَاتِ الْحُمْرَ لِتُعْرَفَ مَنَازِلُهُنَّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَقُولُونَ:
إِنَّهُ لُؤْمٌ، وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ وَيَقُولُونَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلِتَحْرِيمِ الْقِسْمَيْنِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (٦: ١٥١)، وَالْمُرَادُ بِتَحْرِيمِهِمْ لِزِنَا الْعَلَانِيَةِ اسْتِقْبَاحُهُ، وَعَدُّ مَا يَأْتِيهِ لَئِيمًا، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ مِنَ الزِّنَا مَعْرُوفَانِ الْآنَ وَفَاشِيَانِ فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ وَالْبِلَادِ الَّتِي تُقَلِّدُ الْإِفْرِنْجَ فِي شُرُورِ مَدَنِيَّتِهِمْ كَمِصْرَ وَالْآسِتَانَةِ وَبَعْضِ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَيُسَمِّي الْمِصْرِيُّونَ الْخِدْنَ بِالرَّفِيقَةِ، وَالتُّرْكُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الرَّفِيقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمِثْلُهُمُ التَّتَرُ فِي رُوسْيَا فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْعُرْفِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَالْمُتَفَرْنِجِينَ مَنْ هُمْ كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحْسِنُونَ الزِّنَا السِّرِّيِّ وَيُبِيحُونَهُ، وَيَسْتَقْبِحُونَ الْجَهْرِيَّ وَقَدْ يَمْنَعُونَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمُّ شَرٌّ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَكِنَّ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ
19
يَسْتَبِيحُونَهَا بِالْعَمَلِ دُونَ الْقَوْلِ! ! وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَخْدَعُهُ جَاهِلِيَّتُهُ فَتُوهِمُهُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنَ الدِّينِ إِذَا هُوَ اسْتَبَاحَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ بِالْعَمَلِ فَوَاظَبَ عَلَيْهَا بِلَا خَوْفٍ مِنَ اللهِ، وَلَا حَيَاءٍ، وَلَا لَوْمٍ مِنَ النَّفْسِ وَلَا تَوْبِيخٍ بِشَرْطِ أَلَّا يَقُولَ هِيَ حَلَالٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ مَرَّةً عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْمُعَامَلَاتِ: إِنَّهَا مِنَ الرِّبَا، وَقَالَ: إِنَّنِي أَنَا آكُلُ الرِّبَا لَا أُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّنِي مُسْلِمٌ لَا أَقُولُ إِنَّهُ حَلَالٌ! ! فَكَأَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّهُ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْتَنِبُوهَا، وَبِأَنَّهُ فَرَضَ الْفَرَائِضَ وَاسْتَحَبَّ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدُّوهَا، وَيَجْهَلُ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ أَيْضًا: إِنَّ الْإِسْلَامَ حَرَّمَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَوْجَبَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ، فَهَلْ صَلَحَتْ بِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ وَأَحْوَالُهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَصَارُوا أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ؟ !
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَا فَرَضَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنَ الْإِحْصَانِ، وَتَكْمِيلِ النُّفُوسِ بِالْعِفَّةِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَاخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَقَالَ فِي نِكَاحِ الْحَرَائِرِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ لِأَنَّ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ عَامَّةً، وَالْأَبْكَارَ مِنْهُمْ خَاصَّةً أَبْعَدُ مِنَ الرِّجَالِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، فَلَمَّا كَانَ الرِّجَالُ أَكْثَرَ تَعَرُّضًا لِخَدْشِ الْعِفَّةِ، وَانْقِيَادًا لِطَاعَةِ الشَّهْوَةِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ هُمُ الطَّالِبِينَ لِلنِّسَاءِ وَالْقَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ وَعَدَمِ السِّفَاحِ مِنْ قِبَلِهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا كَانَ الزِّنَا هُوَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِمَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا يَشْتَرُونَهُنَّ لِأَجْلِ الِاكْتِسَابِ
بِبِغَائِهِنَّ، حَتَّى أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ - رَأْسَ النِّفَاقِ - كَانَ يُكْرِهُ إِمَاءَهُ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمْنَ عَلَى الْبِغَاءِ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنِ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (٢٤: ٣٣)، وَلَمَّا كُنَّ أَيْضًا مَظَنَّةً لِلزِّنَا لِذُلِّهِنَّ وَضَعْفِ نُفُوسِهِنَّ، وَكَوْنِهِنَّ عُرْضَةً لِلِانْتِقَالِ مِنْ رَجُلٍ إِلَى آخَرَ، فَلَمْ تَتَوَطَّنْ نُفُوسُهُنَّ عَلَى عِيشَةِ الِاخْتِصَاصِ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ يَرَى لَهُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ نُفُوسُهُنَّ فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْفِطْرَةِ، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَعَلَ قَيْدَ الْإِحْصَانِ فِي جَانِبِهِنَّ، فَاشْتَرَطَ عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُ أَمَةً أَنْ يَتَحَرَّى أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً مَصُونَةً مِنَ الزِّنَا فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَإِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ الْمُحْصَنَةِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، يَكُونُ الْمُرَادُ: انْكِحُوهُنَّ مُحْصِنَاتٍ لَكُمْ وَلِأَنْفُسِهِنَّ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ يُمَكِّنَّ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ أَيَّ طَالِبٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وَأَصْحَابٍ ـ أَوْ رُفَقَاءَ كَمَا فِي عُرْفِ الْمِصْرِيِّينَ ـ تَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِصَاحِبٍ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: فَإِذَا فَعَلْنَ الْفِعْلَةَ الْفَاحِشَةَ وَهِيَ الزِّنَا بَعْدَ إِحْصَانِهِنَّ بِالزَّوَاجِ فَعَلَيْهِنَّ مِنَ الْعِقَابِ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ الْكَامِلَاتِ، وَهُنَّ الْحَرَائِرُ إِذَا زَنَيْنَ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
20
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (٢٤: ٢)، فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ خَمْسِينَ جَلْدَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَتُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْحُرَّةِ أَبْعَدَ عَنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ، وَالْأَمَةُ عُرْضَةٌ لَهَا وَضَعِيفَةٌ عَنْ مُقَاوَمَتِهَا، فَرَحِمَ الشَّارِعُ ضَعْفَهَا فَخَفَّفَ الْعِقَابَ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ الْعَذَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْحَدَّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي تِلْكَ ـ الْآيَةِ ـ آيَةِ الْجَلْدِ ـ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَافَّةً وِفَاقًا لِقَاعِدَةِ: " الْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا "، فَظَاهِرُهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُحَدُّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَظَاهِرُ آيَةِ النُّورِ أَنَّهَا تُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُحْصَنَةً أَمْ أَيِّمًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأَيِّمُ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَلَوْلَا السُّنَّةُ لَكَانَ لِذَاهِبٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا خَصَّصَتِ الزَّانِيَةَ الْحُرَّةَ بِالْمُحْصَنَةِ لِلْمُقَابَلَةِ فِيهَا بَيْنَ الْإِمَاءِ اللَّوَاتِي أُحْصِنَّ وَبَيْنَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْحَرَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ النِّسَاءِ بِالْحَرَائِرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، قَالُوا: بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِمَاءِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِمَاءِ الْمُحْصَنَاتِ لَا مُطْلَقًا، ثُمَّ قَيَّدُوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِقَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ كَوْنُهُنَّ أَبْكَارًا ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مَنْ تَزَوَّجَتْ مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ وَإِنْ آمَتْ بِطَلَاقٍ، أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا، وَالْوَصْفُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْصَنَةَ بِالزَّوَاجِ هِيَ الَّتِي لَهَا زَوْجَ يُحْصِنُهَا، فَإِذَا فَارَقَهَا لَا تُسَمَّى مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ كَمَا أَنَّهَا لَا تُسَمَّى مُتَزَوِّجَةً، كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، وَالْمَرِيضُ إِذَا بَرِئَ لَا يُسَمَّى مَرِيضًا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الَّذِينَ خَصُّوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِالْأَبْكَارِ: إِنَّهُنَّ قَدْ أَحْصَنَتْهُنَّ الْبَكَارَةُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الْبَكَارَةَ حِصْنٌ مَنِيعٌ لَا تَتَصَدَّى صَاحِبَتُهُ لِهَدْمِهِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَهِيَ عَلَى سَلَامَةِ فِطْرَتِهَا وَحَيَائِهَا وَعَدَمِ مُمَارَسَتِهَا لِلرِّجَالِ، وَمَا حَقُّهُ إِلَّا أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِ حِصْنُ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَكِنْ مَا بَالُ الثَّيِّبِ الَّتِي فَقَدَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِصْنَيْنِ تُعَاقَبُ أَشَدَّ الْعُقُوبَتَيْنِ إِذْ حَكَمُوا عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ؟ هَلْ يَعُدُّونَ الزَّوَاجَ السَّابِقَ مُحَصِّنًا لَهَا وَمَا هُوَ إِلَّا إِزَالَةٌ لِحِصْنِ الْبَكَارَةِ وَتَعْوِيدٌ لِمُمَارِسَةِ الرِّجَالِ! فَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِنِظَامِ الْفِطْرَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الثَّيِّبِ الَّتِي تَأْتِي الْفَاحِشَةَ دُونَ عُقَابِ الْمُتَزَوِّجَةِ، وَكَذَا دُونَ عِقَابِ الْبِكْرِ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْأَشَدِّ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ فِي الْيَمَنِ يُعَاقِبُونَ بِالْقَتْلِ كُلًّا مِنَ الْبِكْرِ وَالْمُتَزَوِّجَةِ إِذَا زَنَتَا، وَلَا يُعَاقِبُونَ الثَّيِّبَ بِالْقَتْلِ وَلَا بِالْجَلْدِ ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَعْذُورَةً طَبْعًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْذُورَةً شَرْعًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِرَجْمِ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ عِنْدَمَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فِي أَمْرِهِمَا إِذْ أَتَيَا الْفَاحِشَةَ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ خِلَافًا لِمَنِ اشْتَرَطَهُ، وَرُوِيَ
21
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللهِ لَا يَغُوصُ عَلَيْهِ إِلَّا غَوَّاصٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ (٥: ١٥)، فَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مِمَّا بَيَّنَهُ لَهُمْ وَحَكَمَ بِهِ فَصَارَ مَشْرُوعًا لَنَا، وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، أَيْ: مِمَّا تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ،
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْقُرْآنَ، وَوُجُوبَ اتِّبَاعِهِ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ آيَةَ الرَّجْمِ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النُّورِ بَعْدَ آيَةِ الْجَلْدِ، ثُمَّ رُفِعَتْ وَبَقِيَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوِ اعْتِرَافٌ.
وَأَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِرَجْمِ مَاعِزٍ الْأَسْلَمِيِّ وَالْغَامِدِيَّةِ لِاعْتِرَافِهِمَا بِالزِّنَا، وَلَكِنَّهُ أَرْجَأَ الْمَرْأَةَ حَتَّى وَضَعَتْ، وَأَرْضَعَتْ، وَفَطَمَتْ وَلَدَهَا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَرَوَيَا وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَجْمَ امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَلَدَ الْغُلَامَ الْعَسِيفَ (الْأَجِيرَ) الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرَةٍ، وَرَجَمَ الْمَرْأَةَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدَهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، وَظَاهِرُ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَنَّ السَّائِلَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ هَلْ كَانَ الْجَلْدُ نَاسِخًا لِلرَّجْمِ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ عَمَلًا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، أَمْ كَانَ الرَّجْمُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْجَلْدِ بِجَعْلِهِ خَاصًّا بِغَيْرِ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ بِالزَّوَاجِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ ضَرَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَا يَقُولُ بِأَنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ حَدِيثًا صَرِيحًا فِي رَجْمِ الْأَيِّمِ الثَّيِّبِ، وَسَأَتَتَبَّعُ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ النُّورِ وَأُحَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي الْعُمْرِ، وَوَرَدَ أَنَّ الْأَمَةَ غَيْرُ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ لَكِنْ يَجْلِدُهَا سَيِّدُهَا، قِيلَ: حَدًّا، وَقِيلَ: تَعْزِيرًا مِائَةَ جَلْدَةٍ أَوْ أَقَلَّ، أَقْوَالٌ وَوُجُوهٌ، وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَيُعْلَمُ حُكْمُهُمْ مِنَ الْآيَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، فَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْإِمَاءِ بِشَرْطِهِ، وَقِيلَ: كَالْأَحْرَارِ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَالْجُهْدُ وَالْفَسَادُ، قِيلَ: أَصْلُهُ انْكِسَارُ الْعَظْمِ بَعْدَ الْجَبْرِ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ جَائِزٌ لِمَنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الضَّرَرَ، وَالْفَسَادَ مِنَ الْتِزَامِ الْعِفَّةِ وَمُقَاوَمَةِ دَاعِيَةِ الْفِطْرَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مُقَاوَمَةَ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى وَأَرْسَخُ شُئُونِ
الْحَيَاةِ قَدْ تُفْضِي إِلَى أَمْرَاضٍ عَصَبِيَّةٍ وَغَيْرِ عَصَبِيَّةٍ إِذَا طَالَ الْعَهْدُ عَلَى مُقَاوَمَتِهَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَنَتِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ بِارْتِكَابِ الزِّنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَنَتَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِثْمِ لُغَةً، وَنَقُولُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ هُوَ الضَّرَرُ فَيَقْرُبُ مِنْ مَعْنَى إِلَّا أَنَّ الْعَنَتَ أَشُدُّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
22
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنِ الْعَنَتِ، فَقَالَ: الْإِثْمُ، قَالَ نَافِعٌ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
رَأَيْتُكَ تَبْتَغِي عَنَتِي وَتَسْعَى مَعَ السَّاعِي عَلَيَّ بِغَيْرِ ذَحْلِ
وَأَنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: وَصَبْرُكُمْ بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ نِكَاحِهِنَّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَكُمْ، لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْكُمْ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْمَعَايِبِ كَالذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالِابْتِذَالِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدِ الْأَعْمَالِ، وَسَرَيَانِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ إِلَى أَوْلَادِهِنَّ بِالْوِرَاثَةِ، وَكَوْنِهِنَّ عُرْضَةً لِلِانْتِقَالِ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، فَقَدْ يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا لِفَتَاةِ فُلَانٍ الْفَاضِلِ الْمُهَذَّبِ، وَلَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ زَوْجًا لِأَمَةِ فُلَانٍ اللَّئِيمِ أَوِ الْفَاسِقِ الزَّنِيمِ، وَمَنْ كَانَتْ لِلْفَاضِلِ الْيَوْمَ قَدْ تَكُونُ لِلْفَاسِقِ غَدًا، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَكَحَ الْعَبْدُ الْحُرَّةَ فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ، وَإِذَا نَكَحَ الْحُرُّ الْأَمَةَ فَقَدْ أَرَقَّ نِصْفَهُ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ وَهِيَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ; وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لَفْظُ " زَوْجٍ " لِاتِّحَادِهِ بِالْآخَرِ وَإِنْ كَانَ فَرْدًا فِي ذَاتِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَزَحَّفَ نَاكِحُ الْأَمَةِ عَنِ الزِّنَا إِلَّا قَلِيلًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَنْزِلِ الْمَرْءِ حُرَّةٌ تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ وَمَلَكَةِ الْعِفَّةِ وَتَحْكِيمِ الْعَقْلِ بِالْهَوَى، وَمِنْ عَدَمِ تَعْرِيضِ الْوَلَدِ لِلرِّقِّ، وَلِفَسَادِ الْأَخْلَاقِ بِالْإِرْثِ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ وَالْحَيَوَانِ، فَهِيَ تَشْعُرُ دَائِمًا بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ فَيَرِثُ أَوْلَادُهَا إِحْسَاسَهَا وَوِجْدَانَهَا الْخَسِيسَيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدِي عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا، وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ وَكَانَتْ لَمْ
تَحِلَّ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْمُتْعَةُ جَائِزَةً؟ !
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لِمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، رَحِيمٌ بِهِ، كَذَا فَسَّرُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ نَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الذَّنْبِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخْتَمُ بِهَا الْآيَاتُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ تُخَصَّ بِمَا تَتَّصِلُ بِهِ، فَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا عُرْضَةً لِلْهَفَوَاتِ وَاللَّمَمِ كَعَدَمِ الطَّوْلِ، وَاحْتِقَارِ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ وَالطَّعْنِ فِيهِنَّ عِنْدَ الْحَدِيثِ فِي نِكَاحِهِنَّ، ثُمَّ عَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِنَّ، فَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَمِنْهَا مَا يَشُقُّ اتِّقَاؤُهُ، ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بَعْدَ بَيَانِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، لِيُذَكِّرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُهُ مِنْهَا.
23
يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بِأَنْ يُعَلِّلَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَيُبَيِّنَ حُكْمَهَا بَعْدَ بَيَانِهَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْلِيلُ بَيَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إِلَخْ، اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: مَا هِيَ حِكْمَةُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفَائِدَتُهَا لَنَا؟ وَهَلْ كَلَّفَ اللهُ تَعَالَى أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ إِيَّاهَا أَوْ مِثْلَهَا فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا كُلَّ امْرَأَةٍ، وَهَلْ كَانَ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا عَنْهُ تَشْدِيدًا عَلَيْنَا، أَمْ تَخْفِيفًا عَنَّا؟ فَجَاءَتِ الْآيَاتُ مُبَيِّنَةً أَجْوِبَةَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَخْطُرَ بِالْبَالِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَقَوْلُهُ: لِيُبَيِّنَ مَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ، فَاللَّامُ نَاصِبَةُ بِمَعْنَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ ـ كَمَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ ـ وَمِثْلُهُ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ (٦١: ٨)، أَقُولُ: وَيَجْعَلُ الْبَصْرِيُّونَ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفًا، وَاللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: يُرِيدُ اللهُ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ ; لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ بِهِ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُكُمْ وَقِوَامُ فِطْرَتِكُمْ، وَلَهُمْ فِي هَذِهِ اللَّامِ أَقْوَالٌ أُخْرَى.
وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُ " لِيُبَيِّنَ " لِتَتَوَجَّهَ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ إِلَى اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ ثَنَايَا الْفِطْرَةِ الْقَوِيمَةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى بَعْضِ الْحِكَمِ فِي تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ عَقِبَ سَرْدِهَا، وَرَأَيْنَا أَنْ نُؤَخِّرَ ذِكْرَهَا فَنَجْعَلَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِيَكُونَ بَيَانًا لِمَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا كَتَبْنَا عَنْهُ فِي مُذَكِّرَتِنَا بَيَانَ عَاطِفَةِ الْأَبِ السَّائِقَةِ إِلَى تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ وَهِيَ تُذَكِّرُ بِغَيْرِهَا مِنْ مَرَاتِبِ صِلَاتِ الْقَرَابَةِ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ بِالْإِيجَازِ، وَمَحَلُّ الْإِسْهَابِ فِيهِ كُتُبُ الْأَخْلَاقِ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ بَيْنَ النَّاسِ ضُرُوبًا مِنَ الصِّلَةِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا وَيَتَعَاوَنُونَ عَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَأَقْوَى هَذِهِ الصِّلَاتِ صِلَةُ الْقَرَابَةِ وَصِلَةُ الصِّهْرِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ، فَأَمَّا صِلَةُ الْقَرَابَةِ فَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعَاطِفَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ، فَمَنِ اكْتَنَهَ السِّرَّ فِي عَطْفِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ دَاعِيَةً فِطْرِيَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِثْلَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ كَنَظَرِهِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ،
24
وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِهِ، وَيَجِدُ فِي نَفْسِ الْوَلَدِ شُعُورًا بِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَنْشَأَ وُجُودِهِ وَمُمِدَّ حَيَاتِهِ، وَقِوَامَ تَأْدِيبِهِ وَعُنْوَانَ شَرَفِهِ، وَبِهَذَا الشُّعُورِ يَحْتَرِمُ الِابْنُ أَبَاهُ، وَبِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ يَعْطِفُ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ وَيُسَاعِدُهُ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَلَا يَخْفَى عَلَى إِنْسَانٍ أَنَّ عَاطِفَةَ الْأُمِّ الْوَالِدِيَّةَ أَقْوَى مِنْ عَاطِفَةِ الْأَبِ، وَرَحْمَتَهَا أَشَدُّ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَحَنَانَهَا أَرْسَخُ مِنْ حَنَانِهِ ; لِأَنَّهَا أَرَقُّ قَلْبًا وَأَدَقُّ شُعُورًا، وَأَنَّ الْوَلَدَ يَتَكَوَّنُ جَنِينًا مِنْ دَمِهَا الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهَا، ثُمَّ يَكُونُ طِفْلًا يَتَغَذَّى مِنْ لَبَنِهَا، فَيَكُونُ لَهُ مَعَ كُلِّ مَصَّةٍ مِنْ ثَدْيِهَا عَاطِفَةٌ جَدِيدَةٌ يَسْتَلُّهَا مِنْ قَلْبِهَا، وَالطِّفْلُ لَا يُحِبُّ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أُمِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحِبُّ أَبَاهُ وَلَكِنْ دُونُ حُبِّهِ لِأُمِّهِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَرِمُهُ أَشَدَّ مِمَّا يَحْتَرِمُهَا، أَفَلَيْسَ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يُزَاحِمَ هَذَا الْحُبَّ الْعَظِيمَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ حُبُّ اسْتِمْتَاعِ الشَّهْوَةِ فَيَزْحَمَهُ وَيُفْسِدَهُ وَهُوَ خَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ بَلَى ; وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ هُوَ الْأَشَدَّ الْمُقَدَّمَ فِي الْآيَةِ وَيَلِيهِ تَحْرِيمُ الْبَنَاتِ، وَلَوْلَا مَا عُهِدَ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ وَالْعَبَثِ بِهَا وَالْإِفْسَادِ فِيهَا، لَكَانَ لِسَلِيمِ الْفِطْرَةِ أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ ; لِأَنَّ فِطْرَتَهُ تُشْعِرُ بِأَنَّ النُّزُوعَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُسْتَحِيلَاتِ.
وَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ فَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا تُشْبِهُ الصِّلَةَ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَأَعْضَاءِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ ; فَإِنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ يَسْتَوِيَانِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إِنَّهُمَا يَنْشَآنِ فِي حِجْرٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْغَالِبِ، وَعَاطِفَةُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَتْ أَقْوَى فِي أَحَدِهِمَا مِنْهَا فِي الْآخَرِ كَقُوَّةِ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ وَالْأُبُوَّةِ عَلَى عَاطِفَةِ الْبُنُوَّةِ ; فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ أُنْسُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ أُنْسَ مُسَاوَاةٍ لَا يُضَاهِيهِ أُنْسٌ آخَرُ إِذْ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الْبَشَرِ صِلَةٌ أُخْرَى فِيهَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ الْكَامِلَةِ، وَعَوَاطِفِ الْوُدِّ وَالثِّقَةِ الْمُتَبَادَلَةِ، وَيُحْكَى أَنَّ امْرَأَةً شَفَعَتْ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فِي زَوْجِهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَكَانَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ فَشَفَّعَهَا فِي وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمْ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَنْ يَبْقَى فَاخْتَارَتْ أَخَاهَا فَسَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنَّ الْأَخَ لَا عِوَضَ عَنْهُ، وَقَدْ مَاتَ الْوَالِدَانِ، وَأَمَّا الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فَيُمْكِنُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمَا بِمِثْلِهِمَا، فَأَعْجَبَهُ هَذَا الْجَوَابُ، وَعَفَا عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ: لَوِ اخْتَارَتِ الزَّوْجَ لَمَا أَبْقَيْتُ لَهَا أَحَدًا، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ صِلَةَ الْأُخُوَّةِ صِلَةٌ فِطْرِيَّةٌ قَوِيَّةٌ، وَأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَشْتَهِي بَعْضُهُمُ التَّمَتُّعَ بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ عَاطِفَةَ الْأُخُوَّةِ تَكُونُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ عَلَى النَّفْسِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِسِوَاهَا مَعَهَا مَوْضِعٌ مَا سَلِمَتِ الْفِطْرَةُ، فَقَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِمُعْتَلِّي الْفِطْرَةِ مَنْفَذٌ لِاسْتِبْدَالِ دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ بِعَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ.
وَأَمَّا الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَهُنَّ مِنْ طِينَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَفِي الْحَدِيثِ " عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ "، أَيْ: هُمَا كَالصِّنْوَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِ النَّخْلَةِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ
25
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ (٢: ١٣٣)، فَعَدُّوا إِسْمَاعِيلَ مِنْ آبَائِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخٌ لِإِسْحَاقَ فَكَأَنَّهُ هُوَ وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي كَانَتْ بِهِ صِلَةُ الْعُمُومَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُبُوَّةِ، وَصِلَةُ الْخُئُولَةِ مِنْ صِلَةِ الْأُمُومَةِ، قَالُوا: إِنَّ تَحْرِيمَ الْجَدَّاتِ مُنْدَرِجٌ فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَدَاخِلٌ فِيهِ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْفِطْرَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَاطِفَةِ صِلَةِ الْعُمُومَةِ وَالْخُئُولَةِ، وَالتَّرَاحُمُ وَالتَّعَاوُنُ بِهَا وَأَلَّا تَنْزَويَ الشَّهْوَةُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ.
وَأَمَّا بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَهُمَا مِنَ الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَخَاهُ وَأُخْتَهُ كَنَفْسِهِ، وَصَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَجِدُ لَهَا هَذِهِ الْعَاطِفَةَ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا
صَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّقِيمَةِ إِلَّا أَنَّ عَاطِفَةَ هَذَا تَكُونُ كَفِطْرَتِهِ فِي سَقَمِهَا، نَعَمْ إِنَّ عَطْفَ الرَّجُلِ عَلَى بِنْتِهِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ أُنْسِهِ بِبَنَاتِهِمَا لِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، وَبَيْنَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْحُبَّ لِهَؤُلَاءِ حُبُّ عَطْفٍ وَحَنَانٍ، وَالْحُبُّ لِأُولَئِكَ حُبُّ تَكْرِيمٍ وَاحْتِرَامٍ، فَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْبُعْدِ عَنْ مَوَاقِعِ الشَّهْوَةِ مُتَكَافِئَانِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ ذِكْرُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ ; لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِهِمَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، فَصِلَتُهُمَا أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ.
هَذِهِ هِيَ أَنْوَاعُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ الَّتِي يَتَرَاحَمُ النَّاسُ بِهَا وَيَتَعَاطَفُونَ، وَيَتَوَادُّونَ وَيَتَعَاوَنُونَ بِمَا جَعَلَ اللهُ لَهَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحُبِّ وَالْحَنَانِ، وَالْعَطْفِ وَالِاحْتِرَامِ، فَحَرَّمَ اللهُ فِيهَا النِّكَاحَ لِأَجْلِ أَنْ تَتَوَجَّهَ عَاطِفَةُ الزَّوْجِيَّةِ وَمَحَبَّتُهَا إِلَى مَنْ ضَعُفَتِ الصِّلَةُ الطَّبِيعِيَّةُ أَوِ النَّسَبِيَّةُ بَيْنَهُمْ كَالْغُرَبَاءِ وَالْأَجَانِبِ، وَالطَّبَقَاتِ الْبَعِيدَةِ مِنْ سُلَالَةِ الْأَقَارِبِ، كَأَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَبِذَلِكَ تَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ قُرَابَةُ الصِّهْرِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ كَقُرَابَةِ النَّسَبِ، فَتَتَّسِعُ دَائِرَةُ الرَّحْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ الشَّرْعِ الرُّوحِيَّةُ فِي مُحَرَّمَاتِ الْقَرَابَةِ.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ هُنَالِكَ حِكْمَةً جَسَدِيَّةً حَيَوِيَّةً عَظِيمَةً جَدًا، وَهِيَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَقَارِبِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ سَبَبًا لِضَعْفِ النَّسْلِ، فَإِذَا تَسَلْسَلَتْ وَاسْتَمَرَّتْ يَتَسَلْسَلُ الضَّعْفُ وَالضَّوَى فِيهِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ ; وَلِذَلِكَ سَبَبَانِ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، أَنَّ قُوَّةَ النَّسْلِ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ دَاعِيَةِ التَّنَاسُلِ فِي الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ الشَّهْوَةُ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا تَكُونُ ضَعِيفَةً بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةً لِكَرَاهَةِ تَزَوُّجِ بَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ إِلَخْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ شُعُورٌ
26
فِي النَّفْسِ يُزَاحِمُهُ شُعُورُ عَوَاطِفِ الْقَرَابَةِ الْمُضَادَّةِ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُزِيلَهُ وَإِمَّا أَنْ يُزَلْزِلَهُ وَيُضْعِفَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ آنِفًا.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: يَعْرِفُهُ الْأَطِبَّاءُ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ لِلْعَامَّةِ بِمِثَالٍ تَقْرِيبِيٍّ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْفَلَّاحِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي يَتَكَرَّرُ زَرْعُ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْحُبُوبِ فِيهَا يَضْعُفُ هَذَا الزَّرْعُ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ لِقِلَّةِ الْمَوَادِّ الَّتِي هِيَ قِوَامُ غِذَائِهِ، وَكَثْرَةِ الْمَوَادِّ الْأُخْرَى الَّتِي لَا يَتَغَذَّى مِنْهَا وَمُزَاحَمَتِهَا لِغِذَائِهِ أَنْ يَخْلُصَ لَهُ، وَلَوْ زُرِعَ ذَلِكَ الْحَبُّ فِي
أَرْضٍ أُخْرَى وَزُرِعَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْحَبِّ لَنَمَا كُلٌّ مِنْهُمَا، بَلْ ثَبَتَ عِنْدَ الزُّرَّاعِ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّنْفِ مِنَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِذَارِ يُفِيدُ، فَإِذَا زَرَعُوا حِنْطَةً فِي أَرْضٍ وَأَخَذُوا بَذْرًا مِنْ غَلَّتِهَا فَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ يَكُونُ نُمُوُّهُ ضَعِيفًا وَغَلَّتُهُ قَلِيلَةً، وَإِذَا أَخَذُوا الْبَذْرَ مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى وَزَرَعُوهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ نَفْسِهَا يَكُونُ أَنْمَى وَأَزْكَى، كَذَلِكَ النِّسَاءُ حَرْثٌ كَالْأَرْضِ يُزْرَعُ فِيهِنَّ الْوَلَدُ، وَطَوَائِفُ النَّاسِ كَأَنْوَاعِ الْبِذَارِ وَأَصْنَافِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أَفْرَادُ كُلِّ عَشِيرَةٍ مِنْ أُخْرَى لِيَزْكُوَ الْوَلَدُ وَيَنْجُبَ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ مِنْ مِزَاجِ أَبَوَيْهِ وَمَادَّةِ أَجْسَادِهِمَا وَيَرِثُ مِنْ أَخْلَاقِهِمَا وَصِفَاتِهِمَا الرُّوحِيَّةِ وَيُبَايِنُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالتَّوَارُثُ وَالتَّبَايُنُ سُنَّتَانِ مِنْ سُنَنِ الْخَلِيقَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَظَّهَا لِأَجْلِ أَنْ تَرْتَقِيَ السَّلَائِلُ الْبَشَرِيَّةُ، وَيَتَقَارَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَسْتَمِدَّ بَعْضُهُمُ الْقُوَّةَ وَالِاسْتِعْدَادَ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّزَوُّجُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ يُنَافِي ذَلِكَ فَثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ أَنَّهُ ضَارٌّ بَدَنًا وَنَفْسًا، مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ مُخِلٌّ بِالرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَائِقٌ لِارْتِقَاءِ الْبَشَرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي تُطْلَبُ مُرَاعَاتُهَا فِي الْمَرْأَةِ أَلَّا تَكُونَ مِنَ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، قَالَ: فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا أَيْ نَحِيفًا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ وَلَكِنْ رَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِآلِ السَّائِبِ: " اغْتَرِبُوا لَا تَضْوُوا "، أَيْ: تَزَوَّجُوا الْغَرَائِبَ لِئَلَّا تَجِيءَ أَوْلَادُكُمْ نِحَافًا ضِعَافًا، وَعَلَّلَ الْغَزَالِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّهْوَةَ إِنَّمَا تَنْبَعِثُ بِقُوَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالنَّظَرِ أَوِ اللَّمْسِ، وَإِنَّمَا يَقْوَى الْإِحْسَاسُ بِالْأَمْرِ الْغَرِيبِ الْجَدِيدِ، فَأَمَّا الْمَعْهُودُ الَّذِي دَامَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ الْحِسُّ عَنْ تَمَامِ إِدْرَاكِهِ وَالتَّأَثُّرِ بِهِ وَلَا تَنْبَعِثُ بِهِ الشَّهْوَةُ اهـ، وَتَعْلِيلُهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ، وَالْعُمْدَةُ مَا قُلْنَاهُ.
وَأَمَّا حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ فَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (٤: ٢٣)، وَيَزِيدُهُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي حِكْمَةِ مُحَرَّمَاتِ النَّسَبِ تِبْيَانًا فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِنَا أَنْ وَسَّعَ لَنَا دَائِرَةَ الْقَرَابَةِ بِإِلْحَاقِ الرَّضَاعَةِ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ بَدَنِ الرَّضِيعِ يَتَكَوَّنُ مِنْ لَبَنِ الْمُرْضِعِ، وَفَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَاكَ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَرِثُ مِنْهَا كَمَا يَرِثُ وَلَدُهَا الَّذِي وَلَدَتْهُ.
وَأَشَرْنَا أَيْضًا إِلَى حِكْمَةِ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ الْمُصَاهَرَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ
الرَّبِيبَةِ
27
وَهِيَ بِنْتُ الزَّوْجَةِ، وَأُمُّهَا أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ شَقِيقَةُ رُوحِهِ بَلْ مُقَوِّمَةُ مَاهِيَّتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَمُتَمِّمَتُهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُمُّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي الِاحْتِرَامِ، وَيَقْبُحُ جِدًّا أَنْ تَكُونَ ضَرَّةً لَهَا ; فَإِنَّ لُحْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ مِنْ عَشِيرَةٍ صَارَ كَأَحَدِ أَفْرَادِهَا وَتَجَدَّدَتْ فِي نَفْسِهِ عَاطِفَةُ مَوَدَّةٍ جَدِيدَةٍ لَهُمْ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّغَايُرِ وَالضِّرَارِ بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا؟ كَلَّا، إِنْ ذَلِكَ يُنَافِي حِكْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ وَالْقَرَابَةِ، وَيَكُونُ سَبَبَ فَسَادِ الْعَشِيرَةِ، فَالْمُوَافِقُ لِلْفِطْرَةِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ هُوَ أَنْ تَكُونَ أُمُّ الزَّوْجَةِ كَأُمِّ الزَّوْجِ، وَبِنْتُهَا الَّتِي فِي حِجْرِهِ كَابْنَتِهِ مِنْ صُلْبِهِ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ زَوْجُ ابْنِهِ بِمَنْزِلَةِ ابْنِهِ، يُوَجِّهُ إِلَيْهَا الْعَاطِفَةَ الَّتِي يَجِدُهَا لِابْنَتِهِ، كَمَا يُنْزِلُ الِابْنُ امْرَأَةَ أَبِيهِ مَنْزِلَةَ أُمِّهِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا لِتَكُونَ الْمُصَاهَرَةُ لُحْمَةَ مَوَدَّةٍ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الضِّرَارِ وَالنَّفْرَةِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُبِيحَ نِكَاحَ مَنْ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الزَّوْجَةِ كَأُمِّهَا أَوِ ابْنَتِهَا، أَوْ زَوْجَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَزَوْجَةِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ؟ وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ حِكْمَةَ الزَّوَاجِ هِيَ سُكُونُ نَفْسِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَالْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ مَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَقَالَ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (٣٠: ٢١)، فَقَيَّدَ سُكُونَ النَّفْسِ الْخَاصَّ بِالزَّوْجِيَّةِ وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَنْ يَلْتَحِمُ مَعَهُمَا بِلُحْمَةِ النَّسَبِ وَتَزْدَادُ وَتَقْوَى بِالْوَلَدِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْإِسْهَابِ فِي مَقَالَاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمَنَارِ.
فَهَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَعْمُولَ لِيُبَيِّنَ لِنَلْتَمِسَهُ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ بِمَعُونَةِ إِرْشَادِنَا إِلَى كَوْنِ دِينِنَا دِينَ الْفِطْرَةِ بِقَوْلِهِ: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠: ٣٠)، فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ آيَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِثَمَانِي آيَاتٍ، وَقَالَ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١: ٢٠، ٢١)، وَقَدْ هَدَانَا بِذَلِكَ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ إِلَى اسْتِقْلَالٍ فِي
طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ، وَلَا غَرْوَ فَالْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لَا قَوَانِينَ وَضْعِيَّةٌ لِلْمُتَكَلِّفِينَ، وَلَا رُسُومَ عُرْفِيَّةٌ لِلْجَامِدِينَ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ ذَهَبْتُ إِلَى إِحْدَى دُورِ الْكُتُبِ فِي (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) حَيْثُ أَنَا فَرَاجَعْتُ كِتَابَ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِشَاهْ وَلِيِّ اللهِ الدَّهْلَوِيِّ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ فِي حُكْمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: وَالْأَصْلُ فِي التَّحْرِيمِ أُمُورٌ:
28
مِنْهَا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِالِاصْطِحَابِ وَالِارْتِبَاطِ، وَعَدَمِ إِمْكَانِ لُزُومِ السَّتْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَارْتِبَاطُ الْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الطَّبِيعِيِّ دُونَ الصِّنَاعِيِّ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَجْرِ السُّنَّةُ بِقَطْعِ الطَّمَعِ عَنْهُنَّ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ لَهَاجَتْ مَفَاسِدُ لَا تُحْصَى، وَأَنْتَ تَرَى الرَّجُلَ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَتَوَلَّهُ بِهَا، وَيَقْتَحِمُ فِي الْمَهَالِكِ لِأَجْلِهَا، فَمَا ظَنُّكَ فِيمَنْ يَخْلُو مَعَهَا وَيَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَأَيْضًا لَوْ فُتِحَ بَابُ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ وَلَمْ يُسَدَّ، وَلَمْ تَقُمِ اللَّائِمَةُ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّهُ سَبَبُ عَضْلِهِمْ إِيَّاهُنَّ عَمَّنْ يَرْغَبْنَ فِيهِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُ بِيَدِهِمْ أَمْرُهُنَّ وَإِلَيْهِمْ إِنْكَاحُهُنَّ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُمْ إِنْ نَكَحُوهُنَّ مَنْ يُطَالِبُهُمْ عَنْهُنَّ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِنَّ إِلَى مَنْ يُخَاصِمُ عَنْهُنَّ، وَنُظِرَ لِذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ عَضْلِهِمْ لِلْيَتَامَى الْغَنِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ قَالَ:
" وَمِنْهَا الرَّضَاعَةُ، فَإِنَّ الَّتِي أَرْضَعَتْ تُشْبِهُ الْأُمَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا سَبَبُ اجْتِمَاعِ أَمْشَاجِ بِنْيَتِهِ وَقِيَامِ هَيْكَلِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأُمَّ جَمَعَتْ خِلْقَتَهُ فِي بَطْنِهَا وَهَذِهِ دَرَّتْ عَلَيْهِ سَدَّ رَمَقِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، فَهِيَ أُمٌّ بَعْدَ الْأُمِّ وَأَوْلَادُهَا إِخْوَةٌ بَعْدَ الْإِخْوَةِ، وَقَدْ قَاسَتْ فِي حَضَانَتِهِ مَا قَاسَتْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حُقُوقِهَا مَا ثَبَتَ، وَقَدْ رَأَتْ مِنْهُ فِي صِغَرِهِ مَا رَأَتْ، فَيَكُونُ تَمَلُّكُهَا وَالْوُثُوبُ عَلَيْهَا مِمَّا تَمُجُّهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَكَمْ مِنْ بَهِيمَةٍ عَجْمَاءَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى أُمِّهَا أَوْ إِلَى مُرْضِعَتِهَا هَذِهِ اللَّفْتَةَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالرِّجَالِ!
" وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَرْضِعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَيَشُبُّ فِيهِمُ الْوَلَدُ وَيُخَالِطُهُمْ كَمُخَالَطَةِ الْمَحَارِمِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُمْ لِلرَّضَاعَةِ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَالرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ وَكَوْنَ الْأَصْلِ فِي مِقْدَارِهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ، وَالْخُمْسَ لِلِاحْتِيَاطِ ".
قَالَ: " وَمِنْهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ قَطْعِ الرَّحِمِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ، فَإِنَّ الضَّرَّتَيْنِ تَتَحَاسَدَانِ وَيَنْجَرُّ الْبُغْضُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُمَا، وَالْحَسَدُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ أَخْنَعُ وَأَشْنَعُ، وَقَدْ كَرِهَ
جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ ابْنَتَيِ الْعَمِّ وَالْخَالِ لِذَلِكَ، فَمَا بَالُكَ بِامْرَأَتَيْنِ أَيُّهُمَا فَرَضَ ذَكَرًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى كَالْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي الْجَمْعِ:
قَالَ: " وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَتِ السُّنَّةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ رَغْبَةٌ فِي زَوْجِ ابْنَتِهَا، وَلِلرِّجَالِ فِي حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَبَنَاتِ نِسَائِهِمْ، لَأَفْضَى إِلَى السَّعْيِ فِي فَكِّ ذَلِكَ الرَّبْطِ، أَوْ قَتْلِ مَنْ يَشِحُّ بِهِ، وَإِنْ أَنْتَ تَسَمَّعْتَ إِلَى قَصَصِ قُدَمَاءِ الْفَارِسِيِّينَ، وَاسْتَقْرَأْتَ حَالَ أَهْلِ زَمَانِكَ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهَذِهِ السُّنَّةِ الرَّاشِدَةِ، وَجَدْتَ أُمُورًا عِظَامًا وَمَهَالِكَ وَمَظَالِمَ لَا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاصْطِحَابَ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَازِمٌ، وَالسِّتْرَ مُتَعَذَّرٌ،
29
وَالتَّحَاسُدَ شَنِيعٌ، وَالْحَاجَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُتَنَازِعَةٌ، فَكَأَنَّ أَمْرَهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ ".
قَالَ: " وَمِنْهَا الْعَدَدُ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ فِي الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ "، وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ فِي التَّعَدُّدِ إِلَّا قَوْلَهُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْأَرْبَعِ: " ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْبَعَ عَدَدٌ يُمْكِنُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَمَا دُونَ لَيْلَةٍ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْقَسْمِ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ: بَاتَ عِنْدَهَا، وَثَلَاثٌ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا فَوْقَهَا زِيَادَةُ الْكَثْرَةِ، اهـ، وَقَدْ وَفَّيْنَا هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي تُبِيحُ التَّعَدُّدَ مِنْ جـ ٤ ص ٢٨٢ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ.
قَالَ: " وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدِّينِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا (٢: ٢٢١)، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ وَهِيَ تَخِفُّ فِي الْكِتَابِيَّةِ فَرَخَّصَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ التَّنَاكُحُ مَعَهُمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُشْرِكَاتُ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ فَشَدَّدَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَا لَمْ يُشَدِّدْ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَنَارِ.
قَالَ: " وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَرْأَةِ أَمَةً لِآخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِينُ فَرْجِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَيِّدِهَا، وَلَا اخْتِصَاصُهُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُصَدَّ سَيِّدُهَا عَنِ اسْتِخْدَامِهَا وَالتَّخَلِّي بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَرْجِيحُ أَضْعَفِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا، فَإِنَّ هُنَالِكَ مِلْكَيْنِ: مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَمِلْكَ الْبُضْعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْوَى
الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآخَرِ الْمُسْتَتْبِعُ لَهُ، وَالثَّانِي هُوَ الضَّعِيفُ الْمُنْدَرِجُ، وَفِي اقْتِضَابِ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى قَلْبُ الْمَوْضُوعِ، وَعَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِهَا، وَعَدَمُ إِمْكَانِ ذَبِّ الطَّامِعِ فِيهَا هُوَ أَصْلُ الزِّنَا، وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي كَانَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَهَا كَالِاسْتِبْضَاعِ كَمَا بَيَّنَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَإِذَا كَانَتْ فَتَاةً مُؤْمِنَةً بِاللهِ مُحَصِّنَةً فَرْجَهَا، وَاشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى نِكَاحِهَا لِمَخَافَةِ الْعَنَتِ، وَعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، خَفَّ الْفَسَادُ وَكَانَتِ الضَّرُورَةُ، وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، انْتَهَى.
ثُمَّ ذَكَرَ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَشْغُولَةً بِنِكَاحِ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، وَقَالَ فِي حِكْمَتِهِ: " فَإِنَّ أَصْلَ الزِّنَا هُوَ الِازْدِحَامُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا، وَغَيْرِ قَطْعِ طَمَعِ الْآخَرِ فِيهَا ".
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَيْضًا بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُوَافِقَةِ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ أَنْ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَيْ: طُرُقُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِ الِاجْتِمَاعِ فِي زَمَانِهِ، كَمَا قَالَ:
30
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ٥: ٤٨]، وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا فِي التَّوْحِيدِ، وَرُوحِ الْعِبَادَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَوِّمُ الْمَلَكَاتِ وَتُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ.
ثُمَّ قَالَ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ: وَيُرِيدُ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَجْعَلَكُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا تَائِبِينَ مِمَّا سَلَفَ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِذْ كُنْتُمْ مُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ تَنْكِحُونَ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، وَلَا تُرَاعُونَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ تَجْدِيدِ قُرَابَةِ الصِّهْرِ، بِدُونِ تَنْكِيثٍ لِقُوَى رَوَابِطِ النَّسَبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ مَا هِيَ سَبَبٌ لَهُ مِنَ الْغُفْرَانِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمُ أَيْ: إِنَّهُ ذُو الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الثَّابِتَيْنِ اللَّذَيْنِ تَصْدُرُ عَنْهُمَا أَحْكَامُهُ، فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ الْوَاسِعَ مُحِيطٌ بِهَا وَحِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ تَقْضِي بِهَا.
وَقَوْلُهُ: وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قِيلَ: إِنَّهُ تَكْرِيرٌ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّوْبَةَ فِيهِ غَيْرُ التَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأُولَى الْقَبُولُ، وَبِالثَّانِيَةِ الْعَمَلُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الْقَبُولِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى ذُكِرَتْ
فِي تَعْلِيلِ أَحْكَامِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ، فَكَانَ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ يَكُونُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عَمَّا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ أَنْكِحَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الضَّارَّةِ، وَأَنَّ اللهَ شَرَعَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْنَدَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِيُبَيِّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ مَا يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ عَلَيْهِ دَائِمًا فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَيُقَابِلُهُ بِمَا يُرِيدُهُ مِنَّا مُتَّبِعُو الشَّهَوَاتِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا جَعَلَ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ عِلَّةً لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ ذَلِكَ دَائِمًا مِنْكُمْ لِتَزْكُوَ نُفُوسُكُمْ وَتَطْهُرَ قُلُوبُكُمْ وَتَصْلُحَ أَحْوَالُكُمْ وَيُرِيدَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا عَنْ صِرَاطِ الْفِطْرَةِ فَتُؤْثِرُوا دَاعِيَةَ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ عَلَى كُلِّ دَاعِيَةٍ، فَلَا تُبَالُوا أَنْ تُقَطِّعُوا لِإِرْضَائِهَا وَشَائِجَ الْأَرْحَامِ، وَتُزِيلُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ وَتَكُونُوا مِثْلَهُمْ، إِمَامُكُمُ الْمُتَّبَعُ هُوَ الشَّهْوَةُ، وَغَرَضُكُمْ مِنَ الْحَيَاةِ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوِ الْيَهُودُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ يَنْكِحُونَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَكَذَا الْأُخْتُ لِأَبٍ كَمَا نُقِلَ، وَقِيلَ: الْمَجُوسُ، وَالْمُخْتَارُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِطْلَاقِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِذْ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْكُمْ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ أَبَاحَ لَكُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ، بَلْ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَطُّ، فَشَرِيعَتُكُمْ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ كَمَا وَرَدَ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْمَيْلِ إِلَى النِّسَاءِ وَلَا يَحْمِلُ ثِقَلَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ إِلَّا مَا فِي إِبَاحَتِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعَ هَذَا تَرَى الزِّنَا يَفْشُو حَيْثُ يَضْعُفُ الدِّينُ حَتَّى لَا يَكَادَ النَّاسُ يَثِقُونَ بِنَسْلِهِمْ، وَحَتَّى تَكْثُرَ الْأَمْرَاضُ وَيَقِلَّ النَّسْلُ، وَيَسْتَشْرِيَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَ الرِّجَالُ وَلَا يَزَالُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِي هَذَا الْأَمْرِ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ، وَشِدَّةِ جُرْأَتِهِمْ، فَهُمْ
31
يُفْسِدُونَ النِّسَاءَ وَيَسْتَمِيلُونَهُنَّ بِالْمَالِ، ثُمَّ يَتَّهِمُونَهُنَّ بِأَنَّهُنَّ الْمُتَصَدِّيَاتُ لِلْإِفْسَادِ، وَيَحِجْرُ وَاحِدُهُمْ عَلَى امْرَأَتِهِ وَيَحْجُبُهَا، وَيَحْتَالُ عَلَى إِخْرَاجِ امْرَأَةِ غَيْرِهِ مِنْ خِدْرِهَا! وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّ الْحِلْيَةَ الَّتِي أَفْسَدَ بِهَا امْرَأَةَ غَيْرِهِ هِيَ الَّتِي يُفْسِدُ بِهَا غَيْرُهُ امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يَفْسُقُ رَجُلٌ إِلَّا وَيَكُونُ أُسْتَاذًا لِأَهْلِ بَيْتِهِ فِي الْفِسْقِ، وَمِنْ حِكَمِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ،
وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبِرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِمَعْنَاهُ، عَلَى أَنَّ فِي الرِّجَالِ الْفَاسِقِينَ، وَالْمُتَفَرْنِجِينَ الْمَارِقِينَ مَنْ مَرَدُوا عَلَى الْفِسْقِ وَصَارُوا يَرَوْنَهُ مِنَ الْعَادَاتِ الْحَسَنَةِ، فَخَزِيَتْ عِفَّتُهُمْ وَزَالَتْ غَيْرَتُهُمْ، فَهُمْ يَعُدُّونَ الدِّيَاثَةَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْكِيَاسَةِ، فَيُسْلِسُونَ الْقِيَادَ لِنِسَائِهِمْ، كَمَا يُسْلِسْنَ الْقِيَادَ لَهُمْ، وَذَلِكَ مُنْتَهَى مَا تُطِيقُهُ الرَّذِيلَةُ مِنَ الْجُهْدِ فِي إِفْسَادِ الْبُيُوتِ بِتَنْكِيثِ قُوَى الرَّابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِمَا هِيَ فِي الْفِطْرَةِ وَالشَّرِيعَةِ أَشَدُّ الْمَوَانِعِ دُونَهُ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْحِصْنُ لِلْمُرْتَبِطِينَ بِهَا مِنْ فَوْضَى الْأَبْضَاعِ، وَالْحِفَاظِ لِمَا فِيهِ هَنَاءُ الْمَعِيشَةِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ.
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: ثَمَانِي آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ، وَعَدَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ضَعِيفًا وَالرَّابِعَةُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (٤: ٣١)، وَالْآيَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (٤: ٤٠)، وَالْآيَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (٤: ٤٨)، إِلَخْ، وَالسَّابِعَةُ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ (٤: ١١٠)، إِلَخْ، وَالثَّامِنَةُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (٤: ١٥٢)، إِلَخْ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ " نَظْمِ الدُّرَرِ " مُبَيِّنًا وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا: وَلَمَّا كَانَ غَالِبُ مَا مَضَى مَبْنِيًّا عَلَى الْأَمْوَالِ، تَارَةً بِالْإِرْثِ، وَتَارَةً
32
بِالْجُعْلِ فِي النِّكَاحِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَبَيَّنَ
ضَعْفَ هَذَا النَّوْعِ كُلِّهِ، فَبَطَلَ تَعْلِيلُهُمْ لِمَنْعِ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ مِنَ الْإِرْثِ بِالضَّعْفِ، وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا حِفْظًا لِلْأَنْسَابِ، ذَاكِرًا كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ تَطْهِيرًا مُخَاطِبًا لِأَدْنَى الْأَسْنَانِ فِي الْإِيمَانِ تَرْفِيعًا لِغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى وَالْأَقَارِبِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ فِي مُعَامَلَةِ سَائِرِ النَّاسِ، وَمَدَارُ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى الْمَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ يُخْرِجِ الْكَلَامَ عَنْ أَحْكَامِ الْمَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ مَا يُفْرَضُ لَهُنَّ وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيتَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ، وَبَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ ذَكَرَ قَاعِدَةً عَامَّةً لِلتَّعَامُلِ الْمَالِيِّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَى الْجَمِيعِ فَلَمْ يَقُلْ: لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا مِنْ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي حُقُوقِهَا وَمَصَالِحِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ هُوَ مَالُ أُمَّتِكُمْ، فَإِذَا اسْتَبَاحَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ الْآخَرِ بِالْبَاطِلِ كَانَ كَأَنَّهُ أَبَاحَ لِغَيْرِهِ أَكْلَ مَالِهِ وَهَضْمَ حُقُوقِهِ ; لِأَنَّ الْمَرْءَ يُدَانُ كَمَا يَدِينُ، هَذَا مَا عِنْدِي، وَنَقَلَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ الدَّرْسَ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَنْبِيهًا إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ الْحَائِزَ لَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ - أَوِ الْبَذْلُ مِنْهُ - لِلْمُحْتَاجِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَبْخَلَ عَلَيْهِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ قَدْ قَرَّرَتْ فِي الْإِسْلَامِ قَاعِدَةَ الِاشْتِرَاكِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا الِاشْتِرَاكِيُّونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى سُنَّةٍ عَادِلَةٍ فِيهَا، وَلَوِ الْتَمَسُوهَا فِي الْإِسْلَامِ لَوَجَدُوهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْعَلُ مَالَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ مَالًا لِأُمَّتِهِ كُلِّهَا، مَعَ احْتِرَامِ الْحِيَازَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ وَحِفْظِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي مَالٍ كَثِيرٍ حُقُوقًا مُعَيَّنَةً لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ حُقُوقًا أُخْرَى لِذَوِي الِاضْطِرَارِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَيَحُثُّ فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَالْهَدِيَّةِ.
فَالْبِلَادُ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ لَا يُوجَدُ فِيهَا مُضْطَرٌّ إِلَى الْقُوتِ وَالسِّتْرِ قَطُّ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَفْرِضُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضًا قَطْعِيًّا أَنْ يُزِيلُوا ضَرُورَةَ كُلِّ مُضْطَرٍّ، كَمَا يَفْرِضُ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا آخَرَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُسَاعَدَةِ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَرِّ، وَيَرَى كُلُّ مَنْ يُقِيمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَنَّ مَالَ الْأُمَّةِ هُوَ مَالُهُ ; لِأَنَّهُ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ يَجِدُهُ مَذْخُورًا لَهُ، وَقَدْ يُصِيبُهُ مِنْهُ حَظٌّ فِي غَيْرِ حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ الْمَفْرُوضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ
33
الْجَمَاعَةِ الْحَاكِمَةِ مِنَ الْأُمَّةِ ; لِئَلَّا يَمْنَعَهُ بَعْضُ مَنْ يَمْرَضُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَرَكَ إِلَى أَرْيَحِيَّةِ الْأَفْرَادِ سَائِرَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِمْ أَوْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَحَثَّهُمْ بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَذَمَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ ; لِيَكُونَ الدَّافِعُ لَهُمْ إِلَى الْبَذْلِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَتَقْوَى مَلِكَاتُ السَّخَاءِ وَالنَّجْدَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهَا، وَلَمْ يُبِحْ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِمْ وَمَرْضَاتِهِمْ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةَ قَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَمَفْسَدَةَ اتِّكَالِ الْكُسَالَى عَلَى كَسْبِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ وَرَاءِ هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ انْحِطَاطُ الْبَشَرِ وَفَسَادُ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَإِنَّ النَّاسَ خُلِقُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ، فَمِنْهُمُ الْمَغْمُولُ الْمُخْلِدُ إِلَى الْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، وَمِنْهُمْ مُحِبُّ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ وَتَذْلِيلِ صِعَابِ الْأُمُورِ، فَإِذَا أُبِيحَ لِلْكُسَالَى الْبَطَّالِينَ، أَنْ يَفْتَاتُوا عَلَى الْكَاسِبِينَ الْمُجِدِّينَ، فَيَأْخُذُوا مَا شَاءُوا أَوِ احْتَاجُوا مِنْ ثَمَرَاتِ كَسْبِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَلَا إِذْنِهِمْ، أَفْضَتْ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ إِلَى الْفَوْضَى فِي الْأَمْوَالِ، وَالضَّعْفِ وَالتَّوَانِي فِي الْأَعْمَالِ، وَالْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَأْخُذَ أَحَدٌ مَالَ أَحَدٍ إِلَّا بِحَقٍّ، أَوْ يَبْذُلَ صَاحِبُ الْمَالِ مَا شَاءَ عَنْ كَرَمٍ وَفَضْلٍ.
فَمَتَى يَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَيَكُونُونَ حُجَّةً لَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ، فَيُقِيمُوا الْمَدَنِيَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَمَا أَقَامَهَا أُولَئِكَ فِي عُصُورِهِمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [س ٢ آيَةِ ١٨٨ ج٢ ص ١٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ مَا فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ.
أَمَّا الْبَاطِلُ، فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ: إِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ، وَهُوَ مِنَ الْبَطَلِ وَالْبُطْلَانِ أَيِ الضَّيَاعِ وَالْخَسَارِ، فَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَ الْمَالِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ
يُعْتَدُّ بِهَا، وَرِضَا مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَكَذَا إِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ حَقِيقِيٍّ نَافِعٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: فَسَّرَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ الْبَاطِلَ بِالْمُحَرَّمِ وَهُوَ إِحَالَةٌ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْبَاطِلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الْمُحَرَّمُ يَجْعَلُ حَاصِلَ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّنِي جَعَلْتُ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ مُحَرَّمًا، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ مَا يُقَابِلُ الْحَقَّ وَيُضَادُّهُ، وَالْكِتَابُ يُطْلِقُ الْأَلْفَاظَ كَالْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ وَالْحَسَنَاتِ، أَوِ الصَّالِحَاتِ، وَمَا يُقَابِلُهَا وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالْمُنْكَرُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَيَكِلُ فَهْمَهَا إِلَى أَهْلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (٢: ٦١)، فَحَقُّ فُلَانٍ فِي الْمَالِ هُوَ الثَّابِتُ لَهُ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ مَا إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْمُنْصِفِينَ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَهُ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ الْغَصْبُ وَالْغِشُّ وَالْخِدَاعُ وَالرِّبَا وَالْغَبْنُ وَالتَّغْرِيرُ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَكُمْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ ـ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ ـ هُوَ مَا كَانَ مَوْضِعَ التَّنَازُعِ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، كَأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ الْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ مِنْهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ جَذْبَهُ لِنَفَسِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجِّحُ لِلْمَالِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْبَاطِلِ، وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْ مُطْلَقِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى أَسْبَابِهِ وَأَعَمُّهَا وَأَكْثَرُهَا.
34
قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ (تِجَارَةً) بِالنَّصْبِ، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً إِلَخْ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: لَا تَقْصِدُوا إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اقْصِدُوا أَنْ تَرْبَحُوا بِالتِّجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ صَادِرَةً عَنِ التَّرَاضِي مِنْكُمْ، وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ أَسْبَابِ الْمُلْكِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ وُقُوعًا وَأَوْفَقَ لِذَوِي الْمُرُوءَاتِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ: وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ (٢٤: ٦١)، الْآيَةَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَا رِبْحَ التِّجَارَةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ـ أَيْ كَالْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ ـ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ النُّورِ الْمُبِيحَةِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بُيُوتِ أَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى الدِّينِ لَا أَصِلَ لَهُ ـ أَيْ: لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ عَزَى إِلَيْهِ ـ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ مُحَرَّمَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا كَإِقْرَاءِ الضَّيْفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ فِيمَا يُمَانِعُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ فَيُؤْخَذُ بِدُونِ رِضَاهُ، أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى اللهُ التِّجَارَةَ مِنْ عُمُومِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مُقَابِلٍ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ أَنْوَاعِهَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ تَحْدِيدَ قِيمَةِ الشَّيْءِ وَجَعْلَ عِوَضِهِ أَوْ ثَمَنِهِ عَلَى قَدْرِهِ بِقِسْطَاسِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ عَزِيزٌ وَعَسِيرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا.
فَالْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ التَّسَامُحُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَكْبَرَ مِنَ الْآخَرِ، وَمَا يَكُونُ سَبَبُ التَّعَاوُضِ فِيهِ بَرَاعَةَ التَّاجِرِ فِي تَزْيِينِ سِلْعَتِهِ وَتَرْوِيجِهَا بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ غِشٍّ وَلَا خِدَاعٍ، وَلَا تَغْرِيرٍ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَيْهِ، وَكَثِيرًا مَا يَشْتَرِيهِ بِثَمَنٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ ابْتِيَاعُهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ، وَلَا يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا خِلَابِةَ التَّاجِرِ وَزُخْرُفَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَاتِّقَاءِ التَّغْرِيرِ وَالْغِشِّ، فَيَكُونُ مِنْ بَاطِلِ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّرَاضِي، وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى، وَالْحِكْمَةُ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي التِّجَارَةِ لِشِدَّةِ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَتَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا أُوتُوا مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ فِي اخْتِبَارِ الْأَشْيَاءِ، وَالتَّدْقِيقِ فِي الْمُعَامَلَةِ حِفْظًا لِأَمْوَالِهِمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُمْ قِيَامًا أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مَنْفَعَةٍ تُقَابِلُهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا خَرَجَ بِهِ الرِّبْحُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ غِشٍّ وَلَا تَغْرِيرٍ، بَلْ بِتَرَاضٍ لَمْ تَنْخَدِعْ فِيهِ إِرَادَةُ الْمَغْبُونِ، وَلَوْ لَمْ يُبِحْ مِثْلَ هَذَا لَمَا رُغِبَ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا اشْتَغَلَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ
35
عَلَى شَدَّةِ حَاجَةِ الْعُمْرَانِ إِلَيْهَا وَعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَبَارَى الْهِمَمُ فِيهَا مَعَ التَّضْيِيقِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَقَدْ شَعَرَ النَّاسُ مُنْذُ الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ بِمَا يُلَابِسُ التِّجَارَةَ مِنَ الْبَاطِلِ حَتَّى إِنَّ الْيُونَانِيِّينَ جَعَلُوا لِلتِّجَارَةِ وَالسَّرِقَةِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا وَاحِدًا فِيمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَرْبَابِ لِأَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَكُلِّيَّاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، انْتَهَى مَا قَالَهُ فِي الدَّرْسِ مَعَ زِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ.
وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاسْتِدْرَاكِ لَا الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا مِنْ ذَوِي الطَّمَعِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ لَهَا مَنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَلَكِنْ كُلُوهَا بِالتِّجَارَةِ الَّتِي قِوَامُ الْحِلِّ فِيهَا التَّرَاضِي، فَذَلِكَ هُوَ اللَّائِقُ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدُّثُورِ وَالثَّرْوَةِ، وَقَالَ الْبَقَاعِيُّ: إِنَّ الِاسْتِدْرَاكَ لَا يَجِيءُ فِي النَّظْمِ الْبَلِيغِ بِصُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيِ: الَّذِي يُسَمُّونَهُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ إِلَّا لِنُكْتَةٍ.
وَقَالَ: إِنَّ النُّكْتَةَ هُنَا هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ التِّجَارَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِ الْعَاقِلُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ مَدَارَ حِلِّ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضِي الْمُتَبَايِعِينَ، وَالْغِشُّ وَالْكَذِبُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَكُلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ لِأَجْلِ تَحْقِيقِ التَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ غِشٍّ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالدِّينِ.
قَالَ الْبَقَاعِيُّ: وَلَمَّا كَانَ الْمَالُ عَدِيلَ الرُّوحِ، وَنَهَى عَنْ إِتْلَافِهِ بِالْبَاطِلِ، نَهَى عَنْ إِتْلَافِ النَّفْسِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ إِتْلَافِهِمْ لَهُمَا بِالْغَارَاتِ لِنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَمَا كَانَ بِسَبَبِهَا أَوْ تَسَبُّبِهَا، عَلَى أَنَّ مَنْ أُكِلَ مَالُهُ ثَارَتْ نَفْسُهُ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفِتَنِ الَّتِي رُبَّمَا كَانَ آخِرَهَا الْقَتْلُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أَنْسَبَ شَيْءٍ لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ التَّعَاطُفِ وَالتَّوَاصُلِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَخْ، أَقُولُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَحْدَهَا أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الِانْتِحَارُ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهَا فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْمُرَادَ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الْأَقْوَى، وَاخْتِيرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِلْإِشْعَارِ بِتَعَاوُنِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَوَحْدَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نُكْتَةِ التَّعْبِيرِ عَنْ أَكْلِ بَعْضِهِمْ مَالَ بَعْضٍ بِقَوْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: أَيْ لَا تَقْتُلُوهَا حَقِيقَةً بِالِانْتِحَارِ وَلَا مَجَازًا بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذَا فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ بِالْبَاطِلِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ النَّفَقَاتِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا ; لِأَنَّهَا مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِيَامًا (٤: ٥)، [رَاجِعْ ص ٣٩ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَكُلُّ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْإِسْلَامِ تَرْجِعُ إِلَى الْإِخْلَالِ بِحِفْظِ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الْوَاجِبِ حِفْظُهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالْعِرْضُ، وَالْعَقْلُ،
36
وَالْمَالُ، وَالنَّسَبُ، وَعَلَّلُوا التَّعْبِيرَ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ بِقَتْلِهِ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُفْضِي إِلَى قَتْلِهِ قِصَاصًا أَوْ ثَأْرًا كَانَ كَأَنَّهُ قَتْلٌ لِنَفْسِهِ، وَقَالُوا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ (٢: ٨٤، ٨٥)، الْآيَةَ، حَتَّى إِنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (٢: ٥٤)، إِنَّ الْمَعْنَى لِيَقْتُلْ كُلٌّ مِنْكُمْ نَفْسَهُ بِالْبَخْعِ وَالِانْتِحَارِ أَوْ أُمِرُوا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَتْلِ هُنَالِكَ قَطْعُ الشَّهَوَاتِ، كَمَا قِيلَ: مَنْ لَمْ يُعَذِّبْ نَفْسَهُ لَمْ يُنَعِّمْهَا، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْهَا لَمْ يُحْيِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى هُنَا: لَا تُخَاطِرُوا بِنُفُوسِكُمْ فِي الْقِتَالِ فَتُقَاتِلُوا مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّكُمْ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَكُمْ، وَمَنْ نَظَرَ فِي مَجْمُوعِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَرَاعَى دَلَالَةَ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَتْلِ النَّاسِ أَنْفُسَهُمْ هُوَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَأَنَّ النُّكْتَةَ فِي التَّعْبِيرِ هِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ حَتَّى كَأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا هُوَ عَيْنُ الْآخَرِ، وَجِنَايَتُهُ عَلَيْهِ جِنَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَجِنَايَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بَلْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ تُعَدُّ جِنَايَةً عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (٥: ٣٢)، وَإِذَا كَانَ يُرْشِدُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْتَرِمَ نُفُوسَ النَّاسِ بَعْدَهَا كَنُفُوسِنَا فَاحْتِرَامُنَا لِنُفُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى، فَلَا يُبَاحُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ نَفْسَهُ كَأَنْ يَبْخَعَهَا لِيَسْتَرِيحَ مِنَ الْغَمِّ وَشَقَاءِ الْحَيَاةِ، فَمَهْمَا اشْتَدَّتِ الْمَصَائِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ، وَلَا يَنْقَطِعُ رَجَاؤُهُ مِنَ الْفَرَجِ الْإِلَهِيِّ ; وَلِذَلِكَ نَرَى بَخْعَ النَّفْسِ (الِانْتِحَارَ) يَكْثُرُ حَيْثُ يَقِلُّ الْإِيمَانُ، وَيَفْشُو الْكُفْرُ وَالْإِلْحَادُ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْإِيمَانِ مُدَافَعَةُ الْمَصَائِبِ وَالْأَكْدَارِ، فَالْمُؤْمِنُ لَا يَتَأَلَّمُ مِنْ بُؤْسِ الْحَيَاةِ كَمَا يَتَأَلَّمُ الْكَافِرُ، فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْخَعَ نَفْسَهُ حَتَّى يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ نَهْيًا صَرِيحًا.
إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا أَيْ: إِنَّهُ كَانَ بِنَهْيِهِ إِيَّاكُمْ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ رَحِيمًا بِكُمْ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حِفْظَ دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ فَيَجِبُ أَنْ تَتَرَاحَمُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَيَكُونَ كُلٌّ مِنْكُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِينَ عَلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَمُدَافَعَةِ رَزَايَا الدَّهْرِ.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ كُلٌّ مَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
37
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا (٤: ١٩)، إِلَى هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي قَبْلَ تِلْكَ الْآيَةِ قَدِ اقْتَرَنَتْ بِالْوَعِيدِ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ سُنَّةِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ الْأَخِيرَةَ لَمْ يُوعَدْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَإِنْ وُصِفَتْ بِالْقُبْحِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ ـ وَهِيَ النَّهْيُ عَنْ إِرْثِ النِّسَاءِ كَرْهًا، وَعَنْ عَضْلِهِنَّ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِنَّ، وَعَنْ نِكَاحِ مَا نَكَحَ الْآبَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنِ الْقَتْلِ ـ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقَتْلُ فَقَطْ، وَقَدْ قَصَّرَ كُلَّ التَّقْصِيرِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَا فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَعَنِ الْقَتْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ الْمَقْبُولُ فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْوَعِيدِ قَدِ اقْتَرَنَتْ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ.
(قَالَ) وَالْعُدْوَانُ: هُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْحَقِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ، فَمَعْنَاهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ الْفَاعِلُ إِتْيَانَ الْفِعْلِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى الْحَقَّ، وَجَاوَزَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالظُّلْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ نَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ الْمُتَعَدِّي لَمْ يَتَحَرَّ وَيَجْتَهِدْ فِي اسْتِبَانَةِ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهُ فَيَفْعَلَ مَا لَا يَحِلُّ، وَالْوَعِيدُ مَقْرُونٌ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَهُمَا أَنْ يَقْصِدَ الْفَاعِلُ الْعُدْوَانَ، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ظُلْمًا فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، مِثَالُ تَحَقُّقِ الْعُدْوَانِ دُونَ الظُّلْمِ أَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ رَجُلًا يَقْصِدُ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ رَاصِدًا لَهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَلَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ لِقَتْلِهِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَتَلَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ دَمِهِ كَأَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ، فَهَاهُنَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الظُّلْمُ، وَأَمَّا الْعُدْوَانُ فَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَمِثَالُ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ فَقَطْ أَنْ يُسَلِّمَ امْرُؤٌ مَالَ آخَرَ ظَانًّا أَنَّهُ مَالُهُ الَّذِي كَانَ
سَرَقَهُ أَوِ اغْتَصَبَهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَالَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مَالَهُ، وَأَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا رَآهُ هَاجِمًا عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّهُ صَائِلٌ يُرِيدُ قَتْلَهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خَطَأُ ظَنِّهِ، فَهَاهُنَا تَحَقَّقَ الظُّلْمُ وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعُدْوَانُ، أَقُولُ: وَقَدْ يُعَاقَبُ الْإِنْسَانُ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ الَّتِي لَا تَجْمَعُ بَيْنَ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ مَعًا لِتَقْصِيرِهِ فِي اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ عِقَابَ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِصْلَاءَهُ النَّارَ إِدْخَالُهُ فِيهَا وَإِحْرَاقُهُ بِهَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الصِّلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ مِنَ النَّارِ لِلِاسْتِدْفَاءِ، قَالَ الرَّاجِزُ:
يُقْعِي جُلُوسَ الْبَدَوِيِّ الْمُصْطَلِي
، أَيِ: الْمُسْتَدْفِئِ، وَتَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [ص ٢٨٤ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ الْبَعِيدَ شَأْوُهُ، الشَّدِيدَ وَقْعُهُ، يَسِيرٌ عَلَى اللهِ غَيْرُ عَسِيرٍ، وَقَرِيبٌ مِنَ الْعَادِينَ الظَّالِمِينَ غَيْرُ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ مُدَنِّسًا لِلنُّفُوسِ مُدَسِّيًا لَهَا بِحَيْثُ يَهْبِطُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُرْدِيهَا فِي الْهَاوِيَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ يَسِيرًا عَلَى اللهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ حِلْمَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ وَعَدَمَ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَنْجُوَ مِنْ عِقَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ، بَلْ هُوَ تَنْبِيهٌ إِلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ، أَيْ: فَلَا يَغْتَرَّنَّ الظَّالِمُونَ بِعِزَّتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ عَلَى مَنْ يَظْلِمُونَهُمْ
38
وَلَا يَقِيسُنَّ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا فَيَكُونُوا كَأُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا فِيمَا حَكَى الله عَنْهُمْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٤: ٣٥)، بَلْ يَجِبُ أَلَّا يَأْمَنُوا تَقَلُّبَ الدُّنْيَا وَغِيَرَهَا وَلَا يَنْخَدِعُوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ فِيمَا مَضَى كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا.
نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَهُمَا أَكْبَرُ الذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَتَوَعَّدَ فَاعِلَ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا بِالنَّارِ، ثُمَّ نَهَى عَنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَعْظُمُ ضَرَرُهَا وَتُؤْذِنُ بِضَعْفِ إِيمَانِ مُرْتَكِبِهَا، وَوَعَدَ عَلَى تَرْكِهَا بِالْجَنَّةِ وَمُدْخَلِ الْكَرَامَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَبَائِرِ هُنَا جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ،
قَالَ الْبَقَاعِيُّ بَعْدَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ: وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا لِفَاعِلِ ذَلِكَ تَحْذِيرًا أَتْبَعُهُ مَا لِلْمُنْتَهِي تَبْشِيرًا، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ جُمْلَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَالَ، وَذَكَرَ الْآيَةَ.
الِاجْتِنَابُ: تَرْكُ الشَّيْءِ جَانِبًا، وَالْكَبَائِرُ: جَمْعُ كَبِيرَةٍ، أَيِ الْفَعَائِلُ أَوِ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرُ، وَالسَّيِّئَاتُ: جَمْعُ سَيِّئَةٍ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، أَوْ تَسُوءُ غَيْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا (٣: ١٩٣)، وَفَسَّرُوهَا بِالصَّغَائِرِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهَا بِالْكَبَائِرِ، وَاللَّفْظُ أَهَمُّ وَالتَّخْصِيصُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ فِي الْمَعَاصِي صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ أَمِ الْمَعَاصِي كُلُّهَا كَبَائِرُ؟ نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللهُ بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْإِسْفَرَايِينِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ: إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، فَقِيلَ: هِيَ سَبْعٌ، لِحَدِيثٍ صَحِيحٍ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي عَدِّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَمَجْمُوعُهَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعٍ، وَقَدْ ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ.
أَقُولُ: أَشْهَرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ،
39
وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْهَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَزِيَادَةٌ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا: وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ، وَكَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَذْكُرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْكَبَائِرِ وَيُقَابِلُهَا الصَّغَائِرُ، وَالظَّاهِرُ مِنْهَا أَنَّ كِبَرَهَا فِي ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ،
وَالْمُوبِقَاتُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ مِنْ أَوْبَقَهُ إِذَا أَهْلَكَهُ، أَوْ ذَلَّلَهُ، وَيُقَابِلُ الْمُوبَقَ مَا يَضُرُّ ضَرَرًا قَلِيلًا، وَمَا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ فِي الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ.
وَكَيْفَ يُنْكِرُ أَحَدٌ انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَغَيْرِ كَبَائِرَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مِنْ ذَاتِهِ بَدِيهِيٌّ ـ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ ـ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ أَنْوَاعٌ لَهَا أَفْرَادٌ تَتَفَاوَتُ فِي أَنْفُسِهَا وَفِي الدَّاعِيَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي تَسُوقُ إِلَيْهَا.
قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ جَزَاءِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ٥٣: ٣٢]، وَالْفَوَاحِشُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنَ الْفَعَائِلِ الْقَبِيحَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَاسِبُ الْآيَةَ الَّتِي نَفْسُهَا فِي مَعْنَاهَا بِذَاتِهَا وَمَوْقِعِهَا مِمَّا قَبْلَهَا، فَقَدْ عَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ هَذَا الِاجْتِنَابِ تَكْفِيرَ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ وَغُفْرَانَهُ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مُقَابِلِ الْكَبَائِرِ هُنَا بِالسَّيِّئَاتِ وَهُوَ لَفْظٌ يَشْمَلُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ كَمَا عُلِمَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَبَّرَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِاللَّمَمِ، وَفَسَّرُوا اللَّمَمَ بِمَا قَلَّ وَصَغُرَ مِنَ الذُّنُوبِ، كَمَا فَسَّرُوا السَّيِّئَاتِ هُنَا بِالصَّغَائِرِ وَمَا أَخَذُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْمُقَابَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يَكُونُ اللَّمَمُ بِمَعْنَى مُقَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الْفَاحِشَةِ بِإِتْيَانِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهَا مَعَ اجْتِنَابِ اقْتِرَافِهَا، مِنْ أَلَمَّتِ النَّخْلَةُ إِذْ قَارَبَتِ الْإِرْطَابَ وَأَلَمَّ الْغُلَامُ إِذَا قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَسَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ مَا يُوَضِّحُهُ بِالْأَمْثِلَةِ، وَمِنَ التَّنَاسُبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالسِّيَاقِ أَنَّهُ عَلَّلَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ مَغْفِرَةَ اللَّمَمِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِحَالِ الْإِنْسَانِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَوَادِّ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ تَكُونُ غِذَاءً
40
فَدَمًا فَمَنِيًّا يُلَقِّحُ الْبُوَيْضَاتِ فِي رَحِمِ الْأُمِّ، وَعِلْمُهُ بِحَالِهِ بَعْدَ هَذَا التَّلْقِيحِ إِذْ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَقُصَارَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ فِي أُخْرَى: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ (٣٠: ٥٤)، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تَعْلِيلُ التَّخْفِيفِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٤: ٢٨).
وَمِمَّا وَرَدَ صَرِيحًا فِي تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ إِلَّا أَحْصَاهَا (١٨: ٤٩)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٤: ٥٢، ٥٣).
وَإِذَا كَانَ هَذَا صَرِيحًا فِي الْقُرْآنِ فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْكَارُهُ؟ لَا، بَلْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلِ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ، وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، وَإِنَّمَا عُزِيَ الْقَوْلُ بِإِنْكَارِ تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ إِلَى الْأَشْعَرِيَّةِ، وَكَأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُخَالِفُوا بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ فُورَكٍ، فَإِنَّهُ صَحَّحَ كَلَامَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَالَ: " مَعَاصِي اللهِ كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الذُّنُوبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ " اهـ، وَأَوَّلَ الْآيَةَ تَأْوِيلًا بَعِيدًا، وَهَلْ يُؤَوِّلُ سَائِرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لِأَجْلِ أَنْ يُخَالِفَ الْمُعْتَزِلَةَ وَلَوْ فِيمَا أَصَابُوا فِيهِ؟ لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ هُوَ الَّذِي صَرَفَ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَذْكِيَاءِ عَنْ إِفَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ بِفِطْنَتِهِمْ، وَجَعَلَ كُتُبَهُمْ فِتْنَةً لِلْمُسْلِمِينَ اشْتَغَلُوا بِالْجَدَلِ فِيهَا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ، وَسَتَرَى مَا يَنْقُلُهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ وَيَرُدُّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَأَيْنَ الرَّازِيُّ مِنَ الْغَزَالِيِّ، وَأَيْنَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَلِيٍّ؟
وَالْمُوَافِقُونَ لِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ مُحَقِّقِي الْإِشَارَةِ وَغَيْرِهِمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ فَقِيلَ: هِيَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتِ الْحَدَّ، وَقِيلَ: مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَوَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، وَقِيلَ: كُلُّ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ أَيْ لَا لِعَارِضٍ، أَوْ لَا لِسَدِّ ذَرِيعَةٍ، وَضَعَّفُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَأَقْوَالًا أُخْرَى كَثِيرَةً، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْكَبَائِرَ كُلُّ مَا تَوَعَّدَ اللهُ عَلَيْهِ، قِيلَ: فِي الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَقِيلَ: فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ الرَّازِيُّ: إِنَّهَا كُلُّ مَا يُشْعِرُ بِالِاسْتِهَانَةِ بِالدِّينِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَقْبُولٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَالْمُخْتَلِفُونَ فِي تَعْرِيفِهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هُنَاكَ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً، وَأَنَّ تَرْكَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْهَمَ الْكَبَائِرَ لِتُجْتَنَبَ كُلُّ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا أَوْ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا اللهُ عَنْهُ بِتَرْكِ الْكَبَائِرِ، فَالِاحْتِيَاطُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْتَنِبَهَا، وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ
بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ وَالْقَوْلِ بِأَنَّ مِنْهَا صَغَائِرَ مُبْهَمَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَهِيَ لَا تُعْلَمُ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ، فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَهُ الزَّوَاجِرَ مَنْ شَاءَ.
41
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْمَعْصِيَةَ إِلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَأَرَادُوا بِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرَ لَمْ يَفْهَمُوا الْآيَةَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤٥: ٢١)، فَجُعِلَ أَهْلُ السَّيِّئَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ الْمُفْسِدُونَ، وَقَالَ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ (٤: ١٨)، الْآيَةَ، وَمَا الْعَهْدُ بِتَفْسِيرِهَا بِبَعِيدٍ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ السَّيِّئَاتِ فِيهَا عَلَى الصَّغَائِرِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ فِي كُلِّ سَيِّئَةٍ، وَفِي كُلِّ نَهْيٍ خَاطَبَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ، وَصَغِيرَةً أَوْ صَغَائِرَ، وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ فِي كُلِّ ذَنْبٍ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَاحْتِرَامِ التَّكْلِيفِ وَمِنْهُ الْإِصْرَارُ، فَإِنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الذَّنْبِ لَا يَكُونُ مُحْتَرِمًا وَلَا مُبَالِيًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ أَيِ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا كُلُّ شَيْءٍ تُنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ أَيْ: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ صَغِيرَهُ فَلَا نُؤَاخِذْكُمْ عَلَيْهِ، فَإِضَافَةُ السَّيِّئَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ ; بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ يَكُونُ كَبِيرَةً مُطْلَقًا عَلَى الدَّوَامِ، وَإِنْ فُعِلَ بِجَهَالَةٍ عَارِضَةٍ وَعَدَمِ اسْتِهَانَةٍ، وَلَا صَغِيرَةَ مُطْلَقًا، وَإِنْ فُعِلَتْ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالنَّهْيِ وَأَصَرَّ الْفَاعِلُ عَلَيْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ قِيلَ لَهُ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟، قَالَ: هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، أَيْ: مَعَ تَوْبَةٍ، فَكُلُّ ذَنْبٍ يُرْتَكَبُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ اسْتِشَاطَةِ غَضَبٍ، أَوْ غَلَبَةِ جُبْنٍ، أَوْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ وَصَاحِبُهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الدِّينِ يَخَافُ اللهَ وَلَا يَسْتَحِلُّ مَحَارِمَهُ فَهُوَ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا اللهُ تَعَالَى، إِذَا كَانَ لَوْلَا ذَلِكَ الْعَارِضُ الْقَاهِرُ لِلنَّفْسِ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِحَهُ تَهَاوُنًا بِالدِّينِ، وَكَانَ بَعْدَ اجْتِرَاحِهِ إِيَّاهُ حَالَ كَوْنِهِ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ يَنْدَمُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَتُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَعْزِمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى اقْتِرَافِ مِثْلِهِ، فَهُوَ بِعَدَمِ إِصْرَارِهِ وَبِاسْتِقْرَارِ هَيْبَةِ اللهِ وَخَوْفِهِ فِي نَفْسِهِ يَكُونُ أَهْلًا لِأَنْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَنْبٍ
يَرْتَكِبُهُ الْإِنْسَانُ ـ مَعَ التَّهَاوُنِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِنَظَرِ اللهِ إِلَيْهِ وَرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ حَيْثُ نَهَاهُ ـ فَهُوَ مَهْمَا كَانَ صَغِيرًا أَيْ: فِي صُورَتِهِ أَوْ ضَرَرِهِ، يُعَدُّ كَبِيرَةً (أَيْ: مِنْ حَيْثُ هُوَ اسْتِهَانَةٌ بِالدِّينِ وَدَاعٍ إِلَى الْإِصْرَارِ وَالِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِهْتَارِ)، وَمِثَالُ ذَلِكَ: تَطْفِيفُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَإِخْسَارُهُمَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (٨٣: ١)، وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَوْ حَبَّةً، وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١٠٤: ١)، أَيِ: الَّذِينَ اعْتَادُوا الْهَمْزَ وَاللَّمْزَ، وَهُمَا عَيْبُ النَّاسِ وَالطَّعْنُ فِي أَعْرَاضِهِمْ، وَالْوَيْلُ: الْهَلَاكُ فَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ تَرْجِيحٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَبَائِرَ بِحَسَبِ قَصْدِ فَاعِلِهَا وَشُعُورِهِ عِنْدَ اقْتِرَافِهَا وَعَقِبَهُ، لَا فِي ذَاتِهَا وَحَسَبِ ضَرَرِهَا، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي إِنْكَارَ تَمَايُزِ الْمَعَاصِي فِي أَنْفُسِهَا، وَكَوْنَ مِنْهَا الصَّغِيرَةُ كَالنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ كَالزِّنَا، وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الرَّجُلِ خَادِمَهُ ضَرْبًا خَفِيفًا بِدُونِ ذَنْبٍ يَقْتَضِي
42
ذَلِكَ يُعَدُّ صَغِيرَةً، وَأَمَّا قَتْلُهُ إِيَّاهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ صَغِيرَةً فِي نَفْسِهِ مَهْمَا كَانَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ مَسْأَلَةَ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَقَاصِدِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَسُلْطَانِهِ فِي الْقَلْبِ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عَنِ الْغَزَالِيِّ نُبَذًا تَدُلُّ عَلَى رَأْيِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ الرَّازِيُّ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مُنْتَخَبَاتِ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فَصْلًا طَوِيلًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، فَقَالَ: فَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَبَائِرَ تَمْتَازُ عَنِ الصَّغَائِرِ بِحَسَبِ ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنْ لِكُلِّ طَاعَةٍ قَدْرًا مِنَ الثَّوَابِ، وَلِكُلِّ مَعْصِيَةٍ قَدْرًا مِنَ الْعِقَابِ، فَإِذَا أَتَى الْإِنْسَانُ بِطَاعَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا ثَوَابًا، ثُمَّ أَتَى بِمَعْصِيَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا عِقَابًا فَهَاهُنَا الْحَالُ بَيْنَ ثَوَابِ الطَّاعَةِ، وَعِقَابِ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَادَلَا وَيَتَسَاوَيَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٤٢: ٧).
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ طَاعَةٍ أَزْيَدَ مِنْ عُقَابِ مَعْصِيَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَيَفْضُلُ مِنَ الثَّوَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ
الْمَعْصِيَةِ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّكْفِيرِ.
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ عِقَابُ مَعْصِيَتِهِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الثَّوَابُ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَفْضُلُ مِنَ الْعِقَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الْكَبِيرَةُ وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِحْبَاطِ ; وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَبَيْنَ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ.
ثُمَّ رَدَّ الرَّازِيُّ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: لَا لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ بَاطِلَةٍ عِنْدَنَا، أَيْ: عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَذَكَرَ مِنْهَا كَوْنَ الطَّاعَةِ تُوجِبُ الثَّوَابَ، وَالْمَعْصِيَةِ تُوجِبُ الْعِقَابَ، وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ، وَبِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ جَزَاءً، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ عِنْدَهُ، لَا أَدْرِي أَنَقَلَ الرَّازِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ بِنَصِّهَا أَمْ بِمَعْنَاهَا، وَلَكِنْ أَقُولُ عَلَى الْحَالَيْنِ: إِنَّ تَوْجِيهَ الرَّجُلِ ذَكَاءَهُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَتَفْنِيدِ أَقْوَالِهِمْ، وَنَصْرِ الْأَشَاعِرَةِ وَتَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ قَدْ شَغَلَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَنِ اسْتِبَانَةِ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسِهَا، فَعِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِإِيجَابِ الطَّاعَةِ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةِ الْعِقَابَ، وَإِنَّمَا حَرَّكَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي خَيَالِهِ ذِكْرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ اسْتِحْقَاقَ الْعَامِلِ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِقَابَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا الِاسْتِحْقَاقُ
43
لَيْسَ بِإِيجَابٍ مِنْ ذِي سُلْطَةٍ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ تَعَالَى، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تَعْلُو تَأْوِيلَ الْمُؤَوِّلِينَ وَجَدَلَ الْمُجَادِلِينَ، وَكَذَلِكَ حُبُوطُ الْأَعْمَالِ بِالْكُفْرِ، وَإِحَاطَةُ الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ فِي الْقُرْآنِ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهَا مِرَاءً ظَاهِرًا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (٩: ١٧)، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ٢: ٨١]، كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٣: ١٤)، عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ هُنَا لَا يُوَضِّحُ مَعْنَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَفِيهِ مَعْنَى تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ.
وَهَذِهِ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ، فَإِذَا زَكَتِ النَّفْسُ بِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ الطَّاعَاتِ فِيهَا عَلَى تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي أَفْلَحَتْ وَارْتَفَعَتْ إِلَى عِلِّيِّينَ، وَإِذَا كَانَ الْعَكْسُ خَسِرَتْ وَحَبِطَ مَا عَمِلَتْ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (٩١: ٩، ١٠)، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ تَكْفِيرَ
الْحَسَنَاتِ وَإِذْهَابَهَا لِلسَّيِّئَاتِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ، وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ يَحْتَاجُ إِلَى إِيضَاحٍ، لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ يُضَادُّ أَثَرَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهَا وَيُكَفِّرَهَا؟
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ مَبَاحِثِ التَّوْبَةِ، وَهُوَ مَا عَنْهُ التَّوْبَةُ، أَيِ الذُّنُوبُ مَا نَصُّهُ: " اجْتِنَابُ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ إِذَا اجْتَنَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنَ امْرَأَةٍ، وَمِنْ مُوَاقَعَتِهَا فَيَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الْوِقَاعِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى نَظَرٍ أَوْ لَمْسٍ، فَإِنَّ مُجَاهَدَةَ نَفْسِهِ بِالْكَفِّ عَنِ الْوِقَاعِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي تَنْوِيرِ قَلْبِهِ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى النَّظَرِ فِي إِظْلَامِهِ، فَهَذَا مَعْنَى تَكْفِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ عِنِّينًا، أَوْ لَمْ يَكُنِ امْتِنَاعُهُ إِلَّا بِالضَّرُورَةِ لِلْعَجْزِ، أَوْ كَانَ قَادِرًا وَلَكِنِ امْتَنَعَ لِخَوْفِ أَمْرٍ آخَرَ، فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّكْفِيرِ أَصْلًا، وَكُلُّ مَنْ لَا يَشْتَهِي الْخَمْرَ بِطَبْعِهِ وَلَوْ أُبِيحَ لَهُ لَمَا شَرِبَهُ فَاجْتِنَابُهُ لَا يُكَفِّرُ عَنْهُ الصَّغَائِرَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ كَسَمَاعِ الْمَلَاهِي وَالْأَوْتَارِ.
نَعَمْ مَنْ يَشْتَهِي الْخَمْرَ وَسَمَاعَ الْأَوْتَارِ فَيُمْسِكُ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهِدَةِ عَنِ الْخَمْرِ وَيُطْلِقُهَا فِي السَّمَاعِ فَمُجَاهَدَتُهُ النَّفْسَ بِالْكَفِّ رُبَّمَا تَمْحُو عَنْ قَلْبِهِ الظُّلْمَةَ الَّتِي ارْتَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةِ السَّمَاعِ.
فَكُلُّ هَذِهِ أَحْكَامٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْضُهَا مَحَلَّ الشَّكِّ، وَتَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَا يُعْرَفُ تَفْصِيلُهَا إِلَّا بِالنَّصِّ، وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ بَعْدُ وَلَا حَدَّ جَامِعٌ، بَلْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَاتٍ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الصَّلَاةُ إِلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِشْرَاكٌ بِاللهِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ " قِيلَ: مَا تَرْكُ السُّنَّةِ؟ قَالَ: الْخُرُوجُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ أَنْ يُبَايِعَ
44
رَجُلًا ثُمَّ يَخْرُجَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ يُقَاتِلُهُ " فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا يُحِيطُ بِالْعَدَدِ كُلِّهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى حَدٍّ جَامِعٍ فَيَبْقَى لَا مَحَالَةَ مُبْهَمًا اهـ.
وَقَالَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي، وَهُوَ تَمَامُ التَّوْبَةِ، وَشُرُوطُهَا، وَدَوَامُهَا:
" وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَيَجِبُ أَنْ يُفَتِّشَ فِي أَوَّلِ بُلُوغِهِ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَبَطْنِهِ وَيَدِهِ
وَفَرْجِهِ وَسَائِرِ جَوَارِحِهِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي جَمِيعِ أَيَّامِهِ وَسَاعَاتِهِ، وَيُفَصِّلَ عِنْدَ نَفْسِهِ دِيوَانَ مَعَاصِيهِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى جَمِيعِهَا صَغَائِرِهَا وَكَبَائِرِهَا، ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهَا فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَظْلَمَةِ الْعِبَادِ كَنَظَرٍ إِلَى غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَقُعُودٍ فِي مَسْجِدٍ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَمَسِّ مُصْحَفٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَاعْتِقَادِ بِدْعَةٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، وَسَمَاعِ مَلَاهٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَظَالِمِ الْعِبَادِ فَالتَّوْبَةُ عَنْهَا بِالنَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَيْهَا، وَبِأَنْ يَحْسِبَ مِقْدَارَهَا مِنْ حَيْثُ الْكِبَرِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمُدَّةِ، وَيَطْلُبَ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ مِنْهَا حَسَنَةً تُنَاسِبُهَا، فَيَأْتِيَ مِنَ الْحَسَنَاتِ بِمِقْدَارِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا بَلْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (١١: ١١٤)، فَيُكَفِّرُ سَمَاعَ الْمَلَاهِي بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَبِمَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَيُكَفِّرُ الْقُعُودَ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ، وَيُكَفِّرُ مَسَّ الْمُصْحَفِ مُحْدِثًا بِإِكْرَامِ الْمُصْحَفِ وَكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَكَثْرَةِ تَقْبِيلِهِ وَبِأَنْ يَكْتُبَ مُصْحَفًا وَيَجْعَلَهُ وَقْفًا، وَيُكَفِّرُ شُرْبَ الْخَمْرِ بِالتَّصَدُّقِ بِشَرَابٍ حَلَالٍ هُوَ أَطْيَبُ مِنْهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ، وَعَدُّ جَمِيعِ الْمَعَاصِي غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمُضَادَّةِ، فَإِنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ فَكُلُّ ظُلْمَةٍ ارْتَفَعَتْ إِلَى الْقَلْبِ لَا يَمْحُوهَا إِلَّا نُورٌ يَرْتَفِعُ إِلَيْهَا بِحَسَنَةٍ تُضَادُّهَا، وَالْمُتَضَادَّاتُ هِيَ الْمُتَنَاسِبَاتُ ; فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُمْحَى كُلُّ سَيِّئَةٍ بِحَسَنَةٍ مِنْ جِنْسِهَا لَكِنْ تُضَادُّهَا، فَإِنَّ السَّوَادَ يُزَالُ بِالْبَيَاضِ لَا بِالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَهَذَا التَّدْرِيجُ وَالتَّحْقِيقُ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي طَرِيقَةِ الْمَحْوِ، فَالرَّجَاءُ فِيهِ أَصْدَقُ، وَالثِّقَةُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُؤَثِّرًا فِي الْمَحْوِ.
فَهَذَا حُكْمُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ يُكَفَّرُ بِضِدِّهِ، وَأَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَأَثَرَ اتِّبَاعِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ السُّرُورُ بِهَا وَالْحَنِينُ إِلَيْهَا، فَلَا جَرَمَ كَانَ كُلُّ أَذًى يُصِيبُ الْمُسْلِمَ يَنْبُو بِسَبَبِهِ قَلْبُهُ عَنِ الدُّنْيَا يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ ; إِذِ الْقَلْبُ يَتَجَافَى بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ عَنْ دَارِ الْهُمُومِ، قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: مِنَ الذُّنُوبِ ذُنُوبٌ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا الْهُمُومُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: إِلَّا الْهَمُّ بِطَلَبِ الْمَعِيشَةِ انْتَهَى الْمُرَادُ هُنَا.
وَلَهُ فِي هَذَا الْمَنْحَى كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَكْفِيرَ
الْحَسَنَاتِ لِلسَّيِّئَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِذْهَابِ أَثَرِهَا السَّيِّئِ مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ الْأُنْسُ بِالْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَالرَّغْبَةُ
45
فِيهِ وَالِاسْتِلْذَاذُ بِهِ، وَأَمَّا تَكْفِيرُ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لِلسَّيِّئَاتِ فَقَدْ بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّ الِاجْتِنَابَ الَّذِي هُوَ تَرْكٌ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ دَاعِيَةِ الْعَمَلِ بِعَمَلِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ الَّتِي تَكُفُّ النَّفْسَ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي حَصَلَتْ دَاعِيَتُهُ، وَمِمَّا أَتَذَكَّرُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ أَوْ بُسْتَانَهُ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ اللهَ وَخَافَهُ فَكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ السَّرِقَةِ وَخَرَجَ، فَإِنَّ هَذَا الْكَفَّ عَنِ الْكَبِيرَةِ يُكَفِّرُ مِنْ نَفْسِهِ دُخُولَ مِلْكِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ ; لِأَنَّ شُعُورَ الْإِيمَانِ الَّذِي تَنَبَّهَ فِيهِ يَكُونُ قَدْ غَلَبَ شُعُورَ الْفِسْقِ الَّذِي حَرَّكَهُ أَوَّلًا لِقَصْدِ السَّرِقَةِ وَمَحَاهُ وَأَزَالَهُ، وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ وَلَا الْعِلْمِ بِرِضَاهُ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الِاسْتِهَانَةَ بِحَقِّهِ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّيِّئَةَ تُقَوِّي فِي نَفْسِهِ أَثَرَ الشَّرِّ وَدَاعِيَةَ التَّعَدِّي وَلَا يُكَفِّرُ ذَلِكَ وَيَمْحُوهُ كَوْنُهُ مُجْتَنِبًا لِشُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا وَإِنِ اجْتَنَبَهُ بِقَصْدٍ مَعَ حُصُولِ دَاعِيَتِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُسَّاقِ يَضُرُّونَ بِبَعْضِ الْمَعَاصِي وَيَجْتَنِبُونَ غَيْرَهَا أَشَدَّ الِاجْتِنَابِ، فَهَلْ يَكُونُ لِهَذَا الِاجْتِنَابِ أَثَرٌ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِهَا مِمَّا ضَرِيَتْ بِهِ وَأَصَرَّتْ عَلَيْهِ؟ بَلْ وَلَا مِمَّا فَعَلَتْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمْ تُتْبِعْهُ بِالنَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَلَكِنْ قَدْ تُكَفِّرُ مِثْلُ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُصْلِحُ النَّفْسَ فِي مَجْمُوعِهَا، وَمَنْ فَهِمَ هَذَا لَا يَرَى إِشْكَالًا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَحَدِيثِ مُسْلِمٍ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مُكَفِّرَةٌ لِمَا بَيْنَهَا مَا اجْتُنِبَ الْكَبَائِرُ وَإِنْ تَخَبَّطَ فِيهِ الْكَثِيرُونَ.
لِكُلِّ مَرَضٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ دَوَاءٌ خَاصٌّ يُزِيلُهُ، وَلَا يُزِيلُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَأَمَّا تَقْوِيَةُ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالْغِذَاءِ الْمُوَافِقِ وَالرِّيَاضَةِ وَاسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ النَّقِيِّ، وَالْبُرُوزِ لِلشَّمْسِ فَإِنَّهُ يُسَاعِدُ عَلَى شِفَاءِ كُلِّ مَرَضٍ إِذَا لَمْ يَكْثُرِ التَّعَرُّضُ لِأَسْبَابِهِ، وَإِنَّ أَدْوَاءَ النَّفْسِ وَأَدْوِيَتَهَا تُشْبِهُ أَمْرَاضَ الْبَدَنِ وَأَدْوِيَتَهَا، وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي حَامِدٍ حَيْثُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُكَفِّرُ الْمَعَاصِيَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْثِلَتُهُ كُلُّهَا مُطَابِقَةً لِقَاعِدَتِهِ، وَحَيْثُ لَمْ يَنْسَ أَنَّ إِصْلَاحَ النَّفْسِ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ قَدْ يُذْهِبُ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ، لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَدَقَّ فَهْمَهُ لِحِكْمَةِ الْقُرْآنِ وَتَطْبِيقَهُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْغَزَالِيِّ مِنْ تَعَدُّدِ مَرَاكِزِ الْإِدْرَاكِ فِي الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ آلَةُ النَّفْسِ، وَكَوْنِ كُلِّ
نَوْعٍ مِنْهَا لَهُ مَرْكَزٌ خَاصٌّ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مُطَّرِدًا فِي أَنْوَاعِ الشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ، وَمَا تَكُونُ الْأَعْمَالُ مِنْ مَلَكَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُعْجَبُ بِمَا أُوتِيَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ قُوَّةِ الذِّهْنِ وَنُفُوذِ أَشِعَّةِ الْفَهْمِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عُنْصُرًا بَسِيطًا كَمَا تَقُولُ فَلَاسِفَةُ الْيُونَانَ بَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ بِالنُّبُوغِ فِي إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْحِسِّيَّةِ، كَمَا حَكَمَ لَهُ بِإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا فَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُ: مُدْخَلًا بِضَمِّ
46
الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الْإِدْخَالِ، أَيْ: وَنُدْخِلُكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الدُّخُولِ، أَيْ: نُدْخِلُكُمْ فَتَدْخُلُونَ مَكَانًا كَرِيمًا، وَوَصَفَ الْمَكَانَ بِالْكَرِيمِ ظَنَّ مَنْ لَا يَرْجِعُ فِي الْمَعَانِي إِلَى أُصُولِ اللُّغَةِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحُسْنِ تَجَوُّزًا وَلَكِنَّ الْعَرَبَ قَالَتْ: أَرْضٌ كَرِيمَةٌ وَأَرْضٌ مُكَرَّمَةٌ: أَيْ طَيِّبَةٌ جَيِّدَةُ النَّبَاتِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦: ٥٧، ٥٨)، وَقَدْ يَكُونُ الْمُدْخَلُ الْكَرِيمُ وَالْمَقَامُ الْكَرِيمُ هُوَ الْمَكَانَ الَّذِي يُكْرَمُ بِهِ مَنْ يَدْخُلُهُ وَيُقِيمُ فِيهِ.
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا: نَهَى أَوَّلًا عَنْ أَكْلِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ أَمْوَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ وَأَوْعَدَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَنَاهِي مَا يُغْفَرُ مِنْهَا وَمَا لَا يُغْفَرُ، ثُمَّ أَرْشَدَنَا بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى قَطْعِ عِرْقِ كُلِّ تَعَدٍّ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهُوَ التَّمَنِّي وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِ كُلٍّ لِمَوَاهِبِهِ فِي الْجِدِّ وَالْكَسْبِ وَكُلُّ مَا يَتَمَنَّاهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ.
وَقَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي ذَلِكَ: وَلَمَّا نَهَى عَنِ الْقَتْلِ، وَعَنِ الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ بِالْفِعْلِ، وَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لِيَصِيرَ الظَّاهِرُ طَاهِرًا عَنِ الْمَعَاصِي الْوَخِيمَةِ نَهَى عَنِ التَّمَنِّي، فَإِنَّ
التَّمَنِّيَ قَدْ يَكُونُ حَسَدًا وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُنَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ وَالرِّضَى بِالْحَرَامِ حَرَامٌ، وَالتَّمَنِّي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُرُّ إِلَى الْأَكْلِ، وَالْأَكْلُ يَقُودُ إِلَى الْقَتْلِ، فَإِنَّ مَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَإِذَا انْتَهَى عَنْ ذَلِكَ كَانَ بَاطِنُهُ طَاهِرًا عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ بِحَسَبِ الطَّرِيقَةِ، لِيَكُونَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ، وَيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَيَرْضَى بِمَا قُسِمَ لَهُ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَمَّا نَهَى اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الطَّمَعِ فِي أَمْوَالِهِمْ.
وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَتْ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللهِ، تَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَةَ، وَالثَّانِيَةُ: عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النِّسَاءَ سَأَلْنَ الْجِهَادَ، فَقُلْنَ: وَدِدْنَا أَنَّ اللهَ جَعَلَ لَنَا الْغَزْوَ فَنُصِيبَ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُصِيبُ الرِّجَالُ، فَنَزَلَتْ، وَالثَّالِثَةُ: عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ قَالَا: لَمَّا نَزَلَ
47
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (٤: ١١)، قَالَ الرِّجَالُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ بِحَسَنَاتِنَا كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ فَيَكُونَ أَجْرُنَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْ أَجْرِ النِّسَاءِ، وَقَالَتِ النِّسَاءُ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا لَنَا الْمِيرَاثُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ نَصِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ الْوَاحِدِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَهِيَ لَا تَتَّفِقُ اتِّفَاقًا بَيِّنًا مَعَ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي بِالْحَسَدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: لَيْتَ مَا أُعْطِيَ فُلَانٌ مِنَ الْمَالِ وَالنِّعْمَةِ وَالْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ كَانَ عِنْدِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حَسَدًا، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: اللهُمَّ أَعْطِنِي مِثْلَهُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سَبَبُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْحَيْرَةُ فِي فَهْمِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَلَّفَ كُلًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَعْمَالًا فَمَا كَانَ خاصًّا بِالرِّجَالِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ النِّسَاءُ، وَمَا كَانَ خَاصًّا بِالنِّسَاءِ لَهُنَّ نَصِيبٌ مِنْ أَجْرِهِ لَا يُشَارِكُهُنَّ
فِيهِ الرِّجَالُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَمَنَّى مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْآخَرِ، وَجَعَلَ الْخِطَابَ عَامًّا لِلْفَرِيقَيْنِ مَعَ أَنَّ الرِّجَالَ لَمْ يَتَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا نِسَاءً وَلَا أَنْ يَعْمَلُوا عَمَلَ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّسَاءُ هُنَّ اللَّوَاتِي تَمَنَّيْنَ عَمَلَ الرِّجَالِ، وَأَيُّ عَمَلِ الرِّجَالِ تَمَنَّيْنَ؟ تَمَنَّيْنَ أَخَصَّ أَعْمَالِ الرُّجُولِيَّةِ وَهُوَ حِمَايَةُ الذِّمَارِ، وَالدِّفَاعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْقُوَّةِ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ عِنَايَةٌ بِالنِّسَاءِ، وَتَلَطُّفٌ بِهِنَّ وَهُوَ مَوْضِعٌ لِلرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ لِضَعْفِهِنَّ وَإِخْلَاصِهِنَّ فِيمَ تَمَنَّيْنَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَلَّا يَظْهَرَ ذَلِكَ التَّمَنِّي النَّاشِئُ عَنِ الْحَيَاةِ الْمِلِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، فَإِنَّ تَمَنِّيَ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ غَرِيبٌ مِنَ النِّسَاءِ جِدًّا ; وَسَبَبُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ فِي عُنْفُوَانِ حَيَاتِهَا يَكُونُ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ فِيهَا مُشْتَرِكِينَ مَعَ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفِي آثَارِهَا، وَإِنَّهَا لَتَسْرِي فِيهَا سَرَيَانًا عَجِيبًا وَمَنْ عَرَفَ تَارِيخَ الْإِسْلَامِ وَنَهْضَةَ الْعَرَبِ بِهِ وَسِيرَةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ فِي زَمَنِهِ يَرَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَسِرْنَ مَعَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ مَنْقَبَةٍ وَكُلِّ عَمَلٍ، فَقَدْ كُنَّ يَأْتِينَ وَيُبَايِعْنَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِلْكَ الْمُبَايَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي (سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ)، كَمَا كَانَ يُبَايِعُهُ الرِّجَالُ، وَكُنَّ يَنْفِرْنَ مَعَهُمْ إِذَا نَفَرُوا لِلْقِتَالِ، يَخْدُمْنَ الْجَرْحَى وَيَأْتِينَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْتَصَّ النِّسَاءُ بِأَعْمَالِ الْبُيُوتِ، وَالرِّجَالُ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي فِي خَارِجِهَا لِيُتْقِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَلَهُ، وَيَقُومَ بِهِ كَمَا يَجِبُ مَعَ الْإِخْلَاصِ لَهُ، وَتَنْكِيرُ لَفْظِ نَصِيبٌ، لِإِفَادَةِ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْأَجْرُ عَلَى مَا عُمِلَ بِالْإِخْلَاصِ، أَيْ: فَفِي الْكَلَامِ حَثٌّ ضِمْنِيٌّ عَلَيْهِ ـ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ: لِيَسْأَلْهُ كُلٌّ مِنْكُمُ الْإِعَانَةَ وَالْقُوَّةَ عَلَى مَا نِيطَ بِهِ؛ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنَّ يَتَمَنَّى مَا نِيطَ بِالْآخَرِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ تَمَنِّي كُلِّ مَا هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْخِلْقِيَّةِ كَالْجَمَالِ وَالْعَقْلِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَمَنِّيهَا لِمَنْ لَمْ يُعْطَهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَقَعُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ إِذْ يُحْمَدُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَا نَالَ الْآخَرُ وَيَتَمَنَّى لِنَفَسِهِ مِثْلَهُ وَخَيْرًا مِنْهُ بِالسَّعْيِ وَالْجِدِّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَجِّهُوا
48
أَنْظَارَكُمْ إِلَى مَا يَقَعُ تَحْتَ كَسْبِكُمْ وَلَا تُوَجِّهُوهَا إِلَى مَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكُمْ؛ فَإِنَّمَا الْفَضْلُ بِالْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ فَلَا تَتَمَنَّوْا شَيْئًا بِغَيْرِ كَسْبِكُمْ وَعَمَلِكُمْ اهـ.
أَقُولُ: قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: التَّمَنِّي تَشَهِّي حُصُولِ الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ وَحَدِيثُ
النَّفْسِ بِمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَمَنَّيْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَصِيرَ إِلَيَّ اهـ.
وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ التَّمَنِّيَ لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّ الِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ مُشْكِلًا، وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا الظَّنَّ مَنْ يُتْبِعُ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَيُسْلِسُ لِخَوَاطِرِهَا الْعِنَانَ، بَلْ يُلْقِي مِنْ يَدِهِ الْعِنَانَ وَاللِّجَامَ، حَتَّى تَكُونَ الْأَمَانِيُّ مِنْهُ كَالْأَحْلَامِ مِنَ النَّائِمِ لَا يَمْلِكُ دَفْعَهَا إِذَا أَتَتْ، وَلَا رَدَّهَا إِذَا غَرَبَتْ، وَشَأْنُ قُوَى الْإِرَادَةِ غَيْرُ هَذَا، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ عَزَائِمَ قَوِيَّةٍ، فَهُوَ يُرْشِدُهُمْ بِهَذَا النَّهْيِ إِلَى تَحْكِيمِ الْإِرَادَةِ فِي خَوَاطِرِهِمُ الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِهَا أَنْفُسُهُمْ، لِتَصْرِفَهَا عَنِ الْجَوَلَانِ فِيمَا هُوَ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا يَصْرِفُونَ أَجْسَامَهُمْ أَنَّ تَجُولَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَتَوَجُّهِهَا فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ وَأَشْرَفُ كَالتَّفَكُّرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْخَلْقِ، وَلَا سِيَّمَا سُنَنُهُ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَفِّفُ عَنِ النَّفْسِ مَا تَحْمِلُهُ مِنْ أَثْقَالِ الْحَيَاةِ وَتَكَالِيفِهَا.
الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي كُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ غَيْرَهُ عَلَيْهِ يَتَضَمَّنُ مِنَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِانْتِهَاءُ وَهُوَ أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) الْعَمَلُ النَّافِعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ الْفَائِدَةُ تَامَّةً مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْإِتْقَانِ، وَلَا يَشْغَلُ النَّفْسَ بِالْأَمَانِي وَالتَّشَهِّي كَالْبِطَالَةِ وَالْكَسْرِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْكَسْبَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي (ثَانِيهِمَا) : تَوْجِيهُ الْفِكْرِ فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْعَمَلِ إِلَى مَا يُغَذِّي الْعَقْلَ وَيُزَكِّي النَّفْسَ، وَيَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَّرْنَاكَ بِهِ آنِفًا وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قُوَّةِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا تَقْوَى الْإِرَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ إِيجَازٌ بَدِيعٌ وَهُوَ يَشْمَلُ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضٍ ; وَمَا فَضَّلَ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضٍ وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ جِنْسَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخُصُوصِيَّةَ فَضْلٌ، أَيْ: زِيَادَةٌ فِي صَاحِبِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضِ النِّسَاءِ، وَمَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ، وَهَذَا الْفَضْلُ أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) : مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَسْبُ وَلَا يُنَالُ بِالْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، وَلَا يُعَابُ الْمَفْضُولُ فِيهِ بِالتَّقْصِيرِ
وَلَا يُمْدَحُ الْفَاضِلُ فِيهِ بِالْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، كَاسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ وَقُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَشَرَفِ النَّسَبِ، فَتَمَنِّي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَزَايَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ سَخَافَةٍ فِي الْعَقْلِ، وَمَهَانَةٍ فِي النَّفْسِ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى مُعَالَجَتِهِ بِالْفَضْلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي بِهِ يَكُونُ التَّفَاضُلُ الْحَقِيقِيُّ بَيْنَ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَحْوِذَ عَلَيْهِ الْأَمَانِيُّ فَتُنْسِيَهُ رَبَّهُ وَمَا أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ مِنْ طُرُقِ الْفَضْلِ، وَتُنْسِيَهُ نَفْسَهُ وَمَا أَوْدَعَتْهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالْقُدْرَةِ
49
عَلَى الْكَسْبِ، ثُمَّ تَحْمِلُهُ آلَامُ تِلْكَ الْأَمَانِيِّ عَلَى الْمَرْكَبِ الصَّعْبِ، وَهُوَ طَاعَةُ الْحَسَدِ بِالْإِيذَاءِ وَالْبَغْيِ، فَيَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ.
(وَمِنْهَا) مَا يُنَالُ بِالْجِدِّ وَالسَّعْيِ كَالْمَالِ وَالْجَاهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ أَوَّلًا بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِبُعْدِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ، كَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِتَمَنِّي هَذَا إِلَّا ضَعِيفُ الْهِمَّةِ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ، جَاهِلٌ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ وَآيَاتِ الْجِدِّ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا فَهُوَ يُرْشِدُهُ إِلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَهُوَ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَيَهْدِيهِ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا أُوتِيهِ مِنَ الْقُوَى فِي تَحْصِيلِ كُلِّ مَا يَرْغَبُ فِيهِ، فَالْجَاهُ الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا يُنَالُ بِالْجِدِّ وَالْكَسْبِ كَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْمَنَاصِبِ وَعَمَلِ الْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ الثَّرْوَةُ الْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تُنَالَ بِالْكَسْبِ وَالسَّعْيِ، وَالْمَوْرُوثُ مِنْهَا قَلَّمَا يَثْبُتُ وَيَنْمُو إِلَّا عِنْدَ الْعَامِلِينَ، وَالَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ كَأَهْلِ أَمْرِيكَا وَإِنْكِلْتِرَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الطَّرِيفِ دُونَ التَّلِيدِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْوَارِثِينَ مِنْهُمْ رَاهَنَ عَلَى كَسْبِ مِقْدَارٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ يُضَاهِي ثَرْوَتَهُ الْمَوْرُوثَةَ بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ، وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا غَيْرَ بَعِيدٍ فَمَا حَلَّ الْأَجَلُ إِلَّا وَذَلِكَ الْمِقْدَارُ الْعَظِيمُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ خَرَجَ مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ حَتَّى ثِيَابِهِ وَابْتَدَأَ عَمَلَهُ الِاسْتِقْلَالِيَّ بِالْخِدْمَةِ فِي الْحَمَّامِ، وَهِمَمُ الرِّجَالِ لَا يَقِفُ أَمَامَهَا شَيْءٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ غَافِلُونَ عَنِ اسْتِعْدَادِهِمْ، يَتَّكِلُونَ عَلَى اجْتِنَاءِ ثَمَرَةِ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ نَبَّهَنَا الْفَاطِرُ جَلَّ صُنْعُهُ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي وَالتَّلَهِّي بِالْبَاطِلِ إِلَى الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ، الَّذِي يُنَالُ بِهِ كُلُّ أَمَلٍ، فَقَالَ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، فَشَرَعَ الْكَسْبَ لِلنِّسَاءِ كَالرِّجَالِ فَأَرْشَدَ كُلًّا مِنْهُمَا إِلَى تَحَرِّي الْفَصْلِ بِالْعَمَلِ دُونَ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، وَحِكْمَةُ اخْتِيَارِ صِيغَةِ الِاكْتِسَابِ عَلَى صِيغَةِ الْكَسْبِ أَنَّ صِيغَةَ الِاكْتِسَابِ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكَلُّفِ، وَهُوَ اللَّائِقُ فِي مَقَامِ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَا تَطْلُبُونَ
مِنَ الْفَضْلِ إِنَّمَا يُنَالُ بِفَضْلِ الْعِنَايَةِ وَالْكُلْفَةِ فِي الْكَسْبِ، لَا بِمَا تُثِيرُهُ الْبِطَالَةُ مِنْ أَمَانِيِّ النَّفْسِ، وَمَا قِيلَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْكَسْبِ فِي الْخَيْرِ وَالِاكْتِسَابِ فِي الشَّرِّ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (٢: ٢٨٦)، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الصِّيغَةِ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا اخْتِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ [رَاجِعْ ١١٨ ج ٢ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَفِي التَّعْبِيرِ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا إِرْشَادٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكَلُّفِ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَكُلِّ مَا يَتَفَاضَلُ فِيهِ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ بِشَرْطِ الْتِزَامِ الْحَقِّ، وَإِرْشَادٌ إِلَى اعْتِمَادِ النَّاسِ فِي مَطَالِبِهِمْ وَرَغَائِبِهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ دُونَ الْكَسَلِ وَالتَّوَاكُلِ، وَاعْتِمَادِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُؤَيِّدَانِ لِذَلِكَ، فَمَا أَجْدَرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً مَثَلًا لِلْمُسْتَقِلِّينَ، فَالْمُسْلِمُ بِمُقْتَضَى إِسْلَامِهِ يَعْتَمِدُ عَلَى مَوَاهِبِهِ، وَقُوَاهُ فِي كُلِّ مَطَالِبِهِ مَعَ الرَّجَاءِ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْإِرْشَادِ إِلَى الِاكْتِسَابِ: وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ: وَمَهْمَا أَصَبْتُمْ بِالْجِدِّ وَالِاكْتِسَابِ فَلَا يُنْسِيَنَّكُمْ ذَلِكَ حَاجَتَكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ
50
الْخَاصِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكُمْ، إِمَّا لِجَهْلِكُمْ بِهِ أَوْ بِطَرْقِهِ وَأَسْبَابِهِ، وَإِمَّا لِعَجْزِكُمْ عَنْهُ، كَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي الزِّرَاعَةِ أَوِ التِّجَارَةِ فَيُدْلِي إِلَيْهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي يَنَالُهَا كَسْبُهُ، وَيَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُتِمَّ فَضْلَهُ بِالْمَطَرِ الَّذِي يَنْمُو بِهِ الزَّرْعُ، وَاعْتِدَالِ الرِّيحِ لِيَسْلَمَ الْفُلْكُ، وَهَذَا مِمَّا يَجْهَلُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْجِزُ عَنْهُ.
وَمِنْ هُنَا تَفْهَمُ حِكْمَةَ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، فَهُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْإِلْهَامِ وَبِآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ كَيْفَ يَطْلُبُ الْمَنَافِعَ وَالْفَضْلَ، وَكُلَّمَا سَأَلَهُ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَالْعَمَلِ زَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَخَزَائِنُ جُودِهِ لَا تَنْفَدُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (١٥: ٢١)، وَلَا يَزَالُ الْعَامِلُونَ يَسْتَزِيدُونَهُ وَلَا يَزَالُ يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَفْضُلُونَ بِهِ الْقَاعِدِينَ الْبَطَّالِينَ، وَقَدْ بَلَغَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفَضْلِ حَدًّا بَعِيدًا جِدًّا ; حَتَّى كَادَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ بَعْضِ الشُّعُوبِ وَبَعْضِهِمُ الْآخَرِ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَبَعْضِ الْإِنْسَانِ.
أَلَا أُذُنٌ تَسْمَعُ وَعَيْنٌ تُبْصِرُ! ! كَيْفَ يَسْتَوْلِي الْعَدَدُ الْقَلِيلُ مِنْ أَهْلِ الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ
عَلَى أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِخِدْمَتِهِمْ كَمَا يُسَخِّرُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ؟ ! أَيُنْكِرُ أَصْحَابُ النُّفُوذِ الصُّورِيِّ وَالنُّفُوذِ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ طَلَبِ فَضْلِ اللهِ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالثَّرْوَةِ وَالسِّيَاسَةِ تَارَةً بِاسْمِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، وَأُخْرَى بِاسْمِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، قَدْ خَرَجَتِ السُّلْطَةُ عَلَيْهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَا هَذَا الْقَلِيلُ بِالَّذِي يَبْقَى لَهُمْ، أَيُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ وَالْعِلْمِ مِثْلُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَوَعَيْنُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَيَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ كَانُوا فَوْقَهُمْ أَيَّامَ كَانُوا هُمْ أَصْحَابَ أَهْلِ الْيَمِينِ، أَيُجِيزُ لَهُمُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا الْفَضْلَ الَّذِي أَصَابُوهُ بِكَسْبِهِمْ أَنْ يُضَيِّعُوهُ، ثُمَّ يُقْنِعُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي؟ ! فَإِلَى مَتَى هَذَا الْجَهْلُ وَهَذَا الْغُرُورُ؟ !
إِنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ فَضْلِ اللهِ فِي الدِّينِ كَمَا حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنَعُوا الِاسْتِقْلَالَ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَأَنْ تَطْلُبَهُ بِلِسَانِ حَالِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا وَلَوْ سَأَلَتْهُ لَأَعْطَاهَا اللهُ إِيَّاهُ، فَنَسْأَلُهُ أَنْ يَنْصُرَهَا عَلَيْهِمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ.
قَدْ قَتَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْحَسَدُ وَالتَّمَنِّي، كُلَّمَا ظَهَرَتْ آيَاتُ النُّبُوغِ فِي الْعِلْمِ، أَوِ الْعَمَلِ فِي رَجُلٍ مِنْهَا قَامَ الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ مَوَاهِبِهِ وَكَسْبِهِ، يُبَدِّلُونَ حَسَنَاتِهِ سَيِّئَاتٍ، وَيَبْغُونَهُ الْفِتَنَ وَيَضَعُونَ لَهُ الْعَثَرَاتِ، يَسْتَكْبِرُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَقِرُونَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَرَوْنَهَا أَهْلًا لِأَنْ تُدْرِكَ مَا أَدْرَكَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُصَغِّرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا اسْتَكْبَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَدْمِغَتِهِمْ، وَيُعَظِّمُونَ بِأَقْوَالِهِمْ
51
مَا يُحَقِّرُونَهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ، يَقُولُونَ: مَا هُوَ فُلَانٌ؟ لَا يَعْلَمُ إِلَّا كَذَا وَكَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الصِّبْيَانُ، وَمَا هِيَ أَعْمَالُهُ الَّتِي تُذْكَرُ لَهُ؟ إِنَّهُ لَيَقْدِرُ عَلَيْهَا كُلُّ النَّاسِ، أَوْ إِنَّهُ يَقْصِدُ بِهَا السُّمْعَةَ وَالرِّيَاءَ، أَوْ ظَاهِرُهَا نَفْعٌ وَبَاطِنُهَا إِيذَاءٌ، وَلَكِنْ مَا بَالُهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا مِنْهُ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ؟، وَلِمَاذَا حَمَّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَنَاءَ الْكَيْدِ لَهُ وَالْمَكْرِ بِهِ؟ أَلَمْ يَرَوْا شَرًّا فِي الْأَرْضِ يَسْعَوْنَ فِي إِزَالَتِهِ إِلَّا عِلْمَهُ النَّاقِصَ، وَعَمَلَهُ النَّافِعَ الَّذِي يَخْشَوْنَ احْتِمَالَ ضَرَرِهِ، أَلَا مُحَاسِبٌ الْحَاسِدُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُسِيئُونَ إِلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُسِيئُونَ إِلَى مَحْسُودِيهِمْ؟ أَلَا يَجِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَصْرِفًا عَنْ نَارِ الْحَسَدِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ، قَبْلَ أَنْ تَأْكُلَ بَقَايَا الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ
وَقَدَرِهِ، وَقِسْمَتِهِ الْفَضْلَ بَيْنَ خَلْقِهِ؟ أَلَا لِلَّهِ دَرُّ التِّهَامِيِّ، حَيْثُ يَقُولُ:
إِنِّي لِأَرْحَمُ حُسَّادِي لِفَرْطِ مَا ضَمَّتْ صُدُورُهُمْ مِنَ الْأَوْغَارِ
نَظَرُوا صَنِيعَ اللهِ بِي فَعُيُونُهُمْ فِي جَنَّةٍ وَقُلُوبُهُمْ فِي النَّارِ
أَلَا وَإِنَّ دُخُولَ النَّارِ فِي الْإِنْسَانِ قَدْ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْ دُخُولِهِ فِي النَّارِ، أَوْ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُهُ عَلَى التَّهَوُّكِ وَالتَّهَافُتِ عَلَى النَّارِ، وَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْحِسْدَةِ الْأَشْرَارِ يَتَمَنَّوْنَ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَ قَوْمِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِثْلُهُ أَوْ مِثْلُ مَا أُوتِيَهُ الْأَقْوَامُ الْآخَرُونَ؟ إِنِّي لَا أَرَى عِلَاجًا لِلْحَاسِدِينَ الْبَاغِينَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا نَشْرَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ فِيهَا حَتَّى يُمَيِّزَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْمُصْلِحِينَ وَالْمُفْسِدِينَ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ لِيَعْلَمُونَ أَنَّ نَشْرَ الْعِلْمِ فِي الْأُمَّةِ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ جَهْلَهُمْ وَسُوءَ حَالِهِمْ، فَهُمْ لَا يَمْقُتُونَ أَحَدًا مَقْتَهُمْ لِمَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ، فَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَهِيَ سَبِيلُ اللهِ، وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا بِمَا يُلَقِّنُونَهُ الْعَامَّةَ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي تُخَدِّرُ أَعْصَابَهَا وَتُبْقِيهَا عَلَى حَالِهَا، وَلَا نَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ.
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا.
وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ جِدًّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْثُ تَفْضِيلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْإِرْثِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِعُمُومِ التَّمَنِّي فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التَّحَاسُدِ وَتَمَنِّي مَا عِنْدَ الْغَيْرِ يَكُونُ فِي الْمَالِ، وَقَلَّمَا يَتَمَنَّى النَّاسُ مَا فَضَلَهُمْ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْجَاهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ الْجَاهَ يَسْتَتْبِعُ الْمَالَ فِي الْغَالِبِ، فَالْعَالِمُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا الْمُعْرِضُ عَنْهَا لَا يَكَادُ يَحْسُدُهُ عَلَى عِلْمِهِ أَحَدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ غَيْرِ الْعِلْمِ كَأَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُظْهِرًا لِجَهْلِ الْأَدْعِيَاءِ وَيَنْقُصُ مِنْ رِزْقِهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ.
52
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ،
ثُمَّ نَهَى عَنْ تَمَنِّي أَحَدِ مَا فَضَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَالِ ; لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَسُوقُ إِلَى التَّعَدِّي وَإِنَّمَا أَوْرَدَ النَّهْيَ عَامًّا لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، وَالسِّيَاقُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّمَنِّي يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ فِي الثَّرْوَةِ وَهِيَ الْكَسْبُ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ الْغَالِبِ هُوَ الْكَسْبُ إِلَى غَيْرِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَقَالَ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ، فَالْمَوَالِي مَنْ لَهُمُ الْوِلَايَةُ عَلَى التَّرِكَةِ، وَ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا تَرَكَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ تَتِمُّ بِقَوْلِهِ: تَرَكَ وَالْمَعْنَى: وَلِكُلٍّ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَهُنَّ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، مَوَالِي لَهُمْ حَقُّ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا يَتْرُكُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمَوَالِي هُمُ: الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي، وَالْأَزْوَاجُ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّفْصِيلُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَالْمُرَادُ هُنَا بِالَّذِينِ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمُ: الْأَزْوَاجُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَصِيرُ زَوْجًا لَهُ حَقُّ الْإِرْثِ بِالْعَقْدِ، وَالْمُتَعَارَفُ عِنْدَ النَّاسِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْيَدَيْنِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ، أَيْ: فَأَعْطُوا هَؤُلَاءِ الْمَوَالِيَ نَصِيبَهُمُ الْمَفْرُوضَ لَهُمْ وَلَا تَنْقُصُوهُمْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَمَّا كَانَ الْمِيرَاثُ مَوْضِعًا لِطَمَعِ بَعْضِ الْوَارِثِينَ ـ أَيْ: وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمُ الْمَالُ لِإِقَامَةِ الْمُورِثِ مَعَهُمْ ـ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ حَاضِرٌ يَشْهَدُ تَصَرُّفَكُمْ فِي التَّرِكَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ الطَّمَعُ وَحَسَدُ بَعْضِكُمْ لِبَعْضِ الْوَارِثِينَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ نَصِيبِهِ شَيْئًا سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا.
أَقُولُ: إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الَّذِي لَا يَعْثُرُ فِيهِ الْفِكْرُ، وَلَا يَكْبُو فِي مَيْدَانِهِ جَوَادُ الذِّهْنِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي الْإِعْرَابِ، وَلَا إِلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، فَأَيْنَ مِنْهُ تِلْكَ الْأَقْوَالُ الْمُتَكَلَّفَةُ الَّتِي انْتَزَعَهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنْ تَنْوِينِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ فَهُوَ هَاهُنَا بَدَلٌ مِنْ مُضَافٍ إِلَيْهِ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَالْمَأْخَذُ الْقَرِيبُ الْمُتَبَادَرُ لِهَذَا الْمُضَافِ إِلَيْهِ هُوَ الْآيَةُ السَّابِقَةُ الَّتِي عُطِفَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَلِكُلٍّ فَاخْتَارَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْحُكْمِ فِي امْتِثَالِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَاخْتَارَ
جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْبُعْدَ فِي التَّقْدِيرِ فَقَدَّرُوا الْمُضَافَ إِلَيْهِ لَفْظَ تَرِكَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَيِّتٍ أَوْ قَوْمٍ، قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: وَلِكُلِّ تَرِكَةٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا يَلُونَهَا وَيَحُوزُونَهَا، مِمَّا تَرَكَ بَيَانٌ لِكُلٍّ مَعَ الْفَصْلِ بِالْعَامِلِ، أَوْ لِكُلِّ مَيِّتٍ جَعَلْنَا وُرَّاثًا مِمَّا تَرَكَ عَلَى أَنَّ مِنْ صِلَةُ مَوَالِي ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَارِثِ وَفِي تَرَكَ ضَمِيرُ كُلٍّ وَالْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ اسْتِئْنَافٌ مُفَسِّرٌ لِلْمَوَالِي وَفِيهِ خُرُوجُ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ الْأَقْرَبُونَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ كَمَا لَا يَتَنَاوَلُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ لِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْنَاهُمْ مَوَالِيَ حَظٌّ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ عَلَى أَنَّ
53
جَعَلْنَا مَوَالِيَ صِفَةُ كُلٍّ، وَالرَّاجِعُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْجُمْلَةُ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ اهـ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْأَوْلَادَ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْأَقْرَبِينَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلِمَاذَا لَمْ يَقُلْ مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (٤: ٧)، إِلَخْ، بَلْ فَسَّرَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمُتَوَارِثِينَ بِالْقَرَابَةِ، وَذَكَرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا وَرَدَ فِي إِرْثِ الْبَنَاتِ وَالزَّوْجَةِ.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ بِمَوَالِي الْمُوَالَاةِ وَرَوَوْا أَنَّ الْحَلِيفَ كَانَ يَرِثُ السُّدُسَ مِنْ مَالِ حَلِيفِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ (٨: ٧٥)، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ، فَجُعِلَ لَهُ السُّدُسُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يُقَسِّمُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ ـ وَذَكَرَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا ـ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذَا بِالْآيَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ بَدْرٍ، وَالْمَوَارِيثُ شُرِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَا لِأَنَّهَا بَعْدَهَا فِي تَرْتِيبِ السُّورَةِ، بَلْ لِأَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَبُنِيَتْ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الْوَارِثِينَ نَصِيبًا يَجِبُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيْهِ تَمَامًا، فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُقَرِّرَةً لِلْإِرْثِ بِالتَّحَالُفِ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَشْرَعْ لِلنَّاسِ الْإِرْثَ بِالتَّحَالُفِ، وَإِنَّمَا أَبْطَلَهُ وَنَسَخَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَتَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ صَحَّ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَلَهُ إِرْثُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ دِيَةُ الْقَتْلِ، وَالَّذِي صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا آخَى فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ أَخَاهُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ جُمْلَةَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ اسْتِئْنَافِيَّةً، وَالْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا، قَالَ: وَالْمَعْنَى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ قَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الَّذِي نَسَخَ هَذَا الْإِرْثَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا (٣٣: ٦)، وَهُوَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، أَمَّا الْمَوَالِي فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فَهُمُ الْوَارِثُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي (١٩: ٥).
هَذَا وَإِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ قَدْ سَبَقَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ عَقْدُ النِّكَاحِ فَهُوَ
54
مُخْتَارٌ لَهُ لَا مُبْتَكَرٌ، وَقَدْ ذُهِلَ مَنْ قَالَ مِنْ نَاقِلِيهِ: إِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مُسْتِدِلًّا بِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ إِضَافَتُهُ إِلَى الْيَمِينِ ; فَإِنَّهُ لَا يُلْتَزَمُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يُوَافِقُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ اسْتِعْمَالٍ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مَعْهُودًا فِي كَلَامِ النَّاسِ قَبْلَهُ لِاسْتِلْزَامِ ذَلِكَ نَفْيَ الِابْتِكَارِ، وَأَنَّ كُلَّ اسْتِعْمَالٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْبَدَاهَةِ، فَكَمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَبْكَارِ الْأَسَالِيبِ الْحِسَانِ، اللَّاتِي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، وَمَا مِنْ بَلِيغٍ إِلَّا وَلَهُ مُخْتَرَعَاتٌ فِي الْبَيَانِ، لَمْ يَسْلُكْ فِجَاجَهَا مِنْ قَبْلِهِ إِنْسَانٌ، وَلِمَاذَا يُسْتَبْعَدُ إِسْنَادُ عَقْدِ النِّكَاحِ إِلَى الْأَيْمَانِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ، كَالْحَلِفِ وَالْبَيْعِ، وَالْمَعْهُودُ فِي جَمِيعِهَا وَضْعُ الْيَمِينِ فِي الْيَمِينِ؟ وَقَدْ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: عَقَدَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ عَاقَدَتْ بِأَلِفِ الْمُفَاعَلَةِ، وَقُرِئَ فِي شَوَاذٍّ: عَقَّدَتْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ.
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا.
لَمَّا نَهَى اللهُ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِمَادِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ عَلَى كَسْبِهِمْ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُؤْتُوا الْوَارِثَ نَصِيبَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَيَانِ ذِكْرُ تَفْضِيلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجِهَادِ كَانَ لِسَائِلٍ هُنَا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَكَانَ جَوَابُ سُؤَالِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَيْ: إِنَّ مِنْ شَأْنِهِمُ الْمَعْرُوفِ الْمَعْهُودِ الْقِيَامَ عَلَى النِّسَاءِ بِالْحِمَايَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ دُونَهُنَّ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحِمَايَةَ لَهُنَّ، وَأَنْ يَكُونَ حَظُّهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ مِنْ حَظِّهِنَّ ; لِأَنَّ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِنَّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ،
55
وَأَعْطَاهُمْ مَا لَمْ يُعْطِهِنَّ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، فَكَانَ التَّفَاوُتُ فِي التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ أَثَرَ التَّفَاوُتِ فِي الْفِطْرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَثَمَّ سَبَبٌ آخَرُ كَسْبِيٌّ يُدَعِّمُ السَّبَبَ الْفِطْرِيَّ، وَهُوَ مَا أَنْفَقَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ; فَإِنَّ الْمُهُورَ تَعْوِيضٌ لِلنِّسَاءِ وَمُكَافَأَةٌ عَلَى دُخُولِهِنَّ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ تَحْتَ رِيَاسَةِ الرِّجَالِ، فَالشَّرِيعَةُ كَرَّمَتِ الْمَرْأَةَ إِذْ فَرَضَتْ لَهَا مُكَافَأَةً عَنْ أَمْرٍ تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ، وَنِظَامُ الْمَعِيشَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا قَيِّمًا عَلَيْهَا، فَجَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَاضَعُ النَّاسُ عَلَيْهَا بِالْعُقُودِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، كَأَنَّ الْمَرْأَةَ تَنَازَلَتْ بِاخْتِيَارِهَا عَنِ الْمُسَاوَاةِ التَّامَّةِ، وَسَمَحَتْ بِأَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَرَضِيَتْ
بِعِوَضٍ مَالِيٍّ عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (٢: ٢٢٨)، فَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ ; لِذَلِكَ كَانَ مِنْ تَكْرِيمِ الْمَرْأَةِ إِعْطَاؤُهَا عِوَضًا وَمُكَافَأَةً فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَجَعَلَهَا بِذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ؛ لِتَكُونَ طَيِّبَةَ النَّفْسِ مُثْلَجَةَ الصَّدْرِ قَرِيرَةَ الْعَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْفِطْرَةَ لَا تُجْبِرُ الْمَرْأَةَ عَلَى قَبُولِ عَقْدٍ يَجْعَلُهَا مَرْءُوسَةً لِلرَّجُلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنَّا نَرَى النِّسَاءَ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ يُعْطِينَ الرِّجَالَ الْمُهُورَ لِيَكُنَّ تَحْتَ رِيَاسَتِهِمْ، فَهَلْ هَذَا إِلَّا بِدَافِعِ الْفِطْرَةِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ عِصْيَانَهُ إِلَّا بَعْضُ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي بَيَانِ حِكْمَةِ تَسْمِيَةِ الْمُهُورِ أُجُورًا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ نَحْوًا مِمَّا تَقَدَّمَ هُنَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ مَنْ عَرَفْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ إِنْفَاقَ الْأَمْوَالِ هُنَا شَامِلًا لِلْمَهْرِ، وَلِمَا يَجِبُ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ الزَّوَاجِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ هُنَا هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْمَرْءُوسُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُوسُ مَقْهُورًا مَسْلُوبَ الْإِرَادَةِ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إِلَّا مَا يُوَجِّهُهُ إِلَيْهِ رَئِيسُهُ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّخْصِ قَيِّمًا عَلَى آخَرَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِرْشَادِهِ وَالْمُرَاقَبَةِ عَلَيْهِ فِي تَنْفِيذِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَيْهِ أَيْ: مُلَاحَظَتُهُ فِي أَعْمَالِهِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَمِنْهَا حِفْظُ الْمَنْزِلِ وَعَدَمُ مُفَارَقَتِهِ وَلَوْ لِنَحْوِ زِيَارَةِ أُولِي الْقُرْبَى إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَأْذَنُ بِهَا الرَّجُلُ وَيَرْضَى، أَقُولُ: وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ النَّفَقَةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلرَّجُلِ، فَهُوَ يُقَدِّرُ لِلْمَرْأَةِ تَقْدِيرًا إِجْمَالِيًّا يَوْمًا يَوْمًا أَوْ شَهْرًا شَهْرًا أَوْ سَنَةً سَنَةً، وَهِيَ تُنَفِّذُ مَا يُقَدِّرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرَى أَنَّهُ يُرْضِيهِ وَيُنَاسِبُهُ حَالُهُ مِنَ السَّعَةِ وَالضِّيقِ.
قَالَ: وَالْمُرَادُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تَفْضِيلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَوْ قَالَ: " بِمَا فَضَّلَهُمْ عَلَيْهِنَّ "، أَوْ قَالَ: " بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَيْهِنَّ " لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَظْهَرَ فِيمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ هِيَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ (٤: ٣٢)، وَهِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مِنْ بَدَنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، فَالرَّجُلُ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ، وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَنِ، (أَقُولُ) : يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْغِيَ بِفَضْلِ قُوَّتِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَثْقِلَ فَضْلَهُ وَتَعُدَّهُ خَافِضًا لِقَدْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا عَارَ
56
عَلَى الشَّخْصِ أَنْ كَانَ رَأْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ يَدِهِ، وَقَلْبُهُ أَشْرَفَ مِنْ
مَعِدَتِهِ مَثَلًا ; فَإِنَّ تَفَضُّلَ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ عَلَى بَعْضٍ بِجَعْلِ بَعْضِهَا رَئِيسًا دُونَ بَعْضٍ ـ إِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ الْبَدَنِ كُلِّهِ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى عُضْوٍ مَا، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَتَثْبُتُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ، كَذَلِكَ مَضَتِ الْحِكْمَةُ فِي فَضْلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْقُوَّةِ، وَلِلْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْحِمَايَةِ، ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَيَسَّرُ لَهَا بِهِ الْقِيَامُ بِوَظِيفَتِهَا الْفِطْرِيَّةِ وَهِيَ الْحَمْلُ وَالْوِلَادَةُ وَتَرْبِيَةُ الْأَطْفَالِ وَهِيَ آمِنَةٌ فِي سِرْبِهَا، مَكْفِيَّةُ مَا يُهِمُّهَا مِنْ أَمْرِ رِزْقِهَا، وَفِي التَّعْبِيرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ لِلْجِنْسِ لَا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ، فَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ تَفْضُلُ زَوْجَهَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بَلْ فِي قُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَمْ يُنَبِّهِ الْأُسْتَاذُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى ظُهُورِهِ مِنَ الْعِبَارَةِ وَتَصْدِيقِ الْوَاقِعِ لَهُ وَإِنِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ ضَعْفَهُ، وَبِهَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَفَادَتْهُمَا الْعِبَارَةُ ظَهَرَ أَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِنَّ التَّعْبِيرَ يَشْمَلُ مَا يَفْضُلُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَمَا يَفْضُلُ بِهِ أَفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْرَادَ جِنْسِهِ وَأَفْرَادَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَلَا تَأْتِي تِلْكَ الصُّوَرُ كُلُّهَا هُنَا، وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْعِبَارَةُ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَاكَ غَيْرُهُ هُنَا، عَلَى أَنَّنَا أَشَرْنَا ثَمَّةَ إِلَى ضَعْفِ صُورَةِ فَضْلِ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ بِمَا هُوَ خَاصٌّ بِهِنَّ مِنَ الْحَمْلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالرِّجَالُ لَا يَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ، وَنَعُودُ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ.
قَالَ: وَمَا بِهِ الْفَضْلُ قِسْمَانِ: فِطْرِيٌّ وَكَسْبِيٌّ، فَالْفِطْرِيُّ: هُوَ أَنَّ مِزَاجَ الرَّجُلِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَجْمَلُ، وَإِنَّكُمْ لَتَجِدُونَ مِنَ الْغَرَابَةِ أَنْ أَقُولَ: إِنَّ الرَّجُلَ أَجْمَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا الْجَمَالُ تَابِعٌ لِتَمَامِ الْخِلْقَةِ وَكَمَالِهَا، وَمَا الْإِنْسَانُ فِي جِسْمِهِ الْحَيِّ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَنِظَامُ الْخِلْقَةِ فِيهَا وَاحِدٌ، وَإِنَّنَا نَرَى ذُكُورَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ أَكْمَلَ وَأَجْمَلَ مِنْ إِنَاثِهَا، كَمَا تَرَوْنَ فِي الدِّيكِ وَالدَّجَاجَةِ، وَالْكَبْشِ وَالنَّعْجَةِ، وَالْأَسَدِ وَاللَّبُؤَةِ، وَمِنْ كَمَالِ خِلْقَةِ الرِّجَالِ وَجَمَالِهَا شَعْرُ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبَيْنِ، وَلِذَلِكَ يُعَدُّ الْأَجْرَدُ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَجِدُ دَوَاءً يُنْبِتُ الشَّعْرَ وَإِنْ كَانَ مِمَّنِ اعْتَادُوا حَلْقَ اللِّحَى، وَيَتْبَعُ قُوَّةَ الْمِزَاجِ وَكَمَالَ الْخِلْقَةِ قُوَّةُ الْعَقْلِ، وَصِحَّةُ النَّظَرِ فِي مَبَادِئِ الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِ الْأَطِبَّاءِ: الْعَقْلُ السَّلِيمُ فِي الْجِسْمِ السَّلِيمِ.
وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الْكَمَالُ فِي الْأَعْمَالِ
الْكَسْبِيَّةِ، فَالرِّجَالُ أَقْدَرُ عَلَى الْكَسْبِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ ; أَيْ: فَلِأَجْلِ هَذَا كَانُوا هُمُ الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَنْ يَحْمُوهُنَّ وَيَقُومُوا بِأَمْرِ الرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ فِي مُجْتَمَعِ الْعَشِيرَةِ الَّتِي يَضُمُّهَا الْمَنْزِلُ ; إِذْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ مِنْ رَئِيسٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَوْحِيدِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، انْتَهَى بِزِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ.
أَقُولُ: وَيَتْبَعُ هَذِهِ الرِّيَاسَةَ جَعْلُ عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي أَيْدِي الرِّجَالِ هُمُ الَّذِينَ يُبْرِمُونَهَا بِرِضَا النِّسَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَحُلُّونَهَا بِالطَّلَاقِ، وَأَوَّلُ مَا يَذْكُرُهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْرُوفِينَ
57
فِي هَذَا التَّفْضِيلِ النُّبُوَّةُ وَالْإِمَامَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، وَإِقَامَةُ الشَّعَائِرِ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْخُطْبَةِ فِي الْجُمْعَةِ، وَغَيْرِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَزَايَا تَابِعَةٌ لِكَمَالِ اسْتِعْدَادِ الرِّجَالِ، وَعَدَمِ الشَّاغِلِ لَهُمَا عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، عَلَى مَا فِي النُّبُوَّةِ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ أَسْبَابَ قِيَامِ الرِّجَالِ عَلَى شُئُونِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ هُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ اخْتِصَاصٌ لَا يُبْنَى عَلَيْهَا مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُبْنَى عَلَيْهَا أَنَّ كَلَّ رَجُلٍ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا رِجَالًا، وَأَمَّا الْإِمَامَةُ وَالْخُطْبَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا ذَكَرُوهُ ; فَإِنَّمَا كَانَ لِلرِّجَالِ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُمَيِّزُوا بِكُلِّ حُكْمٍ، وَلَوْ جَعَلَ الشَّرْعُ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْطُبْنَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ، وَيُؤَذِّنَّ وَيُقِمْنَ الصَّلَاةَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ قَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ يَغْفُلُونَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي تَعْلِيلِ حِكْمَةِ أَحْكَامِ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَيَلْتَمِسُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَحْكَامٍ أُخْرَى.
قَالَ تَعَالَى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَنْزِلِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ الْمَرْأَةُ فِيهَا تَحْتَ رِيَاسَةِ الرَّجُلِ، ذُكِرَ أَنَّهُنَّ فِيهَا قِسْمَانِ: صَالِحَاتٌ وَغَيْرُ صَالِحَاتٍ، وَأَنَّ مِنْ صِفَةِ الصَّالِحَاتِ الْقُنُوتَ، وَهُوَ السُّكُونُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا لِأَزْوَاجِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَحِفْظِ الْغَيْبِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَتَادَةُ: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ يَحْفَظْنَ فِي غَيْبَةِ الْأَزْوَاجِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا
غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا وَقَرَأَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْآيَةَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَيْبُ هُنَا هُوَ مَا يُسْتَحْيَا مِنْ إِظْهَارِهِ، أَيْ: حَافِظَاتٌ لِكُلِّ مَا هُوَ خَاصٌّ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالزَّوْجَيْنِ، فَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْهُنَّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا هُوَ خَاصٌّ بِالزَّوْجِ.
أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ هَذَا وُجُوبُ كِتْمَانِ مَا يَكُونُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ فِي الْخَلْوَةِ، وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ الرَّفَثِ، فَمَا بَالُكَ بِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ أَبْلَغُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَقَائِقِ كِنَايَاتِ النَّزَاهَةِ، تَقْرَؤُهَا خَرَائِدُ الْعَذَارَى جَهْرًا، وَيَفْهَمْنَ مَا تُومِئُ إِلَيْهِ مِمَّا يَكُونُ سِرًّا، وَهُنَّ عَلَى بُعْدٍ مِنْ خَطَرَاتِ الْخَجَلِ أَنْ تَمَسَّ وِجْدَانَهُنَّ الرَّقِيقَ بِأَطْرَافِ أَنَامِلِهَا، فَلِقُلُوبِهِنَّ الْأَمَانُ مِنْ تِلْكَ الْخَلَجَاتِ الَّتِي تَدْفَعُ الدَّمَ إِلَى الْوَجَنَاتِ، نَاهِيكَ بِوَصْلِ حِفْظِ الْغَيْبِ.
بِمَا حَفِظَ اللهُ فَالِانْتِقَالُ السَّرِيعُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْغَيْبِ الْخَفِيِّ إِلَى ذِكْرِ اللهِ الْجَلِيِّ، يَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ التَّمَادِي فِي التَّفَكُّرِ فِيمَا يَكُونُ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ مِنْ تِلْكَ الْخَفَايَا وَالْأَسْرَارِ، وَتَشْغَلُهَا بِمُرَاقَبَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: بِمَا حَفِظَ اللهُ بِمَا حَفِظَهُ لَهُنَّ فِي مُهُورِهِنَّ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ لَهُنَّ، يُرِيدُونَ أَنَّهُنَّ تَحْفَظْنَ حَقَّ الرِّجَالِ فِي غَيْبَتِهِمْ جَزَاءَ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ الْمَحْفُوظَيْنِ
58
لَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا أَرَاكَ إِلَّا ذَاهِبًا مَعِي إِلَى وَهَنِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُزَالِهِ، وَتَكْرِيمِ أُولَئِكَ الصَّالِحَاتِ بِشَهَادَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ حِفْظُهُنَّ لِذَلِكَ الْغَيْبِ مِنْ يَدٍ تَلْمَسُ، أَوْ عَيْنٍ تُبْصِرُ، أَوْ أُذُنٍ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ، مُعَلَّلًا بِدَرَاهِمَ قُبِضْنَ، وَلُقَيْمَاتٍ يُرْتَقَبْنَ، وَلَعَلَّكَ بَعْدَ أَنْ تَمُجَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْبَلُ ذَوْقُكَ مَا قَبِلَهُ ذَوْقِي وَهُوَ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِمَا حَفِظَ اللهُ هِيَ صِنْوُ " بَاءِ " " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ "، وَأَنَّ الْمَعْنَى حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِحِفْظِ اللهِ أَيْ: بِالْحِفْظِ الَّذِي يُؤْتِيهِنَّ اللهُ إِيَّاهُ بِصَلَاحِهِنَّ ; فَإِنَّ الصَّالِحَةَ يَكُونُ لَهَا مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْوَاهُ مَا يَجْعَلُهَا مَحْفُوظَةً مِنَ الْخِيَانَةِ، قَوِيَّةً عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَةِ، أَوْ حَافِظَاتٌ لَهُ بِسَبَبِ أَمْرِ اللهِ بِحِفْظِهِ، فَهُنَّ يُطِعْنَهُ وَيَعْصِينَ الْهَوَى، فَعَسَى أَنْ يَصِلَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى نِسَاءِ عَصْرِنَا اللَّوَاتِي يَتَفَكَّهْنَ بِإِفْشَاءِ أَسْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَا يَحْفَظْنَ الْغَيْبَ فِيهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ شَيْءٌ مِنْ سُلْطَانِ التَّأْدِيبِ، وَإِنَّمَا سُلْطَانُهُمْ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَيَّنَهُ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ النُّشُوزُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ، فَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَخْرُجُ عَنْ حُقُوقِ الرَّجُلِ قَدْ تَرَفَّعَتْ عَلَيْهِ وَحَاوَلَتْ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ رَئِيسِهَا، بَلْ تَرَفَّعَتْ أَيْضًا عَنْ طَبِيعَتِهَا، وَمَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ فِي التَّعَامُلِ، فَتَكُونُ كَالنَّاشِزِ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي خَرَجَ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ خَوْفَ النُّشُوزِ بِتَوَقُّعِهِ فَقَطْ، وَبَعْضُهُمْ بِالْعِلْمِ بِهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ: لِمَ تَرَكَ لَفْظَ الْعِلْمِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ لَفْظَ الْخَوْفِ؟ أَوْ لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَاللَّاتِي يَنْشُزْنَ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ حِكْمَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ الْمَعِيشَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَعِيشَةَ مَحَبَّةٍ وَمَوَدَّةٍ وَتَرَاضٍ وَالْتِئَامٍ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُسْنِدَ النُّشُوزَ إِلَى النِّسَاءِ إِسْنَادًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُنَّ فِعْلًا، بَلْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ تُومِئُ إِلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ الْأَصْلِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ، وَتَطِيبُ بِهِ الْمَعِيشَةُ، فَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ تَنْبِيهٌ لَطِيفٌ إِلَى مَكَانَةِ الْمَرْأَةِ، وَمَا هُوَ الْأَوْلَى فِي شَأْنِهَا، وَإِلَى مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنَ السِّيَاسَةِ لَهَا وَحُسْنِ التَّلَطُّفِ فِي مُعَامَلَتِهَا، حَتَّى إِذَا آنَسَ مِنْهَا مَا يَخْشَى أَنْ يُؤَوَّلَ إِلَى التَّرَفُّعِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَعَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَبْدَأَ بِالْوَعْظِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا، وَالْوَعْظُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْأَةِ، فَمِنْهُنَّ مَنْ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا التَّخْوِيفُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِقَابِهِ عَلَى النُّشُوزِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا التَّهْدِيدُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا، كَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْ بَعْضِ الرَّغَائِبِ كَالثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَالْحُلِيِّ، وَالرَّجُلُ الْعَاقِلُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْوَعْظُ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ أَمْرَأَتِهِ، وَأَمَّا الْهَجْرُ: فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْدِيبِ لِمَنْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَيَشُقُّ عَلَيْهَا هَجْرُهُ إِيَّاهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَنْشُزُ لَا تُبَالِي بِهَجْرِ زَوْجِهَا بِمَعْنَى إِعْرَاضِهِ عَنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى وَاهْجُرُوهُنَّ قَيِّدُوهُنَّ مِنْ هَجْرِ الْبَعِيرِ إِذَا شَدَّهُ بِالْهِجَارِ
59
وَهُوَ الْقَيْدُ الَّذِي يُقَيَّدُ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ بِشَيْءٍ، وَمَا هُمْ بِالْوَاقِفِينَ عَلَى أَخْلَاقِ النِّسَاءِ وَطِبَاعِهِنَّ ; فَإِنَّ مِنْهُنَّ مَنْ تُحِبُّ زَوْجَهَا وَيُزَيِّنُ لَهَا الطَّيْشُ وَالرُّعُونَةُ النُّشُوزَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْشُزُ امْتِحَانًا لِزَوْجِهَا لِيَظْهَرَ لَهَا أَوْ لِلنَّاسِ مِقْدَارُ شَغَفِهِ بِهَا وَحِرْصِهِ عَلَى رِضَاهَا، أَقُولُ: وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْشُزُ لِتَحْمِلَ زَوْجَهَا عَلَى إِرْضَائِهَا بِمَا تَطْلُبُ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ يُغْرِيهَا أَهْلُهَا بِالنُّشُوزِ لِمَآرِبَ لَهُمْ.
وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنِ الْهَجْرِ فِي الْمَضَاجِعِ ; لِأَنَّهُ بَدِيهِيٌّ، وَكَمْ تَخَبَّطَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْبَدِيهِيَّاتِ الَّتِي يَفْهَمُهَا الْأُمِّيُّونَ ; فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِأَيِّ عَامِّيٍّ: إِنَّ فُلَانًا يَهْجُرُ امْرَأَتَهُ فِي الْمَضْجَعِ أَوْ فِي مَحَلِّ الِاضْطِجَاعِ، أَوْ فِي الْمَرْقَدِ أَوْ مَحِلِّ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ رَأَوُا الْعِبَارَةَ مَحَلًّا لِاخْتِلَافِ أَفْهَامِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِمَا يُرَادُ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَأَخَلَّ بِمَا قَصَدَ فِي الْكِتَابَةِ مِنَ النَّزَاهَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَعْنَى اهْجُرُوا حُجَرَهُنَّ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ مَبِيتِهِنَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ اهْجُرُوهُنَّ بِسَبَبِ الْمَضَاجِعِ أَيْ: بِسَبَبِ عِصْيَانِهِنَّ إِيَّاكُمْ فِيهَا، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى النُّشُوزِ، فَمَا مَعْنَى جَعْلِهِ هُوَ الْمُرَادَ بِالْعِقَابِ؟ وَقَالَ بَعْضُ مَنْ فَسَّرَ الْهَجْرَ بِالتَّقْيِيدِ بِالْهِجَارِ: قَيِّدُوهُنَّ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا تَمَنَّعْنَ عَنْهُ، وَسَمَّى الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ بِتَفْسِيرِ الثُّقَلَاءِ، وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ هُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ وَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْعِبَارَةُ تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى مَنْعِ مَا جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْنًى لَهَا فَهُوَ يَقُولُ: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا بِهَجْرِ الْمَضْجَعِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْفِرَاشُ، وَلَا بِهَجْرِ الْحُجْرَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الِاضْطِجَاعُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِهَجْرٍ فِي الْفِرَاشِ نَفْسِهِ، وَتَعَمُّدُ هَجْرِ الْفِرَاشِ أَوِ الْحُجْرَةِ زِيَادَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ تَعَالَى، وَرُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْجَفْوَةِ، وَفِي الْهَجْرِ فِي الْمَضْجَعِ نَفْسِهِ مَعْنًى لَا يَتَحَقَّقُ بِهَجْرِ الْمَضْجَعِ، أَوِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ; لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمَضْجَعِ هُوَ الَّذِي يُهَيِّجُ شُعُورَ الزَّوْجِيَّةِ، فَتَسْكُنُ نَفْسُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَيَزُولُ اضْطِرَابُهُمَا الَّذِي أَثَارَتْهُ الْحَوَادِثُ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا هَجَرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَأَعْرَضَ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رُجِيَ أَنْ يَدْعُوَهَا ذَلِكَ الشُّعُورُ وَالسُّكُونُ النَّفْسِيُّ إِلَى سُؤَالِهِ عَنِ السَّبَبِ، وَيَهْبِطُ بِهَا مِنْ نَشَزِ الْمُخَالَفَةِ إِلَى صَفْصَفِ الْمُوَافَقَةِ، وَكَأَنِّي بِالْقَارِئِ وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِي لَمْ يَرَهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ وَلَا الْأَحْيَاءِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ فَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَالتَّبْرِيحُ الْإِيذَاءُ الشَّدِيدُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ ـ تَفْسِيرُهُ بِالضَّرْبِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، أَيْ: كَالضَّرْبِ بِالْيَدِ أَوْ بِقَصَبَةٍ صَغِيرَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ وَفِي امْرَأَتِهِ حَبِيبَةَ
60
بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ فَلَطَمَهَا فَانْطَلَقَ أَبُوهَا مَعَهَا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: أَفْرَشْتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لِتَقْتَصَّ مِنْ زَوْجِهَا "، فَانْصَرَفَتْ مَعَ أَبِيهَا لِتَقْتَصَّ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ارْجِعُوا، هَذَا جِبْرَائِيلُ أَتَانِي وَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَتَلَاهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ: أَرَدْنَا أَمْرًا، وَأَرَادَ اللهُ أَمْرًا، وَالَّذِي أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَى خَيْرٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَامْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ.
يَسْتَكْبِرُ بَعْضُ مُقَلِّدَةِ الْإِفْرِنْجِ فِي آدَابِهِمْ مِنَّا مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ الْمَرْأَةِ النَّاشِزِ، وَلَا يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ تَنْشُزَ وَتَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ، فَتَجْعَلَهُ وَهُوَ رَئِيسُ الْبَيْتِ مَرْءُوسًا بَلْ مُحْتَقَرًا، وَتُصِرُّ عَلَى نُشُوزِهَا حَتَّى لَا تَلِينَ لِوَعْظِهِ وَنُصْحِهِ، وَلَا تُبَالِيَ بِإِعْرَاضِهِ وَهَجْرِهِ، وَلَا أَدْرِي بِمَ يُعَالِجُونَ هَؤُلَاءِ النَّوَاشِزَ؟ وَبِمَ يُشِيرُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ أَوْ يُعَامِلُوهُنَّ بِهِ؟ لَعَلَّهُمْ يَتَخَيَّلُونَ امْرَأَةً ضَعِيفَةً نَحِيفَةً، مُهَذَّبَةً أَدِيبَةً، يَبْغِي عَلَيْهَا رَجُلٌ فَظٌّ غَلِيظٌ، فَيُطْعِمُ سَوْطَهُ مِنْ لَحْمِهَا الْغَرِيضِ، وَيَسْقِيهِ مِنْ دَمِهَا الْعَبِيطِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الضَّرْبِ، وَإِنْ تَجَرَّمَ وَتَجَنَّى عَلَيْهَا وَلَا ذَنْبَ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ غِلَاظِ الْأَكْبَادِ مُتَحَجِّرِي الطِّبَاعِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَأْذَنَ بِمِثْلِ هَذَا الظُّلْمِ أَوْ يَرْضَى بِهِ، إِنَّ مِنَ الرِّجَالِ الْجَعْظَرِيَّ الْجَوَّاظَ الَّذِي يَظْلِمُ الْمَرْأَةَ بِمَحْضِ الْعُدْوَانِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصِيَّةِ أَمْثَالِهِمْ بِالنِّسَاءِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَأْتِي فِي حَقِّهِمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّحْكِيمِ، وَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ الْفَوَارِكَ الْمَنَاشِيصَ الْمُفَسِّلَاتِ اللَّوَاتِي يَمْقُتْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَيَكْفُرْنَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِنَّ، وَيَنْشُزْنَ عَلَيْهِمْ صَلَفًا وَعِنَادًا، وَيُكَلِّفْنَهُمْ مَا لَا
طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَأَيُّ فَسَادٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ إِذَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ التَّقِيِّ الْفَاضِلِ أَنْ يُخَفِّضَ مِنْ صَلَفِ إِحْدَاهِنَّ، وَيُدَهْوِرَهَا مِنْ نَشَزِ غُرُورِهَا بِسِوَاكٍ يَضْرِبُ بِهِ يَدَهَا، أَوْ كَفٍّ يَهْوِي بِهَا عَلَى رَقَبَتِهَا؟ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْإِفْرِنْجِ يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمُ الْعَالِمَاتِ الْمُهَذَّبَاتِ وَالْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ، الْمَائِلَاتِ الْمُمِيلَاتِ، فَعَلَ هَذَا حُكَمَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَمُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ، فَهُوَ ضَرُورَةٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْغَالُونَ فِي تَكْرِيمِ أُولَئِكَ النِّسَاءِ الْمُتَعَلِّمَاتِ، فَكَيْفَ تَسْتَنْكِرُ إِبَاحَتَهُ لِلضَّرُورَةِ فِي دِينٍ عَامٍّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْبَشَرِ؟ !.
61
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ النِّسَاءِ لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الْمُسْتَنْكَرِ فِي الْعَقْلِ أَوِ الْفِطْرَةِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، فَهُوَ أَمْرٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي حَالِ فَسَادِ الْبِيئَةِ وَغَلَبَةِ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ إِذَا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ رُجُوعَ الْمَرْأَةِ عَنْ نُشُوزِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَلَحَتِ الْبِيئَةُ، وَصَارَ النِّسَاءُ يَعْقِلْنَ النَّصِيحَةَ، وَيَسْتَجِبْنَ لِلْوَعْظِ، أَوْ يَزْدَجِرْنَ بِالْهَجْرِ، فَيَجِبُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الضَّرْبِ، فَلِكُلِّ حَالٍ حُكْمٌ يُنَاسِبُهَا فِي الشَّرْعِ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالرِّفْقِ بِالنِّسَاءِ، وَاجْتِنَابِ ظُلْمِهِنَّ، وَإِمْسَاكِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ تَسْرِيحِهِنَّ بِإِحْسَانٍ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنِّسَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
أَقُولُ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ فِي تَقْبِيحِ الضَّرْبِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَيَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ يَضْرِبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا آخِرَهُ؟ يُذَكِّرُ الرَّجُلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ الْخَاصِّ بِامْرَأَتِهِ، وَهُوَ أَقْوَى وَأَحْكَمُ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ يَتَّحِدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ اتِّحَادًا تَامًّا، فَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ صِلَتَهُ بِالْآخَرِ أَقْوَى مِنْ صِلَةِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِبَعْضٍ ـ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْوِحْدَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ كَنَفْسِهِ، مَهِينَةً كَمَهَانَةِ عَبْدِهِ، بِحَيْثُ يَضْرِبُهَا بِسَوْطِهِ أَوْ يَدِهِ؟ حَقًّا إِنَّ الرَّجُلَ الْحَيِيَّ الْكَرِيمَ لَيَتَجَافَى طَبْعُهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْجَفَاءِ، وَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ
يَطْلُبَ مُنْتَهَى الِاتِّحَادِ بِمَنْ أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْإِمَاءِ، فَالْحَدِيثُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَشْنِيعِ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَأَذْكُرُ أَنَّنِي هُدِيتُ إِلَى مَعْنَاهُ الْعَالِي قَبْلَ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى لَفْظِهِ الشَّرِيفِ، فَكُنْتُ كُلَّمَا سَمِعْتُ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ أَقُولُ: يَا لَلَّهِ الْعَجَبُ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعِيشَ عِيشَةَ الْأَزْوَاجِ مَعَ امْرَأَةٍ تُضْرَبُ، تَارَةً يَسْطُو عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ، فَتَكُونُ مِنْهُ كَالشَّاةِ مِنَ الذِّئْبِ، وَتَارَةً يَذِلُّ لَهَا كَالْعَبْدِ طَالِبًا مِنْهَا مُنْتَهَى الْقُرْبِ؟ وَلَكِنْ لَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَطِيبُ لَهُ هَذِهِ الْحَيَاةُ، فَإِذَا لَمْ تُقَدِّرِ امْرَأَتُهُ بِسُوءِ تَرْبِيَتِهَا تَكْرِيمَهُ إِيَّاهَا حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَمْ تَرْجِعْ عَنْ نُشُوزِهَا بِالْوَعْظِ وَالْهُجْرَانِ، فَارَقَهَا بِمَعْرُوفٍ وَسَرَّحَهَا بِإِحْسَانٍ إِلَّا أَنْ يَرْجُوَ صَلَاحَهَا بِالتَّحْكِيمِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَا يَضْرِبُ؛ فَإِنَّ الْأَخْيَارَ لَا يَضْرِبُونَ النِّسَاءَ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كَانَ الرِّجَالُ نُهُوا عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، ثُمَّ شَكُوهُنَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ضَرْبِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ فَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ بِالْحَظْرِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الضَّرْبَ عِلَاجٌ مُرٌّ، قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْخَيِّرُ الْحُرُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَزُولُ مِنَ الْبُيُوتِ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ يَعُمُّ التَّهْذِيبُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ.
62
هَذَا وَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ قَدْ خَصُّوا النُّشُوزَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي يُبِيحُ الضَّرْبَ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِإِزَالَتِهِ بِخِصَالٍ قَلِيلَةٍ، كَعِصْيَانِ الرَّجُلِ فِي الْفِرَاشِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الدَّارِ بِدُونِ عُذْرٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ تَرْكَهَا الزِّينَةَ وَهُوَ يَطْلُبُهَا نُشُوزًا، وَقَالُوا: لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا أَيْضًا عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ كَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّشُوزَ أَعَمُّ فَيَشْمَلُ كُلَّ عِصْيَانٍ سَبَبُهُ التَّرَفُّعُ وَالْإِبَاءُ، وَيُفِيدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَإِنْ أَطْعَنْكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ: إِنْ أَطْعَنْكُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ التَّأْدِيبِيَّةِ فَلَا تَبْغُوا بِتَجَاوُزِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ مِنَ الْوَعْظِ، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ فَلْيَهْجُرْ، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ فَلْيَضْرِبْ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا أَيْضًا يَلْجَأُ إِلَى التَّحْكِيمِ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَانِتَاتِ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِنَّ حَتَّى فِي الْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، فَضْلًا عَنِ الْهَجْرِ وَالضَّرْبِ.
وَأَقُولُ: صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِوُجُوبِ هَذَا التَّرْتِيبِ فِي التَّأْدِيبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاو لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: دَلَّ عَلَى ذَلِكَ السِّيَاقُ وَالْقَرِينَةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذْ لَوْ عُكِسَ كَانَ اسْتِغْنَاءً بِالْأَشَدِّ عَنِ الْأَضْعَفِ، فَلَا يَكُونُ لِهَذَا فَائِدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرْتِيبُ مُسْتَفَادٌ
مِنْ دُخُولِ الْوَاوِ عَلَى أَجْزِئَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ، مُرَتَّبَةٍ عَلَى أَمْرٍ مُدْرَجٍ، فَإِنَّمَا النَّصُّ هُوَ الدَّالُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَمَعْنَى: لَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، لَا تَطْلُبُوا طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إِلَى إِيذَائِهِنَّ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، فَالْبَغْيُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ، أَيْ: فَلَا تَظْلِمُوهُنَّ بِطَرِيقٍ مَا، فَمَتَى اسْتَقَامَ لَكُمُ الظَّاهِرُ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْ مَطَاوِي السَّرَائِرِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا فَإِنَّ سُلْطَانَهُ عَلَيْكُمْ فَوْقَ سُلْطَانِكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَإِذَا بَغَيْتُمْ عَلَيْهِنَّ عَاقَبَكُمْ، وَإِذَا تَجَاوَزْتُمْ عَنْ هَفَوَاتِهِنَّ كَرَمًا وَشَمَمًا تَجَاوَزَ عَنْكُمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَتَى بِهَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَبْغِي عَلَى الْمَرْأَةِ بِمَا يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهَا، وَكَوْنِهِ أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَقْدَرَ، فَذَكَّرَهُ تَعَالَى بِعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لِيَتَّعِظَ وَيَخْشَعَ وَيَتَّقِيَ اللهَ فِيهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ بِظُلْمِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونُوا سَادَةً فِي بُيُوتِهِمْ إِنَّمَا يَلِدُونَ عَبِيدًا لِغَيْرِهِمْ، يَعْنِي أَنَّ أَوْلَادَهُمْ يَتَرَبَّوْنَ عَلَى ذُلِّ الظُّلْمِ فَيَكُونُونَ كَالْعَبِيدِ الْأَذِلَّاءِ لِمَنْ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْمَعِيشَةِ مَعَهُمْ.
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، الْخِلَافُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَكُونُ بِنُشُوزِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَالنُّشُوزُ يُعَالِجُهُ الرَّجُلُ بِأَقْرَبِ التَّأْدِيبَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا مَرَّ سَرْدُهُ، وَحَلَا وِرْدُهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَإِذَا تَمَادَى هُوَ فِي ظُلْمِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ إِنْزَالِهَا عَنْ نُشُوزِهَا، وَخِيفَ أَنْ يَحُولَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا دُونَ إِقَامَتِهِمَا لِحُدُودِ اللهِ تَعَالَى فِي الزَّوْجِيَّةِ، بِإِقَامَةِ أَرْكَانِهَا الثَّلَاثَةِ: السُّكُونُ، وَالْمَوَدَّةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَكَافِلِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ أَنْ يَبْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا عَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِهَا،
63
وَيَجِبُ عَلَى هَذَيْنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُوَجِّهَا إِرَادَتَهُمَا إِلَى إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَتَى صَدَقَتِ الْإِرَادَةُ كَانَ التَّوْفِيقُ الْإِلَهِيُّ رَفِيقَهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَيَجِبُ الْخُضُوعُ لِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ وَالْعَمَلُ بِهِ.
فَخَوْفُ الشِّقَاقِ تَوَقُّعُهُ بِظُهُورِ أَسْبَابِهِ، وَالشِّقَاقُ هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي شِقٍّ أَيْ فِي جَانِبٍ، وَالْحَكَمُ (بِالتَّحْرِيكِ) : مَنْ لَهُ حَقُّ الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ (
فِيكَ الْخَصْمُ وَأَنْتَ
الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ
) وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْخِ الْمُسِنِّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ لِرَوِيَّتِهِ وَتَجْرِبَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِبَعْثِهِمَا إِرْسَالُهُمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ لِيَنْظُرَا فِي شَكْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيَتَعَرَّفَا مَا يُرْجَى أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْتَرْضُوهُمَا بِالتَّحْكِيمِ، وَإِعْطَائِهِمَا حَقَّ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ " وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَمَرَهُمْ عَلِيٌّ أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهَلْهِ، وَرَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِمَا عَلَيَّ بِهِ، وَلِي، وَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ وَاللهِ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَذَا فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا تَفَاسَدَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَرَجُلًا مِثْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ، فَيَنْظُرَانِ أَيُّهُمَا الْمُسِيءُ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمُسِيءَ حَجَبُوا عَنْهُ امْرَأَتَهُ وَقَسَرُوهُ عَلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسِيئَةَ قَسَرُوهَا عَلَى زَوْجِهَا وَمَنَعُوهَا النَّفَقَةَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ أَمْرُهُمَا عَلَى أَنْ يُفَرِّقَا أَوْ يَجْمَعَا فَأَمْرُهُمَا جَائِزٌ، فَإِنْ رَأَيَا أَنْ يَجْمَعَا فَرَضِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَكَرِهَ ذَلِكَ الْآخَرُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الَّذِي رَضِيَ يَرِثُ الَّذِي كَرِهَ، وَلَا يَرِثُ الْكَارِهُ الرَّاضِيَ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلَيْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْحَكَمَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا آخَرَ، وَالنَّصُّ إِنَّمَا هُوَ فِي وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، لِيَجْتَهِدَا فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَهَلْ هُمَا قَاضِيَانِ يُنَفَّذُ حُكْمُهُمَا بِكُلِّ حَالٍ، أَمْ وَكِيلَانِ لَيْسَ لَهُمَا إِلَّا مَا وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِهِ؟ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَاكِمُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يُكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ، أَوْ كُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى مَنْ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهَذَا الْعَمَلِ مِمَّنْ يُمَثِّلُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْحُكَّامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَأَقَارِبُهُمَا، فَإِنْ قَامَ بِهِ الزَّوْجَانِ أَوْ ذَوُو الْقُرْبَى أَوِ الْجِيرَانُ فَذَاكَ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ أَمْرُهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَى فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمَا بِذَلِكَ،
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجِيهٌ، فَالْأَوَّلُ يُكَلِّفُ الْحُكَّامَ مُلَاحَظَةَ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ وَالِاجْتِهَادَ فِي إِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ، وَالثَّانِي يُكَلِّفُ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُلَاحِظَ بَعْضُهُمْ
64
شِئُونَ بَعْضٍ، وَيُعِينَهُ عَلَى مَا تَحْسُنُ بِهِ حَالُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَظِيفَةِ الْحَكَمَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ لَا يَحْكُمَانِ إِلَّا بِمَا وُكِّلَا بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ (وَذَكَرَ مَذْهَبَ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِالِاخْتِصَارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا آنِفًا)، وَقَوْلُهُ: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَلَّا يَدَّخِرَا وُسْعًا فِي الْإِصْلَاحِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ صَحَّتْ إِرَادَتُهُمَا فَالتَّوْفِيقُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْعِنَايَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِحْكَامِ نِظَامِ الْبُيُوتِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَانْظُرُوا كَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ مُقَابِلَ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ التَّفْرِيقُ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ، لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى لَا يُذَكِّرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ، وَلِيُشْعِرَ النُّفُوسَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا التَّحْكِيمَ وَاجِبٌ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَبَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَاشْتَغَلُوا بِالْخِلَافِ فِيهِ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّ عِنَايَتَنَا بِالدِّينِ صَارَتْ مَحْصُورَةً فِي الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ، وَتَعَصُّبِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، مَعَ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَهَا هُمْ أُولَاءِ قَدْ أَهْمَلُوا هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْجَلِيلَةَ لَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَالْبُيُوتُ يَدِبُّ فِيهَا الْفَسَادُ، فَيَفْتِكُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَيَسْرِي مِنَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ.
إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، أَيْ: إِنَّهُ كَانَ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، عَلِيمًا، بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ، خَبِيرًا بِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبِأَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنِّي لَأَكَادُ أُبْصِرُ الْآيَةَ الْحَكِيمَةَ تُومِئُ بِالِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخِلَافِ يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ مِمَّا يُتَعَذَّرُ تَلَافِيهِ، وَهُوَ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ نَاشِئٌ عَنْ سُوءِ التَّفَاهُمِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، لَا عَنْ تَبَايُنٍ فِي الطِّبَاعِ، أَوْ عَدَاوَةٍ رَاسِخَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ الْخَبِيرَيْنِ بِدَخَائِلِ الزَّوْجَيْنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمَا أَنْ يُمَحِّصَا مَا عَلَقَ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي قُلُوبِهِمَا، مَهْمَا حَسُنَتِ النِّيَّةُ وَصَحَّتِ الْإِرَادَةُ.
إِنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَقْوَى رَابِطَةٍ تَرْبُطُ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهِيَ الصِّلَةُ الَّتِي بِهَا يَشْعُرُ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّهُ شَرِيكُ الْآخَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَادِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ،
حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤَاخَذُ بِالْآخَرِ عَلَى دَقَائِقِ خَطِرَاتِ الْحُبِّ، وَخَفَايَا خَلَجَاتِ الْقَلْبِ، يَسْتَشِفُّهَا مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، أَوْ تُوحِيهَا إِلَيْهِ حَرَكَاتُ الْأَجْفَانِ، أَوْ يَسْتَنْبِطُهَا مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، إِذَا لَمْ تُصَرِّحْ بِهَا شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ، فَهُمَا يَتَغَايَرَانِ فِي أَخْفَى مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيَكْتَفِيَانِ بِشَهَادَةِ الظِّنَّةِ وَالْوَهْمِ عَلَيْهِ، فَيُغْرِيهِمَا ذَلِكَ بِالتَّنَازُعِ فِي كُلِّ مَا يُقَصِّرُ فِيهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا، وَمَا أَكْثَرَهَا، وَأَعْسَرَ التَّوَقِّي مِنْهَا، فَكَثِيرًا مَا يُفْضِي التَّنَازُعُ إِلَى التَّقَاطُعِ، وَالتَّغَايُرُ إِلَى التَّدَابُرِ، فَإِنْ تَعَاتَبَا فَجَدَلٌ وَمِرَاءٌ، لَا اسْتِعْتَابَ وَاسْتِرْضَاءَ، حَتَّى يَحُلَّ الْكُرْهُ وَالْبَغْضَاءُ مَحَلَّ الْحُبِّ وَالْهَنَاءِ، لِذَلِكَ يَصِحُّ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ إِنْ كُنْتَ عَلِيمًا بِالْأَخْلَاقِ وَالطَّبْعِ، خَبِيرًا بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي أَرْسَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ هِيَ الْقَاعِدَةُ الثَّابِتَةُ
فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَجَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ الذِّكْرَى مِنَ الْحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ يُرِيدَانِ إِصْلَاحَ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، كَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهَا وَلَا يَنْسَاهَا جَمِيعُ الْأَزْوَاجِ، تِلْكَ الْحِكْمَةُ هِيَ قَوْلُهُ لِلَّتِي صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا لَا تُحِبُّ زَوْجًا: " إِذَا كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ لَا تُحِبُّ أَحَدَنَا فَلَا تُخْبِرْهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَقَلَّ الْبُيُوتِ مَا بُنِيَ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا يَعِيشُ (أَوْ قَالَ يَتَعَاشَرُ) النَّاسُ بِالْحَسَبِ وَالْإِسْلَامِ، أَيْ: إِنَّ حَسَبَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَشَرَفَهُ إِنَّمَا يُحْفَظُ بِحُسْنِ عِشْرَتِهِ لِلْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ يَأْمُرُهُمَا بِأَنْ يَتَعَاشَرَا بِالْمَعْرُوفِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (٤: ١٩).
قَدِ اهْتَدَى الْإِفْرِنْجُ إِلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَبْحَرَ عِلْمُ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عِنْدَهُمْ، فَرَبَّوْا نِسَاءَهُمْ وَرِجَالَهُمْ عَلَى احْتِرَامِ رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى أَنْ يَجْتَهِدَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَعِيشَا بِالْمَحَبَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْعَدَا بِهَا فَلْيَعِيشَا بِالْحَسَبِ، وَهُوَ تَكْرِيمُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، وَمُرَاعَاتُهُ لِشَرَفِهِ، وَقِيَامُهُ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا عُرْفُ أُمَّتِهِمْ، ثُمَّ يَعْذُرُهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّهُ فَلَا يَذْكُرْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ سَعَادَةَ الْمَحَبَّةِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَالِصَةِ قَلَّمَا تَمَتَّعَ بِهَا زَوْجَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمْنِيَةَ كُلِّ الْأَزْوَاجِ، وَإِنَّمَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا الْمَوَدَّةَ الْعَمَلِيَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ بِإِبَاحَةِ الْمُخَالَطَةِ وَالتَّبَرُّجِ قَدْ أَفْرَطُوا فِي إِرْخَاءِ الْعِنَانِ، حَتَّى صَارَ الْأَزْوَاجُ يَتَسَامَحُونَ فِي السِّفَاحِ، أَوِ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ، وَهَذَانِ يَعْصِمُ مَجْمُوعَ أُمَّتِنَا مِنْهُ الْإِسْلَامُ.
وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا.
66
قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مَا نَصُّهُ: وَلَمَّا كَثُرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْوَصَايَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا نَتِيجَةَ التَّقْوَى (كَذَا) الْعَدْلُ وَالْفَضْلُ وَالتَّرْغِيبُ فِي نُوَالِهِ، وَالتَّرْهِيبُ مِنْ نَكَالِهِ، إِلَى أَنْ خَتَمَ ذَلِكَ بِإِرْشَادِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْمُعَامَلَةِ بِالْحُسْنَى، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِمَا هُوَ فِي الذُّرْوَةِ مِنْ حُسْنِ الْخِتَامِ مِنْ صِفَتَيِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى مَا خَتَمَ بِهِ الْآيَةَ الْآمِرَةَ بِالتَّقْوَى مِنَ الْوَصْفِ بِالرَّقِيبِ، اقْتَضَى ذَلِكَ تَكْرِيرَ التَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى الَّتِي افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالْأَمْرِ بِهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ حَتْمًا فَاتَّقُوهُ، عُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى نَحْوِ: وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ (٤: ٣٢)، أَوْ عَلَى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ (٤: ١)، الْخَلْقُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَلْقِ الْمَبْثُوثِينَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي هِيَ الْإِحْسَانُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَالِقِ، وَأَتْبَعَهَا الْإِحْسَانَ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلَائِقِ، فَقَالَ: وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَخْ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ أَبْعَدُ فِي الْعَطْفِ، وَأَحْسَنُ فِي التَّرْتِيبِ وَالْوَصْفِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَانَ خَاصًّا بِنِظَامِ الْقَرَابَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ،
وَحَالِ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْأُمَّةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْخُصُوصِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَنَا عَلَى بَعْضِ الْحُقُوقِ الْعُمُومِيَّةِ، وَهِيَ الْعِنَايَةُ بِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِنَايَةَ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مِنَ النَّاسِ، فَبَدَأَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى، وَعِبَادَتُهُ مِلَاكُ حِفْظِ الْأَحْكَامِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَهِيَ الْخُضُوعُ لَهُ تَعَالَى، وَتَمْكِينُ هَيْبَتِهِ وَخَشْيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ، وَالْخُشُوعُ لِسُلْطَانِهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُقِيمُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَغَيْرَهَا حَتَّى تَصْلُحَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ النِّيَّةُ عِنْدَنَا تَجْعَلُ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ عِبَادَاتٍ، كَالزَّارِعِ لِيُقِيمَ أَمْرَ بَيْتِهِ وَيَعُولَ مَنْ يُمَوِّنُهُ، وَيُفِيضَ مِنْ فَضْلِ كَسْبِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَيُسَاعِدَ عَلَى الْأَعْمَالِ ذَاتِ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، فَعَمَلُهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ يَجْعَلُ حَرْثَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ فَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَاعْبُدُوا اللهَ خَاصَّةً بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ " الْجَلَالُ "، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ كَمَا قُلْنَا تَشْمَلُ التَّوْحِيدَ وَجَمِيعَ مَا يَمُدُّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ.
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ (قَالَ) : اخْتَلَفَ تَعْبِيرُهُمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَالْإِشْرَاكُ بِاللهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ التَّعْطِيلِ بِالْأَوْلَى، أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ الشِّرْكَ هُوَ الْخُضُوعُ لِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ يُرْجَى صَاحِبُهَا وَيُخْشَى مِنْهُ مَا تَعْجِزُ الْمَخْلُوقَاتُ عَنْ مِثْلِهِ، وَهَذِهِ السُّلْطَةُ لَا تَكُونُ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ، وَلَا يُخْشَى سِوَاهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ عَادَةً ; لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِهِ تَعَالَى فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَهُ يُشْرِكُهُ فِيهِ كَانَ مُؤْمِنًا مُشْرِكًا وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٢: ١٠٦)، وَأَمَّا التَّعْطِيلُ فَهُوَ إِنْكَارُ الْأُلُوهِيَّةِ أَلْبَتَّةَ، أَيْ إِنْكَارُ تِلْكَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ كُلِّ قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ، وَفَوْقَ كُلِّ قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ، فَإِذَا نَهَى تَعَالَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ فِيمَا اسْتَأْثَرَ بِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ
67
مِنَ الْهِبَاتِ الَّتِي مَنَحَهَا خَلْقَهُ وَعُرِفَتْ مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمْ، فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ إِنْكَارِ وَجُودِهِ وَجَحْدِ أُلُوهِيَّتِهِ يَكُونُ أَوْلَى.
قَالَ: وَالْإِشْرَاكُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ بَعْضُ ضُرُوبِهِ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ بِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، يُقَرِّبُونَ الْمُتَوَسِّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَيَقْضُونَ الْحَاجَاتِ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُمْ، وَالْآيَاتُ
فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٠: ١٨)، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣٩: ٣).
وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ، فَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْضُهُمْ عَبَدَ أُمَّهُ السَّيِّدَةَ مَرْيَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَقَالَ اللهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩: ٣١)، وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ: أَنَّهُ كَانُوا يَضَعُونَ لَهُمْ أَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَيَتْبَعُونَهُمْ فِيهَا، وَسَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ، (قَالَ) : فَالشِّرْكُ أَنْوَاعٌ وَضُرُوبٌ، أَدْنَاهَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ الْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَهُ، وَأَشَدُّهَا وَأَقْوَاهَا مَا سَمَّاهُ اللهُ دُعَاءً وَاسْتِشْفَاعًا، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِهِمْ إِلَى اللهِ وَتَوْسِيطُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ تَعَالَى، فَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِهَذَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ، فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، وَأَقْوَى مَظَاهِرِهِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا مَعْنَاهُ أَتَمَّ التَّجَلِّي، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْفَعُ مَعَهُ صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا عِبَادَةٌ أُخْرَى.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ قَدْ فَشَا فِي الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، وَأَوْرَدَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ عَنِ الْمُعْتَقِدِينَ الْغَالِينَ فِي الْبَدَوِيِّ " شَيْخِ الْعَرَبِ " وَ " الدُّسُوقِيِّ " وَغَيْرِهِمَا لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَ الِاعْتِذَارَ لَهُمْ لَزَحْزَحَتِهُمْ عَنْ شِرْكٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ إِلَى شِرْكٍ أَقَلَّ مِنْهُ جَلَاءً وَوُضُوحًا، وَلَكِنَّهُ شِرْكٌ ظَاهِرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ الَّذِي وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ، الَّذِي لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهُ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَمِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُؤْمِنُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُحِبُّ أَنْ يُمْدَحَ عَلَيْهِ أَوْ يَتَلَذَّذَ بِالْمَدْحِ عَلَيْهِ (مَثَلًا).
أَقُولُ: ثُمَّ عَقَّبَ الْأَمْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا تَامًّا لَا تُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ،
يُقَالُ: أَحْسَنَ بِهِ وَأَحْسَنَ لَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِذَا تَعَدَّى الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِمَعْنَى الْعَطْفِ، وَعِنْدِي أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْبَاءِ أَبْلَغُ لِإِشْعَارِهَا بِإِلْصَاقِ الْإِحْسَانِ بِمَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ
68
بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْسِنِ، وَالتَّعْدِيَةُ بِـ " إِلَى " تُشْعِرُ بِطَرَفَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ يَصِلُ الْإِحْسَانُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ.
وَالْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَطَبَقَاتِهِمْ، وَإِنَّ الْعَامِّيَّ الْجَاهِلَ لَيَدْرِي كَيْفَ يُحْسِنُ إِلَى وَالِدَيْهِ وَيُرْضِيهِمَا مَا لَا يَدْرِي الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّدَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ جِمَاعَ الْإِحْسَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَقُومَ بِخِدْمَتِهِمَا وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَخْشُنَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمَا، وَأَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ سَعَتِهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَلْقَاهُمَا إِلَّا عَابِسًا مُقَطِّبًا، أَوْ أَدَّى النَّفَقَةَ الَّتِي يَحْتَاجَانِ إِلَيْهَا، وَهُوَ يُظْهِرُ الْفَاقَةَ وَالْقِلَّةَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُحْسِنًا بِهِمَا، فَالتَّعْلِيمُ الْحَرْفِيُّ لَا يُحَدِّدُ الْإِحْسَانَ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، بَلِ الْعُمْدَةُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمَرْءِ وَإِخْلَاصُ قَلْبِهِ فِي تَحَرِّي ذَلِكَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَحَسَبِ فَهْمِهِ، لِأَكْمَلِ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ التَّفْصِيلِيِّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (١٧: ٢٣ - ٢٥)، فَأَنْتَ تَرَى الرَّبَّ الْعَلِيمَ الْحَكِيمَ الرَّحِيمَ قَدْ قَفَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْبَلِيغَةَ الدَّقِيقَةَ بِبَيَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فِي نَفْسِ الْوَلَدِ مِنْ قَصْدِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَأَنَّ التَّقْصِيرَ مَعَ هَذَا مَرْجُوُّ الْغُفْرَانِ، وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَالْغَزَالِيِّ فِي " الْإِحْيَاءِ "، وَابْنِ حَجَرٍ فِي " الزَّوَاجِرِ ".
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِعُمُومِ الْأَفْرَادِ، أَيْ: لِيُحْسِنْ كُلٌّ لِوَالِدَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ بِمَا بَذَلَا مِنَ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ فِي تَرْبِيَتِهِ بِكُلِّ رَحْمَةٍ وَإِخْلَاصٍ، وَقَدْ بَيَّنَتْ كُتُبُ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مَا لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ حُقُوقِ النَّفَقَةِ، وَبَيَّنَتْ كُتُبُ الدِّينِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ، وَالْمُرَادُ بِكُتُبِ الدِّينِ كُتُبُ آدَابِهِ " كَالْإِحْيَاءِ " لِلْغَزَالِيِّ وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْحُقُوقَ كُلَّهَا آيَتَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ـ وَذَكَرَهُمَا وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِمَا قَلِيلًا.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَاهُنَا مَسْأَلَةً مُهِمَّةً، قَلَّمَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَائِنَا بَيَّنَهَا كَمَا يَنْبَغِي، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْوَالِدَيْنِ يَتَعَذَّرُ إِرْضَاؤُهُمَا بِمَا يَسْتَطِيعُهُ أَوْلَادُهُمَا مِنَ الْإِحْسَانِ، بَلْ يُكَلِّفُونَ الْأَوْلَادَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَمَا أَعْجَبَ حِكْمَةَ اللهِ فِي خَلْقِ هَذَا الْإِنْسَانِ، قَلَّمَا تَجْدُ ذَا سُلْطَةٍ لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ فِي سُلْطَتِهِ حَتَّى الْوَالِدَيْنِ عَلَى أَوْلَادِهِمَا، وَهُمَا اللَّذَانِ آتَاهُمُ الْفَاطِرُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ مَا لَمْ يُؤْتِ سِوَاهُمَا، قَدْ تَظْلِمُ الْأُمُّ وَلَدَهَا قَلِيلًا مَغْلُوبَةً لِبَادِرَةِ الْغَضَبِ، أَوْ طَاعَةً لِمَا يَعْرِضُ مِنْ أَسْبَابِ الْهَوَى، كَأَنْ تَتَزَوَّجَ رَجُلًا تُحِبُّهُ وَهُوَ يَكْرَهُ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَكَأَنْ يَقَعَ التَّغَايُرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ امْرَأَةِ وَلَدِهَا، وَتَرَاهُ شَدِيدَ الْحُبِّ لِامْرَأَتِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُغْضِبَهَا لِأَجْلِ مَرْضَاتِهَا هِيَ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ
69
قَلَّمَا تَرْضَى الْأُمُّ بِالْعَدْلِ وَتَعْذُرُ وَلَدَهَا فِي خُضُوعِهِ لِسُلْطَانِ الْحُبِّ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، بَلْ تَأْخُذُهَا عِزَّةُ الْوَالِدِيَّةِ، حَتَّى تَسْتَلَّ مِنْ صَدْرِهَا حَنَانَ الْأُمُومَةِ، وَيَطْغَى فِي نَفْسِهَا سُلْطَانُ اسْتِعْلَائِهَا عَلَى وَلَدِهَا، وَلَا يُرْضِيهَا إِلَّا أَنْ يَهْبِطَ مِنْ جَنَّةِ سَعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِأَجْلِهَا، وَرُبَّمَا تَلْتَمِسُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ زَوْجًا أُخْرَى يَنْفِرُ مِنْهَا طَبْعُهُ، وَمَا حِيلَتُهُ وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُ قَلْبُهُ، كَمَا أَنَّهَا تَظْلِمُهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِيَارِ، وَظُلْمُ الْآبَاءِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ الْأُمَّهَاتِ، وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَيَا وَيْحَ الْوَلَدِ الَّذِي يُصَابُ بِمِثْلِهِمَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَا جَاهِلَيْنِ بَلِيدَيْنِ يَتَعَذَّرُ إِقْنَاعُهُمَا.
وَلَعَلَّكَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ فِي أَخْبَارِ الْبَشَرِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَغْرَبَ مِنْ تَحَكُّمِ الْوَالِدَيْنِ فِي تَزْوِيجِ الْأَوْلَادِ بِمَنْ يَكْرَهُونَ، أَوْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى تَطْلِيقِ مَنْ يُحِبُّونَ، ثَبَتَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ " أَنَّ الثَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا "، فَلَيْسَ لِأَبِيهَا وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَنْ يَعْقِدُوا لَهَا إِلَّا عَلَى مَنْ تَخْتَارُهُ وَتَرْضَاهُ لِنَفْسِهَا ; لِأَنَّهَا لِمُمَارَسَتِهَا الرِّجَالَ تَعْرِفُ مَصْلَحَتَهَا، وَأَنَّ الْبِكْرَ عَلَى حَيَائِهَا وَغَرَارَتِهَا، وَعَدَمِ اخْتِبَارِهَا وَعِلْمِ مَا يَعْلَمُ الْأَبُ الرَّحِيمُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، يَجِبُ أَنْ تُسْتَأْذَنَ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَيُكْتَفَى مِنْ إِذْنِهَا بَصِمَاتِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تُظْهِرِ الرِّضَى بَلْ صَرَّحَتْ بِعَدَمِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْأَبَ وَلِيٌّ مُجْبَرٌ كَالشَّافِعِيَّةِ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ لِابْنَتِهِ بِدُونِ إِذْنِهَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالْمَهْرِ حَالًا، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا خَفِيَّةٌ، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلِيِّ الْعَاقِدِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَهَذَا قَوْلُهُمْ
فِي الْعَذْرَاءِ الْمُخَدَّرَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ أَبِيهِ بِتَزْوِيجِ نَفْسِهِ إِجْمَاعًا وَلَيْسَ لِأَبِيهِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَتَحَكَّمُ الْوَالِدُ فِي وَلَدِهِ بِمَا لَا يَحْكُمُ بِهِ الشَّرْعُ وَلَا تَرْضَى بِهِ الْفِطْرَةُ؟ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ ظُلْمِ الِاسْتِعْلَاءِ الَّذِي يُوهِمُ الرَّجُلَ أَنَّ ابْنَهُ كَعَبْدِهِ، يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مَعَهُ رَأْيٌ، وَلَا اخْتِيَارٌ فِي أَمْرِهِ، لَا فِي حَاضِرِهِ وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ جَاهِلًا بَلِيدًا، وَالْوَلَدُ عَالِمًا رَشِيدًا، وَعَاقِلًا حَكِيمًا؟ وَالْوَيْلُ كُلَّ الْوَيْلِ لِلْوَلَدِ إِذَا كَانَ وَالِدُهُ الْجَهُولُ الظَّلُومُ غَنِيًّا، وَكَانَ هُوَ مُعْوِزًا فَقِيرًا، فَإِنَّ وَالِدَهُ يَدِلُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِسُلْطَتَيْنِ، وَيُحَارِبُهُ بِسِلَاحَيْنِ، لَا يَهُولَنَّكَ أَيُّهَا السَّعِيدُ بِالْأَبَوَيْنِ الرَّحِيمَيْنِ مَا أَذْكُرُ مِنْ ظُلْمِ بَعْضِ الْوَالِدِينَ الْجَاهِلِينَ الْقُسَاةِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا لَا تَعْلَمُ، إِنِّي لَأَعْرِفُ مَا لَا تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَّهَاتِ اللَّوَاتِي تَحَكَّمْنَ فِي أَمْرِ زَوَاجِ بَنَاتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ تَحَكُّمًا كَانَ سَبَبَ الْمَرَضِ الْقَتَّالِ، وَالدَّاءِ الْعُضَالِ، فَالْمَوْتِ الزُّؤَامِ، ثُمَّ نَدِمْنَ نَدَامَةَ الْكَسْعَى وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ، وَلَعَلَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ تَحَكُّمَ الْآبَاءِ فِي ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَضَرُّ، وَأَدْهَى وَأَمَرُّ، عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ.
وَمِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِ الْوَالِدَيْنِ الْجَاهِلَيْنِ لِلْوَلَدِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ: مَنْعُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِ فِي تَرْقِيَةِ نَفْسِهِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى السَّفَرِ وَالتَّرْحَالِ، وَالْأَمْثِلَةُ
70
وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَوَّلُ مَا خَطَرَ فِي بَالِي مِنْهَا عِنْدَ الْكِتَابَةِ الْآنَ اثْنَانِ: شَابٌّ عَاشِقٌ لِلْعِلْمِ كَانَ أَبُوهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ لِيَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي يَنْفِرُ مِنْهَا لِتَوَجُّهِ اسْتِعْدَادِهِ إِلَى الْعِلْمِ، فَفَرَّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى قُطْرٍ آخَرَ، ثُمَّ إِلَى قُطْرٍ آخَرَ، يَرْكَبُ الْأَهْوَالَ، وَيُصَارِعُ أَنْوَاءَ الْبِحَارِ، وَيُعْجِمُ عُودَ الذُّلِّ وَالضُّرِّ، وَيَذُوقُ طُعُومَ الْجُوعِ وَالْفَقْرِ، وَرَجُلٌ دُعِيَ إِلَى دَارٍ خَيْرٍ مِنْ دَارِهِ، وَقَرَارٍ أَشْرَفَ مِنْ قَرَارِهِ، وَرِزْقٍ أَوْسَعَ مِنْ رِزْقِهِ، فِي عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَمَلٍ فِي الْكَمَالِ أَعْلَى مِنْ سَابِقِ أَمَلِهِ، وَرَجَاءٍ فِي ثَوَابِ اللهِ أَعْظَمَ مِنْ رَجَائِهِ، فَاسْتَشْرَفَتْ لَهُ نَفْسُهُ، وَاطْمَأَنَّ بِهِ قَلْبُهُ، وَلَكِنَّ وَالِدَتَهُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ وَيَقْبَلَ النِّعْمَةَ، لَا حُبًّا فِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُمَارِيَ فِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، وَلَكِنْ حُبًّا فِي نَفْسِهَا، وَإِيثَارًا لِلَذَّتِهَا وَأُنْسِهَا، نَعَمْ إِنَّ الْعَجُوزَ أَلِفَتْ بَيْتَهَا وَمَنْ تُعَاشِرُ فِي بَلَدِهَا مِنَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ، فَآثَرَتْ لَذَّةَ الْبِيئَةِ الدُّنْيَا لِنَفْسِهَا، عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْعُلْيَا لِوَلَدِهَا، وَلَعَلَّهُ لَوِ اخْتَارَ الظَّعْنَ
لَاخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ، وَفَضَّلَتْ فِرَاقَهُ عَلَى صُحْبَتِهِ، وَبُعْدَهُ عَلَى قُرْبِهِ، وَنَبَزَتْهُ بِلَقَبِ الْعَاقِّ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تَتَعَدَّ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ، وَوَافَقَهَا الْجُمْهُورُ الْجَاهِلُ عَلَى ذَلِكَ لِبِنَائِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى الْمُسَلَّمَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَوْلَادَ هُمُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى بِرِّ وَالِدَيْهِمْ، وَأَنَّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَخْتَارَانِ لِوَلَدِهِمَا إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ لَهُ، وَأَنَّهُمَا يَتْرُكَانِ كُلَّ حُظُوظِهِمَا وَرَغَائِبِهِمَا لِأَجْلِهِ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ لِهَذَا أَصْلًا صَحِيحًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الدَّائِمَةِ، أَمَّا الْأُمُّ فَذَلِكَ شَأْنُهَا مَعَ الطِّفْلِ إِلَّا مَا تَأْتِي بِهِ بَوَادِرُ الْغَضَبِ مِنْ لَطْمَةٍ خَفِيفَةٍ تَسْبِقُ بِهَا الْيَدُ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ، أَوْ دَعْوَةٍ ضَعِيفَةٍ تُعَدُّ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَلِسَانُ حَالِهَا يُنْشِدُ:
أَدْعُو عَلَيْهِ وَقَلْبِي... يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا لَا
فَإِذَا كَبِرَ وَصَارَ لَهُ رَأْيٌ غَيْرُ رَأْيِهَا، وَهَوًى غَيْرُ هَوَاهَا ـ وَذَلِكَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ـ تَغَيَّرَ شَأْنُهَا مَعَهُ، وَهِيَ أَشَدُّ النَّاسِ حُبًّا لَهُ، فَلَا تُرَجِّحُ رَأْيَهُ وَهَوَاهُ فِي كُلِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، بَلْ لَا تَعْذُرُهُ أَيْضًا فِي كُلِّ مَا يَتْبَعُ فِيهِ وُجْدَانَهُ، وَيُرَجِّحُ فِيهِ اسْتِقْلَالَهُ، وَأَمَّا الْأَبُ فَهُوَ عَلَى فَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِأَمْرِ وَلَدِهِ أَضْعَفُ مِنَ الْأُمِّ حُبًّا وَرَحْمَةً وَإِيثَارًا، وَأَشَدُّ اسْتِنْكَارًا لِاسْتِقْلَالِ وَلَدِهِ دُونَهُ وَاسْتِكْبَارًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْسُو عَلَيْهِ وَيُؤْذِيهِ، وَيَشْمَتُ بِهِ وَيَحْرِمُهُ مِنْ مَالِهِ وَيُؤْثِرُ الْأَجَانِبَ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ الْغَنِيِّ مَعَ وَلَدِهِ الْمُحْتَاجِ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٩٦: ٦، ٧)، وَإِنَّ طُغْيَانَهُ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْفَضْلِ وَالِاسْتِعْلَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لِيَنْتَحِلُّ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَتَسَلَّقُ بِغُرُورِهِ إِلَى ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ: وَقَدْ كُنْتُ أُنْكِرُ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ قَوْلَهُ:
71
وَأَعُدُّهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الشِّعْرِيَّةِ حَتَّى كِدْتُ بَعْدَ إِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ الْأَوْلَادِ وَتَدَبُّرِ مَا أَحْفَظُ مِنَ الْوَقَائِعِ فِي ذَلِكَ، أُجْزِمُ بِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا صَحِيحٌ مُطَّرِدٌ، فَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ غَنِيٍّ قَدِ انْغَمَسَ فِي التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ، وَأَفَاضَ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، وَغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ مَنْ يَعِيشُ فِي الْبُؤْسِ وَالضَّنْكِ، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ وَالِدِهِ لَمَاجٌ وَلَا مُجَاجٌ مِنْ ذَلِكَ الرِّزْقِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَعَبْدِ الرِّقِّ.
إِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ غَافِلُونَ عَنْهُ، فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ وَصَايَا الْوَالِدَيَنِ حُجَّةٌ، عَلَى أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يَعْبَثَا بِاسْتِقْلَالِ الْوَلَدِ مَا شَاءَ هَوَاهُمَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَالِفَ
رَأْيَ وَالِدَيْهِ وَلَا هَوَاهُمَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَالِمًا وَهُمَا جَاهِلَيْنِ بِمَصَالِحِهِ، وَبِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، وَهَذَا الْجَهْلُ الشَّائِعُ مِمَّا يَزِيدُ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ إِغْرَاءً بِالِاسْتِبْدَادِ فِي سِيَاسَتِهِمْ لِلْأَوْلَادِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَقَامَ الْوَالِدِيَّةِ يَقْتَضِي بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ رَأْيُ الْوَلَدِ وَعَقْلُهُ وَفَهْمُهُ دُونَ رَأْيِ وَالِدَيْهِ وَعَقْلِهِمَا وَفَهْمِهِمَا، كَمَا يَحْسَبُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الْمُسْتَبِدُّونَ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ رَعَايَاهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا وَرَأْيًا، أَوْ يَحْسَبُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ رَأْيِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَفِينًا عَلَى رَأْيِ أَوْلَادِهِمْ وَرَعَايَاهُمْ وَإِنْ كَانَ حَكِيمًا.
إِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ الْفَاشِي فِي أُمَّتِنَا فَإِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تُرَبِّي أَوْلَادَهَا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ الشَّخْصِيِّ تَسْتَعْبِدُ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعُوبِنَا خَارِجًا عَنْ مُحِيطِ سُلْطَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ هَذَا الْجَهْلُ.
يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ فِي دِينِ الْفِطْرَةِ هُوَ أَنْ نَكُونَ فِي غَايَةِ الْأَدَبِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ حَتَّى يَكُونَا مَغْبُوطَيْنِ بِنَا، وَأَنْ نَكْفِيَهُمَا أَمْرَ مَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِنَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ سَلْبِ حُرِّيَّتِنَا وَاسْتِقْلَالِنَا فِي شُئُونِنَا الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ، وَلَا فِي أَعْمَالِنَا لِأَنْفُسِنَا وَلِمِلَّتِنَا وَلِدَوْلَتِنَا، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا الِاسْتِبْدَادَ فِي تَصَرُّفِنَا فَلَيْسَ مِنَ الْبِرِّ وَلَا مِنَ الْإِحْسَانِ شَرْعًا أَنْ نَتْرُكَ مَا نَرَى فِيهِ الْخَيْرَ الْعَامَّ أَوِ الْخَاصَّ، أَوْ نَعْمَلَ مَا نَرَى فِيهِ الضُّرَّ الْعَامَّ أَوِ الْخَاصَّ، عَمَلًا بِرَأْيِهِمَا وَاتِّبَاعًا لِهَوَاهُمَا، مَنْ سَافَرَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ، أَوْ خِدْمَةِ دِينِهِ أَوْ دَوْلَتِهِ، أَوْ سَافَرَ لِأَجْلِ عَمَلٍ نَافِعٍ لَهُ أَوْ لِأُمَّتِهِ، وَوَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا غَيْرُ رَاضٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَاقًّا وَلَا مُسِيئًا شَرْعًا وَلَا عَقْلًا، هَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَهُ الْوَالِدُونَ وَالْأَوْلَادُ: الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ لَا يَقْتَضِيَانِ سَلْبَ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ.
أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ أُمَّهَاتُ سَلَفِنَا الْأَمَاجِدِ كَأُمَّهَاتِنَا أَكَانُوا فَتَحُوا الْمَمَالِكَ، وَفَعَلُوا هَاتِيكَ الْعَظَائِمَ؟ كَلَّا، بَلْ كَانَتِ الْأَسِيفَةُ الرَّقِيقَةُ الْقَلْبِ مِنْهُنَّ كَتَمَاضُرَ الْخَنْسَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَدْفَعُ بَنِيهَا الْأَرْبَعَةَ إِلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ بِعِبَارَاتٍ تُشَجِّعُ الْجَبَانَ، بَلْ تُحَرِّكُ الْجَمَادَ، فَقَدَ
72
رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ أَنَّهَا شَهِدَتْ
حَرْبَ الْقَادِسِيَّةِ، وَمَعَهَا أَرْبَعَةُ بَنِينَ لَهَا فَقَالَتْ لَهُمْ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ: يَا بُنِيَّ إِنَّكُمْ أَسْلَمْتُمْ طَائِعِينَ، وَهَاجَرْتُمْ مُخْتَارِينَ، وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَبَنُو رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّكُمْ بَنُو امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، مَا خُنْتُ أَبَاكُمْ، وَلَا فَضَحْتُ خَالَكُمْ، وَلَا هَجَّنْتُ حَسَبَكُمْ، وَلَا غَيَّرْتُ نَسَبَكُمْ، وَقَدْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي حَرْبِ الْكَافِرِينَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدَّارَ الْبَاقِيَةَ خَيْرٌ مِنَ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣: ٢٠٠)، فَإِذَا أَصْبَحْتُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ سَالِمِينَ، فَاغْدُوا إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ مُسْتَبْصِرِينَ، وَبِاللهِ عَلَى أَعْدَائِهِ مُسْتَنْصِرِينَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْحَرْبَ قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا، وَاضْطَرَمَتْ لَظًى عَلَى سِبَاقِهَا، وَجَلَّلَتْ نَارًا عَلَى أَرْوَاقِهَا، فَيَمِّمُوا وَطِيسَهَا، وَجَالِدُوا رَئِيسَهَا عِنْدَ احْتِدَامِ خَمِيسِهَا، تَظْفَرُوا بِالْغُنْمِ، وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالْمُقَامَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْقِتَالُ فِي الْغَدِ كَانَ يَهْجُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَقُولُ شِعْرًا يَذْكُرُ فِيهِ وَصِيَّةَ الْعَجُوزِ وَيُقَاتِلُ حَتَّى يُقْتَلَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا خَبَرُ قَتْلِهِمْ كُلِّهِمْ قَالَتِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَّفَنِي بِقَتْلِهِمْ، وَأَرْجُو رَبِّي أَنْ يَجْمَعَنِي بِهِمْ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَرْوِيَ لَكَ مِثْلَ خَبَرِهَا عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهَا لَفَعَلْتُ، أَفَتَرَى هَذِهِ الْأُمَّةَ تَعْتَبِرُ الْيَوْمَ بِسِيرَةِ سَلَفِهَا، وَهِيَ لَمْ تَعْتَبِرْ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَأَمَامَ عَيْنَيْهَا، وَمَا يُتْلَى كُلَّ يَوْمٍ عَلَيْهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ دُونَهَا فِي الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ، وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ، فَأَصْبَحَتْ مِنْهَا فِي مَوْقِعِ النَّجْمِ، تُشْرِفُ عَلَيْهَا مِنْ سَمَاءِ الْعَظَمَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ كُلِّهِ الِاسْتِقْلَالُ الشَّخْصِيُّ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ ; فَإِنَّ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ مُتَّفِقُونَ فِيهَا عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِدَارَةِ فِي الْعَمَلِ، فَقُرَّةُ أَعْيُنِهِمْ أَنْ يَعْمَلَ أَوْلَادُهُمْ بِإِرَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْخَيْرُ لَهُمْ وَلِقَوْمِهِمْ.
وَإِنَّمَا قُرَّةُ أَعْيُنِ أَكْثَرِ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا أَنْ نُدْرِكَ بِعُقُولِهِمْ لَا بِعُقُولِنَا، وَنُحِبَّ وَنُبْغِضَ بِقُلُوبِهِمْ لَا بِقُلُوبِنَا، وَنَعْمَلَ أَعْمَالَنَا بِإِرَادَتِهِمْ لَا بِإِرَادَتِنَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ لَنَا وُجُودٌ مُسْتَقِلٌّ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِنَا، فَهَلْ تُخْرِجُ هَذِهِ التَّرْبِيَةُ الِاسْتِبْدَادِيَّةُ الْجَائِرَةُ أُمَّةً عَزِيزَةً عَادِلَةً، مُسْتَقِلَّةً فِي أَعْمَالِهَا، وَفِي سِيَاسَتِهَا وَأَحْكَامِهَا؟ أَمِ الْبُيُوتُ هِيَ الَّتِي تُغْرَسُ فِيهَا شَجَرَةُ الِاسْتِبْدَادِ الْخَبِيثَةُ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ، فَيَجْنُونَ ثَمَرَاتِهَا الدَّانِيَةَ
نَاعِمِينَ آمِنِينَ؟ فَعَلَيْكُمْ يَا عُلَمَاءَ الدِّينِ وَالْأَدَبِ أَنْ تُبَيِّنُوا لِأُمَّتِكُمْ فِي الْمَدَارِسِ وَالْمَجَالِسِ حُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَحُقُوقَ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَحُقُوقَ الْأُمَّةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا تَنْسَوْا قَاعِدَتَيِ الْحَرِيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، فَهُمَا الْأَسَاسُ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ بِنَاءُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ عُلَمَاءَ الشُّعُوبِ الشَّمَالِيَّةِ الَّتِي سَادَتْ فِي
73
هَذَا الْعَصْرِ عَلَيْنَا، يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ أَخَذُوا هَاتَيْنِ الْمَزِيَّتَيْنِ ـ اسْتِقْلَالَ الْفِكْرِ وَالْإِرَادَةِ ـ عَنَّا وَأَقَامُوا بِنَاءَ مَدَنِيَّتِهِمْ عَلَيْهِمَا، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ مِنَّا: " لَاعِبْ وَلَدَكَ سَبْعًا وَأَدِّبْهِ سَبْعًا، وَصَاحِبْهُ سَبْعًا، ثُمَّ اجْعَلْ حَبْلَهُ عَلَى غَارِبِهِ " وَسَنَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: وَبِذِي الْقُرْبَى أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِمُعَامَلَةِ ذِي الْقُرْبَى وَهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ الَّذِينَ يَلُونَهُمَا فِي الْحُقُوقِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى (٢: ٨٣)، إِلَخْ، فَأُعِيدَ الْجَارُّ هُنَا وَلَمْ يُعَدْ هُنَاكَ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: النُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذِي الْقُرْبَى مُؤَكَّدَةٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ زِيَادَةً عَنْ تَأْكِيدِهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ إِعَادَةَ الْجَارِّ لِلتَّأْكِيدِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِعَادَةُ الْجَارِّ لِإِفَادَةِ التَّنْوِيعِ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ غَيْرُ الْإِحْسَانِ بِالْأَقْرَبِينَ، إِذْ يَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ مِنَ الرِّعَايَةِ وَالتَّكْرِيمِ وَالْخُضُوعِ مَا لَا يَجِبُ لِغَيْرِهِمَا، وَمَتَى ارْتَقَتِ الشَّرَائِعُ بِارْتِقَاءِ الْأُمَّةِ حَسُنَ فِيهَا مِثْلُ هَذَا التَّحْدِيدِ وَالتَّدْقِيقِ فِي الْحُدُودِ وَالْوَاجِبَاتِ لِاسْتِعْدَادِ الْأُمَّةِ لَهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا قَامَ الْإِنْسَانُ بِحُقُوقِ اللهِ تَعَالَى فَصَحَّتْ عَقِيدَتُهُ وَصَلَحَتْ أَعْمَالُهُ، وَقَامَ بِحُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ فَصَلَحَ حَالُهُمَا وَحَالُهُ، تَتَكَوَّنُ بِذَلِكَ وَحْدَةُ الْبُيُوتِ الصَّغِيرَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالْأَوْلَادِ، وَبِصَلَاحِ هَذَا الْبَيْتِ الصَّغِيرِ يَحْدُثُ لَهُ قُوَّةٌ، فَإِذَا عَاوَنَ أَهْلُهُ الْبُيُوتَ الْأُخْرَى الَّتِي إِلَى هَذَا الْبَيْتِ بِالْقَرَابَةِ وَعَاوَنَتْهُ هِيَ أَيْضًا يَكُونُ لِكُلٍّ مِنَ الْبُيُوتِ الْمُتَعَاوِنَةِ قُوَّةٌ كُبْرَى يُمْكِنُهُ أَنْ يُحْسِنَ بِهَا إِلَى الْمُحْتَاجِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ بُيُوتٌ تَكْفِيهِمْ مُؤْنَةَ الْحَاجَةِ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ لَا يَجْمَعُهُمْ بِهِمُ النَّسَبُ،
وَهُمُ الَّذِينَ عَطَفَهُمْ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى بِقَوْلِهِ: وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُوصِي بِالْيَتَامَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ ; لِأَنَّ الْيَتِيمَ يُهْمَلُ أَمْرُهُ بِفَقْدِهِ النَّاصِرَ الْقَوِيَّ الْغَيُورَ وَهُوَ الْأَبُ، أَوْ تَكُونُ تَرْبِيَتُهُ نَاقِصَةً بِالْجَهْلِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْعَقْلِ، أَوْ فَسَادُ الْأَخْلَاقِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ بِجَهْلِهِ وَفَسَادِ أَخْلَاقِهِ يَكُونُ شَرًّا عَلَى أَوْلَادِ النَّاسِ يُعَاشِرُهُمْ فَيَسْرِي إِلَيْهِمْ فَسَادُهُ، وَقَلَّمَا تَسْتَطِيعُ الْأُمُّ أَنْ تُرَبِّيَ الْوَلَدَ تَرْبِيَةً كَامِلَةً مَهْمَا اتَّسَعَتْ مَعَارِفُهَا، وَكَذَلِكَ الْمَسَاكِينُ لَا تَنْتَظِمُ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ إِلَّا بِالْعِنَايَةِ بِهِمْ وَصَلَاحِ حَالِهِمْ، فَإِنْ أَهْمَلَ أَمْرَهُمُ الْأَغْنِيَاءُ كَانُوا بَلَاءً وَوَيْلًا عَلَى النَّاسِ، وَقَلَّمَا يَنْظُرُ النَّاسُ فِي الْمَسْكَنَةِ إِلَى غَيْرِ الْعُدْمِ وَصُفْرِ الْكَفِّ، وَالْمُهِمُّ مَعْرِفَةُ سَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ سَبَبَ عُدْمِهِ وَعَوَزِهِ ضَعْفُهُ وَعَجْزُهُ عَنِ الْكَسْبِ، أَوْ نُزُولُ الْجَوَائِحِ السَّمَاوِيَّةِ تَذْهَبُ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمِسْكِينُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَجِبُ مُوَاسَاتُهُ بِالْمَالِ الَّذِي يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَمِنْهُمُ الْعَادِمُ: الَّذِي مَا عَدِمَ الْمَالَ إِلَّا بِالْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالْمَخِيلَةِ وَالْفَخْفَخَةِ الْبَاطِلَةِ، وَمِنْهُمُ الْعَادِمُ: الَّذِي مَا عَدِمَ الْمَالَ إِلَّا لِكَسَلِهِ وَإِهْمَالِهِ لِلْكَسْبِ طَمَعًا فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَاتِّكَالًا عَلَيْهِمْ،
74
أَوْ بِسُلُوكِهِ فِيهِمْ مَسْلَكَ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ حَتَّى يُفْضَحَ سِرُّهُ وَيَظْهَرَ أَمْرُهُ، فَيَحْبَطَ عَمَلُهُ، فَالْمَسَاكِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مِسْكِينٌ مَعْذُورٌ يُسَاعَدُ بِالْمَالِ يُنْفِقُهُ، أَوْ يُسَاعَدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِكَسْبِهِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَمِسْكِينٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ يُرْشَدُ إِلَى تَقْصِيرِهِ، وَلَا يُسَاعَدُ عَلَى إِسْرَافِهِ وَتَبْذِيرِهِ، بَلْ يُدَلُّ عَلَى طُرُقِ الْكَسْبِ، فَإِنِ اتَّعَظَ وَقَبِلَ النُّصْحَ، وَإِلَّا تُرِكَ أَمْرُهُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ وَاخْتِصَارٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ الْجِوَارُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْقَرَابَةِ فَهِيَ قُرْبٌ بِالنَّسَبِ، وَهُوَ قُرْبٌ بِالْمَكَانِ وَالسَّكَنِ، وَقَدْ يَأْنَسُ الْإِنْسَانُ بِجَارِهِ الْقَرِيبِ، مَا لَا يَأْنَسُ بِنَسِيبِهِ الْبَعِيدِ، وَيَحْتَاجَانِ إِلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ مَا لَا يَحْتَاجُ الْأَنْسِبَاءُ الَّذِينَ تَنَاءَتْ دِيَارُهُمْ، فَإِذَا لَمْ يُحْسِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا خَيْرٌ لِسَائِرِ النَّاسِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَالْجَارِ الْجُنُبِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوَّلُ هُوَ الْقَرِيبُ مِنْكَ بِالنَّسَبِ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَجْنَبِيُّ لَا قَرَابَةَ بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوَّلُ الْأَقْرَبُ مِنْكَ دَارًا، وَالثَّانِي مَنْ كَانَ أَبْعَدَ مَزَارًا، وَقِيلَ: إِنَّ ذَا الْقُرْبَى مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْكَ وَلَوْ بِالدِّينِ، وَالْأَجْنَبِيَّ مَنْ لَا يَجْمَعُكَ بِهِ دِينٌ وَلَا نَسَبٌ، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفِ السَّنَدِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَالْبَزَّارِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ، فَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ: حَقُّ الْجِوَارِ "، وَثَبَتَ الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْجَارِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى كَأَحَادِيثِ الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ وَالْوَقَائِعِ الْمُعَيَّنَةِ كَعِيَادَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِوَلَدِ جَارِهِ الْيَهُودِيِّ فِي الصَّحِيحِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ " أَنَّهُ ذُبِحَ لَهُ شَاةٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ: أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ، أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنَ الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ فِي الْجَارِ أَنَّهَا تَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِ، وَنَاهِيكَ بِفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْوَصَايَا حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهَا عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: حَدَّدَ بَعْضُهُمُ الْجِوَارَ بِأَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِ هِيَ الَّتِي تُعَرِّفُنَا سِرَّ الْوَصِيَّةِ، وَمَعْنَى الْجِوَارِ: الْمُرَادُ بِالْجَارِ مَنْ تُجَاوِرُهُ وَيَتَرَاءَى وَجْهُكَ وَوَجْهُهُ فِي غُدُوِّكَ أَوْ رَوَاحِكَ إِلَى دَارِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُعَامِلَ مَنْ تَرَى وَتُعَاشِرَ بِالْحُسْنَى، فَتَكُونَ فِي رَاحَةٍ مَعَهُمْ، وَيَكُونُوا فِي رَاحَةٍ مَعَكَ، اهـ.
فَهُوَ يَرَى أَنَّ أَمْرَ الْجِوَارِ لَا يُحَدَّدُ بِالْبُيُوتِ، وَالتَّحْدِيدُ بِالدُّورِ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ، وَحَدَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَالصَّوَابُ عَدَمُ التَّحْدِيدِ وَالرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعَرَبِ، وَالْأَقْرَبُ حَقُّهُ آكَدُ وَإِكْرَامُ الْجَارِ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَزَادَهُ الْإِسْلَامُ تَأْكِيدًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنَ
75
الْإِحْسَانِ بِالْجَارِ الْإِهْدَاءُ إِلَيْهِ وَدَعْوَتُهُ إِلَى الطَّعَامِ وَتَعَاهُدُهُ بِالزِّيَارَةِ وَالْعِيَادَةِ.
قَالَ تَعَالَى: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِيهِ قَوْلَانِ:
الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَالْمُنْقَطِعُ إِلَيْكَ يَرْجُو نَفْعَكَ وَرِفْدَكَ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ أَنَّهُ الْمَرْأَةُ، أَيْ: لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَضَتِ الْفِطْرَةُ وَنِظَامُ الْمَعِيشَةِ أَنْ تَكُونَ بِجَنْبِ بَعْلِهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ لِلتَّغْلِيبِ جَازَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرْأَةِ الزَّوْجُ وَرَجُلُهَا مِثْلُهَا، فَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْإِحْسَانُ بِالْآخَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَبَّرَ بِلَفْظِ الزَّوْجِ الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ يُرِيدُ الْمَرْأَةَ ; لِأَنَّهَا أَحْوَجُ إِلَى إِحْسَانِ بَعْلِهَا مِنْهُ إِلَى إِحْسَانِهَا، فَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هُوَ مَنْ صَاحَبْتَهُ وَعَرَفْتَهُ وَلَوْ وَقْتًا قَصِيرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ الرَّفِيقُ فِي أَمْرٍ حَسَنٍ كَتَعَلُّمٍ وَتَرَفٍ وَصِنَاعَةٍ وَسَفَرٍ، فَإِنَّهُ بِقَيْدِ " وَلَوْ وَقْتًا قَصِيرًا " يَشْمَلُ صَاحِبَ الْحَاجَةِ الَّذِي يَمْشِي بِجَانِبِكَ وَيَسْتَشِيرُكَ أَوْ يَسْتَعِينُكَ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْحَابِ عِنْدَهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، كَانَ لَا يَكَادُ يَتَرَاءَى لِلنَّاسِ فِي طَرِيقٍ إِلَّا وَتَرَاهُمْ يُوفِضُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نُصُبٍ يَمْشُونَ بِجَانِبِهِ مُسْتَشِيرِينَ أَوْ مُسْتَعِينِينَ.
قَالَ تَعَالَى: وَابْنِ السَّبِيلِ الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِهِ هُنَا الْمُسَافِرُ وَالضَّيْفُ، وَقُلْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: لَيْسَ الْبَرَّ (٢: ١٧٧)، هُوَ الْمُنْقَطِعُ فِي السَّفَرِ لَا يَتَّصِلُ بِأَهْلٍ وَلَا قَرَابَةٍ كَأَنَّ السَّبِيلَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَرَحِمُهُ وَأَهْلُهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: إِنَّهُ مَنْ تَبَنَّاهُ السَّبِيلُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، أَيِ: السَّائِحُ الرَّحَّالَةُ فِي غَرَضٍ صَحِيحٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ مَنْ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا ضَيَّقُوا فِي تَفْسِيرِهِ فِي آيَةِ مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ كُلَّ مَنْ عُرِفَ فِي الطَّرِيقِ مُسْتَحِقًّا لِلزَّكَاةِ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ الْمُطْلَقُ، فَالْأَمْرُ فِيهِ أَوْسَعُ وَهُوَ مَطْلُوبٌ دَائِمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ، كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ إِلَخْ، وَهُوَ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِيمَا أَذْكُرُ، وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْآيَةُ فِيمَنْ يَتَأَكَّدُ الْإِحْسَانُ بِهِمْ، وَالضَّيْفُ وَالْمُسَافِرُ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُسْتَحِقَّيْنِ لِلزَّكَاةِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ بِابْنِ السَّبِيلِ يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي السِّيَاحَةِ وَالْإِعَانَةَ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَهْمَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْعُصُورِ إِلَّا قَلِيلًا خَيْرُهُ أَقَلُّ، وَذُكِرَتْ فِي هَامِشِ تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ آيَةِ
لَيْسَ الْبَرَّ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي: أَنَّ اللَّقِيطَ يُوشِكُ أَنْ يَدْخُلَ فِي مَعْنَى " ابْنِ السَّبِيلِ "، وَاخْتَارَ بَعْضُ أَذْكِيَاءِ الْمُعَاصِرِينَ فِي رِسَالَةٍ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، وَاللَّفْظُ يَتَّسِعُ لِلَّقِيطِ وَلَا سِيَّمَا فِي بَابِ الْإِحْسَانِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَوْلَى وَأَجْدَرُ مِنَ الْيَتِيمِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْفِقْهِ فِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِهِ، وَإِنَّمَا غَفَلَ جَمَاهِيرُ
76
الْمُفَسِّرِينَ عَنْ ذِكْرِهِ لِنُدْرَةِ اللُّقَطَاءِ فِي زَمَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ، وَلَا حَظَّ لِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مِنَ التَّأْلِيفِ إِلَّا النَّقْلَ عَنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِاسْتِقْلَالَ فِي الْفَهْمِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي تَوَاطَئُوا عَلَى الْقَوْلِ بِإِقْفَالِ بَابِهِ، وَانْقِرَاضِ أَرْبَابِهِ، وَالرِّضَى بِاسْتِبْدَالِ الْجَهْلِ بِهِ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمُسْتَقِلِّ بِفَهْمِ الشَّيْءِ لَا يُسَمَّى عَالِمًا بِهِ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ.
وَقَدْ كَثُرَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ اللُّقَطَاءُ، وَلَوْلَا عِنَايَةُ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْأُورُوبِّيِّينَ بِجَمْعِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ لَكَانَ شَرُّهُمْ فِي الْبِلَادِ مُسْتَطِيرًا، فَلِلَّهِ دَرُّ هَؤُلَاءِ الْأُورُبِّيِّينَ مَا أَشَدَّ عِنَايَتَهُمْ بِدِينِهِمْ، وَنَفْعَ النَّاسِ بِهِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ، وَيَا لَلَّهِ مَا أَشَدَّ غَفْلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَجَهْلَ جَمَاهِيرِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنَ الْإِفْرِنْجِ عِنَايَةً بِدِينِهِمْ وَغَيْرَةً عَلَيْهِمْ وَعَمَلًا بِهِ، بَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ قَدْ تَرَكُوا الدِّينَ أَلْبَتَّةَ، يَسْتَنْبِطُونَ هَذِهِ النَّتِيجَةَ مِنْ بَعْضِ أَحْرَارِهِمُ الْغَالِينَ، الَّذِينَ يَلْقَوْنَهُمْ فَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ كَلِمَ الْإِلْحَادِ، أَوْ مِنَ السِّيَاسِيِّينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُزَلْزِلُونَ ثِقَتَنَا بِالدِّينِ لِمَا يَجْهَلُ أَكْثَرُنَا مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ، وَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَرْبِيَةِ اللُّقَطَاءِ، وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ.
قَالَ تَعَالَى: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، مِنْ فِتْيَانِكُمْ وَفَتَيَاتِكُمْ، وَعَبَّرَ فِي آيَةِ الْبِرِّ [٢: ١٧٧]، وَفِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ [٩: ٦٠]، بِقَوْلِهِ: وَفِي الرِّقَابِ أَيْ: تَحْرِيرِهَا، وَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ الْأَتَمُّ الْأَكْمَلُ وَهُوَ مِنَ الْمَالِكِ يَحْصُلُ بِعِتْقِهِمْ، وَمِنْ غَيْرِهِ بِإِعَانَتِهِمْ عَلَى شِرَاءِ أَنْفُسِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ نُجُومًا وَأَقْسَاطًا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُكَاتَبَةِ، وَدُونَ هَذَا إِحْسَانُ الْمَالِكِينَ الْمُعَامَلَةَ إِذَا اسْتَبْقَوْهُمْ لِخِدْمَتِهِمْ وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ ذَلِكَ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَمِنْهَا أَلَّا يُكَلَّفُوا مَا لَا يُطِيقُونَ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: هُمْ إِخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ
، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُبَالِغُ وَيُؤَكِّدُ فِي الْوَصِيَّةِ بِهِمْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ آخِرِ وَصَايَاهُ، وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: " كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ حَتَّى جَعَلَ يُغَرْغِرُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ "، فَهَلْ بَعْدَ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، وَهَلْ بَعْدَ هَذَا التَّأْكِيدِ مِنْ تَأْكِيدٍ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَوْصَانَا اللهُ تَعَالَى بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَدْنَى الطَّبَقَاتِ؛ لِئَلَّا نَظُنَّ أَنَّ اسْتِرْقَاقَهُمْ يُجِيزُ امْتِهَانَهُمْ، وَيَجْعَلُهُمْ كَالْحَيَوَانَاتِ الْمُسَخَّرَةِ، فَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي الْإِحْسَانِ كَسَائِرِ طَبَقَاتِ النَّاسِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
77
إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَعْلِيلٌ أَوْ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِكُلِّ هَذِهِ الْوَصَايَا الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْمُخْتَالُ: هُوَ الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى بَدَنِهِ أَثَرٌ مِنْ كِبْرِهِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالِ، فَتُرَى نَفْسُهُ أَعْلَى مِنْ نُفُوسِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ مِنْ تِيهِهِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ هُوَ مِنْهُ، فَالْمُخْتَالُ: مَنْ تَمَكَّنَتْ فِي نَفْسِهِ مَلَكَةُ الْكِبْرِ، وَظَهَرَ أَثَرُهَا فِي عَمَلِهِ وَشَمَائِلِهِ، فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْمُتَكَبِّرِ غَيْرِ الْمُخْتَالِ، وَالْفَخُورُ: هُوَ الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُ الْكِبْرِ فِي قَوْلِهِ كَمَا يَظْهَرُ فِي فِعْلِ الْمُخْتَالِ، فَهُوَ يَذْكُرُ مَا يَرَى أَنَّهُ مُمْتَازٌ بِهِ عَلَى النَّاسِ تَبَجُّحًا بِنَفْسِهِ وَتَعْرِيضًا بِاحْتِقَارِهِ غَيْرَهُ، فَالْمُخْتَالُ الْفَخُورُ مَبْغُوضٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ احْتَقَرَ جَمِيعَ الْحُقُوقِ الَّتِي وَضَعَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَوْجَبَهَا لِلنَّاسِ، وَعَمِيَ عَنْ نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعِنَايَتِهِ بِهِمْ، بَلْ لَا يَجِدُ هَذَا الْمُتَكَبِّرُ فِي نَفْسِهِ مَعْنَى عَظَمَةِ اللهِ وَكِبْرِيَائِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَهَا لَتَأَدَّبَ وَشَعَرَ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَصَغَارِهِ، فَهُوَ جَاحِدٌ أَوْ كَالْجَاحِدِ لِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ إِلَّا بِهَا وَلَا تَكُونُ بِحَقٍّ إِلَّا لَهَا، فَمَنْ فَتَّشَ نَفْسَهُ وَحَاسَبَهَا، عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُعِينُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَيُطَهِّرُهُ مِنْ نَزَغَاتِ الشِّرْكِ بِهِ وَمُنَازَعَتِهِ فِي صِفَاتِهِ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِوَصَايَاهُ هَذِهِ، وَبِغَيْرِهَا إِلَى سُكُونِ النَّفْسِ وَمَعْرِفَتِهَا قَدْرَهَا بِبَرَاءَتِهَا مِنْ خُلُقِ الْكِبْرِ الْخَبِيثِ الَّذِي تَظْهَرُ آثَارُ تَمَكُّنِهِ وَرُسُوخِهِ بِالْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ، إِنَّ الْمُخْتَالَ لَا يَقُومُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ عَمَلًا مَا لَا يُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا
إِذَا كَانَ صَادِرًا عَنِ الشُّعُوبِ بِعَظَمَةِ الْمَعْبُودِ وَسُلْطَانِهِ الْأَعْلَى غَيْرِ الْمَحْدُودِ، وَمَنْ أُوتِيَ هَذَا الشُّعُورَ خَشَعَ قَلْبُهُ، وَمَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ فَلَا يَكُونُ مُخْتَالًا، إِنَّ الْمُخْتَالَ لَا يَقُومُ بِحُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَلَا حُقُوقِ ذَوِي الْقُرْبَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْعُرُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَقُومُ بِحُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَفَضْلُهُمَا عَلَيْهِ لَيْسَ فَوْقَهُ فَضْلٌ إِلَّا اللهَ تَعَالَى، وَلَا بِحُقُوقِ ذَوِي الْقُرْبَى وَهُمْ بِمُقْتَضَى النَّسَبِ فِي طَبَقَتِهِ، فَهَلْ يَرَى نَفْسَهُ مُطَالَبًا بِحَقٍّ مَا لِلْيَتِيمِ الضَّعِيفِ، أَوْ لِلْمِسْكِينِ الْأَسِيفِ، أَوْ لِلْجَارِ الْقَرِيبِ أَوِ الْبَعِيدِ، أَوْ لِلصَّاحِبِ النَّبِيهِ أَوِ الْمَغْمُولِ، أَوْ لِابْنِ السَّبِيلِ الْمَعْرُوفِ أَوِ الْمَجْهُولِ؟ كَلَّا إِنَّ هَذَا رَجُلٌ مَفْتُونٌ بِنَفْسِهِ مَسْحُورٌ فِي عَقْلِهِ وَحِسِّهِ، فَلَا يُرْجَى مِنْهُ الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ، وَإِنَّمَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْإِسَاءَةُ وَالْكُفْرَانُ، انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ.
وَأَقُولُ: لَيْسَ مِنَ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ وَقُورًا فِي غَيْرِ غِلْظَةٍ، عَزِيزَ النَّفْسِ مَعَ الْأَدَبِ وَالرِّقَّةِ، حَسَنَ الثِّيَابِ بِلَا تَطَرُّسٍ، وَلَا ابْتِغَاءِ شُهْرَةٍ، رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا
78
وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، فَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمَصُ النَّاسِ وَبَطَرُ الْحَقِّ: رَدُّهُ اسْتِخْفَافًا بِهِ وَتَرَفُّعًا أَوْ عِنَادًا، وَغَمْصُ النَّاسِ وَغَمْطُهُمُ: احْتِقَارُهُمْ وَالِازْدِرَاءُ بِهِمْ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَذَكَرَ الْكِبْرَ وَعَظَّمَهُ فَبَكَى ثَابِتٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَا يُبْكِيكَ "؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ الْجَمَالَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَحْسُنَ شِرَاكُ نَعْلِي، قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكِبَرِ أَنْ تُحَسِّنَ رَاحِلَتَكَ وَرَحْلَكَ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَغَمَصَ النَّاسَ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا جَمِيلًا أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ الْجَمَالَ وَقَدْ أُعْطِيتُ مِنْهُ مَا تَرَى حَتَّى مَا أُحِبُّ أَنْ يَفُوقَنِي أَحَدٌ بِشِرَاكِ نَعْلٍ فَمِنَ الْكِبْرِ ذَلِكَ؟ قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ بَطَرَ الْحَقَّ وَغَمَصَ النَّاسَ، وَمِنَ الْخُيَلَاءِ
إِطَالَةُ الثِّيَابِ وَجُرُّ الْأَذْيَالِ بَطَرًا، وَمِنْهُ مِشْيَةُ الْمَرَحِ، فَتَرَى الشَّابَّ يَتَمَطَّى وَيَمْرَحُ وَيَأْرُنُ كَالْمُهْرِ أَوِ الْعِجْلِ وَيَضْرِبُ بِرِجْلَيْهِ الْأَرْضَ: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (١٧: ٣٧)، وَلَكِنْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، وَمِثْلُهُ التَّعْلِيمُ الْعَسْكَرِيُّ، وَالْفَخُورُ: كَثِيرُ الْفَخْرِ يَعُدُّ مَنَاقِبَهُ وَيُزَكِّي نَفْسَهُ تَعَاظُمًا وَتَطَاوُلًا عَلَى النَّاسِ وَتَعْرِيضًا بِنَقْصِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ عَنْ بُلُوغِ مَدَاهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْخَلَّتَيْنِ ـ الْخُيَلَاءِ وَكَثْرَةِ الْفَخْرِ هُوَ التَّنَاهِي فِي الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُتُوِّ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِاحْتِقَارِ خَلْقِهِ، وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بَدَلًا مِنَ الْفَخْرِ وَالزَّهْوِ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابُ تِلْكَ الْحُقُوقِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَكَانُوا يَتَفَاخَرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ صَرِيحًا فَتَرَكُوهُ، وَالْفَخْرُ فِي الشِّعْرِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ التَّرْغِيبُ فِي الْفَضِيلَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ مَذْمُومًا.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ كَرَدْمُ بْنُ زَيْدٍ حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، وَبَحْرِيُّ بْنُ عُمَرَ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ كُلُّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، يَأْتُونَ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ يَنْتَصِحُونَ لَهُمْ فَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تُنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ فِي ذَهَابِهَا، وَلَا تُسَارِعُوا فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَكُونُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ـ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا وَرَوَى ابْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: " هُمْ أَعْدَاءُ اللهِ أَهْلُ الْكِتَابِ بَخِلُوا بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَكَتَمُوا الْإِسْلَامَ وَمُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ "، وَبِنَاءً عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ
79
جَعَلَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) الْآيَةَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا فِي الْيَهُودِ، فَجَعَلَ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَهُمْ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ مُخْتَالًا أَوْ صِفَةٌ
عَلَى الْقَوْلِ بِوُقُوعِ الْمَوْصُولِ مَوْصُوفًا وَعَلَيْهِ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ أَوْ مَرْفُوعٌ عَلَى الذَّمِّ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ، وَمِنْ قَوْلِ الْجَلَالِ أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَالْبُخْلُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِالتَّحْرِيكِ: وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَقُرِئَ بِضَمَّتَيْنِ وَبِفَتْحٍ وَسُكُونٍ وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْضًا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ الْمُفَسِّرُ: يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَهُمُ الْيَهُودُ، وَهُمَا قَوْلَانِ: فَمَنْ خَصَّ الْبُخْلَ بِالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ جَعَلَ الْكَلَامَ فِي الْيَهُودِ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ الْبُخْلُ بِالْمَالِ لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْيَهُودِ، فَالْمُفَسِّرُ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَخَصَّ الْكَلَامَ بِالْيَهُودِ، وَاضْطُرَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ إِلَى قَطْعِ الْكَلَامِ وَجَعَلَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِمَنْ يَحْمِلُ الْكَلَامَ عَلَى الْيَهُودِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ هَذَا الْقَطْعِ إِلَى أَهْوَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَطْعُ مِنَ ابْتِدَاءِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ إِلَخْ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ مِثْلَ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى الْيَهُودِ كَأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْأَوَامِرِ بِالْإِحْسَانِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْيَهُودَ، وَمَا هَذَا بِأَقْرَبَ إِلَى الْبَلَاغَةِ مِنَ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ، وَأَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ تَعْلِيلَهُ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي النَّاسِ أُمَّةٌ تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبُخْلِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُخْلِ الْبُخْلَ بِغَيْرِ الْمَالِ، وَكَأَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يُخْبِرِ النَّاسَ، فَإِنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الْبَخِيلِ الْأَمْرَ بِالْبُخْلِ بِحَالِهِ وَمَقَالِهِ لِيُسَهِّلَ عَلَى نَفْسِهِ خُلُقَهُ الذَّمِيمَ وَيَجِدَ لَهُ فِيهِ أَقْرَانًا وَأَمْثَالًا، وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَمَرُوهُ بِالْبُخْلِ مِرَارًا، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ كَانَ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ أَحْيَانًا حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا رَدَّ يَدَهُ بِالدَّرَاهِمِ إِلَى جَيْبِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا إِذَا كَانَ لِلْبَخِيلِ الْمُنَفِّرِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَإِعْطَاؤُهُ إِضَاعَةٌ، وَإِذَا وُضِعَ مَا يُرَادُ إِعْطَاؤُهُ إِيَّاهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا يَكُونُ خَيْرًا وَأَوْلَى، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا وَقَعَ لِي أَيْضًا حَتَّى فِي هَذَا الْأُسْبُوعِ الَّذِي أَكْتُبُ فِيهِ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَيْسَ لَدَيَّ الْآنَ تَفْسِيرُ ابْنِ جَرِيرٍ فَأُرَاجِعُ عِبَارَتَهُ فَإِنِّي أَرَى الْعَجَبَ الْعُجَابَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْأُسْتَاذُ هُوَ مُخَالَفَتُهُ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي نَقَلْتُهَا عَنْهُ آنِفًا عَنْ بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالذَّمُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْبُخْلِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بِاسْمِ الدِّينِ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ وَلِيَتَذَكَّرِ الْقَارِئُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ فِيهِ الْحَوَادِثَ الَّتِي اقْتَرَنَتْ
بِزَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ إِذَا كَانَتْ تُنَاسِبُهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْحَادِثَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا خَاصَّةً بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقٍ هِيَ مُتَمِّمَةٌ لَهُ، وَإِنِ الرَّاوِي رَأَى أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْحَادِثَةَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهَا خَاصَّةً، وَقَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ لِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْبَلِيغِ، وَلْنَعُدْ إِلَى سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْآيَةِ قَالَ مَا مِثَالُهُ
80
الْمُتَعَيَّنُ فِي السِّيَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إِلَخْ، وَصْفٌ لِمَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَبْخَلُونَ بِهِ فَيَخُصَّهُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ، وَذَوِي الْقُرْبَى وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ، لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِهِ الْإِحْسَانُ بِالْمَالِ فَقَطْ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَلْ مِنْهُ الْإِحْسَانُ بِالْقَوْلِ وَالْمُعَامَلَةِ، فَالْمُرَادُ بِالْبُخْلِ: الْبُخْلُ بِذَلِكَ الْإِحْسَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْبُخْلِ بِالْمَالِ فَيَشْمَلُ الْبُخْلُ بِلِينِ الْكَلَامِ وَإِلْقَاءِ السَّلَامِ وَالنُّصْحِ فِي التَّعْلِيمِ، وَبِالنَّفْسِ لِإِنْقَاذِ الْمُشْرِفِ عَلَى التَّهْلُكَةِ، وَكَذَلِكَ كِتْمَانُ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ يَشْمَلُ كِتْمَانَ الْمَالِ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ، وَجِيءَ بِهِ بَعْدَ الْأَوَّلِ لِتَوْبِيخِ أَهْلِهِ، وَبَيَانِ أَنَّهُمْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ الْبُخْلُ بِإِمْسَاكِ الْمَالِ، وَيُجْعَلَ الْكِتْمَانُ عَامًّا شَامِلًا لِمَا عَدَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، فَالْكَلَامُ فِي الْإِحْسَانِ، وَالْمُقَصِّرُونَ فِيهِ إِنَّمَا يُقَصِّرُونَ بِعِلَّةِ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مَظْهَرُ التَّرَفُّعِ وَالْكِبْرِ، فَهُوَ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ مَنْ كَانَ مُلَوَّثَ النَّفْسِ بِتِلْكَ الرَّذِيلَةِ لَا يَكُونُ مُحْسِنًا؛ لِأَنَّ الْكِبْرَ يَسْتَلْزِمُ جُحُودَ الْحَقِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ظَهَرَتْ آثَارُهُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَجُحُودُ الْحَقِّ يَسْتَلْزِمُ مَنْعَهُ، وَمَنْعُهُ هُوَ الْبُخْلُ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُلَوَّثِينَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ الَّذِي يُبْغِضُ اللهُ صَاحِبَهُ وَلَا يُحِبُّهُ ـ وَهُوَ الْكِبْرُ الْبَيِّنُ أَثَرُهُ ـ يَبْخَلُونَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، إِمَّا بِلِسَانِ الْمَقَالِ، وَإِمَّا بِلِسَانِ الْحَالِ بِأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً سَيِّئَةً فِي ذَلِكَ وَيَكْتُمُونَ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِإِنْكَارِهَا وَعَدَمِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا وَلِذَلِكَ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، أَيْ: وَهَيَّأْنَا لَهُمْ بِكِبْرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَبُخْلِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ، عَذَابًا ذَا إِهَانَةٍ يُجْمَعُ لَهُمْ فِيهِ بَيْنَ الْأَلَمِ وَالْمَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ جَزَاءَ كِبْرِهِمْ، وَقَالَ: لِلْكَافِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ: (لَهُمْ) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ وَالْأَعْمَالَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْكَفُورِ، لَا مِنَ الْمُؤْمِنِ الشَّكُورِ.
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ قَالَ الْأُسْتَاذُ: الرِّئَاءُ يُخَفَّفُ فَيُقَالُ: الرِّيَاءُ مَصْدَرُ رَاءَى كَالْمُرَاءَاةِ وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَأُعِيدَ الْمَوْصُولُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُغَايَرَةِ فِي الْأَصْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً (٣: ١٣٥)، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، أَيْ أَنَّ مَانِعِي الْإِحْسَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ صِنْفَانِ: صِنْفٌ يَبْخَلُونَ وَيَكْتُمُونَ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهِمْ وَصِنْفٌ يَبْذُلُونَ الْمَالَ لَا شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَاعْتِرَافًا لِعِبَادِهِ بِحُقُوقِهِمْ، بَلْ يُنْفِقُونَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، أَيْ: مُرَائِينَ لَهُمْ يَقْصِدُونَ أَنْ يَرَوْهُمْ فَيُعَظِّمُوا قَدْرَهُمْ وَيَحْمَدُوا فِعْلَهُمْ، فَالْمُرَائِي لَا يَقْصِدُ بِإِنْفَاقِهِ إِلَّا الْفَخْرَ عَلَى النَّاسِ بِكِبْرِيَائِهِ، وَإِشْرَاعَ الطَّرِيقِ لِخُيَلَائِهِ، فَإِنْفَاقُهُ أَثَرُ تِلْكَ الْمَلَكَةِ الرَّدِيئَةِ، وَالْكِبْرِيَاءُ كَمَا تَكُونُ مِنْ شَيْءٍ فِي نَفْسِ الشَّخْصِ تَكُونُ أَيْضًا بِمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْعِرْضِ، فَإِنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلُ يَمْشِي يَنْظُرُ إِلَى عِطْفَيْهِ وَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ
81
هَلْ هُوَ مَحَلُّ الْإِعْجَابِ وَالتَّعْظِيمِ مِنَ النَّاسِ أَمْ لَا؟ ـ وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ نَعَمْ عَلَى لَا ـ وَشَرُّ هَذَا دُونَ شَرِّ الْبَخِيلِ، فَإِنَّ هَذَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى قَبُولِ اخْتِيَالِهِ وَفَخْرِهِ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ يَبْذُلُهُ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ رَأَى لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَهُوَ بَدَلُ الْتَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ الَّذِي يَطْلُبُهُ بِرِئَائِهِ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ تَعْظِيمُهُ وَمَدْحُهُ لِأَجْلِ مَالِهِ ـ وَمَالُهُ فِي الصُّنْدُوقِ مَكْتُومٌ عَنْهُمْ ـ فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْمُرَائِي بِلَا شَكٍّ ; وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْبُخَلَاءِ اهْتِمَامًا بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَقُ فِي تِلْكَ الرَّذِيلَةِ وَآثَارِهَا، وَالْمُرَائِي فِي الْحَقِيقَةِ بَخِيلٌ لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ صَاحِبُ الْفَضْلِ عَلَى النَّاسِ ; وَلِذَلِكَ يَخُصُّ بِبَذْلِهِ فِي الْغَالِبِ مَنْ لَا حَقَّ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَبْخَلُ عَلَى أَرْبَابِ الْحُقُوقِ الْمُؤَكَّدَةِ حَتَّى عَلَى زَوْجِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ، وَعَلَى الْأَقْرَبِينَ حَتَّى الْوَالِدَيْنِ، وَلَا يَتَحَرَّى فِي إِنْفَاقِهِ مَوَاضِعَ النَّفْعِ الْعَامِّ وَلَا الْخَاصِّ، وَإِنَّمَا يَتَحَرَّى مَوَاطِنَ التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَإِنْ كَانَ الْإِنْفَاقُ هُنَالِكَ ضَارًّا كَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى الْفِسْقِ أَوِ الْفِتَنِ، فَهُوَ تَاجِرٌ يَشْتَرِي تَعْظِيمَ النَّاسِ لَهُ وَتَسْخِيرَهُمْ لِقَضَاءِ حَاجِهِ وَالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ.
أَقُولُ: إِنَّ مَا يُبَيِّنُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا هُوَ الرِّيَاءُ الْحَقِيقِيُّ الْمَمْقُوتُ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خِيَارِ عِبَادِهِ، وَيَقُولُ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ الدِّينِيَّةِ: إِنَّ لِلرِّيَاءِ أَنْوَاعًا وَمَرَاتِبَ، وَإِنَّ مِنْهَا أَنْ يَبْذُلَ الْمَالَ لِمُسْتَحَقِّهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَقِيَامًا بِالْحَقِّ وَإِيثَارًا لِلْخَيْرِ، وَقَدْ يُخْفِيهِ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ إِذَا عُرِفَ، وَيَعُدُّونَ الرِّيَاءَ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مِنْهُ
مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ كَهَذَا الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَيُقَالُ فِي مِثْلِهِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّهُ إِحْسَانٌ فَهُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللهِ نَافِعٌ لِلنَّاسِ، فَلَا يَضِيرُهُ حُبُّهُ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا فَعَلَ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِذَلِكَ لِذَاتِهِ أَكْمَلَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا (٣: ١٨٨)، الْآيَةَ فَرَاجِعْهُ فِي ص [٢٣٥ - ٢٤٢ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ]، أَوْ فِي الْمَنَارِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ الْمُرَائِينَ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَالْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَائِيَ يَثِقُ بِمَا عِنْدَ اللهِ، وَيُرَجِّحُ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِمْ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَيُؤْثِرُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَدْحِ وَتَوَقُّعِ النَّفْعِ عَلَى مَا أَعَدَّهُ اللهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ فَاللهُ فِي نَظَرِهِ الْمُظْلِمِ أَهْوَنُ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ يُعَدُّ مِثْلُ هَذَا مُؤْمِنًا بِاللهِ إِيمَانًا حَقِيقِيًّا، مُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا يَجِبُ؟ أَمْ يَكُونُ إِيمَانُهُ تَخَيُّلًا كَتَخَيُّلِ الشُّعَرَاءِ، وَقَوْلًا كَقَوْلِ الصِّبْيَانِ: وَاللهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَنْطِقُ بِاسْمِ اللهِ وَيُؤَكِّدُ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ الْكَلَامَ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ اللهَ، وَإِنَّمَا
82
يَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَيُقَلِّدُهُمْ بِمَا يَحْفَظُ مِنْهُ، لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ مُوجِدُ الْكَائِنَاتِ، النَّافِذُ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ بِمَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، فَهَلْ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مُؤْمِنًا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ كَلَّا إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مُوقِنًا بِأَنَّ لَهُ هُنَالِكَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لَا نِهَايَةَ لَهَا، لَمَا فَضَّلَ عَلَيْهَا عَرَضَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا.
وَمِنْ آيَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْلِصِ وَالْمُرَائِي أَنَّ الْمُرَائِيَ يَلْتَمِسُ الْفُرَصَ وَالْمُنَاسَبَاتِ لِلْفَخْرِ وَالتَّبَجُّحِ بِمَا أَعْطَى، وَمَا فَعَلَ، وَالْمُخْلِصُ قَلَّمَا يَتَذَكَّرُ عَمَلَهُ أَوْ يَذْكُرُهُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ كَأَنَّ يَرْغَبَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْبَذْلِ، فَيَقُولُ لِلْغَنِيِّ مَثَلًا: إِنَّنِي عَلَى فَقْرِي أَوْ عَلَى قَدْرِ حَالِي قَدْ أَعْطَيْتُ فِي مَصْلَحَةِ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا، فَاللَّائِقُ بِكَ أَنْ تَبْذُلَ كَذَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَافِرِ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أَلَّا يَبْذُلَ
مَالًا، وَلَا يَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا بِقَصْدِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَرَاءَ حُظُوظِ هَذِهِ الدُّنْيَا أَمَلٌ، وَلَا مَطْلَبٌ، وَالْمُؤْمِنُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ وَقَعَ الرِّيَاءُ مِنْ مُؤْمِنٍ فَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْ ضَعِيفِ الْإِيمَانِ قَلِيلًا، وَلَا يَكُونُ كُلُّ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِلْمَامًا يَنْدَمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَيُسْرِعُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِلَّا كَانَ كَافِرًا مُجَاهِرًا، أَوْ مُنَافِقًا مُخَادِعًا، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢).
قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا أَيْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأُولَئِكَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى مَا ذَكَرَ هُوَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (٢: ٢٦٨)، فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قُرَنَاءُ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ بِئْسَ الْقَرِينُ فَعَلِمَ أَنَّ حَالَهُمْ فِي الشَّرِّ كَحَالِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَقْصِدِ بَلِ اكْتَفَى بِذَمِّ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَرِينًا لَهُ، وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ الَّذِي لَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَقُولُ: وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ إِلَى تَأْثِيرِ قُرَنَاءِ الْمَرْءِ فِي سِيرَتِهِ وَمَا يَنْبَغِي مِنَ اخْتِيَارِ الْقَرِينِ الصَّالِحِ عَلَى قَرِينِ السُّوءِ، وَتَعْرِيضٌ بِتَنْفِيرِ أُولَئِكَ الْأَنْصَارِ مِنْ مُقَارَنَةِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَبَيَانُ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ يَعِدِونَ الْفَقْرَ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْعُرْفِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ، وَالْقَرِينُ الصَّالِحُ مَنْ يَكُونُ عَوْنًا لَكَ عَلَى الْخَيْرِ، مُرَغِّبًا لَكَ فِيهِ، مُنَفِّرًا لَكَ بِنُصْحِهِ وَسِيرَتِهِ عَنِ الشَّرِّ، مُبْعِدًا لَكَ عَنْهُ، مُذَكِّرًا لَكَ بِتَقْصِيرِكَ، مُبَصِّرًا إِيَّاكَ بِعُيُوبِ نَفْسِكَ، وَكَمْ أَصْلَحَ الْقَرِينُ الصَّالِحُ فَاسِدًا، وَكَمْ أَفْسَدَ قَرِينُ السُّوءِ صَالِحًا.
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ: أَيْ مَا الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَرِ لَوْ آمَنُوا وَأَنْفَقُوا؟ وَهَذَا الْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ يُؤْمِنُونَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ
83
بِاللهِ تَعَالَى وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِحَيَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ
وَإِيمَانُهُمْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنَّ الشِّرْكَ كَانَ قَدْ تَغَلْغَلَ فِيهِمْ أَيْضًا، فَالْمُرَادُ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ مَعَ الْإِذْعَانِ الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ، وَلَوْ عَلَى مَعْنَاهَا وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ، وَعَمَلِ الْإِحْسَانِ لِوَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَابْتِغَاءِ رِضْوَانِهِ وَثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّعَجُّبِ إِثَارَةُ عَجَبِ النَّاسِ مِنْ حَالِهِمْ ; إِذْ لَوْ أَخْلَصُوا لَمَا فَاتَتْهُمْ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا، وَلَفَازُوا مَعَ ذَلِكَ بِسَعَادَةِ الْعُقْبَى، وَكَثِيرًا مَا يَفُوتُ الْمُرَائِيَ غَرَضُهُ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى النَّاسِ وَامْتِلَاكِ قُلُوبِهِمْ وَتَسْخِيرِهِمْ لِخِدْمَتِهِ أَوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَيَفُوزُ بِذَلِكَ الْمُخْلِصُ الَّذِي يُخْفِي الْعَمَلَ مِنْ حَيْثُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَحْتَسِبُهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِلْمُخْلِصِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَيَرْجِعُ الْمُرَائِي بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ، بَلْ يَكُونُ قَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، فَجَهْلُ الْمُرَائِينَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَعَجَّبَ بِهِ ; لِأَنَّهُ جَهْلٌ بِاللهِ وَجَهْلٌ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَلَوْ آمَنُوا وَأَخْلَصُوا وَأَحْسَنُوا وَوَثِقُوا بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ لَكَانَ هَذَا الْإِيمَانُ كَنْزَ سَعَادَةٍ لَهُمْ، فَإِنَّ مَنْ يُحْسِنُ مُوقِنًا أَنَّ الْمَالَ وَالْجَاهَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَتَقَرَّبَ بِهِمَا إِلَيْهِ تَعْلُو هِمَّتُهُ فَتَهُونُ عَلَيْهِ الْمَصَاعِبُ وَالنَّوَائِبُ، وَيَكُونُ هَذَا الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ عِوَضًا لَهُ مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَسَلْوَى فِي كُلِّ مُصَابٍ، وَفَاقِدُ الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ عُرْضَةٌ لِلْغَمِّ وَالْيَأْسِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ عِنْدَمَا يَرَى خَيْبَةَ أَمَلِهِ، وَكَذِبَ ظَنِّهِ فِي النَّاسِ، فَإِذَا وَقَعَ فِي مُصَابٍ عَظِيمٍ كَفَقْدِ الْمَالِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا ذَهَبَ كُلُّ مَالِهِ وَأَمْسَى فَقِيرًا، وَلَمْ يُنْقِذْهُ النَّاسُ وَلَا بَالَوْا بِهِ، فَإِنَّ الْغَمَّ وَالْقَهْرَ رُبَّمَا أَمَاتَاهُ جَزَعًا لَا صَبْرًا، وَرُبَّمَا بَخَعَ نَفْسَهُ وَانْتَحَرَ بِيَدِهِ ; وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الِانْتِحَارُ مِنْ فَاقِدِي الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنْ أَقَلَّ مَا يُؤْتَاهُ فِي الْمَصَائِبِ هُوَ الصَّبْرُ وَالسَّلْوَى فَيَكُونُ وَقْعُ الْمُصِيبَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَخَفَّ، وَثَوَاءُ الْحُزْنِ فِي قَلْبِهِ أَقَلَّ، وَأَكْثَرُهُ أَنْ تَكُونَ الْمُصِيبَةُ فِي حَقِّهِ رَحْمَةً، وَتَتَحَوَّلَ النِّقْمَةُ فِيهَا نِعْمَةً، بِمَا يَسْتَفِيدُ فِيهَا مِنَ الِاخْتِبَارِ وَالتَّمْحِيصِ، وَكَمَالِ الْعِبْرَةِ وَالتَّهْذِيبِ (أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ٣: ١٣٧]، إِلَى الْآيَةِ ١٤١ فَتُرَاجَعُ مِنْ [ص ١١٤ - ١٢٦ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ]،
إِنَّ النِّعَمَ الْبَاطِنَةَ هِيَ الْمَصَائِبُ الَّتِي يَسْتَفِيدُ مِنْهَا الْمُؤْمِنُ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ وَالِاعْتِبَارِ) عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ الْمُخْلِصِينَ يَكُونُونَ أَبْعَدَ عَنِ النَّوَائِبِ وَالْمَصَائِبِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ يَبْتَلِي اللهُ الْمُؤْمِنَ وَيَمْتَحِنُ صَبْرَهُ فَيُعْطِيهِ إِيمَانُهُ مِنَ الرَّجَاءِ بِاللهِ تَعَالَى مَا تُخَالِطُ حَلَاوَتَهُ مَرَارَةُ الْمُصِيبَةِ حَتَّى تَغْلِبَهَا أَحْيَانًا، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ
84
مِنْ يَعْظُمُ رَجَاؤُهُ بِاللهِ وَصَبْرُهُ عَلَى حُكْمِهِ وَرِضَاهُ بِقَضَائِهِ، وَاعْتِقَادُهُ أَنَّهُ مَا ابْتَلَاهُ إِلَّا لِيُرَبِّيَهُ وَيُعَظِّمَ أَجْرَهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْنَسُ بِالْمُصِيبَةِ وَيَتَلَذَّذُ بِهَا، وَهَذَا قَلِيلٌ نَادِرٌ وَلَكِنَّهُ وَاقِعٌ.
وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لِتَنْبِيهِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِإِنْفَاقِهِ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِعِلْمِ النَّاسِ، فَهُوَ الَّذِي لَا يَنْسَى عَمَلَ عَامِلٍ وَلَا يَظْلِمُهُ مِنْ أَجْرِهِ عَلَيْهِ شَيْئًا وَهُوَ الَّذِي يُسَخِّرُ الْقُلُوبَ لِمَنْ شَاءَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْ لَمْ يَنْزِلْ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِلَّا هَذِهِ الْآيَاتُ وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَى قَوْلِهِ: عَلِيمًا لَكَانَتْ كَافِيَةً لِهِدَايَةِ مَنْ لَهُ قَلْبٌ يَشْعُرُ وَعَقْلٌ يُفَكِّرُ، ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ تَقْصِيرَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي اتِّبَاعِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ، وَذَكَرَ مِنْ حَالِ النَّاسِ فِي مُعَامَلَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْجِيرَانِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ مَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ الْإِسْلَامُ، وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ مُشَاهَدٌ مَعْرُوفٌ، وَأَيْنَ الْمُعْتَبِرُونَ الْمُتَّعِظُونَ؟
إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا.
قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ مُبَيِّنًا وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا: وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ قَالَ مُعَلِّلًا لَهُ: إِنَّ اللهَ إِلَخْ، وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا إِلَخْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا، فَرَغَّبَ بِذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ اهـ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى صِفَاتِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَسُوءَ حَالِهِمْ وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ الْأَمْرَ تَأْكِيدًا وَوَعِيدًا، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنَ الْعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا بَلْ يُوَفِّيهِ حَقَّهُ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، فَالْآيَةُ تَتْمِيمٌ لِمَوْضُوعِ الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ وَتَرْغِيبٌ لِلْعَامِلِينَ فِي الْخَيْرِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٩٩: ٧)، إِلَخْ، فَمَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ تَعْظُمُ رَغْبَتُهُ فِي الْخَيْرِ، وَرَجَاؤُهُ فِي اللهِ تَعَالَى.
(قَالَ) : وَلِلْعَابِثِينَ بِالْكِتَابِ وَبِعَقَائِدِ النَّاسِ كَلَامٌ فِي الْآيَةِ، وَأَقَامُوهُ عَلَى أَسَاسِ مَذَاهِبِهِمْ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُ يَجُوزُ الظُّلْمُ عَلَى اللهِ تَعَالَى (عَقْلًا) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا تَمَدَّحَ بِنَفْيِهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْآخَرُونَ، بِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى عَنْ نَفْسِهِ السِّنَةَ وَالنَّوْمَ، وَأَنْتُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ كَلَامٌ فِي أَفْعَالِهِ، وَنَفْيَ النَّوْمِ كَلَامٌ فِي صِفَاتِهِ
85
وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْجَدَلِ الْبَاطِلِ وَالْهَذَيَانِ، وَإِدْخَالِ الْفَلْسَفَةِ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عَقْلِ وَلَا بَيَانٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ بِجَوَازِ تَخَلُّفِ الْوَعِيدِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ تَعَالَى، وَبَلَغَ بِهِمُ الْجَهْلُ مِنْ تَأْيِيدِ هَذَا الرَّأْيِ إِلَى تَجْوِيزِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَجَعَلُوا هَذَا نَصْرًا لِلسُّنَّةِ، وَالَّذِي قَذَفَ بِهَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْمُهَاوِي هُوَ الْجَدَلُ وَالْمِرَاءُ لِتَأْيِيدِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تَقَلَّدُوهَا، وَالْتِزَامُ كُلِّ فَرِيقٍ تَفْنِيدَ الْآخَرِ وَإِظْهَارَ خَطَئِهِ لَا طَلَبَ الْحَقِّ أَيْنَمَا ظَهَرَ، وَلَهُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَاتِ الْكَثِيرُ الْبَعِيدُ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَدِينِهِ، كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَبَعْضَهَا قَبِيحٌ لِذَاتِهِ، وَيَجِبُ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ الْأَصْلَحَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْجَائِزَيْنِ، وَكَقَوْلِ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَسْأَلَةَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَبَثِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَكُلُّ هَذَا جَهْلٌ.
(قَالَ) : وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ هُنَاكَ حَقِيقَةً ثَابِتَةً فِي نَفْسِهَا وَهِيَ الظُّلْمُ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَقَعُ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنَ النَّقْصِ الَّذِي يَتَنَزَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ذُو الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ وَالْفَضْلِ
الْعَظِيمِ، وَقَدْ خَلَقَ لِلنَّاسِ مَشَاعِرَ يُدْرِكُونَ بِهَا، وَعُقُولًا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى مَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، وَشَرَعَ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَآدَابِهِ مَا لَا تَسْتَقِلُّ عُقُولُهُمْ بِالْوُصُولِ إِلَى مِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهِمْ وَحِفْظِ مَصَالِحِهِمْ، وَجَعَلَ فَوَائِدَ الدِّينِ وَآدَابَهُ سَائِقَةً إِلَى الْخَيْرِ صَارِفَةً عَنِ الشَّرِّ لِتَأْيِيدِهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَمَنْ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَضُرُّهُ وَيُؤْذِيهِ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ كَانَ هُوَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا.
قَالَ: وَنَفْيُ الظُّلْمِ هَاهُنَا عَلَى إِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَالذَّرَّةُ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنْ مُنْتَهَى الصِّغَرِ فِي الْأَجْسَامِ، وَقِيلَ: الذَّرُّ: الْهَبَاءُ، وَقِيلَ: النَّمْلُ الصَّغِيرُ الْأَحْمَرُ، أَوِ الذَّرَّةُ: رَأْسُ النَّمْلَةِ الصَّغِيرَةِ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْعُمُومِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ إِلَخْ، وَقَدْ قَدَّرَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) فِي الْآيَةِ هُنَا (أَحَدًا) لِلْإِشَارَةِ إِلَى الْعُمُومِ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْكَافِرِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا أَثَرَ لِعَمَلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٨: ١٠٥)، وَقَوْلِهِ فِي عَمَلِهِمْ: فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٥: ٢٣)، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْجَمْعِ: إِنَّ اللهَ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا خَاصٌّ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَلٌّ يَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْمُقَلِّدِينَ فِي جَعْلِ مَذَاهِبِهِمْ أَصْلًا، وَالْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فَرْعًا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ السَّقِيمِ وَالتَّحْرِيفِ الْبَعِيدِ.
قَالَ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِهَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَ قَائِلِيهَا أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ بِعَمَلٍ لَهُ، حَاتِمٌ بِكَرَمِهِ، وَأَبُو طَالِبٍ بِكَفَالَتِهِ النَّبِيَّ وَنَصْرِهِ إِيَّاهُ، بَلْ وَرَدَ حَدِيثٌ بِالتَّخْفِيفِ عَنْ أَبِي لَهَبٍ لِعِتْقِهِ ثُوَيْبَةَ حِينَ بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ
ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
86
هَذَا وَأَبُو لَهَبٍ هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ (١١١: ١)، إِلَخْ، السُّورَةِ، فَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ إِذَنْ لِلْآيَاتِ هُوَ أَنَّ اللهَ لَا يُقِيمُ وَزْنًا لِلْمُشْرِكِ فِي مُقَابَلَةِ شِرْكِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُ الشِّرْكَ عَمَلٌ صَالِحٌ فَيَمْحُوهُ، بَلِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِإِزَاءِ الشِّرْكِ هَبَاءٌ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكَ الْعَاصِيَ أَشَدُّ عَذَابًا مِنَ الْمُشْرِكِ الْمُحْسِنِ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَهُ تَعَالَى سَوَاءً، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ بِلَا شَكٍّ.
أَقُولُ: الْمِثْقَالُ ـ مِفْعَالٌ مِنَ الثِّقَلِ ـ الْمِقْدَارُ الَّذِي لَهُ ثَقُلَ مَهْمَا قَلَّ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْمِعْيَارِ الْمَخْصُوصِ لِلذَّهَبِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَالذَّرَّةُ أَصْغَرُ مَا يُدْرَكُ مِنَ الْأَجْسَامِ
كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَمَا أُطْلِقَ عَلَى النَّمْلَةِ وَعَلَى رَأْسِهَا وَعَلَى الْخَرْدَلَةِ، وَعَلَى الدَّقِيقَةِ مِنْ دَقَائِقِ الْهَبَاءِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ فِي نُورِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ مِنَ الْكُوَى ـ إِلَّا لِبَيَانِ مَكَانِ صِغَرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ; وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الذَّرَّةِ رِوَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا رَأْسُ النَّمْلَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ فَقَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ذَرَّةٌ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ: " إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ نَمْلَةٍ "، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا التَّفْسِيرُ، وَالظُّلْمُ مَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ النَّقْصُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا (١٨: ٣٣)، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْقُصُ أَحَدًا مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ، وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا مَا وَإِنْ صَغُرَ كَذَرَّةِ الْهَبَاءِ، بَلْ يُوَفِّيهِ أَجْرَهُ، وَلَا يُعَاقِبُهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِلْعُقُوبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى نَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ الْبَارِئِ فِي مَوَاضِعِ التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَنَارِ، مِنْهَا تَفْسِيرُ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٣: ١٨٢)، فَيُرَاجَعُ فِي ص ٢١٨ وَتَفْسِيرِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٣: ١٩٢)، فِي ص ٢٤٧ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ أَيْضًا، وَلَا أَذْكُرُ غَيْرَهَا الْآنَ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ الْكَلَامُ فِي الْجَزَاءِ وَمَوَازِينِ الْأَعْمَالِ، وَلَا تُفْهَمُ هَذِهِ الْآيَةُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا بِاسْتِبَانَةِ مَا حَقَّقْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَكَوْنِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ تَابِعَيْنِ لِتَأْثِيرِ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ بِالتَّزْكِيَةِ أَوِ التَّدْسِيَةِ، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيُؤَيِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَمَا أَخْطَأَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي فَهْمِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا لِذُهُولِهِمْ عَنْ مُقَارَنَةِ الْآيَاتِ الْمُتَنَاسِبَةِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَاسْتِبْدَالِهِمْ بِذَلِكَ تَحْكِيمَ الِاصْطِلَاحَاتِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعَهَا عُلَمَاءُ مَذَاهِبِهِمْ، وَإِرْجَاعِ الْآيَاتِ إِلَيْهَا وَحَمْلِهَا عَلَيْهَا، فَهَذَا يَسْتَشْكِلُ نَفْيَ الظُّلْمِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ; لِأَنَّ الْعَبِيدَ لَا يَسْتَحِقُّونَ عِنْدَهُ شَيْئًا مِنَ الْأَجْرِ، فَيَكُونُ مَنْعُهُ أَوِ النَّقْصُ مِنْهُ ظُلْمًا، ثُمَّ يُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَعْدِ فَهُوَ قَدْ وَعَدَ بِإِثَابَةِ الْمُحْسِنِ، وَأَوْعَدَ بِعِقَابِ الْمُسِيءِ، ثُمَّ جَعَلُوا جَوَازَ تَخَلُّفِ الْوَعْدِ أَوِ الْوَعِيدِ مَحَلَّ بَحْثٍ وَجِدَالٍ أَيْضًا، وَهَذَا يَقُولُ: إِنَّ إِثَابَةَ الْمُحْسِنِ وَعِقَابَ الْمُسِيءِ أَمْرٌ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ مُوَافِقٌ
87
لِلْحِكْمَةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ تَعَالَى أَوْ وَاجِبٌ فِي حَقِّهِ كَمَا يَجِبُ لَهُ كُلُّ كَمَالٍ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ كُلُّ نَقْصٍ، فَقَامَ
الْآخَرُونَ يُجَادِلُونَهُمْ عَلَى لَفْظِ " يَجِبُ عَلَيْهِ " وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: " يَجِبُ لَهُ " فَحَرَّفُوهَا، وَمَهْمَا قَالُوا فَالْمَقْصَدُ وَاحِدٌ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقْصِ، وَأَكْثَرُ الْجَدَلِ الَّذِي أَهْلَكَ الْمُسْلِمِينَ وَفَرَّقَهُمْ شِيَعًا وَأَذَاقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْمُشَاحَةِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، وَكِتَابُ اللهِ وَدِينُهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ الْقُرْآنِ مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا فِي مَسْأَلَةِ الْجَزَاءِ يَفْقَهُ مَعَهُ نَفْيَ الظُّلْمِ عَلَيْهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ، فَلِكُلِّ عَمَلٍ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ يَرْفَعُ نَفْسَهُ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ إِلَى عِلِّيِّينَ، أَوْ يَهْبِطُ بِهَا إِلَى سَافِلِينَ، وَلِذَلِكَ دَرَجَاتٌ وَمَثَاقِيلُ مُقَدَّرَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا يُحِيطُ بِدَقَائِقِهَا إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.
وَإِنْ تَكْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا أَقُولُ: أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْقِصُ أَحَدًا مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يَزِيدُ لِلْمُحْسِنِ فِي حَسَنَتِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الذَّرَّةُ الَّتِي عَمِلَهَا الْعَامِلُ سَيِّئَةً كَانَ جَزَاؤُهَا بِقَدْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا لَهُ اللهُ تَعَالَى عَشْرَةَ أَضْعَافٍ أَوْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦: ١٦٠)، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ، وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (٢: ٢٤٥)، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: " وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ "، بِرَفْعِ حَسَنَةٍ أَيْ: وَإِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: " يُضَعِّفْهَا " بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مِنَ التَّضْعِيفِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضَاعَفَةِ، وَرَدُّوا قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنَّ ضَاعَفَ يَقْتَضِي مِرَارًا كَثِيرَةً وَضَعَّفَ يَقْتَضِي مَرَّتَيْنِ.
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا يَعْنِي أَنَّ فَضْلَهُ تَعَالَى أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُضَاعِفَ لِلْمُحْسِنِ حَسَنَتَهُ فَقَطْ بِأَلَّا يَكُونَ عَطَاؤُهُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْحَسَنَاتِ، بَلْ هُوَ يَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ مِنْ فَضْلِهِ وَيُعْطِيهِمْ مِنْ لَدُنْهُ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ حَسَنَاتِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ عَطَاءً كَبِيرًا قَالُوا: إِنَّهُ سَمَّى هَذَا الْعَطَاءَ أَجْرًا، وَهُوَ لَا مُقَابِلَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ مِنْ قَبِيلِ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ هَذَا التَّجَوُّزِ هِيَ الْإِيذَانُ بِأَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ الْعَظِيمَ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْمُحْسِنِينَ، فَهُوَ عِلَاوَةٌ عَلَى أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْعِلَاوَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَا مَطْمَعَ فِيهَا لِلْمُسِيئِينَ الَّذِينَ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُمُ الْمُفْرَدَةُ عَلَى
حَسَنَاتِهِمُ الْمُضَاعَفَةِ، فَمَا قَوْلُكَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ طُمِسَتْ حَسَنَاتُهُمْ فِي ظُلْمَةِ شِرْكِهِمْ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى! وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ الْعَظِيمَ هُوَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَرَاجِعْهُ فِي مَظَانِّهِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ حَذْفُ النُّونِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ فَإِنَّ أَصْلَهَا " تَكُنْ "
88
فَحُذِفَتِ النُّونُ لِلتَّخْفِيفِ سَمَاعًا، وَعَلَّلُوهُ بِتَشْبِيهِهَا بِحُرُوفِ الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ الْغُنَّةِ وَالسُّكُونِ " وَلَدُنْ " بِمَعْنَى: عِنْدَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ " لَدُنْ " أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُرْبِ مِنْ " عِنْدَ " فَلَا يُقَالُ: لَدَيَّ مَالٌ إِلَّا إِذَا كَانَ حَاضِرًا، وَيُقَالُ: عِنْدِي مَالٌ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا.
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا جَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعْطُوفَةً بِالْفَاءِ فَهُوَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ اللهُ لَا يُضَيِّعُ مِنْ عَمَلِ عَامِلٍ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ النَّاسِ إِذَا جَمَعَهُمُ اللهُ، وَجَاءَ بِالشُّهَدَاءِ عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ فَمَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَلَهَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ!.
هَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا النَّاسُ وَبَكَى لَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ; إِذْ أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ.
هَذِهِ الشَّهَادَةُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَابَلَةِ عَقَائِدِهِمْ، وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِعَقَائِدِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ.
تُعْرَضُ أَعْمَالُ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى نَبِيِّهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَنْ شَهِدَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَعْمَالِهِمْ وَظُهُورِهَا، بِأَنَّهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَعَمِلَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْعَمَلِ بِهِ فَهُمُ النَّاجُونَ.
إِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ تَدَّعِي اتِّبَاعَ نَبِيِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مَمْلُوءَةً بِالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ، وَأَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا شُرُورٌ أَوْ مَفَاسِدُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاسِ، فَهَؤُلَاءِ يَتَبَرَّأُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ وَإِنِ ادَّعَوْا هُمُ اتِّبَاعَهُمْ وَالِانْتِمَاءَ إِلَيْهِمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَهَادَةُ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ فَهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَهُوَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ شَهَادَتُهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (٢: ١٤٣)، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَكُونُ بِسِيرَتِهَا شَهِيدَةً عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَحُجَّةً عَلَيْهَا فِي انْحِرَافِهَا عَنْ هَدْيِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الْأَعْظَمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ بِسِيرَتِهِ الْعَالِيَةِ وَسُنَّتِهِ الْمُعْتَدِلَةِ حُجَّةً عَلَى الْمُفْرِطِينَ وَالْمُفَرِّطِينَ مِنْ أُمَّتِهُ اتِّبَاعًا لِلْبِدَعِ الطَّارِئَةِ وَالتَّقَالِيدِ الْمُحْدَثَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَرَاجِعْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ فَهُوَ مَا رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ
89
سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ إِلَخْ، فَقَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَعْتَبِرُ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا وَهُمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ كَمَا اعْتَبَرَ الشَّهِيدُ الْأَعْظَمُ فَيَبْكُونَ لِتَذَكُّرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا بَكَى، وَيَسْتَعِدُّونَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَاجْتِنَابِ جَمِيعِ الْبِدَعِ وَالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِهِ، لِأَنْ يَكُونُوا كَأَصْحَابِهِ أُمَّةً وَسَطًا لَا تَفْرِيطَ عِنْدِهَا فِي الدِّينِ، وَلَا إِفْرَاطَ لَا فِي أُمُورِ الْجَسَدِ وَلَا فِي أُمُورِ الرُّوحِ، أَمْ يَظَلُّونَ سَادِرِينَ فِي غَلْوَائِهِمْ، مُقَلِّدِينَ لِآبَائِهِمْ؟ أَلَا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْكَافِرِينَ وَالْعَاصِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حَالِ الْكَافِرِينَ الَّتِي أُشِيرَ إِلَى شَدَّتِهَا، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ جَوَابُ فَكَيْفَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَمَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ النَّاسِ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ إِلَخْ.
وَالْجَوَابُ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ أَيْ يُحِبُّ وَيَتَمَنَّى الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ فَلَمْ يَتَّبِعُوا مَا جَاءَ بِهِ أَنْ يَصِيرُوا تُرَابًا تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فَيَكُونُوا وَإِيَّاهَا سَوَاءً كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّبَأِ: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (٧٨: ٤)، وَقِيلَ: أَنْ يُدْفَنُوا وَتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أَوْ تُسَوَّى عَلَيْهِمْ كَمَا تُسَوَّى عَلَى الْمَوْتَى عَادَةً، وَقِيلَ: يَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَهُمْ فَيَدْفَعُوهَا فِدْيَةً، فَتَكُونَ مُسَاوِيَةً لَهُمْ: إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ (٥: ٣٦)، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (تَسَّوَّى) بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا تَتَسَوَّى فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا فِي الْمَخْرَجِ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ بِتَخْفِيفِ السِّينِ مَعَ الْإِمَالَةِ بِحَذْفِ تَاءٍ تَتَسَوَّى الثَّانِيَةِ وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ.
وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا عَطْفٌ عَلَى يَوَدُّ أَيْ: لَا يَكْتُمُونَ شَيْئًا مِنْ خَبَرِ كُفْرِهِمْ وَلَا سَيِّئَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ أَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَفْرٍ وَأَبَاطِيلَ وَبِدَعٍ وَتَقَالِيدَ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا لَيْسَ خَبَرًا مُجَرَّدًا وَإِنَّمَا الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ يَمُوتُونَ أَوْ يَكُونُونَ تُرَابًا فَتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلَا يَكُونُونَ كَتَمُوا اللهَ تَعَالَى وَكَذَبُوا أَمَامَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِإِنْكَارِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمُ الَّذِي بَيَّنَهُ تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٦: ٢٢ - ٢٤)، فَهُمْ عِنْدَمَا يَكْذِبُونَ وَيُنْكِرُونَ شِرْكَهُمْ، إِمَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَيْسَ شِرْكًا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِشْفَاعٌ وَتَوَسُّلٌ إِلَى اللهِ بِمَنِ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِمَّا مُكَابِرَةً وَتَوَهُّمًا أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ وَيَدْرَأُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، عِنْدَ ذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ فِيمَا أَحْدَثُوا مِنْ شِرْكِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ شَيْئًا ابْتَدَعُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ
90
بِقِيَاسِ رَبِّهِمْ عَلَى مُلُوكِهِمُ الظَّالِمِينَ وَأُمَرَائِهِمُ الْمُسْتَبِدِّينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ عِقَابَ بَعْضِ الْمُسِيئِينَ بِشَفَاعَةِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِمْ مِنْ بِطَانَتِهِمْ وَيُقَرِّبُونَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّقْرِيبَ بِشَفَاعَتِهِمْ أَيْضًا، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِمْ تَمَنَّوْا لَوْ كَانُوا سُوِّيَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ وَمَا افْتَرَوْا ذَلِكَ الْكَذِبَ، وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّحَهُ: أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ فَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا مُجَرَّدًا مَعْطُوفًا عَلَى يَوَدُّ قَالَ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، وَيَعْتَرِفُونَ فِي بَعْضِهَا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَذَّبُوا وَكَتَمُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمُ اعْتَرَفُوا وَمَا
كَذَبُوا بِأَنْ يَكُونَ حَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقِيضَيْنِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْآخَرُ، وَمِثْلُ هَذَا مُشَاهَدٌ فِي مُحَاكَمَةِ الْمُجْرِمِينَ فِي الدُّنْيَا يُنْكِرُونَ ثُمَّ يُقِرُّونَ، وَيُكَذِّبُونَ ثُمَّ يُصَدِّقُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتْمَانِ هُنَا كِتْمَانُ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا كَكِتْمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ صِفَةَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْبِشَارَاتِ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْكَلَامُ، وَذَهَبَ الْبَقَاعِيُّ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الْمُحْدَثُ، أَوِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي لَمْ يَجِئْ بِهِ رُسُلُهُمْ، قَالَ: أَيْ شَيْئًا أَحْدَثُوهُ، بَلْ يَفْتَضِحُونَ بِسَيِّئِ أَخْبَارِهِمْ، وَيَحْمِلُونَ جَمِيعَ أَوْزَارِهِمْ، جَزَاءً لِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ مِنْ آيَاتِهِ، وَمَا نَصَبَ لِلنَّاسِ مِنْ بَيِّنَاتِهِ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا.
قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ: وَلَمَّا وَصَفَ الْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي يَوْمِ الْعَرْضِ، وَالْأَهْوَالَ الَّذِي أَدَّتْ فِيهِ سَطْوَةُ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ إِلَى تَمَنِّي الْعَدَمِ، وَمَنَعَتْ فِيهِ قُوَّةُ يَدِ الْقَهْرِ وَالْجَبْرِ أَنْ يَكْتُمَ حَدِيثًا، وَتَضَمَّنَ وَصْفُهُ أَنَّهُ لَا يَنْجُو فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَ طَاهِرَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالطَّاعَةِ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَفَ الْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الدُّنْيَا فِي مَقَامِ الْأُنْسِ وَحَضْرَةِ الْقُدُسِ الْمُنَجِّي مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالَّذِي حَظَرَتْ مَعَانِي اللُّطْفِ
91
وَالْجَمَالِ فِيهِ الِالْتِفَاتَ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَرَ بِالطَّهَارَةِ فِي حَالِ التَّزَيُّنِ بِهِ عَنِ الْخَبَائِثِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى إِلَخْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ: إِنَّهُمْ لَمَّا نُهُوا عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ تَعَالَى نُهُوا عَمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَقِيلَ: لَمَّا أُمِرُوا فِيمَا تَقَدَّمَ بِالْعِبَادَةِ أُمِرُوا هُنَا بِالْإِخْلَاصِ فِي رَأْسِ الْعِبَادَةِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِعِبَادَتِهِ وَتَرْكِ الشِّرْكِ بِهِ وَبِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَوَعَّدَ الَّذِينَ لَا يَقُومُونَ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ سُوَرٍ أُخْرَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْقِيَامِ بِأُمُورِ الدِّينِ وَتَكَالِيفِهِ كَمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (٢: ١٥٣)، وَقَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (٢٩: ٤٥)، وَقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٧: ١٩ - ٢٢)، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ، لَا بِالصَّلَاةِ هَكَذَا مُطْلَقًا بَلْ بِإِقَامَتِهَا، وَإِنَّمَا إِقَامَتُهَا الْقِيَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَهُوَ أَنْ يَنْبَعِثَ الْمُؤْمِنُ إِلَيْهَا بِبَاعِثِ الشُّعُورِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَجَلَالِهِ وَيُؤَدِّيهَا بِالْخُشُوعِ لَهُ تَعَالَى، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ هِيَ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي ; وَلِذَلِكَ جَاءَ ذِكْرُهَا هَاهُنَا عَقِبَ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْجَامِعَةِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ الصَّلَاةُ فِي الْقُرْآنِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ، وَذُكِرَتْ هَاهُنَا فِي سِيَاقِ النَّهْيِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي حَالِ السُّكْرِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مَعَهُ الْخُشُوعُ وَالْحُضُورُ مَعَ اللهِ تَعَالَى بِمُنَاجَاتِهِ بِكِتَابِهِ، وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ، فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ حَقِيقَتُهَا لَا مَوْضِعُهَا وَهُوَ الْمَسَاجِدُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهَا دُونَ مُطْلَقِ الْإِتْيَانِ بِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْمَسْجِدِ؛ إِذِ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ الْعَمَلِ مَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَفِي التَّنْزِيلِ خَاصَّةً وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا (١٧: ٣٢)، وَالنَّهْيُ عَنِ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ الصَّلَاةِ الْإِقَامَةُ، فَقَدْ سَنَّهَا اللهُ لَنَا لِإِعْدَادِنَا لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَرِّقِينَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى مَذَاهِبِهِمُ الْمُسْتَحْدَثَةِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ، بَلْ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمَحَالِّ ; إِذْ وُجِّهَ الْأَمْرُ إِلَى السَّكْرَانِ وَهُوَ لَا يَعِي الْخِطَابَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) : أَنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِ قَبْلَ السُّكْرِ بِأَنْ يَجْتَنِبَهُ إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ إِلَى التَّلَبُّسِ بِالصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهِ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالِاحْتِيَاطِ وَاجْتِنَابِ السُّكْرِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، أَقُولُ: سَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْعِبَارَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَمْهِيدٌ لِتَحْرِيمِ السُّكْرِ تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ يَتَّقِي أَنْ يَجِيءَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَكْرَانٌ، يَتْرُكُ الشُّرْبَ عَامَّةَ النَّهَارِ، وَأَوَّلَ اللَّيْلِ لِانْتِشَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي هَذِهِ
الْمُدَّةِ، فَالْوَقْتُ الَّذِي يَبْقَى لِلسُّكْرِ فِي وَقْتِ النَّوْمِ مِنْ بَعْدِ الْعَشَاءِ إِلَى السَّحَرِ، فَيَقِلُّ الشُّرْبُ فِيهِ لِمُزَاحَمَتِهِ لِلنَّوْمِ الَّذِي
92
لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَمَّا أَوَّلُ النَّهَارِ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الظَّهِيرَةِ، فَهُوَ وَقْتُ الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ، وَيَقِلُّ أَنْ يَسْكَرَ فِيهِ غَيْرُ الْمُتْرَفِينَ الَّذِينَ لَا عَمَلَ لَهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ نُزُولِهَا يَشْرَبُونَ بَعْدَ الْعَشَاءِ فَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا وَقَدْ زَالَ السُّكْرُ، وَصَارُوا يَعْلَمُونَ مَا يَقُولُونَ قَالَ:
(ثَانِيهَا) : أَنَّ الْأَمْرَ مُوَجَّهٌ إِلَى جُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ مُتَكَافِلُونَ مَأْمُورُونَ بِمَنْعِ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَمْنَعُوا السَّكْرَانَ مِنَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، فَالْأَمْرُ عَلَى حَدِّ: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا (٤: ٣٥)، أَيْ عَلَى حَدِّ الْأَقْوَالِ إِذْ يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ.
(ثَالِثُهَا) : أَنَّ السُّكْرَ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْغُوَاةُ لَا يُنَافِي فَهْمَ الْخِطَابِ، وَهُوَ النَّشْوَةُ وَالسُّرُورُ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَفْهَمُ السَّكْرَانُ وَيَفْهَمُ وَيَصِحُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَضْبِطُ أَعْمَالَهُ وَأَفْكَارَهُ وَأَقْوَالَهُ بِالتَّفْصِيلِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ فَأَمَّا مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّكْرَانُ مِمَّا لَا يَقْصِدُ فَصَاحِبُهُ لَا يُخَاطَبُ فِيهِ، وَهُوَ مَا عَرَّفَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ السَّكْرَانَ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ فِي مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ لِلنَّهْيِ يُفِيدُ أَنَّ الْعِلْمَ بِمَا يَقُولُهُ الْإِنْسَانُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ تِلَاوَةٍ وَذِكْرٍ وَاجِبٌ أَوْ شَرْطٌ، وَالْعِلْمُ بِهِ فَهْمُهُ ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا أَيْ إِلَى أَنْ يُحْسِنَهَا أَوْ يَعْجِزَ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ حَقِيقَتُهَا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَوْضِعُهَا فَالْمُرَادُ تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ وَهِيَ بُيُوتُ اللهِ عَنِ اللَّغْوِ وَالْكَلَامِ الْبَاطِلِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْدُرَ مِنَ السَّكْرَانِ.
أَقُولُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: " صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا، وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ، فَأَخَذَتْ مِنَّا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَنَزَلَتْ "، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ: " أَنَّ إِمَامَ الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتِ الْخَمْرُ مُبَاحَةً "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ حَقِيقَتُهَا، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
وَالضَّحَّاكِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا مَوَاضِعُهَا، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا بِنَاءً عَلَى تَجْوِيزِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكْرِ سُكْرُ النُّعَاسِ وَغَلَبَةِ النَّوْمِ، وَلَعَلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ شَبَّهَ النُّعَاسَ بِالسُّكْرِ وَجَعَلَ حُكْمَهُ كَحُكْمِهِ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِهِ وَالْعِلَّةُ فِي قِيَاسِهِ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا " إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ "، " وَحَتَّى " لِلْغَايَةِ وَفِي بَعْضِ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا
93
لِلتَّعْلِيلِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ كَحَتَّى فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لِفَهْمِ مَا يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا جُنُبًا، عَطَفَ فِيهِ قَوْلَهُ: وَلَا جُنُبًا، عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ سُكَارَى، وَالْمَعْنَى لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ سُكَارَى وَلَا جُنُبًا، فَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ سُكَارَى، حَالِيَّةٌ فَهِيَ فِي حَيِّزِ النَّصْبِ، وَفَرَّقَ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ، وَالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، فَمَعْنَى جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا، أَنَّ الرُّكُوبَ كَانَ وَصْفًا لَهُ حَالَ الْمَجِيءِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَجِيءِ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِهِ، وَمَعْنَى جَاءَ وَهُوَ رَاكِبٌ أَنَّ الرُّكُوبَ وَصْفٌ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَالِ تَلَبُّسِهِ بِهِ، وَقَدْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ غَيْرَ وَصْفٍ لِذِي الْحَالِ كَقَوْلِكَ: جَاءَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةً، وَقَدْ يَتَقَدَّمُ مَضْمُونُهَا فِعْلَ ذِي الْحَالِ الَّذِي جُعِلَتْ قَيْدًا لَهُ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، وَأَمَّا الْحَالُ الْمُفْرَدَةُ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا مُقَارَنَةُ فِعْلِ ذِي الْحَالِ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ، وَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ وَأَنَا صَائِمٌ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمٌ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ، بَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ ; لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِفِعْلِ ذِي الْحَالِ كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ، هَذَا وَإِنِّي لَا أَذْكُرُ أَنِّي رَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ بَيَانًا لِنُكْتَةِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ سُكَارَى وَلَا جُنُبًا، أَوْ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَلَا وَأَنْتُمْ جُنُبٌ، أَوْ يَجْعَلِ الْأُولَى مُفْرَدَةً وَالثَّانِيَةَ جُمْلَةً؟ وَهَلْ يَقَعُ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ اتِّفَاقًا، أَوْ
لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ؟ كَلَّا إِنَّ النُّكْتَةَ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ كَانَتِ اللُّغَةُ مَلَكَةً لَهُ، وَقَدْ تَخْفَى عَمَّنْ تَكُونُ صِنَاعَةً عِنْدَهُ لَا يَفْهَمُ دَقَائِقَ نُكَتِهَا إِلَّا عِنْدَ تَذَكُّرِ الْقَوَاعِدِ الصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا وَتُدَبِّرُهَا، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ الْمَلَكَةُ وَالصِّنَاعَةُ قَدْ يَفْهَمُ الْمُرَادَ فِي الْجُمْلَةِ وَيَغْفُلُ عَنْ إِيضَاحِهَا بِالْقَوَاعِدِ الصِّنَاعِيَّةِ، إِنَّ التَّعْبِيرَ بِجُمْلَةِ وَأَنْتُمْ سُكَارَى يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ السُّكْرِ الَّذِي يُخْشَى أَنْ يَمْتَدَّ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيُفْضِيَ إِلَى أَدَائِهَا فِي أَثْنَائِهِ، فَالْمَعْنَى: احْذَرُوا أَنْ يَكُونَ السُّكْرُ وَصْفًا لَكُمْ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَتُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى، فَامْتِثَالُ هَذَا النَّهْيِ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِ السُّكْرِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، بَلْ وَفِيمَا يَقْرُبُ مِنْ وَقْتِهَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى: لَا تُصَلُّوا حَالَ كَوْنِكُمْ سُكَارَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ الِاعْتِرَاضُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرِدُ لَوْ قَالَ تَعَالَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ سُكَارَى أَوْ يُقَالُ فِي دَفْعِهِ هَذَا، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ مِنْ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ فِي مَعْنَى هَذَا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ مَنْطُوقِ الْآيَةِ وَمَدْلُولِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا فَهِمْنَا مِنْهُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَوَقُّفِ الِامْتِثَالِ عَلَى اجْتِنَابِ السُّكْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ، وَأَمَّا نَهْيُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ جُنُبًا فَلَا يَتَضَمَّنُ نَهْيَهُمْ عَنِ الْجَنَابَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: وَأَنْتُمْ جُنُبٌ، فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ
94
دِقَّةِ عِبَارَةِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهَا، وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِاخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ ; فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ يُرِيدُ صَرْفَ النَّاسِ عَنِ السُّكْرِ، وَتَرْبِيَتَهُمْ عَلَى تَرْكِهِ بِالتَّدْرِيجِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ وَالضَّرَرِ، وَلَا يُرِيدُ صَرْفَهُمْ عَنِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا حَتَّى يَغْتَسِلُوا، فَهَذَا النَّهْيُ تَمْهِيدٌ لِفَرْضِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَوْنِهَا شَرْطًا لِلصَّلَاةِ، وَذَلِكَ النَّهْيُ تَمْهِيدٌ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَلْبَتَّةَ فِي سِيَاقِ إِيجَابِ الْفَهْمِ، وَالتَّدَبُّرِ لِمَا فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالتِّلَاوَةِ.
وَالْجُنُبُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ ـ يَعْنِي مِنْ قُرَّاءِ الْعَرَبِيَّةِ ـ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ الْآنَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا هِيَ صِيغَتُهُ وَمَا مَعْنَى أَصْلِ مَادَّتِهِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا اللَّفْظَ اسْتِعْمَالَ الْمَصَادِرِ فِي الْوَصْفِيَّةِ، فَقَالُوا: هُوَ جُنُبٌ وَهِيَ جُنُبٌ، وَهُمْ جُنُبٌ وَهُمْ جُنُبٌ، وَثَنَّاهُ وَجَمَعَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالُوا: جُنُبَانِ وَأَجْنَابٌ وَجَنُوبٌ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُجَانَبَةِ بِمَعْنَى الْمُبَاعَدَةِ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ.
وَقَدْ قَالُوا: جَانَبَهُ بِمَعْنَى سَارَ إِلَى جَنْبِهِ، وَمِنْهُ الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ لِرَفِيقِ السَّفَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ يَرْكَبُ بِجَانِبِ رَفِيقِهِ فِي الشُّقْدُفِ عَلَى الْبَعِيرِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْمُضَاجَعَةِ الَّتِي هِيَ أَعَمُّ أَسْبَابِ الْجَنَابَةِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْجَارَ الْجُنُبَ هُوَ مَنْ كَانَ بَيْتُهُ بِجَانِبِ بَيْتِكَ، وَفَاتَنِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ أَيْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ جُنُبًا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَوْنَكُمْ عَابِرِي سَبِيلٍ أَيْ: مُجْتَازِي طَرِيقٍ، وَقِيلَ: إِنَّ إِلَّا هُنَا صِفَةٌ بِمَعْنَى غَيْرَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى مَا اشْتَرَطَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ لِذَلِكَ مِنْ تَعَذُّرِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا حَقِيقَتُهَا فَسَّرَ عَابِرَ السَّبِيلِ هُنَا بِالْمُسَافِرِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ مَوَاضِعُهَا ـ أَيِ الْمَسَاجِدُ ـ فُسِّرَ بِالْمُجْتَازِ لِحَاجَةٍ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ وَغَيْرُهُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِالْآيَةِ عَلَى جَوَازِ مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الْمُكْثِ فِيهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُجِيزُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا حَقِيقَتُهَا وَمَكَانُهَا مَعًا، وَحِينَئِذٍ يَجْعَلُ اسْتِثْنَاءَ الْعُبُورِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، وَإِنِّي لَأَسْتَبْعِدُ التَّعْبِيرَ عَنِ السَّفَرِ بِعُبُورِ السَّبِيلِ، وَالسَّفَرُ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ بِلَفْظِ السَّفَرِ، فَالْمُتَعَيَّنُ عِنْدِي فِي الْعُبُورِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَهُوَ بِالْمُرُورِ بِالْمَسْجِدِ ; لِأَنَّهُ مَنْ قَرُبَ الصَّلَاةَ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا الْمَكَانُ وَحْدَهُ، أَمِ الْمَكَانُ وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا أَمِ الْحَقِيقَةُ وَحْدَهَا ; لِأَنَّ الْمُكْثَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الصَّلَاةِ، فَالْمَنْعُ مِنْهُ يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ جِيرَانِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَانَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ وَمَنَافِذُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَكَانُوا يَعْبُرُونَ مِنْهُ إِلَى بُيُوتِهِمْ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ يُقِيمُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فَهِمُوا مِنْهَا
95
وَلَا بُدَّ أَنَّ إِقَامَةَ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ تُعَدُّ مِنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَثْنَ عَابِرِي السَّبِيلِ لَكَانَ عَلَى أُولَئِكَ الْجِيرَانِ حَرَجٌ فِي إِلْزَامِهِمْ أَلَّا يَخْرُجُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ إِذَا كَانُوا جُنُبًا، وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ تِلْكَ الْأَبْوَابِ وَالْكُوَى إِلَّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ الشَّرِيفِ، وَقَدِ اسْتَثْنَى خَوْخَةَ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ (أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَالْخَوْخَةُ: الْكُوَّةُ وَالْبَابُ الصَّغِيرُ مُطْلَقًا، أَوْ مَا كَانَ فِي الْبَابِ الْكَبِيرِ، بَلْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ.
حَتَّى تَغْتَسِلُوا أَيْ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ جُنُبًا إِلَّا بِأَدَائِهَا، وَلَا بِالْمُكْثِ فِي مَكَانِهَا إِلَى أَنْ تَغْتَسِلُوا إِلَّا مَا رُخِّصَ لَكُمْ فِيهِ مِنْ عُبُورِ السَّبِيلِ فِي الْمَسْجِدِ، وَحِكْمَةُ الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ كَحِكْمَةِ الْوُضُوءِ وَهِيَ النَّظَافَةُ وَالطَّهَارَةُ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَلِهَاتَيْنِ الطَّهَارَتَيْنِ فَوَائِدُ صِحِّيَّةٌ وَأَدَبِيَّةٌ سَنُبَيِّنُهَا هُنَا بِالتَّفْصِيلِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَالِاغْتِسَالُ عِبَارَةٌ عَنْ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْجَنَابَةِ أَنْ تُحْدِثَ تَهَيُّجًا فِي الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فَيَتَأَثَّرَ بِهَا الْبَدَنُ كُلُّهُ وَيَعْقُبُهَا فُتُورٌ، وَضَعْفٌ فِيهِ يُزِيلُهُ الْمَاءُ ; وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ جَهِلَ هَذَا مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ لَمَا أَوْجَبَ فِي الْجَنَابَةِ إِلَّا غَسْلَ أَعْضَاءِ التَّنَاسُلِ، فَأَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا جَعَلَهُ غَايَةً لِلنَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ الْجُنُبِ أَنْ يَتَحَرَّى الْإِنْسَانُ فِي صِلَاتِهِ النَّظَافَةَ وَالنَّشَاطَ، كَمَا أَوْجَبَ فِيمَا جَعَلَهُ غَايَةً لِلنَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ السَّكْرَانِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا الْعِلْمَ وَالْفَهْمَ وَتَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرَ، وَيَتَوَقَّفُ هَذَا عَلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْقُرْآنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ وَهَذَا شَيْءٌ مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ.
وَلَمَّا كَانَ الِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ يَتَعَسَّرُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَيَتَعَذَّرُ فِي بَعْضِهَا وَمِثْلُهُ الْوُضُوءُ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ عِبَادَةً مَحْتُومَةً وَفَرِيضَةً مَوْقُوتَةً لَا هَوَادَةَ فِيهَا وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا ; لِأَنَّهَا بِتَكْرَارِهَا تُذَكِّرُ الْمَرْءَ إِذَا نَسِيَ مُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى فَتَعُدُّهُ لِلتَّقْوَى، بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَالِاسْتِعَاضَةِ عَنْهُ بِالتَّيَمُّمِ، فَقَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ، وَالشَّأْنُ فِيهِمَا تَعَسُّرُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَاءُ ضَارًّا بِالْمَرِيضِ كَبَعْضِ الْأَمْرَاضِ الْجِلْدِيَّةِ وَالْقُرُوحِ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ، أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً أَيْ: أَوْ أَحْدَثْتُمْ حَدَثًا أَصْغَرَ، وَهُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ ـ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ ـ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ كِنَايَةً كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي النَّزَاهَةِ بِالْكِنَايَةِ عَمَّا لَا يَحْسُنُ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَالْغَائِطُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ كَالْوَادِي، وَأَهْلُ الْبَوَادِي وَالْقُرَى الصَّغِيرَةِ يَقْصِدُونَ بِحَاجَتِهِمُ الْأَمَاكِنَ الْمُنْخَفِضَةَ لِأَجْلِ السَّتْرِ، وَالِاسْتِخْفَاءِ عَنِ الْأَبْصَارِ، ثُمَّ صَارَ لَفْظُ الْغَائِطِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً
فِي الْحَدَثِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيُكَنَّى عَنِ الْحَدِيثِ فِي الْمُدُنِ الْآهِلَةِ
96
الَّتِي تُتَّخَذُ فِيهَا الْكُنُفُ بِكِنَايَاتٍ أُخْرَى، وَمُلَامَسَةُ النِّسَاءِ: كِنَايَةٌ عَنْ غِشْيَانِهِنَّ وَالْإِفْضَاءِ إِلَيْهِنَّ، وَحَقِيقَةُ اللَّمْسِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْ بِالْيَدِ فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَحَقِيقَتُهَا إِصَابَةُ الْبَشَرَةِ لِلْبَشَرَةِ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْجِلْدِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " أَوْ لَمَسْتُمُ " وَلَا تُنَافِي قِرَاءَتُهُمَا ذَلِكَ التَّجَوُّزَ الْمَشْهُورَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ بَشَرَةِ النِّسَاءِ إِلَّا الْمَحَارِمَ مِنْهُنَّ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أَيْ: فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ: الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ وَفَقْدُ الْمَاءِ عَقِبَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ الْأَكْبَرِ الْمُوجِبِ لِلْغُسْلِ تَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، أَيِ اقْصِدُوا وَتَحَرَّوْا مَكَانًا مَا مِنْ صَعِيدِ الْأَرْضِ، أَيْ: وَجْهِهَا طَيِّبًا، أَيْ طَاهِرًا لَا قَذَرَ فِيهِ وَلَا وَسَخَ، فَامْسَحُوا هُنَاكَ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، تَمْثِيلًا لِمُعْظَمِ عَمَلِ الْوُضُوءِ فَصَلُّوا، فَقَيْدُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً لِلْجَائِي مِنَ الْغَائِطِ وَمُلَامِسِ النِّسَاءِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ الْقَيْدَ بَعْدَ الْجُمَلِ لِلْأَخِيرَةِ، وَمَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُهُ لِلْجَمِيعِ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ، وَالْمَانِعُ هُنَا: أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِاشْتِرَاطِ فَقْدِ الْمَاءِ لِتَيَمُّمِ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ دُونَ الصَّحِيحِ وَالْمُقِيمِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ كَحُكْمِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ، أَوْ مُلَامِسِ النِّسَاءِ وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَعَلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ التَّيَمُّمُ فَقَطْ، هَذَا مَا يَفْهَمُهُ الْقَارِئُ مِنَ الْآيَةِ نَفْسِهَا إِذَا لَمْ يُكَلِّفْ نَفْسَهُ حَمْلَهَا عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ وَرَاءِ الْقُرْآنِ يَجْعَلُهَا بِالتَّكَلُّفِ حُجَّةً لَهُ مُنْطَبِقَةً عَلَيْهِ، وَقَدْ طَالَعْتُ فِي تَفْسِيرِهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ تَفْسِيرًا فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا غَنَاءً، وَلَا رَأَيْتُ قَوْلًا فِيهَا يَسْلَمُ مِنَ التَّكَلُّفِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْمُصْحَفِ وَحْدَهُ فَوَجَدْتُ الْمَعْنَى وَاضِحًا جَلِيًّا، فَالْقُرْآنُ أَفْصَحُ الْكَلَامِ وَأَبْلَغُهُ وَأَظْهَرُهُ، وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ ـ مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبَهَا ـ إِلَى تَكَلُّفَاتِ فَنُونِ النَّحْوِ وَغَيْرِهِ مِنْ فُنُونِ اللُّغَةِ عِنْدَ حَافِظِي أَحْكَامِهَا مِنَ الْكُتُبِ مَعَ عَدَمِ تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ ـ إِلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ عَدُّوا الْآيَةَ مُشْكِلَةً ; لِأَنَّهَا لَمْ تَنْطَبِقْ عَلَى مَذَاهِبِهِمُ انْطِبَاقًا ظَاهِرًا سَالِمًا مِنَ الرَّكَاكَةِ وَضَعْفِ التَّأْلِيفِ، وَالتَّكْرَارِ الَّتِي يَتَنَزَّهُ عَنْهَا أَعْلَى الْكَلَامِ وَأَبْلَغُهُ، وَإِذَا كَانَ رَحِمَهُ اللهُ قَدْ رَاجَعَ خَمْسَةً
وَعِشْرِينَ تَفْسِيرًا رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ فِيهَا قَوْلًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، فَأَنَا لَمْ أُرَاجِعْ عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِهَا إِلَّا رُوحَ الْمَعَانِي وَهُوَ آخِرُ التَّفَاسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ تَأْلِيفًا، وَصَاحِبُهُ وَاسِعُ الِاطِّلَاعِ فَإِذَا بِهِ يَقُولُ: " الْآيَةُ مِنْ مُعْضِلَاتِ الْقُرْآنِ "، وَوَاللهِ إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مُعْضِلَةً وَلَا مُشْكِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مُعْضِلَاتٌ إِلَّا عِنْدَ الْمَفْتُونِينَ بِالرِّوَايَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، وَعِنْدَ مَنِ اتَّخَذُوا الْمَذَاهِبَ الْمُحْدَثَةَ بَعْدَ الْقُرْآنِ أُصُولًا لِلدِّينِ يَعْرِضُونَ الْقُرْآنَ عَلَيْهَا عَرْضًا، فَإِذَا وَافَقَهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ أَوْ بِتَكَلُّفٍ قَلِيلٍ فَرِحُوا وَإِلَّا عَدُّوهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ وَالْمُعْضِلَاتِ ; عَلَى أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْقَطْعِيَّةَ الْمَعْرُوفَةَ عَمَّنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ لِهَذَا الدِّينِ، وَأَنَّ حُكْمَ اللهِ يُلْتَمَسُ فِيهِ أَوَّلًا فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ يُؤْخَذُ، وَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ وَلَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى مَأْخَذٍ آخَرَ،
97
وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْتُمِسَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، عَلَى هَذَا أَقَرَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُعَاذًا حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ ; وَبِهَذَا كَانَ يَتَوَاصَى الْخُلَفَاءُ وَالْأَئِمَّةُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَدْ رَأَى الْقَارِئُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَاضِحٌ فِي نَفْسِهِ لَا تَكَلُّفَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
سَيَقُولُ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ: نَعَمْ إِنَّ الْآيَةَ وَاضِحَةُ الْمَعْنَى كَامِلَةُ الْبَلَاغَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْتُمْ، وَلَكِنَّهَا تَقْتَضِي عَلَيْهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ، وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَنَا، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَخْفَى مَعْنَاهَا هَذَا عَلَى أُولَئِكَ الْفُقَهَاءِ الْمُحَقِّقِينَ وَيُعْقَلُ أَنْ يُخَالِفُوهَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ لِظَاهِرِهَا أَرْجَعُوهَا إِلَيْهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ ـ وَإِنْ كَانَ الْمُقَلِّدُ لَا يُحَاجُّ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ ـ وَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغُ الْكَلَامِ وَأَسْلَمُهُ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالضَّعْفِ مُعْضِلًا مُشْكِلًا؟ وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ: آلطَّعْنُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَبَيَانِهِ لِحَمْلِهِ عَلَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ تَجْوِيزُ الْخَطَأِ عَلَى الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ الْمُلْتَئِمُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ الَّتِي مِنْهَا قَصْرُ الصَّلَاةِ وَجَمْعُهَا وَإِبَاحَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، فَهَلْ يُسْتَنْكَرُ مَعَ هَذَا أَنْ يُرَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ فِي تَرْكِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ، وَهُمَا دُونَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي نَظَرِ الدِّينِ؟ أَلَيْسَ مِنَ الْمُجَرَّبِ أَنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ يَشُقَّانِ عَلَى الْمُسَافِرِ الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي سَهُلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ السَّفَرِ فِي قِطَارَاتِ السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ وَالْبَوَاخِرِ؟ أَفَلَا يَتَصَوَّرُ الْمُنْصِفُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهِمَا أَشَدُّ عَلَى الْمُسَافِرِينَ عَلَى ظُهُورِ الْإِبِلِ فِي مَفَاوِزِ الْحِجَازِ
وَجِبَالِهَا؟ هَلْ يَقُولُ مُنْصِفٌ: إِنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ، أَوِ الْعَصْرِ أَرْبَعًا فِي السَّفَرِ أَسْهَلُ مِنَ الْغُسْلِ أَوِ الْوُضُوءِ فِيهِ؟ السَّفَرُ مَظَنَّةُ الْمَشَقَّةِ يَشُقُّ فِيهِ غَالِبًا كُلُّ مَا يُؤْتَى فِي الْحَضَرِ بِسُهُولَةٍ، وَأَشَقُّ مَا يَشُقُّ فِيهِ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ حَاضِرًا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا هَذِهِ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، فَإِنَّ الْمَاءَ فِيهَا كَثِيرٌ دَائِمًا وَفِي كُلِّ بَاخِرَةٍ مِنْهَا حَمَّامَاتٌ، أَيْ: بُيُوتٌ مَخْصُوصَةٌ لِلِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ السَّخِنِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ، وَلَكِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءُ مِنْهُمْ مَنْ يُصِيبُهُ دُوَارٌ شَدِيدٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعَهُ الِاغْتِسَالُ أَوْ خَفِيفٌ يَشُقُّ مَعَهُ الِاغْتِسَالُ وَلَا يَتَعَذَّرُ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السُّفُنُ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلِاسْتِحْمَامِ مَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي بَيْتِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ زَمَنَ التَّنْزِيلِ يَشُقُّ فِيهَا الِاغْتِسَالُ أَوْ يَتَعَذَّرُ، فَمَا قَوْلُكَ فِي الِاغْتِسَالِ فِي قِطَارَاتِ سِكَكِ الْحَدِيدِ أَوْ قَوَافِلِ الْجِمَالِ أَوِ الْبِغَالِ؟
أَلَا إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ غَفْلَةَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذِهِ الرُّخْصَةِ الصَّرِيحَةِ فِي عِبَارَةِ الْقُرْآنِ، الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ وَأَوْلَى مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ الصِّيَامِ، وَأَظْهَرُ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْأَحْكَامِ، وَاحْتِمَالُ رَبْطِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ بِعِيدٌ، بَلْ مَمْنُوعٌ أَلْبَتَّةَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فِي الْمَرْضَى؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ فَقْدِ الْمَاءِ فِي حَقِّهِمْ لَا فَائِدَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصِحَّاءَ مِثْلُهُمْ فِيهِ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُمْ
98
لَغْوًا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ الْقُرْآنُ، وَنَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ الْمُسَافِرِينَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُقِيمَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ يَتَيَمَّمُ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَوْلَا أَنَّ السَّفَرَ سَبَبٌ لِلرُّخْصَةِ كَالْمَرَضِ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ ; وَلِذَلِكَ عَلَّلُوهُ بِمَا هُوَ ضَعِيفٌ مُتَكَلَّفٌ، وَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ فَقْدِ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ، أَوِ الْمُكْثِ مُدَّةً عَلَى غَيْرِ مَاءٍ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، رَوَوْا " أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَعْضِ أَسْفَارِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدِ انْقَطَعَ فِيهَا عِقْدٌ لِعَائِشَةَ، فَأَقَامَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَالنَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَلَمَّا صَلَّوْا بِالتَّيَمُّمِ جَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إِلَى مَضْرِبِ عَائِشَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: مَا أَكْثَرَ بَرَكَتَكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ " رَوَاهُ السِّتَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَرْحَمُكِ اللهُ تَعَالَى يَا عَائِشَةُ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا فَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ، وَهِيَ مِنْ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ لَا حُكْمَ لَهَا فِي تَغْيِيرِ مَدْلُولِ الْآيَةِ، وَلَا تُنَافِي جَعْلَ الرُّخْصَةِ أَوْسَعَ مِنَ الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا شَمِلَتِ الْمَرْضَى، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَرْضَى شَقَّ عَلَيْهِمُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْجَيْشِ كَانَ فَاقِدًا لِلْمَاءِ، وَلَا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَعَلَ التَّيَمُّمَ فِيهَا خَاصًّا بِفَاقِدِي الْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَمِثْلُهَا سَائِرُ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ لِفَقْدِ الْمَاءِ الَّتِي هِيَ عُمْدَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَنْقُولَةٌ بِالْمَعْنَى، وَهِيَ وَقَائِعُ أَحْوَالٍ مُجْمَلَةٍ لَا تَنْهَضُ دَلِيلًا، وَمَفْهُومُهَا مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَا سِيَّمَا فِي مُعَارَضَةِ مَنْطُوقِ الْآيَةِ، وَإِنَّنَا نَرَى رُخْصَةَ قَصْرِ الصَّلَاةِ قَدْ قُيِّدَتْ بِالْخَوْفِ مِنْ فِتْنَةِ الْكَافِرِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَرَى هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا فِيهَا بِمَفْهُومِ هَذَا الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ، أَفَلَا يَكُونُ مَا هُنَا أَوْلَى بِأَلَّا يُشْتَرَطَ فِيهِ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ؟ وَرُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ نَالَتْهُمْ جِرَاحَةٌ وَابْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ فَشَكَوْا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنَزَلَتْ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنِ اغْتَسَلَ فِي السَّفَرِ بِمَشَقَّةٍ وَسَيَأْتِي.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ لِلْمُسَافِرِ بِلَا شَرْطٍ، وَلَا قَيْدٍ بَطَلَتْ كُلُّ تِلْكَ التَّشْدِيدَاتِ الَّتِي تَوَسَّعُوا فِي بِنَائِهَا عَلَى اشْتِرَاطِ فَقْدِ الْمَاءِ، وَمِنْهَا مَا قَالُوهُ مِنْ وُجُوبِ طَلَبِهِ فِي السَّفَرِ، وَمَا وَضَعُوهُ لِذَلِكَ مِنَ الْحُدُودِ كَحَدِّ الْقُرْبِ وَحَدِّ الْغَوْثِ، وَأَذْكُرُ أَنَّنِي عِنْدَمَا كُنْتُ أَدْرُسُ شَرْحَ الْمِنْهَاجِ فِي فِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ قَرَأْتُ بَابَ التَّيَمُّمِ فِي شَهْرَيْنِ كَامِلَيْنِ لَمْ أَتْرُكِ الدَّرْسَ فِيهِمَا لَيْلَةً وَاحِدَةً، فَهَلْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ أَحَدَ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمَ فِي التَّيَمُّمِ يَوْمَيْنِ أَوْ سَاعَتَيْنِ؟ وَهَلْ كَانَ هَذَا التَّوَسُّعُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَالشُّرُوطِ وَالْحُدُودِ سَعَةً وَرَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَمْ عُسْرًا وَحَرَجًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَا رَفَعَهُ اللهُ عَنْهُمْ؟.
إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا الْعَفُوُّ ذُو الْعَفْوِ الْعَظِيمِ، وَيُطْلَقُ الْعَفْوُ بِمَعْنَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ
99
وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ: خُذِ الْعَفْوَ (٧: ١٩٩)، وَفِي الْحَدِيثِ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صُدْفَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، أَيْ: أَسْقَطْتُهَا تَيْسِيرًا عَلَيْكُمْ، وَمِنْ عَفْوِهِ تَعَالَى أَنْ أَسْقَطَ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وُجُوبَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَمِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ مَحْوُ الشَّيْءِ يُقَالُ: عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَيُقَالُ: عَفَا الْأَثَرُ (لَازِمٌ) أَيْ: أُمْحِيَ، وَمِنْهُ الْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ عَفَا عَنْهُ، وَعَفَا لَهُ ذَنْبَهُ، وَعَفَا
عَنْ ذَنْبِهِ، أَيْ: مَحَاهُ، فَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ عِقَابًا، فَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ ; لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ مِنَ الْغَفْرِ، وَهُوَ السَّتْرُ، وَسَتْرُ الذَّنْبِ بِعَدَمِ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي بَقَاءَ أَثَرٍ خَفَيٍّ لَهُ، وَمَعْنَى الْعَفْوِ ذَهَابُ الْأَثَرِ، فَالْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ جَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِأَلَّا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي النَّفْسِ لَا ظَاهِرٌ وَلَا خَفِيٌّ، فَهَذَا التَّذْيِيلُ لِلْآيَةِ مُبَيِّنٌ مَنْشَأَ الرُّخْصَةِ وَالْيُسْرِ الَّذِي فِيهَا، وَهُوَ عَفْوُ اللهِ تَعَالَى، وَمُشْعِرٌ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْخَطَأِ فِي صَلَاةِ السُّكَارَى كَقَوْلِهِمْ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) مَغْفُورٌ لَهُمْ لَا يُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّنَا نَخْتِمُ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَسَائِلَ فِي أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ لَا بُدَّ مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى التَّيَمُّمِ اللُّغَوِيُّ وَالشَّرْعِيُّ:
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَهُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ
تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذِي شَزَنْ
ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي الْعَمَلِ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ ضَرْبُ الْيَدَيْنِ بِوَجْهِ الْأَرْضِ، وَمَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِهِمَا، وَصَارُوا يَقُولُونَ: تَيَمَّمَ بِالتُّرَابِ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، فَقَالَ:
تَيَمَّمْتُكُمْ لَمَّا فَقَدْتُ أُولِي النُّهَى وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ بِالتُّرْبِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ـ مَحَلُّ التَّيَمُّمِ:
نَصُّ الْآيَةِ أَنَّ مَحَلَّهُ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، وَلَكِنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى مَا تُزَاوَلُ بِهِ الْأَعْمَالُ مِنَ الْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ وَحَدُّهَا الرُّسْغُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: الْمَفْصِلُ الَّذِي يَرْبُطُ الْكَفَّ بِالسَّاعِدِ وَهِيَ الَّتِي تُقْطَعُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الذِّرَاعِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمِرْفَقِ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ إِلَى الْإِبِطِ وَالْكَتِفِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيهِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِنَّنَا نُلَخِّصُ ذَلِكَ مَعَ بَيَانِ الرَّاجِحِ فَنَقُولُ: جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا "، وَضَرَبَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ ـ وَسَيَأْتِي نَصُّهُ وَسَبَبُهُ وَمَا قِيلَ فِيهِ ـ وَفِي لَفْظٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِكَفَّيْكَ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ تَنْفُخَ فِيهِمَا، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ إِلَى الرُّسْغَيْنِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ،
وَمَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَعَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
أَقُولُ:
100
وَعَلَيْهِ الشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ أَيْضًا، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ لَهُ بِإِطْلَاقِ الْأَيْدِي فِي آيَةِ السَّرِقَةِ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْكَفَّانِ، وَرَدَّ الْحَافِظُ مَا أَوَّلَهُ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَهَذَا هُوَ عُمْدَةُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ ظَبْيَانَ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ، وَهُشَيْمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَلَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ: إِنَّ الْمَسْحَ إِلَى الْإِبِطَيْنِ، وَبِهَا أَخَذَ الزُّهْرِيُّ، وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهَا، وَلَفْظُ حَدِيثِ عَمَّارٍ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى " أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ وَلَمْ أَجِدْ مَاءً، فَقَالَ لَهُ: لَا تُصَلِّ، فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَصَابَتْنَا جَنَابَةٌ فَلَمْ نَجِدِ الْمَاءَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ، فَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدِكَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ تَنْفُخَ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ "، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ اللهَ يَا عَمَّارُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ، فَقَالَ: نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ ": أَيْ: بَلْ نَكِلُكَ إِلَى مَا قُلْتَ وَنَرُدُّ إِلَيْكَ مَا وَلَّيْتَهُ نَفْسَكَ، وَذَلِكَ إِذْنٌ لَهُ بِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَالْإِفْتَاءِ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ الَّذِي لَا حُجَّةَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَهُ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ:
" قَوْلُهُ: بَابُ التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، أَيْ: هُوَ الْوَاجِبُ الْمُجْزِئُ، وَأَتَى بِذَلِكَ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مَعَ شُهْرَةِ الْخِلَافِ فِيهِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ وَعَمَّارٍ، وَمَا عَدَاهُمَا فَضَعِيفٌ أَوْ مُخْتَلَفٌ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَالرَّاجِحُ عَدَمُ رَفْعِهِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي جَهْمٍ فَوَرَدَ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ مُجْمَلًا، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَوَرَدَ بِذِكْرِ الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَبِذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ فِي السُّنَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى الْآبَاطِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْمِرْفَقَيْنِ وَكَذَا نِصْفُ الذِّرَاعِ فَفِيهَا مَقَالٌ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْآبَاطِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكُلُّ تَيَمُّمٍ صَحَّ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ وَقَعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْحُجَّةُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَمِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ
كَوْنُ عَمَّارٍ كَانَ يُفْتِي بَعْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِذَلِكَ، وَرَاوِي الْحَدِيثِ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا سِيَّمَا الصَّحَابِيُّ الْمُجْتَهِدُ، انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ وَهُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا تَرْتِيبَ فِيهِ:
فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَفِي رِوَايَةِ شَقِيقٍ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِضَرْبَةٍ
101
وَاحِدَةٍ فَهِيَ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ:
قَوْلُهُ: " ظَهْرُ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرُ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ "، كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ تَحْرِيرُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: " ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ، وَبِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ عَلَى الْكَفَّيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ " وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي التَّيَمُّمِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ، وَفِيهِ أَنَّ التَّرْتِيبَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي التَّيَمُّمِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اخْتُلِفَ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ فَوَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ " ثُمَّ " وَفِي سِيَاقِهِ اخْتِصَارٌ، وَلِمُسْلِمٍ بِالْوَاوِ وَلَفْظُهُ: " ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ " وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا هُوَ أَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قُلْتُ: وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ الْجَمَّالِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ تَنْفُضَهُمَا، ثُمَّ تَمْسَحَ بِيَمِينِكَ عَلَى شِمَالِكَ، وَشِمَالِكَ عَلَى يَمِينِكَ، ثُمَّ تَمْسَحَ عَلَى وَجْهِكَ "، اهـ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا هُوَ الصَّعِيدُ؟ :
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالصَّعِيدُ التُّرَابُ أَوْ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَقَالَ الثَّعَالِبِيُّ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ: الصَّعِيدُ تُرَابُ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: الصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ أَيْضًا: وَيُقَالُ: الصَّعِيدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى وُجُوهٍ عَلَى التُّرَابِ الَّذِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَلَى الطَّرِيقِ، أَقُولُ: وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَ يَدَيْهِ عَلَى أَيِّ مَكَانٍ طَاهِرٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَيَمْسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الرِّوَايَاتِ بِتَيَمُّمِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ جِدَارٍ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْجَهْمِ، وَبِالْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ تَرَاهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِالتُّرَابِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ: وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: التُّرَابُ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ " وَجُعِلَ
التُّرَابُ لَنَا طَهُورًا " وَجَعَلُوا لِلتُّرَابِ مَعْنًى مَقْصُودًا كَمَا سَتَعْلَمُ فِي مَسْأَلَةِ حِكْمَةِ التَّيَمُّمِ.
وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ لَفْظَ التُّرْبَةِ وَالتُّرَابِ لَا يُؤْخَذُ بِمَفْهُومِهِ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ، فَهُوَ لَا يُخَصِّصُ الْمَنْطُوقَ وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ اثْنَانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَاحِدٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ ; عَلَى أَنَّ التُّرَابَ هُوَ الْأَعَمُّ الْأَكْثَرُ مِنْ صَعِيدِ الْأَرْضِ فَخُصَّ بِالذِّكْرِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَجَاءَتْ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ الْأَرْضِ، كَحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَرْفُوعِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالنَّسَائِيِّ: وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً وَطَهُورًا
102
وَمَسْجِدًا وَاسْتَدَلُّوا بِلَفْظِ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِذْ قَالَ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ (٥: ٦)، إِنَّ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِيمَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَارَضَهُمُ الْآخَرُونَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَيَمُّمِ النَّبِيِّ مِنَ الْجِدَارِ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ: " أَنَّهُ حَكَّهُ بِالْعَصَا، ثُمَّ مَسَحَ مِنْهُ " وَفِيهَا مَقَالٌ عَلَى أَنَّ مَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ لَيْسَ خَاصًّا بِالتُّرَابِ، فَأَكْثَرُ مَوَادِّ الْأَرْضِ يَنْفَصِلُ مِنْهَا شَيْءٌ إِذَا دِيسَتْ، أَوْ سُحِقَتْ، وَمِنَ التُّرَابِ اللَّزِجِ الَّذِي يَيْبَسُ فَلَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِضَرْبِ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُدَاسَ كَثِيرًا أَوْ يُدَقَّ، وَيَرَى هَؤُلَاءِ أَنَّ " مِنْ " فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ لِلِابْتِدَاءِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ مَا هُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَغْلَبُ، وَلَوْ كَانَ الْغُبَارُ قَيْدًا لَا بُدَّ مِنْهُ لَذُكِرَ فِي آيَةِ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَعَمِلَ النَّاسُ بِإِطْلَاقِهَا زَمَنًا طَوِيلًا، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى آيَةَ التَّيَمُّمِ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ فِيهِ عُسْرٌ يُنَافِي الرُّخْصَةَ وَنَفْيَ الْحَرَجِ الَّذِي عُلِّلَتْ بِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَجِدَ التُّرَابَ الطَّاهِرَ الَّذِي يَنْفَصِلُ مِنْهُ الْغُبَارُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ; وَلِهَذَا رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ يَحْمِلُونَ فِي أَسْفَارِهِمْ أَكْيَاسًا فِيهَا تُرَابٌ نَاعِمٌ يَتَيَمَّمُونَ مِنْهُ، وَالْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ الْآيَةِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرُ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَثَلًا، وَمَا كَانَ يُوجَدُ التُّرَابُ إِلَّا فِي بَعْضِ طَرِيقِهَا، وَلَوْ كَانَ الْغُبَارُ مَقْصُودًا لَمَا نَفَضَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَفَّيْهِ بَعْدَ أَنْ ضَرَبَ بِهِمَا الْأَرْضَ كَمَا فِي رِوَايَةِ شَقِيقٍ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ، وَلَمَا أَمَرَ بِنَفْخِهِمَا فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى لَهُ، وَهَلْ يَبْقَى بَعْدَ النَّفْضِ وَالنَّفْخِ مَا يَكْفِي لِإِصَابَةِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ مِنَ الضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ؟ فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى اشْتِرَاطِ التُّرَابِ أَوِ الْغُبَارِ غَيْرُ قَوِيٍّ، فَيَضْرِبُ الْمُتَيَمِّمُ بِيَدَيْهِ أَيَّ مَكَانٍ
طَاهِرٍ مِنْ ظَاهِرِ الْأَرْضِ حَيْثُ كَانَ وَيَمْسَحُ، فَإِنْ وَجَدَ مَكَانًا فِيهِ غُبَارٌ وَاخْتَارَهُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ فَذَاكَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُضَ يَدَيْهِ أَوْ يَنْفُخَهُمَا مِنَ الْغُبَارِ، وَلَا يُعَفِّرَ وَجْهَهُ بِهِ، وَإِنْ عَدَّ بَعْضُهُمُ التَّعْفِيرَ مِنْ حِكْمَةِ التَّيَمُّمِ، فَالسُّنَّةُ تُخَالِفُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ـ التَّيَمُّمُ عَنِ الْحَدَثَيْنِ لِفَاقِدِ الْمَاءِ، الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ فِيهِ سَوَاءٌ:
تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَمَّارٍ فِي السَّفَرِ، وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي اعْتَزَلَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِلْجَنَابَةِ وَفَقْدِ الْمَاءِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَهُ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ مَرْفُوعًا، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَمَسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ وَفِيهَا رِوَايَةُ شَقِيقٍ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ، وَأَبِي مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَرَأَيْتَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ
103
شَهْرًا كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ: لَا يَتَيَمَّمُ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَيْفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (٥: ٦)، قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَوْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَأَوْشَكَ إِذَا بَرُدَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمُوا بِالصَّعِيدِ، قَالَ: إِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللهِ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ بِالصَّعِيدِ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا، وَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرَ كَفِّهِ وَشِمَالَهُ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَوَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ؟ أَقُولُ: بَلْ قَنِعَ عُمَرُ بُقُولِ عَمَّارٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّوَسُّعَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ، وَكَانَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللهِ يَرَيَانِ أَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْوُضُوءِ دُونَ الْجَنَابَةِ، وَيَرَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلَامَسَةِ مَسُّ الْبَشَرَةِ، وَأَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجَعَا عَنْ قَوْلِهِمَا هَذَا، وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمَا إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ لِلْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ، وَأَنَّ كَيْفِيَّتَهُ لَهُمَا وَاحِدَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي كَوْنِ الْمُتَيَمِّمِ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ:
وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ
الْآيَةِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَسْقَطَ عَنْهُ شَرْطَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالدَّارِمِيِّ وَالْحَاكِمِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ: " خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا، فَصَلَّيَا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: " أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ "، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: " لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ ".
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الرِّوَايَةُ فِي تَيَمُّمِ الْمُسَافِرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ:
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ بِدُونِهِ تَفْسِيرُهَا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ يُخِلُّ بِبَلَاغَتِهَا، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةً عَمَلِيَّةً صَرِيحَةً إِلَّا حَدِيثَ الْأَسْلَعِ بْنِ شَرِيكٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ مَا نَصُّهُ:
" وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ فِي الْأَحْكَامِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ، وَالْبَغَوِيُّ، وَالْبَارُودِيُّ فِي الصَّحَابَةِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ الْأَسْلَعِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: " كُنْتُ أُرَحِّلُ نَاقَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرِّحْلَةَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُرَحِّلَ نَاقَتَهُ وَأَنَا جُنُبٌ، وَخَشِيتُ أَنْ أَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ
104
الْبَارِدِ فَأَمُوتَ، فَأَمَرْتُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي إِرْحَالِهَا، ثُمَّ رَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ سَمِعْتُ (لَعَلَّهُ أَدْرَكْتُ) رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ: يَا أَسْلَعُ، مَا لِي أَرَى رَحْلَتَكَ تَغَيَّرَتْ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أُرَحِّلْهَا، رَحَّلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْتُ: إِنِّي أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَخَشِيتُ الْقُرَّ عَلَى نَفْسِي فَأَمَرْتُهُ أَنْ يُرَحِّلَهَا وَرَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَسْلَعِ قَالَ: " كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأُرَحِّلُ لَهُ فَقَالَ لِي ذَاتَ لَيْلَةٍ: يَا أَسْلَعُ، قُمْ فَأَرْحِلْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَسَكَتَ عَنِّي سَاعَةً حَتَّى جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِآيَةِ الصَّعِيدِ، فَقَالَ: قُمْ يَا أَسْلَعُ، فَتَيَمَّمْ ثُمَّ أَرَانِي الْأَسْلَعُ كَيْفَ
عَلَّمَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ التَّيَمُّمَ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ فَدَلَّكَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، ثُمَّ نَفَضَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ذِرَاعَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا " اهـ.
وَحَدِيثُ الْأَسْلَعِ فِي التَّيَمُّمِ بِالضَّرْبَتَيْنِ فِي سَنَدِهِ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالرِّوَايَاتُ فِي التَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ قَلِيلَةٌ، وَفِي أَكْثَرِهَا ذِكْرُ فَقْدِ الْمَاءِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْآيَةَ مُشْكِلَةً أَوْ مُعْضِلَةً عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ ; عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَوْ كُلَّهَا عَلَى كَوْنِهَا وَقَائِعَ أَحْوَالٍ مَنْقُولَةٌ بِالْمَعْنَى، وَمَنْ نَظَرَ فِي آيَةٍ نَظَرًا مُسْتَقِلًّا فَهِمَهَا كَمَا فَهِمْنَاهَا، قَالَ السَّيِّدُ حَسَنٌ صِدِّيق خَانْ:
قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ، وَقَدْ كَثُرَ الِاخْتِبَاطُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْحَقُّ أَنْ قَيْدَ عَدَمِ الْوُجُودِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ، فَتَكُونُ الْأَعْذَارُ ثَلَاثَةً: السَّفَرَ، وَالْمَرَضَ، وَعَدَمَ الْوُجُودِ فِي الْحَضَرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَيْدَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَّصِلَةٍ كَانَ قَيْدًا لِآخِرِهَا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَكُونُ قَيْدًا لِلْجَمِيعِ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ فَكَذَلِكَ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ الْمَانِعُ هَاهُنَا مِنْ تَقْيِيدِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ بِعَدَمِ الْوُجُودِ لِلْمَاءِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُذْرٌ مُسْتَقِلٌّ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ كَالصَّوْمِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَحَادِيثُ التَّيَمُّمِ الَّتِي وَرَدَتْ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً بِالْحَضَرِ، انْتَهَى مِنْ شَرْحِهِ لِلرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ لِي أَنْ رَأَيْتُهُ عِنْدَ أَحَدِ الْأَصْدِقَاءِ بَعْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَإِرْسَالِهِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ إِلَى مِصْرَ لِيُطْبَعَ فِيهَا، فَأَلْحَقْتُهُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِيَاطَ: الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ وَعَدَمُ تَرْكِ الطِّهَارَةِ بِالْمَاءِ إِلَّا لِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مِنَ النَّظَافَةِ وَحِفْظِ الصِّحَّةِ وَالنَّشَاطِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ
105
آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَإِنَّنِي لَمْ أَتَيَمَّمْ فِي سَفَرٍ مِنْ أَسْفَارِي قَطُّ عَلَى أَنَّنِي وَجَدْتُ فِي بَعْضِهَا مَشَقَّةً مَا فِي الْوُضُوءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: التَّيَمُّمُ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْبَرْدِ.
الْجِرَاحُ مِنَ الْمَرَضِ أَوْ فِي مَعْنَى الْمَرَضِ، فَهِيَ مَظِنَّةُ الضَّرَرِ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوِ الْمَشَقَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ
أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَشَتْ فِيهِمُ الْجِرَاحُ وَأَصَابَتْهُمُ الْجَنَابَةُ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ قَالَ: " خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الزُّبَيْرُ بْنُ خِرْيَقٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى فِيهَا مَقَالٌ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: " أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَقُلْتُ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٤: ٢٩)، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، قَالَ الْعُلَمَاءُ، إِنَّ ضَحِكَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبْلَغُ فِي إِقْرَارِ ذَلِكَ مِنْ مُجَرَّدِ السُّكُوتِ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ حُجَّةٌ، فَإِنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ، وَاشْتَرَطَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِلْبَرْدِ الْعَجْزَ عَنْ تَسْخِينِ الْمَاءِ، وَلَوْ بِالْأُجْرَةِ وَعَنْ شِرَاءِ الْمَاءِ السَّاخِنِ بِالثَّمَنِ الْمُعْتَدِلِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: التَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ فِي الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ وَفِي اسْتِبَاحَةِ عِدَّةِ صَلَوَاتٍ بِهِ: لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ دُخُولُ الْوَقْتِ، وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ الثَّلَاثَةُ وَالْعِتْرَةُ يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ الْوُضُوءِ وَلَا دَلِيلَ فِيهَا، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: " جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ "، وَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا " جُعِلَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلِأُمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ عِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَلَا دَلِيلَ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ
لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّصِّ وَلَا نَصَّ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَعِيفَةٌ هُوَ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْمَنْقُوضَةِ.
106
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:
جَرَى جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ مَحْضٌ لَا حِكْمَةَ لَهُ إِلَّا الْإِذْعَانُ وَالْخُضُوعُ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى ; وَذَلِكَ أَنَّ لِأَكْثَرِ الْعِبَادَاتِ مَنَافِعَ ظَاهِرِيَّةً لِفَاعِلِيهَا، وَمِنْهَا: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، فَإِذَا هِيَ فُعِلَتْ لِأَجْلِ فَائِدَتِهَا الْبَدَنِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا مَعَ ذَلِكَ الْإِذْعَانُ وَطَاعَةُ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً ; وَلِذَلِكَ كَانَ التَّحْقِيقُ أَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا وَلَا سِيَّمَا الطَّهَارَةُ، وَمَعْنَى النِّيَّةِ قَصْدُ الِامْتِثَالِ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي الْعَمَلِ لَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْفَلْسَفَةِ، فَالْحِكْمَةُ الْعُلْيَا لِلتَّيَمُّمِ هِيَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُكَلَّفُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِتَمْثِيلِ بَعْضِ عَمَلِ الْوُضُوءِ لِيُشِيرَ بِهِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَاتَهُ مَا فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ مِنَ النَّظَافَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الطَّاعَةِ، فَالتَّيَمُّمُ رَمْزٌ لِمَا فِي الطِّهَارَةِ الْمَتْرُوكَةِ لِلضَّرُورَةِ مِنْ مَعْنَى الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي طَهَارَةِ النَّفْسِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الدِّينِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَالَّتِي شَرَعَتْ طَهَارَةَ الْبَدَنِ؛ لِتَكُونَ عَوْنًا عَلَيْهَا وَوَسِيلَةً لَهَا ; فَإِنَّ مَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَعِيشَ فِي الْأَوْسَاخِ وَالْأَقْذَارِ لَا يَكُونُ عَزِيزَ النَّفْسِ آبِيَ الضَّيْمِ كَمَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥: ٦).
وَيْلِي هَذِهِ الْحِكْمَةَ حِكْمَةٌ أُخْرَى عَالِيَةٌ، وَهِيَ مَا فِي تَمْثِيلِ عَمَلِ الطَّهَارَةِ بِالْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الثَّبَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ وَالْمُحَافَظَةِ، فَمَنِ اعْتَادَ ذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ إِتْقَانُ الْعَمَلِ وَإِتْمَامُهُ، وَمَنِ اعْتَادَ تَرْكَ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ الْمُؤَقَّتِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِهِ لِعُذْرٍ يُوشِكُ أَنْ يُتَهَاوَنَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، بَلْ لِمَحْضِ الْكَسَلِ ; فَمَلَكَةُ الْمُوَاظِبَةِ وَالْمُحَافِظَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّرْبِيَةِ وَالنِّظَامِ، وَتَرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَاضِحًا جَلِيًّا فِي نِظَامِ الْجُنْدِيَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْجُنُودَ فِي مَأْمَنِهِمْ دَاخِلَ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ يُقِيمُونَ الْخُفَرَاءَ عَلَيْهِمْ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي أَوْقَاتِ السِّلْمِ وَالْأَمَانِ؛ لِكَيْلَا يُقَصِّرُوا فِي ذَلِكَ أَيَّامَ الْحَرْبِ، وَلَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، كَذَلِكَ نَرَى الْعُمَّالَ فِي الْمَعَامِلِ وَالْبَوَاخِرِ يَتَعَاهَدُونَ الْآلَاتِ بِالْمَسْحِ وَالتَّنْظِيفِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا يَتَعَاهَدُ الْخَدَمُ فِي الْقُصُورِ وَالدُّورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ لِلْأُمَرَاءِ
وَالْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ يَلْتَزِمُونَ النِّظَامَ فِي مَعِيشَتِهِمُ الْأَمَاكِنَ بِالْكَنْسِ وَالْفَرْشِ وَالْأَثَاثَ بِالتَّنْفِيضِ وَالْمَسْحِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ وَسَخٌ وَلَا غُبَارٌ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ الْمَعَاهِدُ كُلُّهَا وَمَا فِيهَا نَظِيفًا دَائِمًا، وَمَا مِنْ مَكَانٍ تُتْرَكُ فِيهِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَتُتَّبَعُ قَاعِدَةُ تَنْظِيفِ الشَّيْءِ عِنْدَ طُرُوءِ الْوَسَخِ أَوِ الْغُبَارِ عَلَيْهِ فَقَطْ، إِلَّا وَتَرَى الْوَسَخَ يُلِمُّ بِهِ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّ إِبَاحَةَ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ مَثَلًا بِدُونِ الْإِتْيَانِ بِعَمَلٍ يُمَثِّلُ طَهَارَتَهَا، وَيُذَكِّرُ بِهَا تُضْعِفُ مَلَكَةَ الْمُوَاظِبَةِ حَتَّى يَصِيرَ الْعَوْدُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ مُسْتَثْقَلًا، وَأَنَّ فِي التَّيَمُّمِ تَقْوِيَةً لِتِلْكَ الْمَلَكَةِ وَتَذْكِيرًا بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ إِمْكَانِهِ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَلَمْ أَسْمَعْهُ قَبْلُ مِنْ أُسْتَاذٍ وَلَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابٍ، وَلَعَلَّكَ
107
تَرَاهُ مَعْقُولًا مَقْبُولًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّنِي أَنْقُلُ لَكَ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ:
(فَصْلٌ) : وَمِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَابُ التَّيَمُّمِ، قَالُوا: إِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ، (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ التُّرَابَ مُلَوَّثٌ لَا يُزِيلُ دَرَنًا وَلَا وَسَخًا وَلَا يُطَهِّرُ الْبَدَنَ، كَمَا لَا يُطَهِّرُ الثَّوْبَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ شُرِعَ فِي عُضْوَيْنِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ بَقِيَّتِهَا، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَلَعَمْرُ اللهِ إِنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ الْقِيَاسِ الْبَاطِلِ الْمُضَادِّ لِلدِّينِ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وَخَلَقَنَا مِنَ التُّرَابِ، فَلَنَا مَادَّتَانِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ، فَجَعَلَ مِنْهُمَا نَشْأَتَنَا وَأَقْوَاتَنَا وَبِهِمَا تَطَهَّرْنَا وَتَعَبَّدْنَا، فَالتُّرَابُ أَصْلُ مَا خُلِقَ مِنْهُ النَّاسُ، وَالْمَاءُ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُمَا الْأَصْلُ فِي الطَّبَائِعِ الَّتِي رُكِّبَ عَلَيْهَا هَذَا الْعَالَمُ وَجُعِلَ قِوَامُهُ بِهِمَا، وَكَانَ أَصْلَ مَا يَقَعُ بِهِ تَطْهِيرُ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالْأَقْذَارِ هُوَ الْمَاءُ فِي الْأَمْرِ الْمُعْتَادِ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا فِي حَالِ الْعَدَمِ أَوِ الْعُذْرِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَكَانَ النَّقْلُ عَنْهُ إِلَى شَقِيقِهِ وَأَخِيهِ التُّرَابُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَوَّثَ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ بَاطِنًا، ثُمَّ يُقَوِّي طَهَارَةَ الْبَاطِنِ فَيُزِيلُ دَنَسَ الظَّاهِرِ أَوْ يُخَفِّفُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُهُ مَنْ لَهُ بَصَرٌ نَافِذٌ بِحَقَائِقِ الْأَعْمَالِ وَارْتِبَاطِ الظَّاهِرِ بِالْبَاطِنِ وَتَأَثُّرِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَانْفِعَالِهِ عَنْهُ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي عُضْوَيْنِ فَفِي غَايَةِ الْمُوَافَقَةِ لِلْقِيَاسِ وَالْحِكْمَةِ، فَإِنَّ وَضْعَ التُّرَابِ عَلَى الرُّءُوسِ مَكْرُوهٌ فِي الْعَادَاتِ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ، وَالرِّجْلَانِ
مَحَلُّ مُلَابَسَةِ التُّرَابِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، وَفِي تَتْرِيبِ الْوَجْهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِانْكِسَارِ مَا هُوَ أَحَبُّ فِي الْعِبَادَاتِ إِلَيْهِ، وَأَنْفَعُهَا لِلْعَبْدِ ; وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِلسَّاجِدِ أَنْ يُتَرِّبَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَأَلَّا يَقْصِدَ وِقَايَةَ وَجْهِهِ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِمَنْ رَآهُ قَدْ سَجَدَ، وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرَابِ وِقَايَةً، فَقَالَ: تَرِّبْ وَجْهَكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي تَتْرِيبِ الرِّجْلَيْنِ، وَأَيْضًا فَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ جُعِلَ فِي الْعُضْوَيْنِ الْمَغْسُولَيْنِ وَسَقَطَ مِنَ الْعُضْوَيْنِ الْمَمْسُوحَيْنِ، فَإِنَّ الرِّجْلَيْنِ تُمْسَحَانِ فِي الْخُفِّ، وَالرَّأْسَ فِي الْعِمَامَةِ، فَلَمَّا خُفِّفَ عَنِ الْمَغْسُولَيْنِ بِالْمَسْحِ خُفِّفَ عَنِ الْمَمْسُوحَيْنِ بِالْعَفْوِ، إِذْ لَوْ مُسِحَا بِالتُّرَابِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَخْفِيفٌ عَنْهُمَا، بَلْ كَانَ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ إِلَى مَسْحِهِمَا بِالتُّرَابِ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ أَعْدَلُ الْأُمُورِ وَأَكْمَلُهَا وَهُوَ الْمِيزَانُ الصَّحِيحُ.
وَأَمَّا كَوْنُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ كَتَيَمُّمِ الْمُحْدِثِ، فَلَمَّا سَقَطَ مَسْحُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالتُّرَابِ عَنِ الْمُحْدِثِ سَقَطَ مَسْحُ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالتُّرَابِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، إِذْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مَا يُنَاقِضُ رُخْصَةَ التَّيَمُّمِ، وَيَدْخُلُ أَكْرَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى اللهِ فِي شَبَهِ الْبَهَائِمِ إِذَا تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ، فَالَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ لَا مَزِيدَ فِي الْحُسْنِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ عَلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اهـ.
108
وَقَالَ الشَّعَرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ فِي وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ، أَوْ بِرَمْلٍ فِيهِ غُبَارٌ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ بِجَوَازِهِ بِالْحِجَارَةِ وَجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى النَّبَاتِ عِنْدَ مَالِكٍ أَقُولُ: وَكَذَا الثَّلْجُ وَالْجَلِيدُ فِي رِوَايَةٍ مَا نَصُّهُ: " وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قُرْبُ التُّرَابِ مِنَ الرُّوحَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ هُوَ مَا يَحْصُلُ مِنْ عُكَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فَهُوَ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْمَاءِ، بِخِلَافِ الْحَجَرِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ الزَّائِدَ الصَّاعِدَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَلَمْ يَتَخَلَّصْ لِلْمَائِيَّةِ وَلَا لِلتُّرَابِيَّةِ، فَكَانَ ضَعِيفَ الرُّوحَانِيَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِخِلَافِ التُّرَابِ، وَسَمِعْتُ سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ بِالْحَجَرِ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ لِبُعْدِ الْحَجَرِ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ وَرُوحَانِيَّتِهِ فَلَا يَكَادُ يُحْيِي الْعُضْوَ الْمَمْسُوحَ، وَلَوْ سُحِقَ، لَا سِيَّمَا أَعْضَاءُ أَمْثَالِنَا الَّتِي مَاتَتْ مِنْ كَثْرَةِ الْمَعَاصِي وَالْغَفَلَاتِ وَأَكْلِ الشَّهَوَاتِ، وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً
أُخْرَى يَقُولُ: نِعْمَ مَا فَعَلَ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَخْصِيصِ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ بِهِ بَعْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، لَا سِيَّمَا أَعْضَاءُ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الْوُقُوعُ فِي الْخَطَايَا مِنْ أَمْثَالِنَا، فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوبَ اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ خَاصٌّ بِالْأَصَاغِرِ، وَوُجُوبَ اسْتِعْمَالِ الْحَجَرِ خَاصٌّ بِالْأَكَابِرِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ رَبَّهُمْ، لَكِنْ إِنْ تَيَمَّمُوا بِالتُّرَابِ زَادُوا رُوحَانِيَّةً وَانْتِعَاشًا.
وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى يَقُولُ: وَجْهُ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِالْحَجَرِ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ كَوْنُهُ رَأَى أَنَّ أَصْلَ الْحَجَرِ مِنَ الْمَاءِ، كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ انْتَهَى، إِلَى أَنْ قَالَ الشَّعْرَانِيُّ: لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُتَوَرِّعِ التَّيَمُّمُ بِالْحَجَرِ إِلَّا بَعْدَ فَقْدِ التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ مَرْتَبَةٌ ضَعِيفَةٌ بِالنَّظَرِ لِلتُّرَابِ، ثُمَّ أَوْرَدَ آيَةَ التَّقْوَى بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَالْحَدِيثَ الَّذِي بِمَعْنَاهَا، ثُمَّ قَالَ: وَنَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُ عُلَمَائِنَا فِي بَابِ الْحَجِّ: إِنَّ مَنْ لَا شَعْرَ بِرَأْسِهِ يُسْتَحَبُّ إِمْرَارُهُ الْمُوسَى عَلَيْهِ تَشْبِيهًا بِالْحَالِقِينَ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا، فَمَنْ فَقَدَ التُّرَابَ الْمَعْهُودَ ضَرَبَ عَلَى الْحَجَرِ تَشْبِيهًا بِالضَّارِبِينَ بِالتُّرَابِ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْمَعْرُوفُ بِشَاهْ وَلِيِّ اللهِ، الْمُحَدِّثُ الدَّهْلَوِيُّ فِي كِتَابِهِ (حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ) مَا نَصُّهُ: لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي شَرَائِعِهِ أَنْ يُسَهِّلَ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُونَهُ، وَكَانَ أَحَقَّ أَنْوَاعِ التَّيْسِيرِ أَنْ يُسْقِطَ مَا فِيهِ حَرَجٌ إِلَى بَدَلٍ ; لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُهُمْ وَلَا تَخْتَلِفَ الْخَوَاطِرُ عَلَيْهِمْ بِإِهْمَالِ مَا الْتَزَمُوهُ غَايَةَ الِالْتِزَامِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَأْلَفُوا تَرْكَ الطِّهَارَاتِ، أَسْقَطَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ نَزَلَ الْقَضَاءُ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِإِقَامَةِ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَحَصَلَ لَهُ وُجُودٌ تَشْبِيهِيٌّ أَنَّهُ طَهَارَةٌ مِنَ الطِّهَارَاتِ، وَهَذَا الْقَضَاءُ أَحَدُ الْأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِي تَمَيَّزَتْ بِهَا الْمِلَّةُ الْمُصْطَفَوِيَّةُ مِنْ سَائِرِ الْمِلَلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: جُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ أَقُولُ: إِنَّمَا خَصَّ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تُفْقَدُ، فَهِيَ أَحَقُّ مَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَرَجُ؛ وَلِأَنَّهَا طَهُورٌ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَالْخُفِّ وَالسَّيْفِ بَدَلًا عَنِ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَذَلُّلًا بِمَنْزِلَةِ تَعْفِيرِ الْوَجْهِ فِي التُّرَابِ، وَهُوَ يُنَاسِبُ طَلَبَ الْعَفْوِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفَرَّقَ بَيْنَ بَدَلِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ
109
وَلَمْ يُشْرَعِ التَّمَرُّغُ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنَّ يُجْعَلَ كَالْمُؤَثِّرِ بِالْخَاصِّيَّةِ دُونَ الْمِقْدَارِ، فَإِنَّهُ هُوَ
الَّذِي اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ التَّمَرُّغَ فِيهِ بَعْضُ الْحَرَجِ فَلَا يَصْلُحُ رَافِعًا لِلْحَرَجِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ: الْبَرْدُ الضَّارُّ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَالسَّفَرُ لَيْسَ بِقَيْدٍ إِنَّمَا هُوَ صُورَةٌ لِعَدَمِ وُجْدَانِ الْمَاءِ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَسْحِ الرِّجْلِ بِالتُّرَابِ؛ لِأَنَّ الرِّجْلَ مَحَلُّ الْأَوْسَاخِ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِمَا لَيْسَ حَاصِلًا لِيَحْصُلَ بِهِ التَّنَبُّهُ اهـ.
أَقُولُ: أَحْسَنُ مَا أَوْرَدَهُ الشَّعْرَانِيُّ التَّنْظِيرُ بِمَسْأَلَةِ إِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَأَحْسَنُ مَا قَالَهُ الدَّهْلَوِيُّ مَسْأَلَةُ اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ بِالْبَدَلِ وَاتِّقَاءِ أَنْ يَأْلَفُوا تَرْكَ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي الَّذِي أَوْرَدْتُهُ أَوْ شُعْبَةٌ مِنْهُ ; عَلَى أَنَّنِي مَا رَأَيْتُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَرَّرْتُ هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا وَكَتَبْتُهُ قَبْلَ الْآنِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَبَاطِنًا وَظَاهِرًا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقُومَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
قَالَ الرَّازِيُّ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ـ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ـ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، قَطَعَ هَاهُنَا بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَكَرَ أَحْوَالَ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَأَقَاصِيصَ الْمُتَقَدِّمِينَ ; لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْعِلْمِ مِمَّا يُكِلُّ الطَّبْعَ وَيُكَدِّرُ الْخَاطِرَ، فَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ
نَوْعٍ مِنَ الْعُلُومِ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُنَشِّطُ الْخَاطِرَ وَيُقَوِّي الْقَرِيحَةَ اهـ، وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ الَّذِي اخْتَصَرَ التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ لِلرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا أَحْكَامًا كَثِيرَةً عَدَلَ إِلَى ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ آثَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَحْوَالِهِمْ ; لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ مِمَّا يَزِيدُ السَّامِعَ هِزَّةً وَجِدَّةً اهـ.
110
أَقُولُ: غَلِطَ الْمُفَسِّرَانِ كِلَاهُمَا فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّ الْكَلَامَ انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُعَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَكَأَنَّهُمَا تَوَهَّمَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي زَمَنِهِمَا، وَمَا قَالَاهُ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ صَحِيحٌ وَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
الْكَلَامُ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَى بَيَانِ حَالِ بَعْضِ الْأُمَمِ مِنْ حَيْثُ أَخْذُهُمْ بِأَحْكَامِ دِينِهِمْ وَعَدَمُهُ ; لِيُذَكِّرَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ كَمَا هَيْمَنَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، فَإِذَا هُمْ قَصَّرُوا يَأْخُذُهُمْ بِالْعِقَابِ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى تَرْكِ أَحْكَامِ دِينِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمُنْتَظَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَحْكَامِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا قُرِنَتْ بِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُوَصِّلِ إِلَى إِصْلَاحِ الْأَنْفُسِ، وَهُوَ أَثَرُهَا الْمُرَادُ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِهَا فِي صُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا، لَا فِي صُورَتِهَا فَقَطْ، وَلَكِنْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي الْأُمَمِ أَنْ يَكْتَفِيَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الدِّينِ بِبَعْضِ الظَّوَاهِرِ وَالرُّسُومِ الدِّينِيَّةِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْيَهُودِ فِي الْقَرَابِينِ وَأَحْكَامِ الطَّهَارَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا لَا يَكْفِي فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ وَالْقِيَامِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُصْلِحِ لِلنُّفُوسِ كَمَا أَرَادَ اللهُ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَهَا رُسُومٌ ظَاهِرَةٌ كَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ: أَنَّ يُذَكِّرَ الْمُسْلِمِينَ بِحَالِ بَعْضِ الْأُمَمِ الَّتِي هَذَا شَأْنُهَا، وَكَوْنُ هَذَا لَمْ يُغْنِ عَنْهَا مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَنَالُوا بِهِ مَرْضَاتَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا بِهِ أَهْلًا لِكَرَامَتِهِ وَوَعْدِهِ، فَقَالَ:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهَا أَعَمُّ، وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ
قَلْبِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى النَّظَرِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَوَلَمْ تَنْظُرْ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُعْطُوا نَصِيبًا أَيْ: حَظًّا وَطَائِفَةً مِنَ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ كَيْفَ حَرَّمُوا هِدَايَتَهُ وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا ضِدَّهَا فَهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِاخْتِيَارِهَا لِأَنْفُسِهِمْ بَدَلًا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ السَّبِيلَ أَيْ: طَرِيقَ الْحَقِّ الْقَوِيمَ كَمَا ضَلُّوا، فَهُمْ يَكِيدُونَ لَكُمْ لِيَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَالتَّعْبِيرُ بِالنَّصِيبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا كِتَابَهُمْ كُلَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوهُ فِي زَمَنِ إِنْزَالِهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ كَمَا حَفِظْنَا الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبُوا مِنْهُ نُسَخًا مُتَعَدِّدَةً فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ كَمَا فَعَلْنَا، حَتَّى إِذَا مَا فُقِدَ بَعْضُهَا قَامَ مَقَامَهُ الْبَعْضُ الْآخَرُ، بَلْ كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ نُسْخَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ هِيَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَفُقِدَتْ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [ص ١٢٩ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ]، وَفِيهِ بَحْثُ تَارِيخِ كِتَابَتِهَا وَحَقِيقَةُ الْمَوْجُودِ الْآنَ مِنْهَا وَبَحْثُ كِتَابَةِ الْإِنْجِيلِ كَذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ (٥: ١٤)، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ
111
فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ مَا هُنَا، يَقُولُ هُنَا: إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا أَيْ حَظًّا، وَيَقُولُ هُنَاكَ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا، فَالْكَلَامُ يُؤَيِّدُ وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالتَّعْبِيرُ: أُوتُوا الْكِتَابَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلْجِنْسِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ عِلْمُهُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، قَالَ: أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ بَلْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا وَزَادُوا عَلَيْهَا، وَالزِّيَادَةُ فِيهِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، فَالتَّوْرَاةُ تَنْهَاهُمْ عَنِ الْكَذِبِ وَإِيذَاءِ النَّاسِ وَأَكْلِ الرِّبَا مَثَلًا، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَزَادَ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالرُّسُومِ وَالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ فَهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَا مِمَّا يَعْرِفُونَهُ عَنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَهُمْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فِي الدِّينِ، فَالْأَمْرُ الْمُحَقَّقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِبَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَقَدْ أَهْمَلُوا سَائِرَهَا، فَفِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ بِالْعَمَلِ بِالدِّينِ وَعَدَمِهِ يَذْكُرُ الْوَاقِعَ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ إِذْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا عَمِلُوا بِبَعْضِهِ، وَفِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ
عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ يُنَادِيهِمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا إِلَخْ كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ.
هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هُنَا قُلْتُ: أَلَيْسَ التَّعْبِيرُ بِالنَّصِيبِ إِشَارَةً أَوْ نَصًّا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ، بَلْ فَقَدُوا حَظًّا وَنَصِيبًا آخَرَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: بَلَى فَأَجَازَ مَا فَهِمْتُهُ وَأَقَرَّهُ وَكُنْتُ بَيَّنْتُ هَذَا مِنْ قَبْلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى شَرِيعَةِ حَمُورَابِي وَنِسْبَتِهَا إِلَى التَّوْرَاةِ، وَمَا هِيَ التَّوْرَاةُ، وَذَلِكَ فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ.
فَالَّذِي لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَكُونُ قِسْمَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: مَا أَضَاعُوهُ وَنَسُوهُ، وَثَانِيهِمَا: مَا حَفِظُوا حُكْمَهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَضَاعُوهُ مِنَ الْكِتَابِ نَعْتُ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ هُوَ: بَذْلُ الْمَالِ لِتَأْيِيدِ الْيَهُودِيَّةِ وَالْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ وَمُقَاوَمَتِهِ، فَقَالَ: كَانَ بَعْضُ عَوَامِّ الْيَهُودِ يُعْطُونَ أَحْبَارَهُمُ الْمَالَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ أَيْ: وَاللهُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِأَعْدَائِكُمْ، ذَوَاتِهِمْ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ ; وَأَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَكِيدُونَ بِهَا لَكُمْ فِي الْخَفَاءِ وَمَا يَغْشَوْنَكُمْ بِهِ فِي الْجَهْرِ بِإِبْرَازِ الْخَدِيعَةِ فِي مَعْرِضِ النَّصِيحَةِ، وَإِظْهَارِ الْوَلَاءِ لَكُمْ وَالرَّغْبَةِ فِي نَصْرِكُمْ: وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا، لَكُمْ يَتَوَلَّى شُئُونَكُمْ بِإِرْشَادِكُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُكُمْ وَفَوْزُكُمْ، وَيَنْصُرُكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ بِتَوْفِيقِكُمْ لِلْعَمَلِ بِأَسْبَابِ النَّصْرِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَالتَّعَاوُنِ، وَالتَّنَاصُرِ، وَإِعْدَادِ جَمِيعِ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ وَسَائِلِ الْقُوَّةِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِوِلَايَةِ غَيْرِهِ وَلَا تَطْلُبُوا النَّصْرَ إِلَّا مِنْهُ بِاتِّبَاعِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَهِدَايَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا عَدَمُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَهْلُ الْأَثَرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ إِلَّا لِمَصْلَحَةِ أَنْفُسِهِمْ كَالْيَهُودِ: وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا أَبْلَغُ مِنْ كَفَى اللهُ وَلِيًّا، أَوْ كَفَى وِلَايَةُ اللهِ ; لِأَنَّ الْكِفَايَةَ تَعَلَّقَتْ بِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ وِلَايَتُهُ.
112
قَدْ كَانَ الْيَهُودُ فِي الْحِجَازِ كَالْمُشْرِكِينَ أَشَدَّ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَمُقَاوَمَةً لَهُمْ، كَمَا أَخْبَرَنَا الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ مَصْلَحَتِهِمْ فَوْزُ الْمُسْلِمِينَ فِي فَتْحِ سُورِيَّةَ وَفِلَسْطِينَ، ثُمَّ الْأَنْدَلُسِ لِيَسْلَمُوا بَعْدَهَا مَنْ ظُلْمِ النَّصَارَى لَهُمْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ،
فَكَانُوا مَغْبُوطِينَ بِالْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ، وَقَدْ كَانُوا يُظْلَمُونَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ فِي جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، حَتَّى كَانَ مَا كَانَ ـ بِكَيْدِهِمْ وَسَعْيِهِمْ ـ مِنْ هَدْمِ صُرُوحِ اسْتِبْدَادِ الْبَابَوَاتِ وَالْمُلُوكِ الْمُسْتَعْبِدِينَ لَهُمْ فِي أُورُبَّا، وَإِدَالَةِ الْحُكُومَاتِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ حُكْمِ الْكَنِيسَةِ، فَظَلُّوا يُظْلَمُونَ فِي رُوسِيَّةَ وَإِسْبَانِيَّةَ؛ لِأَنَّ السُّلْطَةَ فِيهِمَا دِينِيَّةٌ، وَقَدْ كَادُوا وَلَا يَزَالُونَ يَكِيدُونَ لِهَدْمِ نُفُوذِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَمْلَكَتَيْنِ بِاسْمِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَنُفُوذِ الْجَمْعِيَّةِ الْمَاسُونِيَّةِ كَمَا فَعَلُوا فِي فَرَنْسَا، وَإِنَّ لَهُمْ يَدًا فِيمَا كَانَ فِي رُوسِيَّةَ مِنَ الِانْقِلَابِ، وَفِيمَا تَتَمَخَّضُ بِهِ إِسْبَانِيَّةُ الْآنَ، فَهُمْ يُقَاوِمُونَ كُلَّ سُلْطَةٍ دِينِيَّةٍ تَقِفُ فِي وَجْهِهِمْ لِأَجْلِ تَكْوِينِ سُلْطَةٍ دِينِيَّةٍ لَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ يَدٌ فِي الِانْقِلَابِ الْعُثْمَانِيِّ، لَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَظْلُومِينَ أَوْ مُضْطَهَدِينَ فِي الْمَمْلَكَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا آمَنَ النَّاسِ مِنَ الظُّلْمِ فِيهَا حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَفِرُّونَ إِلَيْهَا لَاجِئِينَ مِنْ ظُلْمِ رُوسِيَّةَ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَمْلِكُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ لِيُقِيمُوا فِيهَا مُلْكَ إِسْرَائِيلَ، وَكَانَتِ الْحُكُومَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ تُعَارِضُهُمْ فِي امْتِلَاكِ الْأَرْضِ هُنَاكَ فَلَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِالْحِيلَةِ وَالرِّشْوَةِ، وَلَهُمْ مَطَامِعُ أُخْرَى مَالِيَّةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، فَهُمُ الْآنَ يُظْهِرُونَ الْمُسَاعَدَةَ لِلْحُكُومَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ الْجَدِيدَةِ لِتُسَاعِدَهُمْ عَلَى مَا يَبْتَغُونَ، فَإِذَا لَمْ تَتَنَبَّهِ الْأُمَّةُ الْعُثْمَانِيَّةُ لِكَيْدِهِمْ، وَتُوَقِّفْ حُكُومَتَهَا عِنْدَ حُدُودِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي مُسَاعَدَتِهِمْ، فَإِنَّ الْخَطَرَ مِنْ نُفُوذِهِمْ عَظِيمٌ وَقَرِيبٌ ; فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ اعْتَادُوا الرِّبَا الْفَاحِشَ فَلَا يَبْذُلُونَ دَانِقًا مِنَ الْمُسَاعَدَةِ إِلَّا لِيَنَالُوا مِثْقَالًا أَوْ قِنْطَارًا مِنَ الْجَزَاءِ، وَإِذَا كَانُوا بِكَيْدِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ قَدْ جَعَلُوا الدَّوْلَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ كَكُرَةِ اللَّاعِبِ فِي أَيْدِيهِمْ فَأَزَالُوا مِنْهَا سُلْطَةَ الْكَنِيسَةِ، وَحَمَلُوهَا عَلَى عُقُوقِهَا وَكَانَتْ تُدْعَى بِنْتَ الْكَنِيسَةِ الْبِكْرَ، وَحَمَلُوهَا عَلَى الظُّلْمِ فِي الْجَزَائِرِ وَهِيَ الَّتِي تُفَاخِرُ الْأُمَمَ وَالدُّوَلَ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، عَمِلُوا فِيهَا عَمَلُهُمْ، وَهِيَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَالثَّرْوَةِ، وَالْقُوَّةِ، أَفَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْحُكُومَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَهِيَ عَلَى مَا نَعْلَمُ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْمَالِ؟ وَطَمَعُهُمْ فِيهَا أَشَدُّ وَخَطَرُهُ أَعْظَمُ، فَإِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى كَافَّةً، فَإِذَا تَغَلَّبَ الْيَهُودُ فِيهِ لِيُقِيمُوا فِيهِ مُلْكَ إِسْرَائِيلَ وَيَجْعَلُوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى (هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ) وَهُوَ قِبْلَتُهُمْ مَعْبَدًا خَالِصًا لَهُمْ يُوشِكُ أَنْ تَشْتَعِلَ نِيرَانُ الْفِتَنِ وَيَقَعَ مَا نَتَوَقَّعُ مِنَ الْخَطَرِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ فِتَنِ آخِرِ الزَّمَانِ مَا هُوَ صَرِيحٌ
فِي ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تَجْتَهِدَ الْأُمَّةُ الْعُثْمَانِيَّةُ فِي دَرْءِ ذَلِكَ، وَمُدَافِعَةِ سَيْلِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ؛ لِئَلَّا يَقَعَ فِي إِبَّانِ ضَعْفِهَا فَيَكُونَ قَاضِيًا عَلَى سُلْطَتِهَا وَنَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ.
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ هَذَا بَيَانٌ لِلَّذِينِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
113
وَاتَّصَفُوا بِالضَّلَالَةِ وَالْإِضْلَالِ، وَقَوْلُهُ: وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ إِلَخْ جُمَلٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِأَعْدَائِكُمْ وَالِاعْتِرَاضُ مَا بَيْنَهُمَا، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِـ نَصِيرًا أَيْ: يَنْصُرُكُمْ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، أَوِ التَّقْدِيرُ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ
أَيْ: فَمِنْهُمَا تَارَةٌ أَمُوتُ فِيهَا إِلَخْ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَتَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ هُوَ: إِمَالَتُهُ وَتَنْحِيَتُهُ عَنْهَا كَأَنْ يُزِيلُوهُ بِالْمَرَّةِ أَوْ يَضَعُوهُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ مَكَانِهِ مِنَ الْكِتَابِ، أَوِ الْمُرَادُ بِمَوَاضِعِهِ: مَعَانِيهِ؛ كَأَنْ يُفَسِّرُوهُ بِغَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: التَّحْرِيفُ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) : تَأْوِيلُ الْقَوْلِ بِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مُجَاحَدَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ وَهُمْ يَعْمَلُونَ، إِذْ أَوَّلُوا وَلَا يَزَالُونَ يُئَوِّلُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ كَمَا يُئَوِّلُونَ مَا وَرَدَ فِي الْمَسِيحِ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ لَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَهُ.
(ثَانِيهِمَا) : أَخْذُ كَلِمَةٍ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْكَلِمِ مِنْ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ وَوَضْعُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا التَّشْوِيشِ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ: خَلَطُوا فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ مَا كُتِبَ بَعْدَهُ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْهُمْ بِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّحْرِيفِ لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَامِلَ عَلَى إِنْكَارِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَكَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَتِي عِنْدَ كِتَابَتِهِ كَأَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُمْ قَرَاطِيسُ مُتَفَرِّقَةٌ، أَيْ بَعْدَ أَنْ فُقِدَتِ النُّسْخَةُ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَرَادُوا أَنْ يُؤَلِّفُوا بَيْنَ الْمَوْجُودِ، فَجَاءَ فِيهِ ذَلِكَ الْخَلْطُ، وَهَذَا سَبَبُ مَا جَاءَ فِي أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالتَّكْرَارِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْعُلَمَاءُ تَحْرِيفَ كُتُبِ الْعَهْدِ
الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ، وَفِي كِتَابِ ـ إِظْهَارِ الْحَقِّ ـ لِلشَّيْخِ رَحْمَةِ اللهِ الْهِنْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى مِائَةُ شَاهِدٍ عَلَى التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِيهَا، وَالْأَوَّلُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: تَبْدِيلُ الْأَلْفَاظِ، وَزِيَادَتُهَا، وَنُقْصَانُهَا.
فَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى الزِّيَادَةِ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ " ٣٦: ٣١ وَهَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ الَّذِينَ مَلَكُوا فِي الْأَرْضِ أَدْوَمُ قَبْلَ أَنْ مَلَكَ مَلِكٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ " وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكُ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ (شَاوُلُ) وَهُوَ بَعْدَ مُوسَى بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ وَنِصْفٍ، وَقَدْ قَالَ آدَمُ كِلَارَكْ أَحَدُ مُفَسِّرِي التَّوْرَاةِ: أَظُنُّ ظَنًّا قَوِيًّا قَرِيبًا مِنَ الْيَقِينِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ [أَيْ مِنْ ٣٢ - ٣٩]، كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ فَظَنَّ النَّاقِلُ أَنَّهَا جُزْءُ الْمَتْنِ فَأَدْخَلَهَا فِيهِ.
114
وَمِنْهَا فِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ " ٣: ١٤ يَائِيرُ بْنُ مِنِسَّى أَخَذَ كُلَّ كَوْرَةِ أَرُجُوبَ إِلَى تَخَمِ الْجَشُورِيِّينَ وَالْمُعَكِيِّينَ وَدَعَاهَا عَلَى اسْمِهِ بَاشَانْ حَوَّوِثْ يَائِيرْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ " قَالَ هُورُونُ فِي الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنْ تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إِيرَادِ هَذِهِ الْفِقْرَةِ وَالْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ: " هَاتَانِ الْفِقْرَتَانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا مِنْ كَلَامِ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِأَنَّ الْأُولَى دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مُصَنِّفَ هَذَا الْكِتَابِ ـ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَوِ التَّوْرَاةِ كُلِّهَا ـ وُجِدَ بَعْدَ زَمَانٍ قَامَتْ فِيهِ سَلْطَنَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْفِقْرَةُ الثَّانِيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مُصَنِّفَهُ كَانَ بَعْدَ زَمَانِ إِقَامَةِ الْيَهُودِ فِي فِلَسْطِينَ " إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ، وَمِنْهُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْفِقْرَتَيْنِ ثِقَلٌ عَلَى الْكِتَابِ وَلَا سِيَّمَا الثَّانِيَةُ.
وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ عِزْرَا الْكَاتِبَ قَدْ زَادَ بَعْضَ الْعِبَارَاتِ فِي التَّوْرَاةِ، وَصَرَّحُوا فِي بَعْضِهَا بِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنْ زَادَهَا، وَلَكِنَّهُمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا كَتَبَهُ مُوسَى، وَكَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ الْبَابِلِيَّةِ فِي التَّوْرَاةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بَعْدَ سَبْيِ الْبَابِلِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُنَالِكَ شَوَاهِدُ عَلَى تَحْرِيفِ سَائِرِ كُتُبِهِمْ تُرَاجَعُ فِي الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ لِبَيَانِ ذَلِكَ.
وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا أَيْ: وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَعَصَيْنَا أَمْرَكَ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا:
سَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَلَكِنْ لَا نُطِيعُكَ، وَيَقُولُونَ لَهُ أَيْضًا: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ هَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ زَادَهُ اللهُ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا، وَمَعْنَاهُ: لَا سَمِعْتَ أَوْ لَا أَسْمَعَكَ اللهُ، وَهَذَا فِي مَكَانِ الدُّعَاءِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمُتَأَدِّبِينَ لِلْمُخَاطَبِ: لَا سَمِعْتَ مَكْرُوهًا، أَوْ لَا سَمِعْتَ أَذًى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: غَيْرُ مَقْبُولٍ مَا تَقُولُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاسْمَعْ شَيْئًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْمَعَ، وَأَمَّا " رَاعِنَا " فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَتَسَابُّونَ بِكَلِمَةِ " رَاعِينَا " الْعِبْرَانِيَّةِ أَوِ السُّرْيَانِيَّةِ فَسَمِعُوا بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: رَاعِنَا، مِنَ الْمُرَاعَاةِ أَوْ بِمَعْنَى أَرْعِنَا سَمْعَكَ فَافْتَرَصُوهَا وَصَارُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكَلِمَةِ وَيَصْرِفُونَهَا إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ فَيَجْعَلُونَهَا فِي الظَّاهِرِ رَاعِنَا وَبِلَيِّ اللِّسَانِ وَإِمَالَتِهِ " رَاعِينَا " يَنْوُونَ بِذَلِكَ الشَّتْمَ وَالسُّخْرِيَةَ، أَوْ جَعْلَهُ رَاعِيًا مِنْ رِعَاءِ الشَّاءِ، أَوْ مِنَ الرَّعَنِ وَالرُّعُونَةِ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَاءُوا بِالْقَوْلِ الْمُحْتَمَلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ بَعْدَ مَا صَرَّحُوا، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ (قُلْتُ) : جَمِيعُ الْكَفَرَةِ كَانُوا يُوَاجِهُونَهُ بِالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَلَا يُوَاجِهُونَهُ بِالسَّبِّ وَدُعَاءِ السُّوءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَجُوزُ أَلَّا يَنْطِقُوا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا جَعَلُوا كَأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهِ اهـ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا (٢: ١٠٤)، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ لَمْ يَرْتَضِ مَا قَالُوهُ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ سَبًّا بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَاخْتَارَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْهَا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مِنَ الْمُرَاعَاةِ، وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ ـ نُهُوا عَنْهَا تَأْدِيبًا لَهُمْ، إِذْ لَا يَلِيقُ أَنْ يَقُولُوا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
115
ارْعَنَا نَرْعَكَ، كَمَا هُوَ مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ، كَمَا نُهُوا أَنْ يَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ (قَالَ) : وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ، يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: رَاعَى الْحِمَارُ الْحُمُرَ، إِذَا رَاعَى مَعَهَا، فَكَانَ الْيَهُودُ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِيهَا سَبٌّ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى حَدِّ: " اقْتُلُونِي وَمَالِكًا "، وَمِنْ تَحْرِيفِ الْكَلَامِ وَلَيِّهِ فِي خِطَابِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّحِيَّةِ " السَّامُ عَلَيْكُمْ " يُوهِمُونَ بِفَتْلِ اللِّسَانِ وَجَمْجَمَتِهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي الصَّحِيحِ، وَأَنَّهُ كَانَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ بَعْدَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ يُجِيبُهُمْ بِقَوْلِهِ: " وَعَلَيْكُمْ " أَيْ كُلُّ أَحَدٍ يَمُوتُ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ، أَيْ: لَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَأَطَعْنَا أَمْرَكَ، وَاسْمَعْ مَا نَقُولُ وَانْظُرْنَا أَيْ: أَمْهِلْنَا وَانْتَظِرْنَا وَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا، يُقَالُ: نَظَرُهُ بِمَعْنَى انْتَظَرَهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ أَوِ انْظُرْ إِلَيْنَا نَظَرَ رِعَايَةٍ وَرِفْقٍ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَقْوَمَ، مِمَّا قَالُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَدَبِ وَالْفَائِدَةِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ.
وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ، أَيْ: خَذَلَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الصَّوَابِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، أَيْ: مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ أَنْ يَمْنَعَ الْكُفْرُ صَاحِبَهُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّوِيَّةِ وَالْأَدَبِ، وَيَجْعَلَهُ طَرِيدًا لَا يُدْلِي إِلَى الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ بِحَبْلٍ وَلَا سَبَبٍ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْإِيمَانِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، إِذْ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ صَاحِبِهِ وَلَا يُزَكِّي نَفْسَهُ وَلَا يَرْقَى عَقْلُهُ، وَلَوْ كَانَ إِيمَانُهُمْ بِكِتَابِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ كَامِلًا لَكَانَ خَيْرَ هَادٍ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَنْ جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ يُبَيِّنُ مَا نَسُوا مِنْهُ وَمَا حَرَّفُوا فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ بِإِصْلَاحٍ جَدِيدٍ فِي إِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسَائِرِ مَقَاصِدِ الدِّينِ، فَمَنْ كَانَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَجَاءَهُ زِيَادَةٌ فِيهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَغْبُوطًا بِهَا حَرِيصًا عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا ـ أَوْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ مَهْمَا فَسَدَتْ لَا يَعُمُّ الْفَسَادُ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا، بَلْ تَغْلِبُ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ عَلَى أُنَاسٍ يَكُونُونَ هُمُ السَّابِقِينَ إِلَى كُلِّ إِصْلَاحٍ جَدِيدٍ، هَكَذَا كَانَ، وَهَكَذَا يَكُونُ فَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَقَدْ نَبَّهْنَا مِنْ قَبْلُ عَلَى دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ إِذْ يَحْكُمُ عَلَى الْأَكْثَرِ، فَإِذَا عَمَّمَ الْحُكْمَ يَسْتَثْنِي وَهِيَ دِقَّةٌ لَمْ تُعْهَدْ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا.
116
خَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، فَذَاكَ نَعِيٌ عَلَيْهِمْ بِمَا أَضَاعُوا وَحَرَّفُوا، وَهَذَا إِلْزَامٌ بِمَا حَفِظُوا وَعَرَفُوا،
يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ أَيْ جِنْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ أَوِ التَّوْرَاةَ خَاصَّةً آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْهُ مِنْ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَاتِّقَاءِ الشِّرْكِ كُلِّهِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ، وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَا يُغَذِّي ذَلِكَ الْإِيمَانَ وَيُقَوِّيهِ مِنْ تَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، أَيْ: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَرْكَانِهِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصِدُ مِنْ إِرْسَالِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي طُرُقِ حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا وَهِدَايَتِهِمْ بِهَا وَتَرْقِيَتِهِمْ فِي مَعَارِجِهَا بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي ارْتِقَاءِ الْبَشَرِ بِالتَّدْرِيجِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، كَمَا أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمَقْصِدُ مِنْ جَمِيعِ الْحُكُومَاتِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الدُّوَلُ فِي الْقَوَانِينِ الْمُقَرَّرَةِ لَهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَلَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ وَلَا الصَّوَابِ أَنْ تُنْكِرَ الْأُمَّةُ تَغْيِيرَ حَاكِمٍ جَدِيدٍ لِبَعْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُ إِذَا كَانَ يُوَافِقُهُ فِي جَعْلِهِ مُقَرِّرًا لِلْعَدْلِ مُقِيمًا لِمِيزَانِهِ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا كَانَ أَوْ أَكْمَلَ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ يُسَمَّى مُصَدِّقًا لِمَا قَبْلَهُ لَا مُكَذِّبًا وَلَا مُخَالِفًا، فَالْقُرْآنُ قَرَّرَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَعِيسَى وَصَدَّقَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَوَبَّخَ الْأَقْوَامَ الْمُدَّعِينَ لِأَتْبَاعِهِمْ عَلَى إِضَاعَتِهِمْ لِبَعْضِ مَا جَاءُوا بِهِ وَتَحْرِيفِهِمْ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ، وَعَلَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ وَالْعَمَلِ بِمَا هُوَ مَحْفُوظٌ عِنْدَهُمْ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَهُمْ هَدَمُوا الْأَسَاسَ الْأَعْظَمَ لِلدِّينِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَيُذْكَرُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ، فَتَصْدِيقُ الْقُرْآنِ لِمَا مَعَهُمْ لَا يُنَافِي مَا نَعَاهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِضَاعَةِ وَالنِّسْيَانِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّفْرِيطِ.
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَيْ: آمِنُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ نُنْزِلَ بِكُمْ هَذَا الْعِقَابَ، وَهُوَ طَمْسُ الْوُجُوهِ وَرَدُّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا، فَالطَّمْسُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ إِزَالَةُ الْأَثَرِ بِمَحْوِهِ، أَوْ خَفَائِهِ كَمَا تُطْمَسُ آثَارُ الدَّارِ، وَأَعْلَامُ الطُّرُقِ بِنَقْلِ حِجَارَتِهَا أَوْ بِالرِّمَالِ تَسْفُوهَا الرِّيَاحُ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ (١٠: ٨٨)، أَيْ: أَزِلْهَا وَأَهْلِكْهَا، وَالطَّمْسُ عَلَى الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ (٣٦: ٦٦)، يَصْدُقُ بِإِزَالَةِ نُورِهَا وَبِغُؤُرِهَا وَمَحْوِ حَدَقَتِهَا، وَكَذَلِكَ طَمْسُ النُّجُومِ، وَالْوَجْهُ يُطْلَقُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَنِ وَوَجْهِ النَّفْسِ،
وَهُوَ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَمِنْهُ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ (٣: ٢٠)، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ (٣١: ٢٢)، وَقَوْلُهُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا (٣٠: ٣٠)، وَالْأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ ـ بِضَمَّتَيْنِ ـ وَهُوَ الْخَلْفُ وَالْقَفَا، وَالِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَرَاءِ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْحِسِّيَاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ الِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ فِي الْقِتَالِ وَهُوَ الْفِرَارُ مِنْهُ.
وَمِنَ الثَّانِي: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (٤٧: ٢٥)،
117
فَظَاهِرُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ هُنَا: آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَ مَقَاصِدِكُمُ الَّتِي تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا فِي كَيْدِ الْإِسْلَامِ، وَنَرُدَّهَا خَاسِئَةً حَاسِرَةً إِلَى الْوَرَاءِ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ عَلَيْكُمْ وَفَضِيحَتِكُمْ فِيمَا تَأْتُونَهُ بِاسْمِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمَكَانَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْقُوَّةِ، فَهَذَا مَا نُفَسِّرُهَا بِهِ عَلَى جَعْلِ الطَّمْسَ وَالرَّدَّ عَلَى الْأَدْبَارِ مَعْنَوِيَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَلَكِنْ أَوْجَزَ فَقَالَ: نَطْمِسَ وُجُوهًا عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا فِي الضَّلَالَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ فَنُعْمِيهَا عَنِ الْحَقِّ وَنُرْجِعُهَا كُفَّارًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي أَنْ نَرُدَّهُمْ عَنِ الْهُدَى وَالْبَصِيرَةِ، فَقَدْ رَدَّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ عِنْدَ اللهِ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ كَأَنَّهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (٧: ١٥٩)، فَحَذَّرَهُمْ مِنْ إِرْجَاءِ الْإِيمَانِ وَالتَّسْوِيفِ بِهِ أَنْ يَطُولَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ، فَيَصْعُبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ، وَيَضْعُفَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِقَبُولِهِ بِتَعَلُّقِ قَوْمِهِمْ بِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِجَاهِهِمْ فِيهِ.
وَجَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ حِسِّيًّا ظَاهِرِيًّا فَقَالَ: الْمَعْنَى نَطْمِسُ آثَارَهُمْ مِنَ الْحِجَازِ وَنَرُدُّهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ بِالْجَلَاءِ إِلَى فِلَسْطِينَ وَالشَّامِ، وَهِيَ بِلَادُهُمُ الَّتِي جَاءُوا الْحِجَازَ مِنْهَا، وَرَوَاهُ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ جَعْلُ وُجُوهِهِمْ فِي أَقْفِيَتِهِمْ، وَفَهِمَ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ بِالْمَسْخِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ وَقَدْ آمَنَ بَعْضُهُمْ، وَالْوَجْهُ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ
أَوَّلًا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، فَقَالَ: طَمْسُ الْوَجْهِ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ مَا يُغَطِّيهِ فَيَمْنَعَ صَاحِبَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى مَقْصِدِهِ، وَمَتَّى بَطَلَ التَّوَجُّهُ الصَّحِيحُ إِلَى الْمَقْصِدِ امْتَنَعَ السَّعْيُ إِلَيْهِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْوُصُولِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخِذْلَانُ وَالْخَيْبَةُ، أَيْ: آمِنُوا قَبْلَ أَنْ نُعَمِّيَ عَلَيْكُمُ السَّبِيلَ بِمَا نُبَصِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِشُئُونِكُمْ وَنُغْرِيهِمْ بِكُمْ فَتُرَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكِمْ بِأَنْ يَكُونَ سَعْيُكُمْ إِلَى غَيْرِ خَيْرِكُمْ.
وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ وُجُوهًا أُخْرَى، مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ الرُّؤَسَاءُ أَيْ: قَبْلَ أَنْ نُزِيلَ وَجَاهَتَهُمْ وَعِزَّهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ تَقْبِيحُ صُورَتِهَا كَمَا يُقَالُ: طَمَسَ اللهُ وَجْهَهُ وَقَبَّحَ اللهُ وَجْهَهُ بِمَعْنَى تَقْبِيحِ صُورَتِهَا، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِمَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الذُّلِّ وَالْكَآبَةِ يُغْلَبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ.
أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ هَدَّدَهُمْ بِالطَّمْسِ، أَوِ اللَّعْنِ وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِذْلَالُ الْمَعْنَوِيُّ، ثُمَّ أَنْفَذَ الثَّانِيَ أَيْ: عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الطَّمْسَ بِمَعْنَى الْمَسْخِ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الْخِذْلَانِ أَوِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَجِوَارِهَا إِلَى الشَّامِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَصَلَ
118
حَتْمًا وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَرَدَّ أَهْلُ السَّبْتَ أَنَّ اللهَ أَهْلَكَهُمْ، فَمَعْنَى اللَّعْنَةِ هُنَا الْإِهْلَاكُ بِقَرِينَةِ التَّشْبِيهِ وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اللَّعْنِ هُنَا عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: آمِنُوا قَبْلَ أَنْ تَقَعُوا فِي إِحْدَى الْهَاوِيَتَيْنِ: الْخَيْبَةِ وَالْخِذْلَانِ، وَفَسَادُ الْأَمْرِ وَذَهَابُ الْعِزَّةِ بِاسْتِيلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ ـ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أُجْلُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَخُذِلُوا فِي كُلِّ أَمْرِهِمْ ـ أَوِ الْهَلَاكُ وَقَدْ وَقَعَ بِقَتْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى وَهَلَاكِهَا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا أَيْ: وَاقِعًا، أَيْ: شَأْنُهُ أَنْ يُفْعَلَ حَتْمًا، وَالْمُرَادُ هُنَا أَمْرُ التَّكْوِينِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ (٣٦: ٨٢).
إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا.
رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٣٩: ٥٣)، قَامَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَلَاهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: وَالشِّرْكُ بِاللهِ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَالشِّرْكُ بِاللهِ؟ فَسَكَتَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فِي رَجُلٍ شَكَا ابْنَ أَخِيهِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي عَنِ الْحَرَامِ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ إِذْ أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ وَخَافَ أَلَّا يُقْبَلَ إِسْلَامُهُ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مُحَاوَرَةً وَمُرَاجَعَةً عَزَاهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ لَا تَصِحُّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةُ وَحْشِيٍّ، وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ لَمَّا أَخْلَفَهُ مَوْلَاهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ عِتْقِهِ، وَرَاجَعَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي إِسْلَامِهِ، فَكَأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّ اللهَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ كَانَ يُدَاعِبُ وَحْشِيًّا وَأَصْحَابَهُ وَيَسْتَمِيلُهُمْ بِآيَةٍ بَعْدَ آيَةٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ، فَالْكَلَامُ مُلْتَئِمٌ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، فَهُوَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ شَأْنِ الْيَهُودِ وَأَنَّ عُمْدَتَهُمْ
119
فِي تَكْذِيبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَحْرِيفُ أَحْبَارِهِمْ لِلْكِتَابِ، وَاتِّبَاعُهُمْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (٩: ٣١)، وَوَرَدَ فِي تَفْسِيرِهَا الْمَرْفُوعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتْبَعُونَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى أَصْلِ الْكِتَابِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; إِذِ الشِّرْكُ بِاللهِ يَتَحَقَّقُ بِاعْتِمَادِ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ رَزَايَا الدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا، أَوْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ
بَعْضِ النَّاسِ فِي التَّشْرِيعِ كَالْعِبَادَاتِ، وَالْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِثْبَاتُ الشِّرْكِ لِلْيَهُودِ هُنَا وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ لَا يُنَافِي تَسْمِيَتَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: إِيمَانًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; إِذْ لَا يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الشِّرْكِ.
أَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ حَقِيقَةَ الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ: الشُّعُورُ بِسُلْطَةٍ وَتَأْثِيرٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَكُلُّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الشُّعُورِ، وَالشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ: الْأَخْذُ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَنْ بَعْضِ الْبَشَرِ دُونَ الْوَحْيِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى تَفْسِيرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِآيَةِ التَّوْبَةِ بِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩: ٣١)، فَسَّرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اتِّخَاذَهُمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَهَذَا إِثْبَاتٌ لِطُرُوءِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عُنْوَانًا لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ وَلِيُمَيِّزَهُمْ عَنْ مُشْرِكِي الْوَثَنِيِّينَ، وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ الشِّرْكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ قَدْ سَرَى مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عُرِفَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ بِنَبْذِ الْإِسْلَامِ أَلْبَتَّةَ كَطَوَائِفِ الْبَاطِنِيَّةِ (رَاجِعْ مَبَاحِثَ الشِّرْكِ فِي ص ٥٧، ٦٨ و٣٥٤ - ٣٦٠ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي وَفِي ص ٢٤، ٤٥، ٣٢٥، ٣٤٧ مِنْ جُزْئِهِ الثَّالِثِ، ٨٢ مِنْ جُزْئِهِ الْخَامِسِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ) وَبِإِثْبَاتِ الشِّرْكِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ وَضْعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مُحَاجَّتِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُغُرَّنَّكُمُ انْتِمَاؤُكُمْ إِلَى الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ هَدَمْتُمْ أَسَاسَ دِينِهِمْ بِالشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
أَمَّا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ مَغْفِرَةِ الشِّرْكِ، فَهِيَ أَنَّ الدِّينَ إِنَّمَا شُرِعَ لِتَزْكِيَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَتَطْهِيرِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ، وَالشَّرَكُ هُوَ مُنْتَهَى مَا تَهْبِطُ إِلَيْهِ عُقُولُ الْبَشَرِ وَأَفْكَارُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ، وَمِنْهُ تَتَوَلَّدُ جَمِيعُ الرَّذَائِلِ وَالْخَسَائِسِ الَّتِي تُفْسِدُ الْبَشَرَ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمْعِيَّاتِهِمْ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِمْ لِأَفْرَادٍ مِنْهُمْ أَوْ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ دُونَهُمْ أَوْ مِثْلُهُمْ إِلَى
مَرْتَبَةٍ يُقَدِّسُونَهَا وَيَخْضَعُونَ
120
لَهَا وَيَذِلُّونَ بِدَافِعِ الشُّعُورِ بِأَنَّهَا ذَاتُ سُلْطَةٍ عُلْيَا فَوْقَ سُنَنِ الْكَوْنِ وَأَسْبَابِهِ، وَأَنَّ إِرْضَاءَهَا وَطَاعَتَهَا هُوَ عَيْنُ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ شُعْبَةٌ مِنْهَا لِذَاتِهَا، فَهَذِهِ الْخَلَّةُ الدَّنِيئَةُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ اسْتِبْدَادِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِالْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَاسْتِعْبَادِهِمْ إِيَّاهُمْ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ بِالْعَبْدِ الذَّلِيلِ الْحَقِيرِ، وَنَاهِيكَ بِمَا كَانَ لِذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ وَالرَّذَائِلِ الْفَاشِيَةِ مِنَ الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالدَّنَاءَةِ وَالتَّمَلُّقِ وَالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يُنَاقِضُ الشِّرْكَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْتَاقِ الْإِنْسَانِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَجَعْلِهِ حُرًّا كَرِيمًا عَزِيزًا لَا يَخْضَعُ خُضُوعَ عُبُودِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ إِلَّا لِمَنْ خَضَعَتْ لِسُنَنِهِ الْكَائِنَاتُ، بِمَا أَقَامَهُ فِيهَا مِنَ النِّظَامِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلِسُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ يَخْضَعُ، وَلِشَرِيعَتِهِ الْعَادِلَةِ الْمُنَزَّلَةِ يَتْبَعُ، وَإِنَّمَا خُضُوعُهُ هَذَا خُضُوعٌ لِعَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ، لَا لِأَمْثَالِهِ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَأَقْرَانِهِ، وَأَمَّا طَاعَتُهُ لِلْحُكَّامِ فَهِيَ طَاعَةٌ لِلشَّرْعِ الَّذِي رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَالنِّظَامِ الَّذِي يَرَى فِيهِ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ جِنْسِهِ، لَا تَقْدِيسًا لِسُلْطَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَهُمْ، وَلَا ذُلًّا وَاسْتِخْذَاءً لِأَشْخَاصِهِمْ، فَإِنِ اسْتَقَامُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ أَعَانَهُمْ، وَإِنْ زَاغُوا عَنْهَا اسْتَعَانَ بِالْأُمَّةِ فَقَوَّمَهُمْ، كَمَا قَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى بَعْدَ نَصْبِ الْأُمَّةِ لَهُ وَمُبَايَعَتِهَا إِيَّاهُ: " وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي "، فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْمُوَحِّدِينَ مَعَ حُكَّامِهِمْ، وَهَكَذَا يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي دُنْيَاهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، كَمَا يَكُونُونَ أَشْقِيَاءَ بِالشِّرْكِ الْجَلِيِّ أَوِ الْخَفِيِّ.
وَأَمَّا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ وَشَقَاؤُهَا فَهُوَ أَشَدُّ وَأَبْقَى، وَالْمَدَارُ فِيهِمَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ أَيْضًا، إِنَّ رُوحَ الْمُوَحِّدِينَ تَكُونُ رَاقِيَةً عَالِيَةً لَا تَهْبِطُ بِهَا الذُّنُوبُ الْعَارِضَةُ إِلَى الْحَضِيضِ الَّذِي تَهْوِي فِيهِ أَرْوَاحُ الْمُشْرِكِينَ، فَمَهْمَا عَمِلَ الْمُشْرِكُ مِنَ الصَّالِحَاتِ تَبْقَى رُوحُهُ سَافِلَةً مُظْلِمَةً بِالذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَلَا تَرْتَقِي بِعَمَلِهَا إِلَى الْمُسْتَوَى الَّذِي تَنْعَمُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْمُوَحِّدِينَ الْعَالِيَةُ فِي أَجْسَادِهِمُ الشَّرِيفَةِ، وَمَهْمَا أَذْنَبَ الْمُوَحِّدُونَ، فَإِنَّ ذُنُوبَهُمْ لَا تُحِيطُ بِأَرْوَاحِهِمْ، وَظُلْمَتَهَا لَا تَعُمُّ قُلُوبَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَعِزِّ الْإِيمَانِ وَرِفْعَتِهِ يَغْلِبُ خَيْرُهُمْ عَلَى شَرِّهِمْ، وَلَا يَطُولُ
الْأَمَدُ وَهُمْ فِي غَفْلَتِهِمْ عَنْ رَبِّهِمْ، بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٧: ٢٠١)، يُسْرِعُونَ إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِتْبَاعِ الْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (١١: ١١٤)، فَإِذَا ذَهَبَ أَثَرُ السَّيِّئَةِ مِنَ النَّفْسِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغُفْرَانَ، فَكُلُّ سَيِّئَاتِ الْمُوَحِّدِينَ قَابِلَةٌ لِلْمَغْفِرَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ أَيْ: يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُذْنِبِينَ،
121
وَإِنَّمَا مَشِيئَتُهُ مُوَافِقَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَجَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى سُنَنِهِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ (تُرَاجَعُ الْفَهَارِسُ عِنْدَ مَادَّةِ مَشِيئَةٍ) وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا بِقَوْلِنَا: وَمَهْمَا أَذْنَبَ الْمُوَحِّدُونَ إِلَخْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَا يَشَاءُ غُفْرَانَهُ، وَلِسُنَنِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا سُنَنُهُ تَعَالَى فِيمَا لَا يَغْفِرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ فَتَظْهَرُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَتِلْكَ هِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي لَا يَتُوبُ مِنْهَا صَاحِبُهَا وَلَا يُتْبِعُهَا بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي تُزِيلُ أَثَرَهَا السَّيِّئَ مِنَ النَّفْسِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ السَّيِّئُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْعِقَابَ عَلَى الذُّنُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرَتُّبِ آثَارِهَا فِي النَّفْسِ عَلَيْهَا كَمَا تُؤَثِّرُ الْحَرَارَةُ فِي الزِّئْبَقِ فِي الْأُنْبُوبَةِ فَيَتَمَدَّدُ وَيَرْتَفِعُ، وَتُؤَثِّرُ فِيهِ الْبُرُودَةُ فَيَتَقَلَّصُ وَيَنْخَفِضُ، فَهَذَا مِثَالُ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالسَّيِّئَةِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ (رَاجِعْ مَادَّةَ ذَنْبٍ وَعِقَابٍ وَجَزَاءٍ فِي فَهَارِسِ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ).
وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ عَلَى بَلَاغَتِهَا وَظُهُورِهَا أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ وَالْمَذَاهِبِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَلَمْ يَأْخُذُوهُ بِجُمْلَتِهِ وَيُفَسِّرُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، بَلْ نَظَرُوا فِي كُلِّ جُمْلَةٍ عَلَى حِدَّتِهَا، وَحَاوَلُوا حَمْلَهَا عَلَى مَقَالَاتِهِمْ كَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، فَهَذَا يَقُولُ: إِنَّ الشِّرْكَ وَغَيْرَ الشِّرْكِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا لَا يُغْفَرَانِ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَهَذَا يَقُولُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى الذُّنُوبِ وَجَوَازِ غُفْرَانِهَا كُلِّهَا مَا اجْتُنِبَ الشِّرْكُ، وَذَاكَ يَقُولُ: إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى هَذَا مُغْرِيَةً بِالْمَعَاصِي مُجَرِّئَةً عَلَيْهَا، وَالْآيَةُ فَوْقَ ذَلِكَ تُحَدِّدُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتْمًا لِإِفْسَادِهِ لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَتُبَيِّنُ أَنَّ مَا عَدَاهُ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ فِي إِفْسَادِ النَّفْسِ، فَمَغْفِرَتُهُ مُمْكِنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، فَمِنْهُ
مَا يَكُونُ تَأْثِيرُهُ السَّيِّئُ فِي النَّفْسِ قَوِيًّا يَقْتَضِي الْعِقَابَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ ضَعِيفًا يُغْفَرُ بِالتَّأْثِيرِ الْمُضَادِّ لَهُ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ ـ رَاجِعْ تَفْسِيرَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ (٤: ١٧)، إِلَخْ ص ٤٤٠ - ٤٥٢ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُشْعِرُ بِعِلَّةِ عَدَمِ غُفْرَانِ الشِّرْكِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ قَيُّومِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الَّذِي قَامَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ بِأَنْ يَجْعَلَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً مَا مَعَهُ ـ دَعِ الْإِلْحَادَ بِإِنْكَارِ سُلْطَتِهِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ النِّظَامِ الْبَدِيعِ فِي الْكَوْنِ - سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الشَّرِكَةُ بِالتَّأْثِيرِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، أَوْ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، مَنْ يُشْرِكْ بِهِ فِي ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا، أَيِ: اخْتَرَعَ ذَنْبًا مُفْسِدًا عَظِيمَ الْفُحْشِ وَالضَّرَرِ سَيِّئَ الْمَبْدَأِ وَالْأَثَرِ، تُسْتَصْغَرُ فِي جَنْبِ عَظَمَتِهِ جَمِيعُ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، فَيَكُونُ جَدِيرًا بِأَلَّا يُغْفَرَ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ قَدْ يَمْحُوهُ الْغُفْرَانُ، وَالِافْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ فَرَى يَفْرِي، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ: الْقَطْعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْإِفْسَادِ ; لِأَنَّ قَطْعَ الشَّيْءِ الصَّحِيحِ مُفْسِدٌ لَهُ،
122
وَالشِّرْكُ بِالْقَوْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذِبًا وَبِالْفِعْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا فَسَادًا، قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَرْيُ قَطْعُ الْجِلْدِ لِلْخَرَزِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالْإِفْرَاءُ: (قَطْعُهُ) لِلْإِفْسَادِ، وَالِافْتِرَاءُ فِيهِمَا وَفِي الْإِفْسَادِ أَكْثَرُ، وَلِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي الْكَذِبِ وَالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ.
كَانَتِ الْيَهُودُ تُفَاخِرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرَهُمْ بِنَسَبِهِمْ وَدِينِهِمْ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ شَعْبَ اللهِ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (٥: ١٨)، وَقَوْلُهُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى (٢: ١١١)، وَقَوْلُ الْيَهُودِ خَاصَّةً: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً (٢: ٨٠)، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِهِمْ، وَيُقَرِّبُونَ قُرْبَانَهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا خَطَايَا لَهُمْ وَلَا ذُنُوبَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ.
أَقُولُ: وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا تَزْكِيَتُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ،
قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّا لَنُعَلِّمُ أَبْنَاءَنَا التَّوْرَاةَ صِغَارًا فَلَا تَكُونُ لَهُمْ ذُنُوبٌ، وَذُنُوبُنَا مِثْلُ ذُنُوبِ أَبْنَائِنَا مَا عَمِلْنَا بِالنَّهَارِ كُفِّرَ عَنَّا بِاللَّيْلِ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى، وَرَجَّحَ أَنَّ تَزْكِيَتَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَصْفُهُمْ إِيَّاهَا بِأَنَّهَا لَا ذُنُوبَ لَهَا وَلَا خَطَايَا، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
أَمَّا مَعْنَى: أَلَمْ تَرَ فَقَدْ ذُكِرَ قَرِيبًا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ تَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَجْعَلُهَا زَاكِيَةً أَيْ طَاهِرَةً كَثِيرَةَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَأَصْلُ الزَّكَاءِ وَالزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالْبَرَكَةُ فِي الزَّرْعِ، وَمِثْلُهُ كُلُّ نَافِعٍ، فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْفِعْلِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْمِيَةِ فَضَائِلِهَا وَخَيْرَاتِهَا، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِاجْتِنَابِ الشُّرُورِ الَّتِي تُعَارِضُ الْخَيْرَ وَتَعُوقُهُ، وَهَذِهِ التَّزْكِيَةُ مَحْمُودَةٌ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩١: ٩)، أَيْ: نَفْسَهُ.
وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ ادِّعَاءُ الزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ، وَمِنْهُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ بِالْقَوْلِ، وَمَدْحِهَا وَلَوْ بِالْحَقِّ، وَلَتَزْكِيَتُهَا بِالْبَاطِلِ أَشَدُّ قُبْحًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّزْكِيَةِ مَصْدَرُهُ الْجَهْلُ وَالْغُرُورُ، وَمِنْ آثَارِهِ الْعُتُوُّ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَالِانْتِفَاعِ بِالنُّصْحِ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ أَيْ: لَيْسَتِ الْعِبْرَةُ بِتَزْكِيَتِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ بِأَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّكُمْ لَا تُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّكُمْ سَتَكُونُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ دُونَ غَيْرِكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ، بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ وَالْأَقْوَامِ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآدَابِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ شَهَادَةِ كِتَابَةٍ لَهُمْ بِمُوَافَقَةِ عَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لِمَا جَاءَ فِيهِ: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (٥٣: ٣٢).
وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ: وَلَا يَظْلِمُ اللهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ خَلْقِهِ
123
شَيْئًا مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَلَوْ حَقِيرًا كَالْفَتِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ أَصْلَ الظُّلْمِ بِمَعْنَى النَّقْصِ، أَيْ: لَا يَنْقُصُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ شَيْئًا مَا بِعَدَمِ تَزْكِيَتِهِ إِيَّاهُمْ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَزْكِيَتِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ لِمَا تَكُونُ بِهِ النَّفْسُ زَكِيَّةً مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَنِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَتِيلُ: مَا يَكُونُ فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ مِثْلَ الْخَيْطِ، وَمَا تَفْتِلُهُ بَيْنَ أَصَابِعِكَ مِنْ وَسَخٍ أَوْ خَيْطٍ، وَتَضْرِبُ الْعَرَبُ بِهِ الْمَثَلَ فِي الشَّيْءِ الْحَقِيرِ فَهُوَ بِمَعْنَى إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (٤: ٤٠)، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَخِذْلَانُ الْمُلَوَّثِينَ بِرَذِيلَةِ الشِّرْكِ
فِي الدُّنْيَا بِالْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ انْحِطَاطِهِمْ، وَعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ نَعِيمِهَا لَا يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَنَقْصِهِ إِيَّاهُمْ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِنُقْصَانِ دَرَجَاتِ أَعْمَالِهِمْ، وَعَجْزِهَا عَنِ الْعُرُوجِ بِأَرْوَاحِهِمْ، بَلْ بِتَدْسِيَتِهَا لِنُفُوسِهِمْ، لِتَزْكِيَتِهِمْ إِيَّاهَا بِالْقَوْلِ الْبَاطِلِ دُونَ الْفِعْلِ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا (٦: ١٣٢)، كَدَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي مِيزَانِهَا، وَدَرَجَاتِ الرُّطُوبَةِ فِي مِيزَانِهَا، فَمَا كَلُّ دَرَجَةٍ مِنَ الْأُولَى يَغْلِي بِهَا الْمَاءُ، وَلَا كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا يَكُونُ بِهَا جَلِيدًا، وَلَا كُلُّ دَرَجَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ يَنْزِلُ بِهَا الْمَطَرُ، وَكَدَرَجَاتِ امْتِحَانِ طُلَّابِ الْعُلُومِ فِي الْمَدَارِسِ، أَوِ الْأَعْمَالِ فِي الْحُكُومَةِ لَا يُنَالُ الْفَوْزُ فِيهَا إِلَّا بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى الْمُحَدَّدِ أَدْنَاهَا وَأَعْلَاهَا بِالْحِكْمَةِ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْزِي كُلَّ عَامِلِ خَيْرٍ بِعَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا ; لِأَنَّ لِعَمَلِهِ أَثَرًا فِي نَفْسِهِ يَكُونُ مَنَاطَ الْجَزَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَصِلْ تَأْثِيرُ عَمَلِ الْمُشْرِكِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ عَمَلَهُ يَنْفَعُهُ بِكَوْنِ عَذَابِهِ أَقَلَّ مِنْ عَذَابِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَ عَمَلِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا رَجُلَانِ يَشْرَبَانِ الْخَمْرَ، أَحَدُهُمْ مُقِلٌّ وَالْآخَرُ مُكْثِرٌ، فَضَرَرُ الْمُكْثِرِ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ ضَرَرِ الْمُقِلِّ، وَآخَرَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الشُّرْبِ وَلَكِنْ بِنْيَةُ أَحَدِهِمَا قَوِيَّةٌ تُقَاوِمُ الضَّرَرَ أَنْ يَفْتِكَ بِالْجِسْمِ، وَبِنْيَةُ الْآخَرِ ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ الْمُقَاوَمَةَ، فَإِنَّ ضَرَرَ هَذَا مِنَ الشُّرْبِ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ ذَاكَ.
كَذَلِكَ الرُّوحُ الْقَوِيَّةُ السَّلِيمَةُ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةُ الْإِيمَانِ الْمُزَكَّاةُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لَا تَهْبِطُ بِهَا السَّيِّئَةُ الْوَاحِدَةُ وَالسَّيِّئَتَانِ إِلَى دَرَجَةِ الْأَشْرَارِ الْفُجَّارِ فَتَجْعَلَهَا شَقِيَّةً مِثْلَهُمْ، بَلْ يَغْلِبُ خَيْرُهَا عَلَى الشَّرِّ الَّذِي يَعْرِضُ لَهَا، فَيُزِيلُهُ أَوْ يُضْعِفُهُ حَتَّى يَكُونَ ضَرَرُهَا غَيْرَ مُهْلِكٍ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ قَدْ يُعَذَّبُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِذَنْبِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْخَالِدِينَ.
وَالْعِبْرَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ هِيَ وُجُوبُ اتِّقَاءِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِقُرُونٍ، وَاتِّقَاءُ مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْقَوْلِ وَاحْتِقَارِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي انْجَرَّ إِلَى احْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى كَانَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْغُرُورِ
وَتِلْكَ التَّزْكِيَةِ الْبَاطِلَةِ فِي الدُّنْيَا أَنْ غَلَبَهُمُ
124
الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَرْضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ الْعَظِيمَ الْحَكِيمَ لَا يُحَابِي فِي سُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ مُسْلِمًا وَلَا يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا؛ لِأَجْلِ اسْمِهِ وَلَقَبِهِ، أَوْ لِانْتِسَابِهِ بِالِاسْمِ إِلَى أَصْفِيَائِهِ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ كَانَتْ سُنَنُهُ حَاكِمَةً عَلَى أُولَئِكَ الْأَصْفِيَاءِ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى إِنَّ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ قَدْ شُجَّ رَأْسُهُ وَكُسِرَتْ سِنُّهُ، وَرُدِيَ فِي الْحُفْرَةِ يَوْمَ أُحُدٍ لِتَقْصِيرِ عَسْكَرِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ نِظَامِ الْحَرْبِ، فَإِلَى مَتَى أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْغُرُورُ بِالِانْتِمَاءِ إِلَى هَذَا الدِّينِ، وَأَنْتُمْ لَا تُقِيمُونَ كِتَابَهُ وَلَا تَهْتَدُونَ بِهِ، وَلَا تَعْتَبِرُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ النُّذُرِ، أَلَا تَرَوْنَ كَيْفَ عَادَتِ الْكَرَّةُ إِلَى تِلْكَ الْأُمَمِ عَلَيْكُمْ بَعْدَ مَا تَرَكُوا الْغُرُورَ، وَاعْتَصَمُوا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، بِمَا جَرَى عَلَيْهِ نِظَامُ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، حَتَّى مَلَكَتْ دُوَلُ الْأَجَانِبِ أَكْثَرَ بِلَادِكُمْ، وَقَامَ الْيَهُودُ الْآنَ لِيُجْهِزُوا عَلَى الْبَاقِي لَكُمْ، وَيَسْتَرِدُّوا الْبِلَادَ الْمُقَدَّسَةَ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَيُقِيمُوا فِيهَا مُلْكَهُمْ؟ ! فَاهْتَدُوا بِكِتَابِ اللهِ الْحَكِيمِ وَبِسُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، وَاتْرُكُوا وَسَاوِسَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَبُثُّونَ فِيكُمْ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ فَيَصْرِفُونَكُمْ عَنْ قُوَاكُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَنِ الِاهْتِدَاءِ بِكَلَامِ رَبِّكُمْ إِلَى الِاتِّكَالِ عَلَى الْأَمْوَاتِ، وَالِاسْتِمْسَاكِ بِحَبْلِ الْخُرَافَاتِ، وَيَشْغَلُونَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ بِمَا لَمْ يُنْزِلْهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالصَّلَوَاتِ، وَمَا غَرَضُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا سَلْبُ أَمْوَالِكُمْ، وَحِفْظُ جَاهِهِمُ الْبَاطِلِ فِيكُمْ، أَفِيقُوا أَفِيقُوا، تَنَبَّهُوا تَنَبَّهُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَمْ يَظْلِمْ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَتِيلًا، فَمَا زَالَ مُلْكُكُمْ، وَلَا ذَهَبَ عِزُّكُمْ، إِلَّا بِتَرْكِ هِدَايَةِ رَبِّكُمْ، وَاتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ مِنْكُمْ.
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ أَيِ: انْظُرْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ كَيْفَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُهُ الْخَاصُّ وَأَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً خَاصَّةً يَخْرُجُونَ فِيهَا عَنْ نِظَامِ سُنَنِهِ فِي سَائِرِ خَلْقِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِنَعْتَبِرَ بِهِ.
وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا أَيْ: وَكَفَى بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ آثَامِهِمْ إِثْمًا بَيِّنًا ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةً خَاصَّةً مُخَالِفَةً لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ الَّتِي عَامَلَ بِهَا غَيْرَهُمْ،
وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مَغْرُورُونَ جَاهِلُونَ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْإِثْمُ عَلَى الْكَذِبِ خَاصَّةً، وَعَلَى كُلِّ ذَنْبٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِثْمُ وَالْآثَامُ: اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبْطِئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، يَعْنِي عَنِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا، ثُمَّ بَيَّنَ صِدْقَ ذَلِكَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ; إِذْ قَالَ تَعَالَى: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ (٢: ٢١٩)، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ، وَالْغُرُورَ بِالدِّينِ وَالْجِنْسِ، مِمَّا يُبَطِّئُ عَنِ الْعَمَلِ النَّافِعِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا بِالْعِزِّ وَالسِّيَادَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْحُسْنَى وَزِيَادَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (٢: ٢١٩)، أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ لَفْظُ " الْإِثْمِ " إِلَّا عَلَى مَا كَانَ ضَارًّا، وَأَيُّ ضَرَرٍ أَكْبَرُ مِنْ ضَرَرِ الْغُرُورِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالدَّعْوَى وَالتَّبَجُّحِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ فِي بَعْضِ
الْبِلَادِ؟ ! يَغُشُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَدْحِهَا، وَيَتْرُكُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَرْفَعُهَا وَتُعْلِيهَا، وَقَدْ تَرَكَ الْيَهُودُ ذَلِكَ مُنْذُ قُرُونٍ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ لِمِلَّتِهِمْ، وَهُمْ سَاكِتُونَ سَاكِنُونَ، وَلَا يَدَّعُونَ وَلَا يَتَبَجَّحُونَ، فَاعْتَبِرُوا أَيُّهَا الْغَافِلُونَ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا.
أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَلَا تَرَى هَذَا الْمُنْصَبِرَ الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ
أَهْلُ الْحَجِيجِ، وَأَهْلُ السَّدَانَةِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ، قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (١٠٨: ٣)، وَنَزَلَتْ فِيهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، إِلَى قَوْلِهِ: نَصِيرًا وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَسَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَبُو عُمَارَةَ، وَهَوْدَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ سَائِرُهُمْ مَنْ بُنِيَ النَّضِيرِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكُتُبِ الْأُولَى، فَاسْأَلُوهُمْ: أَدِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ؟ فَسَأَلُوهُمْ، فَقَالُوا: دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ وَمِمَّنِ اتَّبَعَهُ! ! فَأَنْزَلَ اللهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، إِلَى قَوْلِهِ: مُلْكًا عَظِيمًا اهـ، مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
أَقُولُ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى عِنْدَ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ فِي سَبَبِ نُزُولِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ،
126
وَوَقَائِعُ هَذِهِ السُّورَةِ مَدَنِيَّةٌ كَمَا بَيَّنَاهُ، وَمُحَاجَّةُ الْيَهُودِ وَبَيَانُ أَحْوَالِهِمْ لَمْ يُفَصَّلْ إِلَّا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ بَعْدَ ابْتِلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَيْدِهِمْ فِيهَا وَفِي جِوَارِهَا، فَفِي الرِّوَايَةِ خَلْطٌ سَبَبُهُ اشْتِبَاهُ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي الْأَسْبَابِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ رِوَايَاتِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السِّيَاقُ كُلُّهُ قَدْ نَزَلَ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا ; إِذْ نَقَضَ الْيَهُودُ عَهْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاتَّحَدُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ هُوَ تَفْضِيلُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا صَرَّحُوا بِالتَّفْضِيلِ بِالْقَوْلِ عِنْدَ النِّدَاءِ بِالنَّفِيرِ لِحَرْبِ الْمُؤْمِنِينَ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ إِضْلَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَ " الْجِبْتُ " قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: أَصْلُهُ الْجِبْسُ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ سِينًا، وَمَعْنَاهُ فِيهِمَا الرَّدِيءُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَأُطْلِقَ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى السَّاحِرِ، وَعَلَى الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حَبَشِيُّ الْأَصْلِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّهُ السَّاحِرُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ الْأَصْنَامُ، وَعَنْ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُ السِّحْرُ.
وَ " الطَّاغُوتُ ": مِنْ مَادَّةِ الطُّغْيَانِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ [ص ٢٠ ج ٣ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، بِأَنَّهُ كُلُّ مَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ سَبَبًا لِلطُّغْيَانِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ مِنْ مَخْلُوقٍ يُعْبَدُ، وَرَئِيسٍ يُقَلَّدُ، وَهَوًى يُتَّبَعُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الطَّاغُوتَ: الشَّيْطَانُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الطَّاغُوتَ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا الْكَذِبَ لِيُضِلُّوا النَّاسَ، وَقِيلَ: الطَّاغُوتُ: الْكُهَّانُ، وَقِيلَ: الْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ: صَنَمَانِ كَانَا لِقُرَيْشٍ، وَأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ سَجَدُوا لَهُمَا مَرْضَاةً لِقُرَيْشٍ وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ لِيَتَّحِدُوا مَعَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي حَدِيثِ قَطَنِ بْنِ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: " الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ، وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ " وَفَسَّرَ الْعِيَافَةَ بِالْخَطِّ، وَهُوَ ضَرْبُ الرَّمْلِ، وَتُطْلَقُ الْعِيَافَةُ عَلَى التَّفَاؤُلِ وَالتَّشَاؤُمِ بِمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَفَاءَلْتُ فِي أَنْ تَبْذُلِي طَارِفَ الْوَفَا بِأَنْ عَنَّ لِي مِنْكِ الْبَنَانُ الْمُطَرَّفُ
وَفِي عَرَفَاتٍ مَا يُخْبِرُ أَنَّنِي بِعَارِفَةٍ مِنْ طِيبِ قَلْبِكِ أُسْعَفُ
وَأَمَّا دِمَاءُ الْهَدْيِ فَهْوَ هَدْيٌ لَنَا يَدُومُ وَرَأْيٌ فِي الْهَوَى يَتَأَلَّفُ
فَأَوْصَلَتَا مَا قُلْتُهُ فَتَبَسَّمَتْ وَقَالَتْ أَحَادِيثُ الْعِيَافَةِ زُخْرُفُ
وَالطِّيَرَةُ: التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُهُ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ: هُوَ الضَّرْبُ بِالْحَصَا أَوِ الْوَدَعِ، أَوْ حَبِّ الْفُولِ، أَوِ الرَّمْلِ لِمَعْرِفَةِ الْبَخْتِ وَمَا غَابَ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا
127
مِنَ الدَّجَلِ وَالْحِيَلِ، فَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلَفْظِ الْجِبْتِ هُوَ الدَّجَلُ وَالْأَوْهَامُ وَالْخُرَافَاتُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِلَفْظِ الطَّاغُوتِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ مُثَارَاتِ الطُّغْيَانِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ لَمْ تَنْظُرْ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ كَيْفَ حُرِمُوا هِدَايَتَهُ؟ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَنْصُرُونَ أَهْلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ، وَحَقِّيَّةِ أَصْلِ كُتُبِهِمْ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا أَيْ: لِأَجْلِهِمْ وَفِي شَأْنِهِمْ وَالْحِكَايَةِ عَنْهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أَيْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى وَأَرْشَدُ طَرِيقًا فِي الدِّينِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ اللهَ وَصَفَ الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ بِتَعْظِيمِهِمْ غَيْرَ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالطَّاعَةِ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَعْصِيَتِهِمَا وَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ بِاللهِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَإِنَّ دِينَ أَهْلِ التَّكْذِيبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ أَعْدَلُ وَأَصْوَبُ مِنْ دِينِ أَهْلِ التَّصْدِيقِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ عَنْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ انْطَلَقَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَاسْتَجَاشَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَغْزُوهُ وَقَالَ: إِنَّا مَعَكُمْ نُقَاتِلُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابٍ وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَكْرًا مِنْكُمْ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَنَا فَاسْجُدْ لِهَذَيْنَ الصَّنَمَيْنِ، وَأُمِرَ بِهِمَا فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالُوا: نَحْنُ أَهْدَى أَمْ مُحَمَّدٌ؟ فَنَحْنُ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ ـ النَّاقَةَ الضَّخْمَةَ السَّنَامِ ـ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ، وَنَصِلُ الرَّحِمَ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَمُحَمَّدٌ قَطَعَ رَحِمَهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى، وَمِنْهَا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْيَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ مَا كَانَ حِينَ أَتَاهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيِّينَ فَهَمُّوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، فَأَطْلَعَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى مَا هَمُّوا مِنْ ذَلِكَ وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهَرَبَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَعَاهَدَهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: نَحْنُ قَوْمٌ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي الْحَجِيجَ الْمَاءَ، وَنَقْرِي الضَّيْفَ، وَنُعَمِّرُ بَيْتَ رَبِّنَا، وَنَعْبُدُ آلِهَتَنَا الَّتِي كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَمُحَمَّدٌ يَأْمُرُنَا أَنْ نَتْرُكَ هَذَا وَنَتَّبِعَهُ، قَالَ: دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ فَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى.
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ بَيَّنَّا سُوءَ حَالِهِمْ هُمُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ، أَيِ: اقْتَضَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ أَنْ يَكُونُوا بُعَدَاءَ عَنْ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِهِ وَعِنَايَتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ وَالْكُفْرِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَيْ: وَمَنْ يَلْعَنْهُ اللهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَلَنْ يَنْصُرَهُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ ; إِذْ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى تَغْيِيرِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخِذْلَانُ وَالِانْكِسَارُ نَصِيبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، أَيْ: بِمَثَارِ الدَّجَلِ
128
وَالْخُرَافَاتِ وَالطُّغْيَانِ، أَيْ مُجَاوَزَةُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ مُقَاوَمَةَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ
وَالِاعْتِدَالِ فِي سِيَاسَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِسَيْرِهِمْ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ لَعْنِ اللهِ لِلْأُمَمِ هُوَ إِيمَانُهَا بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ وَالطُّغْيَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاجْتِنَابِهِمْ ذَلِكَ، وَتَدُلُّ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ عَلَى أَنَّ الْأُمَمَ الْمَغْلُوبَةَ تَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ مِنَ الْأُمَمِ الْغَالِبَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَلْيُحَاسِبِ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهَا وَبِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧)، لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ صِدْقُهُمْ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ مِنْ عَدَمِهِ، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيُعَوِّلُونَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ عَلَيْهِ.
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ قَالُوا: إِنَّ أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ وَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ لِلْإِضْرَابِ أَوِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِضْرَابِ هُنَا: الِانْتِقَالُ مِنْ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَتَفْضِيلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالْأَثَرَةِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ أَمْ إِذَا وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ تَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ [رَاجِعْ ص ٢٤ ج ٢ مِنَ التَّفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْإِنْكَارِ، وَالتَّوْبِيخُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ كَمَا لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْكِتَابِ، بَلْ فَقَدُوا الْمُلْكَ كُلَّهُ بِظُلْمِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ فإذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَيْ: وَلَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ لَسَلَكُوا فِيهِ طَرِيقَ الْبُخْلِ وَالْأَثَرَةِ بِحَصْرِ مَنَافِعِهِ وَمَرَافِقِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُعْطُونَ النَّاسَ نَقِيرًا مِنْهُ إِذْ ذَاكَ، وَالنَّقِيرُ: هُوَ النُّقْرَةُ أَوِ النُّكْتَةُ فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرِ، وَهِيَ الثَّقْبَةُ الَّتِي تَنْبُتُ مِنْهَا النَّخْلَةُ شُبِّهَتْ بِمَا نُقِرَ بِمِنْقَارِ الطَّائِرِ أَوْ مِنْقَارِ الْحَدِيدِ الَّذِي تُحْفَرُ بِهِ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وَالنَّقِيرُ كَالْفَتِيلِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ (٤٩) يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَالْحَقِيرِ التَّافِهِ، وَيُطْلَقُ النَّقِيرُ أَيْضًا عَلَى مَا نُقِرَ، أَيْ حُفِرَ مِنَ الْحَجَرِ أَوِ الْخَشَبِ فَجُعِلَ إِنَاءً يُنْبَذُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِالْقِطْمِيرِ وَهِيَ الْقِشْرَةُ الدَّقِيقَةُ الَّتِي عَلَى النَّوَاةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّمْرَةِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ أَصْحَابُ أَثَرَةٍ شَدِيدَةٍ وَشُحٍّ مُطَاعٍ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا صَارَ لَهُمْ مُلْكٌ حَرَصُوا عَلَى مَنْعِ النَّاسِ أَدْنَى النَّفْعِ وَأَحْقَرَهُ، فَكَيْفَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَظْهَرَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ وَيَكُونَ لِأَصْحَابِهِ مِلْكٌ يَخْضَعُ لَهُمْ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَزَالُ غَالِبَةً عَلَى الْيَهُودِ ظَاهِرَةً فِيهِمْ، فَإِنْ
تَمَّ لَهُمْ مَا يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنْ إِعَادَةِ مُلْكِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا حَوْلَهُ فَإِنَّهُمْ يَطْرُدُونَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَلَا يُعْطُونَهُمْ مِنْهَا نَقِيرًا مِنْ نَوَاةٍ أَوْ مَوْضِعَ زَرْعِ نَخْلَةٍ، أَوْ نُقْرَةً فِي أَرْضٍ أَوْ جَبَلٍ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ الْآنَ وَحَاوَلُوا قَبْلَ الْآنِ ذَلِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَالنَّجَّارُ الْيَهُودِيُّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَعْمَلُ لَكَ الْعَمَلَ بِأُجْرَةٍ أَقَلَّ مِنَ الْأُجْرَةِ الَّتِي يَرْضَى بِهَا الْمُسْلِمُ
أَوِ النَّصْرَانِيُّ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَلَعَلَّ جَمْعِيَّاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةَ وَالْخَيْرِيَّةَ تُسَاعِدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَالدَّلَائِلُ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ يُحَاوِلُونَ امْتِلَاكَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَحِرْمَانَ غَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ فِيهَا، يَفْعَلُونَ هَذَا وَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ " هَذَا وَمَا كَيْفَ لَوْ ".
وَهَلْ يَعُودُ إِلَيْهِمُ الْمُلْكُ كَمَا يَبْغُونَ؟ الْآيَةُ لَا تُثْبِتُ ذَلِكَ وَلَا تَنْفِيهِ، وَإِنَّمَا تُبَيِّنُ مَا تَقْتَضِيهِ طِبَاعُهُمْ فِيهِ لَوْ حَصَلَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ الَّتِي تُسَمَّى أَيْضًا (سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْكَثْرَةِ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَمُتَعَلِّقُونَ بِأَمْوَالِهِمْ فِي كُلِّ الْمَمَالِكِ، وَمِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ وَالزِّرَاعَةِ، وَقَدْ ضَعُفَ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا دِينِيًّا أَنَّهُمْ سَيُقِيمُونَ الْمُلْكَ، أَوْ سَوْفَ يُقِيمُونَهُ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ، وَقَدِ ادَّخَرُوا لِذَلِكَ مَالًا كَثِيرًا، فَيَجِبُ عَلَى الْعُثْمَانِيِّينَ أَلَّا يُمَكِّنُوا لَهُمْ فِي فِلَسْطِينَ وَلَا يُسَهِّلُوا لَهُمْ طُرُقَ امْتِلَاكِ أَرْضِهَا، وَكَثْرَةَ الْمُهَاجَرَةِ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَطَرًا كَبِيرًا كَمَا نَبَّهْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ.
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: سَبَقَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ الْيَهُودَ حَكَمُوا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى سَبِيلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ مِنَ الْحَسَدِ وَالْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، فَهُمْ فِي شَرِّ حَالٍ، وَيَعِيبُونَ مَنْ هُمْ فِي أَحْسَنِ حَالٍ، فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ يَضِيقَ فَضْلُ اللهِ بِعِبَادِهِ، وَلَا يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ فَضْلٌ أَكْثَرُ مِمَّا لَهُمْ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغُرُورِ بِنَسَبِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ مَعَ سُوءِ حَالِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ غَرَّرَ هَؤُلَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ تَغْرِيرًا، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فِي هَذَا الْكَوْنِ فَهُمْ يَمْنَعُونَ النَّاسَ، فَلَا يُؤْتُونَهُمْ مِنْهُ نَقِيرًا، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ؟ أَيِ: الْعَرَبُ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا وَالْعَرَبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ كَانَتْ ظَهَرَتْ تَبَاشِيرُ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ فِيهِمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ ; فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ، وَكَانَتْ شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ قَوِيَتْ، فَالْآيَةُ مُبَشِّرَةٌ لَهُمْ بِالْمُلْكِ الَّذِي يَتْبَعُ النُّبُوَّةَ وَالْحِكْمَةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَ الْيَهُودِ يَوْمَئِذٍ كَانَ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ: إِمَّا غُرُورٌ خَادِعٌ يَظُنُّونَ مَعَهُ أَنَّ فَضْلَ اللهِ مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَرَحْمَتَهُ تَضِيقُ عَنْ غَيْرِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِمَّا حُسْبَانُ أَنَّ مُلْكَ الْكَوْنِ فِي أَيْدِيهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَحُونَ لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَوْ حَقِيرًا كَالنَّقِيرِ، وَإِمَّا حَسَدُ الْعَرَبِ عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمُلْكِ الَّذِي ظَهَرَتْ مَبَادِئُ عَظَمَتِهِ، انْتَهَى مَا قَالَهُ فِي الدَّرْسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ.
وَأَقُولُ: فَسَّرُوا الْحَسَدَ بِأَنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا الْمُسْتَحِقِّ لَهَا، وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ
130
فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (٢: ١٠٩)، وَفِي سُورَةِ الْفَلَقِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُمُ الْيَهُودُ، فَهُوَ لَمْ يُسْنِدِ الْحَسَدَ إِلَى غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ ـ وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُمُ الْمُلْكُ ـ يَتَمَنَّوْنَ عَوْدَتَهُ إِلَيْهِمْ وَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَسْبِقَهُمُ الْعَرَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّصَارَى يَوْمَئِذٍ يَحْسُدُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَتِّعُونَ بِمُلْكٍ وَاسِعٍ، وَلَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ الَّتِي قَامَ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَقٌّ، وَلَا أَنَّهَا تَسْتَتْبِعُ مُلْكًا؛ فَإِنَّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ حَقِّيَّةُ الدَّعْوَةِ صَارَ مُسْلِمًا، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ مِمَّنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ حَقِّيَّةُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، وَمَنَعَ الْحَسَدُ بَاقِيَ الرُّؤَسَاءِ أَنْ يُؤْمِنُوا وَتَبِعَهُمُ الْعَامَّةُ تَقْلِيدًا لَهُمْ، وَقَلَّمَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُمْ مِثْلُ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، فَالْحَسُودُ يُؤْثِرُ هَلَاكَ نَفْسِهِ عَلَى انْقِيَادِهَا لِمَنْ يَحْسُدُهُ؛ لِأَنَّ الْحَسَدَ يُفْسِدُ الطِّبَاعَ، وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ حَسَدُوهُ وَحَسَدُوا قَوْمَهُ الْعَرَبَ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ وَهُمْ أَسْبَقُ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ.
وَرَدَ فِي بَعْضِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لَمْ يَجِدُوا مَطْعَنًا يَقُولُونَهُ فِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَّا تَعَدُّدَ أَزْوَاجِهِ، وَقِيلَ: حَسَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَةُ تَرُدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِمْ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ كَانَ لَهُمْ أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ، كَمَا رَدَّ عَلَيْهِمُ اسْتِبْعَادَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُلْكُ فِي غَيْرِ آلِ إِسْرَائِيلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى آلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالنُّبُوَّةَ فَضْلًا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَقٌّ عَلَيْهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ يُعْطَى ذَلِكَ لِآلِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَا حَجْرَ عَلَى فَضْلِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْفَضْلُ الْإِلَهِيُّ لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ لَهُ سَلَفٌ فِيهِ، فَلِلْعَرَبِ هَذَا السَّلَفُ ; عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ وَإِلَّا لَكَانَتْ هَذِهِ الْعَطَايَا قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَمَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ فُرُوعِهِ أَزَلِيَّةً، فَإِيتَاءُ اللهِ تَعَالَى بَعْضَ الْبَشَرِ الْفَضْلَ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضِ الِاخْتِصَاصِ وَالِاخْتِيَارِ وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَزَايَا وَفَضَائِلَ فِيمَنْ يُعْطِيهِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ مَنْ يَكْتَسِبُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَزَايَا مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْفَضْلِ، وَالنُّبُوَّةِ وَمُقَدَّمَاتِهَا بِمَحْضِ الِاخْتِصَاصِ.
أَمَّا كَثْرَةُ النِّسَاءِ، لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ (ص) وَأَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ فَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُ أَتْبَاعُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَ أَكْثَرَهُنَّ لِحِكَمٍ وَأَسْبَابٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ، وَفِي سِفْرِ الْمُلُوكِ مِنْ كِتَابِهِمُ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ: ١١: ١ وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ مُوآبِيَاتٍ وَعَمُونِيَاتٍ وَأَدُومِيَاتٍ وَصَيْدُونِيَاتٍ
131
وَحَثَيَاتٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهَؤُلَاءِ بِالْمَحَبَّةِ وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُمِائَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ وَثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ السَّرَارِي فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ " إِلَى آخِرِ مَا هُنَاكَ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَبَرَّأَهُ اللهُ.
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ الْمُقَدَّمُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ بِهِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، أَيْ:
مِنْ أُولَئِكَ الْيَهُودِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، يُقَالُ: صَدَّ الرَّجُلُ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا: صَدَّ غَيْرَهُ عَنْهُ إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ، وَنَفَّرَهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ مِنْ آلِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَقِيلَ: إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: إِلَى الْكِتَابِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمُلْكِ الْعَظِيمِ، فَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَهِيَ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَيَانِ أَسْرَارِ الْكِتَابِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْمُلْكِ فَهُوَ الْإِيمَانُ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِهِ، وَهَكَذَا شَأْنُ النَّاسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيُعْرِضُ عَنْهُ آخَرُونَ.
وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا أَيْ: نَارًا مُسَعَّرَةً لِمَنْ صَدَّ عَنْهُ وَآثَرَ إِرْضَاءَ حَسَدِهِ وَالْعَمَلَ بِمَا يُزَيِّنُهُ لَهُ عَلَى اتِّبَاعُ الْحَقِّ، فَهُوَ لَا يَزَالُ يُغْرِيهِ بِنَصْرِ الْبَاطِلِ وَمُعَانِدَةِ الْحَقِّ حَتَّى يُدَسِّيَ نَفْسَهُ وَيُفْسِدَهَا وَيَهْبِطَ بِهَا إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ وَهَاوِيَةِ النَّكَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِجَهَنَّمَ وَبِالسَّعِيرِ وَهِيَ بِئْسَ الْمَثْوَى وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا.
132
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَتَوَعَّدَ مَنْ صَدَّ عَنْهُ بِسَعِيرِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا وَنَقَلُوا عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ " سَوْفَ " تَأْتِي لِلتَّهْدِيدِ وَتَنُوبُ عَنْهَا " السِّينُ " وَيَسْتَشْهِدُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ـ أَيْ عَلَى سَوْفَ وَبِمَا بَعْدَهَا عَلَى السِّينِ ـ وَلَكِنْ وَرَدَ دُخُولُ
السِّينِ عَلَى الْفِعْلِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ وَالصَّوَابُ أَنَّ السِّينَ وَسَوْفَ عَلَى مَعْنَاهُمَا الْمَشْهُورِ فِي إِفَادَةِ التَّنْفِيسِ وَالتَّأْخِيرِ، وَاشْتُقَّ لَفْظُ التَّسْوِيفِ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ مِنْ سَوْفَ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَشْكَلَ التَّسْوِيفَ هُنَا، وَلَوْ نَظَرُوا فِي مِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ لَرَأَوْا أَنَّ حُصُولَهُ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا جِدًّا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ بِهِ، عَلَى أَنَّ لِلتَّرَاخِي وَالْبُعْدِ مَعْنًى آخَرَ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْمَقَامِ فِي الْخِطَابِ، فَإِذَا نُظِرَ إِلَى حَالِ الْمَغْرُورِينَ ـ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ وَعِزَّةٍ ـ الَّذِينَ صَرَفَهُمْ غُرُورُهُمْ وَطُغْيَانُهُمْ بِعِزَّتِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَصَدُّوا عَنْهُ اسْتِغْنَاءً بِمَا هُمْ فِيهِ، يَرَاهُمْ بِهَذَا الْغُرُورِ بُعَدَاءَ جِدًّا عَنْ تَصَوُّرِ الْوَعِيدِ وَالتَّفْكِيرِ فِيهِ، فَيَكُونُ هَذَا التَّسْوِيفُ مَرْعِيًّا فِيهِ حَالُهُمْ لِيَتَفَكَّرُوا فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ.
أَقُولُ: قَدْ تَرَكْتُ هُنَا فِي مُذَكِّرَتِي الَّتِي كَتَبْتُهَا فِي دَرْسِهِ بَيَاضًا بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: " تُصَوِّرُ الْوَعِيدَ وَالتَّفْكِيرَ فِيهِ "، وَلَا أَذْكُرُ مَاذَا كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْتُبَ فِيهَا وَلَا يَظْهَرُ لِي الْآنَ وَجْهُ اسْتِشْكَالِ التَّأْخِيرِ، وَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ التَّسْوِيفَ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَقَدِ ابْتَدَأَ الْآيَةَ بِذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَيْسَ خَاصًّا بِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللهِ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِّيَّةِ دِينِهِ مُطْلَقًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقُرْآنُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ وَأَوْضَحُهَا، وَنُصْلِيهِمْ نَارًا مَعْنَاهُ نَجْعَلُهُمْ يَصْلَوْنَهَا، أَيْ: يَدْخُلُونَهَا وَيُعَذَّبُونَ بِهَا [رَاجِعْ بَحْثَ الصَّلْيِ وَالْإِصْلَاءِ فِي ص ٣٢٣ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نُضْجُ الْجُلُودِ هُوَ نَحْوُ نُضْجِ الثِّمَارِ وَالطَّعَامِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فَقْدِ التَّمَاسُكِ الْحَيَوِيِّ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا تَتَبَدَّلُ لِأَنَّ النُّضْجَ يُذْهِبُ الْقُوَّةَ الْحَيَوِيَّةَ الَّتِي بِهَا الْإِحْسَاسُ، فَإِذَا بَقِيَتْ نَاضِجَةً يَقِلُّ الْإِحْسَاسُ بِمَا يَمَسُّهَا أَوْ يَزُولُ ; لِذَلِكَ تَتَبَدَّلُ بِهَا جُلُودًا حَيَّةً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ لِأَنَّ الذَّوْقَ وَالْإِحْسَاسَ يَصِلُ إِلَى النَّفْسِ بِوَاسِطَةِ الْحَيَاةِ فِي الْجِلْدِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِتَبْدِيلِ الْجُلُودِ دَوَامُ الْعَذَابِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ الْإِحْسَاسِ بِالْعَذَابِ، فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَ وَهْمًا رُبَّمَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِالْقِيَاسِ عَلَى
مَا يَعْهَدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنَّ الَّذِي يَتَعَوَّدُ الْأَلَمَ يَقِلُّ شُعُورُهُ بِهِ وَيَصِيرُ عَادِيًّا عِنْدَهُ، كَمَا نَرَى مِنْ حَالِ الرَّجُلِ تُعْمَلُ لَهُ عَمَلِيَّةٌ جِرَاحِيَّةٌ وَتَتَكَرَّرُ، فَإِنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الْأَوْلَى يَتَأَلَّمُ أَلَمًا شَدِيدًا، ثُمَّ لَا يَزَالُ التَّأَلُّمُ يَخِفُّ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى نَرَاهُ لَا يُبَالِي، وَهَكَذَا نُشَاهِدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَمْرَاضِ الَّتِي يَطُولُ أَمْرُهَا.
133
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُضْجَ الْجُلُودِ مِنَ الْعَذَابِ ـ إِنْ كَانَ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا ـ يَكُونُ هُوَ أَثَرُ لَفْحِ النَّارِ بِسَمُومِهَا لِأَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (٢٣: ١٠٤)، وَمَتَى لُفِحَ الْجِلْدُ مِرَارًا يَبْطُلُ إِحْسَاسُهُ وَيَنْفَصِلُ عَنِ الْبَشَرَةِ وَيَتَرَبَّى تَحْتَ جِلْدٍ آخَرَ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الدُّنْيَا.
ثُمَّ تَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ عَنِ اسْتِشْكَالِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِتَعْذِيبِ الْجُلُودِ الْجَدِيدَةِ مَعَ أَنَّ الْعِصْيَانَ لَمْ يَكُنْ بِهَا، وَلَمْ أَكْتُبْ مَا قَالَهُ وَلَا أَتَذَكَّرُهُ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْجَوَابِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَدَلَ يَكُونُ عَيْنَ الْأَصْلِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي مَادَّتِهِ، وَغَيْرَهُ فِي صُورَتِهِ، وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ بَعْدَ هَذَا الْجَوَابِ جَوَابًا ثَانِيًا: وَهُوَ أَنَّ الْمُعَذَّبَ هُوَ الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ الْجِلْدُ مَا كَانَ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّتِهِ بَلْ هُوَ كَالشَّيْءِ الزَّائِدِ الْمُلْتَصِقِ بِهِ، وَثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُلُودِ السَّرَابِيلُ، قَالَ: وَطَعَنَ فِيهِ الْقَاضِي بِمُخَالَفَتِهِ لِلظَّاهِرِ، وَرَابِعًا: هُوَ أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ، قَالَ: كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُرَادُ وَصْفُهُ بِالدَّوَامِ: كُلَّمَا انْتَهَى فَقَدِ ابْتَدَأَ، وَكُلَّمَا انْتَهَى إِلَى آخِرِهِ فَقَدِ ابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا يَعْنِي كُلَّمَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَضِجُوا وَاحْتَرَقُوا وَانْتَهَوْا إِلَى الْهَلَاكِ أَعْطَيْنَاهُمْ قُوَّةً جَدِيدَةً مِنَ الْحَيَاةِ بِحَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمُ الْآنَ حَدَثُوا وَوُجِدُوا، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ دَوَامَ الْعَذَابِ وَعَدَمَ انْقِطَاعِهِ، انْتَهَى تَصْوِيرُهُ لِهَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يُوَافِقُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْعِبَارَةِ وَرَأَيْتُ أَنَّهُ صَوَّرَهَا بِمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا التَّصْوِيرِ إِلَى الْعَقْلِ وَاللَّفْظِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ وَجْهًا خَامِسًا وَرَدَّهُ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ.
وَقَدْ رَدَّ الْأَلُوسِيُّ الْإِشْكَالَ مِنْ أَصْلِهِ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مِمَّا لَا يَكَادُ يَسْأَلُهُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ فَاضِلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِصْيَانَ الْجِلْدِ وَطَاعَتَهُ وَتَأَلُّمَهُ وَتَلَذُّذَهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنِ سَائِرِ الْجَمَادَاتِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ، وَهُوَ أَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِالْآلَةِ ; فَيَدُ قَاتِلِ النَّفْسِ ظُلْمًا مَثَلًا آلَةٌ لَهُ كَالسَّيْفِ الَّذِي
قَتَلَ بِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِأَنَّ الْيَدَ حَامِلَةٌ لِلرُّوحِ وَالسَّيْفُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ وَحْدَهُ سَبَبًا لِإِعَادَةِ الْيَدِ بِذَاتِهَا وَإِحْرَاقِهَا دُونَ إِعَادَةِ السَّيْفِ وَإِحْرَاقِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى النَّفْسِ الْحَسَّاسَةِ بِأَيِّ بَدَنٍ حَلَّتْ وَفِي أَيِّ جَسَدٍ كَانَتْ، وَكَذَا يُقَالُ فِي النَّعِيمِ اهـ.
وَقَدْ أُيِّدَ هَذَا الرَّأْيُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي كِبَرِ أَجْسَادِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: " وَلَوْلَا مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ بِحَيْثُ صَارَ إِنْكَارُهُ كُفْرًا لَمْ يَبْعُدْ عَقْلًا الْقَوْلُ بِالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ الرُّوحَانِيَّيْنِ فَقَطْ، وَلَمَا تَوَقَّفَ الْأَمْرُ عَقْلًا عَلَى إِثْبَاتِ الْأَجْسَامِ فِعْلًا، وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ هَذَا أَنِّي أَقُولُ بِاسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ الْمَعْدُومِ مَعَاذَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنِّي أَقُولُ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى إِعَادَتِهِ وَإِنْ أَمْكَنَتْ، وَالنُّصُوصُ فِي هَذَا الْبَابِ مُتَعَارِضَةٌ، فَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى إِعَادَةِ
134
الْأَجْسَامِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ إِعْدَامِهَا، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ مِثْلِهَا وَفَنَاءِ الْأُولَى، وَلَا أَرَى بَأْسًا ـ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ ـ فِي اعْتِقَادِ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ اهـ، وَلَهُ الْحَقُّ فِي رَدِّ الْإِيرَادِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَقَلَّ فِي بَعْضِ الْقَوْلِ وَقَلَّدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي بَعْضٍ آخَرَ كَإِعَادَةِ الْمَعْدُومِ، وَلِهَذَا الْبَحْثِ مَوْضِعٌ آخَرُ نُحَرِّرُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي تَذُوقُ الْعَذَابَ كَلِمَةُ (لِيَذُوقُوا) وَلَمْ يَقِلْ " لِتَذُوقَ " أَيِ الْجُلُودُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ تَنَاوُلُ شَيْءٍ قَلِيلٍ بِالْفَمِ لِيُعْرَفَ طَعْمُهُ فَلَا يُتَجَوَّزُ بِهِ عَنِ الْعَذَابِ الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ أَوْ أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ إِحْسَاسَهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ كَإِحْسَاسِ الذَّائِقِ الْمَذُوقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نُقْصَانٌ وَلَا زَوَالٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقِ اهـ.
وَلَسْتُ أَدْرِي مَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْعَذَابِ يُسَمَّى أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ قَلِيلًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ " يَذُوقُوا " وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْقُرْآنُ لَفْظَ الذَّوْقِ فِي الْعَذَابِ كَثِيرًا! فَاخْتِيَارُهُ مَقْصُودٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْأَشَدُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَهْمَا كَانَ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُ الْمُعَذَّبِينَ شَدِيدًا بَالِغًا مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ مِنَ الشِّدَّةِ
كَأَنَّهُمْ حُرِمُوا مِنْ ذَوْقِ طَعْمِ الرَّحْمَةِ ; عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهِمْ مَوْثِقٌ مِنَ اللهِ بِنَجَاتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ.
إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا، أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ فِي فِعْلِهِ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَجَعَلَ سُنَّتَهُ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا مُطَّرِدَةً لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَغْلِبَهُ فَيَبْطُلَ اطِّرَادُهَا؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا جَعَلَ دُخُولَ الْجَنَّةِ جَزَاءَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ; إِذِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ عَمَلٍ صَالِحٍ لَا يَكْفِي لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِهَذَا الْجَزَاءِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمَرْءُ عَقِبَ إِيمَانِهِ فَلَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لِظُهُورِ آثَارِ الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتِهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ " سَوْفَ " أَبْلَغُ مِنَ " السِّينِ " فِي التَّنْفِيسِ وَسِعَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْمُضَارِعِ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَيَرَى ابْنُ هِشَامٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَاعِدَةِ دَلَالَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَلَمَّا كَانَتْ سَوْفَ أَكْثَرَ حُرُوفًا كَانَ مَعْنَاهَا فِي الِاسْتِقْبَالِ أَوْسَعَ، وَلَا يَدَ عَلَى هَذَا مِنْ نُكْتَةٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ جَزَاءِ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِ: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ وَعَنْ جَزَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: سَنُدْخِلُهُمْ وَكَأَنَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِالْفَرِيقَيْنِ يُعَجِّلُ لِأَهْلِ النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ
135
وَلَا يُعَجِّلُ لِأَهْلِ الْعَذَابِ عَذَابَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِدَادِ وَقْتِ التَّوْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْخُلُودُ: طُولُ الْمُكْثِ، وَأَكَّدَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: أَبَدًا أَيْ: دَائِمًا.
لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ قَالُوا: أَيْ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعُيُوبِ وَالْأَدْنَاسِ، أَيْ: سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢: ٢٥]، وَهُنَاكَ كَلَامٌ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَعْنَى مُصَاحَبَتِهِنَّ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَنَّةَ عَالَمٌ غَيْبِيٌّ لَيْسَ كَعَالَمِ الدُّنْيَا.
وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قَالَ الرَّاغِبُ: الظِّلُّ أَعَمُّ مِنَ الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: ظِلُّ اللَّيْلِ وَظِلُّ الْجَنَّةِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ الشَّمْسُ: ظِلٌّ، وَلَا يُقَالُ: الْفَيْءُ، إِلَّا لِمَا زَالَتْ عَنْهُ
الشَّمْسُ، وَيُعَبَّرُ بِالظِّلِّ عَنِ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَعَنِ الرَّفَاهَةِ، وَأَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْ كَلَامِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِمْ: أَظَلَّنِي فُلَانٌ أَيْ: حَرَسَنِي وَجَعَلَنِي فِي ظِلِّهِ أَيْ: عِزِّهِ وَمَنَعَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَظِلٍّ ظَلِيلٍ أَيْ: فَائِضٍ، وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا كِنَايَةٌ عَنْ غَضَارَةِ الْعَيْشِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ هِيَ السَّبَبُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ لَفْظَ الظِّلِّ بِمَعْنَى النَّعِيمِ، وَالظِّلُّ صِفَةٌ اشْتُقَّتْ مِنْ لَفْظِ الظِّلِّ يُؤَكَّدُ بِهَا مَعْنَاهُ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، أَيْ: ظِلٌّ وَارِفٌ فَيْنَانُ، لَا يُصِيبُ صَاحِبَهُ حَرٌّ، وَلَا سَمُومٌ، وَدَائِمٌ لَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ بَعْدَ ذِكْرِ النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ كَمَا عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جِدُّهُ وَثَنَاؤُهُ.
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ هُمَا أَسَاسُ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَنْزِلْ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُهُمَا لَكَفَتَا الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ إِذَا هُمْ بَنَوْا جَمِيعَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ ذَكَرَ لِنُزُولِهِمَا أَسْبَابًا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ
السَّبَبَ الْخَاصَّ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْخِطَابِ، قَالَ فِي لُبَابِ النُّقُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَكَّةَ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: أَرِنِي الْمِفْتَاحَ ـ أَيْ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ ـ فَلَمَّا بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهِ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي اجْمَعْهُ لِي مَعَ السِّقَايَةِ فَكَفَّ عُثْمَانُ يَدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: هَاتِ الْمِفْتَاحَ يَا عُثْمَانُ، فَقَالَ: هَاكَ أَمَانَةَ اللهِ، فَقَامَ فَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِرَدِّ الْمِفْتَاحِ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَعْطَاهُ
الْمِفْتَاحَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ.
وَأَخْرَجَ شُعْبَةُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، أَخَذَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ بِهِ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ فَنَاوَلَهُ الْمِفْتَاحَ "، قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " مَا سَمِعْتُهُ يَتْلُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ "، قُلْتُ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ اهـ.
أَقُولُ: بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَلَاهَا يَوْمَئِذٍ اسْتِشْهَادًا، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ عُمَرُ أَنَّهُ سَمِعَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَصَحَّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ ذُهِلَ عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَمَّا وَرَدَ فِي ذِكْرِ مَوْتِهِ حَتَّى قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (٣: ١٤٤)، الْآيَةَ فَتَذَكَّرَ، وَذُهِلَ عَنْ آيَةِ: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا (٤: ٢٠)، حَتَّى ذَكَّرَتْهُ بِهَا الْمَرْأَةُ الَّتِي رَاجَعَتْهُ فِي مَسْأَلَةِ تَحْدِيدِ الْمُهُورِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ ـ وَكُلُّ أَحَدٍ عُرْضَةٌ لِلنِّسْيَانِ وَالذُّهُولِ، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَصِحُّ وَإِنِ اعْتَمَدَهَا الْجَلَالُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ قَالُوا: إِنَّ أَوْهَى طُرُقِ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ طَرِيقُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالُوا: فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مَرْوَانُ الصَّغِيرُ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعْبَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ فَإِنْ كَانَ حَجَّاجٌ هَذَا هُوَ الْمِصِّيصِيَّ الْأَعْوَرَ فَقَدْ كَانَ ثِقَةً وَلَكِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ شُعْبَةَ رَوَى عَنْهُ وَلَكِنَّ شُعْبَةَ رَوَى عَنْ حَجَّاجٍ الْأَسْلَمِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ.
وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ بَحْثٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْلَى بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَلَوْ أَعْطَاهُ لِلْعَبَّاسِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا إِلَّا مَا لَهُ الْحَقُّ فِيهِ، وَمَنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ يَكُونُ هُوَ أَهْلَهُ وَأَحَقَّ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (٣٣: ٦)، بَلْ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ كَانَ الْمِفْتَاحُ مِفْتَاحَ بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ نَفْسِهِ وَنَزَعَ مِلْكَهُ مِنْهُ وَأَعْطَاهُ آخَرَ، بَلِ الْحُكَّامُ الْآنَ فِي جَمِيعِ الْمَمَالِكِ يَنْزِعُونَ مِلْكَ مَنْ يَرَوْنَ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ فِي نَزْعِ مِلْكِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُعْطُونَهُ ثَمَنَهُ شَاءَ أَمْ أَبَى.
137
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا بَيَّنَهُ ـ حَتَّى تَفْضِيلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْهِدَايَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَبِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ـ أَدَّبَنَا بِهَذَا الْأَدَبِ الْعَالِي، وَأَمَرَنَا بِالْأَمَانَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ بِمُنَاسَبَةٍ قَوِيَّةٍ تَجْعَلُ السِّيَاقَ كَعِقْدٍ مِنَ الْجَوْهَرِ مُتَنَاسِبِ اللَّآلِئِ، فَسَوَاءٌ صَحَّ مَا ذُكِرَ مِنْ حِكَايَةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ أَوْ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنَّ صِحَّتَهُ لَا تَضُرُّ بِالْتِئَامِ السِّيَاقِ وَلَا بِعُمُومِ الْحُكْمِ، إِذِ السَّبَبُ الْخَاصُّ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْحُكْمِ.
وَالْأَمَانَةُ حَقٌّ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، وَيُودَعُهُ لِأَجْلِ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ كَالْمَالِ وَالْعِلْمِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُودَعُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ قَدْ تَعَاقَدَ مَعَ الْمُودِعِ عَلَى ذَلِكَ بِعَقْدٍ قَوْلِيٍّ خَاصٍّ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُوَدَعِ عِنْدَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ كَذَا إِلَى فُلَانٍ مَثَلًا، أَمْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ هُوَ بِمَثَابَةِ مَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ الْأَفْرَادُ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، فَالَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ قَدْ أُودِعَ أَمَانَةً وَأُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ بِالتَّعَامُلِ وَالْعُرْفِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ وَيُفِيدَ النَّاسَ وَيُرْشِدَهُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَقَدْ أَخَذَ اللهُ الْعَهْدَ الْعَامَّ عَلَى النَّاسِ بِهَذَا التَّعَامُلِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَهُمْ شَرْعًا وَعُرْفًا بِنَصِّ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (٣: ١٨٧)، وَلِذَلِكَ عُدَّ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ خَائِنِينَ بِكِتْمَانِ صِفَاتِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُؤَدِّيَ أَمَانَةَ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْدَعَ الْمَالَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَيَتَوَقَّفَ أَدَاءُ أَمَانَةِ الْعِلْمِ عَلَى تَعَرُّفِ الطُّرُقِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُعْرَفَ هَذِهِ الطُّرُقُ لِأَجْلِ السَّيْرِ فِيهَا، وَإِعْرَاضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ مَعْرِفَةِ الطُّرُقِ الَّتِي تَتَأَدَّى بِهَا هَذِهِ الْأَمَانَةُ بِالْفِعْلِ هُوَ ابْتِعَادٌ عَنِ الْوَاجِبِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، وَإِخْفَاءُ الْحَقِّ بِإِخْفَاءِ وَسَائِلِهِ هُوَ عَيْنُ الْإِضَاعَةِ لِلْحَقِّ، فَإِذَا رَأَيْنَا الْجَهْلَ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَاشِيًا بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتُبْدِلَتْ بِهِ الشُّرُوعُ وَالْبِدَعُ، وَرَأَيْنَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يُعَلِّمُوهُمْ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ فَيُمْكِنُنَا أَنْ نَجْزِمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، وَهِيَ مَا اسْتُحْفِظُوا عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَرْكِ اسْتِبَانَةِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى ذَلِكَ بِسُهُولَةٍ وَقُرْبٍ، فَهُمْ خَوَنَةُ النَّاسِ وَلَيْسُوا بِالْأُمَنَاءِ.
أَقُولُ: يَعْنِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْرِفُوا الطُّرُقَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى
إِيصَالِ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ وَقَبُولِهِ، وَهَذِهِ الطُّرُقُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَمَا تَخْتَلِفُ الطُّرُقُ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا أَمَانَةُ الْمَالِ، فَفِي هَذَا الْعَصْرِ تُؤَدَّى الْأَمْوَالُ إِلَى أَصْحَابِهَا بِطُرُقٍ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، مِنْهَا التَّحْوِيلُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَرِيدِ، وَمِنْهَا الْمَصَارِفُ وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ تُوجَدُ طُرُقٌ لِنَشْرِ الْعِلْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَسْهَلُ مِنَ الطُّرُقِ السَّابِقَةِ، فَمَنْ أَبَى سُلُوكَهَا لَا يُعْذَرُ بِعَدَمِ تَأْدِيَتِهِ لِأَمَانَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَدَّى لِتَعْلِيمِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ إِذَا سُئِلَ، وَرُبَّمَا قَيَّدُوا هَذَا بِمَا إِذَا فُقِدَ
138
مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِفْتَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا مَنْ قَالَهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَقَائِعِ، فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَسَعُ النَّاسَ جَهْلُهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْوَاجِبَاتِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ ; وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالِاسْتِفْتَاءِ، وَالْمَجْهُولُ لَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، أَفَيُتْرَكُ الْجَاهِلُونَ بِالسُّنَنِ الْعَامِلُونَ بِالْبِدَعِ حَتَّى يَطْرُقُوا أَبْوَابَ الْعُلَمَاءِ فِي بُيُوتِهِمْ أَوْ مَدَارِسِهِمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ؟ !
وَلَا يَخْرُجُ عُلَمَاءُ الدِّينِ مِنْ تَبِعَةِ الْكِتْمَانِ وَالْخِيَانَةِ فِي أَمَانَةِ اللهِ بِتَصَدِّيهِمْ لِتَدْرِيسِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعَقَائِدِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ لَا تَفْهَمُهَا الْعَامَّةُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا مَعْرِفَتُهَا ; لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِلْمِ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا كُلُّ النَّاسِ دَائِمًا، وَمِنْهَا مَا تَمُرُّ الْأَعْصَارُ وَلَا يَقَعُ، بَلْ مِنْهَا مَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَصَدَّوْا لِتَعْلِيمِ الْجُمْهُورِ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَهْلُهُ وَأَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ وَأَسْهَلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّاعِرِ الَّذِي قَالَ:
لَوْ صَحَّ مِنْكَ الْهَوَى أُرْشِدْتَ لِلْحِيَلِ
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا: وَكَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ، وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ لَهُ طُرُقٌ: مِنْهَا الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ وَالْقَضَاءُ، وَمِنْهَا تَحْكِيمُ الْمُتَخَاصِمِينَ لِشَخْصٍ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَكُلُّ
مَنْ يَحْكُمُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالْعَدْلِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (١٦: ٩٠)، الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (٥: ٨)، وَقَوْلُهُ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (٤: ١٣٥)، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا حَدَّ الْعَدْلِ وَلَا تَفْسِيرَهُ وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ تَفْسِيرٌ لَهُ أَيْضًا، وَالْعَدْلُ وَقْفٌ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ لِيَكُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (٥: ١)، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُوَفِّيَ بِمَا نَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (٢: ١٨٨)، الْآيَةَ، وَهُوَ قَدْ حَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَرِشْوَةَ الْحُكَّامِ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَائِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ تَطْبِيقُ أَحْكَامِهِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّطْبِيقُ ظَاهِرًا، وَقَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى قِيَاسٍ وَاسْتِنْبَاطٍ وَإِجْهَادٍ لِلْفِكْرِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَدْلِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَنْبِيهِ النَّاسِ وَتَذْكِيرِهِمْ.
وَالرُّكْنُ الثَّانِي لِلْعَدْلِ - هَكَذَا عَبَّرَ تَارَةً بِالنَّوْعِ وَتَارَةً بِالرُّكْنِ - يَتَأَلَّفُ مِنْ أَمْرَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) : فَهْمُ الدَّعْوَى مِنَ الْمُدَّعِي وَالْجَوَابِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَعْرِفَ مَوْضِعَ مَا بِهِ التَّنَازُعُ
139
وَالتَّخَاصُمُ بِأَدِلَّتِهِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ.
(ثَانِيهِمَا) : اسْتِقَامَةُ الْحَاكِمِ وَخُلُوُّهُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَمِنَ الْهَوَى بِأَنْ يَكْرَهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمِيلُ إِلَى الْآخَرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ لِلنَّاسِ أَيْضًا، فَكُلٌّ مِنْ رُكْنَيِ الْعَدْلِ مَعْرُوفٌ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللهُ الْعَدْلَ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ ; لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِنَفْسِهِ كَالنُّورِ.
وَلَكَ ـ وَقَدْ فَهِمْتَ مَا قُلْنَاهُ ـ أَنْ نَقُولَ: الْعَدْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِقَامَةِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْهُمَا فَهُوَ ظُلْمٌ، فَإِذَا أَخَّرَ الْقَاضِي النَّظَرَ فِي الْقَضِيَّةِ اتِّبَاعًا لِرُسُومٍ وَعَادَاتٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا إِقَامَةُ الْعَدْلِ، أَوْ لَمْ يَقْبَلِ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدَّ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِنْ تَبَيَّنَ بِهَا الْحَقُّ الْمُرَادُ، أَوْ أَخَّرَ الْحُكْمَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُحَاكَمَةِ، وَاسْتِيفَاءِ أَسْبَابِهَا هَلْ يَكُونُ مُقِيمًا لِلْعَدْلِ؟ (قالَ الْأُسْتَاذُ: هَذَا فِي الدَّرْسِ فَضَجَّ الْحَاضِرُونَ بِقَوْلِ: لَا لَا) إِذَا عَلِمْنَا هَذَا وَتَأَمَّلْنَا فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَجْرِي عِنْدَنَا الْيَوْمَ فَهَلْ نَرَاهَا جَارِيَةً عَلَى أُصُولِ الْعَدْلِ (قَالُوا: لَا لَا).
نَجِدُ مَحَاكِمَنَا الشَّرْعِيَّةَ تَشْتَرِطُ فِي تَوْجِيهِ الدَّعْوَى، وَفِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ شُرُوطًا
وَأَلْفَاظًا مُعَيَّنَةً كَلَفْظِ: أَشْهَدُ، وَلَفْظِ هَذَا أَوِ الْمَذْكُورِ وَتَبْيِينِ النَّقْدِ وَذِكْرِ الْبَلَدِ الَّذِي ضُرِبَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَفْهُومًا مِنَ الْكَلَامِ لَا يَخْتَلِفُ فِي فَهْمِهِ الْقَاضِي وَلَا الْخَصْمُ، فَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ كَثِيرًا مَا تَحُولُ دُونَ الْعَدْلِ إِذْ تُرَدُّ الدَّعْوَى مِنْ أَصْلِهَا أَوِ الشَّهَادَةُ لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهَا لِلْأَلْفَاظِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا وَإِنْ أَدَّتْ مَعْنَاهَا، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَفَهْمِ الشَّرِيعَةِ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ إِضَاعَةِ الْعَدْلِ، وَلَا عُذْرَ لِلنَّاسِ بِالْجَهْلِ إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَهْمُ الشَّرِيعَةِ وَإِزَالَةُ كُلِّ مَا يَحُولُ دُونَ فَهْمِهَا مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ، وَلَوْ كُنَّا نُقِيمُ الْعَدْلَ لَمَا كُنَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الضَّعْفِ وَسُوءِ الْحَالِ.
ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ فِي دَرْسٍ آخَرَ: إِنَّهُ اطَّلَعَ بَعْدَ الدَّرْسِ الْأَوَّلِ ـ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ بِمَا رَأَيْتَ ـ عَلَى كِتَابِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَإِذَا هُوَ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ تَوَسَّعَ فِي ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَمَانَةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللهُ فِي أَيْدِي الْحُكَّامِ، وَمِنْهَا أَلَّا يُوَلُّوا الْأُمُورَ إِلَّا خِيَارَ النَّاسِ الصَّالِحِينَ لَهَا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْهَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ ـ أَيْ بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَهُ ـ " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ "، أَيْ: سَاعَةَ قِيَامَةِ الْأُمَّةِ وَهَلَاكِهَا ; لِأَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ سَاعَةً، أَيْ: وَقْتًا تَهْلِكُ فِيهِ أَوْ يَذْهَبُ اسْتِقْلَالُهَا.
أَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَمْ يَتَجَلَّ تَمَامَ التَّجَلِّي فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ وَنُفَصِّلُهُ فِي مَسَائِلَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى الْأَمَانَةِ:
الْأَمَانَةُ مَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَمْنِ وَهُوَ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَعَدَمُ الْخَوْفِ يُقَالُ: أَمِنْتُهُ ـ كَسَمِعْتُهُ ـ عَلَى الشَّيْءِ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ (١٢: ٦٤)،
140
وَيُقَالُ: أَمِنَهَا بِكَذَا وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ (٣: ٧٥)، وَيُقَالُ: ائْتَمَنَ فُلَانًا، أَيْ: عَدَّهُ أَوِ اتَّخَذَهُ أَمِينًا، وَائْتَمَنَهُ عَلَى الشَّيْءِ كَأَمِنَهُ عَلَيْهِ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ (٢: ٢٨٣)، وَكُلُّ أَمَانَةٍ يَجِبُ حِفْظُهَا، وَمِنْهَا مَا يُحْفَظُ فَقَطْ كَالسِّرِّ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ جَابِرٍ، وَأَبُو يُعْلَى فِي مَسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ، وَأَشَارَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الِائْتِمَانِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَعُرْفٍ وَقَرِينَةٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَتَقَدَّمَ تَصْرِيحُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِذَلِكَ، وَمِنْهَا، أَيِ ـ الْأَمَانَةِ ـ مَا يُحْفَظُ لِيُؤَدَّى إِلَى صَاحِبِهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الَّذِي ائْتَمَنَكَ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُ لِأَجْلِهِ، وَيُسَمَّى
مَا يَحْفَظُ الْأَمَانَةَ وَيُؤَدِّيهَا حَفِيظًا وَأَمِينًا وَوَفِيًّا، وَيُسَمَّى مَنْ لَا يَحْفَظُهَا أَوْ لَا يُؤَدِّيهَا خَائِنًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨: ٢٧)، فَمَنْ خَانَ عَالِمًا كَانَ مِنَ الْعُصَاةِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْعَدْلِ:
الْعَدْلُ ـ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ـ الْمِثْلُ، وَالْعَدِيلُ: الْمَثِيلُ قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَفُلَانٌ يَعْدِلُ فُلَانًا أَيْ يُسَاوِيهِ، وَيُقَالُ مَا يَعْدِلُكَ عِنْدَنَا شَيْءٌ، أَيْ: مَا يَقَعُ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَوْقِعَكَ، وَعَدَلَ الْمَكَايِيلَ وَالْمَوَازِينَ سَوَّاهَا، وَعَدَلَ الشَّيْءَ يَعْدِلُهُ عَدْلًا وَعَادَلَهُ وَازَنَهُ، وَعَادَلْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَعَدَلْتُ فُلَانًا بِفُلَانٍ إِذَا سَوَّيْتُ بَيْنَهُمَا، وَتَعْدِيلُ الشَّيْءِ تَقْوِيمُهُ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ تَقْوِيمُكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَجْعَلُهُ لَهُ مِثْلًا، وَالْعَدْلُ وَالْعِدْلُ وَالْعَدِيلُ سَوَاءٌ، أَيِ: النَّظِيرُ وَالْمَثِيلُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمِثْلُ وَلَيْسَ بِالنَّظِيرِ عَيْنِهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا (٥: ٩٥)، قَالَ مُهَلْهِلٌ:
عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ إِذَا ظَهَرَتْ مُخَبَّأَةُ الْخُدُورِ
وَالْعَدْلُ ـ بِالْفَتْحِ ـ أَصْلُهُ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: عَدَلْتُ بِهَذَا عَدْلًا حَسَنًا، نَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْمِثْلِ؛ لِتُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدْلِ الْمَتَاعِ كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ رَزَانٌ، وَعَجْزٌ رَزِينٌ لِلْفَرْقِ (ثُمَّ قَالَ) : وَالْعِدْلُ بِالْكَسْرِ: نِصْفُ الْحِمْلِ يَكُونُ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيِ الْبَعِيرِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَدْلُ اسْمُ حِمْلٍ مَعْدُولٍ يُحْمَلُ آخَرُ مُسَوًّى بِهِ، وَالْجَمْعُ أَعْدَالٌ وَعُدُولٌ عَنْ سِيبَوَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْعَدِيلَتَانِ الْغِرَارَتَانِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُعَادِلُ صَاحِبَتَهَا، الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ عَدَلْتُ الْجُوَالِقَ عَلَى الْبَعِيرِ أَعْدِلُهُ عَدْلًا، يُحْمَلُ عَلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ وَيُسَوَّى بِآخَرَ، ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَدَلُ ـ مُحَرَّكٌ ـ تَسْوِيَةُ الْأُونَيْنِ وَهُمَا الْعَدَلَانِ، وَيُقَالُ: عَدَلْتُ أَمْتِعَةَ الْبَيْتِ إِذَا جَعَلْتُهَا أَعْدَالًا مُسْتَوِيَةً لِلِاعْتِكَامِ يَوْمَ الظَّعْنِ، وَالْعَدِيلُ الَّذِي يُعَادِلُكَ فِي الْمَحْمَلِ اهـ.
141
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْأَوَّلِينَ هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْمُعَاصِرِينَ فِي الْجَزِيرَةِ وَسُورِيَّةَ، وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ تَحَرِّي الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِأَلَّا يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ قَطُّ، بَلْ يَجْعَلُهُمَا سَوَاءً كَالْعَدْلَيْنِ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْعَدْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْحُكْمَ بِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ ; فَإِنَّ هَذَا ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ مِنْ
ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْعَدْلِ، وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْعَدْلِ، بَلِ الْعَدْلُ يَكُونُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الدَّعْوَى بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقُّهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ قَبْلَ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا كُلُّ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ وَيَتَخَاصَمُونَ فِيهَا قَدْ بُيِّنَتْ أَحْكَامُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا بُيِّنَ فِيهِمَا كَانَ خَيْرَ عَوْنٍ عَلَى الْعَدْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا، وَمَا لَمْ يُبَيَّنْ يَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ يَتَحَرَّوْا فِيهِ الْمُسَاوَاةَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمُ الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا اجْتِهَادُهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ بَيَانُ مَا يَجِبُ مِنَ اتِّبَاعِ أَحْكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا حَكَمَا بِهِ، وَبَيَانُ مَا يَجِبُ فِيمَا لَمْ يَحْكُمَا بِهِ.
قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا، قَالَ: وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَيُحِبُّ أَنْ يَغْلِبَ بِحُجَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حُجَّتَهُ وَلَا شَاهِدًا شَهَادَتَهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا يُلَقِّنَ الْمُدَّعِيَ الدَّعْوَى وَالِاسْتِحْلَافَ، وَلَا يُلَقِّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ، وَلَا يُلَقِّنَ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا أَوْ لَا يَشْهَدُوا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضِيفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْآخَرِ، وَلَا يُجِيبُ هُوَ إِلَى ضِيَافَةِ أَحَدِهِمَا وَلَا إِلَى ضِيَافَتِهِمَا مَا دَامَا مُتَخَاصِمَيْنِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كَانَ لَا يُضِيفُ الْخَصْمَ إِلَّا وَخَصْمُهُ مَعَهُ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِيهِ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْحَاكِمِ بِحُكْمِهِ إِيصَالَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَأَلَّا يَمْتَزِجَ ذَلِكَ بِغَرَضٍ آخَرَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (٤: ٥٨)، اهـ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْوَاعُ الْأَمَانَةِ:
الْأَمَانَةُ عَلَى أَنْوَاعٍ ; وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ فِي الْآيَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ (٨: ٢٧)، وَسُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَعَارِجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٢٣: ٨، ٧٠: ٣٢)، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَمَانَةَ الْعِلْمِ، وَأَمَانَةَ الْمَالِ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ ثَلَاثًا:
(إِحْدَاهَا أَمَانَةُ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ) : وَهِيَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِ حِفْظَهُ مِنَ الِائْتِمَارِ
بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَالِانْتِهَاءِ
142
عَمًّا نَهَاهُ عَنْهُ، وَاسْتِعْمَالُ مَشَاعِرِهِ وَجَوَارِحِهِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَيُقَرِّبُهُ مِنْ رَبِّهِ، فَالْمَعَاصِي كُلُّهَا خِيَانَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
ثَانِيهَا: (أَمَانَةُ الْعَبْدِ مَعَ النَّاسِ) وَيَدْخُلُ فِيهَا رَدُّ الْوَدَائِعِ وَعَدَمُ الْغِشِّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَحِفْظُ السِّرِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ لِآحَادِ النَّاسِ، وَلِلْحُكَّامِ، وَلِلْأَهْلِ وَالْأَقْرَبِينَ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ " عَدْلُ الْأُمَرَاءِ مَعَ رَعِيَّتِهِمْ، وَعَدْلُ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْعَوَامِّ بِأَلَا يَحْمِلُوهُمْ عَلَى التَّعَصُّبَاتِ الْبَاطِلَةِ، بَلْ يُرْشِدُوهُمْ إِلَى اعْتِقَادَاتٍ وَأَعْمَالٍ تَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ "، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ الْعَامَّةَ مَسَائِلَ الْخِلَافِ الَّتِي تُثِيرُ التَّعَصُّبَ بَيْنَهُمْ، وَالَّذِينَ لَا يُعَلِّمُونَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنْ أُمُورِ التَّرْبِيَةِ الْحَسَنَةِ وَكَسْبِ الْحَلَالِ، وَمَا يَنْفَعُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي تُقَوِّي إِيمَانَهُمْ وَتُنَفِّرُهُمْ مِنَ الشُّرُورِ وَتُرَغِّبُهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ، كُلُّ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْخَائِنِينَ لِلْأُمَّةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَسَّمَ إِلَى أَقْسَامٍ، فَيُجْعَلَ رِعَايَةُ أَمَانَةِ الْحُكَّامِ قِسْمًا، وَرِعَايَةُ أَمَانَةِ الْأَقْرَبِينَ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي قِسْمًا، وَرِعَايَةُ أَمَانَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَالصِّهْرِ قِسْمًا، وَمِنْهَا أَلَّا يُفْشِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ سِرَّ الْآخَرِ، وَلَا سِيَّمَا السِّرُّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِمَا، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَادَةً مِنْهُمَا سِوَاهُمَا، وَرِعَايَةُ أَمَانَاتِ سَائِرِ النَّاسِ قِسْمًا.
ثَالِثُهَا: (أَمَانَةُ الْإِنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ) وَعَرَّفَهَا الرَّازِيُّ بِأَلَّا يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ إِلَّا مَا هُوَ الْأَنْفَعُ وَالْأَصْلَحُ لَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَلَّا يُقَدَّمَ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَى مَا يَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ.
أَقُولُ: وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَجْمَلَهُ تَوَقِّي الْإِنْسَانِ لِأَسْبَابِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ الْأَطِبَّاءِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَمَانَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَلُّمِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِ حِفْظِ الصِّحَّةِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْأَمْرَاضِ الْوَبَائِيَّةِ الْمُنْتَشِرَةِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِالتَّجَارِبِ نَفْعُ بَعْضِ مَا يُعْمَلُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْمَرَضِ كَتَلْقِيحِ الْجُدَرِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّدَاوِي عِنْدَ وُقُوعِ الْمَرَضِ، وَتَفْصِيلُ رِعَايَةِ هَذِهِ الْأَمَانَاتِ يَطُولُ، وَسَنُعِيدُ الْبَحْثَ فِيهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ إِنْ أَنْسَأَ اللهُ فِي الْعُمْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدَّمَ الْأَمْرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْأَحْكَامِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَالتَّخَاصُمِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَنَاءَ يَقُومُونَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ بِوَازِعِ الْفِطْرَةِ
وَالدِّينِ، وَالْخِيَانَةُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَمِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي الْأُمَّةِ الْمُتَدَيِّنَةِ إِلَّا شُذُوذًا، وَقَلَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ إِذَا رَاعَى النَّاسُ أَمَانَاتِهِمْ وَأَدَّوْهَا إِلَى أَهْلِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَرَدَ فِي الْأَمَانَةِ عِدَّةُ آيَاتٍ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا، وَوَرَدَ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُشَدِّدَةٌ فِي وُجُوبِ رِعَايَتِهَا وَأَدَائِهَا وَتَشْنِيعِ الْخِيَانَةِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا، مِنْهَا حَدِيثُ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ
143
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَقَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ، مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ رُسْتَهْ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ أَبِي الْحَسَنِ الزُّهْرِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ) فِي الْإِيمَانِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي التَّوْبِيخِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَمِنْهَا حَدِيثُ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَرَمَزَ لَهُ السُّيُوطِيُّ فِي جَامِعِهِ بِالصِّحَّةِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ: لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ مَا لَمْ يَتَّخِذُوا الْأَمَانَةَ مَغْنَمًا وَالزَّكَاةَ مَغْرَمًا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي حِكْمَةِ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْأَمَانَةِ وَبَيَانِ فَائِدَتِهَا وَمَضَرَّةِ الْخِيَانَةِ: ذَكَرَ حَكِيمُ الْإِسْلَامِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْأَفْغَانِيُّ فِي رِسَالَتِهِ (الرَّدِّ عَلَى الدَّهْرِيِّينَ) الَّتِي أَلَّفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَتَرْجَمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ تِلْمِيذُهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الدِّينَ قَدْ أَفَادَ النَّاسَ ثَلَاثَ عَقَائِدَ وَثَلَاثَ خِصَالٍ أَقَامُوا بِهَا بِنَاءَ مَدَنِيَّتِهِمْ، وَمِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَوِ الصِّفَاتِ: الْأَمَانَةُ: وَهَاكَ مَا قَالَهُ فِيهَا فَهُوَ يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ:
" مِنَ الْمَعْلُومِ الْجَلِيِّ أَنَّ بَقَاءَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ قَائِمٌ بِالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ فِي مَنَافِعِ الْأَعْمَالِ، وَرُوحُ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ إِنَّمَا هِيَ الْأَمَانَةُ، فَإِنْ فَسَدَتِ الْأَمَانَةُ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ بَطَلَتْ صِلَاتُ الْمُعَامَلَةِ وَانْبَتَرَتْ حِبَالُ الْمُعَاوَضَةِ، فَاخْتَلَّ نِظَامُ الْمَعِيشَةِ، وَأَفْضَى ذَلِكَ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ إِلَى الْفَنَاءِ الْعَاجِلِ.
" ثُمَّ مِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ الْأُمَمَ فِي رَفَاهَتِهَا، وَالشُّعُوبَ فِي رَاحَتِهَا وَانْتِظَامِ أَمْرِ مَعِيشَتِهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْحُكُومَةِ بِأَيِّ أَنْوَاعِهَا، إِمَّا جُمْهُورِيَّةً، أَوْ مَلَكِيَّةً مَشْرُوطَةً، أَوْ مَلَكِيَّةً مُقَيَّدَةً،
وَالْحُكُومَةُ فِي أَيِّ صُوَرِهَا لَا تَقُومُ إِلَّا بِرِجَالٍ يَلُونَ ضُرُوبًا مِنَ الْأَعْمَالِ فَمِنْهُمْ حُرَّاسٌ عَلَى حُدُودِ الْمَمْلَكَةِ يَحْمُونَهَا مِنْ عُدْوَانِ الْأَجَانِبِ عَلَيْهَا، وَيُدَافِعُونَ فِي الْوَالِجِ فِي ثُغُورِهَا، وَحَفَظَةٌ فِي دَاخِلِ الْبِلَادِ يَأْخُذُونَ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ مِمَّنْ يَهْتِكُ سِتْرَ الْحَيَاءِ، وَيَمِيلُ إِلَى الِاعْتِدَاءِ مِنْ فَتْكٍ أَوْ سَلْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الشَّرْعِ، وَعُرَفَاءُ الْقَانُونِ يَجْلِسُونَ عَلَى مِنَصَّاتِ الْأَحْكَامِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَالْحُكْمِ فِي الْمُنَازَعَاتِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ يُحَصِّلُونَ مِنَ الرَّعَايَا مَا فَرَضَتْ عَلَيْهِمُ الْحُكُومَةُ مِنْ خَرَاجٍ مَعَ مُرَاعَاةِ قَانُونِهَا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ يُسْتَحْفَظُونَ مَا يُحَصِّلُونَ فِي خَزَائِنِ الْمَمْلَكَةِ، وَهِيَ خَزَائِنُ الرَّعَايَا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَفَاتِيحُهَا بِأَيْدِي خَزَنَتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَلَّى صَرْفَ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ لِلرَّعِيَّةِ مَعَ مُرَاعَاةِ الِاقْتِصَادِ وَالْحِكْمَةِ، كَإِنْشَاءِ الْمَدَارِسِ، وَالْمَكَاتِبِ، وَتَمْهِيدِ الطُّرُقِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَإِقَامَةِ الْجُسُورِ، وَإِعْدَادِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَيُؤَدِّي أَرْزَاقَ سَائِرِ الْعَامِلِينَ فِي شُئُونِ الْحُكُومَةِ مِنَ الْحُرَّاسِ وَالْحَفَظَةِ وَقُضَاةِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ حَسْبَمَا عُيِّنَ لَهُمْ، وَهَذِهِ الطَّبَقَاتُ مِنْ رِجَالِ الْحُكُومَةِ الْوَالِينَ عَلَى أَعْمَالِهَا إِنَّمَا تُؤَدِّي كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْهَا عَمَلَهَا الْمَنُوطَ بِهَا بِحُكْمِ
144
الْأَمَانَةِ، فَإِنْ خَزِيَتْ أَمَانَةُ أُولَئِكَ الرِّجَالِ وَهُمْ أَرْكَانُ الدَّوْلَةِ سَقَطَ بِنَاءُ السُّلْطَةِ وَسُلِبَ الْأَمْنُ، وَرَاحَتِ الرَّاحَةُ مِنْ بَيْنِ الرَّعَايَا كَافَّةً وَضَاعَتْ حُقُوقُ الْمَحْكُومِينَ، وَفَشَا فِيهِمُ الْقَتْلُ وَالتَّنَاهُبُ وَوَعِرَتِ طُرُقُ التِّجَارَةِ، وَتَفَتَّحَتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَخَوَتْ خَزَائِنُ الْحُكُومَةِ، وَعُمِّيَتْ عَلَى الدَّوْلَةِ سُبُلُ النَّجَاحِ ; فَإِنْ حَزَبَهَا أَمْرٌ سُدَّتْ عَلَيْهَا نَوَافِذُ النَّجَاةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْمًا يُسَاسُونَ بِحُكُومَةٍ خَائِنَةٍ، إِمَّا أَنْ يَنْقَرِضُوا بِالْفَسَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُمْ جَبَرُوتُ أُمَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُمْ يَسُومُونَهُمْ خَسْفًا، وَيَسْتَبِدُّونَ فِيهِمْ عَسْفًا فَيَذُوقُونَ مِنْ مَرَارَةِ الْعُبُودِيَّةِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ مَرَارَةِ الِانْقِرَاضِ وَالزَّوَالِ.
" وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْتِعْلَاءَ قَوْمٍ عَلَى آخَرِينَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاتِّحَادِ آحَادِ الْعَامِلِينَ وَالْتِئَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِبِنْيَةِ قَوْمِهِ كَالْعُضْوِ لِلْبَدَنِ، وَلَنْ يَكُونَ هَذَا الِاتِّحَادُ حَتَّى تَكُونَ الْأَمَانَةُ قَدْ مَلَكَتْ قِيَادَهُمْ، وَعَمَّتْ بِالْحُكْمِ أَفْرَادَهُمْ.
" فَقَدْ كَشَفَ الْحَقُّ أَنَّ الْأَمَانَةَ دِعَامَةُ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ، وَمُسْتَقَرُّ أَسَاسِ الْحُكُومَاتِ، وَبَاسِطُ ظِلَالِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ، وَرَافِعُ أَبْنِيَةِ الْعِزِّ وَالسُّلْطَانِ، وَرُوحُ الْعَدَالَةِ وَجَسَدُهَا، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِدُونِهَا.
" وَإِلَيْكَ الِاخْتِيَارُ فِي فَرْضِ أُمَّةٍ عَطَّلَتْ نُفُوسَهَا مِنْ حِلْيَةِ هَذِهِ الْخَلَّةِ الْجَلِيلَةِ، فَلَا تَجِدُ فِيهَا إِلَّا آفَاتٍ جَائِحَةً وَرَزَايَا قَاتِلَةً، وَبَلَايَا مُهْلِكَةً، وَفَقْرًا مُعْوِزًا، وَذُلًّا مُعْجِزًا، ثُمَّ لَا تَلْبَثُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْ تَبْتَلِعَهَا بَلَالِيعُ الْعَدَمِ، وَتَلْتَهِمَهَا أُمَّهَاتُ اللهِيمِ اهـ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (١٦: ٩٠)، وَقَوْلِهِ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٩: ٩)، وَالْإِقْسَاطُ هُوَ: الْعَدْلُ، وَقَوْلُهُ آمِرًا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُبَلِّغَهُ لِلنَّاسِ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنِكُمْ (٤٢: ١٥)، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا (٤: ١٣٥)، الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥: ٨)، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِ الْأَحَادِيثِ هُنَا وَلَا الْآيَاتِ الْمُحَرِّمَةِ لِلظُّلْمِ الْمُتَوَعِّدَةِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمُسْلِمُونَ مَأْمُورُونَ بِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى (٦: ١٥٢)، وَهَذَا الْأَمْرُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ الَّذِي يَعِظُكُمْ بِهِ وَهُوَ هُنَا: أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ
145
وَالْحُكْمُ بِالْعَدْلِ ; لِأَنَّهُ لَا يَعِظُكُمْ إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ وَفَلَاحُكُمْ مَا عَمِلْتُمْ بِهِ مُهْتَدِينَ مُتَّعِظِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِكُمْ وَلَا مِنْ أَفْعَالِكُمْ، وَلَا مِنْ نِيَّاتِكُمْ، فَلَا تَدَّعُوا مَا لَيْسَ فِيكُمْ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ وَلَا تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ; فَإِنَّهُ سَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ.
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَبِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ مُخَاطِبًا بِذَلِكَ جُمْهُورَ الْأُمَّةِ، وَلَمَّا كَانَ يَدْخُلُ فِي رَدِّ الْأَمَانَاتِ تَوْسِيدُ الْأُمَّةِ أَمَرَّ الْأَحْكَامَ إِلَى أَهْلِهَا الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِأَعْبَائِهَا، وَكَانَ يَجِبُ فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ مُرَاعَاةُ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ تَعَالَى
وَعَنْ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَا يَتَجَدَّدُ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي مُنَاسَبَةِ الِاتِّصَالِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَرَدَتَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ: إِنَّ الْكَافِرِينَ أَهْدَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَعْدَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَمِنَ الطَّاغُوتِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الْأَصْنَامُ وَالْكُهَّانُ، فَكَانُوا يُحَكِّمُونَ الْكَاهِنَ، وَيَجْعَلُونَهُ شَارِعًا وَيَقْتَسِمُونَ عِنْدَ الصَّنَمِ وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ فَصْلًا فِي الْخُصُومَةِ.
وَقَدِ اتَّخَذَ الْيَهُودُ الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ مِثْلَهُمْ، وَطَوَاغِيتُهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِأَهْوَائِهِمْ فَيَتَّبِعُونَهُمْ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، مَعَ أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةَ فِيهَا حُكْمُ اللهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءَ أَعْلَمُ مِنَّا بِالتَّوْرَاةِ وَبِمَصْلَحَتِنَا، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لَنَا حَالَهُمْ وَقَرَنَهُ بِبَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ نَسِيرَ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ، حَتَّى لَا نَضِلَّ كَمَا ضَلَّ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَفْرَادًا مِنْهُمْ أَرْبَابًا إِذْ جَعَلُوهُمْ شَارِعِينَ فَكَانُوا سَبَبَ طُغْيَانِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ سُمُّوا طَوَاغِيتَ.
ثُمَّ قَالَ: أَمَرَ بِطَاعَةِ اللهِ وَهِيَ الْعَمَلُ بِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَبِطَاعَةِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ أَعَادَ لَفْظَ الطَّاعَةِ لِتَأْكِيدِ طَاعَةِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينُ تَوْحِيدٍ مَحْضٍ لَا يَجْعَلُ لِغَيْرِ اللهِ أَمْرًا، وَلَا نَهْيًا، وَلَا تَشْرِيعًا، وَلَا تَأْثِيرًا، فَكَانَ رُبَّمَا يُسْتَغْرَبُ فِي كِتَابِهِ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ غَيْرِ وَحْيِ اللهِ، وَلَكِنْ قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ شَرْعَهُ لِلنَّاسِ رُسُلٌ مِنْهُمْ وَتَكَلَّفَ بِعِصْمَتِهِمْ فِي التَّبْلِيغِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُطَاعُوا فِيمَا يُبَيِّنُونَ بِهِ الدِّينَ وَالشَّرْعَ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَرَعَ لَنَا عِبَادَةَ الصَّلَاةِ، وَأَمَرَنَا بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا فِي الْكِتَابِ كَيْفِيَّتَهَا وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا، وَلَا رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَلَا تَحْدِيدَ أَوْقَاتِهَا فَبَيَّنَهَا الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِأَمْرِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١٦: ٤٤)، فَهَذَا الْبَيَانُ بِإِرْشَادٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَاتِّبَاعُهُ لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ وَلَا كَوْنَ الشَّارِعِ هُوَ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ.
146
قَالَ: وَأَمَّا أُولُو الْأَمْرِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْأُمَرَاءُ وَاشْتَرَطُوا فِيهِمْ أَلَّا يَأْمُرُوا بِمُحَرَّمٍ كَمَا قَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، وَالْآيَةُ مُطْلَقَةٌ، أَيْ:
وَإِنَّمَا أَخَذُوا هَذَا الْقَيْدَ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى كَحَدِيثِ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَحَدِيثِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ فِي الْحُكَّامِ فَأَوْجَبُوا طَاعَةَ كُلِّ حَاكِمٍ، وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْكُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ، فَمَنْ يُطَاعُ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ وَمَنْ يُعْصَى؟ وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الَّذِينَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَنْبِطُوا الْأَحْكَامَ غَيْرَ الْمَنْصُوصَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ، وَقَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذِهِ الْعِصْمَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَصَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَمَعْنَى وَأُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يُنَاطُ بِهِمُ النَّظَرُ فِي أَمْرِ إِصْلَاحِ النَّاسِ، أَوْ مَصَالِحِ النَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ يَخْتَلِفُونَ أَيْضًا، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِطَاعَتِهِمْ بِدُونِ شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ؟
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ فَكَّرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ زَمَنٍ بَعِيدٍ فَانْتَهَى بِهِ الْفِكْرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ، وَالْعُلَمَاءُ وَرُؤَسَاءُ الْجُنْدِ وَسَائِرُ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الَّذِينَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمُ النَّاسُ فِي الْحَاجَاتِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ، أَوْ حُكْمٍ وَجَبَ أَنْ يُطَاعُوا فِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مِنَّا، وَأَلَّا يُخَالِفُوا أَمْرَ اللهِ وَلَا سُنَّةَ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّتِي عُرِفَتْ بِالتَّوَاتُرِ، وَأَنْ يَكُونُوا مُخْتَارِينَ فِي بَحْثِهِمْ فِي الْأَمْرِ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا لِأُولِي الْأَمْرِ سُلْطَةٌ فِيهِ وَوُقُوفٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِقَادِ الدِّينِيِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَقَطْ لَيْسَ لِأَحَدٍ رَأْيٌ فِيهِ إِلَّا مَا يَكُونُ فِي فَهْمِهِ.
فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمَلٍ مِنْ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنِ الشَّارِعِ ـ مُخْتَارِينَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ عَلَيْهِ بِقُوَّةِ أَحَدٍ وَلَا نُفُوذِهِ ـ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هُمْ مَعْصُومُونَ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ ; وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ الْأَمْرُ بِطَاعَتِهِمْ بِلَا شَرْطٍ مَعَ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ وَالِاتِّبَاعِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْآيَةِ، وَذَلِكَ كَالدِّيوَانِ الَّذِي أَنْشَأَهُ عَمَرُ بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي أُخِذَ بِهَا بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَعْتَرِضْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ: فَأَمْرُ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الثَّابِتَةِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْعَمَلِ هُمَا الْأَصْلُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَمَا لَا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ عَنْهُمَا يَنْظُرُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمُ النَّاسُ فِيهَا وَيَتْبَعُونَهُمْ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَشَاوَرُوا فِي تَقْرِيرِ مَا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ، فَإِذَا اتَّفَقُوا وَأَجْمَعُوا وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا
147
فَقَدْ بَيَّنَ الْوَاجِبَ فِيمَا تَنَازَعُوا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، وَالسِّيرَةِ الْمُطَّرِدَةِ، فَمَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُمَا عُلِمَ أَنَّهُ صَالِحٌ لَنَا، وَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ، وَمَا كَانَ مُنَافِرًا عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ وَوَجَبَ تَرْكُهُ وَبِذَلِكَ يَزُولُ التَّنَازُعُ وَتَجْتَمِعُ الْكَلِمَةُ، وَهَذَا الرَّدُّ وَاسْتِنْبَاطُ الْفَصْلِ فِي الْخِلَافِ مِنَ الْقَوَاعِدِ هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقِيَاسِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِي الْقِيَاسِ شُرُوطًا بِالنَّظَرِ إِلَى الْعِلَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الرَّدِّ أَلَّا يَقَعَ خِلَافٌ فِي الدِّينِ وَالشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي أَحْكَامِهِمَا، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ، وَالْمُرَادُ أَلَّا يُفْضِيَ التَّنَازُعُ إِلَى اخْتِلَافِ التَّفَرُّقِ الَّذِي يُلْبِسُ الْمُسْلِمِينَ شِيَعًا وَيُذِيقُ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِالْآيَةِ فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا.
ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ أَنَّ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ كَوْنِهِمْ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ سَبَقَهُ إِلَيْهِ حَتَّى رَآهُ فِي تَفْسِيرِ النَّيْسَابُورِيِّ، وَأَقُولُ: إِنَّ النَّيْسَابُورِيَّ قَدْ لَخَّصَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، بَلْ جَمِيعُ تَفْسِيرِهِ تَلْخِيصٌ لِتَفْسِيرِ الرَّازِيِّ مَعَ زِيَادَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ الْأُسْتَاذُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ ظَاهِرَ عِبَارَةِ الرَّازِيِّ تُشْعِرُ بِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْأَحْكَامِ الظَّنِّيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ تَارَةً بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَتَارَةً بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ يُسَمِّي أَهْلَ الْإِجْمَاعِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ أُمَرَاءُ الْأُمَرَاءِ، أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ بِالْفِعْلِ.
وَأَمَّا النَّيْسَابُورِيُّ فَعِبَارَتُهُ هِيَ الَّتِي تُؤَدِّي الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ إِبْطَالِ الْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ فِي تَفْسِيرِ أُولِي الْأَمْرِ: " وَإِذَا
ثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْصُومُ كُلَّ الْأُمَّةِ، أَيْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأُولِي الْأَمْرِ مَا اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ اهـ.
فَقَوْلُهُ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ الَّذِي أَدْخَلَ فِيهِ أُمَرَاءَ الْجُنْدِ وَرُؤَسَاءَ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ ; لِأَنَّ مَجْمُوعَ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَحْفَظُ مَصَالِحَهَا، وَبِاتِّفَاقِهِمْ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنَ التَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ بِطَاعَتِهِمْ، لَا لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يُقَرِّرُونَهُ.
وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَنْقُلَ بَعْضَ مَا قَالَهُ الرَّازِيُّ لِتَصْرِيحِهِ فِيهِ بِمَا يُسَمُّونَهُ الْيَوْمَ فِي عُرْفِ أَهْلِ السِّيَاسَةِ بِسُلْطَةِ الْأُمَّةِ، وَتَفْنِيدُهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، وَهُوَ مَا يَتَزَلَّفُ بِهِ الْمُتَزَلِّفُونَ إِلَيْهِمْ حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَتْلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَسَامِعِ السُّلْطَانِ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي كُلِّ صَلَاةِ جُمُعَةٍ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ صَرَّحْنَا بِهَذِهِ الْحَقَائِقِ فِي الْمَنَارِ وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ تَقْرِيرِ كَوْنِ الْجَزْمِ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ يَقْتَضِي عِصْمَتَهُمْ فِيمَا يُطَاعُونَ فِيهِ
148
مَا نَصُّهُ: " ثُمَّ نَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْصُومُ إِمَّا مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا، وَإِيجَابُ طَاعَتِهِمْ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِنَا عَارِفِينَ بِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّنَا فِي زَمَانِنَا هَذَا عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، (أَقُولُ: وَمِثْلُهُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْفِقْهِ)، عَاجِزُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ (كَذَا) عَاجِزُونَ عَنِ اسْتِفَادَةِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْصُومَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بِطَاعَتِهِ لَيْسَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْأُمَّةِ، وَلَا طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِهِمْ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْصُومُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأُولِي الْأَمْرِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ فِي أُولِي الْأَمْرِ أَرْبَعَةٌ:
١ - الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ.
٢ - أُمَرَاءُ السَّرَايَا (أَقُولُ: وَهُمْ قُوَّادُ الْعَسْكَرِ) عِنْدَ عَدَمِ خُرُوجِ الْإِمَامِ فِيهِ أَيْ: فِي الْعَسْكَرِ.
٣ - عُلَمَاءُ الدِّينِ الَّذِينَ يُفْتُونَ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ دِينَهُمْ.
٤ - الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ وَعَزَاهُ إِلَى الرَّافِضَةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي اخْتَارَهُ إِيرَادَيْنِ أَوْ سُؤَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَتْ أَقْوَالُ الْأُمَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَكَانَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْتُمُوهُ خَارِجًا عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَاطِلًا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْتُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ أَوَامِرُهُمْ نَافِذَةٌ عَلَى الْخَلْقِ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أُولُو الْأَمْرِ، أَمَّا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَمْرٌ نَافِذٌ عَلَى الْخَلْقِ فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا أَوَّلُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْحُكَّامَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَبِرِعَايَةِ الْعَدْلِ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أُشْكِلَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأُمَرَاءِ لَا بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَالَغَ بِالتَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَطْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي، فَهَذَا مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ.
قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ عَلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلًا خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ الْأُمَّةِ، بَلْ كَانَ هَذَا اخْتِيَارًا لِأَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَتَصْحِيحًا لَهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ.
149
وَأَمَّا سُؤَالُهُمُ الثَّانِي فَهُوَ مَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، عَلَى أَنَّا نُعَارِضُ تِلْكَ الْوُجُوهَ بِوُجُوهٍ أُخْرَى أَقْوَى مِنْهَا:
فَأَحَدُهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا عُلِمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَيْسَ إِلَّا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا قِسْمًا مُنْفَصِلًا عَنْ طَاعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بَلْ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، كَمَا أَنَّ وُجُوبَ طَاعَةِ الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ وَالْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالتِّلْمِيذِ لِلْأُسْتَاذِ دَاخِلٌ فِي طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقِسْمُ دَاخِلًا تَحْتَهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُكْمٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ أَمْكَنَ جَعْلُ هَذَا الْقِسْمِ مُنْفَصِلًا عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهَذَا
أَوْلَى.
وَثَانِيهَا: أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ يَقْتَضِي إِدْخَالَ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الْأُمَرَاءِ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانُوا مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا يَدْخُلُ الشَّرْطُ فِي الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدُ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ مُشْعِرٌ بِإِجْمَاعٍ مُقَدَّمٍ يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ هَذَا التَّنَازُعِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ طَاعَةَ اللهِ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا وَعِنْدَنَا أَنَّ طَاعَةَ الْإِجْمَاعِ وَاجِبَةٌ قَطْعًا، وَأَمَّا طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ فَغَيْرُ وَاجِبَةٍ قَطْعًا، بَلِ الْأَكْثَرُ أَنَّهَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِالظُّلْمِ، وَفِي الْأَقَلِّ تَكُونُ وَاجِبَةً بِحَسَبِ الظَّنِّ الضَّعِيفِ، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ فَكَانَ حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَقْرُونٌ بِالرَّسُولِ عَلَى الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفَاجِرِ الْفَاسِقِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ أُمَرَاءُ الْأُمَرَاءِ، فَكَانَ حَمْلُ لَفْظِ " أُولِي الْأَمْرِ " عَلَيْهِمْ أَوْلَى.
قَالَ: وَأَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ كَمَا تَقُولُهُ الرَّوَافِضُ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ طَاعَتَهُمْ مَشْرُوطَةٌ بِمَعْرِفَتِهِمْ وَقُدْرَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، فَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ قَبْلَ مَعْرِفَتِهِمْ كَانَ هَذَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ إِذَا صِرْنَا عَارِفِينَ بِهِمْ وَبِمَذَاهِبِهِمْ صَارَ هَذَا الْإِيجَابُ مَشْرُوطًا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ، وَأَيْضًا فَفِي الْآيَةِ مَا يَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ:
150
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَاللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً وَمَشْرُوطَةً مَعًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ أُولِي الْأَمْرِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَأُولُو الْأَمْرِ جَمْعٌ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ إِلَّا إِمَامٌ وَاحِدٌ، وَحَمْلُ الْجَمْعِ عَلَى الْفَرْدِ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى
الْإِمَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا ذَكَرْنَا، انْتَهَى كَلَامُ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ.
أَقُولُ: إِنَّ الْقَائِلِينَ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ يَقُولُونَ: إِنَّ فَائِدَةَ اتِّبَاعِهِ إِنْقَاذُ الْأُمَّةِ مِنْ ظُلْمَةِ الْخِلَافِ وَضَرَرِ التَّنَازُعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَعَ وُجُودِ أُولِي الْأَمْرِ وَطَاعَةِ الْأُمَّةِ لَهُمْ كَأَنْ يَخْتَلِفَ أُولُو الْأَمْرِ فِي حُكْمِ بَعْضِ النَّوَازِلِ وَالْوَقَائِعِ، وَالْخِلَافُ وَالتَّنَازُعُ مَعَ وُجُودِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَا يَكُونُ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فَائِدَةٌ عَلَى رَأْيِهِمْ.
وَحَصْرُ الرَّازِيِّ الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ فِي الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الصَّحَابَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَعَنْ مَالِكٍ وَالضَّحَّاكِ وَهِيَ مَأْثُورَةٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ الرَّازِيُّ يَعْنِي بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ فَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِمْ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَعْبِيرِهِ الْآخَرِ فَقَدْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ قَوْلَ ابْنِ كَيْسَانَ: إِنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، وَقَلَّمَا تَجِدُ أَحَدًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ قَوْلًا إِلَّا وَتَجِدُ لِمَنْ قَبْلَهُ قَوْلًا بِمَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا مُفَصَّلًا حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْصِيلِ فَإِنَّهُ يَضِيعُ وَلَا يَفْهَمُ الْجُمْهُورُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَهَذَا الرَّازِيُّ عَلَى إِسْهَابِهِ وَإِطْنَابِهِ فِي الْمَسَائِلِ لَمْ يَحُلَّ الْمَسْأَلَةَ كَمَا يَجِبُ، إِذْ عَبَّرَ تَارَةً بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَتَارَةً بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ، وَهَذَا مَا فَهِمَهُ أَوِ اخْتَارَهُ النَّيْسَابُورِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ يَكُونُ الرَّازِيُّ قَدْ حَقَّقَ مَسْأَلَةَ الْإِجْمَاعِ أَفْضَلَ التَّحْقِيقِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
قَالَ السَّعْدُ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: " وَتَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِطُرُقٍ: أَحَدُهَا بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ " إِلَخْ، فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ هُمْ خَوَاصُّ الْأُمَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَرُؤَسَاءِ الْجُنْدِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ وَدُهَمَاءَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ بِارْتِيَاحٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَلِأَنَّهُمْ هُمُ الْعَارِفُونَ بِالْمَصْلَحَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِ الْحُكْمِ فِيهَا، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ وَاتِّفَاقَهُمْ مَيْسُورٌ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ بِمَعْنَى
151
إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بِرِمَّتِهَا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَتَحَقَّقُ بِإِجْمَاعِ
الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفِقْهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَعْرِفُوا، وَأَنْ يَجْتَمِعُوا وَأَنْ تَعْلَمَ الْأُمَّةُ بِإِجْمَاعِهِمْ وَتَثِقَ بِهِمْ.
إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَالْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ أُصُولَ الدِّينِ وَشَرِيعَتَهُ وَالْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَهِيَ:
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ وَالْعَمَلُ بِهِ هُوَ طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى.
الْأَصْلُ الثَّانِي: سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَمَلُ بِهَا هُوَ طَاعَةُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: إِجْمَاعُ أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالرُّؤَسَاءِ فِي الْجَيْشِ، وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ، وَكَذَا رُؤَسَاءُ الْعُمَّالِ، وَالْأَحْزَابِ، وَمُدِيرُو الْجَرَائِدِ الْمُحْتَرَمَةِ وَرُؤَسَاءُ تَحْرِيرِهَا، وَطَاعَتُهُمْ حِينَئِذٍ هِيَ طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ.
الْأَصْلُ الرَّابِعُ: عَرْضُ الْمَسَائِلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ وَالْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ.
فَهَذِهِ الْأُصُولُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَصَادِرُ الشَّرِيعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ جَمَاعَةٍ يَقُومُونَ بِعَرْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُتَنَازَعُ فِيهَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَلْ يَكُونُونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ أَوْ مِمَّنْ يَخْتَارُهُمْ أُولُو الْأَمْرِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ؟ سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا.
وَيَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ الْحُكْمُ بِمَا يُقَرِّرُهُ أُولُو الْأَمْرِ وَتَنْفِيذُهُ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مُؤَلَّفَةً مِنْ جَمَاعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ:
الْأُولَى: جَمَاعَةُ الْمُبَيِّنِينَ لِلْأَحْكَامِ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْهَيْئَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ.
وَالثَّانِيَةُ: جَمَاعَةُ الْحَاكِمِينَ وَالْمُنَفِّذِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْهَيْئَةِ التَّنْفِيذِيَّةِ.
وَالثَّالِثَةُ: جَمَاعَةُ الْمُحَكِّمِينَ فِي التَّنَازُعِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةً مِنَ الْجَمَاعَةِ الْأُولَى.
وَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ قَبُولُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالْخُضُوعُ لَهَا سِرًّا وَجَهْرًا، وَهِيَ لَا تَكُونُ بِذَلِكَ خَاضِعَةً خَانِعَةً لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا خَارِجَةً مِنْ دَائِرَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي شِعَارُهُ إِنَّمَا الشَّارِعُ هُوَ اللهُ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (١٢: ٤٠)، فَإِنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ إِلَّا بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى أَوْ حُكْمِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِذْنِهِ، أَوْ حُكْمِ نَفْسِهَا الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ لَهَا جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ أَفْرَادِهَا الَّذِينَ وَثِقَتْ بِهِمْ وَاطْمَأَنَّتْ بِإِخْلَاصِهِمْ وَعَدَمِ اتِّفَاقِهِمْ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهَا، فَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ خَاضِعَةً
لِوِجْدَانِهَا لَا تَشْعُرُ بِاسْتِبْدَادِ أَحَدٍ فِيهَا، وَلَا بِاسْتِذْلَالِهِ وَاسْتِعْبَادِهِ لَهَا، بَلْ يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ لِحُكُومَتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَقِيَّةٌ: أَنَّهَا أَعَزُّ النَّاسِ نُفُوسًا وَأَرْفَعُهُمْ رُؤُوسًا، وَأَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
وَلَا بُدَّ لَنَا قَبْلَ أَنْ نُحَرِّرَ مَسْأَلَةَ التَّنَازُعِ مِنْ فَتْحِ بَابِ الْبَحْثِ فِي اجْتِمَاعِ أُولِي الْأَمْرِ
152
وَتَقْرِيرِهِمْ لِلْأَحْكَامِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ مَعْنَاهُ أَصْحَابُ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي حُكْمِهَا وَإِدَارَةِ مَصَالِحِهَا، وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (٤٢: ٣٨)، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شُورَى بَيْنَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ شُورَى بَيْنَ جَمَاعَةٍ تُمَثِّلُ الْأُمَّةَ وَيَكُونَ رَأْيُهَا كَرَأْيِ مَجْمُوعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ لِعِلْمِهِمْ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَغَيْرَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَلِمَا لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ مِنَ الثِّقَةِ بِهِمْ وَالِاطْمِئْنَانِ بِحُكْمِهِمْ، بِحَيْثُ تَكُونُ بِالْعَمَلِ بِهِ عَامِلَةً بِحُكْمِ نَفْسِهَا وَخَاضِعَةً لِقَلْبِهَا وَضَمِيرِهَا، وَمَا هَؤُلَاءِ إِلَّا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَلَكِنْ كَيْفَ يَجْتَمِعُ هَؤُلَاءِ وَمَنْ يَجْمَعُهُمْ، وَلِمَاذَا لَمْ يُوضَعْ لَهُمْ نِظَامٌ فِي الْإِسْلَامِ كَنِظَامِ مَجَالِسِ الشُّورَى، الَّتِي تُسَمَّى مَجَالِسَ النُّوَّابِ فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ؟
بَحَثْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (٣: ١٥٩)، فَبَيَّنَّا الْحُكْمَ وَالْأَسْبَابَ لِعَدَمِ وَضْعِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا النِّظَامَ، وَكَيْفَ كَانَتْ خِلَافَةُ الرَّاشِدِينَ بِالشُّورَى بِحَسَبِ حَالِ زَمَانِهِمْ، وَكَيْفَ أَفْسَدَ الْأُمَوِيُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكُومَةَ الْإِسْلَامِ وَهَدَمُوا قَوَاعِدَهَا وَسَنُّوا لِلْمُسْلِمِينَ سُنَّةَ الْحُكُومَةِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمُؤَيَّدَةِ بِعَصَبِيَّةِ الْحَاكِمِ، فَعَلَيْهِمْ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَفْوَةُ مَا هُنَالِكَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يُوضَعَ لَهُ نِظَامٌ مُوَافِقٌ لِحَالِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَحْدَهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ مِنَ الْعَرَبِ وَأُولُو الْأَمْرِ فِيهِمْ مَحْصُورُونَ فِي الْحِجَازِ وَيُجْعَلَ عَامًّا لِكُلِّ زَمَانٍ، وَلَوْ وَضَعَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَاتَّخَذُوهُ دِينًا وَتَقَيَّدُوا بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَافِقَ كُلَّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَكَانَ إِذَا عَمِلَهُ بِاجْتِهَادِهِ غَيْرَ عَامِلٍ بِالشُّورَى، وَإِذَا عَمِلَهُ بِالشُّورَى جَازَ أَنْ يَكُونَ رَأْيُ الْمُسْتَشَارِينَ مُخَالِفًا لِرَأْيهِ كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ـ فَيَكُونَ رَأْيُهُمْ قَيْدًا لِلْمُسْلِمِينَ مَدَى الدَّهْرِ، وَيَتَّخِذُونَهُ
دِينًا كَمَا اتَّخَذُوا كَثِيرًا مِنْ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ [رَاجِعْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي ص ١٦٣ وَمَا بَعْدَهَا ج٤ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى هَدَانَا إِلَى أَفْضَلِ وَأَكْمَلِ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ لِنَبْنِيَ عَلَيْهَا حُكُومَتَنَا وَنُقِيمَ بِهَا دَوْلَتَنَا، وَوَكَلَ هَذَا الْبِنَاءَ إِلَيْنَا فَأَعْطَانَا بِذَلِكَ الْحُرِّيَّةَ التَّامَّةَ وَالِاسْتِقْلَالَ الْكَامِلَ فِي أُمُورِنَا الدُّنْيَوِيَّةِ وَمَصَالِحِنَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَنَا شُورَى بَيْنَنَا يَنْظُرُ فِيهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَكَانَةِ الَّذِينَ نَثِقُ بِهِمْ، وَيُقَرِّرُونَ لَنَا فِي كُلِّ زَمَانٍ مَا تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَتُنَا وَتَسْعَدُ أُمَّتُنَا، لَا يَتَقَيَّدُونَ فِي ذَلِكَ بِقَيْدٍ إِلَّا هِدَايَةَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، وَلَيْسَ فِيهِمَا قُيُودٌ تَمْنَعُ سَيْرَ الْمَدَنِيَّةِ أَوْ تُرْهِقُ الْمُسْلِمِينَ عُسْرًا فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ أَسَاسُهُمَا الْيُسْرُ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَحَظْرُ الضَّارِّ، وَإِبَاحَةُ النَّافِعِ، وَكَوْنُ مَا حُرِّمَ
153
لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَمَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَمُرَاعَاةُ الْعَدْلِ لِذَاتِهِ، وَرَدُّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَلَكِنَّنَا مَا رَعَيْنَا هَذِهِ الْهِدَايَةَ حَقَّ رِعَايَتِهَا فَقَيَّدْنَا أَنْفُسَنَا بِأُلُوفٍ مِنَ الْقُيُودِ الَّتِي اخْتَرَعْنَاهَا وَسَمَّيْنَاهَا دِينًا، فَلَمَّا أَقْعَدَتْنَا هَذِهِ الْقُيُودُ عَنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُمْرَانِ صَارَ حُكَّامُنَا الَّذِينَ خَرَجُوا بِنَا عَنْ هَذِهِ الْأُسُسِ وَالْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا رَضُوا بِالْقُعُودِ وَاخْتَارُوا الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ بِمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى قُيُودِهِمُ التَّقْلِيدِيَّةِ مُحَافِظُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَائِلِينَ: إِنَّ الْمَوْتَ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْحَيَاةِ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُصُولِ حُكُومَتِهِمْ، وَفَرِيقًا رَأَوْا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوَانِينِهِمُ الْأَسَاسِيَّةِ أَوِ الْفَرْعِيَّةِ، فَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِجَهْلِهِ حُجَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْإِسْلَامُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، فَكِتَابُ اللهِ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَنُورُهُ مُتَأَلِّقٌ لَا يَخْفَى، وَإِنْ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَلْفَ حِجَابٍ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (٦: ١٤٩).
لَيْسَ بَيْنَ الْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ الَّذِي قَرَّرَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِيجَازِهَا، وَبَيْنَ الْقَوَانِينِ الْأَسَاسِيَّةِ لِأَرْقَى حُكُومَاتِ الْأَرْضِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَّا فَرْقٌ يَسِيرٌ، نَحْنُ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، وَأَثْبَتُ فِي الِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ إِذَا نَحْنُ عَمِلْنَا بِمَا هَدَانَا إِلَيْهِ رَبُّنَا.
هُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَصْدَرَ الْقَوَانِينِ الْأُمَّةُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ آنِفًا، وَالْمَنْصُوصُ قَلِيلٌ جِدًّا.
وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْأُمَّةِ مَنْ يُمَثِّلُهَا فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ مَا يُقَرِّرُونَهُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَرَّرَتْهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا عَلِمْتَ.
وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِالِانْتِخَابِ وَلَهُمْ فِيهِ طُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَنَحْنُ لَمْ يُقَيِّدْنَا الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَنَا أَنْ نَسْلُكَ فِي كُلِّ زَمَنٍ مَا نَرَاهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمَقْصِدِ، وَلَكِنَّهُ سَمَّى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الْأُمَّةَ أُولِي الْأَمْرِ أَيْ: أَصْحَابِ الشَّأْنِ فِي الْأُمَّةِ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي مَصَالِحِهَا وَتَطْمَئِنُّ هِيَ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُونَ مَحْصُورِينَ فِي مَرْكَزِ الْحُكُومَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا كَانُوا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَالسِّتَّةُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ عُمَرُ لِلشُّورَى فِي انْتِخَابِ خَلَفٍ لَهُ كَانُوا هُمْ أُولِي الْأَمْرِ ; وَلِذَلِكَ اجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ بِانْتِخَابِهِمْ، وَلَوْ بَايَعَ غَيْرُهُمْ أَمِيرًا لَمْ يُبَايِعُوهُ لَانْشَقَّتِ الْعَصَا وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ، وَقَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي الْبِلَادِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ جَمْعِهِمْ وَلَهُمْ أَنْ يَضَعُوا قَانُونًا لِذَلِكَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا تَفَرَّقُوا وَجَبَ عَلَى الْحُكُومَةِ تَنْفِيذُ مَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْأُمَّةِ الطَّاعَةُ، وَلَهُمْ أَنْ يُسْقِطُوا الْحَاكِمَ الَّذِي لَا يُنَفِّذُ قَانُونَهُمْ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي نَعُدُّهُ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِنَا.
وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا يَجِبُ الْعَمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ عِنْدَنَا يُرَدُّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُعْرَضُ عَلَى أُصُولِهِمَا وَقَوَاعِدِهِمَا،
154
فَيُعْمَلُ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَهُمَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ لَيْسَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ رَأْيِ الْأَقَلِّينَ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ حَيْثُ يَتَكَوَّنُ الْأَكْثَرُ مِنْ حِزْبٍ يَنْصُرُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَتَوَاضَعُونَ عَلَى اتِّبَاعِ أَقَلِّهِمْ لِأَكْثَرِهِمْ فِي خَطَئِهِمْ، فَإِذَا كَانَ أَعْضَاءُ الْمَجْلِسِ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ يَتَّبِعُونَ حِزْبًا مِنَ الْأَحْزَابِ، وَأَرَادَ زُعَمَاءُ هَذَا الْحِزْبِ تَقْرِيرَ مَسْأَلَةٍ، فَإِذَا أَقْنَعُوا بِالدَّلِيلِ أَوِ النُّفُوذِ سِتِّينَ مِنْهُمْ يَتْبَعُهُمُ الْخَمْسُونَ الْآخَرُونَ وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ خَطَأَهُمْ، فَإِذَا خَالَفَهُمْ سَائِرُ أَهْلِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ عَدَدُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ بُطْلَانَ الْمَسْأَلَةِ ١٤٠ وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ حَقِيقَتَهَا سِتُّونَ، وَهُمْ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ وَتُنَفِّذُ بِرَأْيِهِمْ.
الْأَكْثَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحَقِّيَّةَ وَالْإِصَابَةَ فِي الْحُكْمِ، وَلَا هِيَ بَالَتِي تَطْمَئِنُّ الْأُمَّةُ إِلَى رَأْيِهَا، فَرُبَّمَا كَانَ الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ مَسْأَلَةً مَالِيَّةً أَوْ عَسْكَرِيَّةً مَثَلًا لَيْسَ
فِيهِمُ الْعَدَدُ الْكَافِي مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا، فَيَظْهَرُ لِلْجُمْهُورِ خَطَؤُهَا فَتَتَزَلْزَلُ ثِقَتُهُ بِمَجْلِسِ الْأُمَّةِ وَيُفْتَحُ بَابُ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ، وَيُخْشَى أَنْ تَتَأَلَّفَ الْأَحْزَابُ لِلْمُقَاوَمَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُكْرَهَ الْجُمْهُورُ الْمُخَالِفُ عَلَى الْقَبُولِ إِكْرَاهًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحُكْمُ لِلْعَصَبِيَّةِ الْغَالِبَةِ، لَا لِلْأُمَّةِ الْمُتَّحِدَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَتَطَّلَعَ رُؤُوسُ الْفِتَنِ وَهَذَا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ وَسَدُّ ذَرِيعَتِهِ فِي أَسَاسِ الْحُكْمِ وَأُصُولِ السُّلْطَةِ، لِئَلَّا تَهْلِكَ الْأُمَّةُ بِقِيَامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَيَكُونَ بَأْسُهَا بَيْنَهَا شَدِيدًا فَيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ الْأَعْدَاءُ مِنْ مَقَاتِلِهَا، وَقَدْ نُهِينَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا حِكْمَةُ عَرْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَنَازَعُ فِيهَا أُولُو الْأَمْرِ عَلَى جَمَاعَةٍ يَرُدُّونَهَا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَحْكُمُونَ فِيهَا بِقَوَاعِدِهِمَا الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، فَإِنَّ الْأُمَّةَ كُلَّهَا تَرْضَى بِفَصْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَمَا تُؤَيِّدُهُ بِدَلِيلِهِ، وَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ فَقَطْ أَمْ مِنْ طَبَقَاتِ أُولِي الْأَمْرِ الْمُخْتَلِفَةِ؟ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أُولُو الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ أُولُو الْأَمْرِ مُخَيَّرِينَ فِي طَرِيقَةِ رَدِّ الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِوَسَاطَةِ بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِنِ اتَّضَحَ الْأَمْرُ بِرَدِّهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِوُضُوحِ دَلِيلِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ حَتْمًا، وَإِلَّا كَانَ الْمُرَجَّحُ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي تَرْجِيحِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ بِبَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُبْنَى تَرْجِيحُهُ؟ الَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَجَّحَ فِي أُحُدٍ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ مُخَالِفًا لِرَأْيهِ، وَرَجَّحَ فِي بَدْرٍ الرَّأْيَ الْمُوَافِقَ لِرَأْيِهِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَكْثَرِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَلَا مَجَالَ فِي هَذَا لِلتَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمْ غَيْرُ أُولِي الْأَمْرِ أَيِ الْعَامَّةُ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا
155
يَخْتَصُّ بِأَمْرِ الدِّينِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُعْمَلُ فِيهِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُمْ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تُقِيمَ مَنْ يَحْكُمُ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ بِرَدِّهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَأْتِي هُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ.
وَالتَّنَازُعُ مِنَ النَّزْعِ وَهُوَ الْجَذْبُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ يَجْذِبُ الْآخَرَ إِلَى رَأْيِهِ،
أَوْ يَجْذِبُ حُجَّتَهُ مِنْ يَدِهِ وَيُلْقِي بِهَا، وَالْمَسَائِلُ الدِّينِيَّةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَفَرُّقٌ وَلَا خِلَافٌ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (٤٢: ١٣)، لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا بِالنَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: آيَةُ الِاسْتِنْبَاطِ الْآتِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (٤: ٨٣)، فَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَنْظُرُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ هُوَ الْمَسَائِلُ الْعَامَّةُ كَمَسَائِلِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَأَنَّ الْعَامَّةَ لَا يَنْبَغِي لَهَا الْخَوْضُ فِي ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ اسْتِنْبَاطِهِ وَإِقْنَاعِ الْآخَرِينَ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْفِي أَنْ يَكُونَ أُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الرَّسُولِ مُلُوكٌ وَلَا أُمَرَاءُ، وَأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْعَارِفِينَ بِأَحْكَامِ الْفَتْوَى فَقَطْ ; لِأَنَّ مَسَائِلَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلْأُمَّةِ فِي زَمَنِ الْحَرْبِ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الرَّأْيِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ وَلَا الِاجْتِهَادُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إِلَخْ، أَوْ رُدُّوا الشَّيْءَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ إِلَخْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُؤْثِرُ عَلَى حُكْمِ اللهِ شَيْئًا، وَالْمُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَهْتَمُّ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ أَشَدَّ مِنَ اهْتِمَامِهِ بِحُظُوظِ الدُّنْيَا، فَلَوْ كَانَ لَهُ هَوًى فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا فَإِنَّهُ يَتْرُكُهُ لِحُكْمِ اللهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَمَثُوبَتِهِ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ أَوْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُؤْثِرُ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَهْوَائِهِ وَحُظُوظِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي مَسَائِلِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِيهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِيمَانًا يُعْتَدُّ بِهِ.
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا هَذَا بَيَانٌ لِفَائِدَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَوْ هَذَا الرَّدِّ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ بَيَانِ فَائِدَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا هُوَ اللَّائِقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ الْجَامِعِ بَيْنَ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي شَرَّعْنَاهُ لَكُمْ فِي تَأْسِيسِ حُكُومَتِكُمْ، وَإِصْلَاحِ أَمْرِكُمْ، أَوْ ذَلِكَ الرَّدُّ لِلشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ خَيْرٌ لَكُمْ فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ أَقْوَى أَسَاسٍ لِحُكُومَتِكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَلَمْ يَشْرَعْ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ
مِنَ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ إِلَّا مَا هُوَ قِيَامٌ لِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ خَيْرًا فِي نَفْسِهِ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ مَآلًا وَعَاقِبَةً ; لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عِرْقَ التَّنَازُعِ وَيَسُدُّ ذَرَائِعَ الْفِتَنِ وَالْمَفَاسِدِ.
156
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قِيلَ إِنَّ الشَّرْطَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخِيرِ وَهُوَ الرَّدُّ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَذْكِيرُهُمْ بِاللهِ حَتَّى لَا يَسْتَعْمِلُوا شَهَوَاتِهِمْ وَحُظُوظَهُمْ فِي الرَّدِّ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ وَأُولِي الْأَمْرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ تَهْدِيدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ يُخَالِفُ أَمْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَوَامِرِ، وَإِخْرَاجٌ لَهُ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ خَيْرًا: أَنَّهُ أَنْفَعُ مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَلَوْ جَرَى الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الشَّقَاءِ، فَقَدْ رَأَيْنَا كَيْفَ سَعِدَ الْمُهْتَدُونَ بِهِ، وَكَيْفَ شَقِيَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَاسْتَبَدُّوا بِالْأَمْرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَحْسَنَ تَأْوِيلًا فَهُوَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالْأَحْكَامَ إِنَّمَا تَكُونُ صُوَرًا مَعْقُولَةً وَعِبَارَاتٍ مَقُولَةً حَتَّى يُعْمَلَ بِهَا فَتَظْهَرَ فَائِدَتُهَا وَأَثَرُهَا، فَعِلْمُنَا بِالْآخِرَةِ لَيْسَ إِلَّا صُوَرًا ذِهْنِيَّةً لَا نَعْرِفُ الْحَقَائِقَ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا صِرْنَا إِلَيْهَا.
أَقُولُ: تِلْكَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَدَنِيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ الْقَضَائِيَّةُ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، وَلَا تُبْصِرُ فِيهَا غِلًّا وَلَا قَيْدًا، وَلَيْسَ فِيهَا عُسْرٌ وَلَا حَرَجٌ، وَلَا مَجَالَ فِيهَا لِلِاضْطِرَابِ وَالْهَرْجِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا إِلَّا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حَالُ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ، إِذْ لَمْ تَكْتَحِلْ بِمِثْلِ عَدْلِهِمْ عَيْنُ الدُّنْيَا إِلَى الْآنِ.
وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ لَنَا بِالْإِسْلَامِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَوَضَعَ لَنَا أُصُولَ الْكَمَالِ لِلشَّرِيعَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَوَكَلَ إِلَيْنَا أَمْرَ التَّرَقِّي فِيهَا بِمُرَاعَاةِ تِلْكَ الْأُصُولِ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا بَعْدَ اتِّسَاعِ مُلْكِ الْإِسْلَامِ وَدُخُولِ الْمَمَالِكِ الْعَامِرَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهَا الْمَدَنِيَّةُ فِي دَائِرَةِ سُلْطَانِهِ أَنْ نَرْتَقِيَ فِي نِظَامِ الْحُكُومَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَيَكُونَ خَلَفُنَا فِيهَا أَرْقَى مِنْ سَلَفِنَا لِمَا لِلْخَلَفِ مِنْ أَسْبَابِ وَوَسَائِلِ هَذَا التَّرَقِّي، وَلَكِنَّهُمْ حَوَّلُوا الْحُكُومَةَ عَنْ أَسْبَابِ الشُّورَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَضَاعُوا الْأُصُولَ الَّتِي أُمِرُوا بِإِقَامَتِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَجَرَى أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمْ أَفْرَادُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، وَإِنْ كَانُوا جَائِرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْفِقْهِ خَاصَّةً، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهُمْ قَدِ انْقَرَضُوا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُفَهُمْ أَحَدٌ وَأَنَّ
الْإِجْمَاعَ خَاصٌّ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ خَاصٌّ بِهِمْ، وَمَهْمَا اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى اسْتِنْبَاطِ أَحْكَامٍ لِوَقَائِعَ وَأَقْضِيَةٍ جَدِيدَةٍ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَنْبِطَ لَهَا حُكْمًا، وَأَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَجُوزُ رَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَمَلُ بِمَا يَهْدِيَانِ إِلَيْهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَلِّدَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ شَاءُوا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَيَتَّبِعُوا الْحُكَّامَ فِي غَيْرِهَا، وَلَا ضَرَرَ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ شِيَعًا، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ كَلِمَتُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ وَالْقَضَايَا وَفِي الْعِبَادَاتِ حَتَّى صَارَ الْحَنَفِيُّ يَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ وَإِمَامُ الشَّافِعِيَّةِ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِالْمُنْتَسِبِينَ إِلَى مَذْهَبِهِ فَلَا يُصَلِّي هَذَا الْحَنَفِيُّ مَعَهُمْ حَتَّى يَجِيءَ إِمَامُ مَذْهَبِهِ فَيَأْتَمَّ بِهِ.
157
وَقَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ عِنْدَ الْكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا الْمُقَلَّدُونَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَمَا بَعْدَهَا، وَلَكِنَّ الزَّمَانَ مَا وَقَفَ حَتَّى صَارَ حُكَّامُهُمْ فَرِيقَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَصَارَ النَّاسُ يَنْسُبُونَ كُلَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ وَالْجَهْلِ وَالْفَقْرِ إِلَى دِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ، وَسَرَى هَذَا الِاعْتِقَادُ إِلَى الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ عُلُومَ أُورُبَّا وَقَوَانِينَهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ مَرَقَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَفَضَّلَ تِلْكَ الْقَوَانِينَ عَلَى الشَّرِيعَةِ، اعْتِقَادًا مِنْهُمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هِيَ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ شَيْئًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَذَا الْفِقْهِ فِي السِّيَاسَةِ وَأَحْكَامِ الْعُقُوبَاتِ، وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهَا الْقَوَانِينَ الْأُورُبِّيَّةَ، فَصَارَتْ حُكُومَتُهُمْ أَمْثَلَ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَوِيَتْ بِذَلِكَ حُجَّةُ أَهْلِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرِيعَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَظَنُّوا أَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ نَفْسِهَا، وَقَامَ طُلَّابُ إِصْلَاحِ الْحُكُومَةِ فِي الدَّوْلَتَيْنِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَالْإِيرَانِيَّةِ مِنَ الْمُتَفَرْنِجِينَ يَطْلُبُونَ تَقْلِيدَ الْإِفْرِنْجِ فِي إِصْلَاحِ قَوَانِينِ حُكُومَتَيْهِمَا ; لِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ مِنْ أُصُولِ حُكُومَةِ الشُّورَى وَتَفْوِيضِهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتُعَوِّلُ عَلَى رَأْيِهِمْ.
إِذَا كَانَ فُقَهَاؤُهُمْ لَا يُبَالُونَ بِمَا يَقُولُ فِينَا أَهْلُ الْعَصْرِ لِأَجْلِهِمْ وَلِأَجْلِ بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُبَالُوا وَلَا يَرْضَوْا بِأَنْ يُنْسَبَ الْجُمُودُ إِلَى أَصْلِ الشَّرِيعَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، نَعَمْ إِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأُصُولَ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْآنَ وَلَا قَبْلَ الْآنِ بِقُرُونٍ مَنْ هُمْ أَهْلٌ لِلْإِجْمَاعِ وَلَا لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا دَامَ الْمُسْلِمُونَ رَاضِينَ بِهَذَا
الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَالَهُمْ لَا تَتَغَيَّرُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
ثُمَّ أَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ لَا يَتَجَلَّى مَعْنَاهَا تَمَامَ التَّجَلِّي وَتَتِمُّ الْفَائِدَةُ مِنْهُ إِلَّا بِهَا، فَنَأْتِي بِمَا يَفْتَحُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تَكْرَارِ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ.
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي أُولِي الْأَمْرِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ:
أُولُو الْأَمْرِ فِي كُلِّ قَوْمٍ وَكُلِّ بَلَدِ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ مَعْرُوفُونَ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمُ النَّاسُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْسَعُ مَعْرِفَةً وَأَخْلَصُ فِي النَّصِيحَةِ، وَقَدْ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَكُونُونَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ قَبْلَ الْفُتُوحَاتِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ فِي مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ (الْخَلِيفَةِ) وَفِي الشُّورَى، وَفِي السِّيَاسَةِ، وَالْإِدَارَةِ وَالْقَضَاءِ، فَأَمَّا الْبَيْعَةُ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى الْبَعِيدِ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَرُؤُوسِ النَّاسِ فِي الْبِلَادِ مَنْ يَأْخُذُ بَيْعَتَهُمْ، وَلَمَّا لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ـ وَكَانَ لَهُ عَصَبَةٌ قَوِيَّةٌ ـ قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ النَّاسِ: إِنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي حَرْبِهِ وَقَدْ كَانَ
158
فِي أَتْبَاعِهِ مَنْ هُوَ حَسَنُ النِّيَّةِ، كَمَا كَانَ فِيهِمْ مُحِبُّ الْفِتْنَةِ، وَمَنْ قَالَ فِيهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: " أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ "، وَلَوْ كَانَتِ الْبَيْعَةُ فِي عُنُقِهِ لَمَا كَانَ ثَمَّ مَجَالٌ لِاشْتِبَاهِ مَنْ كَانَ مُخْلِصًا فِي أَمْرِهِ.
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَكَانُوا يَجْمَعُونَ لَهُ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَرُؤَسَاءِ النَّاسِ، فَيَأْخُذُونَ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ.
رَوَى الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: " كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ خَصْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللهِ نَظَرَ هَلْ كَانَتْ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهِ سُنَّةٌ، فَإِنْ عَلِمَهَا قَضَى بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهَا خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: أَتَانِي كَذَا وَكَذَا فَنَظَرْتُ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمْ أَجِدْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا قَامَ إِلَيْهِ الرَّهْطُ، فَقَالُوا: نَعَمْ قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَيَأْخُذُ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَنْ نَبِيِّنَا، وَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَفْعَلُ
ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ شَيْئًا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ نَظَرَ هَلْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ فِيهِ قَضَاءٌ فَإِنْ وَجَدَهُ قَضَى بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ وَاسْتَشَارَهُمْ فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ "، فَلْيَتَأَمَّلِ الْفَقِيهُ تَفْرِقَةَ أَبِي بَكْرٍ بَيْنَ مَنْ يُسْأَلُ عَنِ الرِّوَايَةِ لِقَضَاءِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبَيْنَ مَنْ يُسْتَشَارُ فِي وَضْعِ حُكْمٍ جَدِيدٍ أَوِ اسْتِنْبَاطِهِ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَكَانَ يَسْأَلُ عَنْهَا عَامَّةَ النَّاسِ، وَأَمَّا الِاسْتِشَارَةُ فَكَانَ يَجْمَعُ لَهَا الرُّءُوسَ وَالْعُلَمَاءَ وَهُمْ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّاوِي مَا كَانَ يَعْمَلُ الْخَلِيفَتَانِ إِذَا اخْتَلَفَ أُولَئِكَ الْمُسْتَشَارُونَ فِي الْقَضِيَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " أَنِ اقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ أَقْضِيَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ أَمْرِ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ مَا قَضَتْ بِهِ الْأَئِمَّةُ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ وَاسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ " اهـ، وَالرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ، وَفِيهَا مِنَ الْغَرَابَةِ لَفْظُ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَكُنْ وَقْتَئِذٍ أَئِمَّةٌ مُتَعَدِّدُونَ يُعْتَمَدُ عَلَى قَضَائِهِمْ لِبِنَائِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو سَعِيدٍ فِي الْقَضَاءِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ عَرَضَ لِي أَمْرٌ لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قَضَاءٌ فِي أَمْرِهِ وَلَا سُنَّةٌ كَيْفَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: تَجْعَلُونَهُ شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعَابِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَقْضِ فِيهِ بِرَأْيِكَ خَاصَّةً، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " تَجْعَلُونَهُ " وَالْعَدْلُ بِهِ عَنْ " تَجْعَلُهُ " ـ وَالْخِطَابُ لِلْمُفْرَدِ ـ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْجَعْلَ
159
مِنْ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْفِقْهِ مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَحِكَمِهَا، لَا عِلْمَ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ هَذِهِ تَسْمِيَةٌ مُحْدَثَةٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ رُءُوسُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفِقْهِ غَالِبًا.
وَأَمَّا اسْتَشَارَتُهُمْ فِي الْأُمُورِ الْإِدَارِيَّةِ فَمِثَالُهَا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَهْلُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ
وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا نَرَى أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ.
فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعْوَتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تَقُدْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ أَيْ: مُسَافِرٌ، وَالظَّهْرُ: ظَهْرُ الرَّاحِلَةِ، فَأَصْبَحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلَافَهُ ـ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ ـ أَيِ الْوَبَاءِ ـ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ انْصَرَفَ اهـ.
أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَكَّمَ مَشْيَخَةَ قُرَيْشٍ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ جُمْهُورِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الرَّأْيَيْنِ أَنْفَذَهُ، وَهَذَا نَحْوُ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى رَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونُوا مُحِيطِينَ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ قَضَاءٍ وَعَمَلٍ أَوْ حَدِيثٍ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْأُصُولِيُّونَ فِي صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِ.
كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَقُضَاتُهُمُ الْعَادِلُونَ يَعْرِفُونَ رُءُوسَ النَّاسِ، وَأَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَالدِّينِ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ فَيَدْعُونَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ فِي مَجْمُوعِهَا رَقِيبَةً عَلَى أَمِيرِهَا يُرَاجِعُهُ حَتَّى أَضْعَفُ رِجَالِهَا وَنِسَائِهَا فِيمَا يُخْطِئُ فِيهِ، كَمَا رَاجَعَتِ الْمَرْأَةُ
160
عُمَرَ فِي الصَّدَاقِ، فَاعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ وَإِصَابَتِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَيْفَ بِأُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ؟ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَصَبِيَّةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِيهِمْ إِلَّا مَا كَانَ لِعُثْمَانَ مِنْ عَصَبِيَّةِ بَنِي أُمُيَّةَ، وَلَمْ يُرِدْ هُوَ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِقُوَّتِهِمْ وَعَصَبِيَّتِهِمْ، وَلَمَّا أَخَذَتْهُ الْأُمَّةُ بِظُلْمِهِمْ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ شَيْئًا، فَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا مُخْلِصِينَ فِي مُشَارَكَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي الْحُكْمِ، وَالتَّقَيُّدِ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَا نُصْفَ فِيهِ لِقُوَّةِ دِينِهِمْ ا; وَلِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ مُتَعَيَّنًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ـ وَالْإِسْلَامُ فِي عُنْفُوَانِ قَوَّتِهِ ـ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ عَصَبِيَّةً يَسْتَبِدُّ بِهَا دُونَ أُولِي الْأَمْرِ إِنْ شَاءَ ـ عَلَى أَنَّهُ لِقُوَّةِ دِينِهِ لَا يَشَاءُ ـ وَهَذِهِ الْحَالُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي حَالَتْ دُونَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى وَضْعِ أُولِي الْأَمْرِ لِنِظَامٍ يَكْفُلُ دَوَامَ الْعَمَلِ بِالشُّورَى الشَّرْعِيَّةِ، وَتَقْيِيدِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَالِ أُولِي الْأَمْرِ بَعْدَ الرَّاشِدِينَ:
بَنُو أُمَيَّةَ هُمُ الَّذِينَ زُعْزَعُوا بِنَاءَ السُّلْطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الشُّورَى ; إِذْ كَوَّنُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَصَبِيَّةً هَدَمُوا بِهَا سُلْطَةَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحِيلَةِ وَالْقُوَّةِ وَحَصَرُوهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ الْأَمِيرُ مُقَيَّدًا بِسُلْطَةِ قَوْمِهِ لَا بِسُلْطَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجُوا عَنْ هِدَايَةِ الْآيَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ جَاءَ الْعَبَّاسِيُّونَ بِعَصَبِيَّةِ الْأَعَاجِمِ مِنَ الْفُرْسِ فَالتُّرْكِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ التَّغَلُّبِ بَيْنَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ بِعَصَبِيَّاتِهِمْ مَا كَانَ، فَلَمْ تَكُنِ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مَبْنِيَّةً عَلَى أَسَاسِهَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ، بَلْ جَعَلَتْ أُولِي الْأَمْرِ كَالْعَدَمِ فِي أَمْرِ السُّلْطَةِ الْعَامَّةِ، وَكَانَ تَحَرِّي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْعَدْلِ وَرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَكَانَتْ أَحْكَامُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَأَحْكَامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي الْعَدْلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ أَمَانَةَ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى إِلَى أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ عَصَبِيَّةَ قَوْمِهِ كَانَتْ مُحْتَكِرَةً لَهَا حُبًّا فِي السُّلْطَةِ وَالرِّيَاسَةِ، ثُمَّ كَانَتْ سُلْطَةُ الْمُلُوكِ الْعُثْمَانِيِّينَ بِعَصَبِيَّتِهِمُ الْقَوْمِيَّةِ، وَقُوَّةِ جُيُوشِهِمِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْإِنْكِشَارِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، أَصْحَابِ الْفِقْهِ وَالرَّأْيِ، الَّذِينَ هُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بَلْ كَانُوا أَخْلَاطًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ يَأْخُذُهُمُ السَّلَاطِينُ وَيُرَبُّونَهُمْ تَرْبِيَةً حَرْبِيَّةً، ثُمَّ كَوَّنُوا جُنْدًا إِسْلَامِيًّا، ثُمَّ جُنْدًا مُخْتَلِطًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أُولُو الْأَمْرِ فِي زَمَانِنَا وَكَيْفَ يَجْتَمِعُونَ:
ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَانِنَا هَذَا هُمْ كِبَارُ الْعُلَمَاءِ وَرُؤَسَاءُ الْجُنْدِ وَالْقُضَاةُ وَكِبَارُ التُّجَّارِ
وَالزُّرَّاعُ، وَأَصْحَابُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَمُدِيرُو الْجَمْعِيَّاتِ وَالشَّرِكَاتِ، وَزُعَمَاءُ الْأَحْزَابِ وَنَابِغُو الْكُتَّابِ وَالْأَطِبَّاءِ وَالْمُحَامِينَ ـ وُكَلَاءُ الدَّعَاوَى ـ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ
161
فِي مَصَالِحِهَا وَتَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فِي مُشْكِلَاتِهَا حَيْثُ كَانُوا، وَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ يَعْرِفُونَ مَنْ يُوثَقُ بِهِ عِنْدَهُمْ وَيُحْتَرَمُ رَأْيُهُ فِيهِمْ، وَيَسْهُلُ عَلَى رَئِيسِ الْحُكُومَةِ فِي كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَعْرِفَهُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَهُمْ لِلشُّورَى إِنْ شَاءَ، وَلَكِنَّ الْحُكَّامَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مُؤَيَّدُونَ بِقُوَّةِ الْجُنْدِ الَّذِي تُرَبِّيهِ الْحُكُومَةُ عَلَى الطَّاعَةِ الْعَمْيَاءِ حَتَّى لَوْ أَمَرَتْهُ أَنْ يَهْدِمَ الْمَسَاجِدَ، وَيَقْتُلَ أُولِي الْأَمْرِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَ أُمَّتِهِ لَفَعَلَ، فَلَا يَشْعُرُ الْحَاكِمُ بِالْحَاجَةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ إِلَّا لِإِفْسَادِهِمْ وَإِفْسَادِ النَّاسِ بِهِمْ، وَلَا يُرِيدُونَ أَنْ يَقْرُبَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ إِلَّا الْمُتَمَلِّقُ الْمُدْهِنُ، وَقَدْ جَرَتِ الدُّوَلُ الَّتِي بَنَتْ سُلْطَتَهَا عَلَى أَسَاسِ الشُّورَى أَنْ تَعْهَدَ إِلَى الْأُمَّةِ بِانْتِخَابِ مَنْ تَثِقُ بِهِمْ لِوَضْعِ الْقَوَانِينِ الْعَامَّةِ لِلْمَمْلَكَةِ، وَالْمُرَاقِبَةِ عَلَى الْحُكُومَةِ الْعُلْيَا فِي تَنْفِيذِهَا، وَمَنْ تَثِقُ بِهِمْ لِلْمَحَاكِمِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَجَالِسِ الْإِدَارِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الِانْتِخَابُ شَرْعِيًّا عِنْدَنَا إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْأُمَّةِ الِاخْتِيَارُ التَّامُّ فِي الِانْتِخَابِ بِدُونِ ضَغْطٍ مِنَ الْحُكُومَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا وَلَا تَرْغِيبٍ وَلَا تَرْهِيبٍ، وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنْ تَعْرِفَ الْأُمَّةُ حَقَّهَا فِي هَذَا الِانْتِخَابِ وَالْغَرَضَ مِنْهُ، فَإِذَا وَقَعَ انْتِخَابُ غَيْرِهِمْ بِنُفُوذِ الْحُكُومَةِ أَوْ غَيْرِهَا كَانَ بَاطِلًا شَرْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُنْتَخَبِينَ سُلْطَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنَّ طَاعَتَهُمْ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً شَرْعًا بِحُكْمِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي بَابِ سُلْطَةِ التَّغَلُّبِ، فَمَثَلُ مَنْ يَنْتَخِبُ رَجُلًا لِيَكُونَ نَائِبًا عَنِ الْأُمَّةِ فِيمَا يُسَمُّونَهُ السُّلْطَةَ التَّشْرِيعِيَّةَ وَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى هَذَا الِانْتِخَابِ، كَمَثَلِ مَنْ يَتَزَوَّجُ أَوْ يَشْتَرِي بِالْإِكْرَاهِ لَا تَحِلُّ لَهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا سِلْعَتُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ اشْتِرَاطَ حُرِّيَّةِ الِانْتِخَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّ الْإِجْمَالَ لَا يُغْنِي فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنِ التَّفْصِيلِ.
خَاطَبَ اللهُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا بِإِقَامَةِ الْقَوَاعِدِ الْأَرْبَعِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِلْمُخَاطَبِينَ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاجْتِمَاعِ لِإِقَامَتِهَا، فَالْوَاجِبُ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ مُطَالَبَتُهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا يُتْرَكُ الْأَمْرُ فَوْضَى، ثُمَّ يُبْحَثُ عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، أَوِ الِاجْتِهَادِ وَعَنِ اسْتِنْبَاطِ أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي رِوَايَةِ الرُّوَاةِ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا، وَسَكَتَ النَّاسُ عَنْ كَذَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا نَعْرِفُ فِيهَا خِلَافًا فَهِيَ إِجْمَاعِيَّةٌ،
كَمَا وَقَعَ مُنْذُ زَمَنِ الرِّوَايَةِ وَالتَّدْوِينِ وَالتَّصْنِيفِ إِلَى الْيَوْمِ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أُولِي الْأَمْرِ هُنَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ الَّتِي يَنُوطُ فِيهَا الِاسْتِنْبَاطَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (٤: ٨٣)، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِأُولِي الْأَمْرِ مَجْمَعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ لِتَرُدَّ إِلَيْهِمْ فِيهِ الْمَسَائِلَ الْمُتَنَازَعَ فِيهَا وَالْمَسَائِلَ الْعَامَّةَ مِنْ أَمْرِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ؛ لِيَحْكُمُوا فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ طَاعَتَهُمْ تَجِبُ عَلَى الْحُكُومَةِ وَأَفْرَادِ الْأُمَّةِ إِذَا هُمْ أَجْمَعُوا، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ وَالْمَحْكُومِ رَدُّ الْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ وَالْمُتَنَازَعِ فِيهَا إِلَيْهِمْ سَوَاءٌ اجْتَمَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِطَلَبِ الْأُمَّةِ، أَوْ بِطَلَبِ الْحُكُومَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا هُمْ هُمْ.
162
فَإِنْ قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِذَا انْتَخَبَتِ الْأُمَّةُ غَيْرَ مَنْ ذَكَرْتُمْ وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ، وَالنَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُمْ أُولُو الْأَمْرِ، لِيَكُونُوا هُمُ الْمُسْتَنْبِطِينَ لِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْقَوَانِينِ، وَالْمُشْرِفِينَ عَلَى الْحُكَّامِ وَالْمُسْتَشَارِينَ لَهُمْ، أَيَكُونُ أُولُو الْأَمْرِ مَنْ وَصَفْتُمْ، وَإِنْ لَمْ تَنْتَخِبْهُمُ الْأُمَّةُ، أَمْ يَكُونُونَ هُمُ الْمُنْتَخَبِينَ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّةِ وَإِنْ فَقَدُوا تِلْكَ الصِّفَاتِ؟.
أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ الْأُمَّةَ إِذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِمَعْنَى الْآيَةِ، وَمُخْتَارَةً فِي الِانْتِخَابِ عَالِمَةً بِالْغَرَضِ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَخِبَ غَيْرَ مَنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْمَكَانَةِ الْمَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمْ وَرَأْيِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ عِنْدَهَا ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَتُهَا الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا هَدَاهَا اللهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فَانْتِخَابُهَا إِيَّاهُمْ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِثِقَتِهَا بِهِمْ وَلِعِلْمِهَا بِهَدْيِ دِينِهَا، وَإِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِمَا ذُكِرَ أَوْ غَيْرَ مُخْتَارَةٍ فِي الِانْتِخَابِ فَلَا يَكُونُ لِانْتِخَابِهَا صِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ لِأُمَّةِ الْإِجَابَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْمُذْعِنَةُ لِأَمْرِ الْإِسْلَامِ وَنَهْيِهِ الْعَالِمَةُ بِمَا لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ فِيهِ، وَلَعَلَّ جَهْلَ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِمْ لِأُولِي الْأَمْرِ، كَانَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ فِي عَدَمِ الْعَمَلِ بِقَاعِدَةِ الِانْتِخَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيَجِبُ انْتِخَابُ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِأَجْلِ الِاجْتِمَاعِ لِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُمَّةُ فِي سِيَاسَتِهَا وَإِدَارَتِهَا الْعَامَّةِ أَمْ يُكْتَفَى بِبَعْضِهِمْ؟ أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِأَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ مَنْ تَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ بِرِضَى الْبَاقِينَ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْمَمْلَكَةَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مِائَةِ مَدِينَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَشَرَةٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ يَثِقُ أَهْلُهَا بِعِلْمِهِمْ وَرَأْيِهِمْ، وَيَنْقَادُونَ لَهُمْ يَكُونُ مَجْمُوعُ أُولِي
الْأَمْرِ أَلْفَ نَسَمَةٍ، فَإِذَا هُمُ اخْتَارُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِانْتِخَابِ، أَوِ الْقُرْعَةِ مِائَةً أَوْ مِائَتَيْنِ لِلْقِيَامِ بِمَا ذُكِرَ حَصَلَ الْمَقْصِدُ بِذَلِكَ وَكَانَ مَا يُقَرِّرُونَهُ إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ، وَيَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى الْبَاقِينَ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ بِمَكَانِهِمْ كَالشُّورَى فِي الْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ، وَهَذَا مَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ:
بَيَّنَّا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ هِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمُبَيَّنَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَطَبَّقَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ ـ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ ـ وَجَعَلُوا الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَهِيَ لَعَمْرِي أَقْوَى دَلَالَةً عَلَيْهِ مِنْ آيَةِ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى (٤: ١١٥)، الْآيَةَ، بَلْ لَا تَدُلُّ هَذِهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَجَعَلُوا مَعْنَى رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْقِيَاسَ الْأُصُولِيَّ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ هُمُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْقِيَاسِ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ فِي أَعْضَاءِ مَجْلِسِ النُّوَّابِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ فِي عُرْفِ
163
الْعُثْمَانِيِّينَ بِالْمَبْعُوثِينَ وَفِي أَعْضَاءِ الْمَحَاكِمِ وَالْمَجَالِسِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ صِفَةٌ تَشْرِيعِيَّةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، وَقَدْ عَلِمْتَ رَأْيَنَا فِيهِ وَسَنَزِيدُكَ إِيضَاحًا.
قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَكْثَرِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ زَعَمُوا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ فَمَا مَعْنَى هَذَا الْعَطْفِ؟ قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الدَّلَالَتَيْنِ، فَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ اللهِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ الرَّسُولِ لَا مَحَالَةَ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ اللهِ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، انْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ كَلَامِهِ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَرَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، وَجَزْمُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يُمَثِّلُ الْأُمَّةَ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
ثُمَّ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، أَوِ الْمُرَادُ فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِعَادَةً لِعَيْنِ مَا مَضَى وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ تَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ حُكْمُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ طَلَبَ حُكْمِهِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَدَّ حُكْمِهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ عَلَى الْأَخِيرِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ تَفْوِيضَ أَمْرِهِ إِلَيْهِمَا وَعَدَمَ الْحُكْمِ فِيهِ بِشَيْءٍ، أَوْ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَجَابَ عَنْهُمَا بِإِسْهَابِهِ الْمُعْتَادِ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ عِبَارَةَ النَّيْسَابُورِيِّ فِي الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَرَدِّ هَذَيْنِ الْإِيرَادَيْنِ ـ وَإِنْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا ـ لِأَنَّهُ اخْتَصَرَ فِيهَا مَا طَالَ بِهِ الرَّازِيُّ، قَالَ بَعْدَ مَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ أُولِي الْأَمْرِ غَيْرُ مَا ادَّعَاهُ: " وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْصُومُ
164
كُلَّ الْأُمَّةِ، أَيْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ، فَالْمُرَادُ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَهُوَ الْمُدَّعَى.
قَالَ: وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ رَدِّهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ رَدَّهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا كَانَ تَكْرَارًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَفْوِيضَ عِلْمِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالسُّكُوتَ عَنْهُ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُ الْإِهْمَالَ وَتَفْتَقِرُ إِلَى قَطْعِ مَادَّةِ الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَلَا الْإِحَالَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ بِحُكْمِ الْعَقْلِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهَا لَا يَكُونُ رَدًّا إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فَإِذَا رَدَّهَا إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ.
" فَحَاصِلُ الْآيَةِ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِطَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ لِمَنْ عَدَا الرَّسُولَ بِطَاعَتِهِ، ثُمَّ لِمَا سِوَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِطَاعَتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ أَهْلَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَدَارِكِهَا ـ إِنْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ وَاشْتِبَاهٌ فِي النَّاسِ فِي حُكْمِ وَاقِعَةٍ مَا ـ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا لَهَا وُجُوهًا مِنْ نَظَائِرِهَا وَأَشْبَاهِهَا، فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ "، انْتَهَى كَلَامُ النَّيْسَابُورِيِّ، وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ رَدَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ يَتَحَقَّقُ بِعَرْضِهِ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ كَالْيُسْرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، وَكَمَنْعِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ، وَكَوْنِ الْمَحْظُورِ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمَحْظُورِ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا، وَيَلِي هَذَا عَرْضُ الْجُزْئِيَّاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ عَلَى أَشْبَاهِهَا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّدِّ هُنَا: رَدُّ مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ، وَأَمَّا مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ غَيْرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيُرَدُّ إِلَيْهِمْ عَمَلًا بِآيَةِ الِاسْتِنْبَاطِ [٤: ٨٣].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِجْمَاعُ وَالِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَرَأَيْتَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الْأُمَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَرَّحُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْأُصُولِيُّ فَمَا هُوَ تَعْرِيفُهُ؟
الْإِجْمَاعُ فِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ: " هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهَدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ أَيِّ أَمْرٍ كَانَ، فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوِ الْأَكْثَرَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ الْمُقَلِّدِينَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، كَالَّذِينِ يَكْفُرُونَ بِبِدْعَتِهِمْ، وَالَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِسْلَامَ جِنْسِيَّةً لَهُمْ لَا دِينًا، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ عَصْرًا خَلَا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ (كَمَا يَقُولُ
جَمَاهِيرُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ)، وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ عَرَضَتْ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ كُلِّهِمْ لَا يُعَدُّ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا يَقُولُ مُتَفَقِّهَتُنَا: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ كُلُّهُمْ عُصَاةً لِلَّهِ تَعَالَى بِاجْتِهَادِهِمْ هَذَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الْمُتَنَطِّعُ مِنْ هَؤُلَاءِ
165
الْمُتَفَقِّهَةِ: إِنَّهُمْ إِذَا اسْتَحَلُّوا وَضْعَ الْحُكْمِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَعَدَّهُ شَرْعِيًّا يَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّنَطُّعِ الَّذِي يُجِيزُ عَقْلُ صَاحِبِهِ خَطَأَ الْمَلَايِينِ، وَيَقُولُ بِعِصْمَةِ الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ وِفَاقَ الْعَوَامِّ لِلْمُجْتَهِدِينَ لِيَصِحَّ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ، إِذْ عَبَّرَ بَعْضُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ فِي التَّعْرِيفِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَعَبَّرَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ " بِمُجْتَهِدِ الْأُمَّةِ " لِصِدْقِهِ عَلَى الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ وَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يَعُمُّ، وَأَرَادَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا اثْنَانِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَجْمَعَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِإِجْمَاعِهِمَا بِشَرْطِهِ، وَلَوْ كَانَا امْرَأَتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَهُنَاكَ خِلَافَاتٌ أُخْرَى فِي قُيُودِ الْحَدِّ وَمَفْهُومِهَا وَفِي مَسَائِلَ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ فِي كَشَّافِ اصْطِلَاحَاتِ الْفُنُونِ: الِاجْتِهَادُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْمُسْتَفْرِغُ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ التَّحْصِيلِ يُسَمَّى مُجْتَهِدًا، ثُمَّ قَالَ: فَائِدَةٌ لِلْمُجْتَهِدِ شَرْطَانِ:
الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ الْبَارِئِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَتَصْدِيقُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمُعْجِزَاتِهِ وَسَائِرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عِلْمُ الْإِيمَانِ، كُلُّ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى مَا هُوَ دَأَبُ الْمُتَبَحِّرِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَدَارِكَ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَامِهَا وَطُرُقِ إِثْبَاتِهَا وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا وَتَفَاصِيلِ شَرَائِطِهَا وَمَرَاتِبِهَا، وَجِهَاتِ تَرْجِيحِهَا عِنْدَ تَعَارُضِهَا وَالتَّفَصِّي عَنِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهَا، فَيُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الرُّوَاةِ، وَطُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأَقْسَامِ النُّصُوصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْأَدَبِيَّةِ مِنَ اللُّغَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي الشَّرْعِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي مَسْأَلَةٍ فَيَكْفِيهِ عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَلَا يَضُرُّهُ الْجَهْلُ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، هَذَا كُلُّهُ خُلَاصَةُ مَا فِي الْعَضُدِيِّ وَحَوَاشِيهِ وَغَيْرِهَا اهـ.
وَإِنَّنِي أَذْكُرُ لَكَ خُلَاصَةَ مَا فِي كِتَابِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ
عِنْدَهُمْ هُوَ الْفَقِيهُ، وَيُشْتَرَطُ فِي تَحَقُّقِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا ذَا مَلَكَةٍ يُدْرِكُ بِهَا الْمَعْلُومَ، فَقِيهَ النَّفْسِ، عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، أَيِ ـ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ـ ذَا دَرَجَةٍ وُسْطَى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَفُنُونِهَا مِنَ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْبَلَاغَةِ، وَالْأُصُولِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي زَمَانِنَا الرُّجُوعُ إِلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، أَيْ: إِلَى مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَمَا يَصِحُّ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْكَلَامِ، وَلَا الذُّكُورَةُ، وَلَا الْحُرِّيَّةُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَلَّفَ الْمُجْتَهِدُونَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ.
أَقُولُ: لَيْسَ تَحْصِيلُ هَذَا الِاجْتِهَادِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بِالْأَمْرِ الْعَسِيرِ وَلَا بِالَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اشْتِغَالٍ أَشَقَّ مِنَ اشْتِغَالِ الَّذِينَ يُحَصِّلُونَ دَرَجَاتِ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ فِي
166
الْأُمَمِ الْحَيَّةِ كَالْحُقُوقِ وَالطِّبِّ وَالْفَلْسَفَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى جَمَاهِيرَ عُلَمَاءِ التَّقْلِيدِ مَنَعُوهُ فَلَا تَتَوَجَّهُ نُفُوسُ الطُّلَّابِ إِلَى تَحْصِيلِهِ.
وَظَاهِرٌ أَنَّ تَعْرِيفَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ لِلْإِجْمَاعِ وَتَخْصِيصَهُ بِالْمُجْتَهِدِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَلَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْعَالِمِينَ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ، لَا يَعْرِفُونَ مَصَالِحَ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ كَمَسَائِلِ الْأَمْنِ، وَالْخَوْفِ، وَالسِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَالْأَمْوَالِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ، بَلْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِمُ الَّذِي اشْتَرَطُوهُ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَجَدَّدَ لِلنَّاسِ فِيهِ مِنْ طُرُقِ الْمُعَامَلَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى فَيَقِيسُوهُ بِهِ.
ثُمَّ إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَعْرِيفِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُونَ مَعْصُومِينَ فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي يُسَمَّى إِجْمَاعًا، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ إِجْمَاعَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ كَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَغَلَا بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، فَقَالُوا: إِنَّ عِصْمَتَهُمْ كَعِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ قَوْلٌ فِيهِ، فَقَالُوا: فِعْلُهُمْ كَفِعْلِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ خِلَافًا لِلْبَاقِلَّانِيِّ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ وُقُوعَ الْخَطَأِ مِنْهُمْ مُحَالٌ، أَخَذُوا هَذَا مِنْ كَوْنِ الْأُمَّةِ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ، عَلَى أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ خَطَأَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا إِذَا خَلَتْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ، وَنَحْمَدُهُ أَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآرَاءُ مُخْتَلَفًا فِيهَا بَيْنَ الْبَاحِثِينَ، حَتَّى مَنَعَ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاجْتِمَاعَ أَلْبَتَّةَ
وَأَحَالَهُ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَعْتَدَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَاعْتَدَّ بَعْضُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَبَعْضُهُمْ مُوَافَقَةَ الْعَوَامِّ.
وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ نَقُولُ: إِنَّ حَصْرَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُمْكِنُ، وَالْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَفَرُّقِهِمْ لَا يُمْكِنُ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْأُصُولِيَّ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِذَا أَمْكَنَ فَالْعِلْمُ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ دُونَ الْقَوْلِيِّ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا إِجْمَاعٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ، وَالْقَوْلَ الثَّالِثَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ، وَقَدْ يُقَالُ: السُّكُوتِيُّ لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْقَوْلِ مِنْ زَيْدٍ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ صُدُورِ الْقَوْلِ مِنْهُ، وَكَانَ يُطْلِقُ بَعْضُ السَّلَفِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَهُمْ فِيهَا، وَهَذَا غَيْرُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَعْتَدُّ بِهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ.
وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، لَعَلَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ ـ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ ـ وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ النَّاسَ
167
اخْتَلَفُوا أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ " نَقَلَ هَذَا فِي الْمُسَوَّدَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ " أَجْمَعُوا " إِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ أَجْمَعُوا فَاتَّهِمْهُمْ، لَوْ قَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا كَانَ (أَحْسَنَ) قَالَ فِي الْمُسَوَّدَةِ: وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا كَذِبٌ، مَا عَلَّمَهُ أَنَّ النَّاسَ مُجْتَمِعُونَ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ: إِجْمَاعُ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ أَبُو الْحَارِثِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، وَحَمَلَ الْقَاضِي إِنْكَارَ أَحْمَدَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى الْوَرَعِ، وَحَمَلَهُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَلَى إِجْمَاعِ الْمُخَالِفِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، أَوْ بَعْدَهُمْ، وَبَعْدَ التَّابِعِينَ، أَوْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا أَوَّلُوا كَلَامَهُ الْمَقْرُونَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يَرُدُّ تَأْوِيلَهُمْ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ لَفْظُ الْإِجْمَاعِ كَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ غَدَاةِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِإِجْمَاعِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مُقَيَّدٌ غَيْرُ الْإِجْمَاعِ الْمُطْلَقِ الَّذِي نَفَاهُ.
كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَيَظُنُّ
بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ الْإِجْمَاعُ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَهْلُ فَنِّ الْأُصُولِ الَّذِي حَدَثَ بَعْدَهُمْ، وَلِهَذَا ظَنَّ الْقَاضِي أَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتَلَفَ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْإِجْمَاعِ تَارَةً وَإِنْكَارِهِ تَارَةً أُخْرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
الْإِجْمَاعُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الْأَمْرِ وَإِحْكَامُهُ وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ، يُقَالُ: أَجْمَعُوا الْأَمْرَ وَالرَّأْيَ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ إِذَا أَحْكَمُوهُ وَضَمُّوا مَا انْتَشَرَ وَتَفَرَّقَ مِنْهُ، وَعَزَمُوا عَلَيْهِ عَزْمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ إِلَّا بَعْدَ الرَّوِيَّةِ وَالتَّدْقِيقِ وَالْمُرَادَّةِ فِي الشُّورَى، قَالَ تَعَالَى فِي حِكَايَةٍ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (١٠: ٧١)، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ إِلَّا الْإِمْضَاءُ وَالتَّنْفِيذُ، وَقَالَ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ (١٢: ١٢)، وَقَالَ حِكَايَةً لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ (٢٠: ٦٤)، وَالْإِجْمَاعُ لِلْأَمْرِ يَكُونُ مِنَ الْوَاحِدِ وَمِنَ الْجَمْعِ.
قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ الْإِجْمَاعُ: إِحْكَامُ النِّيَّةِ وَالْعَزِيمَةِ، أَجْمَعْتُ الرَّأْيَ وَأَزْمَعْتُهُ وَعَزَمْتُ عَلَيْهِ بِمَعْنًى، وَمِنْهُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: " أَجْمَعَتْ صَدَقَةً " وَفِي حَدِيثِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ: " مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثًا " أَيْ: مَا لَمْ أَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَأَجْمَعَ أَمْرَهُ جَعَلَهُ جَمِيعًا بَعْدَ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا، قَالَ: وَتَفَرُّقُهُ أَنَّهُ جَعَلَ يُدِيرُهُ فَيَقُولُ مَرَّةً: أَفْعَلُ كَذَا، وَمَرَّةً أَفْعَلُ كَذَا، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ مُحْكَمٍ أَجْمَعَهُ أَيْ: جَعَلَهُ جَمِيعًا، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُقَالُ: أُجْمِعَتِ النَّهْبُ، وَالنَّهْبُ إِبِلُ الْقَوْمِ أَغَارَ عَلَيْهَا اللُّصُوصُ، وَكَانَتْ
168
مُتَفَرِّقَةً فِي مَرَاعِيهَا فَجَمَعُوهَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لَهُمْ، ثُمَّ طَرَدُوهَا وَسَاقُوهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ قِيلَ: أَجْمَعُوهَا... وَالْإِجْمَاعُ أَنْ تَجْمَعَ الشَّيْءَ الْمُتَفَرِّقِ جَمِيعًا، فَإِذَا جَعَلْتَهُ جَمِيعًا بَقِيَ جَمِيعًا، وَلَمْ يَكَدْ يَتَفَرَّقُ كَالرَّأْيِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ الْمَمْضِيِّ، وَأَجْمَعَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ إِذَا سَالَ رَغَابُهَا وَجِهَادُهَا كُلُّهَا، وَفَلَاةٌ مُجَمَّعَةٌ وَمُجَمِّعَةٌ (بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ) يَجْتَمِعُ فِيهَا الْقَوْمُ، وَلَا يَتَفَرَّقُونَ
خَوْفَ الضَّلَالِ وَنَحْوَهُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْمَعُهُمُ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ هُوَ اتِّفَاقَ النَّاسِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى أَمْرٍ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ إِحْكَامُ الْأَمْرِ الْمُتَفَرِّقِ وَعَزْمُهُ لِئَلَّا يَتَفَرَّقَ، وَيَكُونُ مِنَ الْوَاحِدِ وَأَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدِ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَقُومَ بِهِ كُلُّ أَهْلِ الشَّأْنِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يُبْرِمَهُ مَنْ يَمْتَنِعُ التَّفَرُّقُ بِإِبْرَامِهِمْ لَهُ، فَرُجُوعُ عَمَرَ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ عَنِ الْوَبَاءِ كَانَ بِالْإِجْمَاعِ اللُّغَوِيِّ دُونَ الْأُصُولِيِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ: " اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّالِحُونَ " وَفِي لَفْظٍ: " مَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ " وَمِنْهُ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَمِلَ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْبِيرِ بِإِجْمَاعِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ: مَا جَزَمُوا بِهِ وَعَزَمُوهُ بِالْعَمَلِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ إِجْمَاعِ الْأُصُولِ الَّذِي مَعْنَاهُ أَنْ يَتَّفِقَ جَمِيعُ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أُلُوفًا كَثِيرَةً لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ فَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ دَعْوَى الْعِلْمِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَيْهِ فِي زَمَنِهِ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ غَيْرُهُ.
وَمَا زَالَ أَهْلُ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ يَبْحَثُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ زُرْتُ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ فِي الْعِيدِ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَلْفَيْتُ عِنْدَهُ أَحْمَدَ فَتْحِي بَاشَا زُغْلُول الْعَالِمَ الْقَانُونِيَّ وَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ، وَأَنْ يُعْلَمَ بِهِ مَعَ عَدَمِ حَصْرِ أَهْلِهِ وَلَا تَعَارُفِهِمْ؟ وَرَأَيْتُ الْأُسْتَاذَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَافَقَهُ عَلَى اسْتِنْكَارِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ فِي الْإِجْمَاعِ هُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ الْعُلَمَاءُ النَّابِغُونَ الْمَوْثُوقُ بِهِمْ وَيَتَذَاكَرُوا فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا، وَيَكُونُ مَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَجْمَعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْعَقِدَ إِجْمَاعٌ آخَرُ مِنْهُمْ، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا حَسَنٌ لَوْ كَانَ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِجْمَاعِ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِمْ بَعْضُهُمْ وَلَا سَبِيلَ إِلَى اجْتِمَاعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَيَحْصُلُ الْمُرَادُ بِمَنْ يُمَثِّلُهَا وَهُمْ أُولُو الْأَمْرِ بِمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِرَارًا وَلَا بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ، وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلْ وَمَا أَجْمَعُوا هُمْ عَلَيْهِ إِذَا رَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّ وُجُوبَ طَاعَتِهِمْ لِأَجْلِ الْمُصْلِحَةِ، لَا لِأَجْلِ الْعِصْمَةِ
169
كَمَا قِيلَ فِي الْأُصُولِ، وَالْمَصْلَحَةُ تَظْهَرُ وَتَخْفَى وَتَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا غَيْرُ مَا حَظَرَهُ السَّلَفُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي كَانُوا يَعْنُونَ بِهِ مَا جَرَى عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَكَذَا التَّابِعُونَ مِنْ هَدْيِ الدِّينِ بِغَيْرِ خِلَافٍ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي رِسَالَتِهِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَرَى أَنَّ أَحْمَدَ كَانَ عَلَى هَذَا، وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَّفِقَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا يُعْزَى إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ سُكُوتٍ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي خَبَرِ الْقُرُونِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ؟.
وَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى دَعْوَى عَدَمِ جَوَازِ مُضَادَّةِ الْإِجْمَاعِ لِإِجْمَاعٍ قَبْلَهُ بِحَدِيثِ: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مَرْفُوعًا، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: لَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَجَاءَ الْمَرْفُوعُ بِلَفْظِ: سَأَلْتُ رَبِّي أَلَّا تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ وَأَعْطَانِيهَا وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا فِي إِجْمَاعِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِي لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَالْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ لَا يُعَدُّ ضَالًّا وَإِنَّمَا يُعَدُّ عَامِلًا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ خَطَأُ اجْتِهَادِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ وَيُصَلِّي عِدَّةَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ كَانَ خَطَأً، فَإِنَّ صِلَاتَهُ صَحِيحَةٌ، فَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا كَمَا تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ الْقَضَائِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الِاجْتِهَادُ الْعَامُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَذُكِرَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ مَضَادَّةَ الْإِجْمَاعِ لِإِجْمَاعٍ قَبْلَهُ فِيهِ خِلَافُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَصْرِيِّ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ مُغَيًّا بِوُجُودِ الثَّانِي، وَفِي الْمُسَوَّدَةِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيِّ قَالَ: يَجُوزُ تَرْكُ مَا ثَبَتَ وَجُوبُهُ بِالْإِجْمَاعِ إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، مِثْلَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ فِيهَا ـ أَيْ: وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ـ خَرَجَ مِنْهَا بَلْ وَجَبَ وَبِهِ قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُنْتَقَلُ مِنَ الْإِجْمَاعِ إِلَّا بِإِجْمَاعٍ مِثْلِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ مُخَالَفَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ غَيْرِ الْإِجْمَاعِ، وَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ
تَمَسُّكٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي مَدْلُولِ النَّصِّ، فَالْأَقْوَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ، اهـ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْقِيَاسُ الْأُصُولِيُّ:
عَرَّفَهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ ـ تَبَعًا لِلْبَاقِلَّانِيِّ ـ بِأَنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ لِمُسَاوَاتِهِ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ مُسَاوَاةُ فَرْعٍ الْأَصْلَ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، فَمَنَعَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُطْلَقًا، وَابْنُ عَبْدَانَ إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَمَنَعَ دَاوُدُ غَيْرَ الْجَلِيِّ مِنْهُ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالرُّخَصِ وَالتَّقْدِيرَاتِ، وَقَوْمٌ
170
فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ، وَقَوْمٌ فِي أُصُولِ الْعِبَادَاتِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَعَلَى الْأَخِيرِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَأَرْكَانُ الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةٌ:
١ - الْأَصْلُ الْمُشَبَّهُ بِهِ، أَيِ: الْمَقِيسُ عَلَيْهِ.
٢ - حُكْمُ الْأَصْلِ، قَالُوا: وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَثْبُتَ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ.
٣ - الْفَرْعُ الْمُشَبَّهُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْمَقِيسُ، وَمِنْ شَرْطِهِ وُجُودُ تَمَامِ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِيهِ.
٤ - الْعِلَّةُ، قَالُوا: وَهِيَ الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ.
أَقُولُ: وَفِيهَا مُعْتَرَكُ الْأَنْظَارِ، فَمِنْهَا مَا هُوَ بَدِيهِيٌّ كَكَوْنِ الْإِسْكَارِ هُوَ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَقْلٌ، وَلَا نَقْلٌّ، كَالْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا: الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَالطَّعْمُ، وَقَدِ اكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْعِلَّةِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ التَّشْبِيهِ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ حَتَّى يَجُوزَ الرَّدُّ وَالْحَمْلُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَلَا يَظْهَرُ حَمْلُ الْأَمْرِ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ عَلَى عَرْضِهِ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْعِلَلِ وَالتَّشْبِيهَاتِ الَّتِي لَا نَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابٍ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا هِيَ مُتَبَادَرَةٌ مِنْهُمَا، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ التَّنَازُعَ، بَلْ رُبَّمَا يَزِيدُهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَحْصُورًا فِي طَلَبِ النُّصُوصِ فِي نَفْسِ الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ مَا يَشْمَلُ رَدَّهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمَا أَوْ قَوَاعِدِهِمَا الْعَامَّةِ وَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ عِلَلِ الْأَحْكَامِ فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِلتَّنَازُعِ فِيهِ مَجَالٌ.
هَذَا وَالظَّاهِرُ مِنْ تَعْرِيفِ الْأُصُولِيِّينَ لِلِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَهُمُ الْإِحَاطَةُ بِمَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ كَافِيَةٌ لِمَا يَنْبَغِي الْعِلْمُ بِهِ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَقُضَاتِهِمْ، فَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ
يَسْأَلُونَ عَنِ السُّنَّةِ وَقَضَاءِ النَّبِيِّ مَنْ حَضَرَ وَلَا يَسْتَقْصُونَ فِي الطَّلَبِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا عَمِلُوا بِالرَّأْيِ الَّذِي مَنَاطُهُ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَأَصْحَابُهُ فِي وَاقِعَةِ الْوَبَاءِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِمَا عِنْدَهُ فِيهَا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَكِنَّ طَلَبَ النُّصُوصِ مِنَ الْكُتُبِ الْآنَ أَسْهَلُ مِنْ طَلَبِهِ مِنَ النَّاسِ قَبْلَ تَدْوِينِ الْحَدِيثِ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَلْ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ الطَّلَبِ التَّامِّ لِلنُّصُوصِ؟ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا ثَلَاثُ صُوَرٍ:
الْأُولَى: الْحُكْمُ بِهِ قَبْلَ طَلَبِهِ مِنَ النُّصُوصِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِلَا تَرَدُّدٍ.
الثَّانِيَةُ: الْحُكْمُ بِهِ قَبْلَ الطَّلَبِ مِنْ نُصُوصٍ لَا يَعْرِفُهَا مَعَ رَجَاءِ الْوُجُودِ لَوْ طَلَبَهَا، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْحَنَفِيَّةِ تَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ،
171
وَلِهَذَا جَعَلُوا الْقِيَاسَ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ، وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ التَّيَمُّمَ إِلَّا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ الْمَاءِ فَكَذَا النَّصُّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: مَا تَصْنَعُ بِالْقِيَاسِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُغْنِيكَ عَنْهُ! وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أُمٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ أَهْلِ الرَّأْيِ، لَكِنْ يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي طَلَبِ النُّصُوصِ وَطَلَبِ الْحُكْمِ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ بِحُضُورِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْحَنَفِيَّةِ هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ: وُجُودُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ النَّصِّ.
الثَّالِثَةُ: إِذَا أَيِسَ مِنَ الظَّفَرِ بِنَصٍّ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُهُ فَهُنَاكَ يَجُوزُ بِلَا تَرَدُّدٍ، اهـ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: بِنَاءُ اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ:
إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ اجْتِهَادَ أُولِي الْأَمْرِ هُوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا أَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ وَجَبَ عَلَى أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَعَلَى حُكَّامِهَا الْعَمَلُ بِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ خَاصٌّ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَنَا بِالْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ دُونَ الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ إِذَا لَمْ تُرْفَعْ إِلَى الْقَضَاءِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى عَلَى قَاعِدَةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَحِفْظِهَا وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَإِزَالَتِهَا، وَيَظُنُّ بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ أَنَّ جَعْلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَيِ - الْمُطْلَقَةِ - أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ خَاصٌّ بِالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّهَا عِنْدَ التَحْقِيقِ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا حَدِيثُ: لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّانِي عَنْ عُبَادَةَ،
وَعَلَّمَ السُّيُوطِيُّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْحُسْنِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَهَا دَلَائِلُ أُخْرَى أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا فِي مُحَاوَرَاتِ الْمُصْلِحِ وَالْمُقَلِّدِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَتَقْدِيمُ كُلِّ مَا فِيهِ الْيُسْرُ عَلَى الْأُمَّةِ وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ، التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِبَعْضِ النُّصُوصِ، وَهُوَ يَرْجِعُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى التَّعَارُضِ بَيْنَ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ مُؤَيَّدَةٌ بِهَا، وَقَلَّمَا تَرَى فِي الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَحْثًا مُشَبَّعًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا حَيَاةُ الشَّرِيعَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَإِنَّكَ لَتَرَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ لَا يُبَالُونَ بِتَقْدِيمِ نُصُوصِ عُلَمَاءِ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا تُحْفَظُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، فَمَا بَالُكَ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا تَوَسَّعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا تَوَسَّعَ فِيهَا نَجْمُ الدِّينِ الطُّوفِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ تُوُفِّيَ سَنَةَ ٧١٦ هـ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ نَشَرْنَا كَلَامَهُ فِي ذَلِكَ فِي الْمُجَلَّدِ الْعَاشِرِ مِنَ الْمَنَارِ، وَقَاعِدَتُهُ: أَنَّ الْمَصْلَحَةَ مُقَدَّمَةٌ حَتَّى عَلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ عَرَّفَهَا ـ بِحَسَبِ الْعُرْفِ ـ بِأَنَّهَا السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى الصَّلَاحِ وَالنَّفْعِ كَالتِّجَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الرِّبْحِ، وَبِحَسَبِ الشَّرْعِ: بِأَنَّهَا السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً، وَأَوْرَدَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا مِنَ الْقُرْآنِ سَبْعَةَ أَوْجُهٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
172
يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٠: ٥٧، ٥٨)، وَأَقُولُ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَائِلَ كَثِيرَةً أَصْرَحُ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَالْكَلَامُ فِي تَفْضِيلِ ذَلِكَ بِدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ يَطُولُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي كِتَابٍ خَاصٍّ، وَلَعَلَّنَا نُوَفَّقُ لِبَيَانِهِ فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ الَّتِي نُودِعُهَا كُلِّيَّاتِ فِقْهِ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتِهِ الْعُلْيَا.
عَلَى أَنَّ الطُّوفِيَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى وُجُوهِ تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ بَلْ ذَكَرَ دَلَائِلَ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَرَدَّ مَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَبَيْنَ مَا تَتَعَارَضُ بِهِ الْمَصَالِحُ، وَطُرُقَ التَّرْجِيحِ فِيهَا، فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ فِي الْمُجَلَّدِ الْعَاشِرِ (مِنَ الْمَنَارِ مِنْ ص ٧٤٥ - ٧٧٠).
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ـ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْجَمَاعَةِ بِمَعْنَى الْإِجْمَاعِ:
بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْإِجْمَاعِ الْأُصُولِيِّ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ، وَيُقَابِلُهُ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ اللَّذَانِ نَهَى الله عَنْهُمَا وَرَسُولُهُ نَهْيًا شَدِيدًا.
وَمِنَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ حَتَّى يُرَاجِعَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَامُ جَمَاعَةٍ فَإِنَّ مَوْتَتَهُ مَوْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَبِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بِلَفْظِ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ فَارَقَ الْإِسْلَامَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ أَيْضًا بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ: يَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَرْفَجَةَ بِزِيَادَةِ: " وَالشَّيْطَانُ مَعَ مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ " وَحَدِيثُ: " لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ أَبَدًا، وَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ " رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ ذِكْرُ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ مِنْهُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: " بَابُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ "، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُصَحَّحًا مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ: وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ أَمَرَنِي اللهُ بِهِنَّ: السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ، وَالْجِهَادُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجَمَاعَةُ ; فَإِنَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، وَفِي خُطْبَةِ عُمَرَ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي خَطَبَهَا فِي الْجَابِيَةِ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
173
مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُرَادُ الْبَابِ الْحَضُّ عَلَى الِاعْتِصَامِ بِالْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (٢: ١٤٣)، وَشَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ، وَقَدْ ثَبَتَتْ
لَهُمْ هَذِهِ الصِّفَةُ بِقَوْلِهِ: وَسَطًا وَالْوَسَطُ الْعَدْلَ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ كُلِّ عَصْرٍ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ مُتَابَعَةُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - أَيِ الْبُخَارِيِّ - وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالْآيَةُ الَّتِي تَرْجَمَ عَلَيْهَا احْتَجَّ بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُمْ عَدَلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، أَيْ عُدُولًا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ عُصِمُوا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ فِي الْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ: " عُصِمُوا " إِلَخْ، مَمْنُوعٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
أَقُولُ: إِنَّ التَّعْدِيلَ لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُمَثِّلُ الْأُمَّةَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُنَاطُ بِهِمْ أَمْرُهَا وَيَجِبُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوهُ وَعَزَمُوهُ لَا الْمُجْتَهِدُونَ، خَاصَّةً الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ جُمْهُورُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْأُصُولِ الَّذِينَ قَدْ يَكُونُونَ رَجُلَيْنِ حُرَّيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ، فَإِنَّ هَذَيْنِ أَوْ هَاتَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِمَا نَصُّ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا فَلِلَّهِ دَرُّ ابْنِ بَطَّالٍ فَقَدْ جَاءَ بِالْحَقِّ، وَمَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (٤٢: ٣٨)، مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ: وَكَانَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وُضِعَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَذَكَرَ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِشَارَةٍ عَمَلًا بِالنَّصِّ، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابُ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ اهـ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أُولِي الْأَمْرِ:
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ، قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَاعَةُ الْأُمَّةِ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا قِيَامَتُهَا أَيْ: تَدُولُ دَوْلَتُهَا عَلَى حَدِّ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ، وَفِي " إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ ": أَنَّ الْقِيَامَةَ قِيَامَتَانِ الْقِيَامَةُ الصُّغْرَى وَهِيَ قِيَامَةُ أَفْرَادِ النَّاسِ بِالْمَوْتِ، وَالْقِيَامَةُ الْكُبْرَى وَهِيَ قِيَامَتُهُمْ كُلِّهِمْ بِانْتِهَاءِ هَذَا الْعَالَمِ وَالدُّخُولِ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قِيَامَةَ الْجَمَاعَاتِ
كَقِيَامَةِ الْأَفْرَادِ، وَالتَّجَوُّزُ بِالسَّاعَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِنَ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْقِيَامَةِ ; فَإِنَّ الْقِيَامَةَ مِنَ الْقِيَامِ، وَهِيَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٣: ٦)، وَأَمَّا السَّاعَةُ فَهِيَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ مُطْلَقًا، وَلَا يَزَالُ النَّاطِقُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ: جَاءَتْ سَاعَةُ فُلَانٍ، أَوْ جَاءَ وَقْتُهُ، وَالْقَرِينَةُ تُعَيِّنُ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْوَقْتِ وَتِلْكَ
174
السَّاعَةِ، وَإِنَّ خُرُوجَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ يَدِ أَهْلِهِ ـ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ كَمَا يَجِبُ ـ سَبَبٌ لِفَسَادِ أَمْرِهِمْ وَمُدْنٍ لِلسَّاعَةِ الَّتِي يَهْلِكُونَ فِيهَا بِالظُّلْمِ، أَوْ بِخُرُجِ الْأَمْرِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ رَاجَعْتُ مُفْرِدَاتِ الرَّاغِبِ فَرَأَيْتُ لَهُ فِي تَفْسِيرِ السَّاعَاتِ تَقْسِيمًا ثُلَاثِيًّا: السَّاعَةُ الْكُبْرَى بَعْثُ النَّاسِ لِلْحِسَابِ، وَالْوُسْطَى مَوْتُ أَهْلِ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ، وَالصُّغْرَى مَوْتُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، وَحُمِلَ عَلَى الْأَخِيرِ بَعْضُ الْآيَاتِ.
تَوْسِيدُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَمْرَهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِاخْتِيَارِهَا، وَهِيَ عَالِمَةٌ بِحُقُوقِهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَعْلِهَا حَيْثُ جَعَلَهَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُسْلِبُهَا الْمُتَغَلِّبُونَ هَذَا الْحَقَّ بِجَهْلِهَا وَعَصَبِيَّتِهِمُ الَّتِي يَعْلُو نُفُوذُهَا نُفُوذَ أُولِي الْأَمْرِ، حَتَّى لَا يَجْرُؤَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، أَوْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلسَّجْنِ أَوِ النَّفْيِ أَوِ الْقَتْلِ.
هَذَا مَا كَانَ وَهَذَا هُوَ سَبَبُ سُقُوطِ تِلْكَ الْمَمَالِكِ الْوَاسِعَةِ، وَذَهَابِ تِلْكَ الدُّوَلِ الْعَظِيمَةِ وَوُقُوعِ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ وِصَايَةِ الدُّوَلِ الْعَزِيزَةِ، الَّتِي لَمْ تَعْتَزَّ وَتَقْوَ إِلَّا بِجَعْلِ أَمْرِهَا بِيَدِ الْأُمَّةِ، وَتَوْسِيدِ هَذَا الْأَمْرِ إِلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي تَرَكَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ إِرْشَادِ دِينِهِمْ، وَمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ تَرْكُ أُصُولِ الشُّورَى وَتَقْدِيسِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ إِلَّا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ بَعْدَ أَنْ حَجَبُوا الْأُمَّةَ عَنْ كِتَابِ رَبِّهَا وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا فَجَهِلَتْ حُقُوقَهَا، ثُمَّ أَفْسَدُوا عَلَيْهَا بَعْضَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهَا، وَأَسْقَطُوا قِيمَةَ الْآخَرِينَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَكَايِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
نَعَمْ، كَانَ الْجَهْلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الَّذِي مَكَّنَ لِأَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّدْرِيجِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْعَصَبِيَّةِ قَرِيبًا مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي احْتِرَامِ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ لِدِينِهِمْ وَعِلْمِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَقْوَى الْعَصَبِيَّةُ عَلَيْهِمْ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَخْبَارِ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ بَعْدَهُ، دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجِيرُ، فَقَالُوا: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ
أَيُّهَا الْأَجِيرُ، فَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ وَأَعَادَ قَوْلَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، وَنَظَمَ ذَلِكَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّي فَقَالَ:
مُلَّ الْمُقَامُ فَكَمْ أُعَاشِرُ أُمَّةً أَمَرَتْ بِغَيْرِ صَلَاحِهَا أُمَرَاؤُهَا
ظَلَمُوا الرَّعِيَّةَ وَاسْتَجَازُوا كَيْدَهَا فَعَدَوْا مَصَالِحَهَا وَهُمْ أُجَرَاؤُهَا
وَقَدْ عُنِيَ الْمُلُوكُ الْمُسْتَبِدُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَذْبِ الْعُلَمَاءِ إِلَيْهِمْ بِسَلَاسِلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرُّتَبِ وَالْمَنَاصِبِ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ أَشَدَّ انْجِذَابًا، وَقَضَى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.
وَضَعَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الرَّسْمِيُّونَ قَاعِدَةً لِأُمَرَائِهِمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ هَدَمُوا بِهَا الْقَوَاعِدَ الَّتِي قَامَ بِهَا أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ كَالْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ فَاقِدِينَ لِلشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَاشْتِرَاطِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِنْ صَرَّحَ
175
بِهَا أَئِمَّةُ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ، قَالُوا: يَجُوزُ إِذَا فَقَدَ الْحَائِزُونَ لِتِلْكَ الشُّرُوطِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمُ الْعِلْمُ الِاسْتِقْلَالِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِجَوَازِ تَقْلِيدِ الْجَاهِلِ ـ أَيِ: الْمُقَلِّدِ ـ وَعَدُّوهُ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَأَطْلَقَ الْكَثِيرُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَذَلِكَ مِنْ تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ الَّذِي يُقَرِّبُ خُطُوَاتِ سَاعَةِ هَلَاكِ الْأُمَّةِ، وَمِنْ عَلَامَاتِهَا ذَهَابُ الْأَمَانَةِ وَظُهُورُ الْخِيَانَةِ، وَلَا خِيَانَةَ أَشَدُّ مِنْ تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى الْجَاهِلِينَ، رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنِ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، وَأَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي تَوْسِيدِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ مُقَدِّمَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ انْتَظِرِ السَّاعَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا إِضَاعَتُهَا؟ فَقَالَ: " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
أَطْلَقَ أَعْوَانُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْقَوْلَ بِجَوَازِ تَوْلِيَةِ الْجَاهِلِ، وَكَذَا فَاقِدُ غَيْرِ الْعِلْمِ مِنْ شُرُوطِ الْوِلَايَاتِ كَالْعَدَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ يُصَرِّحِ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ ضَرُورَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ إِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ إِقَامَةِ أَمْرِ دِينِهَا أَوْ دُنْيَاهَا أَنْ تَسْعَى فِي إِقَامَتِهِ، وَمَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُحَقِّقِينَ ذَهَبَ قَوْلُهُ فِي الْجُمْهُورِ الْجَاهِلِ عَبَثًا، وَالْأُمَّةُ كُلُّهَا تَكُونُ آثِمَةً إِذَا فَقَدَ أُولُو الْأَمْرِ وَالْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ مَا يَجِبُ
فِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَيَجِبُ عَلَيْهَا السَّعْيُ وَالْعَمَلُ لِإِيجَادِ الصَّالِحِينَ لِذَلِكَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ أَمْرَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي تَحْكُمُ بِفَقْدِ تِلْكَ الشُّرُوطِ كُلِّهَا، أَوْ بَعْضِهَا وَتُقَدِّرُهُ بِقَدْرِهِ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِهِ: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ: الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُتَوَلِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا، أَوِ الْوَاجِبُ تَوْلِيَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ، إِذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يَكْمُلَ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إِلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا ; لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا اهـ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا وُسِّدَ أَمْرُ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا بِجَهْلِ أُولِي الْأَمْرِ وَضَعْفِهِمْ، ثُمَّ بِإِفْسَادِ الْأُمَرَاءِ لَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ وَتُعِيدَ إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ لِيُعِيدُوا إِلَيْهَا حَقَّهَا.
176
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ:
اسْتَدَلَّ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِالْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهَا غَيْرُهُمْ عَلَى إِثْبَاتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَوَجْهُ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بَرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، أَيْ: إِلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مَشْرُوعًا لَقَالَ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَقِيسُوهُ عَلَى أَشْبَاهِهِ أَوْ نَحْوًا مِنْ هَذَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَصًّا أُصُولِيًّا فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَا فِي مَنْعِهِ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ، أَمَّا كَوْنُهَا لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَاسِ، فَلِمَا بَيَّنَاهُ مِنْ جَوَازِ التَّنَازُعِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ قَبْلَ عِلْمِ الْمُتَنَازِعِينَ بِهِ، فَإِذَا تَحَرَّوْا رَدَّ الْمَسْأَلَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِغَيْرِ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا
لَيْسَتْ نَصًّا عَلَى مَنْعِهِ فَلِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إِذَا حُمِلَ عَلَى مُمَاثِلِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ مَعَ عِلَّتِهَا بِالنَّصِّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُدَّ إِلَى ذَلِكَ النَّصِّ.
نَعَمْ، إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ عَلَى أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ ـ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ ـ كَمَا نَرَاهُ كَثِيرًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، يَقُولُونَ: هَذَا جَائِزٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِمْ كَذَا، وَمِثْلُهُ الْقِيَاسُ بِالْعِلَلِ الْمُنْتَزَعَةِ عَنْ بُعْدٍ بِالتَّمَحُّلِ الَّذِي يُوجَدُ فِي النَّصِّ مَا يَنْفِيهِ وَلَا يُوجَدُ مَا يُثْبِتُهُ، وَمِنْهُ قِيَاسُ الدَّمِ عَلَى الْبَوْلِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا قِيَاسًا صَحِيحًا لَمَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَتَوَفَّرَتْ فِيهِ النُّصُوصُ لِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ فِيهِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الدِّمَاءَ كَانَتْ تَسِيلُ كَثِيرًا مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَجْسَادِ الطَّاهِرَةِ؛ دِفَاعًا عَنِ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَإِعْلَاءً لِكَلِمَةِ الْحَقِّ، وَفِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقِيَاسِ وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَقَدْ قَاسَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَتَبِعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ.
وَلَا يُعَارِضُ ثُبُوتَ الْقِيَاسِ الْعَمَلُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقِيَاسَ فِي الدِّينِ بَاطِلٌ بِنَصِّ الْأَحَادِيثِ وَالْقُرْآنِ، أَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا حَدِيثُ: مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ، وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ بِلَفْظِ: ذَرُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَحَدِيثُ: إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ نَصِّ الشَّارِعِ، وَأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ أَلَّا تَكُونَ تَكَالِيفُهَا كَثِيرَةً، فَتَكْثِيرُهَا بِقِيَاسِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ مُخَالِفٌ لِمَا أَرَادَهُ اللهُ فِيهَا مِنَ الْيُسْرِ، وَلِنُصُوصِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ عُمُومِ الْقُرْآنِ ; إِذِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا كَانَ إِلَّا مُبَيِّنًا
177
لِلْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا
قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (٥: ١٠١، ١٠٢)، وَالتَّعْبِيرُ بِالْعَفْوِ وَتَأْكِيدُهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْحِلْمِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ شَبِيهًا بِالْمَنْصُوصِ، بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ حِينَ كَانَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ ـ أَيْ وَقْتَ شُرِّعَ الدِّينُ لَكَانَ الْجَوَابُ إِلْحَاقَهُ بِالْمَنْصُوصِ وَزِيَادَةَ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَإِنَّمَا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ عَفْوًا مِنْهُ تَعَالَى وَرَحْمَةً بِنَا، وَلِنُفَاةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَقُولُوا: وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ، وَتَفْسِيرُ رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِهِ بَاطِلٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ وَالْأَحَادِيثَ خَاصَّةٌ بِأَمْرِ الدِّينِ الْمَحْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِحَيْثُ يَزِيدُ فِيهَا عِبَادَةً، أَوْ يُحَرِّمُ شَيْئًا لَا يَدُلُّ النَّصُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَجَرَّأَ عَلَيْهِ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، فَكَمْ قَالُوا ـ وَلَا نَزَالُ نَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ ـ هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ، بِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ وَالتَّهَجُّمَ عَلَى شَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إِلَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يَأْخُذُ الْإِسْلَامَ عَنْهُمْ يَرَاهُ غَيْرَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الْيُسْرِ وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ، يَرَاهُ دِينًا لَا يَكَادُ يُحْتَمَلُ مِنْ شِدَّةِ الضِّيقِ وَالْعُسْرِ وَكَثْرَةِ التَّكَالِيفِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي قَدْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ بِهِ فَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ الَّتِي فَوَّضَ اللهُ تَعَالَى الِاجْتِهَادَ فِيهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ ; لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ كُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا بِالنُّصُوصِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي زَعْمِ بَعْضِ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَظْهَرُ مِنْ سَابِقَتِهَا فِي جَعْلِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى ضِدِّ الْمُرَادِ مِنْهَا فَإِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِأَرْكَانِ الِاجْتِهَادِ وَشَارِعَةٌ لَهُ، وَقَدْ جَعَلَهَا بَعْضُ الْجَاهِلِينَ حُجَّةً عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ، فَزَعَمُوا أَنَّ تَفْسِيرَ أُولِي الْأَمْرِ بِالْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّ الَّذِينَ فَسَّرُوا بِذَلِكَ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، لَا أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ مُجْتَهِدٍ يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ، فَإِنَّ طَاعَةَ أَفْرَادِ الْمُجْتَهِدِينَ تَتَعَارَضُ بِاخْتِلَافِهِمْ، وَطَاعَةَ الْجَمِيعِ إِذَا أَجْمَعُوا هِيَ الْمُمْكِنَةُ، عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ غَيْرُ الِاتِّبَاعِ، قَالَ صَاحِبُ " فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ " مَا نَصُّهُ:
" وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُقَلِّدَةُ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالُوا: وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ـ أَيْ مَعًا ـ وَلَكِنْ أَيْنَ هَذَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ الْمُقَلِّدِينَ؟ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا إِذَا أَمَرُوا بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى وَفْقِ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ،
178
وَأَيْضًا الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا أَرْشَدُوا غَيْرَهُمْ إِلَى تَرْكِ تَقْلِيدِهِمْ، وَنَهَوْهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَطَاعَتُهُمْ تَرْكُ تَقْلِيدِهِمْ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ فِي الْعُلَمَاءِ مَنْ يُرْشِدُ النَّاسَ إِلَى التَّقْلِيدِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ لَكَانَ يُرْشِدُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا طَاعَةَ لَهُ بِنَصِّ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى وَفْقِ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَرْشَدَ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ الْحُجَجَ، وَلَا يَعْرِفُونَ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّقْلِيدِ كَانَ هَذَا الْإِرْشَادُ مِنْهُ مُسْتَلْزِمًا لِإِرْشَادِهِمْ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ آرَاءِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَهُمْ، فَمَا عَمِلُوا بِهِ عَمِلُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ لَمْ يَعْمَلُوا، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى كِتَابٍ وَسُنَّةٍ، بَلْ مِنْ شَرْطِ التَّقْلِيدِ الَّذِي أُصِيبُوا بِهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ إِمَامِهِ رَأْيَهُ وَلَا يُعَوِّلَ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَلَا يَسْأَلَهُ عَنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَإِنْ سَأَلَهُ عَنْهُمَا خَرَجَ عَنِ التَّقْلِيدِ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُطَالَبًا بِالْحُجَّةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْأَمْرُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةِ الَّذِينَ يَضَعُونَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَعْظَمُ مِمَّا قَالَ، وَالْجَمَاهِيرُ مُتَّبِعَةٌ لَهُمْ مَعَ نَقْلِهِمُ الْإِجْمَاعَ الَّذِي لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ جَاهِلٌ لَا رَأْيَ لَهُ وَلَا يُؤْخَذُ بِكَلَامِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَهَافُتَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ـ مَرَاتِبُ الطَّاعَاتِ الثَّلَاثُ فِي الْآيَةِ وَنُكْتَةُ تَكْرَارِ لَفْظَةِ الطَّاعَةِ:
قَدْ رَأَى الْقَارِئُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي نُكْتَةِ تَكْرَارِ لَفْظِ أَطِيعُوا فِي جَانِبِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دُونَ أُولِي الْأَمْرِ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّكْتَةُ ظَاهِرَةً عِنْدِي، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ مَعَ تَكْرَارِ لَفْظِ الطَّاعَةِ وَعَدَمِهِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا عَسِيرَةٌ، فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ فَرْقٌ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ فَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِعَادَةَ كَلِمَةِ أَطِيعُوا تَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ الطَّاعَتَيْنِ، كَأَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى طَاعَةَ مَا نَزَّلَ اللهُ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَالثَّانِيَةُ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَقَدْ يُؤَيِّدُ هَذَا الْفَهْمَ مَا وَرَدَ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ فِي الْقَضِيَّةِ يُنْظَرُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيَقْضِي بِمَا فِيهَا، وَهَذَا مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُعَاذًا حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَقُضَاتُهُمْ وَعُمَّالُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَعَبَّرْنَا عَنْهَا بِالْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ، وَعَطَفَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ أَطِيعُوا لِأَنَّهُمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَيْ: إِنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِي اجْتِهَادِهِمْ بَدَلٌ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي اجْتِهَادِهِ وَحَالَّةٌ مَحَلَّهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، لَا لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ كَعِصْمَتِهِ، بَلْ لِأَنَّ الْمُصْلَحَةَ وَارْتِقَاءَ الْأُمَّةِ وَسَلَامَتَهَا مِنَ الِاسْتِبْدَادِ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا أَعَدْنَاهُ لِنُذَكِّرَ النَّاسَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأُصُولِيِّينَ لَمْ يَقُولُوا بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي اجْتِهَادِهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ شَيْئًا مِمَّا عَاتَبَهُمْ فِيهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِمْ وَلَمْ يُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ لِخَلَفِهِمْ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمَزِيَّةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ؟
179
وَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ مِنْ جَعْلِ السُّنَّةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَجَّحُ دَائِمًا عِنْدَ التَّعَارُضِ.
هَذَا مَا فُتِحَ بِهِ عَلَيْنَا عِنْدَ طَبْعِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَكِيمَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَجَلَّى بِهِ مَعْنَاهَا، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ طَاعَةُ اللهِ بِالْعَمَلِ بِكِتَابِهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَطَاعَةُ جَمَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ ـ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَرُؤَسَائِهَا الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَهَا ـ فِيمَا يَضَعُونَهُ لَهَا بِالشُّورَى مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، وَالْقَضَائِيَّةِ، وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَمِنْهَا الصِّحِّيَّةُ وَالْعَسْكَرِيَّةُ، وَإِذَا وَقَعَ التَّنَازُعُ بَيْنَ أُولِي الْأَمْرِ، أَوْ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَجَمَاعَاتِهَا فِي شَيْءٍ فَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِعَرْضِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يَظْهَرُ لِلْمُتَنَازِعِينَ أَوْ لِمَنْ يُحَكِّمُونَهُمْ فِي فَصْلِ النِّزَاعِ مِنَ النُّصُوصِ، أَوْ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ الْعَامَّةِ فِيهِمَا أَوِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ فِيهِمَا، وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَ الرَّازِيِّ وَالنَّيْسَابُورِيِّ: إِنَّ هَذَا الرَّدَّ خَاصٌّ بِمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إِجْمَاعَ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّنَازُعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُتَنَازِعُونَ، كَمَا اخْتَلَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى عُمَرَ فِي الدُّخُولِ
عَلَى مَكَانِ الطَّاعُونِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ الَّذِي رَوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَلَوْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَبْلَ تَحْكِيمِ عُمَرَ لِمَشَايِخِ قُرَيْشٍ، وَرَوَى لَهُمُ الْحَدِيثَ لَعَمِلُوا بِهِ وَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى التَّحْكِيمِ، فَلْيَتَأَمَّلِ الْمُسْتَقِلُّونَ مَا حَقَّقْنَاهُ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(تَنْبِيهٌ) : تَكَرَّرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ " النَّصِّ " مُعَرَّفًا وَمُضَافًا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمَعْنَى عِبَارِتِهِمَا لَا النَّصِّ الْأُصُولِيِّ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا.
180
قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ فِيهِ، فَتَنَافَرَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، أَوْ سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ الْجُلَاسُ بْنُ الصَّامِتِ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَرَافِعُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِشْرٌ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ فَدَعَاهُمْ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْكُهَّانِ حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: " كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَرَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ خُصُومَةٌ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أُحَاكِمُكَ إِلَى أَهْلِ دِينِكَ، أَوْ قَالَ: إِلَى النَّبِيِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ فَاخْتَلَفَا، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْتِيَا كَاهِنًا فِي جُهَيْنَةَ فَنَزَلَتْ " اهـ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْيَهُودَ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إِلَخْ، وَذَكَرَ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ مَا ذَكَرَ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ قَدْ خَانُوا بِجَعْلِهِمُ الْكَافِرِينَ أَهْدَى سَبِيلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِيمَا يُجْمِعُونَ عَلَيْهِ مُخْتَارِينَ لَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَبِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فِي مُقَابَلَةِ طَاعَةِ أُولَئِكَ لِلطَّاغُوتِ وَإِيمَانِهِمْ بِهِ، وَبِالْجِبْتِ وَاتِّبَاعِهِمْ لِلْهَوَى.
وَبَعْدَ هَذَا بَيَّنَ لَنَا حَالَ طَائِفَةٍ أُخْرَى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا، وَمِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ امْتِثَالُ مَا أُمِرَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ الَّذِي عَلَيْهِ تِلْكَ الطَّائِفَةُ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَسْبَابًا مُتَعَدِّدَةً لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَمْنَعُنَا اخْتِلَافُهَا وَتَشَتُّتُ رِوَايَتِهَا أَنْ نَجْزِمَ بِوَاحِدَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا نَسْتَرْشِدُ بِمَجْمُوعِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ " الطَّاغُوتَ " مَصْدَرُ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَنْ جَاءَتِ الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ بِالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِمْ كَمَا قَرَأْتَ آنِفًا، وَمَنْ قَصَدَ التَّحَاكُمَ إِلَى أَيِّ حَاكِمٍ يُرِيدُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِالْبَاطِلِ وَيَهْرُبَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالطَّاغُوتِ، وَلَا كَذَلِكَ الَّذِي يَتَحَاكَمُ إِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ، وَكُلُّ مَنْ يُتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِمَّنْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ رَاغِبٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الطَّاغُوتِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الطُّغْيَانِ الْكَثِيرِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ تَحَاكُمِ الْمُتَخَاصِمِينَ إِلَى الدَّجَّالِينَ كَالْعَرَّافِينَ وَأَصْحَابِ الْمَنْدَلِ وَالرَّمْلِ وَمُدَّعِي الْكَشْفِ، وَيَخْرُجُ الْمُحَكَّمُ فِي الصُّلْحِ، وَكُلُّ مَا أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ.
181
أَقُولُ: وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ اسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٍ مِنْ أَمْرِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَيَأْتُونَ بِمَا يُنَافِي الْإِيمَانَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ وَأَحْوَالُ الْأُمَمِ تَكُونُ مُتَشَابِهَةً؛ لِأَنَّهَا مَظْهَرُ أَطْوَارِ الْبَشَرِ، فَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ بِكُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ يَقْتَضِي الِاتِّبَاعَ وَالْعَمَلَ بِمَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ تِلْكَ الرُّسُلِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ رَاسِخٍ فِي نَفْسِ مُدَّعِيهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْعَمَلُ بِضِدِّ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى؟ هَكَذَا كَانَ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ جَمِيعُ الْيَهُودِ حَتَّى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ وَيُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَهَكَذَا كَانَ فِي مُسْلِمِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أَنْزِلُ إِلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَرْغَبُونَ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَهَكَذَا شَأْنُ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ لَا يَكُونُونَ كُلُّهُمْ عُدُولًا صَادِقِينَ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَلَا يَكُونُونَ كُلُّهُمْ مُنَافِقِينَ أَوْ فَاسِقِينَ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَأَوُا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانُوا عُدُولًا، وَالْقُرْآنُ يَصِفُ بَعْضَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُسَجِّلُ عَلَى بَعْضِهِمُ النِّفَاقَ.
وَالزَّعْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقَوْلُ وَالدَّعْوَى، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا أَمْ بَاطِلًا، قَالَ أُمُيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي شِعْرٍ لَهُ:
سَيُنْجِزُكُمْ رَبُّكُمْ مَا زَعَمَ
، يُرِيدُ مَا وَعَدَ، وَأَرَى أَنَّ الْقَافِيَةَ اضْطَرَّتْهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَرْفِ هُنَا، وَمَا هُوَ بِمَكِينٍ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، وَقَالَ اللَّيْثُ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ إِذَا قِيلَ: ذَكَرَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يُسْتَيْقَنُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِذَا شَكَّ فِيهِ فَلَمْ يَدِرْهُ لَعَلَّهُ كَذِبٌ أَوْ بَاطِلٌ، قِيلَ: زَعَمَ فُلَانٌ كَذَا، وَقِيلَ: الزَّعْمُ الظَّنُّ، وَقِيلَ: الْكَذِبُ، وَكُلُّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ بِنَظَرِ الْقَائِلِ إِلَى بَعْضِ كَلَامِ الْعَرَبِ دُونَ بَعْضٍ، وَالَّذِي يَنْظُرُ فِي مَجْمُوعِ اسْتِعْمَالَاتِهَا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيمَا لَا يُجْزَمُ بِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الزَّعْمُ حِكَايَةُ قَوْلٍ يَكُونُ مَظَنَّةً لِلْكَذِبِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَمُّ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَزِيدُ عَلَيْهِ فِي بَيَانِهَا، قَالَ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ (٦٤: ٧)، وَقَالَ: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ
مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦: ٩٤)، وَقَالَ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ، فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (١٧: ٥٦)، وَقَالَ: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (١٨: ٥٢)، وَبَقِيَ آيَاتٌ أُخْرَى مُسْتَعْمَلَةً هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، فَلُغَةُ الْقُرْآنِ أَنَّ الزَّعْمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الزَّاعِمِينَ وَلَا يُقِرُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ.
وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أَيْ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
182
يَكْفُرُوا بِهِ فِي التَّنْزِيلِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ، فَهَذَا التَّنْزِيلُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِنَصِّ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (١: ٣٦)، الْآيَةَ، وَهِيَ نَصٌّ فِي أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ أَتْبَاعَهُ بِاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى (٢: ٢٥٦)، إِلَخْ الْآيَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ تَدَّعِي أَلْسِنَتُهُمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ، وَتَدُلُّ أَفْعَالُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَإِيمَانِهِمْ بِالطَّاغُوتِ وَإِيثَارِهِمْ لِحُكْمِهِ.
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّ الشَّيْطَانَ ـ الَّذِي هُوَ دَاعِيَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ ـ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَقِّ مَسَافَةً بَعِيدَةً فَيَكُونَ ضَلَالُهُمْ عَنْهُ مُسْتَمِرًّا؛ لِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ بُعْدِهِمْ عَنْهُ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ.
قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَحَاكِمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ؟ قَالَ: تِلْكَ عُقُوبَةٌ عُوقِبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ خَرَجُوا عَنْ هِدَايَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ فَإِذَا كُنَّا قَدْ تَرَكْنَا هَذِهِ الْهِدَايَةَ لِلْقِيلِ وَالْقَالِ وَآرَاءِ الرِّجَالِ مِنْ قَبْلِ أَنْ نُبْتَلَى بِهَذِهِ الْقَوَانِينِ وَمُنَفِّذِيهَا، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ آرَاءِ فُلَانٍ وَآرَاءِ فُلَانٍ وَكُلُّهَا آرَاءٌ مِنْهَا الْمُوَافِقُ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهَا الْمُخَالِفُ لَهَا؟ وَنَحْنُ الْآنَ مُكْرَهُونَ عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى يُقَالُ فِيهِ، أَيْ: فِي أَهْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ (١٦: ١٠٦)، الْآيَةَ، وَانْظُرْ إِلَى مَا هُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْنَا
إِلَى الْآنَ كَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ الْوَالِدِينَ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ فَهَلْ نَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؟ إِذَا تَنَازَعَ عَالِمَانِ مِنَّا فِي مَسْأَلَةٍ، فَهَلْ يَرُدَّانِهَا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ أَمْ يَرُدَّانِهَا إِلَى قِيلٍ وَقَالَ؟ فَهَذَا يَقُولُ: قَالَ الْحَمَلُ، وَهَذَا يَقُولُ: قَالَ الصَّاوِي، وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، انْتَهَى مَا كَتَبَهُ عَنْهُ فِي الدَّرْسِ وَكَتَبْتُ فِي آخِرِهِ يَوْمَئِذٍ " يُحَرَّرُ الْمَوْضُوعُ " وَمُرَادُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ مَعَ وُجُودِ نَصٍّ فِيهَا مِمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ، أَوْ مَا قَضَى بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ تَرَكُوا مَا جَرَى عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ النَّظَرِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ فِي كِتَابِ اللهِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ وَفِي رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَيْهِمَا، بَلْ عَمِلُوا بِآرَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ، وَيُسَمُّونَهُمْ عُلَمَاءَ مَذَاهِبِهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ نَصُّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مُخَالِفًا لَهُ، وَيُحَرِّمُونَ الرُّجُوعَ إِلَى هَذِهِ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاجْتِهَادِ الْمَمْنُوعِ عِنْدَهُمُ الَّذِي يُعَدُّ الْمُتَصَدِّي لَهُ ضَالًّا مُضِلًّا فِي نَظَرِهِمْ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ اجْتِنَابُ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَرَأْيٍ أَنْ سَلِسَ الْمُسْلِمُونَ لِحُكَّامِهِمْ فِي مِثْلِ مِصْرَ، حَتَّى انْتَقَلُوا بِهِمْ مِنَ الْحُكْمِ يَقُولُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِنَ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَهْلَ الْفِقْهِ وَيَأْخُذُونَ بِمَا فِي كُتُبِهِمُ ابْتِدَاءً ـ وَافَقَ
183
نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمْ خَالَفَهَا ـ إِلَى الْحُكْمِ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ وَاضِعِي الْقَوَانِينِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَحَاكِمُونَ إِلَى رِجَالِ الْقَانُونِ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْآنَ أَقْدَرُ عَلَى تَحْكِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِي مَحَاكِمِهِمُ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْكِيمِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ ; لِأَنَّهُمْ فِي هَذَا تَحْتَ سَيْطَرَةِ الْأَجَانِبِ الْأَقْوِيَاءِ، وَأَمَّا فِي ذَاكَ فَلَيْسُوا تَحْتَ سَيْطَرَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، فَإِذَا أَرَادَ عُلَمَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِيهِمْ ذَلِكَ نَفَذَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ وَالَّذِينَ يَضَعُونَ هَذِهِ الْقَوَانِينَ الْمِصْرِيَّةَ يُوَافِقُونَ فِي أَكْثَرِهَا الشَّرْعَ وَيَبْنُونَ رَأْيَهُمْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ بِحَسَبِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُلْصِقُونَ رَأْيَهُمْ بِالشَّرْعِ كَالْفُقَهَاءِ، وَمُرَاعَاةُ الْمُصْلِحَةِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي الْمَنْصُوصِ وَفِي الْمَوْكُولِ إِلَى الرَّأْيِ، وَالنَّاسُ يَقْبَلُونَ آرَاءَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْفِقْهِ، وَلَوْ فِيمَا يُخَالِفُ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; لِأَنَّهُمْ يُلْصِقُونَهَا بِالشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ يَدَّعُونَ أَنَّهَا اجْتِهَادٌ صَحِيحٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَكِنْ لَا اجْتِهَادَ مَعَ النَّصِّ، وَرُبَّمَا كَانَ
الْعَامِلُ بِالرَّأْيِ ـ لَا يُسَمِّيهِ دِينًا ـ أَقَلَّ جِنَايَةً عَلَى الشَّرْعِ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ يُسَمِّيهِ دِينًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا قَوْلَ أَحَدٍ، أَوْ يَعْمَلُوا بِرَأْيِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ حُكْمٌ فِي كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الثَّابِتَةِ، إِلَّا فِيمَا رَخَّصَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ، وَمَا لَا حُكْمَ فِيهِمَا فَالْعَمَلُ فِيهِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِشَرْطِهِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ دَائِمًا بِرَأْيِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ لِكُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، هَذَا هُوَ مَا كَانَ يُرِيدُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْعِبَارَةِ الَّتِي قَالَهَا فِي دَرْسِهِ بِالْأَزْهَرِ، وَمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ، نَعَمْ إِنَّ مَنْ يَضَعُونَ الْأَحْكَامَ لِمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُشْتَرَطُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِالنُّصُوصِ وَمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَعِلَلِهَا حَتَّى لَا يُخَالِفُوهَا وَلِيَتَيَسَّرَ لَهُمْ رَدُّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَيْهَا، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ بِهَذَا أَيْضًا.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ نِفَاقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِ كِتَابِ اللهِ، وَحُكْمِ رَسُولِهِ إِلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَحُكْمُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا مَا بُيِّنَتِ الدَّعْوَى عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِهِ بِشَرِيعَتِهِ فَقَدْ يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ بِجَهْلِ الْقَاضِي بِالْحُكْمِ، أَوْ بِتَطْبِيقِهِ عَلَى الدَّعْوَى، يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ لِنَعْمَلَ بِهِ وَنُحَكِّمَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَإِلَى الرَّسُولِ لِيَحْكُمَ بَيْنَنَا بِمَا أَرَاهُ اللهُ، رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ أَيْ رَأَيْتَهُمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ ـ جَاءَ بِالظَّاهِرِ بَدَلَ الضَّمِيرِ لِيُبَيِّنَ حَالَهُمْ وَحَالَ أَمْثَالِهِمْ بِالنَّصِّ وَيُبْنَى عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ أَثَرُهُ ـ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا
أَيْ: يُعْرِضُونَ عَنْكَ وَيَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِكَ إِعْرَاضًا مُتَعَمَّدًا مِنْهُمْ، وَهُوَ هُنَا مِنْ " صَدَّ " اللَّازِمِ، وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ مَنْ صَدَّ وَأَعْرَضَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَمْدًا وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ دَعْوَتِهِ إِلَيْهِ وَتَذْكِيرِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنَافِقًا لَا يُعْتَدُّ بِمَا يَزْعُمُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ لِبَعْضِ النَّاسِ فِيمَا اسْتَبَانَ حُكْمُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ وَوُعِظُوا بِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى
هَذَا الصُّدُودِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهَوَاتِهِمْ، وَأُلْفَتُهُمْ لِلْبَاطِلِ، وَعَدُوُّ الْحَقِّ يُعْرِضُ عَنْهُ إِعْرَاضًا شَدِيدًا، قَالَ: ثُمَّ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ سَخَافَتَهُمْ وَجَهْلَهُمْ وَعَدَمَ طَاقَتِهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى هَذَا الصُّدُودِ، فَقَالَ: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَخْ، أَيْ لَوْ عَقَلُوا لَالْتَزَمُوا مَا أَظْهَرُوا قَبُولَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَى مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِيمَانِ لَيَتِمَّ لَهُمُ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَ التى اخْتَارُوا فِيهَا التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ لَا تَدُومُ لَهُمْ، وَأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْهَا فَيَقَعُوا فِي مُصَابٍ يَضْطَرُّهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَعْتَذِرُوا عَنْ صُدُودِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ إِذَا أَطْلَعَكَ اللهُ عَلَى شَأْنِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَهُمْ يُكَذِّبُ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ؟ إِنَّهُمْ إِذَنْ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ وَالْإِذْلَالَ لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ بِشَارَةً بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ سَيَقَعُونَ فِي مُصِيبَةٍ تَفْضَحُ أَمْرَهُمْ وَتَكْشِفُ سِرَّهُمْ، وَهَلْ يَتُوبُونَ حِينَئِذٍ وَيَجِيئُونَكَ أَمْ لَا؟ وَيَقُولُ غَيْرُهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِشَيْءٍ سَيَقَعُ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ نَاجِزٌ لِأَمْرِهِمْ، وَإِيذَانٌ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَإِرَاءَتِهِمْ أَنَّهُمْ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، مُسْتَحِقُّونَ لِمَا يُعَاقِبُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
أَقُولُ: أَشَارَ الْأُسْتَاذُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدَّرْسِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَنَاقَلُوا الْخِلَافَ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا فَهْمٌ شَاذٌّ فَتَبِعَهُ بَعْضُهُمْ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَالْمَعْنَى: رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِلَخْ.
أَيْ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَيْكَ يَصُدُّونَ عَنْكَ فِي غَيْبَتِكَ، ثُمَّ يَجِيئُونَكَ يَعْتَذِرُونَ وَيَحْلِفُونَ فِي حَضْرَتِكَ، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ! أَيْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَالشِّدَّةِ! وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْوَاحِدِيَّ قَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَأَقُولُ: لَا عَجَبَ إِذَا اخْتَارَهَا وَإِنْ كَانَ النَّظْمُ الْكَرِيمُ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا، وَقَدْ خَطَرَتْ فِي بَالِ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَهْمًا لِلْكَلَامِ، وَهَلْ عَثَرَ مُتَقَدِّمٌ عَثْرَةً وَلَمْ يَعْثُرْ وَرَاءَهُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَوْ تَكَلُّفًا لِلْعِثَارِ؟ ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَ الْكَلَامَ هُنَا عَلَى مَعْنَى
الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةً، وَخَلَطَ بِهِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْوَعْدِ
185
بِبَيَانِ نِفَاقِهِمْ، وَإِغْرَاءِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِعِقَابِهِمْ، وَفِي الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ مِنْهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْجِهَادِ، ثُمَّ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَسُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّوَسُّعِ الَّذِي يَضِيعُ مَعَهُ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ:
فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَوْ حَالُهُمْ وَحَالُ أَمْثَالِهِمْ؟ أَوْ كَيْفَ يَكُونُ الشَّأْنُ فِي أَمْرِهِمْ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ! أَيْ مَا عَمِلُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ بِبَاعِثِ النِّفَاقِ الظَّاهِرِ، وَالْخُبْثِ الْبَاطِنِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارٌ سَيِّئَةٌ، وَتَكُونُ لَهَا عَوَاقِبُ ضَارَّةٌ لَا يُمْكِنُ كِتْمَانُهَا، وَلَا يَسْتَغْنِي صَاحِبُهَا عَنِ الِاسْتِعَانَةِ فِيهَا بِقَوْمِهِ وَأَوْلِيَاءِ أَمْرِهِ، فَالْآيَةُ تُنْذِرُ جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ بِأَعْمَالِ النِّفَاقِ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَفْضَحُ أَمْرَهُمْ وَتَضْطَرُّهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ وَالِاعْتِذَارِ لَهُ وَالْحَلِفِ عَلَى ذَلِكَ لِيُصَدِّقَهُ، فَإِنَّهُمْ يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِالْكَذِبِ، أَوْ كَيْفَ تُعَامِلُهُمْ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ عِلْمِكَ بِمَا كَانَ مِنْ صُدُودِهِمْ عَنْكَ فِي وَقْتِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْكَ، هَلْ تَعْطِفُ عَلَيْهِمْ وَتَقْبَلُ قَوْلَهُمْ إِذَا أَصَابَتْهُمُ الْمُصِيبَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا بِارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا؟ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، أَيْ: يُخَادِعُونَكَ بِالْحَلِفِ بِاللهِ إِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِمَا عَمِلُوا مِنَ الصُّدُودِ أَوْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْمُصِيبَةُ إِلَّا إِحْسَانًا فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَوْفِيقًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَصْمِهِمْ بِالصُّلْحِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْخَصْمَيْنِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِمُرِّ الْحَقِّ لَا تُرَاعِي فِيهِ أَحَدًا، فَلَمْ نَرَ ضَرَرًا فِي اسْتِمَالَةِ خُصُومِنَا بِقَبُولِ حُكْمِ طَوَاغِيتِهِمْ، وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مَنْفَعَتِنَا وَمَنْفَعَتِهِمْ.
سَأَلَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ كَيْفَ تَكُونُ الْمُعَامَلَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَمْهِيدًا لِبَيَانِ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْحِقْدِ وَالْكَيْدِ تَرَبُّصَ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِيُظْهِرُوا عَدَاوَتَهُمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ أَيْ فَظَاعَتِهِ وَكِبَرِهِ، وَلَا يَزَالُ مِثْلُهَا مُسْتَعْمَلًا فِيمَا يَعْظُمُ شَأْنُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَمَسَرَّةٍ وَحُزْنٍ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يُحِبُّهُ وَيَحْفَظُ وُدَّهُ: اللهُ يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي لَكَ، أَيْ:
وَيَقُولُ فِي الْعَدُوِّ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ: اللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَبِيرٌ جِدًّا لَا يَعْرِفُهُ كَمَا هُوَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيِ: اصْرِفْ وَجْهَكَ عَنْهُمْ وَلَا تُقْبِلْ عَلَيْهِمْ بِالْبَشَاشَةِ وَالتَّكْرِيمِ وَعِظْهُمْ بِبَيَانِ سُوءِ حَالِهِمْ لَهُمْ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا يَبْلُغُ مِنْ نُفُوسِهِمُ الْأَثَرَ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تُحْدِثَهُ فِيهَا.
أَقُولُ: أَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ فَهُوَ يُحْدِثُ فِي نُفُوسِهِمُ الْهَوَاجِسَ وَالْخَوْفَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَسْبَابِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَلَا جَازِمِينَ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الْوَحْيِ ; وَلِذَلِكَ كَانُوا يَحْذَرُونَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
186
عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَأَوْا مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَعْذَارِهِمُ الْمُؤَكَّدَةِ بِأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ وَالْبَشَاشَةِ فِي وُجُوهِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ الظُّنُونَ: لَعَلَّهُ عَرَفَ مَا نُسِرُّ فِي نُفُوسِنَا، لَعَلَّ سُورَةً نَزَلَتْ نَبَّأَتْهُ بِمَا فِي قُلُوبِنَا، لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤَاخِذَنَا بِمَا فِي بَوَاطِنِنَا، وَهَذِهِ الظُّنُونُ تَعِدُهُمُ التَّأَمُّلَ فِيمَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَعْظِ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي [ص ٣٢١ ج٢ طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ]، ـ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ، وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ وَهُوَ: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا فَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ، كَأَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مِنْ شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ فِي عَقَائِدِهَا، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالسَّرَائِرِ مِنَ الْأَعْمَالِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِرْآةُ الْبَاطِنِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الذَّبْذَبَةَ لَمْ تَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ فِيمَا يُهِمُّهُمْ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِهَا فِي اضْطِرَابٍ دَائِمٍ، وَهَمٍّ مُلَازِمٍ، وَهِيَ شَرٌّ لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ، وَقِيلَ: فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَاهُ فِي السِّرِّ دُونَ الْمَلَأِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي السِّرِّ يَبْلُغُ مِنَ النَّفْسِ مَا لَا يَبْلُغُهُ الْكَلَامُ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ تُحَدِّثُهُ خَالِيًا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ مَعْنَى حَدِيثِكَ مَا يَشْغَلُ غَيْرَهُ مِنْ ذَهَابِ نَفْسِهِ وَرَاءَ تَأْثِيرِ حَدِيثِكَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الَّذِينَ سَمِعُوهُ: هَلْ يَحْتَقِرُونَهُ بِهِ، هَلْ يُحَدِّثُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ؟ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، وَأَنْ يَقُولَ إِذَا قِيلَ
لَهُ فِيهِ أَوِ احْتُقِرَ لِأَجْلِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قَوْلًا بَلِيغًا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: يَغُوصُ فِيهَا وَيَبْلُغُ غَايَةَ مَا يُرَادُ بِهِ مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَكَثِيرًا مَا يُرَجِّحُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَذْهَبَهُمْ - وَلَا سِيَّمَا فِي الْجَوَازِ وَاسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ - وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَهُ إِلَّا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَامِلِ، وَتَوَسَّعَ بَعْضُهُمْ فِي الظُّرُوفِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ ثَالِثٌ، فَالْوَعْظُ: النُّصْحُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالْقَوْلُ الْبَلِيغُ: مَا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَمُعَامَلَتِهِمْ فِيهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ طُولَهُ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ.
وَفِي الْآيَةِ شَهَادَةٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَتَفْوِيضُ أَمْرِ الْوَعْظِ وَالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ بِاخْتِلَافِ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهِيَ شَهَادَةٌ لَهُ بِالْحِكْمَةِ وَوَضْعِ الْكَلَامِ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذَا بِمَعْنَى إِيتَاءِ اللهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ دَاوُدَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَمَا أُوتِيَ نَبِيٌّ فَضِيلَةً إِلَّا وَأُوتِيَ مِثْلَهَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَشَهَادَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَإِنَّمَا آتَاهُ اللهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمَزِيَّتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مَشْهُورًا بَيْنَ قَوْمِهِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنْ مَظْهَرِ فَصَاحَتِهِمْ وَبَلَاغَتِهِمْ وَهُوَ الشِّعْرُ وَالْخَطَابَةُ
وَالْمُمَاتَنَةُ ـ الْمُغَالَبَةُ ـ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ، وَإِنَّمَا صَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِتَكُونَ حُجَّتُهُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْبَلَاغَةِ أَظْهَرَ وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ، فَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: إِنَّهُ تَمَرَّنَ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَزَاوَلَهُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ حَتَّى ارْتَقَى فِيهِ إِلَى هَذِهِ الْقِمَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي لَا يُطَاوَلُ فِيهَا، هَذِهِ هِيَ حُجَّتُنَا الْمُؤَيَّدَةُ بِسِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُنْ مَعْدُودًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فِي بُلَغَاءِ الْقَوْمِ بِالشِّعْرِ وَلَا الْخَطَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْفُلُ بِمُفَاخَرَاتِهِمْ وَمُمَاتَنَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَشْهُورًا بِالْأَمَانَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالصِّدْقِ، وَأَمَّا دَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا كَالْبَلَاغَةِ الْعُلْيَا قَدْ كَمَّلَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا وَبِالنُّبُوَّةِ أَيْضًا فَنُصُوصُ الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي مِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (٤: ١١٣).
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ: " وَأَمَّا فَصَاحَةُ اللِّسَانِ وَبَلَاغَةُ الْقَوْلِ فَقَدْ كَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ سَلَاسَةَ طَبْعٍ، وَبَرَاعَةَ
مَنْزَعٍ، وَإِيجَازَ مَقْطَعٍ، وَنَصَاعَةَ لِفَظٍّ، وَجَزَالَةَ قَوْلٍ، وَصِحَّةَ مَعَانٍ، وَقِلَّةَ تَكَلُّفٍ، أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخُصَّ بِبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَعَلِمَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ، يُخَاطِبُ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهَا بِلِسَانِهَا، وَيُحَاوِرُهَا بِلُغَتِهَا، وَيُبَارِيهَا فِي مَنْزَعِ بَلَاغَتِهَا، حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ عَنْ شَرْحِ كَلَامِهِ، وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ تَأَمُّلِ حَدِيثِهِ وَسِيَرِهِ، عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ، وَلَيْسَ كَلَامُهُ مَعَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ كَكَلَامِهِ مَعَ ذِي الْمِعْشَارِ الْهَمْدَانِيِّ وَطِهْفَةَ النَّهْدِيِّ، وَقَطَنِ بْنِ حَارِثَةَ الْعُلَيْمِيِّ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ وَمُلُوكِ الْيَمَنِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مُتَمِّمٌ لِسِيَاقِ وُجُوبِ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يَرْغَبُ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُؤْثِرُ عَلَيْهِ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَنْبَغِي لِلرَّسُولِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ
188
فَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ لِلْمَقْتِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضُوا بِحُكْمِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: إِنَّنَا أَرْسَلْنَا هَذَا الرَّسُولَ عَلَى حُكْمِنَا، وَسُنَّتُنَا فِي الرُّسُلِ قَبْلَهُ أَنَّنَا لَا نُرْسِلُهُمْ إِلَّا لِيُطَاعُوا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، فَمَنْ صَدَّ عَنْهُمْ وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمْ، أَوْ رَغِبَ عَنْ حُكْمِهِمْ كَانَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِنَا وَسُنَّتِنَا فِيهِمْ مُرْتَكِبًا أَكْبَرَ الْآثَامِ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللهِ لِلِاحْتِرَاسِ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا الْقَيْدُ مِنْ قُيُودِ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَةِ الذَّاهِبَةِ بِظُنُونِ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ الرَّسُولَ يُطَاعُ لِذَاتِهِ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنَّ الطَّاعَةَ الذَّاتِيَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا لِلَّهِ
تَعَالَى رَبِّ النَّاسِ وَخَالِقِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ أَنْ تُطَاعَ رُسُلُهُ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ بِإِذْنِهِ وَإِيجَابِهِ.
أَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ رَسُولٍ أَبْلَغُ فِي اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: " وَمَا أَرْسَلْنَا رَسُولًا "، فَكُلُّ رَسُولٍ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَإِيجَابُ طَاعَةِ الرَّسُولِ تُشْعِرُ بِأَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ ; فَالرَّسُولُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا لِشَرِيعَةٍ.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْإِذْنَ بِالْإِرَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْأَمْرِ، وَبَعْضُهُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ، وَهُوَ مِمَّا تُجَادِلُ فِيهِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِلْجِدَالِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ إِعْلَامٌ بِإِجَازَتِهِ وَالرُّخْصَةِ فِيهِ نَحْوَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ، أَيْ: بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ اهـ، وَقَوْلُهُ: بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ وَإِلَّا فَالْإِذْنُ فِي اللُّغَةِ كَالْأَذَانِ وَالْإِيذَانِ لِمَا يُعْلَمُ بِإِدْرَاكِ حَاسَّةِ الْأُذُنَيْنِ أَيْ: بِالسَّمْعِ، فَقَوْلُهُ: لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ مَعْنَاهُ بِإِعْلَامِهِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ وَحْيُهُ وَطَرَقَ آذَانَكُمْ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ هَذَا السِّيَاقِ: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَمَا صَرَفَ الرَّازِيَّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيهِيِّ إِلَّا انْصِرَافُ ذَكَائِهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْجُبَّائِيِّ دُونَ فَهْمِ الْآيَةِ فِي نَفْسِهَا بِمَا تُعْطِيهِ اللُّغَةُ الْفُصْحَى.
وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِطَاعَتِهِمْ مُطْلَقًا فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَلَوْ أَتَوْا بِمَعْصِيَةٍ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِطَاعَتِهِمْ فِيهَا، فَتَكُونُ بِذَلِكَ وَاجِبَةً، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، فَيَلْزَمُ تَوَارُدُ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ بِمَعْنَى النَّقِيضَيْنِ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ أَوْ يَحْكُمُونَ بِهِ، فَالْمُمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمُوا أَوْ يَأْمُرُوا بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا أَفْعَالُهُمُ الَّتِي لَمْ يَأْمُرُوا بِهَا وَلَمْ يَحْكُمُوا بِهَا فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الطَّاعَاتِ فِي نَفْسِهَا، كَالتَّهَجُّدِ الَّذِي كَانَ مَفْرُوضًا عَلَى نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا خَصَائِصُ كَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ.
وَمِنْ أَوَامِرِهِ وَأَحْكَامِهِ مَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعَةِ، أَوِ الدَّعْوَى وَحْيٌ مُنَزَّلٌ، وَلَمْ يَقُولُوا بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِيهِ، بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ
189
فِيهِ، وَقَدْ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا وَقَعَ لِنَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ، وَمَسْأَلَةِ الْإِذْنِ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَكِنَّ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ لَيْسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي شَيْءٍ، فَهُوَ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ هِيَ مُخَالَفَةُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، أَيْ وَلَوْ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنْ حُكْمِكَ إِلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ عِنْدَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ، مِنْ ذَنْبِهِمْ وَنَدِمُوا أَنِ اقْتَرَفُوهُ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، أَيْ دَعَا اللهَ أَنْ يَغْفِرَهُ لَهُمْ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا أَيْ لَتَقَبَّلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَتَمَّ الْقَبُولِ وَأَكْمَلَهُ، وَتَغَمَّدَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، وَغَمَرَهُمْ بِإِحْسَانِهِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ كَثِيرًا مَهْمَا عَادَ صَاحِبُهَا، وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
هَذَا هُوَ مَعْنَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَوَّابٍ رَحِيمٍ، وَإِنَّمَا قُرِنَ اسْتِغْفَارُهُمُ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ تَوْبَتِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ; لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ هَذَا لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا لِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ لَمْ يَتَعَدَّ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الرَّسُولِ فَيَكْفِي فِيهِ تَوْبَتُهُمْ، بَلْ تَعَدَّى إِلَى إِيذَاءِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولٌ لَهُ وَحْدَهُ الْحَقُّ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَكَانَ لَا بُدَّ فِي تَوْبَتِهِمْ وَنَدَمِهِمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ؛ لِيَصْفَحَ عَنْهُمْ فِيمَا اعْتَدَوْا بِهِ عَلَى حَقِّهِ، وَيَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ حُكْمِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَيَانِ تَعْرِفُ نُكْتَةَ وَضْعِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِذْ قَالَ: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، وَلَمْ يَقُلْ: " وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ "، فَإِنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهُ فِي وَحْيِهِ وَمَا هَدَاهُ إِلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَوْ أَنَّهُمُ اعْتَدَوْا فِي مَعْصِيَتِهِمْ عَلَى حُقُوقِهِ الشَّخْصِيَّةِ كَأَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقَالَ: وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَلَا صَحِيحَةً إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْضَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ نُكْتَةَ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِجْلَالَ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ وَالْإِيذَانَ بِقَبُولِ اسْتِغْفَارِ صَاحِبِ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ وَعَدَمِ رَدِّ شَفَاعَتِهِ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ وَالْمَنْصِبُ هُوَ هُوَ فِي شَرَفِهِ وَعُلُوِّهِ، وَلَكِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لِلْمُنَافِقِينَ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا وَإِنِ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ
لَهُ فِيهِمْ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٩: ٨٠)، وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ تَكُونُ مَقْبُولَةً حَتْمًا إِذَا كَمُلَتْ شَرَائِطُهَا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ عَقِبَ الذَّنْبِ كَمَا يَدُلُّ الشَّرْطُ، وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ (٤: ١٧)، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى تَرْكَ طَاعَةِ الرَّسُولِ ظُلْمًا لِلْأَنْفُسِ أَيْ إِفْسَادًا لِمَصْلَحَتِهَا؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هَادٍ إِلَى مَصَالِحِ النَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَهَذَا الظُّلْمُ يَشْمَلُ الِاعْتِدَاءَ وَالْبَغْيَ وَالتَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالِاسْتِغْفَارُ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ، وَعَزْمُ التَّائِبِ عَلَى اجْتِنَابِ الذَّنْبِ، وَعَدَمُ الْعَوْدِ إِلَيْهِ مَعَ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ عَقِبَ الذَّنْبِ مِنْ دُونِ هَذَا التَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ فَلَيْسَ اسْتِغْفَارًا حَقِيقِيًّا.
190
أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِلَفْظِ: " أَسْتَغْفِرُ اللهَ " لَا يُعَدُّ طَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ الْحَقِيقِيَّ يَنْشَأُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْعُرَ الْقَلْبُ أَوَّلًا بِأَلَمِ الْمَعْصِيَةِ وَسُوءِ مَغَبَّتِهَا، وَبِالْحَاجَةِ إِلَى التَّزَكِّي مِنْ دَنَسِهَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِمَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ مِنَ التَّوَجُّهِ الْقَلْبِيِّ إِلَى اللهِ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعَزْمِ الْقَوِيِّ عَلَى اجْتِنَابِ سَبَبِ هَذَا الدَّنَسِ، وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَكَيْفَ يَكُونُ مُتَأَلِّمًا مِنَ الْقَذَرِ الْحِسِّيِّ مَنْ أَلِفَهُ وَعَرَّضَ بَدَنَهُ لَهُ إِذَا طَلَبَ غَسْلَهُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ لَا يَتْرُكُ الِالْتِيَاثَ بِهِ وَلَا يَدْنُو مِنَ الْمَاءِ؟
وَقَالَ فِي اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مُشَارَكَةَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي الدُّعَاءِ مَسْنُونَةٌ، وَأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِأَسْرَعِ مِمَّا يَتَقَبَّلُ مِنَ الْوَاحِدِ، فَدُعَاءُ الْجَمَاعَةِ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ إِنْ كَانَ كُلُّ دَاعٍ مَوْعُودًا بِالِاسْتِجَابَةِ، وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ: إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى، وَالْإِجَابَةُ الَّتِي وَعَدَ بِهَا: هِيَ الْإِثَابَةُ وَحُسْنُ الْجَزَاءِ، فَمَتَى أَخْلَصَ الدَّاعِي أَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِإِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُشَارَكَةُ فِي الدَّاءِ أَرْجَى لِلْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِينَ الْكَثِيرِينَ لِشَخْصٍ يُؤَدُّونَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ بِسَبَبِهِ، أَيْ أَنَّ ذَنْبَهُ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ فِي شُعُورِهِمْ وَإِحْسَاسِهِمْ كُلِّهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالِاتِّحَادِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّ حَاجَتَهُ حَاجَتُهُمْ كُلِّهِمْ، فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الدَّاعِيَ وَالْمُسْتَغْفِرَ
لِأُولَئِكَ التَّائِبِينَ مِنْ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ اسْتِغْفَارِهِمْ هُمْ، فَذَلِكَ مِنَ اشْتِرَاكِ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ مَعَ قُلُوبِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَطْهِيرِ اللهِ لَهُمْ مِنْ دَنَسِ الذَّنْبِ وَطَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَنَاهِيكَ بِقُرْبِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ رَبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِي اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ عَنْ تَوْبَتِهِمْ رِضًا كَامِلًا، بِحَيْثُ يَشْعُرُ قَلْبُهُ الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِحَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَغْفِرَةِ لِصِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، فَذَنْبُهُمْ ذَلِكَ لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِضَمِّ اسْتِغْفَارِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ، وَلَيْسَ كُلُّ ذَنْبٍ كَذَلِكَ، بَلْ يُكْتَفَى فِي سَائِرِ الذُّنُوبِ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ حَيْثُ كَانَ، وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الذَّنْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ بُعْدُ مَنْ قَاسَ كُلَّ ذَنْبٍ عَلَى ذَنْبِ الرَّغْبَةِ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِيثَارِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَاسَ كُلَّ مُذْنِبٍ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَجَعَلَ مَجِيءَ كُلِّ مُذْنِبٍ إِلَى قَبْرِهِ الشَّرِيفِ وَاسْتِغْفَارَهُ عِنْدَهُ كَمَجِيءِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِهِ فِي حَيَاتِهِ تَائِبِينَ مُسْتَغْفِرِينَ لِيَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ.
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَشَدَّ الِاتِّصَالِ، وَالسِّيَاقُ مُحْكَمٌ مُتَّسِقٌ وَإِنْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا خَاصَّةً لِنُزُولِهَا، أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِرُبُوبِيَّتِهِ
191
لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُخَاطِبًا لَهُ فِي ذَلِكَ خِطَابَ التَّكْرِيمِ، وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَسَمِ يُعَدُّ تَكْرِيمًا، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ تُقْسِمُ بِرَبِّ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمَّا غَضِبَتْ مَرَّةً أَقْسَمَتْ بِرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَلَّمَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ بَعْدَ رِضَاهَا، فَقَالَتْ: " إِنَّمَا أَهْجُرُ اسْمَكَ "، أَقْسَمَ تَعَالَى بِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمْثَالَهُمْ، وَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْإِيمَانَ زَعْمًا كَمَا تَقَدَّمَ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا صَحِيحًا حَقِيقِيًّا ـ وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ ـ إِلَّا بِثَلَاثٍ:
الْأُولَى: أَنْ يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، أَيْ: فِي الْقَضَايَا الَّتِي يَخْتَصِمُونَ فِيهَا وَيَشْتَجِرُونَ فَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَقُّ فِيهَا لَهُمْ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، بَلْ يَذْهَبُ كُلٌّ مَذْهَبًا فِيهِ، فَمَعْنَى شَجَرَ: اخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ فِيهِ، قِيلَ: إِنَّ شَجْرًا ـ مَصْدَرُ شَجَرَ ـ، وَالتَّشَاجُرُ وَالِاشْتِجَارُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ الْمُتَدَاخِلِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سُمِّيَ الشَّجَرُ شَجَرًا لِاشْتِجَارِ أَغْصَانِهِ وَتَدَاخُلِهَا ـ وَقِيلَ: مِنَ الشِّجَارِ ـ كَكِتَابٍ ـ وَهُوَ خَشَبُ الْهَوْدَجِ لِاشْتِبَاكِ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، وَقِيلَ: مِنَ الشَّجَرِ ـ بِالْفَتْحِ ـ وَهُوَ مَفْتَحُ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ النِّزَاعُ فِيهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنَاسِبَةٌ، وَتَحْكِيمُهُ تَفْوِيضُ أَمْرِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ الْحَرَجُ: الضَّيقُ، وَالْقَضَاءُ: الْحُكْمُ، وَزَعَمُ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ لَفْظَ الْقَضَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَهَذَا مِنْ دَعَاوِيهِمُ الَّتِي يَتَجَرَّءُونَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ وَلَا عِلْمٍ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تُذْعِنُ نُفُوسُهُمْ لِقَضَائِكَ وَحُكْمِكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا ضِيقٌ وَلَا امْتِعَاضٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَسْبِقَ إِلَيْهَا الْأَلَمُ وَالْحَرَجُ إِذَا خَسِرَتْ مَا كَانَتْ تَرْجُو مِنَ الْفَوْزِ، وَالْحُكْمِ لَهَا بِالْحَقِّ الْمُخْتَصَمِ فِيهِ، عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنِ الْحَرَجِ يُفَاجِئُ النَّفْسَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى وَجَعَلَ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى التَّرَاخِي فَعَطَفَهُ بِـ ثُمَّ وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِحُكْمِ الرَّسُولِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ الْخَيْرَ لَهُ فِيهِ، وَالسَّعَادَةَ فِي الْإِذْعَانِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ فِي إِيمَانِهِ ضَعْفٌ مَا ضَاقَ صَدْرُهُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ بِالذِّكْرَى وَيَنْحَى عَلَيْهَا بِاللَّوْمِ حَتَّى تَخْشَعَ وَتَنْشَرِحَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَإِيثَارِ الْحَقِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْهَوَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنَفْيِ وِجْدَانِ الْحَرَجِ عَدَمُ الشَّكِّ فِي حَقِّيَّةِ الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِمُرِّ الْحَقِّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، قَالَ هَذَا مَنْ قَالَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ ; لِأَنَّ وِجْدَانَ الْقَلْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الصَّوَابُ.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا التَّسْلِيمُ هُنَا: الِانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ
191
حَقِّيَّةَ الْحُكْمِ وَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ ضِيقًا مِنْهُ يَنْقَادُ لَهُ بِالْفِعْلِ وَيُنَفِّذُهُ طَوْعًا، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مُؤَاخَذَةً فِي الدُّنْيَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، وَذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى عَدَمِ مُعَارَضَةِ هَذَا بِفَتْوَاهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا عَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (٩: ٤٣)، وَقَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى (٨٠: ١)، إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ
مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ (٦٦: ١)، وَأَحَالَ عَلَى تَأْوِيلِهِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَشَكَّ فِي عِصْمَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْحُكْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ بِحَسَبِ صُورَةِ الدَّعْوَى وَظَاهِرِهَا لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَفِي مَعْنَاهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ اللهُ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ وَصَحَّحُوهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ أَنَّهُ الرَّأْيُ هَلْ هُوَ عَنْ وَحْيٍ أَوْ رَأْيٍ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ أَطَاعُوا وَسَلَّمُوا تَسْلِيمًا، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا ذَكَرُوا مَا عِنْدَهُمْ، وَرُبَّمَا رَجَعَ إِلَى رَأْيِهِمْ كَمَا فَعَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَيَا لَلَّهِ مَا أَكْمَلَ هَدْيَهُ، وَمَا أَجْمَلَ تَوَاضُعَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأُولَئِكَ الصَّحْبِ الْكَامِلِينَ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارَضُ وَلَا يُخَصَّصُ بِالْقِيَاسِ، فَمَنْ بَلَغَهُ حَدِيثُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَدَّهُ بِمُخَالَفَةِ قِيَاسِهِ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطِيعٍ الرَّسُولَ، وَلَا مِمَّنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَمُخَالَفَةُ نَصِّ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ أَعْظَمُ جُرْمًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
وَتَدُلُّ الْآيَةُ بِالْأَوْلَى عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ حُكْمُ اللهِ أَوْ حُكْمُ رَسُولِهِ فِي شَيْءٍ وَتَرَكَهُ إِلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَتَقَلَّدُ مَذْهَبَهُمْ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَتْبَعَ الْعُلَمَاءَ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ يَتَّخِذَهُمْ شَارِعِينَ، وَيُقَدِّمَ أَقْوَالَهُمْ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ الْمَنْصُوصَةِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُهُمْ بِتَلَقِّي هَذِهِ النُّصُوصِ عَنْهُمْ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى فَهْمِهَا لَا فِي آرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمُ الْمُعَارِضَةِ لِلنَّصِّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: إِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ
193
عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَإِذَا
حَكَمَ لَكَ بِمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ صَارَ حَلَالًا لَكَ أَنْ تَأْكُلَهُ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَنَّ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّ أَحَدٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الدَّعْوَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ إِذَا أَخَذَهَا، فَمَنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ عِنْدَهُ نَصٌّ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ أَوْ يَنْسَخُهُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالِاحْتِمَالِ، وَبَقِيَ مُقَلِّدًا لِقَوْلِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ يَسْتَحِلُّ مَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا مُتَّصِفًا بِالْخِصَالِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْإِيمَانِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ إِلَخْ، تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَهُ وَهُوَ نَفْيٌ وَإِبْطَالٌ لِظَنِّ الظَّانِّينَ أَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ يَكُونُونَ صَحِيحِي الْإِيمَانِ مُسْتَحِقِّينَ لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهَا، لَا وَرَبِّكَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ حَتَّى يَكُونُوا مُوقِنِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مُذْعِنِينَ فِي بَوَاطِنِهِمْ، وَلَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَطَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمُ الضِّيقَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَاضِعًا لِلْحُكْمِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يُلَازِمُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَخْضَعْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُنَازِعُ أَحَدًا فِي شَيْءٍ إِلَّا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ شُبْهَةِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَرْضَى بِالْحَقِّ مَتَى عَرَفَهُ وَزَالَتِ الشُّبْهَةُ عَنْهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ فَحُكْمُ الرَّسُولِ يُرْضِيهِمَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ مَنْ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ.
أَقُولُ: أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَقَدْ أَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ مِنْهُ فِي لُبَابِ النُّقُولِ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ أَيِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ وَاسْتَوْعَبَ الزُّبَيْرُ حَقَّهُ وَكَانَ كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: فَلَّا وَرَبِّكَ
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ اخْتَصَمَا فِي مَاءٍ فَقَضَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَسْقِيَ الْأَعْلَى، ثُمَّ الْأَسْفَلُ، وَهَذِهِ عَيْنُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُخْتَصَرَةٌ، وَفِيهَا جَزْمٌ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنَ الرُّوَاةِ لِانْطِبَاقِ الْآيَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ.
194
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ وَالسِّيَاقُ لَمْ يَنْتَهِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ عَائِدٌ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِمْ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فَلَهُ حُكْمُهُمْ، إِذِ الْأَحْكَامُ لَيْسَتْ مَنُوطَةً بِذَوَاتِ الْمُكَلَّفِينَ وَشُخُوصِهِمْ، بَلْ بِصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، أَيْ: لَوْ أَمَرْنَاهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ أَيْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْقَتْلِ الْمُحَقَّقِ أَوِ الْمَظْنُونِ ظَنًّا رَاجِحًا، وَقِيلَ: قَتْلُهَا هُوَ الِانْتِحَارُ، كَمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ تَوْبَةً إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَوْ قُلْنَا لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ أَيْ: أَوْطَانِكُمْ وَهَاجِرُوا إِلَى بِلَادٍ أُخْرَى مَا فَعَلُوهُ أَيِ: الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْهِجْرَةِ مِنَ الْوَطَنِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " قَلِيلًا " بِالنَّصْبِ، قَالُوا: وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَمُصْحَفِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ ـ وَإِعْرَابُهُمَا ظَاهِرٌ ـ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ هُوَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالسَّهْلِ وَالشَّاقِّ، وَلَوْ قَتْلُ النَّفْسِ وَالْخُرُوجُ مِنَ الدَّارِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ ; لِأَنَّ الْجِسْمَ دَارُ الرُّوحِ، وَالْوَطَنَ دَارُ الْجِسْمِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ هُوَ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ
وَغَرَضَهُ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى نَارِ الْفِتْنَةِ ـ رِيَاءً وَتَقِيَّةً ـ فَيُطِيعُ فِيمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ التَّعَرُّضُ لِلْقَتْلِ، وَالْجَلَاءُ عَنِ الْوَطَنِ وَالْأَهْلِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ (٢٨) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ كَقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْوَطَنِ لَعَصَى الْكَثِيرُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُطِعْ إِلَّا الْقَلِيلُ وَهُمْ أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ رِضْوَانَ اللهِ عَلَى حُظُوظِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَكْتُبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِهِمْ، بَلْ أَرْسَلْنَا خَاتَمَ رُسُلِنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي تَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ حَسَنَةِ الدُّنْيَا وَحَسَنَةِ الْآخِرَةِ
195
فَلَا عُذْرَ لَهُمْ بِالضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ أَنْ عَصَوُا الرَّسُولَ، وَاتَّبَعُوا الطَّاغُوتِ، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَقْرُونَةِ بِحُكْمِهَا، وَبَيَانِ فَائِدَتِهَا، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا وَمَنْ صَدَّ عَنْهَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي حِفْظِ مَصَالِحِهِمْ، وَاعْتِزَازِ أَنْفُسِهِمْ بِارْتِقَاءِ أُمَّتِهِمْ، وَفِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَآخِرَتِهِمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، التَّثْبِيتُ: التَّقْوِيَةُ بِجَعْلِ الشَّيْءِ ثَابِتًا رَاسِخًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ وَإِتْيَانُ الْأُمُورِ الْمَوْعُوظُ بِهَا فِي الدِّينِ يَزِيدُ الْعَامِلَ قُوَّةً وَثَبَاتًا ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ الْمُبْهَمُ تَفْصِيلِيًّا جَلِيًّا، وَهِيَ الَّتِي تَطْبَعُ الْأَخْلَاقَ وَالْمَلِكَاتِ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ، وَتُبَدِّدُ الْمَخَاوِفَ وَالْأَوْهَامَ مِنْ نَفْسِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْبِرِّ آيَةٌ مِنْ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَقُرْبَةٌ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالرِّضْوَانِ، فَمَنْ آمَنَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَا يَكُونُ عِلْمُهُ بِمَنَافِعِهِ وَفَوَائِدِهِ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ إِلَّا نَاقِصًا، وَكُلَّمَا اعْتَنَّ لَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْبَذْلِ تَحَدَّاهُ فِي نَفْسِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْسَاكِ وَالْبُخْلِ، كَالْخَوْفِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ، أَوْ نُقْصَانِ مَالِهِ عَنْ مَالِ بَعْضِ الْأَقْرَانِ، أَوْ تَعْلِيلِ النَّفْسِ بِادِّخَارِ مَا احْتِيجَ إِلَى بَذْلِهِ الْآنَ لِيُوضَعَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، فَإِذَا هُوَ اعْتَادَ الْبَذْلَ صَارَ السَّخَاءُ خُلُقًا لَهُ،
لَا يُثْنِيهِ وَسْوَاسٌ وَلَا خَوْفٌ، وَاتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِطُرُقِ مَنَافِعِهِ، وَوُضِعَ الْمَالُ فِي خَيْرِ مَوَاضِعِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ الِامْتِثَالَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا يَتَضَمَّنُ الذِّكْرَى، وَتَصَوُّرَ احْتِرَامِ أَمْرِ اللهِ، وَالشُّعُورَ بِسُلْطَانِهِ، وَإِمْرَارَ هَذِهِ الذِّكْرَى عَلَى الْقَلْبِ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَيُثْبِتُهُ، وَكُلَّمَا عَمِلَ الْمَرْءُ بِالشَّرِيعَةِ عَمَلًا صَحِيحًا انْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا، بَلْ ذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ.
أَقُولُ: وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي التَّثْبِيتِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
١ - أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى ثَبَاتِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ ; لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَدْعُو إِلَى مِثْلِهَا.
٢ - أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَثْبَتَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَالْحَقُّ ثَابِتٌ وَالْبَاطِلُ زَائِلٌ.
٣ - أَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْلُبُ الْخَيْرَ أَوَّلًا، فَإِذَا حَصَّلَهُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ ثَابِتًا بَاقِيًا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي " أَنَّ " وَ " أَوْ " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ نُونِ " أَنْ " وَضَمِّ وَاوِ
196
أَوْ " وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِكَسْرِهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، فَأَمَّا الْكَسْرُ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عِنْدَ النُّحَاةِ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَإِجْرَاؤُهُمَا مَجْرَى الْهَمْزَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْفِعْلِ تُنْقَلُ حَرَكَةُ مَا بَعْدَهَا إِلَيْهَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو فَجَمَعَ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّلْفِيقِ، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا فَعَلُوهُ يَعُودُ ضَمِيرُهُ إِلَى الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ الْفِعْلَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، أَوْ بِتَأْوِيلِ مَا ذُكِرَ.
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا، " إِذًا " حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّهَا هُنَا جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالتَّثْبِيتِ؟ فَأُجِيبُ: هُوَ أَنْ نُؤْتِيَهُمْ أَيْ: نُعْطِيَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا، إِلَخْ.
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا قِيلَ: إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ عِبَارَةٌ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْطِنٌ مِنْ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُنَا هُوَ طَرِيقُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ هِيَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي شَرَحَهَا الْأُسْتَاذُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالصِّرَاطُ هُنَا: هُوَ الصِّرَاطُ هُنَاكَ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا.
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ عِبَادُ اللهِ الْمُصْطَفَوْنَ الْأَخْيَارُ، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَعَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهُمُ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ إِلَخْ، وَكَانَ الظَّاهِرُ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنْ يُقَالَ: وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، صِرَاطَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ فَكَانُوا مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ مَا هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنْ أُعِيدَ ذِكْرُ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُرَادُ فِي السِّيَاقِ، الَّذِي تَكُونُ سَعَادَةُ صُحْبَةِ مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ جَزَاءً لَهُ، أَيْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ فِي الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إِلَى قَوْلِهِ:
197
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الطَّاعَةَ تَصْدُقُ بِامْتِثَالِ أَمْرٍ وَاحِدٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ هُوَ مِمَّا اعْتَادُوهُ مِنَ اخْتِرَاعِ الْإِيرَادَاتِ وَالْأَجْوِبَةِ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ يَأْبَاهَا، فَهَذِهِ الطَّاعَةُ هِيَ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا إِيثَارُ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهِيَ الَّتِي عَلِمْنَا بِهَا أَنَّ الْعَمَلَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ أَوْ شَرْطٌ لَهُ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِذْعَانِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ حَرَجٌ مِنْهُ وَيُسَلِّمُ لَهُ تَسْلِيمًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ امْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ فِي تَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ وَالْأَوْطَانِ.
ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ أَوْصَافٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، فَالْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ فَرِيقَانِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمْ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْعَطْفِ عَلَى مَا فِي صِفَاتِهِمْ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِمْ، وَهَاكَ مَا لَا كُلْفَةَ فِيهِ وَلَا جِنَايَةَ عَلَى اللُّغَةِ.
(الصِّدِّيقُونَ) جَمْعُ صِدِّيقٍ، وَهُوَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الصِّدْقُ وَعُرِفَ بِهِ كَالسِّكِّيرِ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ السُّكْرُ، قَالَ الرَّاغِبُ: الصِّدِّيقُ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الصِّدْقُ، وَقِيلَ: بَلْ يُقَالُ لِمَنْ لَا يَكْذِبُ قَطُّ، وَقِيلَ: لِمَنْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْكَذِبُ لِتَعَوُّدِهِ الصِّدْقَ، وَقِيلَ: بَلْ لِمَنْ صَدَقَ بِقَوْلِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَحَقَّقَ صِدْقَهُ بِقَوْلِهِ.
قَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (١٩: ٤١)، وَقَالَ: أَيْ فِي الْمَسِيحِ: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ (٥: ٧٥)، وَقَالَ: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَالصِّدِّيقُونَ هُمْ قَوْمٌ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الذَّرِيعَةِ إِلَى مَكَارِمِ الشَّرِيعَةِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصِّدِّيقُونَ: هُمُ الَّذِينَ زَكَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَاعْتَدَلَتْ أَمْزِجَتُهُمْ، وَصَفَتْ سَرَائِرُهُمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمُجَرَّدِ عُرُوضِهِ لَهُمْ، فَهُمْ يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَيُبَالِغُونَ فِي صِدْقِ اللِّسَانِ وَالْعَمَلِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ مَا بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَرَفَ أَنَّهَا الْحَقُّ وَقَبِلَهَا وَصَدَّقَ بِهَا فَصَدَّقَ النَّبِيَّ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ أَكْمَلَ الصِّدْقَ، وَيَلِيهِ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، فَإِنَّهُمُ انْقَادُوا إِلَى الْإِسْلَامِ بِسُهُولَةٍ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ الْآيَاتُ وَثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ تَمَامَ الظُّهُورِ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ـ وَعَدَّ آخَرِينَ مِنَ السَّابِقِينَ ـ وَدَرَجَةُ هَؤُلَاءِ قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، بَلِ الْأَنْبِيَاءُ صِدِّيقُونَ وَزِيَادَةٌ.
198
وَأَقُولُ: مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الرَّاغِبِ وَالْأُسْتَاذِ مِنْ كَوْنِ الصِّدِّيقِيَّةِ هِيَ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي تَلِي مَرْتَبَةَ النُّبُوَّةِ فِي الْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ قَدْ صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِلْغَزَالِيِّ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِيهِ، وَلَا غَرْوَ فَالصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ أُسُّ الْفَضَائِلِ، كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ وَالنِّفَاقَ أُسُّ الرَّذَائِلِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَخْذَ الصِّدِّيقِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَمَالِ الْإِيمَانِ بِهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ صِدِّيقًا، وَقَدْ
وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَالَّتِي دُونَ الصِّحَاحِ فِي تَصْدِيقِهِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ كَذَّبَهُ النَّاسُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: " مَا عَرَضْتُ الْإِسْلَامَ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ نَظِرَةٌ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ " وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: مَا كَلَّمْتُ فِي الْإِسْلَامِ أَحَدًا إِلَّا أَبَى عَلَيَّ، وَرَاجَعَنِي الْكَلَامَ إِلَّا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَإِنِّي لَمْ أُكَلِّمْهُ فِي شَيْءٍ إِلَّا قَبِلَهُ وَسَارَعَ إِلَيْهِ، وَسَنَدُهُمَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ الْمُسَارَعَةَ إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَدَمَ التَّلَبُّثِ بِهِ، وَحَسِبَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ السَّذَاجَةِ وَضَعْفِ الرَّوِيَّةِ، وَيَنْقُضُ حُسْبَانَهُ كُلُّ مَا عُرِفَ مِنْ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ رَأْيًا، وَأَنْفَذِهِمْ بَصِيرَةً، وَأَصَحِّهِمْ حُكْمًا، وَأَقَلِّهِمْ خَطَأً، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ قِيمَةَ الصِّدْقِ الصَّادِقُونَ، وَقَدْرَ الشُّجَاعَةِ الشُّجْعَانُ، وَحَقَائِقَ الْحِكْمَةِ الْحُكَمَاءُ، فَلَمَّا كَانَتْ مَرْتَبَةُ أَبِي بَكْرٍ قَرِيبَةً مِنْ مَرْتَبَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الصِّدْقِ وَتَحَرِّي الْحَقِّ وَإِيثَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِنْ رَكِبَ فِي سَبِيلِهِ الصِّعَابَ وَتَقَحَّمَ فِي الْأَخْطَارِ كَانَ السَّابِقَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَبَذْلِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي نَصْرِهِ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ الدِّينَ صِدْقًا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٩: ٣٣) نَعَمْ إِنَّ الصَّادِقَ يَكُونُ أَسْرَعَ إِلَى تَصْدِيقِ غَيْرِهِ عَادَةً، فَإِنْ كَانَ بَلِيدًا أَوْ سَاذَجًا غِرًّا صَدَّقَ غَيْرَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ ذَكِيًّا مُجَرِّبًا ـ كَأَبِي بَكْرٍ ـ لَمْ يُصَدِّقْ إِلَّا مَا هُوَ مَعْقُولٌ، وَمَنْ كَانَ كَبِيرَ الْعَقْلِ قَوِيَّ الْحَدْسِ يُدْرِكُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ إِلَّا بَعْدَ السِّنِينَ الطِّوَالِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِتَارِيخِ الْعَرَبِ وَأَنْسَابِهَا وَأَخْلَاقِهَا، وَظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي سِيَاسَتِهِ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْمُرْتَدِّينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، فَلَوْلَاهُ لَانْتَكَثَ فَتْلُ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَتْهُ عَصَبِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَفَهَكَذَا تَكُونُ السَّذَاجَةُ وَضَعْفُ الرَّأْيِ وَالرَّوِيَّةِ! أَمْ ذَلِكَ مَا أَمْلَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْتَشْرِقِ كُرْهُ الْمُخَالِفِ، وَوَسْوَسَ بِهِ شَيْطَانُ الْعَصَبِيَّةِ؟ ؟
(الشُّهَدَاءُ) جَمْعُ شَهِيدٍ، وَبَيَّنَ الرَّازِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّهِيدِ هُنَا مَنْ قَتَلَهُ الْكَفَّارُ فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الدِّينِ " وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَقْتُولَ الْكَافِرِ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ شَرَفٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْفُسَّاقِ، وَمَنْ لَا مَنْزِلَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى " وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُمُ الشَّهَادَةَ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارَ
199
يَقْتُلُونَهُمْ؛ وَلِأَنَّهُ وَرَدَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الشَّهِيدِ عَلَى الْمَبْطُونِ وَالْمَطْعُونِ وَالْغَرِيقِ، قَالَ: " فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنِ الْقَتْلِ، بَلْ نَقُولُ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَأُخْرَى بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، فَالشُّهَدَاءُ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْقِسْطِ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ (٣: ١٨)، وَيُقَالُ لِلْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللهِ شَهِيدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللهِ، وَشَهَادَتِهِ لَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْبَاطِلُ، وَإِذَا كَانَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (٢: ١٤٣).
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِينَ يُؤَيِّدُونَ الْحَقَّ بِالشَّهَادَةِ لِأَهْلِهِ بِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ، وَيَشْهَدُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، وَدَرَجَتُهُمْ تَلِي دَرَجَةَ الصِّدِّيقِينَ، وَالصِّدِّيقُونَ شُهَدَاءُ وَزِيَادَةٌ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا حُجَّةُ أَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْأَحْوَالِ، فَالشُّهَدَاءُ هُمْ حُجَّةُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْمُبْطِلِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحُسْنِ سِيرَتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (٢: ١٤٣)، مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي، وَتَفْسِيرِ (٢: ١٤٠)، مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَيُرْوَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَيَتَوَهَّمُ أَسْرَى الِاصْطِلَاحَاتِ، وَرَهَائِنُ الْقُيُودِ الْمُسْتَحْدَثَاتِ، أَنَّ حُجَجَ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ هُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ حَمَلَةُ الشَّهَادَاتِ، الَّذِينَ حَذَقُوا النِّقَاشَ فِي الْعِبَارَاتِ، وَالْجَدَلَ فِي مُصَارَعَةِ الشُّبُهَاتِ، وَجَمْعَ النُّقُولِ فِي تَلْفِيقِ الْمُصَنَّفَاتِ، كَلَّا؛ إِنَّ حُجَجَ اللهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ هُمْ أَعْلَامُ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، وَمُثُلُ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، فَمِنْهُمُ الْعَالِمُ الْمُسْتَقِلُّ بِالدَّلِيلِ وَإِنْ سَخِطَ الْمُقَلِّدُونَ، وَالْحَاكِمُ الْمُقِيمُ لِلْعَدْلِ، وَإِنْ كَثُرَ حَوْلَهُ الْجَائِرُونَ، وَالْمُصْلِحُ لِمَا فَسَدَ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَإِنْ غَلَبَ الْمُفْسِدُونَ، وَالْبَاذِلُ لِرُوحِهِ حَتَّى يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ وَإِنْ أَحْجَمَ الْجُبَنَاءُ وَالْمُرَاءُونَ.
(الصَّالِحُونَ) هُمُ الَّذِينَ صَلُحَتْ نُفُوسُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَكُونُوا حُجَجًا
ظَاهِرِينَ كَالَّذِينِ قَبْلَهُمْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمُتَعَدِّي نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِمْ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمُبْطِلِينَ، وَالْجَائِرِينَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هُمُ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَيَكْفِي أَنْ تَغْلِبَ حَسَنَاتُهُمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ وَأَلَّا يُصِرُّوا عَلَى الذَّنْبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ هُمْ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ،
200
وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَالرَّسُولَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ مِنْهُمْ، وَحُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَهُمْ ; لِأَنَّهُ وَقَدْ خَتَمَ اللهُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْتَقِيَ فِي الِاتِّبَاعِ إِلَى دَرَجَةِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ: الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا أَيْ: إِنَّ مُرَافَقَةَ أُولَئِكَ الْأَصْنَافِ هِيَ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يَرْغَبُ الْعَاقِلُ فِيهَا لِحُسْنِهَا، وَفِي الْكَشَّافِ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، وَالرَّفِيقُ كَالصَّدِيقِ وَالْخَلِيطِ الصَّاحِبِ، وَالْأَصْحَابُ يَرْتَفِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَاسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ الرَّفِيقَ وَالرَّسُولَ الْبَرِيدَ مُفْرَدًا اسْتِعْمَالَ الْجَمْعِ أَوِ الْجِنْسِ، وَلِهَذَا حَسُنَ الْإِفْرَادُ هُنَا، وَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ، وَحَسُنَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
وَهَلْ يُرَافِقُ كُلُّ فَرِيقٍ فَرِيقَهُ، إِذْ كَانَ مُشَاكِلَهُ وَضَرِيبَهُ، أَمْ يَتَّصِلُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَنْ فَوْقَهُ، وَلَوْ بَعْضَ الِاتِّصَالِ، الَّذِي يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْفَضْلِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ.
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَأَنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَلَّا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُفَارِقَكَ فَإِنَّكَ لَوْ قَدِمْتَ لَرُفِعْتَ فَوْقَنَا وَلَمْ نَرَكَ، وَأَخْرَجَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَتَى فَتًى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّ لَنَا مِنْكَ نَظْرَةً فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا نَرَاكَ فَإِنَّكَ فِي الْجَنَّةِ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - اهـ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ ضَعِيفَةُ السَّنَدِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِهَا الْمُتَّصِلَةَ بِهِ بَعْدَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ.
وَأَمَّا مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي قُرْصَانَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حَشَرَهُ اللهُ مَعَهُمْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ، وَعَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمْ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَقَدْ يَغُرُّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ أَنْفُسَهُمْ بِدَعْوَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا آيَةُ الْمَحَبَّةِ الطَّاعَةُ، وَالْآيَةُ قَدْ جَعَلَتْ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ جَزَاءَ الطَّاعَةِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (٣: ٣١)، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ.
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ
مِنْ جَزَاءِ مَنْ يُطِيعُ اللهَ وَرَسُولَهُ هُوَ الْفَضْلُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَعْلُوهُ فَضْلٌ، فَإِنَّ الصُّعُودَ إِلَى إِحْدَى تِلْكَ الْمَرَاتِبِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ مُرَافَقَةِ أَهْلِهَا وَأَهْلِ مَنْ فَوْقَهَا فِي الْآخِرَةِ هُوَ مُنْتَهَى السَّعَادَةِ، فِيهِ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فَيَفْضُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ مِنَ اللهِ تَفَضَّلٌ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَثَانِيَهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى: ذَلِكَ الْفَضْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ جَزَاءِ الْمُطِيعِينَ هُوَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -.
وَيَرَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ الْفَضْلِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَزَاءً وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى الْجَزَاءِ، سَمِّهِ جَزَاءً أَوْ لَا تُسَمِّهِ هُوَ مِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا وَكَيْفَ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِعِلْمِهِ بِالْأَعْمَالِ وَبِدَرَجَةِ الْإِخْلَاصِ فِيهَا وَبِمَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مِنَ الْجَزَاءِ، وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى لِلْجَزَاءِ الْوِفَاقِ وَالْجَزَاءِ الْفَضْلِ وَلِزِيَادَةِ الْفَضْلِ، ذَلِكَ كُلُّهُ تَابِعٌ لِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ! فَهُوَ يُعْطِي بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَيَشَاءُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ، فَالتَّذْكِيرُ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِي آخِرِ السِّيَاقِ يُشْعِرُنَا بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِنَا وَنِيَّاتِنَا لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ، لِيُحَذِّرَ الْمُنَافِقُونَ الْمُرَاءُونَ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَيَتُوبُونَ، وَلْيَطْمَئِنَّ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، لَعَلَّهُمْ يَنْشَطُونَ وَيَزْدَادُونَ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (٤: ٣٦)، فِي مَوْضُوعٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْيَتَامَى مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالْإِرْثِ، وَالْآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْبُدُوا اللهَ الْآيَةَ إِلَى هُنَا فِي مُطَالَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَصْحَابِ وَالْأَرِقَّاءِ وَسَائِرِ النَّاسِ، وَأَحْكَامِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ وَبَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ تَثْبِيتِ النَّفْسِ عَلَى الصِّدْقِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَضَرَبَ لَهُمْ فِيهَا مَثَلَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ يَهْتَدُونَ بِهِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِمْ بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَرَدِّ مَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَكَّدَ أَمْرَ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَبَيَّنَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا عَمِلُوا بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ صَلُحَ حَالُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُمْ وَصَارُوا مُتَّحِدِينَ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ وَحِفْظِ الْجَامِعَةِ، وَوَثِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَالدِّفَاعِ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا انْتِظَامُ شَمْلِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَاحُ أُمُورِهِمُ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
بَعْدَ بَيَانِ هَذَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُوَجِّهَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ يَلِي اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى عَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَصْلَحَةٍ وَاحِدَةٍ وَانْتِظَامِ شُئُونِهِمْ وَصَلَاحِ حَالِهِمْ، وَهُوَ مَا يَتِمُّ لَهُمْ بِهِ الْأَمْنُ وَحُسْنُ الْحَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ التَّنْزِيلِ
أَعْدَاءٌ يُنَاصِبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتِمُّ لَهُ نِظَامٌ فِي مَعِيشَتِهِ وَلَا هَنَاءٌ وَلَا رَاحَةٌ إِلَّا بِالْأَمْنَيْنِ كِلَيْهِمَا: الْأَمْنُ الدَّاخِلِيُّ، وَالْأَمْنُ الْخَارِجِيُّ، فَلَمَّا أَرْشَدَنَا اللهُ إِلَى مَا بِهِ أَمْنُنَا الدَّاخِلِيِّ أَرْشَدَنَا إِلَى مَا بِهِ أَمْنُنَا مَعَ الْخَارِجِينَ عَنَّا الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِي دِينِنَا، وَذَلِكَ إِمَّا بِمُعَاهَدَاتٍ تَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ نَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى دِينِنَا وَأَنْفُسِنَا وَمَصَالِحِنَا، وَإِمَّا بِاتِّقَاءِ شَرِّهِمْ بِالْقُوَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ كَمَا يَأْتِي.
أَقُولُ: كَانَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ لَنَا أَصْلَ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي آيَةِ الْأَمَانَاتِ وَالْعَدْلِ، وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إِلَخْ، وَكَانَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَثِيرًا مِنْ مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ - كَمَا يُقَالُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ - ثُمَّ شَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَرْغَبُ عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الطُّغْيَانِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ شَرَعَ يُبَيِّنُ لَنَا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْحَرْبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَيُبَيِّنُ لَنَا الطَّرِيقَ الَّذِي نَسِيرُ عَلَيْهِ فِي حِفْظِ مِلَّتِنَا وَحُكُومَتِنَا الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الْمُحْكَمَةِ الْحَكِيمَةِ مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا فَقَالَ:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَذَرُ - بِالتَّحْرِيكِ - احْتِرَازٌ عَنْ مُخِيفٍ، وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: خُذُوا حِذْرَكُمْ، أَيْ: مَا فِيهِ الْحَذَرُ مِنَ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ اهـ، وَظَاهِرُهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَذَرِ بِالتَّحْرِيكِ وَالْحِذْرِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْحَذَرَ وَالْحِذْرَ الْخِيفَةُ، وَمَنْ خَافَ شَيْئًا اتَّقَاهُ بِالِاحْتِرَاسِ مِنْ أَسْبَابِهِ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: رَجُلٌ حَذِرٌ مُتَيَقِّظٌ مُحْتَرِزٌ وَحَاذِرٌ مُسْتَعِدٌّ، وَقَالَ الرَّازِيُّ: الْحَذَرُ وَالْحِذْرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْإِثْرِ وَالْأَثَرِ وَالْمِثْلِ وَالْمَثَلِ، يُقَالُ: أَخَذَ حَذَرَهُ إِذَا تَيَقَّظَ وَاحْتَرَزَ مِنَ الْخَوْفِ كَأَنَّهُ جَعَلَ الْحَذَرَ آلَتَهُ الَّتِي يَقِي بِهَا نَفْسَهُ، وَالْمَعْنَى: احْذَرُوا وَاحْتَرِزُوا مِنَ الْعَدُوِّ وَلَا تُمَكِّنُوهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْوَاحِدِيِّ فِيهِ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ السِّلَاحُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ
203
الْمَعْنَى: احْذَرُوا عَدُوَّكُمْ، وَالتَّحْقِيقُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْحَذَرَ الْخِيفَةُ وَيَلْزَمُهُ الِاحْتِرَازُ وَالِاسْتِعْدَادُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَذَرُ وَالْحِذْرُ: الِاحْتِرَازُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِاتِّقَاءِ شَرِّ الْعَدُوِّ وَذَلِكَ بِأَنْ نَعْرِفَ حَالَ الْعَدُوِّ وَمَبْلَغَ اسْتِعْدَادِهِ وَقُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَعْدَاءُ مُتَعَدِّدِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ، وَأَنْ تَعْرِفَ الْوَسَائِلَ لِمُقَاوَمَتِهِمْ إِذَا هَجَمُوا، وَأَنْ يُعْمَلَ بِتِلْكَ الْوَسَائِلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا أَنِسَ غِرَّةً مِنَّا هَاجَمَنَا،
وَإِذَا لَمْ يُهَاجِمْنَا بِالْفِعْلِ كُنَّا دَائِمًا مُهَدَّدِينَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ نُهَدَّدْ فِي نَفْسِ دِيَارِنَا كُنَّا مُهَدَّدِينَ فِي أَطْرَافِهَا، فَإِذَا أَقَمْنَا دِينَنَا أَوْ دَعَوْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ حُدُودِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعَارِضَنَا فِي ذَلِكَ، وَإِذَا احْتَجْنَا إِلَى السَّفَرِ إِلَى أَرْضِهِ كُنَّا عَلَى خَطَرٍ، وَكُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: خُذُوا حِذْرَكُمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ (٨: ٦٠)، إِلَخْ، وَعَلَى النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلْفَهْمِ أَنْ تَبْحَثَ فِي كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعْرِفَةُ حَالِ الْعَدُوِّ، وَمَعْرِفَةُ أَرْضِهِ وَبِلَادِهِ، طُرُقِهَا وَمُضَايِقِهَا وَجِبَالِهَا وَأَنْهَارِهَا، فَإِنَّنَا إِذَا اضْطُرِرْنَا فِي تَأْدِيبِهِ إِلَى دُخُولِ بِلَادِهِ فَدَخَلْنَاهَا وَنَحْنُ جَاهِلُونَ لَهَا كُنَّا عَلَى خَطَرٍ، وَفِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: " قَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا "، وَتَجِبُ مَعْرِفَةُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضِنَا بِالْأَوْلَى حَتَّى إِذَا هَاجَمَنَا فِيهَا لَا يَكُونُ أَعْلَمُ بِهَا مِنَّا.
وَيَدْخُلُ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْحَذَرِ مَعْرِفَةُ الْأَسْلِحَةِ وَاتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْهَنْدَسَةِ وَالْكِيمْيَاءِ وَالطَّبِيعَةِ وَجَرِّ الْأَثْقَالِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ كُلَّ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، ذَلِكَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحَذَرَ، أَيْ: وَلَا يَتَحَقَّقُ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِمَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْوِقَايَةُ وَالِاحْتِرَازُ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِحَسَبِهِ، يُرِيدُ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى -: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ اتِّخَاذُ أُهْبَةِ الْحَرْبِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهِ مِنَ الْمَدَافِعِ بِأَنْوَاعِهَا وَالْبَنَادِقِ وَالْبَوَارِجِ الْمُدَرَّعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ وَآلَاتِ الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَكَذَلِكَ الْمَنَاطِيدِ الْهَوَائِيَّةِ وَالطَّيَّارَاتِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِصُنْعِ هَذِهِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ وَغَيْرِهَا وَمَا يَلْزَمُ لَهَا، وَالْعِلْمُ بِسَائِرِ الْفُنُونِ وَالْأَعْمَالِ الْحَرْبِيَّةِ وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ الْأُخَرِ كَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَخَرْتِ الْأَرْضِ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَارِفِينَ بِأَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَكَانَ لِلنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيُونٌ وَجَوَاسِيسُ فِي مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِالْأَخْبَارِ، وَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِنَقْضِ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ اسْتَعَدَّ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ لِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ لِظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِنَكْثِهِمْ لَمْ يُفْلِحْ وَكَانَ جَوَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ لَهُ وَاحِدًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِخَالِدٍ يَوْمَ حَرْبِ الْيَمَامَةِ: حَارِبْهُمْ بِمِثْلِ مَا يُحَارِبُونَكَ بِهِ، السَّيْفُ بِالسَّيْفِ
204
وَالرُّمْحُ بِالرُّمْحِ "، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَلِيلَةٌ، فَالْقَوْلُ وَعَمَلُ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْعَدُوِّ وَقُوَّتِهِ.
أَقُولُ: تَعَرَّضَ الرَّازِيُّ هُنَا لِمَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَمَا عَسَى أَنْ يُقَالَ مِنْ عَدَمِ نَفْعِ الْحَذَرِ وَكَوْنِهِ عَبَثًا، قَالَ: وَعَنْهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمَقْدُورُ كَائِنٌ وَالْهَمُّ الْفَضْلُ، وَقِيلَ أَيْضًا: " الْحَذَرُ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ "، فَنَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ بَطُلَ الْقَوْلُ بِالشَّرَائِعِ ; فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالتَّحْقِيقِ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِقَدَرٍ كَانَ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ أَيْضًا دَاخِلًا فِي الْقَدَرِ، فَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: " أَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْحَذَرِ " كَلَامًا مُتَنَاقِضًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَذَرُ مُقَدَّرًا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ الطَّاعِنِ فِي الْحَذَرِ؟ انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ.
أَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ ابْتُلُوا بِمَسْأَلَةِ الْقَدَرِ كَمَا ابْتُلِيَ بِهَا مَنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ شُفِيَ غَيْرُهُمْ مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ بِحَقِيقَتِهَا، فَلَمْ يَعُدْ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِمْ فِي تَرْقِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَلَمَّا يَشْفِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ كَشَفْنَا الْغِطَاءَ عَنْ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَمْ نَرَ بُدًّا مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، لَا لِأَنَّ مِثْلَ الرَّازِيِّ ذَكَرَهَا بَلْ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَمْسَوْا أَقَلَّ النَّاسِ حَذَرًا مِنَ الْأَعْدَاءِ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَ بِلَادِهِمْ ذَهَبَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَذْكُرُونَ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ أَمْرَ اللهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَلَا يَمْتَثِلُونَ، ثُمَّ إِنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَهُمْ يَسُلُّونَ فِي وَجْهِكَ كَلِمَةَ الْقَدَرِ، وَمِثْلَ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الرَّازِيُّ.
أَمَّا حَدِيثُ: الْمَقْدُورُ كَائِنٌ إِلَخْ، فَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُهُ فِي كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعُبِ وَالْقَدَرِ مَرْفُوعًا: لَا تُكْثِرُ هَمَّكَ مَا قُدِّرَ يَكُنْ وَمَا تُرْزَقُ يَأْتِكَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: " وَقِيلَ أَيْضًا " فَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَصَحَّحَهُ وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ، وَتَسَاهُلُ الْحَاكِمِ فِي التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ، وَالرَّازِيُّ لَيْسَ مِنْ رِجَالِ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّهُ رَأَى بِالْعَقْلِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ أَوْ مُضَعَّفٌ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَمْرِ فِيهَا، وَكَيْفَ يَقُولُ اللهُ: خُذُوا حِذْرَكُمْ، وَيَقُولُ رَسُولُهُ: إِنَّ الْحَذَرَ لَا يَنْفَعُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْقَدَرِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ!
وَإِنِّي عَلَى اسْتِبْعَادِي لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَمَيْلِي إِلَى أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ
أَفْسَدُوا بَأْسَ الْأُمَّةِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، أَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُنَاقِضُ الْآيَةَ، فَإِنَّ اللهَ أَمَرَنَا بِالْحَذَرِ لِنَدْفَعَ عَنَّا شَرَّ الْأَعْدَاءِ وَنَحْفَظَ حَقِيقَتَنَا لَا لِنَدْفَعَ الْقَدَرَ وَنُبْطِلَهُ، وَالْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ جَرَيَانِ الْأُمُورِ بِنِظَامٍ يَأْتِي فِيهِ الْأَسْبَابُ عَلَى قَدْرِ الْمُسَبَّبَاتِ، وَالْحَذَرُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ، فَهُوَ عَمَلٌ بِمُقْتَضَى الْقَدَرِ لَا بِمَا يُضَادُّهُ.
205
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ مَا هُوَ الْغَايَةُ لَهُ وَالْمَقْصِدُ مِنْهُ أَوِ الْمُتَمِّمُ لَهُ، فَقَالَ: فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا، النَّفْرُ: الِانْزِعَاجُ عَنِ الشَّيْءِ وَإِلَى الشَّيْءِ، كَالْفَزَعِ عَنِ الشَّيْءِ وَإِلَى الشَّيْءِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَمِنَ الْأَوَّلِ وَلَقَدْ صَرَفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذْكُرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (١٧: ٤١)، وَهُمْ إِنَّمَا يَنْفِرُونَ عَنِ الْقُرْآنِ لَا إِلَيْهِ، وَمِنَ الثَّانِي النَّفْرُ إِلَى الْحَرْبِ وَفِيهِ آيَاتٌ، وَكَانُوا إِذَا اسْتَنْفَرُوا النَّاسَ لِلْحَرْبِ يَقُولُونَ: النَّفِيرُ النَّفِيرُ، وَالثُّبَاتُ: جَمْعُ ثُبَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُنْفَرِدَةُ، وَالْمَعْنَى فَانْفِرُوا جَمَاعَةً فِي إِثْرِ جَمَاعَةٍ بِأَنْ تَكُونُوا فَصَائِلَ وَفِرَقًا، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ إِذَا كَانَ الْجَيْشُ كَثِيرًا أَوْ كَانَ مَوْقِعُ الْعَدُوِّ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ الْغَالِبُ، أَوِ انْفِرُوا كُلُّكُمْ مُجْتَمِعِينَ، إِذَا قَضَتِ الْحَالُ بِذَلِكَ، أَوِ الْمَعْنَى فَانْفِرُوا سَرَايَا وَطَوَائِفَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ نَفِيرًا عَامًا، وَيَجِبُ هَذَا إِذَا دَخَلَ الْعَدُوُّ أَرْضَنَا كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: النَّفْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ ثُبَاتٍ جَمَاعَاتٍ، وَلَا تَتَقَيَّدُ الْجَمَاعَةُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَجَمِيعًا يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا عَلَى حَسَبِ حَالِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّ أَخْذَ الْحَذَرِ لَيَشْمَلُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةَ سَوْقِ الْجَيْشِ وَقِيَادَتِهِ وَهُوَ النَّفْرُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ يُتَسَاهَلُ فِيهِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ فَأَمَرَ بِهِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَكَانَ الِاجْتِهَادُ فِي أَخْذِ الْحَذَرِ مِمَّا قَدْ يَقِفُ دُونَهُ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفْرَ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَى مُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ أَنْ يُرْسَلَ الْجَيْشُ جَمَاعَاتٍ وَفِرَقًا كَمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ حَتَّى الْآنَ، فَإِذَا احْتِيجَ فِي الْمُقَاوَمَةِ إِلَى نَفْرِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَخُرُوجِهِمْ لِلْجِهَادِ وَجَبَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ النَّفْرُ عَلَى كَيْفِيَّتَيْنِ الْأُولَى: أَنْ يُقَسَّمَ الْجَيْشُ إِلَى فِرَقٍ وَسَرَايَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَسِيرَ خَمِيسًا وَاحِدًا، لَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْأَوَّلُ.
قَالَ: وَيَتَوَقَّفُ امْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا مُسْتَعِدَّةً دَائِمًا لِلْجِهَادِ بِأَنْ يَتَعَلَّمَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فُنُونَ الْحَرْبِ وَيَتَمَرَّنُوا عَلَيْهَا بِالْعَمَلِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُعَافَاةَ مِنَ الْخِدْمَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَيْسَتْ شَرَفًا بَلْ هِيَ إِبَاحَةٌ لِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ.
أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِيهِ اقْتِنَاءُ السِّلَاحِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِ وَالتَّمَرُّنِ عَلَى الرَّمْيِ بِالْمَدَافِعِ وَبِبُنْدُقِ الرَّصَاصِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، كَمَا كَانُوا يَتَمَرَّنُونَ عَلَى رَمْيِ السِّهَامِ، وَقَدْ قَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا وَسَبَقَهُمْ إِلَيْهِ مَنْ يُعَيِّبُونَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُمَّةٌ حَرْبِيَّةٌ، فَصَارَتْ أُمَّةُ السَّلَامِ بِدَعْوَاهَا قُدْوَةً لِأُمَّةِ الْحَرْبِ فِي الْحَرْبِ وَآلَاتِهِ، فَيَجِبُ عَلَى الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تُقِيمَ هَذَا الْوَاجِبَ بِنَفْسِهَا لَا أَنْ تَبْقَى فِيهِ عَالَةٌ عَلَى غَيْرِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُوَاتِيَهَا وَتُسَاعِدَهَا عَلَيْهِ، وَأَنْ تُلْزِمَهَا إِيَّاهُ إِذَا هِيَ قَصَّرَتْ فِيهِ.
وَإِنْ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ وَفِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَضِعَافُ
206
الْإِيمَانِ وَالْجُبَنَاءِ وَهُمُ الْأَقَلُّ، فَالْمُنَافِقُونَ يَرْغَبُونَ عَنِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَيُدَافِعُوا عَنْهُ وَيَحْمُوا بَيْضَتِهِ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَيُبْطِئُونَ غَيْرَهُمْ عَنِ النَّفْرِ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُونَ يُبْطِئُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ، وَالتَّبَطُّؤُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِبْطَاءِ وَعَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْبُطْءِ مَعًا، وَالْبُطْءُ التَّأَخُّرُ عَنِ الِانْبِعَاثِ فِي السَّيْرِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَيْ: يُبْطِئُ هُوَ عَنِ السَّيْرِ إِبْطَاءً لِضَعْفٍ فِي إِيمَانِهِ، وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ التَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ وَتِكْرَارِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُ عَلَى الْبُطْءِ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ، وَيُقَالُ فِي اللُّغَةِ: " بَطَّأَ " بِالتَّشْدِيدِ (لَازِمٌ) بِمَعْنَى أَبْطَأَ وَقَدْ شَرَحَ اللهُ حَالَ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ الضُّعَفَاءِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِزْعَاجًا إِلَى تَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا فَقَالَ:
فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا فَشُكْرُهُ لِلَّهِ عَلَى عَدَمِ شُهُودِهِ لِتِلْكَ الْحَرْبِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ كَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا أَيْ لَيَقُولَنَّ قَوْلَ مَنْ لَيْسَ مِنْكُمْ، وَلَا جَمَعَتْهُ مَوَدَّةٌ بِكُمْ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ بِذَلِكَ الْفَضْلِ فَوْزَهُمْ، فَهُوَ قَدْ نَسِيَ أَنَّهُ كَانَ أَخًا لَكُمْ، وَكَانَ
مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَكُمْ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَّا ضَعْفُ إِيمَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ تَمَنِّيَهُ بَعْدَ الظَّفَرِ أَوِ الْغَنِيمَةِ لَوْ كَانَ مَعَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ عَقْلِهِ وَكَوْنِهِ مِمَّنْ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ تُشِيرُ إِلَيْهِمُ الْآيَةُ التَّالِيَةُ.
هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ، رَجَّحُوهُ بِكَوْنِ الْخِطَابِ لِلَّذِينِ آمَنُوا ثُمَّ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ وَلَمْ يَقُلْ: " فِيكُمْ "، وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكَمَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ (٩: ٣٨).
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْطِئِينَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا لَهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مَهْمَا كَانَ ضَعِيفَ الْإِيمَانِ لَا يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ مُصِيبَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَعُدُّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، بَلْ يَسْتَحِي مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَلُومُ نَفْسَهُ إِنْ أَطَاعَتْ دَاعِيَ الْجُبْنِ وَيَسْتَغْفِرُ رَبَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ شَدِيدَ الشَّرَهِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْفَوْزِ وَالْغَنِيمَةِ، فَالْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ سَوَاءٌ كَانَ التَّبَطُّؤُ فِيهَا لَازِمًا بِمَعْنَى الْإِبْطَاءِ أَوْ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ - تَعَالَى - كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَالظَّاهِرُ هُنَا مَعْنَى الْإِبْطَاءِ عَنِ الْخُرُوجِ ; إِذْ لَوْ بَطَّأَ غَيْرَهُ وَخَرَجَ هُوَ لَكَانَ قَدْ شَهِدَ الْحَرْبَ فَلَا مَعْنَى لِسُرُورِهِ إِذَا أُصِيبُوا، وَلَا لِتَمَنِّيهِ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ إِذَا ظَفِرُوا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ أَبْطَأَ يُبْطِئُ غَيْرُهُ بِإِبْطَائِهِ إِذْ يَكُونُ قُدْوَةً رَدِيئَةً لِمِثْلِهِ مِنْ مُنَافِقٍ أَوْ جَبَانٍ، وَيُبْطِئُهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ
بِهَذَا الذَّنْبِ، فَإِنَّ الْفَضِيحَةَ وَالْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ أَشَدُّ، وَإِذَا كَثُرَ الْمُذْنِبُونَ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عِقَابُهُمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا تَتَأَلَّفُ الْعِصَابَاتُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا الْحُكَّامُ، وَلَفْظُ التَّبَطُّئِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ يُبْطِئُ غَيْرُهُ بِسَبَبِ إِبْطَائِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ غَيْرِهِ.
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اخْتَارُوا أَنَّ الْمُبْطِئَ هُوَ الْمُنَافِقُ قَدْ أَجَابُوا عَنْ جَعْلِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُمْ: مِنْكُمْ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ بِالزَّعْمِ وَالدَّعْوَى أَوْ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْاكَمُهُمْ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ وَالِاخْتِلَاطِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
يَجْزِمُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنَ التَّبَطُّئِ عَنِ الْقِتَالِ بِكُلٍّ مِنْ مَعْنَيَيْهِ مَعَ ذَيْنِكَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَعِنْدَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، فَإِنَّ مَنْ يُبْطِئُ وَيَقُولُ ذَلِكَ
لَا يَكُونُ لَهُ هَمٌّ وَلَا عِنَايَةٌ بِأَمْرِ دِينِهِ، وَإِنَّمَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَهَوَاتُهُ وَرِبْحُهُ مِنَ الدِّينِ حَتَّى إِنَّهُ يَعُدُّ مُصِيبَةَ الْمُسْلِمِينَ نِعْمَةً إِذَا لَمْ يُصِبْهُ سَهْمٌ مِنْهَا، فَلْيُحَاسِبِ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْفُسَهُمْ، وَلْيَزِنُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ إِيمَانَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ، وَذَكَرَ الْمَوَدَّةَ هُنَا نَكِرَةً مَنْفِيَّةً فِي سِيَاقِ التَّشْبِيهِ فِي أَوْجِ الْبَلَاغَةِ الْأَعْلَى فَهِيَ كَلِمَةٌ لَا تُدْرِكُ شَأْوَهَا أُخْرَى وَلَا تَنْتَهِي إِلَى غَوْرِهَا فِي التَّأْثِيرِ، ذَلِكَ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةٌ مَا مَعْدُودٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَبِنَصِّ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ: تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ كَأَعْضَاءِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ، وَكَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَكَانَ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَذَلِكَ التَّمَنِّي الَّذِي يُشْعِرُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَرَى نِعْمَةَ اللهِ وَفَضْلِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَةً وَفَضْلًا عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَصْدُرَ عَمَّنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ مَا وَلَوْ قَلِيلَةً فِي زَمَنٍ مَا وَلَوْ بَعِيدًا، أَعْنِي أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْمَوَدَّةِ كَانَ فِي وَقْتٍ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ التَّمَنِّي، وَفِي هَذَا مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ بِأَلْطَفِ الْقَوْلِ وَأَرَقِّ الْعِبَارَةِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ بُلَغَاءُ الْبَشَرِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ: أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِ مَنْ يَذُوقُهُ التَّأْثِيرَ الَّذِي لَا يَدْنُو مِنْ مِثْلِهِ النَّبْزُ بِالْأَلْقَابِ وَالطَّعْنُ بِهَجْرِ الْقَوْلِ، التَّأْثِيرَ الَّذِي يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي حَقِيقَةِ حَالِهِ، وَمُعَاتَبَةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنَ الرَّجَاءِ تَابَ إِلَى رَبِّهِ وَرَجَعَ كُلُّهُ إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهِ، هَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ، وَبِاللهِ مَا أَعْجَبَ التَّشْبِيهَ فِيهَا وَنَفْيَ الْكَوْنِ وَتَنْكِيرَ الْمَوَدَّةِ إِنَّكَ إِنْ تُعْطِ ذَلِكَ حَقَّهُ مِنَ التَّأَمُّلِ، وَيُؤْتِكَ ذَوْقُ الْكَلَامِ قِسْطَهُ مِنَ الْبَلَاغَةِ، فَقَدِ أُوتِيتَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَكَشَفَ لَكَ عَنْ سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ عَجْزِ الْبَشَرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ) بِالتَّاءِ، وَالْبَاقُونَ " يَكُنْ " بِالْيَاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي التَّنْزِيلِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، فَتَأْنِيثُ الْفِعْلِ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ مُؤَنَّثٌ، وَلَكِنَّ التَّأْنِيثَ فِيهِ لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، وَلِهَذَا جَازَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ
وَحَسُنَ، وَيَكْثُرُ مِثْلُهُ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الْفَصْلِ أَيْ: إِذَا فَصَلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ أَوِ اسْمِهِ فَاصِلٌ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (١٠: ٥٧)، وَمِنَ الثَّانِي: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (٢: ٢٧٥)، ذَكَرَ الْفِعْلَ، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَاعِلِهِ بِالضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ.
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.
أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ أَعْدَاءِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَهْلِهَا بِالِاسْتِعْدَادِ التَّامِّ لِلْحَرْبِ، وَبِالنَّفْرِ وَكَيْفِيَّةِ تَعْبِئَةِ الْجَيْشِ وَسَوْقِهِ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُبْطِئِينَ عَنِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهَا لَا تَتَّفِقُ مَعَ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ يُرَغِّبُ فِيهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْغَنِيمَةِ وَعَلَى الْفَخْرِ بِالْقُوَّةِ وَالْغَلَبِ فَقَالَ:
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - حَالَ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ، ثُمَّ دَلَّهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ
209
تَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ ذَنْبِ الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ، وَلَوْ عَمِلُوا كُلَّ صَالِحٍ وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُكَفِّرًا
لِخَطِيئَتِهِمْ، وَسَبِيلُ اللهِ هِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالِانْتِصَارُ لَهُ، فَمِنْهُ إِعْلَاءُ كَلِمَةَ اللهِ وَنَشْرُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ دِفَاعُ الْأَعْدَاءِ، إِذَا هَدَّدُوا أَمْنَنَا، أَوْ أَغَارُوا عَلَى أَرْضِنَا أَوْ نَهَبُوا أَمْوَالَنَا، أَوْ صَادَرُونَا فِي تِجَارَتِنَا، وَصَدُّونَا عَنِ اسْتِعْمَالِ حُقُوقِنَا مَعَ النَّاسِ، فَسَبِيلُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأْيِيدِ الْحَقِّ الَّذِي قَرَّرَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَشْرُونَ بِمَعْنَى يَبِيعُونَ قَوْلًا وَاحِدًا بِلَا احْتِمَالٍ، وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ فِيهِ مُطَّرِدٌ فَفِي سُورَةِ يُوسُفَ: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ (١٢: ٢٠)، أَيْ: بَاعُوهُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (٢: ١٠٢)، أَيْ: بَاعُوهَا وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ (٢: ٢٠٧) ; أَيْ يَبِيعُهَا، وَالْبَاءُ فِي صِيغَةِ الْبَيْعِ تَدْخُلُ عَلَى الثَّمَنِ دَائِمًا، فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَبْذُلَهَا وَيَجْعَلَ الْآخِرَةَ ثَمَنًا لَهَا وَبَدَلًا عَنْهَا فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ.
أَقُولُ: إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا فِي يَشْرُونَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى الِابْتِيَاعِ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي عُرْفِنَا الْآنَ الشِّرَاءُ، وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ شَرَى يَشْرِي يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى ابْتَاعَ، وَإِنَّ اللَّفْظَ فِي الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَيْعُ فَهُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الْكَامِلِينَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِابْتِيَاعُ فَهُوَ لِأُولَئِكَ الْمُبْطِئِينَ لِيَتُوبُوا، وَذَهَبَ الرَّاغِبُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ اسْتِبْدَالِ سِلْعَةٍ بِسِلْعَةٍ دُونَ اسْتِبْدَالِ سِلْعَةٍ بِدَرَاهِمَ، وَالْقُرْآنُ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ شَرَى يَشْرِي بِمَعْنَى بَاعَ يَبِيعُ، وَاشْتَرَى يَشْتَرِي بِمَعْنَى ابْتَاعَ يَبْتَاعُ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ أَوِ الْفَصِيحُ وَإِنْ وَرَدَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: " شَرَيْتُ بُرْدًا " بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُهُ فِي الشِّعْرِ بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَقَدْ يُذْكَرُ الثَّمَنُ أَوِ الْبَدَلُ وَقَدْ يُسْكَتُ عَنْهُ وَهُوَ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْبَاءُ دَائِمًا سَوَاءٌ اسْتُعْمِلَ الشِّرَاءُ أَوِ الْبَيْعُ فِي الْحِسِّيَّاتِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّاتِ.
وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ وَمَتَى كَانَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ - لَا لِأَجْلِ الْحَمِيَّةِ وَالْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ - فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ بِظَفَرِ عَدُوِّهِ بِهِ فَفَاتَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْقِتَالِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا بَدَلًا مِمَّا فَاتَهُ وَهُوَ إِذَا ظَفِرَ وَغَلَبَ عَدُوَّهُ لَا يَفُوتُهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَالَهُ
بِكَوْنِ قِتَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ لَا فِي سَبِيلِ الْهَوَى وَالطَّمَعِ.
وَمَا لَكَمَ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْخِطَابِ لِزِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، أَيْ: وَمَاذَا ثَبَتَ لَكُمْ مِنَ الْأَعْذَارِ فِي حَالِ تَرْكِ الْقِتَالِ حَتَّى تَتْرُكُوهُ؟ أَيْ: لَا عُذْرَ لَكُمْ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِقَامَةِ التَّوْحِيدِ مَقَامَ الشِّرْكِ، وَإِحْلَالِ الْخَيْرِ مَحَلَّ الشَّرِّ، وَوَضْعِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، فِي مَوْضِعِ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ
210
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ أَيْ: فِي سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَوْ وَأَخَصُّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْقَاذُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ ظُلْمِ الْأَقْوِيَاءِ الْجَبَّارِينَ، وَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدِ اسْتَذَلَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَنَالُوا مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْقَهْرِ، وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرُدُّوهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - لَا لِلْمُنَافِقِينَ - وَالْمُسْتَضْعَفُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَحْصُورُونَ فِي مَكَّةَ يَضْطَهِدُهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَيَظْلِمُونَهُمْ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ سَبِيلًا خَاصًّا عَطَفَهُ عَلَى سَبِيلِ اللهِ مَعَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ إِثَارَةُ النَّخْوَةِ، وَهَزُّ الْأَرْيَحِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَإِيقَاظُ شُعُورِ الْأَنَفَةِ وَالرَّحْمَةِ ; وَلِذَلِكَ مَثَّلَ حَالَهُمْ بِمَا يَدْعُو إِلَى نُصْرَتِهِمْ، فَقَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلْيًا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا، أَقُولُ: بَيَّنَ أَنَّهُمْ فَقَدُوا مِنْ قَوْمِهِمْ - لِأَجْلِ دِينِهِمْ - كُلَّ عَوْنٍ وَنَصِيرٍ، وَحُرِمُوا كُلَّ مُغِيثٍ وَظَهِيرٍ، فَهُمْ لِتَقَطُّعِ أَسْبَابِ الرَّجَاءِ بِهِمْ يَسْتَغِيثُونَ رَبَّهُمْ، وَيَدْعُونَهُ لِيُفَرِّجَ كَرْبَهُمْ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَهِيَ وَطَنُهُمْ لِظُلْمِ أَهْلِهَا لَهُمْ، وَيُسَخِّرَ لَهُمْ بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ لِيُهَاجِرُوا إِلَيْكُمْ وَيَتَّصِلُوا بِكُمْ ; فَإِنَّ رَابِطَةَ الْإِيمَانِ أَقْوَى مِنْ رَوَابِطِ الْأَنْسَابِ وَالْأَوْطَانِ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ فَلْيَكُنْ كُلٌّ مِنْكُمْ وَلِيًّا لَهُمْ وَنَصِيرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ مِنْ ظُلْمِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْذِيبِهِمْ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فِي تَفْسِيرِ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (٢: ١٩١)، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، حَتَّى كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهِجْرَةِ وَمَا كُلُّ أَحَدٍ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - هَاجَرَا لَيْلًا، وَلَوْ ظَفِرُوا بِهِمَا لَقَتَلُوهُمَا إِنِ اسْتَطَاعُوا،
وَكَانُوا يَصُدُّونَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَيُعَذِّبُونَ مُرِيدَهَا عَذَابًا نُكْرًا، وَمَا كَانَ سَبَبُ شَرْعِ الْقِتَالِ إِلَّا عَدَمَ حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَظُلْمَ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ، وَمَا أَفَاضَتْ بِهِ الْآيَاتُ مِنْ بَيَانِهِ، يَقُولُ الْجَاهِلُونَ وَالْمُتَجَاهِلُونَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ نُشِرَ بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّةِ، فَأَيْنَ كَانَتِ الْقُوَّةُ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ؟ !
الْقِتَالُ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ قَبِيحٌ، وَلَا يُجِيزُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ ارْتِكَابَ الْقَبِيحِ إِلَّا لِإِزَالَةِ شَرٍّ أَقْبَحَ مِنْهُ، وَالْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا وَغَايَاتِهَا، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ حِكْمَةَ الْقِتَالِ وَكَوْنِهِ لِلضَّرُورَةِ وَإِزَالَةِ الْمَفْسَدَةِ، وَإِدَالَةِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ هُنَا بِبَيَانِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَوْنِ الْقِتَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظُّلْمِ، حَتَّى أَكَّدَهُ بِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ، مَعَ مُقَابَلَتِهِ بِضِدِّهِ، وَهُوَ مَا يُقَاتِلُ الْكُفَّارُ لِأَجْلِهِ، فَقَالَ:
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ تَقَدَّمَ أَنَّ الطَّاغُوتَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، إِلَى الْبَاطِلِ
وَالظُّلْمِ وَالشَّرِّ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُؤْمِنُونَ الْقِتَالَ - وَالْكَافِرُونَ لَا يَتْرُكُونَهُ - لَغَلَبَ الطَّاغُوتُ وَعَمَّ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (٢: ٢٥١)، فَغَلَبَتِ الْوَثَنِيَّةُ الْمُفْسِدَةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ، وَعَمَّ الظُّلْمُ بِعُمُومِ الِاسْتِبْدَادِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا لِأَنَّهُ يُزَيِّنُ لِأَصْحَابِهِ الْبَاطِلَ وَالظُّلْمَ وَالشَّرَّ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، فَيُوهِمُهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ، وَفِيهَا عِزُّهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْكَيْدُ وَالْخِدَاعُ، وَمِنْ سُنَنِ اللهِ فِي تَعَارُضِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَنَّ الْحَقَّ يَعْلُو وَالْبَاطِلَ يَسْفُلُ، وَفِي مُصَارَعَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بَقَاءُ الْأَصْلَحِ، وَرُجْحَانُ الْأَمْثَلِ، فَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطْلُبُونَ شَيْئًا ثَابِتًا صَالِحًا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْعُمْرَانِ فَسُنَنُ الْوُجُودِ مُؤَيِّدَةٌ لَهُمْ، وَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ يَطْلُبُونَ الِانْتِقَامَ وَالِاسْتِعْلَاءَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَسْخِيرَ النَّاسِ لِشَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ وَهِيَ أُمُورٌ تَأْبَاهَا فِطْرَةُ الْبَشَرِ السَّلِيمَةِ، وَسُنَنُ الْعُمْرَانِ الْقَوِيمَةِ، فَلَا قُوَّةَ وَلَا بَقَاءَ لَهَا، إِلَّا بِتَرْكِهَا وَشَأْنَهَا، وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ لِأَهْلِهَا، وَإِنَّمَا بَقَاءُ الْبَاطِلِ
فِي نَوْمَةِ الْحَقِّ عَنْهُ، وَثَمَّ مَعْنًى آخَرُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابٌ عَمَّا عَسَاهُ يَطُوفُ بِخَوَاطِرِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ أَنَّنَا لَا نُقَاتِلُ لِأَنَّنَا ضُعَفَاءُ وَالْأَعْدَاءُ أَكْثَرُ مِنَّا عَدَدًا، وَأَقْوَى مِنَّا عُدَدًا، فَدَلَّهُمُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى قُوَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي لَا تُعَادِلُهَا قُوَّةٌ، وَضَعْفِ الْأَعْدَاءِ الَّذِي لَا يُفِيدُهُ مَعَهُ كَيَدٌ وَلَا حِيلَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ تَأْيِيدُ الْحَقِّ الَّذِي يُوقِنُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَصَاحِبُ الْيَقِينِ وَالْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ الْفَاضِلَةِ تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ بِكُلِّ قُوَاهَا إِلَى إِتْمَامِ الِاسْتِعْدَادِ، وَيَكُونُ أَجْدَرَ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ فِي كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ.
أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْقِتَالَ الدِّينِيَّ أَشْرَفُ مِنَ الْقِتَالِ الْمَدَنِيِّ لِأَنَّ الْقِتَالَ الدِّينِيَّ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ يُقْصَدُ بِهِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَحُرِّيَّةَ الدِّينِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ (٨: ٣٩)، أَيْ حَتَّى لَا يُفْتَنَ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ وَيُكْرَهُ عَلَى تَرْكِهِ، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (٢: ٢٥٦)، وَقَالَ فِي وَصْفِ مَنْ أُذِنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ بَعْدَ مَا بَيَّنَ إِلْجَاءَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (٢٢: ٤١)، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَأَمَّا الْقِتَالُ الْمَدَنِيُّ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْمُلْكَ وَالْعَظْمَةَ، وَتَحَكُّمَ الْغَالِبِ الْقَوِيِّ فِي الْمَغْلُوبِ الضَّعِيفِ، وَإِنَّمَا يَذُمُّ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الْحَرْبَ الدِّينِيَّةَ ; لِأَنَّهُمْ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ فِي الْحُرُوبِ الْمَدَنِيَّةِ، وَلَهُمْ طَمَعٌ فِي بِلَادٍ لَيْسَ لَهَا مِثْلُ تِلْكَ الْقُوَّةِ، وَإِنَّمَا لَهَا بَقِيَّةٌ مِنْ قُوَّةِ الْعَقِيدَةِ، فَهُمْ يُرِيدُونَ الْقَضَاءَ عَلَى هَذِهِ الْبَقِيَّةِ وَيَتَّهِمُونَهَا بَاطِلًا بِهَذِهِ التُّهْمَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسَائِرَ مَا وَرَدَ فِي الْقِتَالِ فِي السُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ تَدُلُّ - إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهَا أَعْمَالُ الْمُسْلِمِينَ - عَلَى أَنَّ الْحَرْبَ الَّتِي يُوجِبُهَا الدِّينُ وَيَشْتَرِطُ لَهَا الشُّرُوطَ وَيُحَدِّدُ لَهَا الْحُدُودَ
قَدْ تَرَكَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ قُرُونٍ طَوِيلَةٍ، وَلَوْ وُجِدَتْ فِي الْأَرْضِ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ تُقِيمُ الْقُرْآنَ وَتُحَوِّطُ الدِّينَ وَأَهْلَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ إِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ قُوَّةٍ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْحَرْبِ حَتَّى تَكُونَ أَقْوَى دَوْلَةٍ حَرْبِيَّةٍ ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ تَتَجَنَّبُ الِاعْتِدَاءَ فَلَا تَبْدَأُ غَيْرُهَا بِقِتَالٍ بِمَحْضِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، بَلْ تَقِفُ عِنْدَ تِلْكَ الْحُدُودِ الْعَادِلَةِ فِي الْهُجُومِ وَالدِّفَاعِ، لَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ لَاتَّخَذَهَا أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الصَّحِيحَةِ قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ، وَلَكِنْ صَارَ بَعْضُ الْأُمَمِ الَّتِي لَا تَدِينُ بِالْقُرْآنِ أَقْرَبَ إِلَى أَحْكَامِهِ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ،
وَإِنَّمَا الْغَلَبَةُ وَالْعِزَّةُ لِمَنْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْفِعْلِ، عَلَى مَنْ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْهَا وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ بِالْقَوْلِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ تَذْكِيرُ صِفَةِ اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا لِتَذْكِيرِ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ كَانَ كَالْفِعْلِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ عَلَى حَسَبِ مَا عَمِلَ فِيهِ، فَالظَّالِمُ أَهْلُهَا هَاهُنَا كَقَوْلِكَ: الَّتِي يَظْلِمُ أَهْلُهَا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.
213
أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً، فَقَالَ: أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الْآيَةَ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ
فِي لُبَابِ النُّقُولِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَعِنْدَهُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى أَنَّهَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِبْهَامِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّنِي أَجْزِمُ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَهْمَا كَانَ سَنَدُهَا ; لِأَنَّنِي أُبَرِّئُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ مِمَّا رُمُوا بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ وَالنَّفْرِ لَهُ، وَذَكَرَ حَالَ الْمُبْطِئِينَ لِضَعْفِ قُلُوبِهِمْ، وَأَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ وَإِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنًا آخَرَ مِنْ شُئُونِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ، كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي تَخَاصُمٍ وَتَلَاحُمٍ وَحُرُوبٍ مُسْتَحِرَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ - فَإِنَّ الْحُرُوبَ بَيْنَهُمْ لَمْ تَنْقَطِعْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ أَمَرَهُمُ الْإِسْلَامُ بِالسِّلْمِ وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ بِالْعِبَادَةِ وَالْكَفِّ عَنِ الِاعْتِدَاءِ وَالْقِتَالِ إِلَى أَنِ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَفَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فَكَرِهَهُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ إِذْ أَمَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِاحْتِرَامِ الدِّمَاءِ، وَكَفِّ الْأَيْدِي عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَبِالْخُشُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَتَمْكِينِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الَّتِي تُفِيدُ مَعَ تَمْكِينِ الْإِيمَانِ شَدَّ أَوَاخِي التَّرَاحُمِ بَيْنَهُمْ، فَأَحَبُّوا أَنْ يَكْتُبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ لِيَجْرُوا عَلَى مَا تَعَوَّدُوا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ لِلدِّفَاعِ عَنْ بَيْضَتِهِمْ وَحِمَايَةِ حَقِيقَتِهِمْ، كَرِهَهُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْقَهُوا مِنَ الْأَمْرِ بِكَفِّ الْأَيْدِي أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُحِبُّ سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَأَنَّهُ مَا كَتَبَ الْقِتَالَ إِلَّا لِضَرُورَةِ دِفَاعِ الْمُبْطِلِينَ الْمُغِيرِينَ عَلَى الْحَقِّ وَأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَبَاطِيلَهُمْ وَاتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ، فَيُرِيدُونَ أَنْ يُنَكِّلُوا بِهِمْ، أَوْ يَرْجِعُوا عَنْ حَقِّهِمْ فَأَيْنَ مَحَلُّ الِاسْتِنْكَارِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ؟ وَهَؤُلَاءِ هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُبْطِئُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَأَوْ هُنَا بِمَعْنَى " بَلْ " أَيْ: إِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي الْخَشْيَةِ أَنْ يَمِيلَ إِلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى الْآخَرِ تَارَةً، وَكَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ رَجَّحُوا
بِتَرْكِ الْقِتَالِ خَشْيَةَ النَّاسِ مُطْلَقًا قَالَ: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أَيْ: بَلْ أَشَدَّ خَشْيَةً، أَقُولُ: اسْتَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ نُزُولَ الْآيَةِ فِي بَعْضِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَمَا اسْتَحَقُّوهَا إِلَّا بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَجَعْلِهَا فِي الْمُبْطِئِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ فِيهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ ضِعَافُ
214
الْإِيمَانِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُ رِوَايَةً تَجْعَلُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْهُمْ!
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَآيَاتٌ بَعْدَهَا فِي الْيَهُودِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ، نَهَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ يَصْنَعُوا صَنِيعَهُمْ، اهـ، أَيْ: أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ - الِاعْتِبَارُ بِمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَى قَوْلِهِ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ (٢: ٢٤٦).
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَالضُّعَفَاءُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ كَلَّفَهُمْ مُخَالَفَةَ عَادَتِهِمْ فِي الْغَزْوِ وَالْقِتَالِ لِأَجْلِ الثَّأْرِ، وَلِأَجْلِ الْحَمِيَّةِ وَالْكَسْبِ، وَأَمَرَهُمْ بِكَفِّ أَيْدِيهِمْ عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ، حَتَّى خَمَدَتْ مِنْ نُفُوسِ أَكْثَرِهِمْ تِلْكَ الْحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَحَلَّ مَحَلَّهَا أَشْرَفُ الْعَوَاطِفِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَمَنَّى لَوْ يُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَبَعْضُ السَّابِقِينَ رَأَوْا تَرْكَهُ ذُلًّا وَطَلَبُوا الْإِذْنَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَشْيَةً مِنَ النَّاسِ بَلْ ذَلِكَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ الصَّادِقِينَ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ - لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْبَابِ - كَانَ كُرْهًا لِجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (٢: ٢١٦)، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْعَزْمِ وَالْيَقِينِ أَطَاعُوا وَبَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ قِتَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقِتَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ عَظِيمًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فَكَانُوا قَدْ أَنِسُوا وَسَكَنُوا إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَرْكِ الْقِتَالِ وَكَفِّ الْأَيْدِي فَنَالَ مِنْهُمُ الْجُبْنُ، وَأَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَكَرِهُوا الْمَوْتَ لِأَجْلِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْإِيمَانِ الرَّاسِخِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَثَرُ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْأَعْدَاءِ حَتَّى رَجَّحُوهُ عَلَى
الْخَشْيَةِ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُ بِالْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ وَهُوَ يَقُولُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٣: ١٧٥)، وَاسْتَنْكَرُوا فَرْضَ الْقِتَالِ وَأَحَبُّوا لَوْ تَأَخَّرَ إِلَى أَجَلٍ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، أَيْ هَلَّا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَنْ نَمُوتَ حَتْفَ أُنُوفِنَا بِأَجَلِنَا الْقَرِيبِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْقَرِيبِ الزَّمَنُ الَّذِي يَقْوَوْنَ فِيهِ وَيَسْتَعِدُّونَ لِلْقِتَالِ بِمِثْلِ مَا عِنْدَ أَعْدَائِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَكُونُوا قَصَدُوا أَجَلًا مُعَيَّنًا مَعْلُومًا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِمَحْضِ الْهَرَبِ وَالتَّفَصِّي مِنَ الْقِتَالِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُرْهِقُكَ عُسْرًا فِي أَمْرٍ: أَمْهِلْنِي قَلِيلًا أَنْظِرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ أَيْ: إِنَّ عِلَّةَ اسْتِنْكَارِكُمْ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِكُمُ الْإِنْظَارَ فِيهِ؛ إِنَّمَا هِيَ خَشْيَةُ
215
الْمَوْتِ، وَالرَّغْبَةُ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَكُلُّ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَتَاعِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ، فَإِنَّ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى لِأَنَّ مَتَاعَهَا كَثِيرٌ وَبَاقٍ لَا نَفَادَ لَهُ وَلَا زَوَالَ، وَإِنَّمَا يَنَالُهُ مَنِ اتَّقَى الْأَسْبَابَ الَّتِي تُدَنِّسُ النَّفْسَ بِالشِّرْكِ وَبِالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَالْجُبْنِ وَالْقُعُودِ عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، وَإِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا لِلْمُتَّقِينَ، فَهِيَ شَرٌّ وَوَبَالٌ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَجْزِيُّونَ هُنَالِكَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ وَلَا تُنْقَصُونَ مِنَ الْجَزَاءِ الَّذِي تَسْتَحِقُّونَهُ بِأَثَرِ أَعْمَالِكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِقْدَارَ فَتِيلٍ، وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ مِثْلَ الْخَيْطِ، أَوْ مَا يُفْتَلُ بِالْأَصَابِعِ مِنَ الْوَسَخِ عَلَى الْجِلْدِ أَوْ مِنَ الْخُيُوطِ، يُضْرَبُ هَذَا مَثَلًا فِي الْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ، وَقِيلَ: لَا تُنْقَصُونَ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ آجَالِكُمْ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: " يُظْلَمُونَ " عَلَى الْغِيبَةِ لِتَقَدُّمِهَا وَالْبَاقُونَ " تُظْلَمُونَ " بِالْخِطَابِ، ثُمَّ جَاءَ بِمَا يَذْهَبُ بِأَعْذَارِهِمْ، وَيَنْفُخُ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ فِي الْمُسْتَعِدِّينَ مِنْهُمْ فَقَالَ:
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أَيْ: إِنَّ الْمَوْتَ
حَتْمٌ لَا مَفَرَّ مِنْهُ وَلَا مَهْرَبَ، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَكُمْ فِي أَيِّ مَكَانٍ كُنْتُمْ وَلَوْ تَحَصَّنْتُمْ مِنْهُ فِي الْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ، وَهِيَ الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ فَيَعُزُّ الِارْتِقَاءُ إِلَيْهَا بِدُونِ إِذْنِهِمْ، أَوِ الْحُصُونُ الْمَنِيعَةُ الَّتِي تَعْتَصِمُ فِيهَا حَامِيَةُ الْجُنْدِ، شَيَّدَ الْبِنَاءَ يُشَيِّدُهُ عَلَّاهُ وَأَحْكَمَ بِنَاءَهُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَبْنِيَهُ بِالشِّيدِ وَهُوَ - بِالْكَسْرِ - كُلُّ مَا يُطْلَى بِهِ الْحَائِطُ كَالْجِصِّ وَالْبَلَاطِ، يُقَالُ: شَادَّ الْبِنَاءَ إِذَا جَصَّصَهُ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَكُلُّ مَا أُحْكِمَ مِنَ الْبِنَاءِ فَقَدْ شُيِّدَ، وَتَشْيِيدُ الْبِنَاءِ إِحْكَامُهُ وَرَفْعُهُ، أَيْ: لِأَنَّ فِي التَّفْعِيلِ مَعْنًى مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ فِي الشَّيْءِ، وَأَجَازَ الرَّاغِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُرُوجِ بُرُوجَ النَّجْمِ وَيَكُونَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْمُشَيَّدَةِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ وَتَكُونَ الْإِشَارَةُ بِالْمَعْنَى إِلَى نَحْوِ مَا قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ لَا مَفَرَّ عَنْهُ وَلَا عَاصِمَ، وَكَانَ الْمَرْءُ يَخُوضُ مَعَامِعَ الْقِتَالِ فَيُصَابُ وَلَا يَمُوتُ، وَيُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فِيهَا أَحْيَانًا فَلَا يُصَابُ بِجُرْحٍ وَلَا يُقْتَلُ، وَقَدْ يَمُوتُ الْمُعْتَصِمُ فِي الْبُرُوجِ وَالْحُصُونِ اغْتِضَارًا، وَإِذَا كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقِتَالِ هُوَ أَقْوَى أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْجُبَنَاءَ يُغْرُونَ أَعْدَاءَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِعَدَمِ دِفَاعِهِمْ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِعْدَادُ لِلْقِتَالِ وَالْإِقْدَامُ فِيهِ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ وَمَنْعِ الْبَاطِلِ أَنْ يَسُودَ وَالشَّرِّ أَنْ يَفْشُوَ - مُوجِبًا لِمَرْضَاةِ اللهِ وَلِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَمَا هُوَ عُذْرُكُمْ أَيُّهَا الْقَاعِدُونَ الْمُبْطِئُونَ؟
216
فَلِمَاذَا تَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِكُمُ الْحَقِيرَ عَلَى الْعَظِيمِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ؟
كَانَ مِنْ مَرَضِ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ أَنْ كَرِهُوا الْقِتَالَ وَجَبُنُوا عَنْهُ وَخَافُوا النَّاسَ وَتَمَنَّوْا بِذَلِكَ طُولَ الْبَقَاءِ، فَكَانَ هَذَا صَدْعًا فِي دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ قَامَتْ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، ثُمَّ ذَكَرْنَا شَأْنًا آخَرَ مِنْ شُئُونِهِمْ يُشْبِهُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَرَضِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ فَقَالَ:
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْحَسَنَةُ مَا يَحْسُنُ عِنْدَ صَاحِبِهِ
كَالرَّخَاءِ وَالْخَضْبِ وَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، كَانُوا يُضِيفُونَ الْحَسَنَةَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لَا بِشُعُورِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ بَلْ غُرُورًا بِأَنْفُسِهِمْ، وَزَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُمْ بِهَا عِنَايَةً بِهِمْ، وَهُرُوبًا مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَثَرُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَمَا حَاطَهُمْ بِهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَيْهِ السَّيِّئَةَ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيءٌ مِنْ أَسْبَابِهَا، دَعْ إِيجَادَهَا وَإِيقَاعَهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، وَالسَّيِّئَةُ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ كَالشِّدَّةِ وَالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْهَزِيمَةِ وَالْجَرْحِ وَالْقَتْلِ، كَانَ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ فِي الْمَدِينَةِ سَيِّئَةٌ بَعْدَ الْهِجْرَةِ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ شُؤْمِ مُحَمَّدٍ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِوُقُوعِهَا فِي مُلْكِهِ عَلَى حَسَبِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا أَيْ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَمَاذَا أَصَابَ عُقُولَهُمْ حَالَ كَوْنِهَا بِمَعْزِلٍ عَنِ الْغَوْصِ فِي أَعْمَاقِ الْحَدِيثِ وَفَهْمِ مَقَاصِدِهِ وَأَسْرَارِهِ! فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ حَقِيقَةَ حَدِيثٍ يُلْقُونَهُ وَلَا حَقِيقَةَ حَدِيثٍ يُلْقَى إِلَيْهِمْ قَطُّ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ بِمَا يَطْفُو مِنَ الْمَعْنَى عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ بَادِئَ الرَّأْيِ، وَالْفِقْهُ مَعْرِفَةُ مُرَادِ صَاحِبِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ وَحِكْمَتِهِ فِيهِ مِنَ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ وَالْغَائِيَّةِ لَهُ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ فَقَدُوا هَذَا الْفِقْهَ وَحُرِمُوهُ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ، فَأَجْدَرُ بِهِمْ أَنْ يُحْرَمُوهُ مِنْ حَدِيثٍ يُبَلِّغُهُ الرَّسُولُ عَنْ وَحْيِ رَبِّهِ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، فَهَذِهِ الْمَعَارِفُ الْعَالِيَةُ لَا تُنَالُ إِلَّا بِفَضْلِ الرَّوِيَّةِ وَذَكَاءِ الْعَقْلِ وَطُولِ التَّدَبُّرِ، وَمَنْ نَالَهَا لَا يَقُولُ بِأَنَّ سَيِّئَةً تَقَعُ بِشُؤْمِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يُسْنِدُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى السَّبَبِ، أَوْ إِلَى وَاضِعِ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ أَنْ يَطْلُبَ فِقْهَ الْقَوْلِ دُونَ الظَّوَاهِرِ الْحَرْفِيَّةِ، فَمَنِ اعْتَادَ الْأَخْذَ بِمَا يَطْفُو مِنَ الظَّوَاهِرِ دُونَ مَا رَسَبَ فِي أَعْمَاقِ الْكَلَامِ وَمَا تَغَلْغَلَ فِي أَنْحَائِهِ وَأَحْنَائِهِ يَبْقَى جَاهِلًا غَبِيًّا طُولَ عُمْرِهِ.
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي السَّيِّئَاتِ وَالْحَسَنَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَوْضُوعِهَا وَسُنَنِ
الِاجْتِمَاعِ فِيهَا، وَأَنَّهَا كُلَّهَا تُضَافُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِيهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ:
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِكُلِّ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى مَهْمَا يُصِبْكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَهِيَ مِنْ مَحْضِ فَضْلِ اللهِ الَّذِي سَخَّرَ لَكَ الْمَنَافِعَ الَّتِي تَحْسُنُ عِنْدَكَ لَا بِاسْتِحْقَاقِ سَبْقٍ لَكَ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَبِمَاذَا اسْتَحْقَقْتَ أَنْ يُسَخِّرَ لَكَ الْهَوَاءَ النَّقِيَّ الَّذِي يُطَهِّرُ دَمَكَ، وَيَحْفَظُ حَيَاتَكَ، وَالْمَاءَ الْعَذْبَ الَّذِي يَمُدُّ حَيَاتَكَ وَحَيَاةَ كُلِّ الْأَحْيَاءِ الَّتِي تَنْتَفِعُ بِهَا، وَهَذِهِ الْأَزْوَاجُ الْكَثِيرَةُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَحَيَوَانَاتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَادِّ الْغِذَاءِ وَأَسْبَابِ الرَّاحَةِ وَالْهَنَاءِ، وَمَهْمَا يُصِبْكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ أُوتِيتَ قُدْرَةً عَلَى الْعَمَلِ وَاخْتِيَارًا فِي تَقْدِيرِ الْبَاعِثِ الْفِطْرِيِّ عَلَيْهِ مِنْ دَرْءِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، فَصِرْتَ تَعْمَلُ بِاجْتِهَادِكَ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ وَالْمَقَاصِدِ عَلَى بَعْضٍ فَتُخْطِئُ فَتَقَعُ فِيمَا يَسُوؤُكَ، فَلَا أَنْتَ تَسِيرُ عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَتَتَحَرَّى جَادَّتَهَا، وَلَا أَنْتَ تُحِيطُ عِلْمًا بِالسُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ وَضَبْطِ الْهَوَى وَالْإِرَادَةِ فِي اخْتِيَارِ الْحَسَنِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا تُرَجِّحُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي حِينٍ دُونَ حِينٍ بِالْهَوَى أَوْ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ بِالنَّافِعِ وَالضَّارِّ مِنْهَا فَتَقَعُ فِيمَا يَسُوؤُكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَمِلْتَ السَّيِّئَاتِ.
وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ أَنَّ هُنَا حَقِيقَتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَأَنَّهُ وَاضِعُ النِّظَامِ وَالسُّنَنِ لِأَسْبَابِ الْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِسَعْيِ الْإِنْسَانِ، وَكُلُّ شَيْءٍ حَسَنٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّهُ مَظْهَرُ الْإِبْدَاعِ وَالنِّظَامِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقَعُ فِي شَيْءٍ يَسُوؤُهُ إِلَّا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي اسْتِبَانَةِ الْأَسْبَابِ وَتَعَرُّفِ السُّنَنِ، فَالسَّوْءُ مَعْنًى يَعْرِضُ لِلْأَشْيَاءِ بِتَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَسُوؤُهُ وَلَيْسَ ذَاتِيًا لَهَا وَلِذَلِكَ يُسْنَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: الْمَرَضُ، فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوءُ الْإِنْسَانَ، وَهُوَ إِنَّمَا يُصِيبُهُ بِتَقْصِيرِهِ فِي السَّيْرِ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي الْغِذَاءِ وَالْعَمَلِ فَيَجِيءُ مِنْ تُخْمَةٍ قَادَتْهُ إِلَيْهَا الشَّهْوَةُ، أَوْ مِنْ إِفْرَاطٍ فِي التَّعَبِ أَوْ فِي الرَّاحَةِ، أَوْ مِنْ عَدَمِ اتِّقَاءِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ كَتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلْبَرْدِ
الْقَارِسِ أَوِ الْحَرِّ الشَّدِيدِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْجَهْلِ بِالْأَسْبَابِ وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ فِي التَّرْجِيحِ، وَالْأَمْرَاضُ الْمَوْرُوثَةُ مِنْ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ أَيْضًا لَا مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَحْضِ خَلْقِ اللهِ دُونَ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، فَوَالِدَاهُ يَجْنِيَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِتَعْرِيضِ أَنْفُسِهِمَا لِلْمَرَضِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَى نَسْلِهِمَا بِالْوِرَاثَةِ، كَمَا يَجْنِيَانِ عَلَيْهِ بَعْدَهُ بِتَعْرِيضِهِ هُوَ لِلْمَرَضِ فِي صِغَرِهِ بِعَدَمِ وِقَايَتِهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ اخْتِيَارُهُمَا لَهُ قَائِمًا مَقَامَ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا خَاصًّا: غَزْوَةَ أُحُدٍ، أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا سَيِّئَةٌ كَانَ سَبَبُهَا تَقْصِيرَهُمْ
218
فِي الْوُقُوفِ عِنْدَ أَسْبَابِ الْفَوْزِ وَالظَّفَرِ فَعِصْيَانَ قَائِدِ عَسْكَرِهِمْ وَرَسُولِهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَرَكَ الرُّمَاةُ مِنْهُمْ مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ لِلنِّضَالِ وَكَانَ ذَلِكَ لِخَطَأٍ فِي الِاجْتِهَادِ سَبَبُهُ الطَّمَعُ فِي الْغَنِيمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ حَسَنَهَا وَسَيِّئَهَا تُسْنَدُ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيُقَالُ: إِنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِمَوَادِّهَا وَالْوَاضِعُ لِسُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فِيهَا، وَيُسْنَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْهَا كُلُّ مَالَهُ فِيهِ كَسْبٌ وَعَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَوِ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ مَضَى بِهَذَا عُرْفُ النَّاسِ وَأَيَّدَتْهُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦: ١٦٠)، فَلِمَاذَا جَعَلَ هُنَا إِصَابَةَ الْحَسَنَةِ مِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - مُطْلَقًا وَإِصَابَةَ السَّيِّئَةِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا؟
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ حَقٌّ، وَمَا فِي الْآيَةِ حَقٌّ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَالْمَقَامُ الَّذِي سِيقَتِ الْآيَةُ لَهُ هُوَ بَيَانُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَفْيُ الشُّؤْمِ وَالتَّطَيُّرِ وَإِبْطَالُهُمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ لَا يُصِيبُهُمْ بِشُؤْمِ أَحَدٍ يَكُونُ فِيهِمْ، وَكَانُوا يَتَشَاءَمُونَ وَيَتَطَيَّرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يَزَالُ التَّطَيُّرُ وَالتَّشَاؤُمُ فَاشِيًا فِي الْجَاهِلِينَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ، وَهُوَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي يَرُدُّهَا الْعَقْلُ وَقَدْ أَبْطَلَهَا دِينُ الْفِطْرَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧: ١٣١)، فَقَدْ جَعَلَ التَّطَيُّرَ مِنَ الْجَهْلِ وَفَقْدِ الْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ.
ثَانِيَهُمَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ سَبَبِهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَكْتَفِي بِعَدَمِ إِسْنَادِهَا إِلَى شُؤْمِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا عَمَلٌ وَلَا كَسْبٌ ; لِأَنَّ السَّيِّئَةَ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ بِمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا مِنْ تَقْصِيرِهِ وَخُرُوجِهِ بِجَهْلِهِ أَوْ هَوَاهُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الْتِمَاسِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَاتِّقَاءِ الْمَضَارِّ بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِهَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ هُوَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنْ تَرْجِيحِ الْخَيْرِ لَهَا عَلَى الشَّرِّ، وَالنَّفْعِ عَلَى الضُّرِّ، وَكَوْنِ كُلِّ قُوَّةٍ مِنْ قُوَاهُ نَافِعَةً لَهُ إِذَا أَحْسَنَ اسْتِعْمَالَهَا، وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ سَيِّئَةٌ قَطُّ، وَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ يَقَعُ فِي الضَّرَرِ غَالِبًا بِسُوءِ الِاسْتِعْمَالِ وَطَلَبِ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ لَوْلَا جِنَايَتُهُ عَلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِ، كَالْإِفْرَاطِ فِي اللَّذَّاتِ وَالتَّعَبِ، تَنْفِرُ مِنْهُ الْفِطْرَةُ فَيَحْتَالُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا وَيَحْمِلُهَا مَا لَا تَحْمِلُهُ بِطَبْعِهَا لَوْلَا ظُلْمُهُ لَهَا، كَاسْتِعْمَالِهِ الْأَدْوِيَةِ لِإِثَارَةِ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالْوِقَاعِ وَعَدَمِ وُقُوفِهِ فِيهِمَا عِنْدَ حَدِّ الدَّاعِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، كَأَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا إِذَا جَاعَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُقَوِّيَةِ وَالتَّوَابِلِ الْمُحَرِّضَةِ، فَمَصَائِبُ الْإِنْسَانِ مِنْ ظُلْمِهِ وَكَسْبِهِ [رَاجِعْ ص ٦٥ و١٥٥ - ١٥٨ و٢٨١ ج٤].
219
لُبُّ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي عَلَّمَنَا اللهُ إِيَّاهَا وَرَبَّانَا بِهَا هُوَ أَنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، كَسُنَنِهِ فِي فِطْرَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (٦٧: ٣)، كُلُّهَا مَصَادِرُ لِلْحَسَنَاتِ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ سَيِّئٌ بِطَبْعِهِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ فُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ، وَمِنَ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا أَحْكَمَ الْعِلْمَ وَأَحْسَنَ الِاخْتِيَارَ مُهْتَدِيًا بِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ - وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ - كَانَ مَغْمُورًا فِي الْحَسَنَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَإِذَا قَصَّرَ فِي الْعِلْمِ وَأَسَاءَ الِاخْتِيَارَ فِي اسْتِعْمَالِ قُوَاهُ وَأَعْضَائِهِ فِي غَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْفِطْرَةِ وَحَاجَةُ الطَّبِيعَةِ وَقَعَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوؤُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالْمُعَاتَبَةِ كُلَّمَا أَصَابَتْهُ سَيِّئَةٌ، لِيَعْتَبِرَ بِهَا وَيَزْدَادَ عِلْمًا وَكَمَالًا، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَعِلْمِ النَّفْسِ فِيهَا شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ، وَتَثْبِيتٌ فِي مَقَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَهِيَ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَلْقًا لِمَوَارِدِهَا وَأَسْبَابِهَا وَتَقْدِيرًا لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ بِجَعْلِهَا عَلَى قَدْرِ الْمُسَبَّبَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ لِلْإِنْسَانِ عَمَلًا فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ أَحْسَنَ وَأَصَابَ كَانَتْ لَهُ الْحَسَنَةُ بِفَضْلِ اللهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَخْطَأَ وَأَسَاءَ كَانَتْ لَهُ السَّيِّئَةُ بِخُرُوجِهِ عَنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَتَقْصِيرِهِ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ دَخْلٌ فِيمَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّهُ أُرْسِلَ لِلتَّبْلِيغِ وَالْهِدَايَةِ لَا لِلتَّصَرُّفِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَتَحْوِيلِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ أَوْ تَبْدِيلِهَا، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا (٣٥: ٤٣)، فَزَعْمُ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُصِيبُهُمْ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَمَا تَخَيَّلُوا مِنْ شُؤْمِهِ، لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقْلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا بَيَّنَ مِنْ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ فِي النَّقْلِ، عَلَى أَنَّ هِدَايَتَهُ جَامِعَةٌ لِأَسْبَابِ النِّعَمِ فَهِيَ مِنْ يُمْنِهِ لَا مَنْ خَلْقِهِ.
وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا عَلَى صِحَّةِ رِسَالَتِكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِتَأْيِيدِكَ بِآيَاتِهِ، وَتَصْدِيقِكَ فِيمَا أَنْذَرْتَ بِهِ الْمُعْرِضِينَ، وَبَشَّرْتَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ شَهِيدًا بِأَنَّكَ لَمْ تُرْسَلْ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، لَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ وَلَا جَبَّارًا لَهُمْ، وَلَا مُغَيِّرًا لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِيهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ هُنَا الشَّهَادَةُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمُنْكَرَةَ.
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى هُنَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِمْ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى هُنَا كَانَ يَقُولُ هَذَا يَهُودُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ كَوْنَ السِّيَاقِ فِيهِمْ، وَفِي مَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ، لَا فِي ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ خَاصَّةً كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَلَهُ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَقَالٌ فِي تَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَكَانَ قَدْ سُئِلَ
220
عَنْهُمَا فَأَجَابَ وَنَشَرْنَا جَوَابَهُ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ (ص ١٥٧) وَيَحْسُنُ أَنْ نَضَعَهُ هَاهُنَا فَهُوَ مَوْضِعُهُ وَهُوَ:
" كَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ بَطَرًا جَاهِلًا، إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَنِعْمَةٌ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ أَكْرَمَهُ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْدَرَهُ مِنْ لَدُنْهُ وَسَاقَهُ إِلَيْهِ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِهِ عِنَايَةً مِنْهُ بِهِ لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ، إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ شَرٌّ - وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ السَّيِّئَةِ - يَزْعُمُ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ شُؤْمَ وَجُودِهِ هُوَ يَنْبُوعُ هَذِهِ السَّيِّئَاتِ وَالشُّرُورِ، فَهَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ يَتَنَاوَبَانِهِمْ قَبْلَ ظُهُورِ النَّبِيِّ وَبَعْدَهُ، كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَيَنْسُبُونَ الْخَيْرَ أَوِ الْحَسَنَةَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُهَا الْأَوَّلُ وَمُعْطِيهَا الْحَقِيقِيُّ، يُشِيرُونَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدَ لِلنَّبِيِّ فِيهِ، وَيَنْسُبُونَ الشَّرَّ أَوِ السَّيِّئَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُهَا الْأَوَّلُ وَمَنْبَعُهَا الْحَقِيقِيُّ كَذَلِكَ، وَأَنَّ شُؤْمَهُ هُوَ الَّذِي رَمَاهُمْ بِهَا، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَوْ مِنْ عِنْدِكَ، أَيْ مِنْ لَدُنْهُ وَمِنْ خَزَائِنِ عَطَائِهِ، وَمِنْ لَدُنْكَ وَمِنْ خَزَائِنِ رَزَايَاكَ الَّتِي تَرْمِي بِهَا النَّاسَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ بِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَيْ: إِنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ وَوَاضِعَ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْمُنْعِمَ بِالنِّعَمِ وَالرَّامِيَ بِالنِّقَمِ إِنَّمَا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لِيُمْنٍ وَلَا لِشُؤْمٍ مُدْخَلٌ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ بَيَانٌ لِلْفَاعِلِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُرَدُّ إِلَيْهِ الْفِعْلُ فِيمَا لَا تَتَنَاوَلُهُ قُدْرَةُ الْبَشَرِ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ كَسْبُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَعْنِيهِ أُولَئِكَ الْمُشَاقُّونَ عِنْدَمَا يَقُولُونَ: الْحَسَنَةُ مِنَ اللهِ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ مُحَمَّدٍ، أَيْ: إِنَّهُ لَا دَخْلَ لِاخْتِيَارِهِمْ فِي الْأُولَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ، وَأَنَّ الْأُولَى مِنْ عِنَايَةِ اللهِ بِهِمْ وَالثَّانِيَةَ مِنْ شُؤْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ تَرْمِيهِمْ بِالْجَهْلِ فَمَا زَعَمُوا، وَلَوْ عَقَلُوا لَعَلِمُوا أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ فِعْلٌ، الْخَيْرُ وَالشَّرُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
" هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ بِيَدِهِ الْأَمْرُ الْأَعْلَى فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِسُنَّةِ اللهِ فِي طَرِيقِ كَسْبِ الْخَيْرِ وَالتَّوَقِّي مِنَ الشَّرِّ وَالتَّمَسُّكِ بِأَسْبَابِ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا يَزْعُمُونَ، كَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَدْ وَهَبَنَا مِنَ الْعَقْلِ وَالْقُوَى مَا يَكْفِينَا فِي تَوْفِيرِ أَسْبَابِ سَعَادَتِنَا وَالْبُعْدِ عَنْ مَسَاقِطِ الشَّقَاءِ، فَإِذَا نَحْنُ اسْتَعْمَلْنَا تِلْكَ الْمَوَاهِبَ فِيمَا وُهِبَتْ لَهُ لِأَجْلِهِ وَصَرَفْنَا حَوَاسَّنَا وَعُقُولَنَا فِي الْوُجُوهِ الَّتِي نَنَالُ مِنْهَا الْخَيْرَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَصْحِيحِ الْفِكْرِ وَإِخْضَاعِ جَمِيعِ قُوَانَا لِأَحْكَامِهِ وَفَهْمِ شَرَائِعِ اللهِ حَقَّ الْفَهْمِ وَالْتِزَامِ مَا حَدَّدَهُ فِيهَا، فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّنَا نَنَالُ الْخَيْرَ وَالسَّعَادَةَ، وَنَبْعُدُ عَنِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَاسَةِ، وَهَذِهِ النِّعَمُ إِنَّمَا يَكُونُ مَصْدَرُهَا تِلْكَ الْمَوَاهِبَ الْإِلَهِيَّةَ فَهِيَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، فَمَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنِ اللهِ ; لِأَنَّ قُوَاكَ الَّتِي كَسَبْتَ بِهَا الْخَيْرَ وَاسْتَغْزَرْتَ بِهَا الْحَسَنَاتِ، بَلْ وَاسْتِعْمَالَكَ لِتِلْكَ الْقُوَى إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللهِ ; لِأَنَّكَ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ سِوَى اسْتِعْمَالِ
مَا وَهَبَ اللهُ، فَاتِّصَالُ الْحَسَنَةِ بِاللهِ ظَاهِرٌ، وَلَا يَفْصِلُهَا فَاصِلٌ لَا ظَاهِرٌ
221
وَلَا بَاطِنٌ، وَأَمَّا إِذَا أَسَأْنَا التَّصَرُّفَ فِي أَعْمَالِنَا، وَفَرَّطْنَا فِي النَّظَرِ فِي شُئُونِنَا، وَأَهْمَلْنَا الْعَقْلَ وَانْصَرَفْنَا عَنْ سِرِّ مَا أَوْدَعَ اللهُ فِي شَرَائِعِهِ، وَغَفَلْنَا عَنْ فَهْمِهِ، فَاتَّبَعْنَا الْهَوَى فِي أَفْعَالِنَا، وَجَلَبْنَا بِذَلِكَ الشَّرَّ عَلَى أَنْفُسِنَا، كَانَ مَا أَصَابَنَا مِنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْ سُوءِ اخْتِيَارِنَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَيْنَا جَزَاءً عَلَى مَا فَرَّطْنَا، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنَّ نَنْسُبَ ذَلِكَ إِلَى شُؤْمِ أَحَدٍ أَوْ تَصَرُّفِهِ، وَنِسْبَةُ الشَّرِّ وَالسَّيِّئَاتِ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ، فَأَمَّا الْمَوَاهِبُ الْإِلَهِيَّةُ بِطَبِيعَتِهَا فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْخَيْرِ وَالْحَسَنَاتِ وَإِنَّمَا يُبْطِلُ أَثَرَهَا إِهْمَالُهَا، أَوْ سُوءُ اسْتِعْمَالِهَا، وَعَنْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ يُسَاقُ الشَّرُّ إِلَى أَهْلِهِ وَهُمَا مِنْ كَسْبِ الْمُهْمِلِينَ وَسَيِّئِ الِاسْتِعْمَالِ، فَحَقَّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِمْ مَا أُصِيبُوا بِهِ وَهُمُ الْكَاسِبُونَ لِسَبَبِهِ، فَقَدْ حَالُوا بِكَسْبِهِمْ بَيْنَ الْقُوَى الَّتِي غَرَزَهَا اللهُ فِيهِمْ لِتُؤَدِّيَ إِلَى الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، وَبَيْنَمَا حَقُّهَا أَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَبَعُدُوا بِهَا عَنْ حِكْمَةِ اللهِ فِيهَا، وَصَارُوا بِهَا إِلَى ضِدِّ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ هَذَا الْكَسْبِ الْجَدِيدِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَلَّا يُنْسَبَ إِلَّا إِلَى كَاسِبِهِ.
" وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْمَقَامَيْنِ: أَنَّهُ إِذَا نُظِرَ إِلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَمْنَحُ وَيَسْلُبُ وَيُنْعِمُ وَيَنْتَقِمُ فَذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنْ سِوَاهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ لَا يَكَادُ يَفْقَهُ كَلَامًا ; لِأَنَّ نِسْبَةَ الْخَيْرِ إِلَى اللهِ وَنِسْبَةَ الشَّرِّ إِلَى شَخْصٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَكَادُ يُعْقَلُ، فَإِنَّ الَّذِي يَأْتِي بِالْخَيْرِ وَيَقْدِرُ عَلَى سَوْقِهِ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّرِّ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَالتَّفْرِيقُ ضَرْبٌ مِنَ الْخَبَلِ فِي الْعَقْلِ.
" وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَسْبَابِ الْمَسْنُونَةِ الَّتِي دَعَا اللهُ الْخَلْقَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا لِيَكُونُوا سُعَدَاءَ وَلَا يَكُونُوا أَشْقِيَاءَ، فَمَنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بِحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ لِمَا وَهَبَ اللهُ فَذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ اسْتِعْمَالَ الْآلَاتِ الَّتِي مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ اللهَ وَيَشْكُرَهُ عَلَى مَا آتَاهُ، وَمَنْ فَرَّطَ أَوْ أَفْرَطَ فِي اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَهُوَ
الَّذِي أَسَاءَ إِلَيْهَا بِسُوءِ اسْتِعْمَالِهِ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ، وَلَيْسَ بِسَائِغٍ لَهُ أَنْ يَنْسُبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَوْ سِوَاهُ لَمْ يَغْلِبْهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَقْهَرْهُ عَلَى إِتْيَانِ مَا كَانَ سَبَبًا فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ.
" فَلَوْ عَقَلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَحَمِدُوا اللهَ وَحَمَدُوكَ - يَا مُحَمَّدُ - عَلَى مَا يَنَالُونَ مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَانِحُهُمْ مَا وَصَلُوا بِهِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَنْتَ دَاعِيهِمْ لِالْتِزَامِ شَرَائِعِ اللهِ وَفِي الْتِزَامِهَا سَعَادَتُهُمْ، ثُمَّ إِذَا أَصَابَهُمْ شَرٌّ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِاللَّائِمَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ أَوْ خُرُوجِهِمْ عَنْ حُدُودِ اللهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ قَدِ انْتَقَمَ مِنْهُمْ لِلتَّقْصِيرِ أَوِ الْعِصْيَانِ فَيُؤَدِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ لِيَخْرُجُوا مِنْ نِقْمَتِهِ إِلَى نِعْمَتِهِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِهِ، وَإِنَّمَا يُنْعِمُ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ الِاخْتِيَارَ وَيَسْلُبُ نِعْمَتَهُ عَمَّنْ أَسَاءَهُ.
222
وَقَدْ تَضَافَرَتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ النِّعَمِ، وَأَنَّ عِصْيَانَهُ مِنْ مَجَالِبِ النِّقَمِ، وَطَاعَةُ اللهِ إِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّبَاعِ سُنَنِهِ، وَصَرْفِ مَا وَهَبَ مِنَ الْوَسَائِلِ فِيمَا وُهِبَ لِأَجْلِهِ ".
" وَلِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّعْبِيرِ نَظَائِرٌ فِي عُرْفِ التَّخَاطُبِ، فَإِنَّكَ لَوْ كُنْتَ فَقِيرًا وَأَعْطَاكَ وَالِدُكَ مَثَلًا رَأْسَ مَالٍ فَاشْتَغَلْتَ بِتَنْمِيَتِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ مَعَ حُسْنٍ فِي التَّصَرُّفِ وَقَصْدٍ فِي الْإِنْفَاقِ وَصِرْتَ بِذَلِكَ غَنِيًّا، فَإِنَّهُ يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ غِنَاكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَعْطَاكَ رَأْسَ الْمَالِ وَأَعَدَّكَ بِهِ لِلْغِنَى، أَمَّا لَوْ أَسَأْتَ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَأَخَذْتَ تُنْفِقُ مِنْهُ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ، وَاطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْكَ فَاسْتَرَدَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَحَرَمَكَ نِعْمَةَ التَّمَتُّعِ بِهِ، فَلَا رَيْبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ نَفْسُكَ وَسُوءُ اخْتِيَارِهَا، مَعَ أَنَّ الْمُعْطِيَ وَالْمُسْتَرِدَّ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ وَالِدُكَ، غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ يُنْسَبُ إِلَى مَصْدَرِهِ الْأَوَّلِ إِذَا انْتَهَى عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ، وَيُنْسَبُ إِلَى السَّبَبِ الْقَرِيبِ إِذَا جَاءَ عَلَى غَيْرِ مَا يُحِبُّ ; لِأَنَّ تَحْوِيلَ الْوَسَائِلِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا إِلَى مَقَاصِدِهَا إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى مَنْ حَوَّلَهَا وَعَدَلَ بِهَا عَمَّا كَانَ يَجِبُ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ.
" وَهُنَاكَ لِلْآيَةِ مَعْنًى أَدَقُّ، يَشْعُرُ بِهِ ذُو وِجْدَانٍ أَرَقَّ، مِمَّا يَجِدُهُ الْغَافِلُونَ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَنَّ مَا وَجَدْتَ مِنْ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ، وَمَا تَمَتَّعْتَ بِهِ مِنْ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ،
فَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ وَاخْتَارَهُ لَكَ، وَمَا خُلِقْتَ إِلَّا لِتَكُونَ سَعِيدًا بِمَا وَهَبَكَ، أَمَّا مَا تَجِدُهُ مِنْ حُزْنٍ وَكَدَرٍ فَهُوَ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَوْ نَفَذَتْ بَصِيرَتُكَ إِلَى سِرِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا سِيقَ إِلَيْكَ لَفَرَحْتَ بِالْمُحْزِنِ فَرَحَكَ بِالسَّارِّ، وَإِنَّمَا أَنْتَ بِقِصَرِ نَظَرِكَ تُحِبُّ أَنْ تَخْتَارَ مَا لَمْ يَخْتَرْهُ لَكَ الْعَلِيمُ بِكَ الْمُدَبِّرُ لِشَأْنِكَ، وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى الْعَالَمِ نَظْرَةَ مَنْ يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَأَخَذْتَهُ كَمَا هُوَ وَعَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَكَانَتِ الْمَصَائِبُ لَدَيْكَ بِمَنْزِلَةِ التَّوَابِلِ الْحِرِّيفَةِ يُضِيفُهَا طَاهِيكَ عَلَى مَا يُهَيِّئُ لَكَ مِنْ طَعَامٍ لِتَزِيدَهُ حُسْنَ طَعْمٍ وَتَشْحَذَ مِنْكَ الِاشْتِهَاءَ لِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّةِ، وَاسْتَحْسَنْتَ بِذَلِكَ كُلَّ مَا اخْتَارَهُ اللهُ لَكَ، وَلَا يَمْنَعُكَ ذَلِكَ مِنَ الْتِزَامِ حُدُودِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِنِعَمِهِ، وَالتَّحَوُّلِ عَنْ مَصَابِّ نِقَمِهِ، فَإِنَّ اللَّذَّةَ الَّتِي تَجِدُهَا فِي النِّقْمَةِ إِنَّمَا هِيَ لَذَّةُ التَّأْدِيبِ، وَمَتَاعُ التَّعْلِيمِ وَالتَّهْذِيبِ وَهُوَ مَتَاعٌ تَجْتَنِي فَائِدَتَهُ، وَلَا تَلْتَزِمُ طَرِيقَتَهُ، فَكَمَا يَسُرُّ طَالِبُ الْأَدَبِ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَأَنْ يَلْتَذَّ بِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَعَبٍ فِيهِ، يَسُرُّهُ كَذَلِكَ أَنْ يَرْتَقِيَ فَوْقَ ذَلِكَ الْمَقَامِ إِلَى مُسْتَوًى يَجِدُ نَفْسَهُ فِيهِ مُتَمَتِّعًا بِمَا حَصَلَ، بَالِغًا مَا أَمَلَ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكْتَفِيَ، انْتَهَى.
223
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُسَايِرَةٌ لَهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ طَاعَةَ
اللهِ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِمَا مَعًا أَمْرًا عَامًّا، وَبَيَّنَ جَزَاءَ الْمُطِيعِ وَأَحْوَالَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ وَالصِّدْقِ فِيهِ وَالنِّفَاقِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ، وَبَيَّنَ مَرَاتِبَ النَّاسِ فِي الِامْتِثَالِ، وَبَعْدَ هَذَا ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ الطَّاعَةِ وَكَوْنِهَا لِلَّهِ تَعَالَى بِالذَّاتِ، وَلِغَيْرِهِ بِالتَّبَعِ، وَبَيَّنَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ مُرَاوَغَةِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ فِيهَا فَقَالَ:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ أَيْ: إِنَّ الرَّسُولَ هُوَ رَسُولُ اللهِ، فَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولٌ فَهُوَ مِنَ اللهِ، وَهُوَ الْعِبَادَاتُ وَالْفَضَائِلُ، وَالْأَعْمَالُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ الَّتِي تُحْفَظُ بِهَا الْحُقُوقَ، وَتُدْرَأُ الْمَفَاسِدُ، وَتُحْفَظُ الْمَصَالِحُ، فَمَنْ أَطَاعَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَأْمُرُ النَّاسَ وَيَنْهَاهُمْ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلٍ مِنْهُمْ، يَفْهَمُونَ عَنْهُمْ مَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَيْهِمْ لِيُبَلِّغُوهُ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْعَادَاتِ، كَمَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَمَا يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ أَمْرَ الْإِرْشَادِ، فَطَاعَتُهُ فِيهِ لَيْسَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهُ لَيْسَ دِينًا وَلَا شَرْعًا عَنْهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِنْ كَمَالِ الْأَدَبِ وَقُدْوَةِ الْحُبِّ، مِثَالُهُ: أَمْرُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَيْلِ الطَّعَامِ كَالْقَمْحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُبُوبِ، أَيْ: عِنْدَ اتِّخَاذِهِ وَعِنْدَ إِرَادَةِ طَبْخِهِ، وَهُوَ مِنَ التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي الْبُيُوتِ، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يَتْرُكُونَهُ إِلَّا مَنْ يَتَّبِعُ طُرُقَ الْمَدَنِيَّةِ الْحَدِيثَةِ فِي الِاقْتِصَادِ وَتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَا يَظْهَرُ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ لِمُنَاسَبَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمُخَاطَبِينَ، كَالْأَمْرِ بِأَكْلِ الزَّيْتِ وَالِادِّهَانِ بِهِ وَالْأَمْرِ بِأَكْلِ الْبَلَحِ بِالتَّمْرِ، فَهُوَ مَا كَانَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا بَاسِمِ الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَكَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -
224
إِذَا شَكُّوا فِي الْأَمْرِ، هَلْ هُوَ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ مِنْ رَأْيِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجْتِهَادِهِ وَكَانَ لَهُمْ رَأْيٌ آخَرَ سَأَلُوهُ، فَإِنْ أَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ أَطَاعُوهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَإِنْ قَالَ إِنَّهُ مِنْ رَأْيِهِ ذَكَرُوا رَأْيَهُمْ وَرُبَّمَا رَجَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَأْيِهِ إِلَى رَأْيِهِمْ كَمَا فَعَلَ فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ.
فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يُطَاعُ لِذَاتِهِ ; لِأَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ وَإِلَهُهُمْ وَمَلِكُهُمْ، وَهُمْ عَبِيدُهُ الْمَغْمُورُونَ بِنِعَمِهِ، وَأَنَّ رُسُلَهُ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْهُ مِنْ
حَيْثُ إِنَّهُمْ رُسُلُهُ لَا لِذَاتِهِمْ، وَمِثَالُ ذَلِكَ الْحَاكِمُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ الْمَمْلَكَةِ وَقَوَانِينِهَا، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْأَوَامِرِ الرَّسْمِيَّةِ، وَلَا تَجُبْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ مُقَاتِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ "، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: قَدْ قَارَبَ هَذَا الرَّجُلُ الشِّرْكَ، وَهُوَ أَنْ نَهَى أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ، وَيُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ أَلْبَتَّةَ لِلرَّسُولِ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ لِلَّهِ، انْتَهَى.
وَوَجْهُ قَوْلِ مُقَاتِلٍ هُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ لَا يَكُونُ مُسْتَعْبَدًا خَاضِعًا إِلَّا لِخَالِقِهِ وَحْدَهُ دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرَى لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ سُلْطَةً غَيْبِيَّةً وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَتَرْجُو نَفْعَهُ وَتَخَافُ ضُرَّهُ وَتَدْعُو وَتَذِلُّ لَهُ، سَوَاءٌ شَعَرْتَ فِي تَوَجُّهِ قَلْبِكَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يَنْفَعُكَ بِذَاتِهِ، أَوْ بِتَأْثِيرِهِ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِحَيْثُ يَفْعَلُ لِأَجْلِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ لَوْلَاهُ بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَرَى لِبَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ حَقَّ التَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لِذَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: يُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّخَاذَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ فِيمَا يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - شُبْهَةَ الْمُنَافِقِينَ وَأُغْلُوطَتِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا يُطَاعُ فِيمَا هُوَ مُرْسَلٌ فِيهِ وَمَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِهِ عَنْ رَبِّهِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ يَكُونُ أَعَزَّ النَّاسِ نَفْسًا، وَأَعْظَمَهُمْ كَرَامَةً، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِيهِ حَاكِمٌ، وَلَا أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ، وَمَا قَوَى الِاسْتِبْدَادُ فِي الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِضَعْفِ التَّوْحِيدِ فِيهِمْ، فَالتَّوْحِيدُ هُوَ مُنْتَهَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مِنَ الِارْتِقَاءِ وَالْكَمَالِ، فَصَاحِبُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَفِي تِلْكَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى هُوَ خَاضِعٌ وَمَقْهُورٌ لِلنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا النِّظَامُ الْعَامُّ، وَأَنَّ تَفَاوُتَهَا فِي الصِّفَاتِ وَالْخَوَاصِّ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ الْأَقْوَى فِي صِفَةٍ مَا عَلَى الْأَضْعَفِ رَفْعَ الْإِلَهِ
225
عَلَى الْمَأْلُوهِ وَالرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ، فَحَجَرُ الصَّوَّانِ الصُّلْبُ الْقَوِيُّ لَيْسَ إِلَهًا وَلَا رَبًّا لِحَجَرِ الْكَذَّانِ الضَّعِيفِ، وَلَا حَجَرُ
الْمِغْنَاطِيسِ إِلَهًا يُعَظَّمُ تَعْظِيمًا دِينِيًّا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ، وَالشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ وَالْحَرَارَةِ لَيْسَتْ إِلَهًا وَلَا رَبًّا لِلسَّيَّارَاتِ التَّابِعَةِ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهِنَّ، بَلْ هِيَ مُسَخَّرَةٌ مِثْلُهُنَّ لِلسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ، كَذَلِكَ الْقَوِيُّ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ لَيْسَ إِلَهًا لِلضَّعِيفِ يَدْعُوهُ هَذَا وَيَذِلُّ لَهُ وَيَسْتَخْذِي أَمَامَهُ، وَوَاسِعُ الْعِلْمِ لَيْسَ رَبًّا لِقَلِيلِ الْعِلْمِ يُشَرِّعُ لَهُ وَيُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ وَمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا الطَّاعَةُ، كَذَلِكَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ لَا يَجِبُ رَفْعُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ تَعَبُّدًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ انْفَرَدَ بِهِ، أَوْ حِيلَةٍ وَهُوَ السِّحْرُ أَوْ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِقُوَّةٍ رُوحِيَّةٍ وَمِنْهُ مَا يُسَمُّونَهُ كَرَامَةً، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ امْتَازَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ كَامْتِيَازِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ وَالذَّكِيِّ عَلَى الْبَلِيدِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ رَبًّا وَلَا إِلَهًا، وَلَا خَارِجًا عَنْ سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ كُلٌّ عَبِيدٌ مُسَخَّرُونَ لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا بِقَدْرِ عِلْمِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، وَيُكَلَّفُونَ طَاعَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ بِحَسَبِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ فِي شَرْعِهِ، لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلَ بِاعْتِقَادِ غَيْرِهِ وَلَا بِرَأْيِهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ يَتَعَاوَنُونَ فِي الْأَعْمَالِ وَفِي الْعُلُومِ، فَقَوِيُّ الْبَدَنِ يَكُونُ أَكْثَرَ نَفْعًا لِلْآخَرِينَ بِقُوَّتِهِ الْبَدَنِيَّةِ وَهُوَ عَبْدٌ مِثْلُهُمْ لَا يُقَدِّسُونَهُ وَلَا يَرْفَعُونَ مَرْتَبَتَهُ عَنِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي يُشَارِكُهُمْ فِيهَا، وَقَوِيُّ الْعَقْلِ يَكُونُ أَكْثَرَ نَفْعًا بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ ارْتِفَاعًا قُدُسِيًّا، وَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَحْصِيلًا لِلْعِلْمِ يَفِيضُ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى الطُّلَّابِ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ وَلَا بِفَهْمِهِ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَصَارَ عِلْمًا لَهُ وَاعْتِقَادًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ عَامِلًا بِاعْتِقَادِ نَفْسِهِ الَّذِي حَصَّلَهُ بِمُسَاعَدَةِ أُسْتَاذِهِ لَا بِاعْتِقَادِ أُسْتَاذِهِ وَلَا بِرَأْيِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُوَحِّدُ لَا يُطِيعُ أَمْرَ الرَّسُولِ لِذَاتِهِ بَلْ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ فَكَيْفَ. يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطِيعَ أَمْرَ مَنْ دُونَهُ لِذَاتِهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -؟ !
هَذَا هُوَ مَقَامُ التَّوْحِيدِ الْأَعْلَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ مَنَاطُ السَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَلَيْسَ لَقَبًا مِنْ أَلْقَابِ الشَّرَفِ أَوْ لَفْظًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوضَعُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ جَمَاعَاتِ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ، فَالتَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ لَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ إِطْلَاقٌ عُرْفِيٌّ اصْطِلَاحِيٌّ، فَيُطْلَقُ اللَّفْظُ مِنْهَا عَلَى أُنَاسٍ لَا يَفْهَمُونَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ، لَا تَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَدْلُولَاتُهَا وَلَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ آيَاتُهَا، وَلَمْ يَنَالُوا مَا بَيَّنَهُ
الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا، كَكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ هُمُ الْمَنْصُورِينَ الْغَالِبِينَ، وَالْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّكَ أَثْبَتَّ فِي تَفْسِيرِ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٤: ٥٩)، أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ بِاجْتِهَادِهِ وَاجِبَةٌ، وَذَكَرْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَعَلْتُهَا ذَيْلًا لِتَفْسِيرِ الْآيَةِ مُوَضِّحًا لَهَا أَنَّ مَرَاتِبَ الطَّاعَةِ ثَلَاثٌ: الْأُولَى: مَا يُبَلِّغُهُ الرَّسُولُ
226
عَنْ رَبِّهِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَحْكُمُ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَالثَّالِثَةُ: مَا يَسْتَنْبِطُهُ جَمَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ مِمَّا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَقَدْ أَثْبَتُّ وُجُوبَ طَاعَةِ الرَّسُولِ فِي اجْتِهَادِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ أَصْرَحِهَا وَأَوْضَحِهَا مَا ذَكَرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ (٤: ١٣)، إِلَخْ، [ص ٣٥٠، ٣٥١ ج٤ ط الْهَيْئَةِ]، أَفَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَكَوْنَ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ التَّوْحِيدِ؟
قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَاجْتِهَادُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ بَيَانٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ أَذِنَ اللهُ لَهُ بِهَذَا الْبَيَانِ فَقَالَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١٦: ٤٤)، وَهَذَا الْإِذْنُ ضَرُورِيٌّ لَا غِنَى عَنْهُ، وَنَظِيرُهُ اجْتِهَادُ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ فِي تَفْسِيرِ الْقَوَانِينِ، فَطَاعَتُهُمْ فِيمَا يَحْكُمُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ فِي هَذِهِ الْقَوَانِينِ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةٌ لِلْقَانُونِ لَا لِلشَّخْصِ الْحَاكِمِ بِجَعْلِهِ شَارِعًا يُطَاعُ لِذَاتِهِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ وَحْيٌ، وَأَنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْقُرْآنِ، بَلِ الْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا النَّظْمِ الْمُعْجِزِ لِلتَّحَدِّي بِهِ، وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ وَأَمْرِنَا بِالتَّعَبُّدِ بِهِ، وَهُنَاكَ وَحْيٌ لَيْسَ لَهُ خَصَائِصُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا، وَهُوَ مَا كَانَ يُلْقِيهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ فِي رُوعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَيْسَتْ مُعْجِزَةً يَتَحَدَّى بِهَا وَلَا يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهَا وَلَكِنْ يُطَاعُ الرَّسُولُ فِيهَا لِأَنَّهُ مَا جَاءَ بِهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ عِنْدِ مُرْسِلِهِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٥٣: ٣، ٤)، وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُ هَذَا النَّصَّ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً.
وَأَمَّا طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ فَهِيَ لَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ أَيْضًا، وَلَا تَقْتَضِي ذُلَّ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ بِخُضُوعِهِ لِمِثْلِهِ مِنَ الْبَشَرِ وَجَعْلِهِ شَارِعًا يُطَاعُ لِذَاتِهِ ; لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ إِنَّمَا يُطَاعُونَ فِيمَا
تَعْهَدُ إِلَيْهِمُ الْأُمَّةُ وَضَعَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ الَّتِي مَسَّتْ حَاجَتُهَا إِلَيْهَا لِثِقَتِهَا بِهِمْ لَا تَقْدِيسًا لِذَوَاتِهِمْ، وَمَا يَضَعُونَهُ بِشُرُوطِهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ يُنْسَبُ إِلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهُ بِالنِّيَابَةِ عَنْهَا، فَلَا يَشْعُرُ أَحَدُ مُتَّبِعِيهِ بِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْبَدًا مُسْتَذَلًّا لِأَحَدِ أُولَئِكَ النُّوَّابِ عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ رَأْيَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ وَضَعُوا مَا وَضَعُوهُ بِالْمُشَاوَرَةِ، يَكُونُ مُدْغَمًا فِي آرَاءِ الْآخَرِينَ، وَالسُّلْطَةُ فِي ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ فِي مَجْمُوعِهَا لَا لِأُولَئِكَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ وَكَّلَتْ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكِلُّ إِلَى آخَرَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الْأَمْرِ أَوْ يُوَكِّلَهُ فِيهِ فَيَقُومَ بِذَلِكَ، وَلَا يَرَى الْعَاهِدُ أَوِ الْمُوَكَّلُ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَذَلًّا لَهُ، وَلَا يَرَى النَّاسُ ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ قَدْ يَرَوْنَ عَكْسَهُ، فَالْمُؤْمِنُ لَا يَذِلُّ وَيَسْتَخْذِي لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ لِذَاتِهِ بَلْ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالْعِزَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَثْبَتَ الْكِتَابُ الْمُبِينُ.
وَمِنْ هَذَا الْبَيَانِ تَفْهَمُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، أَيْ وَمَنْ
227
تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَنْ طَاعَتِكَ الَّتِي هِيَ طَاعَةُ اللهِ فَلَيْسَ مِنْ شُئُونِ رِسَالَتِكَ أَنْ تُكْرِهَهُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّنَا أَرْسَلْنَاكَ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا لَا حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، أَيْ: لَا مُسَيْطِرًا وَرَقِيبًا تَحْفَظُ عَلَى النَّاسِ أَعْمَالَهُمْ فَتُكْرِهُهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَا جَبَّارًا تَجْبِرُهُمْ عَلَيْهِ، بَلِ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ مِنَ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَتْبَعُ الِاقْتِنَاعَ.
ذَكَرْتُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا حَقَّقَهُ الْفَيْلَسُوفُ الْعَرَبِيُّ الِاجْتِمَاعِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلْدُونَ فِي بَعْضِ فُصُولِ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ فِي كَوْنِ مُعَانَاةِ أَهْلِ الْحَضَرِ لِلْأَحْكَامِ مُفْسِدَةً لِبَأْسِهِمْ ذَاهِبَةً بِمَنَعَتِهِمْ، وَكَوْنِ الَّذِينَ يُؤْخَذُونَ بِأَحْكَامِ الْقَهْرِ وَالسُّلْطَةِ وَبِأَحْكَامِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ يَنْقُصُ بِأْسُهُمْ وَيَغْلُبُ عَلَيْهِمُ الْجُبْنُ وَالضَّعْفُ، وَكَوْنُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَازِعًا اخْتِيَارِيًّا لَا يُفْسِدُ الْبَأْسَ، وَلَا يُذَلِّلُ النَّفْسَ، قَالَ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي ذَلِكَ مَا نَصُّهُ:
" وَلِهَذَا نَجِدُ الْمُتَوَحِّشِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَهْلَ الْبَدْوِ أَشَدَّ بَأْسًا مِمَّنْ تَأْخُذُهُمُ الْأَحْكَامُ، وَنَجِدُ أَيْضًا الَّذِينَ يُعَانُونَ الْأَحْكَامَ وَمَلَكَتِهَا مِنْ لَدُنْ مَرْبَاهُمْ فِي التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ فِي الصَّنَائِعِ وَالْعُلُومِ وَالدِّيَانَاتِ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ بَأْسِهِمْ كَثِيرًا، وَلَا يَكَادُونَ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَادِيَةً بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا شَأْنُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْمُنْتَحِلِينَ لِلْقِرَاءَةِ وَالْأَخْذِ
عَنِ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ الْمُمَارِسِينَ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ فِي مَجَالِسِ الْوَقَارِ وَالْهَيْبَةِ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ وَذَهَابُهَا بِالْمَنَعَةِ وَالْبَأْسِ ".
وَلَا تَسْتَنْكِرْ ذَلِكَ بِمَا وَقَعَ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أَخْذِهِمْ بِأَحْكَامِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ بَأْسِهِمْ بَلْ كَانُوا أَشَدَّ بَأْسًا ; لِأَنَّ الشَّارِعَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - لَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ دِينَهُمْ كَانَ وَازِعَهُمْ فِيهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِمَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَمْ يَكُنْ بِتَعْلِيمٍ صِنَاعِيٍّ وَلَا تَأْدِيبٍ تَعْلِيمِيٍّ، إِنَّمَا هِيَ أَحْكَامُ الدِّينِ وَآدَابُهُ الْمُتَلَقَّاةُ نَقْلًا يَأْخُذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهَا بِمَا رَسَخَ فِيهِمْ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، فَلَمْ تَزَلْ سُورَةُ بِأْسِهِمْ مُسْتَحْكِمَةً كَمَا كَانَتْ وَلَمْ تَخْدِشْهَا أَظْفَارُ التَّأْدِيبِ وَالْحُكْمِ، قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّبْهُ الشَّرْعُ لَا أَدَّبَهُ اللهُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَازِعُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَقِينًا بِأَنَّ الشَّارِعَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.
وَلَمَّا تَنَاقَصَ الدَّيْنُ فِي النَّاسِ وَأَخَذُوا بِالْأَحْكَامِ الْوَازِعَةِ، ثُمَّ صَارَ الشَّرْعُ عِلْمًا وَصِنَاعَةً يُؤْخَذُ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ، وَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى الْحَضَارَةِ وَخُلُقِ الِانْقِيَادِ إِلَى الْأَحْكَامِ نَقَصَتْ بِذَلِكَ سَوْرَةُ الْبَأْسِ فِيهِمْ.
" فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَحْكَامَ السُّلْطَانِيَّةَ وَالتَّعْلِيمِيَّةَ مِمَّا تُؤَثِّرُ فِي أَهْلِ الْحَوَاضِرِ فِي ضَعْفِ نُفُوسِهِمْ وَخَضَدِ الشَّوْكَةِ مِنْهُمْ بِمُعَانَاتِهِمْ فِي وَلِيدِهِمْ وَكُهُولِهِمْ، وَالْبَدْوُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لِبُعْدِهِمْ عَنْ أَحْكَامِ السُّلْطَانِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ كِتَابِهِ فِي أَحْكَامِ الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَضْرِبَ أَحَدًا مِنَ الصِّبْيَانِ فِي التَّعْلِيمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ، نَقَلَهُ شُرَيْحٌ الْقَاضِيُّ، انْتَهَى الْمُرَادُ ".
228
يَظُنُّ مَنْ نُشِّئَ عَلَى التَّقْلِيدِ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ أَنَّ مَا قَالَهُ هَذَا الْحَكِيمُ خَطَأٌ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنْ أُمَمِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ ذَاتِ الْبَأْسِ وَالْقُوَّةِ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى تَأْدِيبِ الْمَدَارِسِ، وَسَيْطَرَتِهَا فِي تَكْوِينِ نَابِتَةِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ تَعْتَزُّ بِهِمْ وَيَعْلُو شَأْنُهَا.
مَهْلًا أَيُّهَا الْمُقَلِّدُ الْغِرُّ، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاظِرِينَ تُصَوِّرُ لَهُمْ أَذْهَانُهُمْ بِدَلَائِلِهَا النَّظَرِيَّةِ أَمْرًا ثُمَّ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ التَّجَارِبِ الطَّوِيلَةِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ
الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا أَهْوَاءُ الرُّؤَسَاءِ مَا لَا يَظْهَرُ الصَّوَابُ فِيهِ بَعْدَ التَّجَارِبِ إِلَّا لِلْأَفْرَادِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَمِنْهُ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَبْحَثُ فِيهَا.
وَضَعَ رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةُ قَوَانِينَ لِتَرْبِيَةِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ تَرْبِيَةً شَدِيدَةً، يُؤْخَذُونَ فِيهَا بِالنِّظَامِ وَالطَّاعَةِ الْعَمْيَاءِ لِيَكُونُوا جُنْدًا رُوحِيًّا لِرُؤَسَائِهِمْ، يَتَحَرَّكُونَ بِإِرَادَتِهِمْ لَا بِإِرَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَيَتَوَجَّهُونَ حَيْثُمَا يُوَجِّهُونَهُمْ، وَيُنَفِّذُونَ كُلَّ مَا بِهِ يَأْمُرُونَهُمْ، فَاسْتَوْلَى أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءُ بِهَذَا النِّظَامِ عَلَى أَبْنَاءِ دِينِهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ إِلَى الصَّعَالِيكِ وَسَخَّرُوهُمْ لِإِرَادَتِهِمْ قُرُونًا كَثِيرَةً، وَفَعَلَ الْمُلُوكُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سُلْطَتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ فَاسْتَعْبَدُوا النَّاسَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَكَانُوا سَبَبَ ضَعْفِ أُمَمِهِمْ وَانْحِطَاطِهَا إِلَى أَنْ حَرَّرُوا أَنْفُسَهُمْ.
ثُمَّ زَلْزَلَتِ الِانْقِلَابَاتُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ السُّلْطَتَيْنِ وَأَضْعَفَتْهُمَا بِمَا اسْتَفَادَ الْأُورُبِّيُّونَ مِنَ الْعِلْمِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحُرُوبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ، وَبِمَا بَثَّهُ فِيهِمْ تَلَامِيذُ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حُكَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَضَعُفَتِ السُّلْطَتَانِ وَنَازَعَتْهُمَا قُوَّةُ الْعِلْمِ فَنَزَعَتْ مِنْهُمَا مَا نَزَعَتْ، فَلَمَّا رَأَى الْفَرِيقَانِ أَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُمَا بِالْعِلْمِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمَا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهِ، تَوَجَّهَتْ هِمَّتُهُمَا إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى تَقْرِيرِ سُلْطَانِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَكَانَتِ الْمَدَارِسُ عَوْنًا لِلْأَدْيَارِ وَلِلثُّكْنَاتِ فِي إِضْعَافِ إِرَادَةِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَإِفْسَادِ بَأْسِهِمْ وَالتَّصَرُّفِ فِي حُرِّيَّتِهِمْ، وَهَذَا كَانَ فِي بَعْضِ الشُّعُوبِ أَقْوَى مِنْهُ فِي بَعْضٍ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْحُكَمَاءُ الَّذِينَ فَطِنُوا لَهُ بَعْدُ ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ قُوَّةُ الْمَدَنِيَّةِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ الْحَاضِرَةِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ الشَّخْصِيِّ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ، وَيَنْشُدُونَ مَرْتَبَةَ الْكَمَالِ مِنْهُ، وَضَعُفْنَا بِفَقْدِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَحْنُ السَّابِقِينَ إِلَيْهِ.
الْإِنْكِلِيزُ أَعْرَقُ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ فِي الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ، عَلَى تَثَبُّتِهِمْ فِي تَقَالِيدِهِمْ وَبُطْئِهِمْ فِي التَّحَوُّلِ عَنِ الْأَمْرِ يَكُونُونَ عَلَيْهِ، وَلِحُرِّيَّتِهِمْ وَاسْتِقْلَالِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ اسْتِفَادَةً مِنَ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي زَلْزَلَ سُلْطَةَ الْبَابَوِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْبِلَادِ وَثَلَّ عَرْشَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَحُكُومَةُ هَذَا الشَّعْبِ هِيَ الْحُكُومَةُ الْفَذَّةُ الَّتِي جَعَلَتْ خِدْمَةَ الْجُنْدِيَّةِ اخْتِيَارِيَّةً، وَأَقَامَتِ التَّرْبِيَةَ فِي الْمَدَارِسِ عَلَى قَوَاعِدَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالِاسْتِقْلَالِ، وَكَرَامَةِ النَّفْسِ، لَمْ يُقِمْهَا أَحَدٌ مِثْلَهَا، وَلِذَلِكَ اسْتَوْلَتْ عَلَى زُهَاءِ خُمْسِ الْبَشَرِ الْأَذِلَّاءِ بِضَعْفِ الِاسْتِقْلَالِ وَفَقْدِ الْحُرِّيَّةِ، عَلَى كَوْنِ جُنْدِهَا أَقَلَّ مِنْ جُنْدِ
غَيْرِهَا مِنَ الدُّوَلِ الْكُبْرَى، وَقَدْ فَطِنَ لِذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ
229
جِيرَانِهَا الْفِرِنْسِيسِ وَأَهَابُوا بِقَوْمِهِمْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِهَا فِيهِ، وَكَتَبُوا فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً تُرْجِمَ بَعْضُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَاشْتُهِرَ كَكِتَابِ " سِرِّ تَقَدُّمِ الْإِنْكِلِيزِ السَّكْسُونِيِّينَ " وَكِتَابِ " التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ " الْمُسَمَّى فِي الْأَصْلِ " إِمِيلِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ ".
بَيَّنَ صَاحِبُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّعْلِيمَ فِي الْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ لَا يُرَبِّي رِجَالًا، وَإِنَّمَا يَصْنَعُ آلَاتٍ تَسْتَعْمِلُهَا الْحُكُومَةُ فِي تَنْفِيذِ سِيَاسَتِهَا كَمَا تَشَاءُ قَالَ فِي نِظَامِ مَدَارِسِهِمْ:
" وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ مُلَائِمٌ لِذَلِكَ الْغَرَضِ كَمَا يَنْبَغِي، أَيْ أَنَّهُ يُهَيِّئُ الطَّلَبَةَ إِلَى الْوَظَائِفِ الْمَلَكِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُوَظَّفَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ إِرَادَتِهِ ; وَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يَتَرَبَّى عَلَى الطَّاعَةِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ أَمْرِ رُؤَسَائِهِ مِنْ غَيْرِ مُنَاقَشَةٍ وَلَا نَظَرٍ فِيهَا ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ آلَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَالْمَدَارِسُ الدَّاخِلِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَاعِثِ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ ; لِأَنَّ الْمَدْرَسَةَ نُظِّمَتْ عَلَى نَسَقِ ثُكْنَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ يَقُومُ الطَّلَبَةُ فِيهَا مَنْ نَوْمِهِمْ عَلَى صَوْتِ الْبُوقِ أَوْ رَنَّةِ الْجَرَسِ، وَيَنْتَقِلُونَ مُصْطَفِّينَ بِالنِّظَامِ مِنْ عَمَلٍ إِلَى آخَرَ، وَرِيَاضَتُهُمْ تُشْبِهُ الِاسْتِعْرَاضَ الْعَسْكَرِيَّ، فَهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الدَّرْسِ إِلَّا فِي رَحَبَاتٍ دَاخِلَ الْبِنَاءِ عَالِيَةِ الْأَسْوَارِ وَيَتَمَشُّونَ فِيهَا جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ كَأَنَّهُمْ لَا يَلْعَبُونَ إِلَى أَنْ قَالَ:
" وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ يُضْعِفُ فِي الشَّبَابِ قُوَّةَ الْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَيُوهِنُ الْهِمَّةَ وَالْإِقْدَامَ، كَمَا أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَيْضًا إِزَالَةُ مَا قَدْ يُوجَدُ بَيْنَ الطَّلَبَةِ مِنْ تَفَاوُتِ الْأَنْسَابِ ; لِأَنَّ الدَّائِرَةَ الَّتِي تَدُورُ عَلَى الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ فَتَجْعَلُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ آلَاتٍ مُعَدَّةً لِلْعَمَلِ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهَا، وَمِمَّا يَزِيدُ فِي سُهُولَةِ انْقِيَادِهِمْ وَحُسْنِ طَاعَتِهِمْ كَوْنُ النِّظَامِ الَّذِي تَرَبُّوا عَلَيْهِ لَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْبِيَةِ الْفِكْرِ وَالتَّعَقُّلِ، بَلِ الطَّالِبُ يَتَنَاوَلُ - مُسْرِعًا - كَثِيرًا مِنَ الْمَوَادِّ سَوَاءٌ أَحْكَمَ تَعَلُّمَهَا أَمْ لَا، وَلَا تَشْغَلُ مِنْ مَلَكَاتِهِ إِلَّا الذَّاكِرَةِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَتَلَقَّى التَّعْلِيمَ مِنْ دُونِ نَظَرٍ فِيهِ تَرَاهُ يَنْحَنِي مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ أَمَامَ الْأَوَامِرِ الَّتِي تَصْدُرُ لَهُ مِنْ رُؤَسَائِهِ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي يُوَظَّفُ فِيهَا ".
وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَنِ الْتَفَتَ إِلَى جَعْلِ الْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ هَكَذَا هُوَ نَابِلْيُونُ الْأَوَّلُ،
لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ جَعْلِ السُّلْطَةِ كُلِّهَا بِيَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، وَنَاهِيكُمْ بِوُلُوعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِالِانْفِرَادِ بِالسُّلْطَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَدَارِسَ الْأَلْمَانِيَّةَ لَا تُرَبِّي رِجَالًا لِأَنَّهَا كَالْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ، بَلْ هُمْ قَلَّدُوا أَلْمَانْيَا فِي نِظَامِ مَدَارِسِهَا كَمَا قَلَّدُوهَا فِي النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ، وَذَكَرَ شَكْوَى عَاهِلِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَدَارِسِ وَتَصْرِيحِهِ فِي خِطَابٍ لَهُ بِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدِّ إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، وَأَطَالَ فِي انْتِقَادِ نِظَامِ هَذِهِ الْمَدَارِسِ.
ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَنَّ الْإِنْكِلِيزَ يُرَبُّونَ أَوْلَادَهُمْ تَرْبِيَةً اسْتِقْلَالِيَّةً، فَيَشُبُّ الْوَاحِدُ
230
مِنْهُمْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي أُمُورِ مَعِيشَتِهِ وَعَامَّةِ أُمُورِهِ، لَا مُتَّكِلًا عَلَى عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ وَلَا عَلَى حُكُومَتِهِ، وَحَثَّ قَوْمَهُ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَأَطَالَ فِي وَصْفِهَا.
وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ " التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ ": " قَهْرُ الطِّفْلِ عَلَى الِامْتِثَالِ وَإِلْزَامِهِ إِطَاعَةَ الْأَوَامِرِ يَسْتَلْزِمُ حَتْمًا إِخْمَادَ وِجْدَانِ التَّكْلِيفِ فِي نَفْسِهِ، خُصُوصًا إِذَا طَالَ أَمَدُ ذَلِكَ الْقَهْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ غَيْرُهُ يَتَكَلَّفُ الْحُلُولَ مَحَلَّهُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْحُكْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِنْصَافِ وَالْجَوْرِ، لَمْ تَبْقِ لَهُ حَاجَةٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى وِجْدَانِهِ وَاسْتِفْتَاءِ قَلْبِهِ "، ثُمَّ قَالَ:
" الطَّاعَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ حُرِّيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ تَرْفَعُ طَبْعَ الطِّفْلِ، وَالْإِذْعَانُ النَّاشِئُ عَنِ الْقَهْرِ يَحُطُّهُ، فَلِلْأُمِّ وَمُعَلِّمِ الْمَدْرَسَةِ كَلِمَةٌ يَقُولَانِهَا عَنِ الطِّفْلِ الْعَنِيدِ الْقَاسِي وَهِيَ قَوْلُهُمَا: " سَأُذَلِّلُهُ " وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ النَّاشِئِينَ عَلَى طَرِيقَتِنَا الْفَرَنْسِيَّةِ فِي التَّرْبِيَةِ مُذَلَّلُونَ دَائِمًا، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي اتِّبَاعِهَا مَصْلَحَةٌ لِلْأَحْدَاثِ وَلِلْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ وَلَكِنْ سَائِسُ الْخَيْلِ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ لِلْحِصَانِ الَّذِي يُرَوِّضُهُ: لَا تَجْزَعْ فَإِنِّي أَعْمَلُ هَذَا بِكَ لِمَصْلَحَتِكَ، عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ التَّرْوِيضِ عَلَى الْحِصَانِ أَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَخْسَرُ بِتَرْوِيضِهِ بِاللِّجَامِ وَالْمِهْمَازِ إِلَّا حِدَّتَهُ الْوَحْشِيَّةَ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّكَ إِذَا أَخَذْتَهُ بِالْقَهْرِ وَسُسْتَهُ بِالْإِرْغَامِ تَذْهَبُ بِحُبِّ الْكَرَامَةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَبْخَسُ قِيمَتَهُ فِي نَظَرِهِ "، وَلَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي هَذَا انْتَقَدَ بِهِ التَّعْلِيمَ الدِّينِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوَالِبِ الَّتِي تُصُبُّ فِيهَا الْمَوَادُّ لِتُكَونَ آلَاتٍ بِشَكْلٍ مَخْصُوصٍ.
فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمُسْتَقِلِّينَ إِلَى تَصْدِيقِ مَا قَالَهُ عَالَمُنَا فِي
التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ مِنْ بِضْعَةِ قُرُونٍ، نَعَمْ إِنَّ الضَّعْفَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ الْمُنْغَمِسَةَ فِي الْحَضَارَةِ قَدْ عَالَجَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ بِخَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ كَالْبَارُودِ وَالدِّينَامِيتِ وَالْبُخَارِ وَالْكَهْرُبَاءِ، وَبِعَمَلِ الْآلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي تَدُكُّ الْمَعَاقِلَ وَتُدَمِّرُ الْحُصُونَ وَتَقْتُلُ فِي الدَّقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ أُلُوفًا مِنَ النَّاسِ، وَبِالنِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ الْجَدِيدِ، فَصَارَ الْغَلَبُ لِأُمَمِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَدْوِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ وَلَا صِنَاعَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَفِقُوا يُعَالِجُونَ مَا تُحْدِثُهُ الْحَضَارَةُ مِنَ الضَّعْفِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْعَزَائِمِ بِالتَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَنْ حُرِمُوا هَذِهِ الْمَزَايَا مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، وَكَادُوا يُسَخِّرُونَ لِخِدْمَتِهِمْ سَائِرَ الْبَشَرِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَالْإِرَادَةِ أَقْرَبَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدَ عَنِ الِاسْتِعْبَادِ لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَلِيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِالتَّوْحِيدِ، وَهُمْ يَسْتَغِيثُونَ أَهْلَ الْقُبُورِ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ وَجَلْبِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَيَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا، وَهُوَ لَمْ يَجْعَلِ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ عَنْهُ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَلَا مُسَيْطِرًا وَلَا وَكِيلًا وَلَا جَبَّارًا، وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُ مُعَلِّمًا هَادِيًا - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - بَلْ جَعَلَ الْوَازِعَ الدِّينِيَّ
231
مِنَ النَّفْسِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، فَمَا أَرْقَى هَذَا الدِّينَ وَمَا أَسْمَى هَدْيَهُ، وَمَا أَضَلَّ مَنِ الْتَمَسَهُ مِنْ غَيْرِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ -.
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ أَيْ: يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ كَافَّةً وَأُولَئِكَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي الْفَرِيقَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ خَشُوا النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ: أَمْرُكَ طَاعَةٌ، لَكَ مِنَّا طَاعَةٌ فِيمَا تَأْمُرُنَا بِهِ وَتَنْهَانَا عَنْهُ، انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّقْدِيرُ " أَمْرُنَا طَاعَةٌ " أَيْ: شَأْنُنَا مَعَكَ الطَّاعَةُ لَكَ، وَالْأَقْرَبُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمَعْنَى أَمْرُكَ طَاعَةٌ أَنَّهُ مُطَاعٌ، فَجَعَلَ الْمَصْدَرَ فِي مَكَانِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ بِإِيجَازِهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ يَدَّعُونَ كَمَالَ الطَّاعَةِ وَيُظْهِرُونَ مُنْتَهَى الِانْقِيَادِ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ، أَيْ: فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ، وَكَلِمَةُ بَرَزَ مِنْ مَادَّةِ الْبَرَازِ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - وَهُوَ الْفَضَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ: خَرَجُوا مِنَ الْمَكَانِ يَكُونُونَ مَعَكَ فِيهِ إِلَى الْبَرَازِ
مُنْصَرِفِينَ إِلَى بُيُوتِهِمْ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ دَبَّرَتْ فِي أَنْفُسِهَا لَيْلًا غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهَا وَتُظْهِرُ الطَّاعَةَ لَكَ فِيهِ نَهَارًا، أَوْ بَيَّتَتْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُهُ هِيَ لَكَ وَتُؤَكِّدُهُ مِنْ طَاعَتِكَ، وَالتَّبْيِيتُ مَا يُدَبَّرُ فِي اللَّيْلِ مِنْ رَأْيٍ وَنِيَّةٍ وَعَزْمٍ عَلَى عَمَلٍ، وَمِنْهُ قَصْدُ الْعَدُوِّ لَيْلًا لِلْإِيقَاعِ بِهِ، وَمِنْهُ تَبْيِيتُ نِيَّةِ الصِّيَامِ أَيِ الْقَصْدُ إِلَيْهِ لَيْلًا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ، فَإِنَّ وَقْتَهَا هُوَ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْفِكْرُ وَيَصْفُو فِيهِ الذِّهْنُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَبْيَاتِ الشِّعْرِ، أَيْ: زَوَّرُوا وَرَتَّبُوا فِي سَرَائِرِهِمْ غَيْرَ مَا تَأْمُرُهُمْ بِهِ كَمَا يُزَوِّرُونَ الْأَبْيَاتَ مِنَ الشِّعْرِ، أَيْ: يَعْزِمُونَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مَعَ التَّفَكُّرِ فِي كَيْفِيَّتِهَا وَاتِّقَاءِ غَوَائِلِهَا كَمَا يُرَتِّبُونَ أَبْيَاتَ الشِّعْرِ وَيَزِنُونَهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ خَاصًّا هَذَا بِالْمُنَافِقِينَ، بَلْ يَكُونُ مِنْ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ، وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَالَهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ نَاسٌ يَقُولُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: آمَنَّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالَفُوا إِلَى غَيْرِ مَا قَالُوا عِنْدَهُ فَعَاتَبَهُمُ اللهُ.
وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ، أَيْ يُبَيِّنُهُ لَكَ فِي كِتَابِهِ وَيَفْضَحُهُمْ بِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ يَكْتُبُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَلَا تُبَالِ بِمَا يُبَيِّتُونَ، وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ بِمَا أَسَرُّوا وَلَمْ يُظْهِرُوا، أَوِ الْمُرَادُ: لَا تُقْبِلْ عَلَيْهِمْ بِالْبَشَاشَةِ كَمَا تُقْبِلُ عَلَى الصَّادِقِينَ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي شَأْنِهِمْ، أَيِ اتَّخِذْهُ وَكِيلًا تَكِلْ إِلَيْهِ جَزَاءَهُمْ وَتُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَمْرَهُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْأَعْمَالِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَبِمَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُونَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَيَقْدِرُ عَلَى إِيقَاعِ هَذَا الْجَزَاءِ لَا يُعْجِزُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْهِ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ هُنَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَرَدَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالُوا مِثْلَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَتْرُكُونَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ
وَالْحِلْمِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِينَ إِلَّا وَيَزْعُمُونَ نَسْخَهُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ " بَيَّتَ طَائِفَةٌ " وَبِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ، وَهُمَا حَرْفَانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَخْرَجِ يُدْغِمُ بَعْضُ الْعَرَبِ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ إِدْغَامٍ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ اتِّفَاقُ الْقُرَّاءِ عَلَى تَذْكِيرِ بَيَّتَ قَالُوا: لَمْ يَقُلْ " بَيَّتَتْ " بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ طَائِفَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَرِيقِ وَالْفَوْجِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ كَافٍ فِي بَيَانِ الْجَوَازِ لَا فِي بَيَانِ الِاخْتِيَارِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُؤَنَّثَ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ وَلَوْ كَانَ تَأْنِيثُهُ لَفْظِيًّا، وَوَجْهُ الِاخْتِيَارِ الَّذِي أَرَاهُ هُوَ أَنَّ تَكْرَارَ التَّاءِ قَبْلَ الطَّاءِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَخْرَجِ لَا يَخْلُو مَنْ ثِقَلٍ عَلَى اللِّسَانِ، وَلِذَلِكَ تُحْذَفُ إِحْدَى التَّائَيْنِ مَنْ مِثْلِ تَتَصَدَّى وَتَتَكَلَّمُ فَيُقَالُ: تَصَدَّى وَتَكَلَّمُ.
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ التَّدَبُّرُ: هُوَ النَّظَرُ فِي إِدْبَارِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا، وَتَدَبُّرِ الْكَلَامِ هُوَ النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي غَايَاتِهِ وَمَقَاصِدِهِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا، وَعَاقِبَةِ الْعَامِلِ بِهِ وَالْمُخَالِفِ لَهُ، وَالْمَعْنَى جَهِلَ هَؤُلَاءِ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ، وَكُنْهَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَعَاقِبَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا وَالْجَاحِدِينَ لَهَا، فَيَعْرِفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ مَا أَنْذَرَ بِهِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاقِعٌ بِهِمْ ; لِأَنَّهُ كَمَا صَدَقَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا يُبَيِّتُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمَا يُثْنُونَ عَلَيْهِ صُدُورَهُمْ، وَيَطْوُونَ عَلَيْهِ سَرَائِرَهُمْ، يَصْدُقُ كَذَلِكَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ سُوءِ مَصِيرِهِمْ، وَكَوْنِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ، وَالْخِزْيِ وَالسُّوءِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، بَلْ لَوْ تَدَبَّرُوهُ حَقَّ التَّدَبُّرِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَالرُّشْدِ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ إِلَّا الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ، وَالصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ، فَإِذَا كَانُوا لِاسْتِحْوَاذِ الْبَاطِلِ وَالْغَيِّ عَلَيْهِمْ لَا يُدْرِكُونَ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ !
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا أَيْ: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْقُرَشِيِّ لَا مِنْ عِنْدِ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ أَيِّ مَخْلُوقٍ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي تَصْوِيرِ الْحَقِّ بِصُورَتِهِ كَمَا هِيَ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَفَاوَتُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، لَا فِي حِكَايَتِهِ عَنِ الْمَاضِي الَّذِي لَمْ يُشَاهِدْهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقِفْ عَلَى تَارِيخِهِ، وَلَا فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْآتِي فِي مَسَائِلَ
233
كَثِيرَةٍ وَقَعَتْ كَمَا أَنْبَأَ بِهَا، وَلَا فِي بَيَانِهِ لِخَفَايَا الْحَاضِرِ، حَتَّى حَدِيثِ الْأَنْفُسِ وَمُخَبِّآتِ الضَّمَائِرِ، كَبَيَانِ مَا تُبَيِّتُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مُخَالِفًا لِمَا تَقُولُ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مَا يَقُولُهُ لَهَا فَتَقْبَلُهُ فِي حَضْرَتِهِ.
وَلِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فِي بَيَانِ أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ، وَفَلْسَفَةِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَسِيَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأَقْوَامِ، مَعَ اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفُرُوعِ.
وَلِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ فُنُونِ الْقَوْلِ وَأَلْوَانِ الْعِبَرِ فِي أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ; وَفِيهَا الْكَلَامُ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَوَصْفِ الْكَائِنَاتِ بِأَنْوَاعِهَا، كَالْكَوَاكِبِ وَبُرُوجِهَا وَنِظَامِهَا، وَالرِّيَاحِ وَالْبِحَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْآيَاتِ، وَكَلَامُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُؤَيِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ مَعَانِيهِ.
وَلِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ وَاسْتِطَاعَةِ غَيْرِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فِي بَيَانِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَنَوَامِيسِ الْعُمْرَانِ، وَطَبَائِعِ الْمِلَلِ وَالْأَقْوَامِ، وَإِيرَادِ الشَّوَاهِدِ وَضُرُوبِ الْأَمْثَالِ، وَتَكْرَارِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُتَشَابِهَةِ، تَنْوِيعًا لِلْعِبَرِ، وَتَلْوِينًا لِلْمَوْعِظَةِ، مَعَ تَجَاوُبِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْحَقِّ، وَتَوَاطُئِهِ عَلَى الصِّدْقِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ، وَتَعَالِيهِ عَلَى التَّفَاوُتِ وَالتَّبَايُنِ.
وَفَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، وَالْخَبَرِ عَنِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَالْجَزَاءِ الْوِفَاقِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَجَارِيًا عَلَى سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ، فَالِاتِّفَاقُ وَالِالْتِئَامُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، هُوَ غَايَةُ الْغَايَاتِ عِنْدَ مَنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ.
كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ يَنْزِلُ مُنَجَّمًا بِحَسْبَ الْوَقَائِعِ وَالْأَحْوَالِ، فَيَأْمُرُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ أَوِ الطَّائِفَةِ مِنَ الْآيَاتِ أَنْ تُوضَعَ فِي مَحَلِّهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا، وَهُوَ لَا يَقْرَأُ فِي الصُّحُفِ مَا كُتِبَ أَوَّلًا وَلَا مَا كُتِبَ آخِرًا، وَإِنَّمَا يَحْفَظُهُ حِفْظًا، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الَّذِي يَأْتِي مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بِالْكَلَامِ الْكَثِيرِ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالْوَقَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ يَتَذَكَّرُ عِنْدَ كُلِّ قَوْلٍ جَمِيعَ مَا سَبَقَ لَهُ فِي السِّنِينِ الْخَالِيَةِ وَيَسْتَحْضِرُهُ لِيَجْعَلَ الْآخَرَ مُوَافِقًا لِلْأَوَّلِ، وَإِذَا تَذَكَّرْتَ أَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ كَانَ يَنْزِلُ فِي أَيَّامِ الْحَرْبِ وَشِدَّةِ الْكَرْبِ، وَبَعْضَهَا كَانَ يَنْزِلُ عِنْدَ الْخِصَامِ، وَتَنَازُعِ الْأَفْرَادِ أَوِ الْأَقْوَامِ، جَزَمْتَ بِأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يَتَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ جَمِيعَ مَا كَانَ قَالَهُ مِنْ قَبْلُ لِيَأْتِيَ بِكَلَامٍ يَتَّفِقُ مَعَهُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَكَانَ إِذَا تَلَا عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ يَحْفَظُونَهَا عَنْهُ فِي صُدُورِهِمْ وَيَكْتُبُونَهَا فِي صُحُفِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَجَالٌ لِلتَّنْقِيحِ وَالتَّحْرِيرِ
234
لَوْ فُرِضَ، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ أَنْ تَمُرَّ السُّنُونَ وَالْأَحْقَابُ وَتَكِرَّ الْقُرُونُ وَالْأَجْيَالُ، وَتَتَّسِعَ دَوَائِرُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَتَتَغَيَّرَ أَحْوَالُ الْعُمْرَانِ، وَلَا تُنْقَضُ كَلِمَةٌ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، لَا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ وَشُئُونِ الْكَوْنِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُنُونِ الْقَوْلِ.
كَتَبَ ابْنُ خَلْدُونَ مُقَدِّمَتَهُ فِي فَلْسَفَةِ التَّارِيخِ وَعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ فَكَانَتْ أَفْضَلَ الْكُتُبِ وَأَحْكَمَهَا فِي عَصْرِ مُؤَلِّفِهَا وَبَعْدَ عَصْرِهِ بِعِدَّةِ عُصُورٍ، ثُمَّ ارْتَقَتِ الْعُلُومُ وَتَغَيَّرَتْ أُصُولُ الْعُمْرَانِ فَظَهَرَ الِاخْتِلَافُ وَالْخَطَأُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا فِيهَا، بَلْ نَرَى الْعَالِمَ النَّابِغَ فِي عِلْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ يُؤَلِّفُ الْكِتَابَ فِيهِ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَعَارِفِ أَقْرَانِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْبَاحِثِينَ، ثُمَّ يُطِيلُ التَّأَمُّلَ فِيهِ وَيُنَقِّحُهُ وَيَطْبَعُهُ فَلَا تَمُرُّ سَنَوَاتٌ قَلِيلَةٌ إِلَّا وَيَظْهَرُ لَهُ الْخَطَأُ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَلَا يُعِيدُ طَبْعَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُغَيِّرَ مِنْهُ وَيُصَحِّحَ مَا شَاءَ، فَمَا بَالُكَ بِمَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا غَيْرُهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لَا بَعْدَ مُرُورِ السِّنِينَ، وَاتِّسَاعِ دَائِرَةِ الْعُلُومِ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا الْقُرْآنُ فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لَا مَدَارِسَ فِيهَا وَلَا كُتُبَ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَمْ يَتَعَلَّمْ قِرَاءَةً وَلَا كِتَابَةً، فَكَيْفَ يَمُرُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْعُمْرَانُ الْبَشَرِيُّ كَمَا قُلْنَا، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَفَاوُتٌ حَقِيقِيٌّ يُعْتَدُّ بِهِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَطْعَنًا فِيهِ! أَلَيْسَ هَذَا
بُرْهَانًا نَاصِعًا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
هَذَا مَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ جَرْيًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِدُونِ اسْتِعَانَةٍ وَلَا اقْتِبَاسٍ مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدِي، وَسَلَكْتُ فِيهِ طَرِيقَ الِاخْتِصَارِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَتَرَكْتُ مَسْأَلَةَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَاتِّفَاقِ أُسْلُوبِهِ فِيهِمَا إِلَى مُرَاجَعَةِ كَلَامِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ رَاجَعْتُ بَعْضَ التَّفَاسِيرِ فَإِذَا أَنَا بِابْنِ جَرِيرٍ يَخْتَصِرُ الْقَوْلَ فِي الْآيَةِ فَيَقُولُ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُ الْمُبَيِّتُونَ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ كِتَابَ اللهِ فَيَعْلَمُوا حُجَّةَ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي طَاعَتِكَ وَاتِّبَاعِ أَمْرِكَ، وَأَنَّ الَّذِي أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ التَّنْزِيلِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، لِاتِّسَاقِ مَعَانِيهِ وَائْتِلَافِ أَحْكَامِهِ، وَتَأْيِيدِ بَعْضِهِ بَعْضًا بِالتَّصْدِيقِ، وَشَهَادَةِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ بِالتَّحْقِيقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَاخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ وَتَنَاقَضَتْ مَعَانِيهِ وَأَبَانَ بَعْضُهُ عَنْ فَسَادِ بَعْضٍ اهـ.
وَبَيَّنَ الرَّازِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ احْتِجَاجٌ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تَثْبُتُ لَهُمْ مَا كَانُوا يَمْتَرُونَ فِيهِ مِنْ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَصَاحَتُهُ، وَاشْتِمَالُهُ عَلَى أَخْبَارِ الْغُيُوبِ، وَسَلَامَتُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَكَرَ فِيهِ - أَيِ الْأَخِيرِ - ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ سِرًّا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ فَبَيَّنَهَا اللهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ صِدْقًا عَلَى خَفَائِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَطَّرِدْ فِيهِ هَذَا الصِّدْقَ.
235
الثَّانِي: قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ كَبِيرٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَقَعَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُتَنَاقِضَةِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ الطَّوِيلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّ الْمُرَادَ الِاخْتِلَافُ فِي مَرْتَبَةِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي جُمْلَةِ مَا يُعَدُّ فِي الْكَلَامِ الرَّكِيكِ، بَلْ بَقِيَتِ الْفَصَاحَةُ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْسَانَ - وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَنِهَايَةِ الْفَصَاحَةِ - إِذَا كَتَبَ كِتَابًا طَوِيلًا مُشْتَمِلًا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ التَّفَاوُتُ فِي كَلَامِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَعْضُهُ قَوِيًّا مَتِينًا وَبَعْضُهُ سَخِيفًا نَازِلًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ الْمُعْجِزُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -.
نَقَلَ الرَّازِيُّ مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ مُفَسِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ بَيَّنُوا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَمَزَايَاهُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِمَامُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَرَافِعُ لِوَائِهِمُ الْمُتَوَفَّى ٤٠٣ هـ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ " إِعْجَازُ الْقُرْآنِ " وَجْهَ إِعْجَازِهِ بِإِخْبَارِهِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَبِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْعُلُومِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالتَّلَقِّي وَالتَّعْلِيمِ مَعَ كَوْنِ مَنْ جَاءَ بِهِ أُمِّيًّا ثُمَّ قَالَ:
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَدِيعُ النَّظْمِ عَجِيبُ التَّأْلِيفِ، مُتَنَاهٍ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُعْلَمُ عَجْزُ الْخَلْقِ عَنْهُ وَالَّذِي أَطْلَقَهُ الْعُلَمَاءُ هُوَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ وَنَكْشِفُ الْجُمْلَةَ الَّتِي أَطْلَقُوهَا، فَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بَدِيعُ نَظْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِعْجَازِ وُجُوهً:
(مِنْهَا) مَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ عَلَى تَصَرُّفِ وُجُوهِهِ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ خَارِجٌ عَنِ الْمَعْهُودِ مِنْ جَمِيعِ كَلَامِهِمْ، وَمُبَايِنٌ لِلْمَأْلُوفِ مِنْ تَرْتِيبِ خِطَابِهِمْ، وَلَهُ أُسْلُوبٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَيَتَمَيَّزُ فِي تَصَرُّفِهِ عَنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْمُعْتَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطُّرُقَ الَّتِي يَتَقَيَّدُ بِهَا الْكَلَامُ الْمَنْظُومُ تَنْقَسِمُ إِلَى أَعَارِيضِ الشِّعْرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، ثُمَّ إِلَى مُعَدَّلٍ مَوْزُونٍ غَيْرَ مُسَجَّعٍ، ثُمَّ إِلَى مَا يُرْسَلُ إِرْسَالًا فَتُطْلَبُ فِيهِ الْإِصَابَةُ وَالْإِفَادَةُ، وَإِفْهَامُ الْمَعَانِي الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ، وَتَرْتِيبٍ لَطِيفٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدِلًا فِي وَزْنِهِ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِجُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُتَعَمَّلُ وَلَا يُتَصَنَّعُ لَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَمُبَايِنٌ لِهَذِهِ الطُّرُقِ، وَيَبْقَى عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ السَّجْعِ وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الشِّعْرِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَلَامٌ مُسَجَّعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ فِيهِ شِعْرًا كَثِيرًا وَالْكَلَامُ يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَهَذَا إِذَا تَأَمَّلَهُ الْمُتَأَمِّلُ تَبَيَّنَ بِخُرُوجِهِ عَنْ أَصْنَافِ كَلَامِهِمْ، وَأَسَالِيبِ خِطَابِهِمْ، أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعَادَةِ وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ تَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الْقُرْآنِ، وَتَمَيُّزٌ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِهِ.
236
(وَمِنْهَا) : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَرَبِ كَلَامٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْفَصَاحَةِ وَالْغَرَابَةِ وَالتَّصَرُّفِ الْبَدِيعِ، وَالْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ، وَالْفَوَائِدِ الْغَزِيرَةِ، وَالْحِكَمِ الْكَثِيرَةِ، وَالتَّنَاسُبِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالتَّشَابُهِ فِي الْبَرَاعَةِ، عَلَى هَذَا الطُّولِ وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَى حَكِيمِهِمْ كَلِمَاتٌ مَعْدُودَةٌ،
وَأَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ، وَإِلَى شَاعِرِهِمْ قَصَائِدٌ مَحْصُورَةٌ، يَقَعُ فِيهَا مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا مِنَ الِاخْتِلَالِ، وَيَعْتَرِضُهَا مَا نَكْشِفُهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَيَقَعُ فِيهَا مَا نُبْدِيهِ مِنَ التَّعَمُّلِ وَالتَّكَلُّفِ، وَالتَّجَوُّزِ وَالتَّعَسُّفِ، وَقَدْ حَصَلَ الْقُرْآنُ عَلَى كَثْرَتِهِ وَطُولِهِ مُتَنَاسِبًا فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى مَا وَصَفَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ (٣٩: ٢٣)، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٤: ٨٢)، فَأَخْبَرَ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّ إِذَا امْتَدَّ وَقَعَ فِيهِ التَّفَاوُتُ، وَبَانَ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافُ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ غَيْرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ، فَتَأَمَّلْهُ تَعْرِفِ الْفَضْلَ.
" وَفِي ذَلِكَ مَعْنًى ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّ عَجِيبَ نَظْمِهِ وَبَدِيعَ تَأْلِيفِهِ لَا يَتَفَاوَتُ وَلَا يَتَبَايَنُ عَلَى مَا يَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ قَصَصٍ وَمَوَاعِظَ، وَاحْتِجَاجٍ وَحِكَمٍ وَأَحْكَامٍ، وَإِعْذَارٍ وَإِنْذَارٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَتَبْشِيرٍ وَتَخْوِيفٍ، وَأَوْصَافٍ وَتَعْلِيمٍ، وَأَخْلَاقٍ كَرِيمَةٍ، وَشِيَمٍ رَفِيعَةٍ، وَسِيَرٍ مَأْثُورَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، وَنَجِدُ كَلَامَ الْبَلِيغِ الْكَامِلِ، وَالشَّاعِرِ الْمُلَفِّقِ، وَالْخَطِيبِ الْمِصْقَعِ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَمِنَ الشُّعَرَاءِ مَنْ يَجُودُ فِي الْمَدْحِ دُونَ الْهَجْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْرُزُ فِي الْهَجْوِ دُونَ الْمَدْحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْبِقُ فِي التَّقْرِيظِ دُونَ التَّأْبِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُودُ فِي التَّأْبِينِ دُونَ التَّقْرِيظِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْرِبُ فِي وَصْفِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ، أَوْ سَيْرِ اللَّيْلِ، أَوْ وَصْفِ الْحَرْبِ، أَوْ وَصْفِ الرَّوْضِ، أَوْ وَصْفِ الْخَمْرِ، أَوِ الْغَزَلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الشِّعْرُ وَيَتَدَاوَلُهُ الْكَلَامُ، وَلِذَلِكَ ضُرِبَ الْمَثَلُ بِامْرِئِ الْقَيْسِ إِذَا رَكِبَ، وَالنَّابِغَةِ إِذَا رَهِبَ، وَبِزُهَيْرٍ إِذَا رَغِبَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَسَائِرِ أَجْنَاسِ الْكَلَامِ، وَمَتَى تَأَمَّلْتَ شِعْرَ الشَّاعِرِ الْبَلِيغِ رَأَيْتَ التَّفَاوُتَ فِي شِعْرِهِ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا، فَيَأْتِي بِالْغَايَةِ فِي الْبَرَاعَةِ فِي مَعْنًى فَإِذَا جَاءَ إِلَى غَيْرِهِ قَصَّرَ عَنْهُ، وَوَقَفَ دُونَهُ، وَبَانَ الِاخْتِلَافُ عَلَى شِعْرِهِ، وَلِذَلِكَ ضُرِبَ الْمَثَلُ بِالَّذِينِ سَمَّيْتُهُمْ ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَقَدُّمِهِمْ فِي صَنْعَةِ الشِّعْرِ، وَلَا شَكَّ فِي تَبْرِيزِهِمُ فِي مَذْهَبِ النَّظْمِ، فَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَالُ بَيِّنًا فِي شِعْرِهِمْ لِاخْتِلَافِ مَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ ذِكْرِ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ، وَكَذَلِكَ عَنْ تَفْصِيلِ نَحْوِ هَذَا فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَنَحْوِهَا.
" ثُمَّ نَجِدُ فِي الشُّعَرَاءِ مَنْ يَجُودُ فِي الرَّجَزِ وَلَا يُمْكِنُهُ نَظْمُ الْقَصِيدِ أَصْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظِمُ الْقَصِيدَ وَلَكِنْ يُقَصِّرُ فِيهِ مَهْمَا تَكَلَّفَهُ وَتَعَمَّلَهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجُودُ فِي الْكَلَامِ الْمُرْسَلِ فَإِذَا
237
أَتَى بِالْمَوْزُونِ قَصَّرَ وَنَقَصَ نُقْصَانًا عَجِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجَدُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَقَدْ تَأَمَّلْنَا نَظْمَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْنَا جَمِيعَ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي حُسْنِ النُّظُمِ، وَبَدِيعِ التَّأْلِيفِ وَالرَّصْفِ لَا تَفَاوُتَ وَلَا انْحِطَاطَ عَنِ الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا، وَلَا إِسْفَالَ فِيهِ إِلَى الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ قَدْ تَأَمَّلْنَا مَا يَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ وُجُوهُ الْخِطَابِ مِنَ الْآيَاتِ الطَّوِيلَةِ وَالْقَصِيرَةِ فَرَأَيْنَا الْإِعْجَازَ فِي جَمِيعِهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَتَفَاوَتُ كَلَامُ النَّاسِ عِنْدَ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَرَأَيْنَاهُ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَفَاوِتٍ، بَلْ هُوَ عَلَى نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ، وَغَايَةِ الْبَرَاعَةِ، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ قَدْ بَيَّنَّا فِيهِ التَّفَاوُتَ الْكَثِيرَ عِنْدَ التَّكْرَارِ وَعِنْدَ تَبَايُنِ الْوُجُوهِ وَاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَضَمَّنُ.
" وَمَعْنًى رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا بَيِّنًا فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقَسِمُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ عِنْدَ النَّظْمِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْقَوْلُ عِنْدَ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّعَرَاءِ قَدْ وُصِفَ بِالنَّقْصِ عِنْدَ التَّنَقُّلِ مِنْ مَعْنًى إِلَى غَيْرِهِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ بَابٍ إِلَى سِوَاهُ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الصَّنْعَةِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَقْصِيرِ الْبُحْتُرِيِّ - مَعَ جَوْدَةِ نَظْمِهِ، وَحُسْنِ وَصْفِهِ - فِي الْخُرُوجِ مِنَ النَّسِيبِ إِلَى الْمَدِيحِ، وَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْسِنُهُ وَلَا يَأْتِي فِيهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مَعْدُودَةٍ خُرُوجٌ يُرْتَضَى، وَتَنَقُّلٌ يُسْتَحْسَنُ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُ سَبِيلُ غَيْرِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَالتَّحَوُّلِ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ.
" وَنَحْنُ نُفَصِّلُ بَعْدَ هَذَا وَنُفَسِّرُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ، وَنُبَيِّنُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، وَالطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، يَجْعَلُ الْمُخْتَلِفَ كَالْمُؤْتَلِفِ، وَالْمُتَبَايِنَ كَالْمُتَنَاسِبِ، وَالْمُتَنَافِرَ فِي الْأَفْرَادِ، إِلَى أَحَدِ الْآحَادِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ تَتَبَيَّنُ فِيهِ الْفَصَاحَةُ وَتَظْهَرُ فِيهِ الْبَلَاغَةُ، وَيَخْرُجُ الْكَلَامُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْعَادَةِ، وَيَتَجَاوَزُ الْعُرْفَ.
(وَذَكَرَ هُنَا مَعْنًى خَامِسًا: هُوَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَقَعَ مَوْقِعًا فِي الْبَلَاغَةِ يَخْرُجُ عَنْ عَادَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَهُمْ يَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ الْجِنِّ
مَا كَانَتْ تَعْتَقِدُهُ الْعَرَبُ وَتَحْكِيهِ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِ الْجِنِّ وَزَجَلِهَا وَعَزِيفِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نَفْيِ الْخِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ ثُمَّ قَالَ) :
" وَمَعْنًى سَادِسٌ: وَهُوَ كُلُّ الَّذِي يَنْقَسِمُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ مِنَ الْبَسْطِ وَالِاقْتِصَارِ، وَالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، وَالِاسْتِعَارَةِ وَالتَّصْرِيحِ، وَالتَّجَوُّزِ وَالتَّحْقِيقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَجَاوَزُ حُدُودَ كَلَامِهِمُ الْمُعْتَادِ بَيْنَهُمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْإِبْدَاعِ وَالْبَلَاغَةِ، وَقَدْ ضَمَّنَّا بَيَانَ ذَلِكَ بَعْدُ لِأَنَّ الْوَجْهَ هُنَا ذِكْرُ الْمُقْدِمَاتِ دُونَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ: يَعْنِي أَنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ.
238
وَمَعْنًى سَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تُتَضَمَّنُ فِي أَصْلِ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ وَالِاحْتِيَاجَاتِ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ، عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْبَدِيعَةِ، وَمُوَافَقَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا فِي اللُّطْفِ وَالْبَرَاعَةِ، مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْبَشَرِ، وَيَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ تَخَيُّرَ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي الْمُتَدَاوَلَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَالْأَسْبَابِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ - أَسْهَلُ وَأَقْرَبُ مِنْ تَخَيُّرِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانٍ مُبْتَكَرَةٍ، وَأَسْبَابٍ مُؤَسَّسَةٍ مُسْتَحْدَثَةٍ، فَلَوْ أُبْرِعَ اللَّفْظُ فِي الْمَعْنَى الْبَارِعِ كَانَ أَلْطَفَ وَأَعْجَبَ مِنْ أَنْ يُوجَدَ اللَّفْظُ الْبَارِعُ فِي الْمَعْنَى الْمُتَدَاوَلِ الْمُتَكَرِّرِ، وَالْأَمْرِ الْمُتَقَرَّرِ الْمُتَصَوَّرِ، ثُمَّ إِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفُ الْبَدِيعُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَأْيِيدَ مَا يُبْتَدَأُ تَأْسِيسُهُ، وَيُرَادُ تَحْقِيقُهُ، بِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْبَرَاعَةِ وَالْفَصَاحَةِ، ثُمَّ إِذَا وُجِدَتِ الْأَلْفَاظُ وَفْقَ الْمَعَانِي، وَالْمَعَانِي وَفْقَهَا لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَالْبَرَاعَةُ أَظْهَرُ وَالْفَصَاحَةُ أَتَمُّ.
حَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ فِي الْمَعَانِي الْمَأْلُوفَةِ الْمُبْتَذَلَةِ لَا يَخْلُو مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ، فَانْتِفَاءُ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْبَتَّةَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي ضُرُوبِ الْمَعَانِي الْعِلْمِيَّةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لِلْعَرَبِ التَّصَرُّفُ فِيهَا - أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ، وَأَظْهَرُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنًى ثَامِنًا: بَيَّنَ فِيهِ وُقُوعَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مِنْ شِعْرٍ أَوْ نَثْرٍ مَوْضِعَ الْيَتِيمَةِ مِنْ وَاسِطَةِ الْعِقْدِ فَتُؤْخَذُ لِأَجْلِهَا الْأَسْمَاعُ، وَتُتَشَوَّفُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَأَجَادَ فِي هَذَا كُلَّ الْإِجَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ نَفْيِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى التَّاسِعُ: فَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَسْرَارَ الْحُرُوفِ
الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الْعَاشِرُ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ نَفْيِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ يُفِيدُنَا إِيضَاحَ وُجُوبِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ مِمَّا يُسِرُّهُ اللهُ لِكُلِّ عَارِفٍ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، قَالَ:
وَمَعْنًى عَاشِرٌ: وَهُوَ أَنَّهُ سَهْلٌ سَبِيلُهُ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْوَحْشِيِّ الْمُسْتَكْرَهِ، وَالْغَرِيبِ الْمُسْتَنْكَرِ، وَعَنِ الصَّنْعَةِ الْمُتَكَلَّفَةِ، وَجَعَلَهُ قَرِيبًا إِلَى الْأَفْهَامِ، يُبَادِرُ مَعْنَاهُ لَفْظَهُ إِلَى الْقَلْبِ وَيُسَابِقُ الْمَغْزَى مِنْهُ عِبَارَتَهُ إِلَى النَّفْسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُمْتَنِعُ الْمَطْلَبِ عَسِيرُ الْمُتَنَاوَلِ، غَيْرُ مُطْمِعٍ مَعَ قُرْبِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مُوهِمٌ مَعَ دُنُوِّهِ فِي مَوْقِعِهِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، أَوْ يُظْفَرَ بِهِ، فَأَمَّا الِانْحِطَاطُ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ الْكَلَامِ الْمُبْتَذَلِ، وَالْقَوْلِ الْمُسَفْسَفِ، فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنْ تَقَعَ فِيهِ فَصَاحَةٌ أَوْ بَلَاغَةٌ فَيُطْلَبُ فِيهِ التَّمَنُّعَ، أَوْ يُوضَعُ فِيهِ الْإِعْجَازُ، وَلَكِنْ لَوْ وُضِعَ فِي وَحْشِيٍّ مُسْتَكْرَهٍ، أَوْ غُمِرَ بِوُجُوهِ الصَّنْعَةِ، وَأُطْبِقَ بِأَبْوَابِ التَّعَسُّفِ وَالتَّكَلُّفِ، لَكَانَ الْقَائِلُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ وَيَعْتَذِرَ وَيَعِيبَ وَيَقْرَعَ، وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَ مَنَارَهُ، وَقَرَّبَ مِنْهَاجَهُ، وَسَهَّلَ سَبِيلَهُ، وَجَعَلَهُ فِي ذَلِكَ مُتَشَابِهًا مُتَمَاثِلًا، وَبَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ إِعْجَازَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ كَلَامَ فَصَائِحِهِمْ وَشِعْرَ بُلَغَائِهِمْ، لَا يَنْفَكُّ مِنْ تَصَرُّفٍ فِي غَرِيبٍ مُسْتَنْكَرٍ، أَوْ وَحْشِيٍّ مُسْتَكْرَهٍ، وَمَعَانٍ مُسْتَبْعَدَةٍ، ثُمَّ عُدُولِهِمْ إِلَى كَلَامٍ مُبْتَذَلٍ وَضِيعٍ لَا يُوجَدُ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ، ثُمَّ تَحَوُّلِهِمْ إِلَى
239
كَلَامٍ مُعْتَدِلٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، مُتَصَرِّفٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَحَقَّقَ هَذَا نَظَرَ فِي قَصِيدَةِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ
وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا - عَلَى التَّفْصِيلِ - مَا تَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ وَنَظَائِرُهَا وَمَنْزِلَتَهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَنَذْكُرُ وَجْهَ فَوْتِ نَظْمِ الْقُرْآنِ مَحَلَّهَا عَلَى وَجْهٍ يُؤْخَذُ بِالْيَدِ وَيُتَنَاوَلُ مِنْ كَثَبٍ وَيُتَصَوَّرُ فِي نَفْسٍ كَتَصَوُّرِ الْأَشْكَالِ لِيُبَيِّنَ مَا ادَّعَيْنَاهُ مِنَ الْفَصَاحَةِ الْعَجِيبَةِ لِلْقُرْآنِ. اهـ.
(تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ)
حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَتَأَمُّلَ مَا يَهْدِي إِلَيْهِ بِأُسْلُوبِهِ الَّذِي امْتَازَ بِهِ هُوَ طَرِيقُ الْهِدَايَةِ الْقَوِيمُ، وَصِرَاطُ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمُ، فَإِنَّهُ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِلَى وُجُوبِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ الْعَلِيمِ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُهُمْ، مَعَ كَوْنِ مَا يَهْدِي إِلَيْهِ مَعْقُولًا فِي نَفْسِهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ، وَمُلَاءَمَتِهِ لِلْمَصْلَحَةِ.
وَفِيهِ أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ لَا خَاصٌّ بِنَفَرٍ يُسَمَّوْنَ الْمُجْتَهِدِينَ
يُشْتَرَطُ فِيهِمْ شُرُوطٌ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا غِنَى عَنْهُ، هُوَ مَعْرِفَةُ لُغَةِ الْقُرْآنِ مُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا، فَهِيَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ نَشَأَ فِيهِ أَنْ يُتْقِنَهَا بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ بِمُزَاوَلَةِ كَلَامِ بُلَغَاءِ أَهْلِهَا وَمُحَاكَاتِهِمْ فِي الْقَوْلِ وَالْكِتَابِ حَتَّى تَصِيرَ مَلَكَةً وَذَوْقًا، لَا بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي قَوَانِينِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ الَّتِي وُضِعَتْ لِضَبْطِهَا وَلَيْسَ تَعَلُّمُ هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ بِالْأَمْرِ الْعَسِيرِ فَقَدْ كَانَ الْأَعَاجِمُ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى يَحْذِقُونَهَا فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ حَتَّى يُزَاحِمُوا الْخُلَّصَ مِنْ أَهْلِهَا فِي بَلَاغَتِهَا، وَإِنَّمَا يَرَاهُ أَهْلُ هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَسِيرًا لِأَنَّهُمْ شُغِلُوا عَنِ اللُّغَةِ نَفْسِهَا بِتِلْكَ الْقَوَانِينِ وَفَلْسَفَتِهَا، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ يَتَعَلَّمُ عِلْمَ النَّبَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ النَّبَاتَ نَفْسَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يَكُونُ حَظُّهُ مِنْهُ إِلَّا حِفْظَ الْقَوَاعِدِ وَالْمَسَائِلِ فَيَعْرِفُ أَنَّ الْفَصِيلَةَ الْفُلَانِيَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا رَأَى ذَلِكَ لَا يَعْرِفُهُ.
وَفِيهِ أَيْضًا وُجُوبُ الِاسْتِقْلَالِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذَلِكَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُطْلَانُ التَّقْلِيدِ، قَالَ الرَّازِيُّ: " دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِفَسَادِ التَّقْلِيدِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُنَافِقِينَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ مِنَ اسْتِدْلَالٍ فَبِأَنْ يَحْتَاجَ فِي مَعْرِفَتِهِ ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ كَانَ أَوْلَى " اهـ.
الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ وَأَكْبَرُ مِمَّا قَالَ التَّقْلِيدُ مَعَ مَنْعِ الِاسْتِدْلَالِ، وَالِاسْتِدْلَالُ وَاجِبٌ، التَّقْلِيدُ مَنَعَ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَتَدَبُّرُهُ وَاجِبٌ، إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ،
240
وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ، فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْنَا مَا أَوْجَبَهُ، الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ وَعَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَصُدُّ عَنْهُ وَيَقْتَضِي هَجْرَهُ، وَلَمْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ شَارِعِينِ يُطَاعُونَ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَدِلَّاءَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، مَا قَالَ بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ وَتَحْرِيمِ الِاسْتِقْلَالِ إِلَّا بَعْضَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَوْلٌ يُتَّبَعُ وَلَا أَمْرٌ يُطَاعُ، وَكَانَ ذَلِكَ دَسِيسَةً مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، لِيُذَلِّلُوا النَّاسَ وَيَسْتَعْبِدُوهُمْ بِاسْمِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ كَانَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَبُولَ الِاسْتِبْدَادِ وَاتِّبَاعَ الْقُرْآنِ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمَا نَبَغَ عَالِمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ نَشَئُوا عَلَى التَّقْلِيدِ إِلَّا وَحَارَبَهُ بَعْدَ نُبُوغِهِ، كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ الَّذِي نَقَلْنَا
قَوْلَهُ آنِفًا، وَلَهُ أَقْوَالٌ فِي ذَلِكَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ نَقَلْنَا بَعْضَهَا مِنْ قَبْلُ، وَغَيْرِهِ كَثِيرُونَ.
لَسْنَا نَعْنِي بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ كُلِّهَا فَيَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ، وَيَهْتَدِيَ بِهِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ قَطُّ أَنْ يَهْجُرَهُ وَيُعْرِضَ عَنْهُ، وَلَا أَنْ يُؤَثِّرَ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ مِنْ هِدَايَتِهِ كَلَامُ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ لَا مُجْتَهِدِينَ وَلَا مُقَلِّدِينَ، فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلْمُسْلِمِ فِي دِينِهِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ، وَلَا يُوجَدُ كِتَابٌ لِإِمَامٍ مُجْتَهِدٍ، وَلَا لِمُصَنِّفٍ مُقَلِّدٍ، يُغْنِي عَنْ تَدَبُّرِ كِتَابِ اللهِ فِي إِشْعَارِ الْقُلُوبِ عَظَمَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَخَشِيَتَهُ وَحُبَّهُ وَالرَّجَاءَ فِي رَحْمَتِهِ وَالْخَوْفَ مِنْ عِقَابِهِ، وَلَا فِي تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَتَنْزِيهِهَا عَنِ الشُّرُورِ وَالْمَفَاسِدِ، وَتَشْوِيقِهَا إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمَصَالِحِ، وَرَفْعِهَا عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ إِلَى مَعَالِيهَا، وَلَا فِي الِاعْتِبَارِ بِآيَاتِ اللهِ فِي الْآفَاقِ، وَسُنَنِهِ فِي سَيْرِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَطَبَائِعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، فَكَيْفَ تُغْنِي عَنْهُ فِيهَا الْمُصَنَّفَاتُ الْبَشَرِيَّةُ؟ !
أَمَا - وَسِرِّ الْقُرْآنِ - لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، لَمَا فَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ وَآدَابُهُمْ، وَلَمَا ظَلَمَ وَاسْتَبَدَّ حُكَّامُهُمْ، وَلَمَا زَالَ مُلْكُهُمْ وَسُلْطَانُهُمْ، وَلَمَا صَارُوا عَالَةً فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَسْبَابِهَا عَلَى سِوَاهُمْ.
هَذَا التَّدَبُّرُ وَالتَّذَكُّرُ الَّذِي نُطَالِبُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ - كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ - لَا يَمْنَعُ أَنْ يَخْتَصَّ أُولُو الْأَمْرِ مِنْهُمْ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ فِي السِّيَاسَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ، وَأَنْ يَتْبَعَهُمْ سَائِرُ الْأُمَّةِ فِيهَا، فَإِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ - بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَى أُولَئِكَ الْفَرِيقِ مِنَ النَّاسِ تَرْكَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا إِذَاعَتَهُمْ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى رَدِّهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ، وَأَقْدَرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ فَقَالَ:
241
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا.
قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُذِيعُونَ بِمَسَائِلِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِأَهْلِهِ، وَقِيلَ: هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِيمَنْ سَبَقَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَصَرَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهَا فِي الطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ تُبَيِّتُ غَيْرَ مَا يَقُولُ لَهَا الرَّسُولُ أَوْ تَقُولُ لَهُ، أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِعُمُومِ الْعِبْرَةِ، وَمَنْ خَبِرَ أَحْوَالَ النَّاسِ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِذَاعَةَ بِمِثْلِ أَحْوَالِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ لَا تَكُونُ مِنْ دَأْبِ الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً، بَلْ هِيَ مِمَّا يَلْغَطُ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ النِّيَّاتُ، فَالْمُنَافِقُ قَدْ يُذِيعُ مَا يُذِيعُهُ لِأَجْلِ الضَّرَرِ، وَضَعِيفُ الْإِيمَانِ قَدْ يُذِيعُ مَا يَرَى فِيهِ الشُّبْهَةَ، اسْتِشْفَاءً مِمَّا فِي صَدْرِهِ مِنَ الْحَكَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَثِيرًا مَا يَوْلَعُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ لِمَحْضِ الرَّغْبَةِ فِي ابْتِلَاءِ أَخْبَارِهَا، وَكَشْفِ أَسْرَارِهَا، أَوْ لِمَا عَسَاهُ يَنَالُهُمْ مِنْهَا.
فَخَوْضُ الْعَامَّةِ فِي السِّيَاسَةِ وَأُمُورِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، وَالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، أَمْرٌ مُعْتَادٌ وَهُوَ ضَارٌّ جَدًا إِذَا شُغِلُوا بِهِ عَنْ عَمَلِهِمْ، وَيَكُونُ ضَرَرُهُ أَشَدُّ إِذَا وَقَفُوا عَلَى أَسْرَارِ ذَلِكَ وَأَذَاعُوا بِهِ، وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ كِتْمَانَ مَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَعْرِفُونَ كُنْهَ ضَرَرِ مَا يَقُولُونَ، وَأَضَرُّهُ عِلْمُ جَوَاسِيسِ الْعَدُوِّ بِأَسْرَارِ أُمَّتِهِمْ، وَمَا يَكُونُ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَمِثْلَ أَمْرِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ وَالشُّئُونِ الْعَامَّةِ، الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، أَيْ: إِذَا بَلَغَهُمْ خَبَرٌ مِنْ أَخْبَارِ سَرِيَّةٍ غَازِيَةٍ أَمِنَتْ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ أَوْ خِيفَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ بِظُهُورِهِمْ عَلَيْهَا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، أَوْ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّرَايَا الَّتِي تَخْرُجُ إِلَى الْحَرْبِ أَوْ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَرْكَزِ الْعَامِّ لِلسُّلْطَةِ، أَذَاعُوا بِهِ أَيْ بَثُّوهُ فِي النَّاسِ وَأَشَاعُوهُ بَيْنَهُمْ، يُقَالُ: أَذَاعَ الشَّيْءَ وَأَذَاعَ بِهِ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
وَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ
أَيْ: حَتَّى صَارَ مَشْهُورًا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ كَالنَّارِ فِي الْمَكَانِ الْعَالِي، أَوْ كَأَنَّهُ نَارٌ فِي رَأْسِ عَلَمٍ، وَالثَّقُوبُ وَالثِّقَابُ الْعِيدَانُ الَّتِي تُوَرَّى بِهَا النَّارُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَعَلُوا بِهِ الْإِذَاعَةَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَذَاعُوهُ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّهُمْ مِنَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ
242
بِحَيْثُ يَسْتَفِزُّهُمْ كُلُّ خَبَرٍ عَنِ الْعَدُوِّ يَصِلُ إِلَيْهِمْ فَيُطْلِقُ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكَلَامِ فِيهِ وَإِذَاعَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَشِيعَ فِي الْعَامَّةِ أَخْبَارُ الْحَرْبِ وَأَسْرَارُهَا، وَلَا أَنْ تَخُوضَ الْعَامَّةُ فِي السِّيَاسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا بِمَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، يَضُرُّهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِمَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ شُئُونِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَيَضُرُّ الْأُمَّةَ وَالدَّوْلَةَ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا مِنْ أَمْرِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ اهـ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِهِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ رَدُّ الشَّيْءِ صَرْفُهُ وَإِرْجَاعُهُ وَإِعَادَتُهُ، وَفِي الرَّدِّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ السَّابِقِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، مَعْنَى التَّفْوِيضِ: أَيْ وَلَوْ أَرْجَعُوا هَذَا الْأَمْرَ الْعَامَّ الَّذِي خَاضُوا فِيهِ وَأَذَاعُوا بِهِ، وَفَوَّضُوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَيْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمِثْلِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفَصْلِ فِيهَا، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْهُمُ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ فِي سِيَاسَتِهَا وَإِدَارَةِ أُمُورِهَا لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، أَيْ: لَعَلِمَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَهُ وَيُظْهِرُونَ مَخْبَأَهُ مِنْهُمْ.
الِاسْتِنْبَاطُ: اسْتِخْرَاجُ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْ إِبْصَارِ الْعُيُونِ عَنْ مَعَارِفِ الْقُلُوبِ - كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَصْلُهُ اسْتِخْرَاجُ النَّبَطِ مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ الْمَاءُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ، وَفِي الْمُسْتَنْبِطِينَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الرَّسُولُ وَبَعْضُ أُولِي الْأَمْرِ، فَالْمَعْنَى لَوْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُذِيعِينَ رَدُّوا ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ لَكَانَ عِلْمُهُ حَاصِلًا عِنْدَهُ وَعِنْدَ بَعْضِ أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ مِثْلَهُ وَيَسْتَخْرِجُونَ خَفَايَاهُ بِدِقَّةِ نَظَرِهِمْ، فَهُوَ إِذًا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَكْتَنِهُ سِرَّهَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُولِي الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ غَوْرَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْإِحَاطَةِ بِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَإِدَارَتِهَا دُونَ بَعْضٍ، فَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْحَرْبِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَضَائِيَّةِ، وَكُلُّ الْمَسَائِلِ
تَكُونُ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَنْبِطُهُ إِلَّا بَعْضُ أُولِي الْأَمْرِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ شَرْعًا بَيْنَ الْعَامَّةِ يُذِيعُونَ بِهِ؟
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَنْبِطِينَ هُمْ بَعْضُ الَّذِينَ يَرُدُّونَ الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَيْ لَوْ رَدُّوا ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَيْهِمْ وَطَلَبُوا الْعِلْمَ بِهِ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ لَعَلِمَهُ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْعِلْمَ بِهِ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْعَارِفُونَ بِهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ مَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ، بَلْ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ.
وَالْمُخْتَارُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ; فَالْوَاجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَيْهِمْ دُونُ غَيْرِهِمْ مِنْ بَعْدِهِ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ تُوَكَّلُ
243
إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْلَمَ بِهَذَا التَّفْوِيضِ شَيْئًا يَسْتَنْبِطُهُ مِنْهُمْ فَلْيَقِفْ عِنْدَهُ، وَلَا يَتَعَدَّهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ حَقِّهِمْ، وَالنَّاسُ فِيهِ تَبَعٌ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ طَاعَتُهُمْ.
لَا غَضَاضَةَ فِي هَذَا عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا خَدْشًا لِحُرِّيَّتِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ، وَلَا نَيْلًا مِنْ عِزَّةِ نَفْسِهِ، فَحَسْبُهُ أَنَّهُ حُرٌّ مُسْتَقِلٌّ فِي خُوَيِّصَةِ نَفْسِهِ، لَمْ يُكَلِّفْ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا فِي عَقِيدَتِهِ وَلَا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا مِنَ الْعَدْلِ وَلَا الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَسْمَحَ لَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي شُئُونِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَأَنْ يَفْتَاتَ عَلَيْهَا فِي أُمُورِهَا الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ فِي أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ فِي مَجْمُوعِهَا حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً فِي شُئُونِهَا كَالْأَفْرَادِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي هَذِهِ الشُّئُونِ الْعَامَّةِ إِلَّا مَنْ يَثِقُ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ بِأُولِي الْأَمْرِ ; لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ قَدْ وَثِقَتْ بِهِ الْأُمَّةُ هُوَ عَيْنُ تَصَرُّفِهَا، وَذَلِكَ مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِهِ سُلْطَتُهَا مِنْ نَفْسِهَا.
زَعَمَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ الْأُصُولِيِّ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَإِنَّمَا تَعَلُّقُ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذَا بِكَلِمَةِ " يَسْتَنْبِطُونَهُ " وَهِيَ مِنْ مُصْطَلَحَاتِهِمُ الْفَنِّيَّةِ، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَوْلُهُمْ مَرْدُودٌ، أَقُولُ: وَقَدْ فَرَّعَ الرَّازِيُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ فُرُوعٍ:
١ - أَنَّ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا لَا يُعَرَفُ بِالنَّصِّ.
٢ - أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ حُجَّةٌ.
٣ - أَنَّ الْعَامِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْكَامِ
الْحَوَادِثِ.
٤ - أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ مُكَلَّفًا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ كَأُولِي الْأَمْرِ.
وَأَوْرَدَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضَ الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَجَابَ عَنْهَا كَعَادَتِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَخَذَ مِنْهَا هَذِهِ الْفُرُوعَ وَبَنَى عَلَيْهَا هَذِهِ الْمُجَادَلَةَ - خَارِجَةً عَنْ مَعْنَى الْآيَةِ، لَا تَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ وَلَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ وَلَا مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، كَانَ جَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ لَغْوًا وَعَبَثًا.
هَذَا شَاهِدٌ مَنْ أَفْصَحِ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ قَبْلُ مَنْ سَبَبِ غَلَطِ الْمُفَسِّرِينَ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ فَهْمِ الْكَثِيرِ مِنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، بِتَفْسِيرِهِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْمُسْتَحْدَثَةِ، فَأَهْلُ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ اصْطَلَحُوا عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ لِكَلِمَةِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَلَمَّا وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَمَلَ الرَّازِيُّ عَلَى فِطْنَتِهِ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا عَنْ طَرِيقِهَا وَيَسِيرَ بِهَا فِي طَرِيقٍ آخَرَ ذِي شِعَابٍ كَثِيرَةٍ يَضِلُّ فِيهَا السَّائِرُ، حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ.
مَعْنَى الْآيَةِ وَاضِحٌ جَلِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الضُّعَفَاءِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْعَامَّةِ مُطْلَقًا يَخُوضُونَ فِي أَمْرِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَيُذِيعُونَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْهُ عَلَى مَا فِي الْإِذَاعَةِ بِهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَالْوَاجِبُ تَفْوِيضُ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَى الرَّسُولِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ
244
وَالْقَائِدُ الْعَامُّ فِي الْحَرْبِ، وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِجَالِ الشُّورَى لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ خَفَايَا هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَعْرِفُونَ مَصْلَحَةَ الْأُمَّةِ فِيهَا، وَمَا يَنْبَغِي إِذَاعَتُهُ وَمَا لَا يَنْبَغِي، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ النَّصِّ فِي الْكِتَابِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَالسُّكُوتِ عَنْ بَعْضٍ؟ وَوُجُوبِ اسْتِنْبَاطِ مَا سُكِتَ عَنْهُ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعَامَّةِ لِلْعُلَمَاءِ فِيمَا يَسْتَنْبِطُونَهُ مُطْلَقًا؟ لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ فِي شَيْءٍ.
عَلَى أَنَّ الرَّازِيَّ كَانَ أَبْطَلَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ، وَأَثْبَتَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَيْ جَمَاعَتُهُمْ، فَكَيْفَ يُبْطِلُ هُنَا مَا حَقَّقَهُ فِي آيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٤: ٥٩)، بِقَوْلِهِ بِوُجُوبِ تَقْلِيدِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا أَبْطَلَ بِهِ مَا حَقَّقَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ؟ قَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا الْقَارِئُ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَوْجَبَتْ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءَ بِهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَكَانَتْ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ الَّذِي
صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَذَا فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَالنُّصُوصَ فِيهَا أَوْضَحُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ الْحَدِيثَ، وَهُوَ قَدْ أَوْجَبَ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَبَهِ فِيهَا أَنْ تُتْرَكَ لِئَلَّا تَجُرَّ إِلَى الْحَرَامِ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمُشْتَبَهِ فِي شَيْءٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ وَيُقَلِّدُهُ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْعَامَّةُ كَالْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ، فَهِيَ الَّتِي تُفَوِّضُهَا الْعَامَّةُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَتَتْبَعُهُمْ فِيهَا، هَذَا مَا تَهْدِي إِلَيْهِ الْآيَةُ وِفَاقًا لِغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْقُرْآنِ.
وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: لَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ بِمَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَتُدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَرَدِّ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ لَاتَّبَعْتُمْ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ كَمَا اتَّبَعَتْهُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَقُولُ لِلرَّسُولِ: طَاعَةٌ لَكَ، وَتُبَيِّتُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالَّتِي تُذِيعُ بِأَمْرِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَتُفْسِدُ عَلَى الْأُمَّةِ سِيَاسَتَهَا بِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْأَتْبَاعِ، أَيْ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ فِي أَكْثَرِ أَعْمَالِكُمْ بِجَعْلِهَا مِنَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ لَا فِيهَا كُلِّهَا، أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ أُوتُوا مِنْ صَفَاءِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا مَا يَكْفِي لِإِيثَارِهِمُ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا (٢٤: ٢١).
وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ بِالْقُرْآنِ وَبِعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِنَايَةِ
245
اللهِ بِهِدَايَتِهِمْ بِهِمَا كَمَا قُلْنَا، وَالْقَلِيلُ الْمُسْتَثْنَى بِمِثْلِ قَسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الَّذِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللهِ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ نَحْوَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ هُنَا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالْمَعُونَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ: وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لِيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ (٤: ٧٣)، أَيْ لَوْلَا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ الْمُتَتَابِعُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ وَتَرَكْتُمُ الدِّينَ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْكُمْ، وَهُمْ
أَصْحَابُ الْبَصَائِرِ النَّافِذَةِ وَالنِّيَّاتِ الْقَوِيَّةِ وَالْعَزَائِمِ الْمُتَمَكِّنَةِ مَنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ كَوْنِهِ حَقًا حُصُولُ الدَّوْلَةِ فِي الدُّنْيَا، فَلِأَجْلِ تَوَاتُرِ الْفَتْحِ وَالظَّفَرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، وَلِأَجْلِ تَوَاتُرِ الِانْهِزَامِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بَاطِلًا، بَلِ الْأَمْرُ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَبَاطِلًا عَلَى الدَّلِيلِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّحْقِيقِ. انْتَهَى مِنَ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ وَرَجَّحَهُ، وَقَوْلُهُ بِعَدَمِ التَّلَازُمِ بَيْنَ كَوْنِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا وَبَيْنَ الظَّفَرِ وَضِدِّهِ لَا يَسْلَمُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَسْلَمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْوَقَائِعِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا.
وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: أَذَاعُوا بِهِ، وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ، وَكِلَاهُمَا بَعِيدٌ عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ رِوَايَةِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ جَمِيعًا، قَالُوا: وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَمْعِ وَالْإِحَاطَةِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلُ الْإِحَاطَةِ، أَقُولُ: أَوْ كَمَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ: مِعْيَارُ الْعُمُومِ، أَيْ: فَهُوَ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (٨٧: ٦، ٧)، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَا يَظْهَرُ هُنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنْ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ وَتَحَرِّيهِ لِلْحَقَائِقِ عَدَمَ حُكْمِهِ بِالضَّلَالِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرِقِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ مُتَعَدِّدٌ فِيهِ، وَلَا يَكَادُ يَتَحَرَّاهُ النَّاسُ [رَاجِعْ ص ٥٤ ج ٤ طَبْعَةَ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْكِتَابِ].
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا.
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ: اعْلَمْ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبَ
246
فِيهِ أَشَدَّ التَّرْغِيبِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَذَكَرَ فِي الْمُنَافِقِينَ قِلَّةَ رَغْبَتِهِمْ فِي الْجِهَادِ، بَلْ ذَكَرَ عَنْهُمْ شِدَّةَ سَعْيِهِمْ فِي تَثْبِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ عَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَاتِ فِي وَصْفِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمَّا قَالَ: إِنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - أَيَّدَ هَذَا وَأَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: إِنَّكَ أَنْتَ الْمُكَلَّفُ أَنْ تُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا. وَالرَّقِيبُ عَلَى نَفْسِكَ، فَقُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْكَ بِالْعَمَلِ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ مَعَكَ ; لِأَنَّ التَّحْرِيضَ مِنَ التَّبْلِيغِ الَّذِي مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَسَى هُنَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعْدَادِ وَالتَّهْيِئَةِ لِأَنَّ التَّرَجِّيَ الْحَقِيقِيَّ مُحَالٌ عَلَى الْعَالِمِ بِكُلِّ شَيْءٍ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْوَعْدِ، وَخَبَرُهُ تَعَالَى حَقٌّ لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَالْبَأْسُ الْقُوَّةُ، وَكَانَ بَأْسُ الْكَافِرِينَ مُوَجَّهًا إِلَى إِذْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَجْلِ الْإِيمَانِ لَا لِذَوَاتِهِمْ وَأَشْخَاصِهِمْ، فَتَأْيِيدُ الْإِيمَانِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَفِّ بَأْسِهِمْ، وَكَفُّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَصَدِّي الْمُؤْمِنِينَ لِلْجِهَادِ.
أَقُولُ: سَبَقَ غَيْرَ مَرَّةٍ تَفْسِيرُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ لِكَلِمَةِ عَسَى بِمِثْلِ هَذَا وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ تَحْرِيضَ النَّبِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ مَعَهُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ بِبَاعِثِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ دُونَ الْإِلْزَامِ وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لَهُ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُوَطِّنُ نُفُوسَ الْكَافِرِينَ عَلَى كَفِّ بِأَسِهِمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَبُعْدِهِمْ لِتَرْكِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَدْعَى إِلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَرَى عَمَلُ دُوَلِ أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَبِهِ يُصَرِّحُونَ، تَبْذُلُ كُلُّ دَوْلَةِ مُنْتَهَى مَا فِي وُسْعِهَا مِنَ اتِّخَاذِ آلَاتِ الْقِتَالِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَتَنْظِيمِ الْجُيُوشِ، لِتَكُونَ الْقُوَى الْحَرْبِيَّةُ بَيْنَهُنَّ مُتَوَازِنَةً، فَلَا تَطْمَعُ الْقَوِيَّةُ فِي الضَّعِيفَةِ فَيُغْرِيهَا ضَعْفُهَا بِالْإِقْدَامِ عَلَى مُحَارَبَتِهَا.
وَجَعْلُ عَسَى لِلتَّرَجِّي لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَرَجَّي هُوَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَرْجُوٌّ فِي نَفْسِهِ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ.
وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أَيْ: لَا يُخِيفَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَأْسُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ وَشِدَّتُهُمْ وَلَا تَصُدَّنَّكُمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَالْعَمَلِ بِتَحْرِيضِهِ مُذْعِنِينَ مُخْتَارِينَ ; فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - الَّذِي وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ أَشَدُّ بَأْسًا مِنْهُمْ وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا لَهُمْ مِمَّا يُحَاوِلُونَ أَنْ يُنَكِّلُوا بِكُمْ، وَلَكِنَّ سُنَّتَهُ سَبَقَتْ بِأَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لِأَهْلِ الْحَقِّ إِذَا اتَّقَوْا أَسْبَابَ الْخِذْلَانِ، وَاتَّخَذُوا أَسْبَابَ الدِّفَاعِ مَعَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، لَا أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ
وَهُمْ قَاعِدُونَ أَوْ مُقَصِّرُونَ فِي الْجَرْيِ عَلَى سُنَنِهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَالتَّنْكِيلُ أَنْ تُعَاقِبَ الْمُجْرِمَ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِغَيْرِهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يُجْرِمَ مِثْلَ إِجْرَامِهِ، وَهُوَ مِنَ النُّكُولِ بِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ.
247
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَلَّفَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقَاتِلَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَاوَمُوا دَعْوَتَهُ بِقُوَّتِهِمْ وَبِأَسِهِمْ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَسِيرَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ قَدْ تَصَدَّى لِمُقَاوَمَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى تَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَاتِّبَاعِ النُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَلَمَّا قَاتَلُوهُ قَاتَلَهُمْ، وَقَدِ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ مَرَّةً فَبَقِيَ ثَابِتًا كَالْجَبَلِ لَا يَتَزَلْزَلُ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَقَاتِلْ لِلتَّفْرِيعِ بِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا جَوَابٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ: إِنْ أَرَدْتَ الْفَوْزَ فَقَاتِلْ، وَكَانَ الْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ وَإِذَا كُنْتَ مُبَلِّغًا عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا وَكِيلًا وَلَا جَبَّارًا عَلَى النَّاسِ فَقَاتِلْ، أَنْتَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ لَكَ، وَحَرِّضْ غَيْرَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِذَلِكَ تَحْرِيضًا، لَا إِلْزَامَ سُلْطَةٍ وَلَا إِجْبَارَ قُوَّةٍ، وَالتَّحْرِيضُ الْحَثُّ عَلَى الشَّيْءِ بِتَزْيِينِهِ وَتَسْهِيلِ الْخَطْبِ فِيهِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ.
وَمَعْنَى: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لَا تُكَلَّفُ أَنْتَ إِلَّا أَفْعَالَ نَفْسِكَ دُونَ أَفْعَالِ النَّاسِ، فَلَا يَضُرُّكَ إِعْرَاضُ الَّذِينَ قَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ (٤: ٧٧)، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ لَكَ طَاعَةٌ وَيُبَيِّتُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ لَكَ إِنَّمَا تَجِبُ لِأَنَّكَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ فَهِيَ طَاعَةُ اللهِ، وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ لَا يَضُرُّهُ عِصْيَانُ مَنْ عَصَاهُ.
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا اللهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا.
الشَّفَاعَةُ مِنَ الشَّفْعِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْوَتْرِ أَيِ الْفَرْدِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الشَّفْعُ ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ، وَالشَّفَاعَةُ الِانْضِمَامُ إِلَى آخَرَ، نَاصِرًا لَهُ وَسَائِلًا عَنْهُ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ السِّيَاقَ وَاتِّصَالَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً مَنْ يَجْعَلْ نَفْسَهُ شَفْعًا لَكَ وَقَدْ أُمِرَتْ بِالْقِتَالِ وَتْرًا، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ لِأَنَّهَا نَصْرٌ لِلْحَقِّ وَتَأْيِيدٌ لَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَنْضَمُّ إِلَى أَيِّ مُحْسِنٍ وَيُشَفِّعُهُ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا، أَيْ مِنْ شَفَاعَتِهِ هَذِهِ
248
بِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْفَوْزِ وَالشَّرَفِ وَالْغَنِيمَةِ مِنَ الدُّنْيَا عِنْدَمَا يَنْتَصِرُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَبِمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ سَوَاءٌ أَدْرَكَ النَّصْرَ فِي الدُّنْيَا أَمْ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَالنَّصِيبُ الْحَظُّ الْمَنْصُوبُ، أَيْ: الْمُعِينُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: وَمَنْ يَشْفَعُ شَفَاعَةً سَيِّئَةً بِأَنْ يَنْضَمَّ إِلَى عَدُوِّكَ فَيُقَاتِلَ مَعَهُ، أَوْ يُخْذِلَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قِتَالِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ، وَمَثْلُهَا كُلُّ إِعَانَةٍ عَلَى السَّيِّئَاتِ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا، أَيْ: نَصِيبٌ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهَا، وَهُوَ مَا يَنَالُهُ مِنَ الْخِذْلَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَالْكِفْلُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ الْمَكْفُولِ لِلشَّافِعِ لِأَنَّهُ أَثَرُ عَمَلِهِ، أَوِ الْمَحْدُودِ لِأَنَّهُ عَلَى قَدْرِهِ، أَوِ الَّذِي يَجِيءُ مِنَ الْوَرَاءِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ كَفَلِ الْبَعِيرِ وَهُوَ عَجُزُهُ، أَوْ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْمَرْكَبِ الَّذِي يُسَمَّى كِفْلًا بِالْكَسْرِ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالْكِفْلُ مِنْ مَرَاكِبِ الرِّجَالِ وَهُوَ كِسَاءٌ يُؤْخَذُ فَيُعْقَدُ طَرَفَاهُ ثُمَّ يُلْقَى مُقَدَّمُهُ عَلَى الْكَاهِلِ وَمُؤَخَّرُهُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزِ - أَيِ الْكَفَلُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْفَاءِ - وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ مُسْتَدِيرٌ يُتَّخَذُ مِنْ خِرَقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَيُوضَعُ عَلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: " ذَلِكَ كَفَلُ الشَّيْطَانِ " يَعْنِي مَقْعَدَهُ ثُمَّ قَالَ: وَالْكِفْلُ مَا يَحْفَظُ الرَّاكِبَ مِنْ خَلْفِهِ، وَالْكِفْلُ النَّصِيبُ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذَا، انْتَهَى، كَأَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ مِنْ نَاحِيَةِ الْكِفْلِ وَالْمُؤَخَّرِ.
وَالرَّاغِبُ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وِفَاقًا لِابْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: إِنَّهُ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْكِفْلِ - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الشَّيْءُ الرَّدِيءُ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْكَفَلِ، وَهُوَ أَنَّ الْكِفْلَ لَمَّا كَانَ مَرْكَبًا يَنْبُو بِرَاكِبِهِ صَارَ مُتَعَارَفًا فِي كُلِّ شِدَّةٍ كَالسِّيسَاءِ، وَهُوَ الْعَظَمُ النَّاتِئُ مِنْ
ظَهْرِ الْحِمَارِ فَيُقَالُ: لِأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْكِفْلِ وَالسِّيسَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ مَنْ يَنْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ مُعِينًا لَهُ فِي فِعْلَةِ حَسَنَةٍ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ، وَمَنْ يَنْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ مُعِينًا لَهُ فِي فِعْلَةٍ سَيِّئَةٍ يَنَلْهُ مِنْهَا شِدَّةٌ، وَقِيلَ: الْكِفْلُ الْكَفِيلُ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَحَرَّى شَرًّا فَلَهُ مِنْ فِعْلِهِ كَفِيلٌ يَسْأَلُهُ، كَمَا قِيلَ مَنْ ظَلَمَ فَقَدْ أَقَامَ كَفِيلًا بِظُلْمِهِ، تَنْبِيهًا إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْ عُقُوبَتِهِ انْتَهَى.
وَفَسَّرَ الْآيَةَ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الشَّفَاعَةَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ أُمِرَ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ وَحْدَهُ فَكَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِلْقِتَالِ مَعَهُ قَدْ تَصَدَّى لِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مَعَهُ شَفِيعًا، وَاسْمُ الشَّرْطِ فِي مَنْ يَشْفَعْ يُؤْذِنُ بِالْعُمُومِ وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً، شَفَاعَةَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ عَمَّ بِذَلِكَ كُلُّ شَافِعٍ بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا قُلْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَحُضُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ لِمَنْ أَجَابَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْوَعِيدِ لِمَنْ أَبَى إِجَابَتَهُ - أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْحَثِّ عَلَى شَفَاعَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالَ مَنْ ذَكَرُوا أَنَّهَا فِي شَفَاعَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
249
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ لِاتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا أَوَّلَهَا، وَثَانِيَهَا أَنَّهُ جَعَلَ تَحْرِيضَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقِتَالِ بِمَعْنَى الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ لَهُ أَجْرُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مِمَّنْ تَمَرَّدَ وَعَصَى وِزْرٌ وَلَا عَيْبٌ. وَالثَّالِثَ: جَوَازُ أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يَشْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنْ يَأْذَنَ لِبَعْضِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ فَنَهَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ وَسِيلَةً إِلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى - دُونَ الْعَكْسِ، وَهَذَا الْوَجْهُ صَحِيحٌ، وَكَانَ وَاقِعًا وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ اسْتِئْذَانَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ، وَقَدْ يَسْتَأْذِنُ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِهِ وَيَشْفَعُ لَهُ كَمَا يَسْتَأْذِنُ لِنَفْسِهِ. وَالرَّابِعَ - مِمَّا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ -: جَوَازُ أَنْ يَشْفَعَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ فِي إِعَانَةِ مَنْ لَا يَجِدُ أُهْبَةِ الْقِتَالِ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا، وَحَاصِلُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ ذُكِرَتْ فِي هَذَا السِّيَاقِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقَعَ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْقِتَالِ أَوِ
الْقُعُودِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ بَعْضِ مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الشَّفَاعَةِ خَمْسَةَ وُجُوهٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهَا تَحْرِيضُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ عَلَى الْجِهَادِ ; لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ شَفْعًا لَهُمْ، وَذَكَرَ عِلَّةً ثَانِيَةً لِتَسْمِيَةِ التَّحْرِيضِ شَفَاعَةً وَهِيَ أَنَّ التَّحْرِيضَ عَلَى الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ بَلْ عَلَى الرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الشَّفَاعَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَوِ التَّوْجِيهُ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَيُقَرِّبُهُ.
ثَانِيهَا: أَنَّهَا شَفَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي التَّخَلُّفِ، أَوْ شَفَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْإِعَانَةِ، وِفَاقًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ.
ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَا مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هَاهُنَا هِيَ أَنْ يَشْفَعَ إِيمَانُهُ بِاللهِ بِقِتَالِ الْكَفَّارِ - أَيْ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ - وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ أَنْ يَشْفَعَ كُفْرُهُ بِالْمَحَبَّةِ لِلْكُفَّارِ وَتَرْكِ إِيذَائِهِمْ، أَقُولُ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِإِعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَقِّ وَخِذْلَانِهِمْ.
رَابِعُهَا: قَوْلُ مُقَاتِلٍ: إِنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ الدُّعَاءُ وَإِنَّ نَصِيبَ الشَّافِعِ مِنْهَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ: مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ بِالْمَعْنَى، وَذَكَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ السَّيِّئَةَ مَا كَانَ مِنْ تَحْرِيفِ الْيَهُودِ لِلسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِمْ: " السَّامُ عَلَيْكُمْ " أَيِّ الْمَوْتُ، أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا مَعْرُوفٌ وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ أَلْبَتَّةَ.
خَامِسُهَا: قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ: إِنَّهَا شَفَاعَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَمَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ
250
سَيِّئَةٌ، ثُمَّ جَزَمَ الرَّازِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْجِهَادِ، فَلَا يَجُوزُ قَصْرُهَا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي مَعْنَاهَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الَّذِي لَا يُنَافِيهِ خُصُوصُ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى الْجَلَالِ وَغَيْرِهِ حَمْلَ الشَّفَاعَةِ عَلَى مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ فِي شُئُونِهِمُ الْخَاصَّةِ مِنَ الْمَعَايِشِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ يَذْهَبُ بِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْحَرَارَةِ وَيُخْرِجُهَا مِنَ السِّيَاقِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَعَمُّ فَالْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ
الشَّفَاعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَرْبِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْآيَاتِ فِي الْمُبْطِئِينَ عَنِ الْقِتَالِ، وَالَّذِينَ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى اللهُ - تَعَالَى - مِنْ خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ ذَلِكَ ضُرُوبُ الِاعْتِذَارِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِهَا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الِاعْتِذَارُ بِوَاسِطَةِ بَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ يُرْجَى السَّمَاعُ لَهُمْ وَالْقَبُولُ مِنْهُمْ، وَهُوَ عَيْنُ الشَّفَاعَةِ، اهـ.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ شَفَاعَةَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا قِسْمَانِ: حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ، فَالْحَسَنَةُ أَنْ يَشْفَعَ الشَّافِعُ لِإِزَالَةِ ضَرَرٍ وَرَفْعِ مَظْلَمَةٍ عَنْ مَظْلُومٍ أَوْ جَرِّ مَنْفَعَةٍ إِلَى مُسْتَحِقٍّ، لَيْسَ فِي جَرِّهَا إِلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَا ضِرَارٌ، وَالسَّيِّئَةُ أَنْ يَشْفَعَ فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ، أَوْ هَضْمِ حَقٍّ، أَوْ إِعْطَائِهِ لِغَيْرِ مُسْتَحَقٍّ، أَوْ مُحَابَاةٍ فِي عَمَلٍ، بِمَا يَجُرُّ إِلَى الْخَلَلِ وَالزَّلَلِ، وَالضَّابِطُ الْعَامُّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هِيَ مَا كَانَتْ فِيمَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّرْعُ، وَالسَّيِّئَةُ فِيمَا كَرِهَهُ أَوْ حَرَّمَهُ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ أَنْ نَتَذَكَّرَ بِهَا أَنَّ الْحَاكِمَ الْعَادِلَ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِعْلَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ مَظْلَمَةِ الْمَشْفُوعِ لَهُ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَا يَطْلُبُ لَهُ، وَلَا يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ لِأَجْلِ إِرْضَاءِ الشَّافِعِ فِيمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَيُنَافِي الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ الْمُسْتَبِدُّ الظَّالِمُ فَهُوَ الَّذِي تَرُوجُ عِنْدَهُ الشَّفَاعَاتُ ; لِأَنَّهُ يُحَابِي أَعْوَانَهُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْهُ لِيَكُونُوا شُرَكَاءَ لَهُ فِي اسْتِبْدَادِهِ، فَيَثِقُ بِثَبَاتِهِمْ عَلَى خِدْمَتِهِ وَإِخْلَاصِهِمْ لَهُ، وَمَا الذِّئَابُ الضَّارِيَةُ بِأَفْتَكَ مِنَ الْغَنَمِ مِنْ فَتْكِ الشَّفَاعَاتِ فِي إِفْسَادِ الْحُكُومَاتِ وَالدُّوَلِ، فَإِنَّ الْحُكُومَةَ الَّتِي تَرُوجُ فِيهَا الشَّفَاعَاتُ يَعْتَمِدُ التَّابِعُونَ لَهَا عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي كُلِّ مَا يَطْلُبُونَ مِنْهَا لَا عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَتَضِيعُ فِيهَا الْحُقُوقُ، وَيَحُلُّ الظُّلْمُ مَحَلَّ الْعَدْلِ، وَيَسْرِي ذَلِكَ مِنَ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأُمَّةِ فَيَكُونُ الْفَسَادُ عَامًّا.
وَقَدْ نَشَأْنَا فِي بِلَادٍ هَذِهِ حَالُ أَهْلِهَا وَحَالُ حُكُومَتِهِمْ، يَعْتَقِدُ الْجَمَاهِيرُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى قَضَاءِ مَصْلَحَةٍ فِي الْحُكُومَةِ إِلَّا بِالشَّفَاعَةِ أَوِ الرِّشْوَةِ، وَلَا يَقُومُ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى صَلَاحِ حُكُومَتِنَا إِلَّا إِذَا زَالَ هَذَا الِاعْتِقَادُ، وَصَارَتِ الشَّفَاعَةُ مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي لَا يَلْجَأُ إِلَيْهَا إِلَّا أَصْحَابُ الْحَقِّ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ مِنْ بَابِهِ، وَظُهُورُ الْحَاجَةِ إِلَى شَفِيعٍ يَظْهَرُ لِلْحَاكِمِ
251
الْعَادِلِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمَشْفُوعِ لَهُ لِكَذَا، أَوْ وُقُوعِ الظُّلْمِ عَلَيْهِ فِي كَذَا، وَأَنْ يَكُونَ مَا عَدَا هَذَا مِنَ النَّوَادِرِ الَّتِي لَا تَخْلُو حُكُومَةٌ
مِنْهَا، مَهْمَا ارْتَقَتْ وَصَلُحَ حَالِهَا.
وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا أَيْ: مُقْتَدِرًا أَوْ حَافِظًا أَوْ شَاهِدًا، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِالْحَفِيظِ وَالشَّهِيدِ، أَقْوَالُ: قَالَ الرَّاغِبُ: وَحَقِيقَتُهُ قَائِمًا عَلَيْهِ يَحْفَظُهُ وَيَقِيتُهُ - يَعْنِي أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوتِ وَهُوَ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقِ مِنَ الرِّزْقِ وَتُحْفَظُ بِهِ الْحَيَاةَ - يُقَالُ: قَاتَهُ يَقُوتُهُ إِذَا أَطْعَمَهُ قُوتَهُ، وَأَقَاتَهُ يُقِيتُهُ إِذَا جَعَلَ لَهُ مَا يَقُوتُهُ اهـ، وَمَنْ جَعَلَ لَكَ مَا يَقُوتُكَ دَائِمًا كَانَ قَائِمًا عَلَيْكَ بِالْحِفْظِ وَشَهِيدًا عَلَيْكَ لَا يَقُوتُهُ أَمْرُكَ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ مَعْنَى الْقُدْرَةِ أَيْضًا بِاللُّزُومِ، وَلَكِنَّهُمْ أَوْرَدُوا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى كَوْنِ الْمُقِيتِ بِمَعْنَى الْمُقْتَدِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنَ الْقُوتِ، كَقَوْلِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -:
وَذِي ضَغَنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتَا
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ:
تَجَلَّدْ وَلَا تَجْزَعْ وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ فَإِنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمَقِيتُ
وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ هُنَا مَعْنَى الْمُقْتَدِرِ مُسْتَدِلًّا بِبَيْتِ الزُّبَيْرِ لِأَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَقَاتَ عَلَى الشَّيْءِ اقْتَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ بَيْتَ الزُّبَيْرِ، وَعَزَاهُ أَوَّلًا إِلَى أَبِي قَيْسِ بْنِ رِفَاعَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لِلزُّبَيْرِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ الْفَرَّاءِ: الْمُقِيتُ الْمُقْتَدِرُ وَالْمُقَدِّرُ كَالَّذِي يُعْطَى كُلَّ شَيْءٍ قُوتَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُقِيتُ الْقَدِيرُ، وَقِيلَ: الْحَفِيظُ، قَالَ: وَهُوَ بِالْحَفِيظِ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُوتِ، يُقَالُ: قُتُّ الرَّجُلَ أَقُوتُهُ إِذَا حَفِظْتُ نَفْسَهُ بِمَا يَقُوتُهُ، وَالْقُوتُ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يَحْفَظُ نَفْسَهُ وَلَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْحِفْظِ، فَمَعْنَى الْمُقِيتِ الْحَفِيظُ الَّذِي يُعْطِي الشَّيْءَ قَدْرَ الْحَاجَةِ مِنَ الْحِفْظِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُقِيتُ الْمُقْتَدِرُ كَالَّذِي يُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ قُوتَهُ، وَيُقَالُ: الْمُقِيتُ الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ وَالشَّاهِدُ لَهُ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ لِلْسَمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا:
رُبَّ شَتْمٍ سَمِعْتُهُ وَتَصَامَمْـ ـتُ وَغَيٍّ تَرَكْتُهُ فَكُفِيتُ
لَيْتَ شِعْرِي وَأَشْعُرَنَّ إِذَا مَا قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ
أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إِذَا حُو سِبْتُ إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
أَيْ: أَعْرَفُ مَا عَمِلْتَ مِنَ السُّوءِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، حَكَى ابْنُ بَرِّيٍّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، قَالَ: الصَّحِيحُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى "
رَبِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
" إِلَى آخِرِ
مَا ذَكَرَهُ وَمِنْهُ تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ لِلْمُقِيتِ فِي بَيْتِ السَّمَوْأَلِ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى الْحِسَابِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَكَانَ اللهُ وَمَا زَالَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا، أَيْ: مُقْتَدِرًا مُقَدَّرًا
252
فَهُوَ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُعْطِيَ الشَّافِعَ نَصِيبًا أَوْ كِفْلًا مِنْ شَفَاعَتِهِ عَلَى قَدْرِهَا فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ، لِأَنَّ سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَزَاءُ مُرْتَبِطًا بِالْعَمَلِ، أَوْ شَهِيدًا حَفِيظًا عَلَى الشُّفَعَاءِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ مُحْسِنِهِمْ وَمُسِيئِهِمْ فَهُوَ يُعْطِي الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ أَنْ عَلَّمَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ طَرِيقَةَ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ التَّوَاصُلِ بَيْنَ النَّاسِ، عَلَّمَهُمْ سُنَّةَ التَّحِيَّةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمُ الضُّعَفَاءِ وَالْأَقْوِيَاءِ فِي الْإِيمَانِ، وَحُسْنَ الْأَدَبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ يَلْقَوْنَهُ فِي أَسْفَارِهِمْ فَقَالَ: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، وَهَذَا مَا يَرَاهُ الْأُسْتَاذُ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي النَّظْمِ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجِهَادِ أَمَرَهُمْ أَيْضًا بِأَنْ يَرْضَوْا بِالْمُسَالَمَةِ إِذَا رَضِيَ الْأَعْدَاءُ بِهَا، فَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (٨: ٦١).
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَلْقَى الرَّجُلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَقَدْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى سَلَامِهِ وَيَقْتُلُهُ، فَمَنَعَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ وَأَمْرَهُمْ بِأَنْ يُقَابِلُوا كُلَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُكْرِمُهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْإِكْرَامِ بِمِثْلِ مَا قَابَلَهُمْ بِهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ.
هَذَا مُلَخَّصُ قَوْلِهِ: وَفِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ جَعَلَ التَّحِيَّةَ بِمَعْنَى السَّلَامِ وَالسِّلْمِ، وَفِي الثَّانِي مِنَ التَّوَسُّعِ فِي التَّحِيَّةِ مَا فِيهِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا (٤: ٩٤)، وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا أَدَبَ التَّحِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ مَا يَنْبَغِي وَمَا لَا يَنْبَغِي فِي الشَّفَاعَةِ ; لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنَ التَّحِيَّةِ وَالشَّفَاعَةِ شَأْنًا عَظِيمًا فِي حَالِ الْقِتَالِ، يَكُونُ بِهِ نَفْعُهُمَا أَوْ ضَرَرُهُمَا أَقْوَى مِنْهُ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّحِيَّةِ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الْحَيَاةِ.
التَّحِيَّةُ: مَصْدَرُ حَيَّاهُ إِذَا قَالَ لَهُ حَيَّاكَ اللهُ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ صَارَتِ التَّحِيَّةُ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْمَرْءُ لِمَنْ يُلَاقِيهِ أَوْ يُقْبِلُ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ دُعَاءٍ أَوْ ثَنَاءٍ كَقَوْلِهِمْ: أَنْعِمْ صَبَاحًا وَأَنْعِمْ مَسَاءً، وَقَالُوا: عِمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَجُعِلَتْ تَحِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ السَّلَامَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ السَّلَامِ وَالْأَمَانِ، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ السِّلْمِ وَمُحِبُّو السَّلَامَةِ، وَمِنَ التَّحِيَّاتِ الشَّائِعَةِ فِي بِلَادِنَا إِلَى هَذَا الْيَوْمِ: أَسْعَدَ اللهُ صَبَاحَكُمْ، أَسْعَدَ اللهُ مَسَاءَكُمْ - وَهَذَا
بِمَعْنَى قَوْلِ الْعَرَبِ الْقُدَمَاءِ: أَنْعِمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً - وَنَهَارُكَ سَعِيدٌ، وَلَيْلَتُكَ سَعِيدَةٌ، وَهَذَا مُتَرْجَمٌ عَنِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ.
وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نُجِيبَ مَنْ حَيَّانَا بِأَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ أَوْ بِمِثْلِهَا أَوْ عَيْنِهَا، كَأَنْ نَقُولُ لَهُ الْكَلِمَةَ الَّتِي يَقُولُهَا، وَهَذَا هُوَ رَدُّهَا، وَفَسَّرُوهُ بِأَنْ تَقُولَ لِمَنْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، بِقَوْلِكَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَإِذَا قَالَ هَذَا فِي تَحِيَّةٍ فَالْأَحْسَنُ أَنْ تَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَهَكَذَا يَزِيدُ الْمُجِيبُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ كَلِمَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَأَقُولُ: قَدْ يَكُونُ أَحْسَنُ الْجَوَابِ بِمَعْنَاهُ أَوْ كَيْفِيَّةِ
253
أَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ لَفْظِ الْمُبْتَدِئِ بِالتَّحِيَّةِ، أَوْ مُسَاوِيَهُ فِي الْأَلْفَاظِ، أَوْ مَا هُوَ أَخْصَرُ مِنْهُ، فَمَنْ قَالَ لَكَ: أَسْعَدَ اللهُ صَبَاحَكُمْ وَمَسَاءَكُمْ، فَقُلْتَ لَهُ: أَسْعَدَ اللهُ جَمِيعَ أَوْقَاتَكُمْ كَانَتْ تَحِيَّتُكَ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ، وَمَنْ قَالَ لَكَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْعِنَايَةِ فَقُلْتَ لَهُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ بِصَوْتٍ أَرْفَعَ وَإِقْبَالٍ يُشْعِرُ بِالْعِنَايَةِ وَزِيَادَةِ الْإِقْبَالِ وَالتَّكْرِيمِ، كُنْتَ قَدْ حَيَّيْتَهُ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ فِي صِفَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا فِي لَفْظِهَا، وَالنَّاسُ يُفَرِّقُونَ فِي الْقِيَامِ لِلزَّائِرِينَ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِحَرَكَةٍ خَفِيفَةٍ وَهِمَّةٍ تُشْعِرُ بِزِيَادَةِ الْعِنَايَةِ وَمَنْ يَقُومُ مُتَثَاقِلًا، وَمِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ مَنْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْعِنَايَةِ بِالْقِيَامِ إِظْهَارَ الِانْدِهَاشِ فَيَقُولُونَ: قَامَ لَهُ بِانْدِهَاشٍ، أَوْ قَامَ بِغَيْرِ انْدِهَاشٍ.
عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ الْجَوَابُ عَنِ التَّحِيَّةِ لَهُ مَرْتَبَتَانِ: أَدْنَاهُمَا رَدُّهَا بِعِنَايَةٍ، وَأَعْلَاهُمَا الْجَوَابُ عَنْهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، فَالْمُجِيبُ مُخَيَّرٌ وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَحْسَنَ لِكِرَامِ النَّاسِ كَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، وَرَدُّ عَيْنِ التَّحِيَّةِ لِمَنْ دُونَهُمْ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ لِأَحْسَنَ مِنْهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَرَدَّهَا بِعَيْنِهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ لِلْكُفَّارِ عَامَّةً، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: فَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، أَقُولُ: وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَمُعَامَلَةِ الْمُحَارِبِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ قَالَ لِخَصْمِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَدْ أَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقْصِدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْوَفَاءُ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الرَّاسِخَةِ ; وَلِذَلِكَ عَدَّ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ذِكْرَ التَّحِيَّةِ مُنَاسِبًا لِلسِّيَاقِ بِكَوْنِهَا مِنْ وَسَائِلِ السَّلَامِ،
وَلَمَّا صَارَ لَفْظُ السَّلَامِ تَحِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ صَارَتِ التَّحِيَّةُ بِهِ عُنْوَانًا عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا (٤: ٩٤).
وَمِمَّا يَنْبَغِي بَيَانُهُ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَكْرَهُونَ أَنْ يُحَيِّيَهُمْ غَيْرُهُمْ بِلَفْظِ السَّلَامِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي رَدُّ السَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، أَيْ: يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِشَيْءٍ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ، وَفَاتَهُمْ أَنَّ الْآدَابَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِذَا سَرَتْ فِي قَوْمٍ يَأْلَفُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْرِفُونَ فَضْلَ دِينِهِمْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَجْذَبُ لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَآيَةِ النُّورِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا (٢٤: ٢٧)، هَلِ السَّلَامُ فِيهِمَا عَلَى إِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ فَيَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ أَمْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ؟ فَأَجَبْتُ فِي الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ مِنَ الْمَنَارِ (ص ٥٨٣ - ٦٨٥) بِمَا نَصَّهُ:
(ج) إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ عَامٌّ وَمِنْ مَقَاصِدِهِ نَشْرُ آدَابِهِ وَفَضَائِلِهِ فِي النَّاسِ وَلَوْ بِالتَّدْرِيجِ
254
وَجَذْبُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ لِيَكُونَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ إِخْوَةً، وَمِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَةً فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ إِفْشَاءُ السَّلَامِ إِلَّا مَعَ الْمُحَارِبِينَ ; لِأَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ فَقَدْ أَمَّنَهُ، فَإِذَا فَتَكَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ خَائِنًا نَاكِثًا لِلْعَهْدِ، وَكَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ السَّلَامَ، حَتَّى كَانَ مِنْ بَعْضِ سُفَهَائِهِمْ تَحْرِيفُ السَّلَامِ بِلَفْظِ: " السَّامُ " أَيِّ الْمَوْتُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجِيبُهُمْ بِقَوْلِهِ: " وَعَلَيْكُمْ "، وَسَمِعَتْ عَائِشَةُ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: " السَّامُ عَلَيْكُمْ "، فَقَالَتْ لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَانْتَهَرَهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُبَيِّنًا لَهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكُونُ فَاحِشًا وَلَا سَبَّابًا وَأَنَّ الْمَوْتَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلذِّمِّيِّ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ لِنَصْرَانِيٍّ سَلَّمَ عَلَيْهِ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ - تَعَالَى -، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: " أَلَيْسَ فِي رَحْمَةِ اللهِ يَعِيشُ "، وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الْأَمْرُ بِالسَّلَامِ عَلَى مَنْ تَعْرِفُ وَمَنْ لَا تَعْرِفُ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ رُدُّوهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ يُقَالُ لِلْكِتَابِيِّ فِي رَدِّ السَّلَامِ عَيْنُ مَا يَقُولُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ.
هَذِهِ لُمَعَةٌ مِمَّا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ ثُمَّ جَاءَ الْخَلَفُ فَاخْتَلَفُوا فِي السَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، فَقَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُمْ لَا يَبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَحَمَلُوا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَلَى الْحَاجَةِ أَيْ: لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً إِلَّا لِحَاجَةٍ، وَأَمَّا الرَّدُّ فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ وَاجِبٌ كَرَدِّ سَلَامِ الْمُسْلِمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ سُنَّةٌ وَفِي الْخَانِيَةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: وَلَوْ سَلَّمَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ فَلَا بَأْسَ بِالرَّدِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ لَا وَاجِبٌ وَلَا مَسْنُونٌ مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِهِ فِي الصَّحِيحِ.
أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا يُنَافِي حَقَّ غَيْرِهِ، فَالسَّلَامُ حَقٌّ عَامٌّ وَيُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ: مُطْلَقُ التَّحِيَّةِ، وَتَأْمِينُ مَنْ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ وَالْإِيذَاءِ وَكُلِّ مَا يُسِيءُ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ السَّلَامَ تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا وَأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا، وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي السَّلَامِ عَامَّةً، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا " الْمُسْلِمُ " كَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا غَيْرُهُ كَحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
أَمَّا جَعْلُ تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ عَامَّةً فَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ مَا كَانَ سَبَبًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ بِلَفْظِ: " وَعَلَيْكُمْ " حَتَّى لَا يَكُونُوا مَخْدُوعِينَ لِلْمُحَرِّفِينَ، وَمِنْ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنَّ الشَّيْءَ يَزُولُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ
255
أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ نَهَى الْيَهُودَ عَنِ السَّلَامِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَحْظُرُوا عَلَى النَّاسِ آدَابَ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَرَادُوا أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَ الْمُسْلِمِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُ حَتَّى مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى آيَاتِهِ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلدِّينِ، وَصَوْنٌ لَهُ عَنِ الْمُخَالِفِينَ، وَكُلَّمَا زَادُوا بُعْدًا عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ زَادُوا إِيغَالًا فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَإِنَّهُمْ لَيُشَاهِدُونِ النَّصَارَى فِي هَذَا الْعَصْرِ يَجْتَهِدُونَ بِنَشْرِ دِينِهِمْ وَيُوَزِّعُونَ كَثِيرًا مِنْ كُتُبِهِ عَلَى النَّاسِ مَجَّانًا، وَيُعَلِّمُونَ أَوْلَادَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي مَدَارِسِهِمْ لِيُقَرِّبُوهُمْ مِنْ دِينِهِمْ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي تَحْوِيلِ النَّاسِ إِلَى عَادَاتِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ لِيَقَرِّبُوا مِنْ دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْأُورُبِّيِّينَ فَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا عِنْدَمَا وَافَقَهُمْ خِدِيوِي مِصْرَ " إِسْمَاعِيلُ بَاشَا " عَلَى اسْتِبْدَالِ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بِالتَّارِيخِ الْهِجْرِيِّ وَعَدُّوا هَذَا مِنْ آيَاتِ الْفَتْحِ، وَتَرَى الْقَوْمَ الْآنَ
يَسْعَوْنَ فِي جَعْلِ يَوْمِ الْأَحَدِ عِيدًا أُسْبُوعِيًّا لِلْمُسْلِمِينَ يُشَارِكُونَ فِيهِ النَّصَارَى بِالْبَطَالَةِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ نَرَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَزَالُونَ يُحِبُّونَ مَنْعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَخْذِ بِآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلدِّينِ، وَكَأَنَّ هَذَا التَّعْظِيمَ لَا نِهَايَةَ لَهُ إِلَّا حَجْبَ هَذَا الدِّينِ عَنِ الْعَالَمِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَسَيَرْجِعُونَ عَنْهُ بَعْدَ حِينٍ اهـ.
هَذَا مَا أَفْتَيْنَا بِهِ مُنْذُ بِضْعِ سِنِينَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْفَتْوَى رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِلَفْظِ: " وَعَلَيْكُمْ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، وَرَوِيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَدَمَ ابْتِدَائِنَا إِيَّاهُمْ بِالسَّلَامِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ اقْتَضَاهَا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحُرُوبِ وَكَانُوا هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِيهَا، رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ، فَيَظْهَرُ هُنَا أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَبْدَءُوهُمْ لِأَنَّ السَّلَامَ تَأْمِينٌ، وَمَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ آمِنٍ مِنْهُمْ لِمَا تَكَرَّرَ مِنْ غَدْرِهِمْ وَنَكْثِهِمْ لِلْعَهْدِ مَعَهُ ; فَكَانَ تَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ تَخْوِيفًا لَهُمْ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى الْمُوَاتَاةِ، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ جَوَازَ ابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ مُحَيْرِيزٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - قَالَ وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِنَا، وَعِنْدِي أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ الْأَحَادِيثِ لِأَجْلِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ نُزُولِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ هِدَايَةٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ يَجِبُ تَبْلِيغُهَا، وَفِي الْأَحَادِيثِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، وَالرَّأْيِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَنْ يَكُونَ دِينًا وَلَا هِدَايَةً عَامَّةً وَلَا أَنْ يُبَلَّغَ لِلنَّاسِ، فَتَوَقَّفُ فَهْمِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا أَظْهَرُ، وَالَّذِي
256
عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي نَعْرِفُهَا، أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِغَيْرِ السَّلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بَعْدَ كِتَابَةِ هَذَا رَاجَعْتُ (زَادَ الْمَعَادِ) فَإِذَا هُوَ يَقُولُ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ " قِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ لَمَّا سَارُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ "، وَتَرَدَّدَ فِي كَوْنِهِ حُكْمًا عَامًّا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ خَاصًّا بِمَنْ كَانَتْ حَالُهُ مِثْلَ حَالِهِمْ، وَذَكَرَ خِلَافَ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمُطْلَقِ فِي النَّهْيِ عَنِ الِابْتِدَاءِ.
هَذَا وَإِنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ، وَأَمَّا رَدُّهُ فَالْجُمْهُورُ
عَلَى وُجُوبِهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ رَدَّ كُلِّ تَحِيَّةٍ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ الْوُجُوبُ خَاصًّا بِتَحِيَّةِ السَّلَامِ، وَيَكْفِي أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ وَأَنْ يَرُدَّ بَعْضُ مَنْ يُلْقَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ; لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لِتَضَامُنِهَا وَاتِّحَادِهَا يَقُومُ فِيهَا الْوَاحِدُ مَقَامَ الْجَمِيعِ.
وَالسُّنَّةُ: أَنْ يُسَلِّمَ الْقَادِمُ عَلَى مَنْ يَقْدِمُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا تَلَاقَى الرَّجُلَانِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الْكَبِيرُ فِي السِّنِّ أَوِ الْقَدْرِ بِالسَّلَامِ.
وَمِنْ آدَابِ السَّلَامِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ " يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ "، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ سَلَامَ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ، وَمُسْلِمٌ " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ "، وَالتِّرْمِذِيُّ " أَنَّهُ مَرَّ بِنِسْوَةٍ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ "، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ الْمَحَارِمِ مُطْلَقًا وَالْعَجَائِزِ الْأَجْنَبِيَّاتِ دُونَ غَيْرِهِنَّ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ عَلَى الْقَوْمِ عِنْدَ الْمَجِيءِ وَعِنْدَ الِانْصِرَافِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ وَقَالَ: وَكَانَ يُسَلِّمُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يُوَاجِهُهُ، وَيَحْمِلُ السَّلَامَ لِمَنْ يُرِيدُ السَّلَامَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَائِبِينَ عَنْهُ، وَيَتَحَمَّلُ السَّلَامَ لِمَنْ يُبَلِّغُهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا بَلَّغَهُ أَحَدٌ السَّلَامَ عَنْ غَيْرِهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُبَلِّغِ بِهِ، وَكَانَ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيَّتِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إِلَّا لِعُذْرٍ مِثْلِ حَالَةِ الصَّلَاةِ وَحَالَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَكَانَ يُسْمِعُ الْمُسَلِّمَ عَلَيْهِ رَدَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَرُدُّ بِيَدِهِ وَلَا رَأْسِهِ وَلَا أُصْبُعِهِ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرُدُّ إِشَارَةً، ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ مَا يُعَارِضُهَا إِلَّا بِشَيْءٍ بَاطِلٍ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، (وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي يَرْوِيهِ أَبُو غَطَفَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي إِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ أَشَارَ إِشَارَةً تُفْهَمُ، وَأَبُو غَطَفَانَ مَجْهُولٌ).
وَوَرَدَ فِي صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ إِفْشَاءُ السَّلَامِ وَكَوْنُهُ سَبَبَ الْحُبِّ بَيْنَهُمْ،
257
وَمِنْهَا حَدِيثُ: إِنَّ أَفْضَلَ الْإِسْلَامِ وَخَيْرَهُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ وَصَحَّ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ تَحَابُّوا، رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَأَفْشُوا السَّلَامَ تَسْلَمُوا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ الْبَرَاءِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ عَمَّارٌ: " ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ "، فَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ الْعَالِي الَّذِي لَا يَكَادُ يَجْمَعُهُ غَيْرُهُ.
إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا الْحَسِيبُ الْمُحَاسِبُ عَلَى الْعَمَلِ كَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُجَالِسِ قَالَ الرَّاغِبُ: وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُكَافِئِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ الْكَافِي مَنْ حَسِبَكَ كَذَا إِذَا كَانَ يَكْفِيكَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ فِي مُرَاعَاةِ هَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَكُمْ بِالتَّحِيَّةِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِأَمْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَقُولُ: إِنَّ فِيهَا أَيْضًا إِشْعَارًا بِحَظْرِ تَرْكِ إِجَابَةِ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْنَا وَيُحَيِّينَا وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُنَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:
اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ هُمَا الرُّكْنَانِ الْأَوَّلَانِ لِلدِّينِ، وَإِنَّمَا الرُّسُلُ يُبَلِّغُونَ النَّاسَ مَا يَجِبُ مِنْ إِقَامَتِهِمَا وَدَعْمِهِمَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُصَرِّحَ الْقُرْآنُ بِهِمَا مَعًا تَارَةً، وَبِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا تَارَةً أُخْرَى فِي أَثْنَاءِ سَرْدِ الْأَحْكَامِ، فَإِنِّ ذِكْرَهُمَا هُوَ الْعَوْنُ الْأَكْبَرُ وَالْبَاعِثُ الْأَقْوَى عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَنَاهِيكَ بِأَحْكَامِ الْقِتَالِ الَّتِي يَبْذُلُ الْمُؤْمِنُ فِيهَا نَفْسَهُ وَمَالَهُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ وَحُرِّيَّةِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَنَشْرِ هِدَايَتِهِ، وَتَأْمِينِ دُعَاتِهِ وَأَهْلِهِ، وَهَلْ يَبْذُلُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ إِلَّا فِي مَرْضَاةِ مَنْ يَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكُلِّ مَا فِيهَا؟
فَالْمَعْنَى: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ، فَلَا تُقَصِّرُوا فِي طَاعَتِهِ وَالْخُضُوعِ لِأَمْرِهِ ; فَإِنَّ فِي طَاعَتِهِ شَرَفَكُمْ وَسَعَادَتَكُمْ، وَارْتِقَاءَ أَرْوَاحِكُمْ وَعُقُولِكُمْ، إِذْ حَرَّرَكُمْ بِذَلِكَ مِنَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْبَشَرِ، بَلْ لَهُ الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ لِمَا دُونَ الْبَشَرِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي ذَلَّ لَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَسَيَجْعَلُ لَكُمْ بِهَذَا الدِّينِ مُلْكًا عَظِيمًا وَيَجْعَلُكُمُ الْوَارِثِينَ، وَهَلْ هَذَا كُلُّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ لِلْمُحْسِنِينَ؟ كَلَّا إِنَّهُ - وَاللهِ - لَيَجْمَعَنَّكُمْ وَيَحْشُرَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا فِيمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ الْأَوْفَى عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ أَكَّدَ اللهُ - تَعَالَى - خَبَرَهُ بِالْقَسَمِ وَهُوَ أَقْوَى الْمُؤَكِّدَاتِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا، أَيْ: لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيُرَجَّحُ خَبَرُهُ عَلَى خَبَرِهِ، فَكَلَامُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَنْ عَمْدٍ وَعِلْمٍ، أَوْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ سَهْوٍ، وَأَمَّا كَلَامُهُ تَعَالَى فَهُوَ عَنِ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٢٠: ٥٢)، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ غَيْرَ صَادِقٍ لِنَقْصٍ فِي الْعِلْمِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لِغَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ دَلَّ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ عَلَى كَوْنِهِ كَلَامَ
258
اللهِ - تَعَالَى -، فَلَمْ يَبْقَ عُذْرٌ لِمَنْ قَامَ عَلَيْهِ
الدَّلِيلُ، إِذَا آثَرَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَقْوَالَ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُقَلِّدِينَ الضَّالِّينَ.
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا.
ابْتَدَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْفَاءِ لِوَصْلِهَا بِمَا سَبَقَهَا، إِذِ السِّيَاقُ لَا يَزَالُ جَارِيًا فِي مَجْرَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ، وَذِكْرِ شُئُونِ الْمُنَافِقِينَ وَالضُّعَفَاءِ فِيهِ، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فَتَخُونُهُ أَعْمَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالنَّصْرِ لَهُمْ وَهُمْ بَعْضُ
259
الْمُشْرِكِينَ - وَكَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي إِبَّانِ الْحَرْبِ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْإِيمَانِ فِي غَيْرِ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ كَانُوا خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ تَقُولُ نَقْتُلُهُمْ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ لَا، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ فَقَالَ: " مَنْ لِي بِمَنْ يُؤْذِينِي وَيَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي؟ "، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ قَتَلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَأَطَعْنَاكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا ابْنَ مُعَاذٍ طَاعَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَقَدْ عَرَفْتَ مَا هُوَ مِنْكَ.
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: إِنَّكَ يَا ابْنَ عُبَادَةَ مُنَافِقٌ وَتُحِبُّ الْمُنَافِقِينَ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: اسْكُتُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ فِينَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَأْمُرُنَا فَنُنَفِّذُ أَمْرَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ وَحُمَّاهَا فَأُرْكِسُوا وَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالُوا لَهُمْ: مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ؟ قَالُوا: أَصَابَنَا وَبَاءُ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَافَقُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنَافِقُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ تَدْلِيسٌ وَانْقِطَاعٌ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ لِلسُّيُوطِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِي يُؤْذِي النَّبِيَّ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِمَكَّةَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُعِينُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرَجَّحَهَا بَعْضُهُمْ حَتَّى عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ بِذِكْرِ الْمُهَاجَرَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذِكْرِ سَنَدِهِ عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ قَوْلُهُ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا بِمَكَّةَ فَقَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: ارْكَبُوا إِلَى الْخُبَثَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: سُبْحَانَ اللهِ - أَوْ كَمَا قَالُوا - تَقْتُلُونَ قَوْمًا قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَيَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، تُسْتَحَلُّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ
لِذَلِكَ؟ ! فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَهُمْ لَا يَنْهَى وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ شَيْءٍ فَنَزَلَتْ، وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ قَدْ أَسْلَمُوا بِالْفِعْلِ كَمَا تُوهِمُهُ
260
عِبَارَةُ بَعْضِ النَّاقِلِينَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَتَبُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَذِبًا، فَلَقُوهُمْ فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَلَالٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَرَامٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُمْ نَاسٌ تَخَلَّفُوا عَنْ نَبِيِّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ وَأَعْلَنُوا الْإِيمَانَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَلَّاهُمْ نَاسٌ وَتَبَرَّأَ مِنْ وِلَايَتِهِمْ آخَرُونَ، وَقَالُوا: تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَسَمَّاهُمُ اللهُ مُنَافِقِينَ، وَبَرَّأَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَلَايَتِهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَتَوَلَّوْهُمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ رِوَايَاتِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا مُعْتَذِرِينَ بِالْمَرَضِ وَالتُّخَمَةَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ، ثُمَّ رَجَّحَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ مَكَّةَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لِذِكْرِ الْهِجْرَةِ فِي الْآيَةِ.
وَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِي مِثْلِ هَذَا بِتَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ وَنُزُولِ الْآيَةِ عَقِبَهَا، وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَقَائِعِ تَرَاخٍ وَزَمَنٌ طَوِيلٌ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَهَا كُلٌّ عَلَى وَاقِعَةٍ يَرَى أَنَّهَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ التَّفْسِيرِ لَا التَّارِيخِ، وَلَكِنَّ مِنَ الرِّوَايَاتِ مَا يَكُونُ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا فِي التَّارِيخِ وَتَعْيِينِ الْوَاقِعَةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مَنْقُولَةً بِالْمَعْنَى كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الرِّوَايَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِنْ فَهْمٍ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ وَرَأَيٌ فِي تَفْسِيرِهَا يُخْطِئُ فِيهِ وَيُصِيبُ، وَلَا يُلْزِمُ أَحَدًا أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، بَلْ لِمَنْ ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَاتِ يَأْبَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَدَّ رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي جَعْلِ الْمُرَادِ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا فِئَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ الَّذِينَ رَجَعُوا عَنِ اِلْقِتَالِ فِي أُحُدٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَأَيْتَ مِنْ ذِكْرِ الْمُهَاجِرَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ هَذَا
اللَّفْظِ بِمَا تَرَاهُ، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي رَدِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا دُونَهَا فِي قُوَّةِ السَّنَدِ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ - أَيِ الَّتِي جَعَلَتِ الْآيَةَ فِي مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ - أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يَعْمَلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا فِي أَحَدٍ مِمَّنْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ وَهُوَ قَتْلُهُمْ حَيْثُمَا وُجِدُوا بِشَرْطِهِ، وَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ صَدِّ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ السَّنَدِ عَنِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنَ الْآيَاتِ بِلَا تَكَلُّفٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ خِدَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَيَنْصُرُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي الْوَلَاءِ وَالْمُخَالَفَةِ وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي الدَّرْسِ:
261
الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ تُشْعِرُ بِارْتِبَاطِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْفَاءَ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَرِعُ الْجَاهِلُ تَعْلِيلَاتٍ وَمَعَانِيَ لِمَا لَا يَفْهَمُهُ، وَقَدْ يَخْتَرِعُ الرِّوَايَاتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَشَدَّ الِارْتِبَاطِ إِذِ الْكَلَامُ السَّابِقُ كَانَ فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ حَتَّى مَا وَرَدَ فِي الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَقَدْ خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَخْ، أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرَهُ يُخْشَى وَيُخَافُ أَوْ يُرْجَى فَتُتْرَكُ تِلْكَ الْأَحْكَامُ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا بِالْفَاءِ وَهِيَ تُفِيدُ تَفْرِيعَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِيهَا عَلَى مَا قَبْلُهُ، أَيْ: إِذَا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - قَدْ أَمَرَكُمْ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ وَتَوَعَّدَ الْمُبْطِئِينَ عَنْهُ وَالَّذِينَ تَمَنَّوْا تَأْخِيرَ كِتَابَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَيُتْرَكُ أَمْرُهُ وَطَاعَتُهُ لِأَجْلِهِ فَمَا لَكُمْ تَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَنْقَسِمُونَ فِيهِمْ إِلَى فِئَتَيْنِ؟
قَالَ: وَالْمُنَافِقُونَ هُنَا غَيْرُ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ آيَاتُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ الْمُنَافِقِينَ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَلَاءَ لَهُمْ وَهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا يُظْهِرُونَ، ضَلْعُهُمْ مَعَ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَحْتَاطُونَ فِي إِظْهَارِ الْوَلَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَوْا مِنْهُمْ قُوَّةً، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمْ ضَعْفُهُمُ انْقَلَبُوا عَلَيْهِمْ وَأَظْهَرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنْ يُعَدُّوا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَيُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَادِّينَ لَهُمْ جَهْرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنْ يُعَامِلُوا كَمَا
يُعَامِلُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْعَدَاوَةِ - وَعِبَارَتُهُ مِمَّنْ لَا يُنَافِقُ - فَأَنْكَرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالَ:
وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَيْ: كَيْفَ تَتَفَرَّقُونَ فِي شَأْنِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْكَسَهُمْ وَصَرَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِمَا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ نَظَرَ إِنْصَافٍ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ نَظَرَ الْأَعْدَاءِ الْمُبْطِلِينَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ، انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ الدَّرْسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ هُنَا شَيْءٌ آخَرُ.
أَقُولُ: الرَّكْسُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - مَصْدَرُ رَكَسَ الشَّيْءَ يُرْكُسُهُ - بِوَزْنِ نَصَرَ - إِذَا قَلَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ رَدَّ آخِرَهُ عَلَى أَوَّلِهِ، يُقَالُ: رَكَسَهُ وَأَرْكَسَهُ فَارْتَكَسَ، قَالَ فِي اللِّسَانِ بَعْدَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ، وَقَالَ شَمِرٌ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْمَنْكُوسُ وَالْمَرْكُوسُ الْمُدْبِرُ عَنْ حَالِهِ، وَالرَّكْسُ رَدُّ الشَّيْءِ مَقْلُوبًا اهـ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الرِّكْسِ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَهُوَ كَمَا فِي اللِّسَانِ شَبِيهٌ بِالرَّجِيعِ، وَأُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الرَّوَثِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّكْسَ وَالْإِرْكَاسَ شَرُّ ضُرُوبِ التَّحَوُّلِ وَالِارْتِدَادِ، وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الشَّيْءُ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ إِنْ كَانَ لَهُ رَأْسٌ، أَوْ مَقْلُوبًا مُتَحَوِّلًا عَنْ حَالَةٍ إِلَى أَرْدَأَ مِنْهَا كَتَحَوُّلِ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ إِلَى الرَّجِيعِ وَالرَّوَثِ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَحَوُّلُهُمْ إِلَى الْغَدْرِ وَالْقِتَالِ أَوْ إِلَى الشِّرْكِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي التَّحَوُّلِ وَالِانْقِلَابِ الْمَعْنَوِيِّ أَيْ: مِنْ إِظْهَارِ الْوَلَاءِ وَالتَّحَيُّزِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى إِظْهَارِ التَّحَيُّزِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ
262
شَرُّ التَّحَوُّلِ وَالِارْتِدَادِ الْمَعْنَوِيِّ، كَأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ نُكِّسَ عَلَى رَأْسِهِ وَصَارَ يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٦٧: ٢٢)، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فِي ظُهُورِ ضَلَالَتِهِ فِي أَقْبَحِ مَظَاهِرِهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجُوَ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرَ الْحَقِّ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَا أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ إِخْوَانِهِمْ فِي شَأْنِهِ.
وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ - تَعَالَى - فِعْلَ هَذَا الْإِرْكَاسِ إِلَيْهِ وَقَرَنَهُ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ كَسْبُ أُولَئِكَ الْمُرْكَسِينَ لِلسَّيِّئَاتِ وَالدَّنَايَا مِنْ قَبْلُ حَتَّى فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَأَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَتُهُمْ فَأَوْغَلُوا فِي الضَّلَالِ وَبَعُدُوا عَنِ الْحَقِّ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِمْ وَلَا يَجُولُ فِي أَذْهَانِهِمْ إِلَّا الثَّبَاتُ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ وَمُقَاوَمَةُ مَا عَدَاهُ، مُقَاوَمَةً ظَاهِرَةً عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَخَفِيَّةً عِنْدَ الْعَجْزِ، هَذَا هُوَ أَثَرُ كَسْبِهِمْ لِلسَّيِّئَاتِ فِي نُفُوسِهِمْ وَهُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَا كَانَ سَبَبًا إِلَّا بِسُنَّتِهِ فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي نُفُوسِ
الْعَامِلِينَ، أَوْ مَعْنَى أَرْكَسَهُمْ أَظْهَرَ رَكْسَهُمْ بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكُمْ أَنْ تُغَيِّرُوا سُنَنَ اللهِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، فَتَنَالُوا مِنْهَا ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ مَا انْطَبَعَ فِيهَا مَنْ تَقْضِي سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ بِأَنْ يَكُونَ ضَالًّا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، يَصِلُ بِسُلُوكِهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ لِلْحَقِّ سَبِيلًا وَاحِدَةً وَهِيَ صِرَاطُ الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمُ، وَلِلْبَاطِلِ سُبُلًا كَثِيرَةً عَنْ يَمِينِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَشِمَالِهَا، كُلُّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلًا مِنْهَا بَعُدَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِقِدْرِ إِيغَالِهِ فِي السَّبِيلِ الَّتِي سَلَكَهَا وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (٦: ١٥٣)، وَلَمَّا تَلَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ وَضَحَّ مَعْنَاهَا بِالْخُطُوطِ الْحِسِّيَّةِ فَخَطَّ فِي الْأَرْضِ خَطًّا جَعَلَهُ مِثَالًا لِسَبِيلِ اللهِ، وَخَطَّ عَلَى جَانِبَيْهِ خُطُوطًا لِسُبُلِ الشَّيْطَانِ، وَمِنَ الْمَحْسُوسِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْتِيبِ الْأَقْيِسَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ أَنَّ غَايَةَ أَيُّ خَطٍّ مِنْ تِلْكَ الْخُطُوطِ لَا تَلْتَقِي بِغَايَةِ الْخَطِّ الْأَوَّلِ.
قُلْتُ: إِنَّ سَبِيلَ الْحَقِّ هِيَ صِرَاطُ الْفِطْرَةِ، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْإِنْسَانُ عَقْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَيَتَّبِعُ فِيهِ مَا يَظْهَرُ لَهُ بَعْدَ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ خَيْرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ الْعَاجِلَةُ وَالْآجِلَةُ وَكَمَالُهُ الْإِنْسَانِيُّ، عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْكَمَالِ، وَمِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَبْحَثَ الْإِنْسَانُ دَائِمًا وَيَطْلُبَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ شَيْءٌ كَالتَّقْلِيدِ وَالْغُرُورِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ وَأَنْفَعُ وَأَكْمَلُ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَيَكُونُونَ أَتْبَاعَ كُلِّ نَاعِقٍ، وَيَسْلُكُونَ مَا لَا يُحْصَى مِنَ السُّبُلِ وَإِنِ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمُ الِانْتِسَابَ إِلَى زَعِيمٍ وَاحِدٍ، وَشُبْهَتُهُمْ
263
عَلَى تَرْكِ صِرَاطِ الْفِطْرَةِ أَنَّ عُقُولَهُمْ قَاصِرَةٌ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَنْ بَلَّغَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقْدَرَ مِنْهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَبَيَانِهِ، وَالْحَقُّ الْوَاقِعُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الزُّعَمَاءُ وَلَا شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عِلْمِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ
مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنَ الثِّقَةِ بِزُعَمَاءِ عَصْرِهِمْ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ وَزُعَمَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ، وَمَنْ قَطَعَ عَلَى نَفْسِهِ طَرِيقَ النَّظَرِ، وَكَفَرَ نِعْمَةَ الْعَقْلِ، لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، فَإِنَّ " سَبِيلًا " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ سَبِيلَ اللهِ وَهِيَ اتِّبَاعُ الْفِطْرَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ كَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا طُولَ حَيَاتِهِ إِذْ لَا تَجِدُ لَهُ سَبِيلًا أُخْرَى يَسْلُكُهَا فَيَهْتَدِيَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ.
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً، أَيْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَرْجُونَ نَصْرَهُمْ لَكُمْ وَتَطْمَعُونَ فِي هِدَايَتِهِمْ لَيْسُوا مِنَ الْكُفَّارِ الْقَانِعِينَ بِكُفْرِهِمْ، الْغَافِلِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ هُمْ يَوَدُّونَ لَوْ تَكْفُرُونَ كَكُفْرِهِمْ وَتَكُونُونَ مِثْلَهُمْ سَوَاءً، وَيُقْضَى عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَزُولُ مِنَ الْأَرْضِ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ: فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَنْصَارًا لِيَنْصُرُوكُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَيَتَّحِدُوا بِكُمْ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ لَا يَدَعُ النَّبِيَّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عُرْضَةً لِلْخَطَرِ وَلَا يُهَاجِرُ إِلَيْهِمْ لِيَنْصُرَهُمْ إِلَّا لِلْعَجْزِ، فَتَرْكُ الْهِجْرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى نِفَاقِ أُولَئِكَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمْ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُقَدِّرُ هُنَا حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيُهَاجِرُوا، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ لَازِمَةً لِلْإِيمَانِ لُزُومًا بَيِّنًا مُطَّرِدًا ; فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى بِذِكْرِهَا عَنْ ذِكْرِهِ إِيجَازًا، وَمَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْمُهَاجَرَةَ هُنَا مِنْ بَابِ حَدِيثِ: وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ وَهُوَ بَعِيدٌ جَدًا، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُهَاجِرَ الْكَامِلَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَيَرُدُّ مَا قَالُوهُ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ تَوَلَّوْا، أَيْ: أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَهْجُرُونَ مَا نَهَى الله عَنْهُ يُقْتَلُونَ حَيْثُ وُجِدُوا، وَمَا سَمِعْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ أَحَدًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْإِيمَانِ بِذَنْبِهِ، بَلْ كَانَ يَهِمُّ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِقَتْلِ الْمُنَافِقِ فَيَمْنَعُهُ وَإِنْ ظَهَرَ الْمُقْتَضَى لِئَلَّا يُقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّعْلِيلُ فِي أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ يَنْصُرُونَ الْمُشْرِكِينَ
وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فِي الْوَلَاءِ فَالْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ أَظْهَرُ، فَقَدْ كَانُوا يُعَاهِدُونَ فَيَفِي لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَغْدُرُونَ، وَيَسْتَقِيمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِهِمْ وَهُمْ يَنْكُثُونَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِمُعَامَلَتِهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ إِلَّا بَعْدَ تَكْرَارِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَفَاءَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:
264
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (١٣: ٢٠)، وَأَكَّدَ حِفْظَ مِيثَاقِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ حَرَّمَ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ الَّذِينَ مَعَ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (٨: ٧٢)، وَقَدْ بَيَّنَ أَحْكَامَهُمْ وَأَحْكَامَ أَمْثَالِهِمْ مُفَصَّلَةً هُنَا وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي عِلَّةِ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ، وَهِيَ غَدْرُهُمْ وَتَصَدِّيهِمْ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَعَلَ هَذِهِ الْعِلَّةَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورَةِ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ; وَلِذَلِكَ عَقَّبَ نَهْيَهُ عَنِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ أَوْ نَصِيرٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ إِلَخْ، ذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، قَالَ - كَمَا نَقَلَ عَنْهُ - الرَّازِيُّ: لَمَّا أَوْجَبَ اللهُ الْهِجْرَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ اسْتَثْنَى مَنْ لَهُ عُذْرٌ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَصَدُوا الرَّسُولَ لِلْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي طَرِيقِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يَخَافُونَهُ، فَصَارُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ يَنْتَهِزُونَ الْفُرْصَةَ لِإِمْكَانِ الْهِجْرَةِ وَاسْتَثْنَى أَيْضًا مَنْ صَارُوا إِلَى الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ مَعَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَقَارِبُهُمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا فِيهِمْ أَوْلَادَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ ; فَيَخَافُونَ أَنْ يَفْتِكُوا بِهِمْ إِذَا هُمْ قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَبْعَدَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي هَذَا إِذْ لَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِنَفْيِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ لِلنَّبِيِّ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَا لِامْتِنَانِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّطْهُمْ عَلَيْهِمْ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - هُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ حَرْبًا لِلْمُؤْمِنِينَ يَقْتُلُونَ كُلَّ مُسْلِمٍ ظَفِرُوا بِهِ إِذَا لَمْ يَمْنَعُهُ أَحَدٌ، فَشَرَعَ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُعَامَلَتَهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ رَأْيَ الْأُسْتَاذِ فِي نِفَاقِهِمْ.
وَنَقُولُ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ فِي دَارِ الشِّرْكِ لَا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ سَوَاءٌ كَانَ نِفَاقُهُمْ بِدَعْوَى الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْوَلَاءِ وَالْعَهْدِ، وَقَدْ أَرْكَسَهُمُ اللهُ وَأَظْهَرَ نِفَاقَهُمْ
وَشَدَّةَ حِرْصِهِمْ عَلَى ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِينَ كَفَّارًا مَثْلَهُمْ، وَأَذِنَ بِقَتْلِهِمْ أَيْنَمَا وُجِدُوا ; لِأَنَّهُمْ يَغْدُرُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ، وَيَقْتُلُونَهُمْ إِذَا ظَفِرُوا بِهِمْ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِلُوا وَيَنْتَهُوا إِلَى قَوْمٍ مُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَدْخُلُوا فِي عَهْدِهِمْ وَيَرْضَوْا بِحُكْمِهِمْ، فَيُمْتَنَعُ قِتَالُهُمْ مِثْلُهُمْ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَجِيئُوا الْمُسْلِمِينَ مُسَالِمِينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ مَعَهُمْ، بَلْ يَكُونُونَ عَلَى الْحِيَادِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ، أَيْ: جَاءُوكُمْ قَدْ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَعَنْ قِتَالِ قَوْمِهِمْ فَلَا تَنْشَرِحُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا ظُهُورًا بَيِّنًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: إِنَّ نِفَاقَهُمْ كَانَ بِالْوَلَاءِ، فَهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ حِفْظًا لِلْعَهْدِ، وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ لِأَنَّهُمْ قَوْمُهُمْ، وَقَبُولُ عُذْرِ الْفَرِيقَيْنِ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ
265
الْبَقَرَةِ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (٢: ١٩٠)، فَيَا لِلَّهِ مَا أَعْدَلَ الْقُرْآنَ وَمَا أَكْرَمَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ.
وَلَمَّا كَانَ الْكَفُّ عَنْ هَؤُلَاءِ مِمَّا قَدْ يَثْقُلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي أَمْرِ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُحَالِفِينَ وَتَكْلِيفِهِمْ قِتَالَ كُلِّ أَحَدٍ يُقَاتِلُ مُحَالِفِيهِمْ، وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْأَهْلِ وَالْأَقْرَبِينَ، قَالَ تَعَالَى مُخَفِّفًا ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَمُؤَكِّدًا أَمْرَ مَنْعِ قِتَالِ الْمُسَالِمِينَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ، أَيْ: إِنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِكُمْ أَنْ كَفَّ عَنْكُمْ بَأْسَ هَاتَيْنِ الْفِئَتَيْنِ وَصَرَفَهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُسَلِّطَهُمْ عَلَيْكُمْ لَسَلَّطَهُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسُوقَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَيُلْهِمَهُمْ مِنَ الْآرَاءِ مَا يُرَجِّحُونَ بِهِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ بِتَوْفِيقِهِ وَنِظَامِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَسُنَنِهِ فِي الْأَفْرَادِ وَحَالِ الِاجْتِمَاعِ، جَعَلَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً:
١ - السَّلِيمُو الْفِطْرَةِ الْأَقْوِيَاءُ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ.
٢ - الْمُتَوَسِّطُونَ، هُمُ الَّذِينَ رَجَّحُوا مُسَالَمَةَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِمْ.
٣ - الْمُوغِلُونَ فِي الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ وَالرَّاسِخُونَ فِي التَّقْلِيدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَهُمُ الْمُحَارِبُونَ.
وَإِذَا كَانَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ الْمُسَالِمِينَ بِمَشِيئَتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِحُكْمِهِ وَسُنَنِهِ فَلَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا،
أَيْ: فَإِنِ اعْتَزَلَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَمُتُّونَ إِلَيْكُمْ بِإِحْدَى تَيْنِكَ الطَّرِيقَتَيْنِ فَلَمْ يُقَاتِلُونَكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيْ: أَعْطُوكُمْ زِمَامَ أَمْرِهِمْ فِي الْمُسَالَمَةِ، بِحَيْثُ وَثِقْتُمْ بِهَا وُثُوقَ الْمَرْءِ بِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ، فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ طَرِيقًا تَسْلُكُونَهَا إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ أَصْلَ شَرْعِهِ الَّذِي هَدَاكُمْ إِلَيْهِ أَلَّا تُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ يُقَاتِلُكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا إِلَّا عَلَى مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ مَظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدُّوا أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ لَا يُقْتَلُونَ إِذَا كَانُوا مُسَالِمِينَ لَا يُقَاتِلُونَ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ فَيُجْعَلُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ إِلَخْ، نَعَمْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَفِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، وَيُؤَيِّدُ الْحَدِيثَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قِتَالَهُمْ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ ; فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا مَنْ تَرَكُوا الدِّينَ بِالْمَرَّةِ كَطَيِّئٍ وَأَسَدٍ، وَقَاتَلُوا مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مِنْ تَمِيمٍ وَهَوَازِنَ ; لِأَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا صَارُوا إِلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ حَرْبًا لِكُلِّ أَحَدٍ لَمْ يُعَاهِدُوهُ عَلَى تَرْكِ
266
الْحَرْبِ، وَالَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ كَانُوا مُفَرِّقِينَ لِجَمَاعَةِ الْإِسْلَامِ نَاثِرِينَ لِنِظَامِهِمْ، وَالرَّجُلُ الْوَاحِدُ إِذَا مَنَعَ الزَّكَاةَ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا الْعُرَنِيُّونَ، فَفِيهِ أَنَّ قَتْلَ الْعُرَنِيِّينَ كَانَ لِمُخَادَعَتِهِمْ وَغَدْرِهِمْ وَقَتْلِهِمْ رَاعِيَ الْإِبِلِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَمْثِيلُهُمْ بِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَاهٍ جِدًّا لِأَنَّ الْعُرَنِيِّينَ لَا يَأْتِي فِيهِمُ التَّفْصِيلُ الَّذِي فِي الْآيَاتِ، وَلَكِنْ مَنْ هُمْ هَؤُلَاءِ؟
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيَّ حَدَّثَهُمْ قَالَ: " لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ قَالَ سُرَاقَةُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قَوْمِي مِنْ بَنِي مُدْلَجٍ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالُوا: مَهْ، فَقَالَ: دَعُوهُ، مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُوادِعَهُمُ فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِمُوا لَمْ تَخْشَ بِقُلُوبِ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِ خَالِدٍ فَقَالَ: " اذْهَبْ مَعَهُ فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ " فَصَالَحَهُمْ خَالِدٌ عَلَى أَلَّا يُعِينُوا
عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمُوا مَعَهُمْ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّاسِ كَانَ لَهُمْ مِثْلَ عَهْدِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: وَدُّوا حَتَّى بَلَغَ، إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ، فَكَأَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ كَانُوا مَعَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ، وَعَزَا الْأَلُوسِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إِلَى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِهِ، وَعَزَا السُّيُوطِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي اللُّبَابِ إِلَى ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَقَصَدَهُ نَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ فَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ وَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ قَوْمَهُ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ تَبَعًا لِلْكَشَّافِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَادَعَ وَقْتَ خُرُوجِهِ إِلَى مَكَّةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ عَلَى أَلَّا يَعْصِيَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى هِلَالٍ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فَلَهُ مِنَ الْجِوَارِ مِثْلُ مَا لِهِلَالٍ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَرُدُّ مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى صَحِيحَةُ السَّنَدِ وَضَعِيفَتُهُ، وَتُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي كَوْنِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ هُمُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْعَهْدِ وَالْوَلَاءِ.
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ هَؤُلَاءِ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَصَدُّوا إِلَى مُجَالَدَةِ أَهْلِهِ بِحَدِّ الْحُسَامِ، فَكَانُوا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ،
267
لَا يَهُمُّهُمْ إِلَّا سَلَامَةُ أَبْدَانِهِمْ، وَالْأَمْنُ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَحَارِبَيْنِ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مَعَهُمْ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ نَاسٌ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُسْلِمُونَ رِيَاءً فَيَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيَصْلُحُوا اهـ.
وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ فِتْنَةٍ أُرْكِسُوا فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يُوجَدُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَيُقَرَّبُ إِلَى الْعُودِ وَالْحَجَرِ وَإِلَى الْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ لَهُ: " قُلْ هَذَا رَبِّي " لِلْخُنْفُسَاءِ وَالْعَقْرَبِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ حَيٌّ كَانُوا بِتِهَامَةَ، قَالُوا: " يَا نَبِيَّ اللهِ، لَا نُقَاتِلُكَ وَلَا نُقَاتِلُ
قَوْمَنَا "، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْمَنُوا نَبِيَّ اللهِ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فَأَبَى اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا، يَقُولُ: كَمَا عَرَضَ لَهُمْ بَلَاءٌ هَلَكُوا فِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ وَكَانَ يَأْمَنُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، يَنْقُلُ الْحَدِيثَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ ذُكِرَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ.
وَنَزِيدُ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا، أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوا جَانِبَ الْمُسْلِمِينَ إِمَّا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا بِالْعَهْدِ عَلَى السِّلْمِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَفْتِنُهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَيْ: يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ أَوْ عَلَى مُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْإِرْكَاسُ فَيَرْتَكِسُونَ أَيْ: فَيَتَحَوَّلُونَ شَرَّ التَّحَوُّلِ مَعَهُمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ النِّفَاقِ وَالِارْتِكَاسِ مَرَّةً بَعْدَ الْمَرَّةِ، أَيْ فَهُمْ قَدْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي شَأْنِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، أَيْ فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بِتَرْكِكُمْ وَشَأْنِكُمْ وَالْتِزَامِهِمُ الْحِيَادَ، وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيْ زِمَامَ الْمُسَالِمَةِ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَثِقُونَ بِهَا حَتَّى كَأَنَّ زِمَامَهَا فِي أَيْدِيكُمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالصُّلْحِ، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَنِ الدَّسَائِسِ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ بِهِ غَدْرُهُمْ وَشَرُّهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، إِذْ ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأُولَئِكُمْ جَعَلَنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ: جَعَلَنَا لَكُمْ حُجَّةً وَاضِحَةً وَبُرْهَانًا ظَاهِرًا عَلَى قِتَالِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ السُّلْطَانَ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ الْحُجَّةُ، وَهَذَا يُقَابِلُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيمَنِ اعْتَزَلُوا وَأَلْقَوْا السَّلَمَ، فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، وَكُلٌّ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ تُؤَيَّدُ بِالْأُخْرَى فِي بَيَانِ كَوْنِ الْقِتَالِ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فِي كُلِّ حَالٍ.
قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا اعْتَزَلُوا قِتَالَنَا وَطَلَبُوا الصُّلْحَ مِنَّا وَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ قِتَالِنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ وَلَا قَتْلُهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ (٦٠: ٨)، وَقَوْلُهُ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (٢: ١٩٠)، فَخَصَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ بِمَنْ يُقَاتِلُنَا دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِمُقَابِلِ الْأَكْثَرِينَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ فِي الْآيَاتِ نَسْخًا، وَلَا يَظْهَرُ النَّسْخُ فِيهَا إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، فَمَا وَجْهُ الْحِرْصِ عَلَى هَذَا التَّكَلُّفِ؟ وَيَأْتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ أَنَّ " الْفَاءَ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَكُونُونَ سَوَاءً لِلْعَطْفِ لَا لِلْجَوَابِ، كَقَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٦٨: ٩)، وَقَوْلُهُ: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ وَالتَّقْدِيرُ أَوِ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، وَقُرِئَ فِي الشُّذُوذِ " حَصِرَةٌ صُدُورُهُمْ " وَعِنْدِي أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَةِ بِالْحَالِ لَا قِرَاءَةً.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ " إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ " بِصِلَةِ النَّسَبِ وَرَدَّهُ الْمُحَقِّقُونَ قَائِلِينَ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يَتَّصِلُ نَسَبُهُمْ بِنَسَبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْتَنِعْ قِتَالُهُمْ، بَلْ كَانَ أَشَدُّ الْقِتَالِ مِنْهُمْ وَعَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ قِتَالُ مَنِ اتَّصَلَ بِالْمُعَاهِدِينَ بِالنَّسَبِ؟ وَيُرِيدُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَغْلَقَهُ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ سَرَى سُمُّهُ حَتَّى إِلَى بَعْضِ مَنْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ فَجَعَلَهُ بُشْرَى لِمَنْ لَا بِشَارَةَ لَهُمْ فِيهِ.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.
269
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - أَحْكَامَ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ مُخَادَعَةً وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعِينُونَ أَهْلَهُ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِينَ يُعَاهِدُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السِّلْمِ وَيُحَالِفُونَهُمْ عَلَى الْوَلَاءِ وَالنَّصْرِ، ثُمَّ يَغْدُرُونَ وَيَكُونُونَ عَوْنًا لِأَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ قَتْلِ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُعَاهِدٍ وَذِمِّيٍّ وَمَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً فَقَالَ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا، بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ النَّفْيِ نَفْيٌ لِلشَّأْنِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا مِنْ خُلُقِهِ وَعَمِلِهِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ - وَهُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْحَاكِمُ عَلَى إِرَادَتِهِ الْمُصَرِّفَةُ لِعَمَلِهِ - هُوَ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ أَنْ يَجْتَرِحَهُ عَمْدًا، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ خَطَأً فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا خَطَأً، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ مَعْنَاهُ مَا ثَبَتَ وَلَا وُجِدَ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا خَطَأً، وَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، بِأَنْ ظَنَّهُ كَافِرًا مُحَارِبًا، وَالْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ - غَيْرُ الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ - مَنْ إِذَا لَمْ تَقْتُلْهُ قَتَلَكَ إِذَا قَدَرَ عَلَى قَتْلِكَ، أَوْ أَرَادَ رَمْيَ صَيْدٍ أَوْ غَرَضٍ فَأَصَابَ الْمُؤْمِنَ، أَوْ ضَرَبَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ عَادَةً كَالصَّفْعِ بِالْيَدِ أَوِ الضَّرْبِ بِالْعَصَا فَمَاتَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ قَتْلَهُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ: فَعَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ عَلَى عَدَمِ تَثَبُّتِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ عِتْقُ رَقَبَةِ نَسْمَةٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنَ الرِّقِّ ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْدَمَ نَفْسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ كَفَّارَتُهُ أَنْ يُوجِدَ نَفْسًا، وَالْعِتْقُ كَالْإِيجَادِ، كَمَا أَنَّ الرِّقَّ كَالْعَدَمِ، عُبِّرَ بِالرَّقَبَةِ عَنِ الذَّاتِ لِأَنَّ الرَّقِيقَ يَحْنِي رَقَبَتَهُ دَائِمًا لِمَوْلَاهُ، كُلَّمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ، أَوْ يَكُونُ مُسَخَّرًا لَهُ كَالثَّوْرِ الَّذِي يُوضَعُ النِّيرُ عَلَى رَقَبَتِهِ لِأَجْلِ الْحَرْثِ، وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْأَشَلِّ وَلَا الْمُقْعَدِ ; لِأَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ مُسَخَّرَيْنِ ذَلِكَ التَّسْخِيرَ الشَّدِيدَ فِي الْخِدْمَةِ الَّذِي يُحِبُّ الشَّارِعُ إِبْطَالَهُ وَتَكْرِيمَ الْبَشَرِ بِتَرْكِهِ، وَمَثْلَهُمَا الْأَعْمَى وَالْمَجْنُونُ الَّذِي
قَلَّمَا يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ وَقَلَّمَا يَشْعُرُ بِذُلِّ الرِّقِّ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْأَعْرَجِ الشَّدِيدِ الْعَرَجِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ كَالْأَعْوَرِ وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَالْحُرُّ الْعَتِيقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَرِيمُ الطِّبَاعِ، وَيَقُولُونَ: الْكَرَمُ فِي الْأَحْرَارِ وَاللُّؤْمُ فِي الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ لُؤَمَاءَ لِأَنَّهُمْ يُسَاسُونَ بِالظُّلْمِ، وَيُسَامُونَ الذُّلَّ، وَالتَّحْرِيرُ جَعْلُ الْعَبْدِ حُرًّا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ مَعْنَى الْمُؤْمِنَةِ هُنَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَفُقَهَائِهِمْ أَنَّهَا الَّتِي صَلَّتْ وَعَقَلَتِ الْإِيمَانَ، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي الْكَافِرِ الَّذِي يُسْلِمُ دُونَ مَنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ يَجُوزُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا هُوَ التَّعْرِيفُ الْمُنَاسِبُ لِزَمَنِهِمُ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْأَرِقَّاءُ النَّاشِئُونَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ
270
مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ يُعَذِّبُ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ مَعَ أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ خَرَجَ الْحَارِثُ مُهَاجِرًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيَهُ عِيَاشٌ بِالْحَرَّةِ فَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَقَرَأَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ لَهُ: " قُمْ فَحَرِّرْ " رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ قَتَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي سَرِيَّةٍ حَمَلَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَضَرَبَهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، أَيْ وَعَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ مَعَ عِتْقِ الرَّقَبَةِ دِيَةٌ يَدْفَعُهَا إِلَى أَهْلِ الْمَقْتُولِ، فَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللهِ، وَالدِّيَةُ مَا يُعْطَى إِلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عِوَضًا عَنْ دَمِهِ أَوْ عَنْ حَقِّهِمْ فِيهِ، وَهِيَ مَصْدَرُ وَدَى الْقَتِيلَ يَدِيَهُ وَدْيًا وَدِيَةً - كَعِدَةٍ وَزِنَةٍ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَزْنِ - وَيُعَرِّفُهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا الْمَالُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهَا، وَقَدْ أَطْلَقَ الْكِتَابُ الدِّيَةَ وَذَكَرَهَا نَكِرَةً فَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُجْزِئُ مِنْهَا مَا يُرْضِي أَهْلَ الْمَقْتُولِ وَهُمْ وَرَثَتُهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ ذَلِكَ وَحَدَّدَتْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا مَقْبُولًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الذَّكَرِ الْمَعْصُومِ - أَيِ الْمَعْصُومِ دَمُهُ بِعَدَمِ مَا يُوجِبُ إِهْدَارَهُ - مِائَةُ بَعِيرٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي السِّنِّ وَتَفْصِيلُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ
الْعُدُولُ عَنِ الْإِبِلِ إِلَى قِيمَتِهَا، وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْوَاعِهَا فِي السِّنِّ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الدَّافِعِ وَالْمُسْتَحِقِّ، وَإِذَا فُقِدَتْ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا، وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ - وَمَثْلُهَا الْخُنْثَى - نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تَفُوتُ أَهْلَ الرَّجُلِ بِفَقْدِهِ أَكْبَرُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي تَفُوتُ بِفَقْدِ الْأُنْثَى فَقُدِّرَتْ بِحَسَبِ الْإِرْثِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: " أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ - إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قَوَدِ الْأَعْضَاءِ - وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْإِبِلِ عَلَى أَهْلِهَا الَّتِي هِيَ رَأْسُ مَالِهِمْ، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ الدِّيَةَ مِنَ الذَّهَبِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالنَّقْدِ كَأَهْلِ الْمُدُنِ تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا قِيمَةَ لِلْإِبِلِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِبَحْثِ الدِّيَةِ فِي دِيَةِ الْكَافِرِ، وَالْحَدِيثُ رُوِيَ مُرْسَلًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَمَوْصُولًا عِنْدَ غَيْرِهِمَا، وَاخْتَلَفَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ، وَالِاعْتِبَاطُ: الْقَتْلُ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، مَنِ اعْتَبَطَ النَّاقَةَ إِذَا ذَبَحَهَا لِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَالْقَوَدُ - بِالتَّحْرِيكِ - الْقِصَاصُ ; أَيْ: يُقْتَلُ بِهِ إِلَّا إِذَا عَفَا عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، مَعْنَاهُ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ لِأَهْلِ الْمَقْتُولِ، أَلَّا أَنْ يَعْفُوا عَنْهَا وَيُسْقِطُوهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فَلَا تَجِبُ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا فُرِضَتْ لَهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَتَعْوِيضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِقَتْلِ صَاحِبِهِمْ وَإِرْضَاءً لِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْقَاتِلِ حَتَّى لَا تَقَعَ
271
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا طَابَتْ نُفُوسُهُمْ بِالْعَفْوِ عَنْهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَانْتَفَى الْمَحْذُورُ ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ أَصْحَابَ فَضْلٍ، وَيَرَى الْقَاتِلُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ لَا يَثْقُلُ عَلَى النَّفْسِ حَمْلُهُ، كَمَا يَثْقُلُ عَلَيْهَا حَمْلُ مِنَّةِ الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّصَدُّقِ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٌّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، أَيْ فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَعْدَائِكُمْ
وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ مُؤْمِنٌ كَالْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَعْدَاءٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ يُحَارِبُونَهُمْ، وَقَدْ آمَنَ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُسْلِمُونَ بِإِيمَانِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ عَيَّاشٌ فِي حَالِ خُرُوجِهِ مُهَاجِرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَمَثْلُهُ كُلُّ مَنْ آمَنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُسْلِمُونَ بِإِيمَانِهِ إِذَا قُتِلَ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَقَطْ، وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ مُحَارِبُونَ، فَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ دِيَتَهُ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ الْكِتَابُ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَهُمُ الْمُعَاهِدُونَ لَكُمْ عَلَى السِّلْمِ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تُقَاتِلُونَهُمْ، كَمَا عَلَيْهِ الدُّوَلُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، كُلُّهُمْ مُعَاهِدُونَ قَدْ أَعْطَى كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِينَ مِيثَاقًا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَحُقُوقِ الدُّوَلِ وَمَثْلُهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِعُمُومِ الْمِيثَاقِ أَوْ بِقِيَاسِ الْأُولَى فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ فَالْوَاجِبُ فِي قَتْلِ الْمُعَاهِدِ وَالذِّمِّيِّ هُوَ كَالْوَاجِبِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ: دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ تَكُونُ عِوَضًا فِي حَقِّهِمْ، وَعِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كَفَّارَةٌ عَنْ حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي حَرَّمَ قَتْلَ الذِّمِّيِّينَ وَالْمُعَاهِدِينَ، كَمَا حَرَّمَ قَتْلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ نَكَّرَ الدِّيَةَ هُنَا كَمَا نَكَّرَهَا هُنَاكَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ كُلَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّرَاضِي، وَأَنَّ لِلْعُرْفِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا ذُكِرَ فِي عَقْدِ الْمِيثَاقِ أَنَّ مَنْ قُتِلَ تَكُونُ دِيَتُهُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ أَجْدَرُ بِالتَّرَاضِي وَأَقْطَعُ لِعِرْقِ النِّزَاعِ، وَسَيَأْتِي مَا وَرَدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَرْفُوعَةِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ قَدَّمَ هُنَا ذِكْرَ الدِّيَةِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْكَفَّارَةِ، وَعَكَسَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ حَقَّ اللهِ - تَعَالَى - فِي مُعَامَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ مُقَدَّمٌ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى هُنَالِكَ فِي أَمْرِ الدِّيَةِ فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الْعَفْوَ وَالسَّمَاحَ، وَاللهُ يُرَغِّبُهُمْ فِيمَا يَلِيقُ بِكَرَامَتِهِمْ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ هُنَا ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُعَاهِدِينَ الْمُشَاحَّةَ وَالتَّشْدِيدَ فِي حُقُوقِهِمْ، وَلَيْسُوا مُذْعِنِينَ لِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ فَيُرَغِّبُهُمْ كِتَابُهُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ وَثَمَّ نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ
فِي سَمَاحِ الْمُعَاهِدِ لِلْمُؤْمِنِ بِالدِّيَةِ مِنَّةً عَلَيْهِ، وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ الَّذِي وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِزَّةِ لَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابُ هَذِهِ الْمِنَّةِ، وَمِنْ مَحَاسِنِ نَظْمِ الْكَلَامِ
272
وَتَأْلِيفِهِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمَعْطُوفَ الَّذِي لَهُ مُتَعَلِّقٌ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، وَمَا مُتَعَلِّقَاتُهُ أَكْثَرُ عَلَى مَا مُتَعَلِّقَاتُهُ أَقَلُّ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَفْظِيَّةٌ لِتَأْخِيرِ ذِكْرِ الدِّيَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ إِذْ تَعَلَّقَ بِهَا الْوَصْفُ وَهُوَ قَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.
ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هُنَا فِي الدِّيَةِ " مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ "، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُكَلَّفُ أَنْ يُوَصِّلَ الْهَدِيَّةَ إِلَى أَهْلِ الْمَقْتُولِ أَلْبَتَّةَ وَهُمْ فِي غَيْرِ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ ; إِذْ رُبَّمَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا حَقٌّ لَهُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا لِطَلَبِهِ وَأَخْذِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ أَنْ تُعْطَى إِلَى رُؤَسَاءِ قَوْمِ الْمَقْتُولِ وَحُكَّامِهِمُ الَّذِينَ يَتَوَلُّونَ عَقْدَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، أَوْ إِلَى مَنْ يُنِيبُونَهُ عَنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَوَسَّعَ اللهُ فِي ذَلِكَ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ وَالْقُيُودِ وَنُكَتِهَا وَلَمْ أَرَ مِنْ بَيْنِهَا.
هَذَا هُوَ الَّذِي تُعْطِيهِ الْآيَةُ فِي دِيَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ - إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا - وَنَاهِيكَ بِهِ عَدْلًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ وَعَمَلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِيهِ، فَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَفِي لَفْظٍ: " قَضَى أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ "، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الدِّيَةُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِبِلُ تُعْقَلُ فِي فِنَاءِ دَارِ أَهْلِ الْمَقْتُولِ، وَلَفْظُ الْكَافِرِ فِي الْحَدِيثِ عَامٌ يَشْمَلُ الْكِتَابِيَّ وَغَيْرَهُ، وَرِوَايَةُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لَا تَصْلُحُ لِتَخْصِيصِهِ وَلَا لِتَقْيِيدِهِ فَإِنَّهَا صَادِقَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ وَثَمَانِيَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ.
قَالَ: وَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ، قَالَ: فَفَرَضَهَا عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ - الْفِضَّةِ - اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا - أَيْ مِنَ الدَّرَاهِمِ - وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرَةِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ
الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، قَالَ: وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنَ الدِّيَةِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: " كَانَ عُمَرُ يَجْعَلُ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَالْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةٍ "، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ، وَالْمُرَادُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالْأَرْبَعَةُ الْآلَافٍ هِيَ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثُلْثُهَا بِحَسَبِ تَعْدِيلِ عُمَرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ ثُلْثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثُلْثَا عَشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَاحْتَجُّوا
273
بِأَثَرِ عُمَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَمُعَارِضٌ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا وَجَدْنَا لَهُ مَخْرَجًا إِلَّا فَهْمَ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ حَتْمًا، وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الدِّيَةِ اجْتِهَادِيٌّ وَمَدَارَهُ عَلَى التَّرَاضِي كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي بَيَانِ ظَاهِرِ عِبَارَة الْآيَة.
وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ دِيَتَهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ إِنْ قُتِلَ عَمْدًا، وَإِلَّا فَنَصْفُ دِيَّتِهِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْمُسَاوَاةِ بِظَاهِرِ إِطْلَاقِ الْآيَةِ فِي أَهْلِ الْمِيثَاقِ، وَهُمُ الْمُعَاهِدُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، وَنُوزِعُوا فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ، وَبِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ غَرِيبٌ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلُهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمَرِيُّ، وَكَانَ لَهُمَا عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشْعُرْ بِهِ عَمْرٌو - بِدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ "، وَثَمَّ رِوَايَاتٌ أُخْرَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَفِيِ زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ أَعْطَى أَهْلَ الْمَقْتُولِ النِّصْفَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالنِّصْفِ وَأَلْغَى مَا كَانَ جَعَلَ مُعَاوِيَةُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو سَعِيدٍ الْبَقَّالُ وَهُوَ سَعِيدٌ الْمَرْزُبَانُ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلٌ وَمَرَاسِيلُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا ; لِأَنَّهُ - لِسِعَةِ حِفْظِهِ - لَا يُرْسِلُ إِلَّا لِعِلَّةٍ، عَلَى أَنَّ هَذَا فِي الْمُعَاهِدِ، وَحَقُّ الذِّمِّيِّ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُعَاهِدِ لِخُضُوعِهِ لِأَحْكَامِنَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْقَوْلِيَّةَ وَالْعَمَلِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ أَمْرَ الدِّيَةِ مَنُوطٌ بِالْعُرْفِ وَبِالتَّرَاضِي، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِي الْعَمَلِ كَانَ لِأَجْلِ هَذَا.
هَذَا، وَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَكِنْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَاقِلَةَ هُمُ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الدِّيَةَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَتْ إِبِلًا أَوْ نَقْدًا، وَهُمْ عُصْبَتُهُ وَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ - وَتُسَمَّى الْعَاقِلَةُ - الْآنَ - الْعَائِلَةَ بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْعَامَّةِ - وَإِنَّمَا جَعَلَتِ السُّنَّةُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا عَلَى الْقَاتِلِ ; لِأَنَّ الْخَطَأَ قَدْ يَتَكَرَّرُ فَيَذْهَبُ بِمَالِ الرَّجُلِ كُلِّهِ وَلِأَجْلِ تَقْرِيرِ التَّضَامُنِ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ، وَإِذَا عَجَزَتِ الْعَاقِلَةُ مِنْ عُصْبَةِ النَّسَبِ ثُمَّ السَّبَبِ عَنْ دَفْعِهَا جُعِلَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، الرَّقَبَةَ الَّتِي يَعْتِقُهَا كَأَنِ انْقَطَعَ الرَّقِيقُ كَمَا هُوَ مَقْصِدُ الْإِسْلَامِ، - وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشْعِرُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ - أَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَالَ الَّذِي يَشْتَرِيهَا بِهِ مِنْ مَالِكِهَا لِيُحَرِّرَهَا مِنْ رِقِّهِ - وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَيْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ قَمَرِيَّيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِهِمَا إِفْطَارٌ فِي النَّهَارِ، فَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ اسْتَأْنَفَ وَكَانَ مَا صَامَهُ قَبْلَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ إِطْعَامُ مِسْكِينًا كَمَا فَرَضَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقِيسُ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ
274
عَلَى تِلْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقِيسُ كَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ هَذَا فُرِضَ قَبْلَ ذَاكَ، فَلَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ أَحَدٍ مِمَّنْ نَزَلَ فِي عَهْدِهِمْ أَنَّ لِلصِّيَامِ بَدَلًا عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهُ وَهُوَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ.
تَوْبَةً مِنَ اللهِ، أَيْ شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مَا ذَكَرَ تَوْبَةً مِنْهُ عَلَيْكُمْ فَهُوَ يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِتَتُوبُوا وَتَطْهُرَ نُفُوسُكُمْ مِنَ التَّهَاوُنِ وَقِلَّةِ التَّحَرِّي الَّتِي تَفْضِي إِلَى قَتْلِ الْخَطَأِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا أَيْ: عَلِيمًا بِأَحْوَالِ نُفُوسِكُمْ وَمَا يُصْلِحُهَا مِنَ التَّأْدِيبِ، حَكِيمًا فِيمَا يَشْرَعُهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَيَهْدِيكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ، فَإِذَا أَطَعْتُمُوهُ فِيهِ صَلُحَتْ نُفُوسُكُمْ وَتَزَكَّتْ وَصَارَتْ أَهْلًا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
بَعْدَ هَذَا أَذْكُرُ مَا عِنْدِي فِي الْآيَةِ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِرُوحِ الْهِدَايَةِ
فِيهَا لَا لِأَحْكَامِهَا وَمَدْلُولُ أَلْفَاظِهَا، فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْ هَذَا بِشَرْحِ مَا قَالَهُ الْجَلَالُ فِيهِ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَا مِثَالُهُ:
هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ وَرَدَ مَا وَرَدَ فِي الْمُذَبْذَبِينَ الَّذِينَ أَذِنَ اللهُ بِقَتْلِهِمْ، إِلَّا مَنِ اسْتُثْنَى لِلتَّنَاسُبِ، وَتَتْمِيمِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ، فَذَكَرَ هُنَا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَلَّا يَقْتُلَ مُؤْمِنًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ مَانِعٌ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِيمَانُهُ وَيَكْمُلُ إِذَا كَانَ يَشْعُرُ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ، وَهِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ وَحُقُوقٌ لِلْعِبَادِ، وَمِنْ حُدُودِ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً لِمَا فِيهِ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ الْقَتْلِ، فَالْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ يَشْعُرُ بِهَذَا الْحَقِّ وَهَذِهِ الْحَيَاةِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَخَلَّ بِحُقُوقِ الدِّمَاءِ فَقَدِ اسْتَهْزَأَ بِحَيَاةِ الْأُمَّةِ، وَمَنِ اسْتَهْزَأَ بِحَيَاةِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَحْتَرِمْ أَكْبَرَ حُقُوقِهَا، وَلَمْ يُبَالِ بِمَا يَقَعُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْخَطَرِ فَأَمْرُهُ مَعْلُومٌ، فَإِنَّهُ بِاعْتِدَائِهِ عَلَى مُؤْمِنٍ قَدْ هَدَمَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَحِزْبِهِ، وَذَلِكَ آيَةُ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَقِوَامِهِ، وَالْمُؤْمِنُ غَيُورٌ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (٥: ٣٢).
ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْخَطَأِ فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ كَأَمْرِ الْقَتْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَطَأَ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنَ التَّهَاوُنِ وَعَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالِاحْتِيَاطِ، وَمِثْلُ الْخَطَأِ فِي هَذَا الْأَمْرِ النِّسْيَانُ، وَلَوْلَا أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يُعَاقِبَ اللهُ عَلَيْهِمَا لِمَا أَمَرَنَا - تَعَالَى - بِالدُّعَاءِ بِأَلَّا يُؤَاخِذَنَا عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا (٢: ٢٨٦)، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ رَفَعَ عَنَّا الْمُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ آدَمَ نَسِيَ وَمَعَ ذَلِكَ سُمِّيَتْ مُخَالَفَتُهُ مَعْصِيَةً وَعُوقِبَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
275
وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْقُولٌ وَلَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّ عِقَابَ قَتْلِ الْخَطَأِ لَيْسَ هُوَ عِقَابُ قَتْلِ الْعَمْدِ، وَهُوَ " النَّفْسُ بِالنَّفْسِ "، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا نَفْعَلُهُ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ إِذَا نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فَيُرْجَى أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ دُعَاءَنَا.
أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَرَدَ هَكَذَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ، وَلَا يُعْرَفُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِلَفْظِ: وَضَعَ
اللهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثًا: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْأَمْرُ يُكْرَهُونَ عَلَيْهِ وَقَدْ وَثَّقُوا رُوَاتَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - حُكْمَ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ تَعَمُّدًا بِمَا يُوَافِقُ مَفْهُومَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ مُؤْمِنٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ كَفَّارَةً بَلْ جَعَلَ عِقَابَهُ أَشَدَّ عِقَابٍ تَوَعَّدَ بِهِ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَمِنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمَّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا فَرْعٌ عَنْ كَوْنِ الْقَتْلِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْإِيمَانَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي عِقَابِ الْقَتْلِ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (٤: ٤٨)، نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُخَصَّصَةٌ لَهُ وَقَدْ قُلْنَا مِنْ قَبْلُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِمَنْ يَشَاءُ، فِيهِ مَعَ تَغْلِيظِ أَمْرِ الشِّرْكِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَلَوْ شَاءَ أَنْ يُخَصِّصَ أَحَدًا بِالْمَغْفِرَةِ فَلَا مَرَدَّ لِمَشِيئَتِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ مَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمَّدًا، فَآيَةُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، نَزَلَتْ تَرْغِيبًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ آذَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِيمَانِ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (٨: ٣٨)، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَقَالُوا: إِنَّ آيَةَ الْفَرْقَانِ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَالتَّوْبَةُ فِيهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعِدَّةِ أَعْمَالٍ مِنْهَا الْقَتْلُ وَمِنْهَا الشِّرْكُ، أَقُولُ: وَيَعْنِي بِآيَةِ الْفَرْقَانِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ (٢٥: ٧٠)، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ، وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِيهِ.
(قَالَ) : وَقَدْ يُقَالُ: كَيْفَ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الْمُشْرِكِ الْقَاتِلِ الزَّانِي، وَلَا تُقْبَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي ارْتَكَبَ الْقَتْلَ وَحْدَهُ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ - مِنَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ - بِأَنَّ الْمُشْرِكَ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِالشَّرِيعَةِ الَّتِي تُحَرِّمُ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهُ شِبْهُ عُذْرٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِالْكُفْرِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَلَمْ يَكُنْ ظَهَرَ لَهُ صِدْقُ النُّبُوَّةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ تَابَ وَأَنَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
الصَّالِحَاتِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْعَفْوِ وَإِنْ كَانَ فِي إِجْرَامِهِ السَّابِقِ مُقَصِّرًا فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُوقِنُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَتَحْرِيمِ اللهِ لِلْقَتْلِ
276
وَجَعْلِهِ قَاتِلَ النَّفْسِ الْبَرِيئَةِ كَقَاتِلِ النَّاسِ جَمِيعًا فَلَا عُذْرَ لَهُ، بَلْ لَا يَعْقِلُ أَنْ يُرَجِّحَ هَوَاهُ عَلَى إِيمَانِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَى إِيمَانِهِ مِنَ الشَّكِّ الِاضْطِرَارِيِّ مَا يَكُونُ لَهُ شِبْهُ عُذْرٍ، أَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ الْقَاتِلِ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَلَمْ يُؤَمِنْ لَمْ يُعْرِضْ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَّا لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ يُعَاقَبُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي النَّظَرِ وَتَصْحِيحِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى يَخْلُدَ فِي النَّارِ، وَإِذَا أَحْسَنَ النَّظَرَ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَآمَنَ وَاهْتَدَى يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَمَلًا مُرَتَّبًا عَلَى الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ نَفْسُهُ كَانَ خَطَأً مِنْهُ فَأَشْبَهَ قَتَلَهُ قَتْلَ الْخَطَأِ، وَمَثْلَهُ مَنْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِهِ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ فِيهِ، فَمَعْصِيَتُهُ لَمْ تَكُنْ تَهَاوُنًا بِأَمْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَا اسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ وَلَا دَلِيلًا عَلَى إِيثَارِهِ لِهَوَاهُ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ.
أَمَّا الْقَاتِلُ الْمُؤْمِنُ فَأَمْرُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِيمَانُ يَقِينٍ وَإِذْعَانٍ لِمَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الدِّمَاءِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَخٌ لَهُ وَنَصِيرٌ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ، فَكَيْفَ يَعْمَدُ بَعْدَ هَذَا إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِأَمْرِ اللهِ وَحُكْمِهِ، وَحَلِّ مَا عَقَدَهُ، وَتَوْهِينِ أَمْرِ دِينِهِ بِهَدْمِ أَرْكَانِ قُوَّتِهِ، وَتَجْرِئَةِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يَهِنَ الْمُسْلِمُونَ وَيَضْعُفُوا وَيَكُونَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا؟ لَا جَرَمَ أَنَّ عِقَابَهُ يَكُونُ شَدِيدًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.
وَمِنْ نَظَرَ إِلَى انْحِلَالِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بَعْدَمَا أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ عَلَى سَفْكِ دَمِ بَعْضٍ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ يَظْهَرُ لَهُ وَجْهُ هَذَا، وَأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُعْذَرُ بِهَذِهِ الْجُرْأَةِ عَلَى هَذِهِ الْجَرِيمَةِ وَهُوَ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي أَمْرِ اللهِ، إِذْ لَا رَائِحَةَ لِلْعُذْرِ فِي عَمَلِهِ بَلْ هُوَ مُرَجِّحٌ لِلْغَضَبِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ وَشَهْوَةِ النَّفْسِ عَلَى أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمِنْ فَضَّلَ شَهْوَةَ نَفْسِهِ الْخَسِيسَةَ الضَّارَّةَ عَلَى نَظَرِ اللهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَدِينِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ مَا فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٣: ١٣٥)، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: يَعْلَمُونَ، وَلَوْ سَمَحَ اللهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدٌ شَهْوَتَهُ أَوْ حَمِيَّتَهُ وَغَضَبَهُ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَوَعَدَهُ بِالْمَغْفِرَةِ لَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلدِّينِ
وَلَا لِلشَّرْعِ حُرْمَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْقَاتِلَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ عِقَابِهِ، وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كَثِيرَةٌ تُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ.
هَذَا مَا عِنْدَنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مِنْ خَيْرِ مَا يُبَيَّنُ بِهِ وَجْهَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُشَدِّدُونَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ:
" هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْإِيعَادِ، وَالْإِبْرَاقِ وَالْإِرْعَادِ، أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَخَطْبٌ غَلِيظٌ، وَمِنْ ثَمَّ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ تَوْبَةَ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَعَنْ سُفْيَانَ: كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلُوا قَالُوا: لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى سُنَّةِ اللهِ
277
فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَإِلَّا فَكُلُّ ذَنْبٍ مَمْحُوٌّ بِالتَّوْبَةِ وَنَاهِيكَ بِمَحْوِ الشِّرْكِ دَلِيلًا، وَفِي الْحَدِيثِ لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ بِالْمَشْرِقِ وَآخَرُ رَضِيَ بِالْمَغْرِبِ لَأُشْرِكَ فِي دَمِهِ، وَفِيهِ إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بُنْيَانُ اللهِ، مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَهُ، وَفِيهِ مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.
وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَيَرَوْنَ مَا فِيهَا، وَيَسْمَعُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَقَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَنْعِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ لَا تَدْعُهُمْ أَشْعَبِيَّتُهُمْ وَطَمَاعِيَّتُهُمُ الْفَارِغَةُ وَاتِّبَاعُهُمْ هَوَاهُمْ وَمَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ مُنَاهُمْ، أَنْ يَطْمَعُوا فِي الْعَفْوِ عَنْ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٤٧: ٢٤)، اهـ.
أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَكْبَرَ الْجُمْهُورُ خُلُودَ الْقَاتِلِ فِي النَّارِ وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِطُولِ الْمُكْثِ فِيهَا، وَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ التَّأْوِيلِ لِخُلُودِ الْكُفَّارِ فَيُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ طُولُ الْمُكْثِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا جَزَاءَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إِنْ جَازَاهُ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَدْ يَعْفُو عَنْهُ فَلَا يُجَازِيهِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ جَزَاءٍ أَنْ يَقَعَ لِاسْتِحَالَةِ كَذِبِ الْوَعِيدِ كَالْوَعْدِ، وَأَنَّ الْعَفْوَ وَالتَّجَاوُزَ قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَسْبَابٍ يَعْلَمُهَا اللهُ - تَعَالَى -، فَلَيْسَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ تَفَصٍّ مِنْ خُلُودِ بَعْضِ الْقَائِلِينَ فِي النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِلْأَقَلِّينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الِاسْتِحْلَالِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ، مُسْتَحِلًّا لَهُ فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا إِلَخْ، وَفِيهِ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الْقَيْدُ، وَلَوْ أَرَادَهُ اللهُ - تَعَالَى - لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الْعَمْدِ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَالَ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مُتَعَلِّقًا بِهِ لَا بِالْقَتْلِ، وَالسِّيَاقُ يَأْبَى هَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ وَهَذَا أَضْعَفُ التَّأْوِيلَاتِ، لَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَقَطْ، بَلْ لِأَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَلَى مَجِيئِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ " مِنَ الشَّرْطَيَّةِ " جَاءَ بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَقُلْ: " وَمَنْ قَتَلَ "، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ هَذَا الْجَزَاءَ حَتْمٌ إِلَّا مَنْ تَابَ وَعَمِلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَفْوَ عَنْ هَذَا الْجَزَاءِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ اعْتِرَافٌ بِخُلُودِ غَيْرِ التَّائِبِ الْمَقْبُولِ التَّوْبَةِ فِي النَّارِ، وَلَعَلَّ أَظْهَرَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُكْثِ ; لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْخُلُودِ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ شَيْئًا يَدُومُ دَوَامًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكَوْنُ حَيَاةِ الْآخِرَةِ لَا نِهَايَةَ لَهَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَحْدَهُ بَلْ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى.
إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَقُولُ: إِنَّ قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا لَا تَوْبَةَ لَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ شَيْخِنَا وَعِبَارَةِ الْكَشَّافِ، وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ عَنْ
278
مُجَاهِدٍ وَهُوَ تِلْمِيذُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَتِهِ، مِنْهَا رِوَايَةُ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَنَادَاهُ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؟ فَقَالَ: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ فَإِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَقُولُ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا مِنْ قِبَلِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَلْزَمُ قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ " وَالَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللهِ بِيَدِهِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَمَا نَسَخَهَا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى حَتَّى قُبِضَ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا نَزَلْ بَعْدَهَا مِنْ بُرْهَانٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَمَا جَاءَ نَبِيٌّ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ وَلَا نَزَلْ كُتُبٌ بَعْدَ كِتَابِكُمْ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى أَمَرَهُ
أَنْ يَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي النِّسَاءِ وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالَّتِي فِي الْفُرْقَانِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، إِلَى وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٢٥: ٦٨، ٦٩)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ فِي الْإِسْلَامِ وَعَلِمَ شَرَائِعَهُ وَأَمْرَهُ ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَلَا تَوْبَةَ لَهُ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللهِ، أَيْ: أَشْرَكْنَا - وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَمَا يَنْفَعُنَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: فَنَزَلَتْ: إِلَّا مَنْ تَابَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْفَرْقَانِ بِسَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِثَمَانِي سِنِينَ وَهَذِهِ أَقْرَبُ، فَإِنَّ سُورَةَ الْفُرْقَانِ مَكِّيَّةٌ حَتْمًا، وَسُورَةَ النِّسَاءِ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَ أَكْثَرُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَمَا تَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً، وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُشْرِكِ مِنَ الشِّرْكِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ فَرْقٌ وَاضِحٌ مَعْقُولٌ مَنْ وَجْهٍ وَغَيْرُ مَعْقُولٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى قَاعِدَتِنَا فِي حِكْمَةِ اللهِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ، وَعَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا مِرَارًا كَثِيرَةً، وَهِيَ أَنَّ الْجَزَاءَ تَابِعٌ لِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ، وَالْعَمَلِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَوْ تَدْسِيَتِهَا.
نَعَمْ، إِنَّ إِقْدَامَ الْمَرْءِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةَ مَا عَظَّمَ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ، وَمَا شَدَّدَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى جَرِيمَةِ الْقَتْلِ، يَكَادُ يَكُونُ رِدَّةً عَنِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَوْلَى بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ
279
لَا يَزِنِّي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ التَّوْبَةِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ - فَإِنَّ الْقَتْلَ أَكْبَرُ إِثْمًا وَأَشَدُّ جُرْمًا مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِفَاعِلِهِ شُبْهَةُ عُذْرٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَحَكَمْنَا بِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ قَدْ صَارَتْ بِالْقَتْلِ شَرَّ النُّفُوسِ وَأَشَدَّهَا رِجْسًا، وَأَبْعَدَهَا عَنْ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي
الْآيَةِ مِنَ اللَّعْنَةِ، فَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّ صَلَاحَهَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُتَعَذِّرٌ وَلَا مُتَعَسِّرٌ.
أَمَّا شُبْهَةُ الْعُذْرِ أَوْ شَبَهُهُ فَقَدْ يَظْهَرُ فِيمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ حَدِيدَ الْمِزَاجِ، إِذَا رَأَى مِنْ خَصْمِهِ مَا يُثِيرُ غَضَبَهُ وَيُنْسِيهِ رَبَّهُ، فَقَدْ يَنْدَفِعُ إِلَى الْقَتْلِ لَا يَمْلِكُ فِيهِ نَفْسَهُ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْقَتْلَ لَا يُعَدُّ مِنَ الْعَمْدِ أَوِ التَّعَمُّدِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَمْدِ لِمَا فِي صِيغَةِ التَّفَعُّلِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التَّرَبُّصِ أَوِ التَّرَوِّي فِي الشَّيْءِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الضَّرْبَ بِمَا لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ إِذَا أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ لَا يُسَمَّى عَمْدًا بَلْ شِبْهَ عَمْدٍ كَالضَّرْبِ بِالْعَصَا، وَإِنَّمَا الْعَمْدُ مَا كَانَ بِمُحَدَّدٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَوْنِهِ بِقَتْلٍ كَبُنْدُقِ الرَّصَاصِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِآلَاتِهِ الْجَدِيدَةِ كَالْبُنْدُقِيَّةِ وَالْمُسَدَّسِ، وَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْقَتْلَ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلِقُ الرَّصَاصَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْإِرْهَابِ وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُصِيبَهُ فَيُصِيبُهُ بِدُونَ قَصْدٍ، وَلَفْظُ التَّعَمُّدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَعَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا آنِفًا.
وَأَمَّا كَوْنُ الْقَاتِلِ قَدْ تَصْلُحُ نَفْسُهُ وَتَتَزَكَّى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَهُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ وَوَاقِعٌ وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا وَرَدَ فِي التَّوْبَةِ، وَلَا نَعْرِفُ نَفْسًا غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلصَّلَاحِ، إِلَّا نَفْسَ مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَرَانَ عَلَى قَلْبِهِ مَا كَانَ يَكْسِبُ مِنَ الْأَوْزَارِ، بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّكْرَارِ، إِذْ يَأْلَفُ بِذَلِكَ الشَّرِّ وَيَأْنَسُ بِهِ حَتَّى لَا تَتَوَجَّهَ نَفْسُهُ إِلَى حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ بِكَرَاهَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَمَقْتِهِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ، لَا أَنَّهُ يَتُوبُ وَلَا يَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُ.
فَمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ جَرِيمَةُ الْقَتْلِ فَأَدْرَكَ عَقِبَهَا أَنَّهُ تَعَرَّضَ بِذَلِكَ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَاسْتَحَقَّ لَعْنَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَالطَّرْدَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَبَاءَ بِغَضَبِهِ، وَتَهَوَّكَ فِي عَذَابِهِ الْعَظِيمِ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ ذَنْبُهُ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، فَنَدِمَ أَشُدَّ النَّدَمِ فَأَنَابَ وَاسْتَغْفَرَ، وَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إِلَى هَذَا الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْأَوْزَارِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْمُكَفِّرَاتِ، وَوَاظَبَ عَلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ الْمَمَاتُ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَهُوَ وَلَا شَكَّ فِي مَحَلِّ الرَّجَاءِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يُخَلِّدَ مِثْلَهُ فِي النَّارِ.
نَعَمْ إِنَّ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَسْفِكُونَ دِمَاءَ مَنْ يُخَالِفُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَزُعَمَاءَ السِّيَاسَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مِنْ قَوَانِينِ جَمْعِيَّاتِهِمُ اغْتِيَالَ مَنْ يُعَارِضُهُمْ فِي سِيَاسَتِهِمْ، وَكُبَرَاءَ اللُّصُوصِ
الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَغَيْرَ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِمَالِهِ، كُلَّ أُولَئِكَ الْفُجَّارِ، الَّذِينَ يَقْتُلُونَ
280
مَعَ التَّعَمُّدِ وَسَبْقِ الْإِصْرَارِ، جَدِيرُونَ بِأَنْ يَنَالُوا الْجَزَاءَ الَّذِي تَوَعَّدَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَلَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ وَعَذَابِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ سِوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ; لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُعَدُّونَ فِي كُتُبِ تَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَدَفَاتِرِ الْإِحْصَاءِ وَسِجِلَّاتِ الْحُكُومَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَبِصِدْقِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ مِنْ وَعِيدِهِ عَلَى الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ، فَهُمْ لَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِي عَمَلٍ، وَلَا يَخَافُونَ عَذَابَهُ عَلَى ذَنْبٍ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَذْكُرُ التَّوْبَةَ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ، إِلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ عَوَامَّ اللُّصُوصِ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَعْقِلُونَ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا، وَمِنْهَا: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَكْذِبُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْنَا إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَتَوْا بِغَنَمِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ، الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِّيَّةً فِيهَا الْمِقْدَادُ فَلَمَّا أَتَوُا الْقَوْمَ وَجَدُوهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ غَدًا؟ وَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ وَمُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ فَمَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ فَسَلَّمَ
عَلَيْنَا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمٌ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ نَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ
281
الْمَقْتُولِ مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكَ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَاسْمُ الْقَاتِلِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَنَّ اسْمَ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ اللِّيثِيُّ، وَأَنَّ قَوْمَ مِرْدَاسٍ لَمَّا انْهَزَمُوا بَقِيَ هُوَ وَحْدَهُ وَكَانَ أَلْجَأَ غَنَمَهُ بِجَبَلٍ فَلَمَّا لَحِقُوهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ وَعَبْدٍ كَذَا - وَهُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ - مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مِرْدَاسٍ وَهُوَ شَاهِدٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ جُزْءِ ابْنِ الْحَدْرَجَانِ قَالَ: وَفَدَ أَخِي قَدَادٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيَتْهُ سَرِيَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَقَتَلُوهُ فَبَلَغَنِي ذَلِكَ فَخَرَجَتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلْتُ... فَأَعْطَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَةَ أَخِي، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
وَحَدِيثُ جُزْءٍ إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ ابْنُ جَرِيرٍ بِزِيَادَةِ تَفْصِيلٍ، وَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَهَا بَعْدَ وُقُوعِ تِلْكَ الْحَوَادِثِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى أَصْحَابِ كُلِّ وَقْعَةٍ فَيَرَوْنَ أَنَّهَا سَبَبُ نُزُولِهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْهُ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا، وَمِنْهَا أَنَّ الَّذِينَ يُلْقُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ السَّلَمَ وَيَعْتَزِلُونَ قِتَالَهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ، وَبَعْدَ هَذَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُنَبِّهَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ قَتْلِ الْخَطَأِ كَانَ يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ عِنْدَ السَّفَرِ إِلَى أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ قَدِ انْتَشَرَ وَلَمْ يَبْقَ مَكَانٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَقَبَائِلِهِمْ يَخْلُو مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِمَّنْ يَمِيلُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَتَرَبَّصُونَ الْفُرَصَ لِلِاتِّصَالِ بِأَهْلِهِ لِلدُّخُولِ فِيهِمْ، فَأَعْلَمَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَأَمْرَهُمْ أَلَّا يَحْسَبُوا
كُلَّ مَنْ يَجِدُونَهُ فِي دَارِ الْكُفْرِ كَافِرًا، وَأَنْ يَتَبَيَّنُوا فِيمَنْ تَظْهَرُ مِنْهُمْ عَلَامَاتُ الْإِسْلَامِ كَالشَّهَادَةِ أَوِ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَامَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِئْمَانِ، وَأَلَّا يَحْمِلُوا مِثْلَ هَذَا عَلَى الْمُخَادَعَةِ إِذْ رُبَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ قَدْ طَافَ عَلَى هَذِهِ الْقُلُوبِ وَأَلَمَّ بِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ تَمَكَّنَ فِيهَا، وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ قَتْلِ مَنْ أَلْقَى السَّلَامَ لِشُبْهَةِ التَّقِيَّةِ قَدْ مَضَى عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرَادَ بِإِنْزَالِهَا أَنْ يُعَدَّ مَا يَقَعُ مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِهَا مِنْ قَتْلِ الْعَمْدِ ; لِأَنَّهُ أَمَرَ فِيهَا بِالتَّثَبُّتِ وَنَهَى عَنِ إِنْكَارِ إِسْلَامِ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِإِلْقَاءِ تَحِيَّتِهٍ فَكَيْفَ بِمَنْ يَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقَوِّيَ الشُّبْهَةَ فِي نَفْسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ التَّقِيَّةِ وَهُوَ ابْتِغَاءُ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهَدَى
282
الْمُؤْمِنَ بِهَذَا إِلَى أَنْ يَتَّهِمَ نَفْسَهُ وَيُفَتِّشَ عَنْ قَلْبِهِ وَلَا يَبْنِيَ الظَّنَّ عَلَى مَيْلِهِ وَهَوَاهُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الظَّاهِرِ وَيَقْبَلَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُهُ اهـ.
أَقُولُ: وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّ إِلْقَاءَ السَّلَامِ قَدْ يَكُونُ إِلْقَاءً لِلسِّلْمِ وَإِيذَانًا بِعَدَمِ الْحَرْبِ، وَقُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ " السَّلَمَ " كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ نَفْسِهِ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الَّذِينَ يَعْتَزِلُونَ الْقِتَالَ وَيَكُفُّونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ وَيُلْقُونَ السَّلَمَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ الْإِسْلَامُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الْقَتْلِ ; إِذْ لَيْسَ الْكُفْرُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكُفَّارُ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْحَرْبِ، وَمَا كَانَ الْقِتَالُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا دِفَاعًا، حَتَّى فِي الْغَزَوَاتِ الَّتِي صُورَتُهَا صُورَةُ الْمُهَاجِمَةِ وَمَا هِيَ إِلَّا مُهَاجَمَةُ قَوْمٍ حَرْبٍ يُدْعَوْنَ إِلَى السِّلْمِ فَلَا يُجِيبُونَ، وَمَا رَضُوا بِالسِّلْمِ مَرَّةَ وَأَبَاهَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي ثَقُلَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ يَأْبَاهَا وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لَهُ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (٨: ٦١)، وَقَدْ أَشَارَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى هَذَا فَاشْتَرَطَ فِيمَنْ يُبَاحُ قَتْلُهُ أَنْ يَكُونَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ عِبَارَتَهُ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهَا نَعْتَمِدُ فِي جُلِّ تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللهَ وَصَدَقُوا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِذَا سِرْتُمْ مَسِيرًا
لِلَّهِ فِي جِهَادِ أَعْدَائِكُمْ فَتَبَيَّنُوا، يَقُولُ: فَتَأَنُّوا فِي قَتْلِ مَنْ أُشْكِلَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ فَلَمْ تَعْلَمُوا حَقِيقَةَ إِسْلَامِهِ وَلَا كُفْرِهِ، وَلَا تُعَجِّلُوا فَتَقْتُلُوا مَنِ الْتَبَسَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى قَتْلِ مَنْ عَلِمْتُمُوهُ يَقِينًا حَرْبًا لَكُمْ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ، يَقُولُ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنِ اسْتَسْلَمَ لَكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ مُظْهِرًا لَكُمْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَلَّتِكُمْ وَدَعْوَتِكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَتَقْتُلُوهُ ابْتِغَاءَ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ: طَلَبًا لِمَتَاعِهَا الَّذِي هُوَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَمَا أَذِنَ اللهُ لَكُمْ فِي قِتَالِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ لِتَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي أَطْمَاعِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، بَلْ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَشْرِ هِدَايَتِهِ فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ، مِنْ رِزْقِهِ وَفَوَاضِلِ نِعَمِهِ، هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ذَكَرْنَاهُ بِلَفْظِهِ إِلَّا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَسْتَ مُؤْمِنًا إِلَخْ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا بِالْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ مَا وَالتَّبَيُّنُ طَلَبُ بَيَانِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " فَتَثَبَّتُوا " فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ التَّثَبُّتِ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ التَّأَنِّي وَاجْتِنَابِ الْعَجَلَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ " السَّلَمَ " بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَهُوَ كَالسِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ ضِدُّ الْحَرْبِ، وَبِهِ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ الْبَاقِينَ " السَّلَامُ " بِالسِّلْمِ وَهُوَ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ ضَرْبُهَا بِالْأَرْجُلِ فِي السَّفَرِ.
283
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ تَسْتَخْفُونَ بِدِينِكُمْ كَمَا اسْتَخْفَى بِدِينِهِ مِنْ قَوْمِهُ هَذَا الَّذِي أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ فَقَتَلْتُمُوهُ إِلَى أَنْ لَحِقَ بِكُمْ، أَيْ: فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ يُخْفِي الْإِسْلَامَ بَيْنَهُمْ إِلَّا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَهُمْ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ يُخْفُونَ إِسْلَامَهُمْ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَحَمَلَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ إِسْلَامِهِمْ، ثُمَّ كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِذَا أَسْلَمَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ حَتَّى يَتَيَسَّرَ لَهُ الْهِجْرَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ، بِالْهِجْرَةِ وَالْقُوَّةِ حَتَّى أَظْهَرْتُمُ الْإِسْلَامَ وَنَصَرْتُمُوهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّكُمْ كَذَلِكَ كُنْتُمْ كُفَّارًا مِثْلَ مَنْ قَتَلْتُمْ بِتُهْمَةِ الْكُفْرِ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَمِنْكُمْ مَنْ أَسْلَمَ لِظُهُورِ حَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ لَهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمِنْكُمْ مَنْ أَسْلَمَ تَقِيَّةً أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُهُ عِنْدَمَا خَبِرَ الْإِسْلَامَ وَعَرَفَ مَحَاسِنَهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى " مَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ ": أَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمُوهُ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ الَّتِي كُنْتُمْ مِثْلَهُ فِيهَا فَتَبَيَّنُوا، أَيْ: اطْلُبُوا الْبَيَانَ أَوْ كُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الْأَمْرِ تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخُذُوا بِالظَّنِّ وَلَا بِالظِّنَّةِ (التُّهْمَةِ)، أَوْ تَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا بَعْدُ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نِيَّتِكُمْ فِيهِ، وَمِنَ الْمُرَجَّحِ لَهُ هَلْ هُوَ مَحْضُ الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَمِ ابْتِغَاءُ الْغَنِيمَةِ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ التَّنْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِأَجْلِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْوَعِيدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، حُكْمٌ جَدِيدٌ بِأَنَّ قَتْلَ مَنْ أَلْقَى السَّلَامَ يُعَدُّ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَبِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مُرَجِّحَاتِ الْحَمْلِ عَلَيْهَا فِي نُفُوسِكُمْ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ابْتِغَاءُ حَظِّ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَغْفُلُوا، بَلْ تَثَبَّتُوا وَتَبَيَّنُوا، وَحُكْمُ الْآيَةِ يُعْمَلُ بِهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعَدُّ مُسْلِمًا وَلَا يُبْحَثُ عَنِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُتَّهَمُ فِي صِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ.
أَقُولُ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حِرْصِ مَنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِكِتَابِ اللهِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَلَا فِي عَمَلِهِمْ بِأَحْكَامِهِ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، بَلْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِيَعْتَبِرِ الْمُعْتَبِرُونَ.
284
أَقُولُ هَذَا وَإِنَّ الْجَاهِلِينَ بِتَارِيخِ الْإِسْلَامِ وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا مَلُومِينَ فِي أَخْذِ الْغَنَائِمِ مِمَّنْ يَظْفَرُونَ بِهِمْ، وَأَنَّ بَعْضَ أُمَمِ الْحَضَارَةِ صَارَتْ أَرْقَى فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ قَوَانِينَهَا فِي الْحَرْبِ أَقْرَبُ إِلَى النَّزَاهَةِ وَالْعَدْلِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَكَيْفَ هَذَا وَقَوَانِينُ الدُّوَلِ الْمُرْتَقِيَةِ كُلِّهَا تُبِيحُ أَخْذَ كُلِّ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُحَارِبِينَ؟ لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ سَلَامٌ وَلَا دِينٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ قَتْلَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ يُلْقِي السَّلَمَ أَوِ السَّلَامَ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ إِمَّا عَلَى الْمُنَاصَرَةِ وَإِمَّا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَمَنِ اتَّصَلَ بِأَهْلِ الْمِيثَاقِ الْمُعَاهِدِينَ، وَمَنِ اعْتَزَلَ الْقِتَالَ فَلَمْ يُسَاعِدْ
فِيهِ قَوْمَهُ الْمُقَاتِلِينَ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ رَغِبَ عَنِ ابْتِغَاءِ عَرَضِ الدُّنْيَا بِالْقِتَالِ ; لِيَكُونَ لِمَحْضِ رَفْعِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَقْرِيرِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ، وَلَا هَمَّ لِجَمِيعِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ الْآنَ إِلَّا الرِّبْحَ وَجَمْعَ الْأَمْوَالِ، وَهُمْ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ مَعَ الضُّعَفَاءِ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ حِفْظَ الْمُعَاهَدَاتِ إِلَّا مَعَ الْأَقْوِيَاءِ، وَهُوَ مَا شَدَّدَ الْإِسْلَامُ فِي حِفْظِهِ، وَحَافَظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَهْدِهِ، وَحَافَظَ عَلَيْهِ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَيْنَ أَرْقَى أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ! ؟ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي مَزْجِ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ بِمَا يُرَغِّبُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيُنَشِّطُ عَلَيْهَا، وَيُحَفِّزُ الْهِمَمَ إِلَيْهَا، وَيُنَفِّرُ مِنَ الْقُعُودِ عَنْهَا، وَالتَّكَاسُلِ وَالتَّوَاكُلِ فِيهَا، وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ جَاءَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ بَيْنَ آيَاتِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ، فَهُمَا مُتَّصِلَتَانِ بِهَا أَتَمَّ الِاتِّصَالِ.
285
قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِتَأْيِيدِ حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَصَدِّ غَارَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنَ الْفَسَادِ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، الْعَاجِزِينَ عَنْ هَذَا الْجِهَادِ كَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: لَا يَكُونُ الْقَاعِدُونَ عَنِ الْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ بُخْلًا بِهَا وَحِرْصًا عَلَيْهَا، وَبِأَنْفُسِهِمْ إِيثَارًا لِلرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ عَلَى التَّعَبِ وَرُكُوبِ الصِّعَابِ فِي الْقِتَالِ، مُسَاوِينَ لِلْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَالْمُؤْنَةِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْقَتْلِ
فِي سَبِيلِ الْحَقِّ ; لِأَجْلِ مَنْعِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ; لِأَنَّ الْمُجَاهِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَحْمُونَ أُمَّتَهُمْ وَبِلَادَهُمْ، وَالْقَاعِدِينَ الَّذِينَ لَا يَأْخُذُونَ حَذْرَهُمْ، وَلَا يُعِدُّونَ لِلدِّفَاعِ عُدَّتَهُمْ، يَكُونُونَ عُرْضَةً لِفَتْكِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (٢: ٢٥١)، بِغَلَبَةِ أَهْلِ الطَّاغُوتِ عَلَيْهَا، وَظُلْمِهِمْ لِأَهْلِهَا، وَإِهْلَاكِهِمْ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ فِيهَا.
فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، هَذَا بَيَانٌ لِمَفْهُومِ عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَفَعَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَيْهِمْ دَرَجَةً، وَهِيَ دَرَجَةُ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ دَفْعُ شَرِّ الْأَعْدَاءِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ وَالْبِلَادِ وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى، أَيْ: وَوَعَدَ اللهُ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ عَجْزًا مِنْهُمْ عَنْهُ، وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ فَقَامُوا بِهِ، فَإِنَّ إِيمَانَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدٌ وَإِخْلَاصَهُ وَاحِدٌ، وَقَدَّمَ مَفْعُولَ وَعَدَ، الْأَوَّلَ وَهُوَ لَفْظُ كُلًّا، لِإِفَادَةِ حَصْرِ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ فِي هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، الْمُتَفَاضِلَيْنِ فِي الْعَمَلِ، لِقُدْرَةِ أَحَدِهِمَا وَعَجْزِ الْآخَرِ، وَفَسَّرَ قَتَادَةَ الْحُسْنَى بِالْجَنَّةِ.
وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، عَلَى الْقَاعِدِينَ، مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَجْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: دَرَجَاتٌ مِنْهُ وَمَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ، أَمَّا الدَّرَجَاتُ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِيهَا مِنْ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (١٧: ٢١)، وَبَيَّنَّا أَنَّ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى دَرَجَاتِ الدُّنْيَا فِي الْإِيمَانِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ، لَا فِي الرِّزْقِ وَعَرَضِ الدُّنْيَا، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الدَّرَجَاتِ هُنَا عَلَى مَا يَكُونُ لِلْمُجَاهِدِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ فَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ: الْإِسْلَامُ دَرَجَةٌ، وَالْإِسْلَامُ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْجِهَادِ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْقِتَالُ فِي الْجِهَادِ دَرَجَةٌ اهـ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْجِهَادَ هُنَا عِدَّةَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ
286
الشَّاقَّةِ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
الدَّرَجَاتُ هِيَ السَّبْعُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " التَّوْبَةِ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩: ١٢٠)، يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ السَّبْعَةَ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا الْمُجَاهِدُونَ هِيَ الدَّرَجَاتُ ; لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهَا أَجْرًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -، وَمَجْمُوعُهَا مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِلْأَجْرِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهِيَ مُرْتَبَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ وَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يَفْضُلُ الْمُجَاهِدُونَ بِهِ الْقَاعِدِينَ، وَأَهَمُّهُ مَصْدَرُهُ مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَإِيثَارُ رِضَاهُ عَلَى الرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ، وَتَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْخَاصَّةِ، وَالْمَغْفِرَةُ الْمَقْرُونَةُ بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ هِيَ أَنْ يَكُونَ لِذُنُوبِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ عِنْدَ الْحِسَابِ أَثَرٌ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي قَضَى عَدْلُ اللهِ بِأَنْ تَكُونَ سَبَبَ الْعِقَابِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ يَتَلَاشَى فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الدَّرَجَاتِ، كَمَا يَتَلَاشَى الْوَسَخُ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَالرَّحْمَةُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ الرَّحْمَنُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا خَوَّلَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالظَّفَرِ وَجَمِيلِ الذِّكْرِ وَالثَّانِي مَا حَصُلَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الدَّرَجَةُ ارْتِفَاعُ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ، وَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْقَاعِدُونَ " الْأُولَى " الْأَضِرَّاءُ، وَالْقَاعِدُونَ الثَّانِيَةُ: هُمُ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ اكْتِفَاءً بِغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُجَاهِدُونَ الْأَوَّلُونَ مَنْ جَاهَدَ الْكُفَّارَ، وَالْآخِرُونَ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، اهـ.
وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَكَانَ شَأْنُ اللهِ وَصَفَتُهُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ، رَحِيمٌ بِمَنْ يَتَعَرَّضُ لِنَفَحَاتِ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ مَا فَضَّلَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا بِمَا اقْتَضَتْهُ صِفَاتُهُ، وَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ بِأَنْوَاعِهِ وَلَا مَرَدَّ لَهُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ نَافِعًا وَابْنَ عَامِرٍ قَرَءَا غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، بِنَصْبِ غَيْرِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَهِيَ حِينَئِذٍ صِفَةٌ
لِـ الْقَاعِدُونَ وَقُرِئَتْ بِالْجَرِّ شُذُوذًا عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: أَجْرًا عَظِيمًا، نَصْبَ أَجْرًا عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَجَرَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا، أَوْ عَلَى الْحَالِ وَدَرَجَاتٍ، بَدَلٌ مِنْهُ.
وَقَدْ تَرَكْتُ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي كَوْنِ قَوْلِهِ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، نَزَلَ لِأَجْلِ ابْنِ أُمٍّ مَكْتُومٍ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الْجَدِيرَةِ بِالرَّدِّ مَهْمَا قَوَّوْا سَنَدَهَا، وَلَعَلَّنَا نُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِيهَا فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكْثِرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَسَمَّى مِنْهُمْ فِي رِوَايَتِهِ قَيْسَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا الْقَيْسِ
بْنَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ سُفْيَانَ وَعَلِيَّ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَذَكَرَ فِي شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ دَخْلَهُمْ شَكٌّ وَقَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ (٨: ٤٩)، فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَزَادَ مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ أَسْوَدَ، وَالُعَاصُ بْنُ مُنَبِّهٍ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ بِمَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهُوا أَنْ يُهَاجِرُوا وَخَافُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يُخْفُونَ الْإِسْلَامَ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَكَتَبُوا بِهَا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فَخَرَجُوا، فَلَحِقَ
288
بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ فَفَتَنُوهُمْ فَرَجَعُوا، فَنَزَلَتْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ (٢٩: ١٠)، فَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَتَحَزَّنُوا، فَنَزَلَتْ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينِ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا (١٦: ١١٠)، الْآيَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَخَرَجُوا فَلَحِقُوهُمْ فَنَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مَنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ نَحْوَهُ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
أَقُولُ: هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ ; لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ قِسْمَيْنِ: دَارُ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَأْمَنِهِمْ، وَدَارُ الشِّرْكِ وَالْحَرْبِ، وَكَانَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُرًّا فِي دِينِهِ لَا يُفْتَنُ عَنْهُ، وَحُرًّا فِي نَفْسِهِ لَا يُمْنَعُ أَنْ يُسَافِرَ حَيْثُ شَاءَ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الشِّرْكِ فَكَانَ مُضْطَهَدًا فِي دِينِهِ يُفْتَنُ وَيُعَذَّبُ لِأَجْلِهِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الْهِجْرَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا أَوْلِيَاءَ يَحْمُونَهُ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ لِأَجْلِ هَذَا وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مَنْ يُسْلِمُ لِيَكُونَ حُرًّا فِي دِينِهِ آمِنًا فِي نَفْسِهِ، وَلِيَكُونَ وَلِيًّا وَنَصِيرًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يُهَاجِمُونَهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَلِيَتَلَقَّى أَحْكَامَ الدِّينِ عِنْدَ نُزُولِهَا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَيُخْفِي إِسْلَامَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَنْقَسِمُ النَّاسُ بِالطَّبْعِ إِلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرْنَا، وَمِنْهُمُ الْقَوِيُّ الشُّجَاعُ الَّذِي يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَهِجْرَتَهُ وَإِنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْمُقَاوَمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ الْبَقَاءَ فِي وَطَنِهِ بَيْنَ
أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ يُؤْثِرُ مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا الَّتِي هُوَ فِيهَا عَلَى الدِّينِ، وَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْ مُرَاقَبَةِ الْمُشْرِكِينَ وَظُلْمِهِمْ، وَلَا يَدْرِي أَيَّةَ حِيلَةٍ يَعْمَلُ وَلَا أَيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَ مَنْ يَتْرُكُ الْهِجْرَةَ لِضِعْفِ دِينِهِ وَظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا أَوْ أَرَادَهَا، وَمَنْ يَتْرُكْهَا لِعَجْزِهِ وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ وَظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ فَقَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَخْ، تَوَفَّى الشَّيْءَ أَخَذَهُ وَافِيًا تَامًّا، وَتَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَفْظُ تَوَفَّاهُمُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، أَيْ: تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَكُلٌّ مِنْ تَذْكِيرِ الْفِعْلِ وَتَأْنِيثِهِ جَائِزٌ هُنَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَيَكُونُ سَحْبُ حُكْمِهِمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانَتْ حَالُهُ مِثْلَ حَالِهِمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا حُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَامًّا بِنَصِّ الْخِطَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ تَتَوَافَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ نَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَبِرِضَاهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي الذُّلِّ وَالظُّلْمِ حَيْثُ لَا حُرِّيَّةَ لَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ تَوَفِّيهَا لَهُمْ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ - فِي أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ؟
289
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ، التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، لَا حَقِيقَةَ الِاسْتِعْلَامِ عَنْ شَيْءٍ مَجْهُولٍ، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُرَادُ بِهِ التَّوْبِيخَ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَلِهَذَا حَسُنَ فِي جَوَابِهِ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ مِنْ تَقْصِيرِهِمُ الَّذِي وُبِّخُوا عَلَيْهِ بِالِاسْتِضْعَافِ، أَيْ: إِنَّنَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَكُونَ فِي شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِنَا لِاسْتِضْعَافِ الْكُفَّارِ لَنَا، فَرَدَّ الْمَلَائِكَةُ هُنَا الْعُذْرَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، وَتُحَرِّرُوا أَنْفُسَكُمْ مَنْ رِقِّ الذُّلِّ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ؟ أَيْ إِنَّ اسْتِضْعَافَ الْقَوْمِ لَكُمْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَانِعُ لَكُمْ مِنَ الْإِقَامَةِ مَعَهُمْ فِي دَارِهِمْ، بَلْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا مُهَاجِرِينَ إِلَى حَيْثُ تَكُونُونَ فِي حُرِّيَّةٍ
مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ وَلَمْ تَفْعَلُوا فَأُولِئَكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، قِيلَ: إِنَّ هَذَا هُوَ خَبَرُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: بَلْ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ الْخَبَرُ أَمْ لَا لِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَأْوَاهُمْ وَمَسْكَنُهُمْ فِي الْآخِرَةِ نَارُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، أَيْ وَقَبُحَتْ جَهَنَّمُ مَأْوًى وَمَصِيرًا لِمَنْ يَصِيرُ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا يَسُوءُهُ لَا يَسُرُّهُ مِنْهُ شَيْءٌ، قِيلَ: إِنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِجَهَنَّمَ كَمَا يَتَوَعَّدُ الْكُفَّارَ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لِلْقَادِرِ كَانَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَتَبَطَّنُوهُ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ جَهَنَّمَ تَكُونُ لَهُمْ مَأْوًى مُؤَقَّتًا عَلَى قَدْرِ تَقْصِيرِهِمْ، وَمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي الْإِقَامَةِ مَعَ الْكُفَّارِ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ، وَمَا عَسَاهُمُ افْتَرَقُوا ثَمَّ مِنَ الْمَعَاصِي.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِقَامَةِ أَمْرِ دِينِهِ كَمَا يَجِبُ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِقِ عَنْ إِقَامَةِ الدِّينِ لَا تَنْحَصِرُ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ أَقُومُ بِحَقِّ اللهِ، وَأَدْوَمُ عَلَى الْعِبَادَةِ، حَقَّتْ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرَةُ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِدُعَاءٍ أَبَانَ فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ إِلَى مَكَّةَ فِرَارًا بِدِينِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِقَامَتِهِ كَمَا يَجِبُ.
وَهَاكَ مَا عِنْدِي فِي الْآيَةِ عَنْ دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: ذَكَرَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَضْلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الْقَاعِدِينَ لِغَيْرِ عَجْزٍ فَعَلِمَ أَنَّ الْعَاجِزَ مَعْذُورٌ، وَمَعْنَى سَبِيلِ اللهِ الطَّرِيقُ الَّذِي يُرْضِيهِ وَيُقِيمُ دِينَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ قَوْمٍ أَخْلَدُوا إِلَى السُّكُونِ وَقَعَدُوا عَنْ نَصْرِ الدِّينِ بَلْ وَعَنْ إِقَامَتِهِ حَيْثُ هُوَ، وَعَذَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي أَرْضِ الْكَفْرِ حَيْثُ اضْطَهَدَهُمُ الْكَافِرُونَ وَمَنَعُوهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَعْذُورِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْتَزُّونَ بِهِمْ، فَهُمْ بِحُبِّهِمْ لِبِلَادِهِمْ، وَإِخْلَادِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، وَسُكُونِهِمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، ضُعَفَاءُ فِي الْحَقِّ لَا مُسْتَضْعَفُونَ، وَهُمْ بِضَعْفِهِمْ هَذَا قَدْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا بِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ خَيْرِ
290
الْآخِرَةِ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ، فَظُلْمُهُمْ
لِأَنْفُسِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِهِمُ الْعَمَلَ بِالْحَقِّ خَوْفًا مِنَ الْأَذَى، وَفَقْدُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ عُشَرَائِهِمُ الْمُبْطِلِينَ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ هُوَ نَحْوٌ مِمَّا يَعْتَذِرُ بِهِ الَّذِينَ جَارَوْا أَهْلَ الْبِدَعِ عَلَى بِدَعِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ يَجُبُّونَ الْغَيْبَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيُدَارُونَ الْمُبْطِلِينَ، وَهُوَ عُذْرٌ بَاطِلٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْحَقِّ مَعَ احْتِمَالِ الْأَذَى فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ الْهِجْرَةُ إِلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ فِي الْهِجْرَةِ، هَلْ وُجُوبُهَا مَضَى أَوْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ (قَالَ) : وَلَا مَعْنَى عِنْدِي لِلْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي يُمْنَعُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ مِنَ الْعَمَلِ بِدِينِهِ، أَوْ يُؤْذَى فِيهِ إِيذَاءً لَا يَقْدِرُ عَلَى احْتِمَالِهِ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي دَارِ الْكَافِرِينَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُمْنَعُ وَلَا يُؤْذَى إِذَا هُوَ عَمِلَ بِدِينِهِ، بَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ بِلَا نَكِيرٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ، وَذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ لِهَذَا الْعَهْدِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْكُفْرِ سَبَبًا لِظُهُورِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالِ النَّاسِ عَلَيْهِ اهـ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْمُقِيمُونَ هُنَالِكَ عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ يُعَرِّفُونَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، وَيُبَيِّنُونَهَا لِلنَّاسِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ.
قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، دَلَّ الْوَعِيدُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا عَنْ عَدَمِ إِقَامَةِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ الْفِرَارِ بِهِ هِجْرَةً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ غَيْرُ صَادِقِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ، فَإِنَّ الِاسْتِضْعَافَ الْحَقِيقِيَّ عُذْرٌ صَحِيحٌ وَلِذَلِكَ اسْتُثْنِيَ أَهْلُهُ مِنَ الْوَعِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَرْنُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِيهَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّجَالِ الشُّيُوخُ الضُّعَفَاءُ وَالْعَجَزَةُ الَّذِينَ هُمْ كَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، أَيْ قَدْ ضَاقَتْ بِهِمُ الْحِيَلُ كُلُّهَا فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رُكُوبَ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقُ جَمِيعُهَا فَلَمْ يَهْتَدُوا طَرِيقًا مِنْهَا، إِمَّا لِلزِّمَانَةِ وَالْمَرَضِ، وَإِمَّا لِلْفَقْرِ وَالْجَهْلِ بِمَسَالِكِ الْأَرْضِ وَأَخْرَاتِهَا وَمَضَايِقِهَا، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: بِحَيْثُ لَوْ خَرَجُوا هَلَكُوا، أَيْ: بِرُكُوبِ التَّعَاسِيفِ أَوْ قِلَّةِ الزَّادِ أَوْ عَدَمِ الرَّاحِلَةِ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْوِلْدَانَ هُنَا بِالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُمُ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ
أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْهِجْرَةِ سَبِيلًا، وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ الْأَوْلَادَ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُمُ الْوَعِيدُ فَيُحْتَاجُ إِلَى اسْتِثْنَائِهِمْ، وَأَجَابَ فِي الْكَشَّافِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُرَاهِقِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ عَقَلُوا مَا يَعْقِلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَيَلْحَقُوا بِهِمْ فِي التَّكْلِيفِ، أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ ذُكِرُوا تَبَعًا لِوَالِدَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ
يُكَلَّفُونَ أَنْ يُهَاجِرُوا بِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْوِلْدَانُ عَاجِزِينَ عَنِ السَّيْرِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْوَالِدَانِ عَاجِزَيْنِ عَنْ حَمْلِهِمْ، كَانَ مِنْ عُذْرِهِمَا أَنْ يَتْرُكَا الْهِجْرَةَ مَا دَامَا عَاجِزَيْنِ وَلَا يُكَلَّفَانِ تَرْكَ أَوْلَادِهِمْ.
فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفَوَ عَنْهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى مَنِ اسْتَثْنَاهُمْ مِمَّنْ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْهِجْرَةِ، أَيْ: إِنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا لِلْعَجْزِ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ وَالْحِيَلِ وَتَعْمِيَةِ السُّبُلِ يُرْجَى أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُمْ وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَالْوَعْدُ بِعَسَى الدَّالَّةِ عَلَى الرَّجَاءِ، أَطْمَعَهُمْ تَعَالَى بِالْعَفْوِ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ أَمْرَ الْهِجْرَةِ مُضَيَّقٌ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْ بِاسْتِعْمَالِ دَقَائِقِ الْحِيَلِ، وَالْبَحْثِ عَنْ مَضَايِقِ السُّبُلِ، حَتَّى لَا يُخْدَعَ مُحِبُّ وَطَنِهِ بِنَفْسِهِ وَيَعُدُّ مَا لَيْسَ بِمَانِعٍ مَانِعًا، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ صِيغَةَ الرَّجَاءِ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، وَعِلْمَ اللهِ بِتَحْقِيقِ الرَّجَاءِ أَوْ عَدِمِهِ قَطْعِيٌّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، قَالُوا: إِنَّ عَسَى فِي كَلَامِ اللهِ لِلتَّحْقِيقِ وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; لِأَنَّهُ يَسْلُبُ الْكَلِمَةَ مَعْنَاهَا فَكَأَنَّهُ لَا مَحَلَّ لَهَا، وَنَقُولُ فِيهَا مَا قُلْنَاهُ فِي " لَعَلَّ " وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِعْدَادُ وَالتَّهْيِئَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُعِدُّهُمْ وَيُهَيِّؤُهُمْ لِعَفْوِهِ، وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ التَّعْبِيرِ عَنِ التَّحْقِيقِ بِعَسَى الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَجِّي إِنْ صَحَّ هِيَ تَعْظِيمُ أَمْرِ تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَتَغْلِيظُ جُرْمِهِ.
وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا أَيْ: وَكَانَ شَأْنُ اللهِ - تَعَالَى - الْعَفْوُ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي لَهَا أَعْذَارٌ صَحِيحَةٌ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا، وَمَغْفِرَتُهَا بِسَتْرِهَا فِي الْآخِرَةِ وَعَدَمِ فَضِيحَةِ صَاحِبِهَا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً، وَصَلَ هَذَا
بِمَا قَبْلَهُ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْهِجْرَةِ، وَتَنْشِيطِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَتَجْرِئَتِهِمْ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ لَهَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَهَيَّبُ الْأَمْرَ الْمُخَالِفَ لِمَا اعْتَادَهُ وَأَنِسَ بِهِ، وَيَتَخَيَّلُ فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ وَالْمَصَاعِبِ مَا لَعَلَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي خَيَالِهِ، فَبَعْدَ أَنْ تَوَعَّدَ التَّارِكَ الْمُقَصِّرَ، وَأَطْمَعَ التَّارِكَ الْمَعْذُورَ فِي الْعَفْوِ إِطْمَاعًا مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ يَفْعَلَهُ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَا يَتَصَوَّرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ عُسْرِ الْهِجْرَةِ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَأَنَّ عُسْرَهُ إِلَى يُسْرٍ، مَنْ يُهَاجِرْ بِالْفِعْلِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا، أَيْ: مُتَحَوَّلًا مِنَ الرِّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ، أَوْ مَذْهَبًا فِي الْأَرْضِ يُرْغِمُ بِسُلُوكِهِ أُنُوفَ مَنْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ لَهُ، أَوْ مَكَانًا لِلْهِجْرَةِ وَمَأْوًى يُصِيبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَالسَّعَةَ فَوْقَ النَّجَاةِ مِنَ الِاضْطِهَادِ
وَالذُّلِّ، فَيُرْغِمُ بِذَلِكَ أُنُوفَهُمْ، وَفِيهِ الْوَعْدُ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِتَسْهِيلِ السُّبُلِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْهِجْرَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَقِيقَةً إِذَا كَانَ قَصْدُ الْمُهَاجِرِ مِنْهَا إِرْضَاءَ اللهِ - تَعَالَى - بِإِقَامَةِ دِينِهِ، كَمَا يَجِبُ، وَكَمَا يُحِبُّ - تَعَالَى -، وَنَصْرَ أَهْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى مَنْ يَبْغِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ، الْمُهَاجِرُ كَسَائِرِ النَّاسِ عُرْضَةٌ لِلْمَوْتِ، وَلَمَّا وَعَدَ تَعَالَى مَنْ يُهَاجِرُ فَيَصِلُ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ بِالظَّفَرِ بِمَا يَنْبَغِي مِنْ وِجْدَانِ الْمُرَاغَمِ وَالسَّعَةِ، وَعَدَ مَنْ يَمُوتُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِهَا بِأَجْرٍ عَظِيمٍ يَضْمَنُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ، فَمَتَى خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِقَصْدِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ أَيْ: حَيْثُ يُرْضِي اللهَ وَإِلَى نُصْرَةِ رَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَمِثْلُهَا إِقَامَةُ سُنَنِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْأَجْرِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ عَتَبَةَ الْبَابِ، وَلَمْ يُصِبْ تَعَبًا وَلَا مَشَقَّةً، فَإِنَّ نِيَّةَ الْهِجْرَةِ مَعَ الْإِخْلَاصِ كَافِيَةٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، وَقَدْ أَبْهَمَ هَذَا الْأَجْرَ وَجَعَلَهُ حَقًّا وَاقِعًا عَلَيْهِ - تَبَارَكَ اسْمُهُ - لِلْإِيذَانِ بِعِظَمِ قَدْرِهِ، وَتَأْكِيدِ ثُبُوتِهِ وَوُجُوبِهِ، وَالْوُجُوبُ وَالْوُقُوعُ يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا (٢٢: ٣٦)، أَيْ: سَقَطَتْ جُنُوبُ الْبُدْنِ عِنْدَمَا تُنْحَرُ فِي النُّسُكِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ شَيْئًا إِذْ لَا سُلْطَانَ فَوْقَ سُلْطَانِهِ، فَأَيْنَ هَذَا الْوَعْدُ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي تَأْكِيدِهِ، وَإِيجَابِهِ مِنْ وَعْدِ تَارِكِي الْهِجْرَةِ لِضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ مِنْ جَعْلِهِ مَحَلَّ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فَقَطْ؟ لَا يَسْتَوِيَانِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: وَكَانَ شَأْنُهُ الثَّابِتُ
لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، أَنَّهُ غَفُورٌ يَسْتُرُ مَا سَبَقَ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ بِإِيمَانِهِمُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَرْكِ أَوْطَانِهِمْ وَمَعَاهِدِ أُنْسِهِمْ لِأَجْلِ إِقَامَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ، رَحِيمًا بِهِمْ يَشْمَلُهُمْ بِعَطْفِهِ وَيَغْمُرُهُمْ بِإِحْسَانِهِ.
هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْهِجْرَةِ نَزَلَتْ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَمَا قُلْنَا، وَمَنْ شَمَلَهُ الْوَعْدُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، فَعَدُّوا خَبَرَ هِجْرَتِهِ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الشِّقِّ الْأَخِيرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا هُوَ بِسَبَبٍ إِلَّا فِي اصْطِلَاحِهِمُ الَّذِي يَتَسَاهَلُونَ فِيهِ بِإِطْلَاقِ السَّبَبِ كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا، رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَرَجَ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ: احْمِلُونِي فَأَخْرِجُونِي مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
293
فَنَزَلَ الْوَحْيُ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا الْآيَةَ، وَمِنْهُمْ أَبُو ضَمْرَةَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ الزُّرَقِيِّ، وَكَانَ بِمَكَّةَ فَلَمَّا نَزَلَتْ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً، قَالَ: إِنِّي لَغَنِيٌّ وَإِنِّي لَذُو حِيلَةٍ، فَتَجَهَّزَ يُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ الْآيَةَ، وَمِنْهُمْ آخَرُونَ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي اللُّبَابِ بَعْدَ إِيرَادِ الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ وَسُمِّيَ فِي بَعْضِهَا ضَمْرَةُ بْنُ الْعِيصِ أَوِ الْعِيصُ بْنُ ضَمْرَةَ، وَفِي بَعْضِهَا جُنْدَبُ بْنُ حَمْزَةَ الْجُنْدَعِيُّ وَفِي بَعْضِهَا الضَّمْرِيُّ وَفِي بَعْضِهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ وَفِي بَعْضِهَا رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَفِي بَعْضِهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَنْدَهْ وَالْبَارُودِيُّ فِي الصَّحَابَةِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ: هَاجَرَ خَالِدُ بْنُ حَرَامٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ.
وَأَخْرَجَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ مَخْرَجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ فَأَبَى قَوْمُهُ أَنْ يَدَعُوهُ، قَالَ: فَلْيَأْتِ مَنْ يُبَلِّغُهُ عَنِّي وَيُبَلِّغُنِي عَنْهُ، فَانْتَدَبَ لَهُ رَجُلَانِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَا: نَحْنُ رُسُلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، وَهُوَ يَسْأَلُكَ مَنْ أَنْتَ وَمَا أَنْتَ وَبِمَ جِئْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللهِ، وَأَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (١٦: ٩٠)، الْآيَةَ، فَأَتَيَا أَكْثَمَ فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، إِنَّهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، فَكُونُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ رُءُوسًا وَلَا تَكُونُوا أَذْنَابًا، فَرَكِبَ بِعِيرَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، مُرْسَلٌ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَ أَبُو حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْمُعَمَّرِينَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَكْثَمَ، قِيلَ: فَأَيْنَ اللَّيْثِيُّ؟ قَالَ: هَذَا قَبْلَ اللَّيْثِيِّ بِزَمَانٍ وَهِيَ خَاصَّةٌ عَامَّةٌ اهـ.
وَمَجْمُوعُ الرِّوَايَاتِ يُؤَيِّدُ رَأْيَنَا مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْحَرْبِ لَا مُنْفَرِدَةً فَطَبَّقُوهَا عَلَى الْوَقَائِعِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ وَلَمْ تَنْزِلْ لِأَجْلِ وَقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا.
294
حِكْمَةُ الْهِجْرَةِ وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهَا
قَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمِنْ غَيْرِهَا مِمَّا نَزَلَ فِي الْهِجْرَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْهِجْرَةَ شُرِعَتْ لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ أَوْ حِكَمٍ، اثْنَانِ مِنْهَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْأَمْرِ، وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمَاعَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهَا ذَلِيلًا مُضْطَهَدًا فِي حُرِّيَّتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ، فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَكُونُ فِي مَكَانٍ يُفْتَنُ فِيهِ عَنْ دِينِهِ أَوْ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ إِقَامَتِهِ فِيهِ كَمَا يَعْتَقِدُ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْهُ إِلَى حَيْثُ يَكُونُ حُرًّا فِي تَصَرُّفِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِلَّا كَانَتْ إِقَامَتُهُ مَعْصِيَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَعَاصِي، وَإِلَّا جَازَ لَهُ الْإِقَامَةُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِمَا قَالَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الْمُقِيمِينَ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ مُتَمَتِّعِينَ بِحُرِّيَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ تَلَقِّي الدِّينِ وَالتَّفَقُّهُ فِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصًّا بِالزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِرْسَالُ الدُّعَاةِ وَالْمُرْشِدِينَ مِنْ قِبَلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَذِّرًا لِقُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ أَسْلَمَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ عُلَمَاءُ يَعْرِفُونَ أَحْكَامَ الدِّينِ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى حَيْثُ يَتَلَقَّى الدِّينَ وَالْعِلْمَ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ - الْمُتَعَلِّقُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ: فَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ أَوْ دَوْلَةٌ قَوِيَّةٌ تَنْشُرُ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَتُقِيمُ أَحْكَامَهُ وَحُدُودَهُ، وَتَحْفَظُ
بَيْضَتَهُ وَتَحْمِي دُعَاتَهُ وَأَهْلَهُ مِنْ بَغْيِ الْبَاغِينَ، وَعُدْوَانِ الْعَادِينَ وَظُلْمِ الظَّالِمِينَ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ أَوِ الدَّوْلَةُ أَوِ الْحُكُومَةُ ضَعِيفَةً يُخْشَى عَلَيْهَا مِنْ إِغَارَةِ الْأَعْدَاءِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا وَحَيْثُمَا حَلُّوا أَنْ يَشُدُّوا أَزْرَهَا، حَتَّى تَقْوَى وَتَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى هِجْرَةِ الْبَعِيدِ عَنْهَا إِلَيْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وُجُوبًا قَطْعِيًّا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَإِلَّا كَانَ رَاضِيًا بِضَعْفِهَا وَمُعِينًا لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَتِهِ وَخَفْضِ كَلِمَتِهِ.
كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ مُتَحَقِّقَةً فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمَّا فُتِحَتْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى الشِّرْكِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا وَصَارَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ مَنْ يُعَلِّمُ أَهْلَهَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَزَالَ سَبَبُ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا لِأَجْلِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ إِلَّا نَادِرًا، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا لِتَأْيِيدِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَقْوِيَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَى مَنْ كَانَ يُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ ; وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا
295
اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَمِمَّا لَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيهِ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجِبُ دَائِمًا بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ كَمَا يَجِبُ السَّفَرُ لِأَجْلِ الْجِهَادِ إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهُ، وَأَقْوَى مُوجِبَاتِهِ اعْتِدَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهَا.
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا.
صَلَاةُ السَّفَرِ وَالْخَوْفِ
السِّيَاقُ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَجَاءَ فِيهِ حُكْمُ الْهِجْرَةِ، وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ لَازِمٌ فِي كُلِّ حَالٍ لَا يَسْقُطُ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ، وَلَا فِي أَثْنَاءِ الْهِجْرَةِ وَلَا غَيْرِ الْهِجْرَةِ مِنْ أَيَّامِ السَّفَرِ، وَلَكِنْ قَدْ تَتَعَذَّرُ أَوْ تَتَعَسَّرُ فِي السَّفَرِ وَحَالِ الْحَرْبِ إِقَامَتُهَا فُرَادَى وَجَمَاعَةً كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -
296
أَنْ تُقَامَ فِي صُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا، فَنَاسَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُبَيِّنَ اللهُ - تَعَالَى - مَا يُرِيدُ أَنْ يُرَخِّصَ لِعِبَادِهِ فِيهِ مِنَ الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَقَالَ:
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّفَرِ فِيهَا ; لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ وَعَصَاهُ أَوْ بِقَوَائِمِ رَاحِلَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: طَرَقَ الْأَرْضَ إِذَا مَرَّ بِهَا، كَأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِالْمِطْرَقَةِ، وَمِنْهُ الطَّرِيقُ أَيْ: السَّبِيلُ الْمَطْرُوقُ، وَقَالَ هَاهُنَا: ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَقُلْ ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ (٩٤) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْوَارِدَةِ فِي حُكْمِ إِلْقَاءِ السَّلَامِ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّ هَذِهِ أَعَمُّ، فَهِيَ رُخْصَةٌ لِكُلِّ مُسَافِرٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الدِّينِ بِأَنْ كَانَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِمُجَرَّدِ السِّيَاحَةِ مَثَلًا، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَالْمُسَافِرُ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ، وَهِيَ لَهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، أَيْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ تَضْيِيقٌ وَلَا مَيْلٌ عَنْ مَحَجَّةِ دِينِ اللهِ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ فِي الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْجُنَاحُ فُسِّرَ بِالْإِثْمِ وَالتَّضْيِيقِ وَبِالْمَيْلِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، قِيلَ: هُوَ مِنْ جَنَحَتِ
السَّفِينَةُ إِذَا مَالَتْ إِلَى أَحَدِ جَانِبَيْهَا قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَ جُنُوحَ السَّفِينَةِ بِمَا ذُكِرَ، وَفَسَّرَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِهَا أَرْضًا رَقِيقَةً تَغْرِزُ فِيهَا وَيُمْتَنَعُ جَرْيُهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَاسِبُ الْجُنَاحَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْجُنُوحَ مَعْنَاهُ الْمَيْلُ، وَهُوَ مِنَ الْجِنْحِ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْجَانِبِ، وَمَنْ فَسَّرَ الْجُنَاحَ بِالتَّضْيِيقِ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ جُنِحَ الْبَعِيرُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ إِذَا انْكَسَرَتْ جَوَانِحُهُ - أَضْلَاعُهُ - لَثِقَلِ حِمْلِهِ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْإِثْمِ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذَا أَيْضًا وَهُوَ مَجَازٌ، وَالْقَصْرُ - بِالْفَتْحِ - مِنَ الْقِصَرِ - كَعِنَبٍ - ضِدُّ الطُّولِ، وَقَصَّرْتُ الشَّيْءَ جَعَلْتُهُ قَصِيرًا.
فَالْقَصْرُ مِنَ الصَّلَاةِ هُوَ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهَا تَكُونُ بِهِ قَصِيرَةً، وَيَصْدُقُ بِتَرْكِ بَعْضِ رَكَعَاتِهَا، وَبِتَرْكِ بَعْضِ أَرْكَانِهَا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهَا تَرْكُ بَعْضِ رَكَعَاتِهَا وَهِيَ صَلَاةُ السَّفَرِ الَّتِي تُقْصِرُ فِيهَا الرُّبَاعِيَّةُ فَقَطْ فَتُصَلَّى ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ مُطْلَقًا أَوْ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِهَا وَهِيَ الْمُبَيَّنَةُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.
وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهَا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا لَا مِنْ رَكَعَاتِهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْقَصْرُ مِنَ الْعَدَدِ وَالْأَرْكَانِ جَمِيعًا، وَجَمَعَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ بَيْنَ الْأَقْوَالِ فَقَالَ فِي فَصْلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ.
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ أَبَاحَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَصْرَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَعَدَدِهَا إِذَا اجْتَمَعَ الْخَوْفُ وَالسَّفَرُ، وَقَصْرُ الْعَدَدِ وَحْدَهُ إِذَا كَانَ سَفَرٌ لَا خَوْفَ مَعَهُ، وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ وَحْدَهَا إِذَا كَانَ خَوْفٌ لَا سَفَرَ مَعَهُ، وَهَذَا كَانَ هَدْيُهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
297
وَبِهِ يُعْلَمُ الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ، اهـ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَرْطٌ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَالْفِتْنَةُ الْإِيذَاءُ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَأَصْلُهُ الِاخْتِيَارُ بِالْمَكْرُوهِ وَالْأَذَى كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِتْنَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِيهَا حَمْلُهُمْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ سَاجِدُونَ حَتَّى يَقْتُلُوهُمْ أَوْ يَأْسِرُوهُمْ فَيَمْنَعُوهُمْ مِنْ إِقَامَتِهَا وَأَدَائِهَا، وَيَحُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِبَادَةِ اللهِ وَإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لَهُ اهـ، وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِزَمَنِ الْحَرْبِ بَلْ إِذَا خَافَ الْمُصَلِّي قُطَّاعَ الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ هَذَا الْقَصْرَ.
إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا، تَعْلِيلٌ لِتَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ: كَانَ شَأْنُهُمْ أَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ مُظْهِرُونَ لِلْعَدَاوَةِ بِالْقِتَالِ وَالْعُدْوَانِ، فَهُمْ لَا يُضَيِّعُونَ فُرْصَةَ اشْتِغَالِكُمْ بِمُنَاجَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ، وَلَا يَخْشَوْنَهُ فِيكُمْ فَيَمْتَنِعُوا عَنِ الْإِيقَاعِ بِكُمْ إِذَا وَجَدُوكُمْ غَافِلِينَ عَنْهُمْ، وَالْعَدُوُّ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ.
بَعْدَ هَذَا أَقُولُ: إِنَّ الْقَصْرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُجْمَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ تُبَيِّنُ لَنَا نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَقِيلَ: إِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تُفِيدَ كُلُّ آيَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ مَعْنًى جَدِيدًا تَفَادِيًا مِنَ التَّكْرَارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنَ الْقَصْرِ نَقْصَ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ الْمَشْهُورِ إِذْ قَالَ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنِ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَالسُّنَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَرَّفَ الِاصْطِلَاحَاتُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ بِدُونِ تَوْقِيفٍ، وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا إِلَّا كَيْفِيَّةَ الْقَلِيلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّةَ الْحَجِّ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنَّنِي أَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ أُفَسِّرَ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَذْكُرُ مُلَخَّصَ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ أُبَيِّنُ مَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَكَيْفِيَّاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ الَّتِي وَرَدَتْ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي الْجِهَادِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْحَثُّ عَلَيْهِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ وَحِفْظِهِ، وَإِيجَابِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَتَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مَنْ أَرْضٍ لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِ، وَالْجِهَادُ يَسْتَلْزِمُ السَّفَرَ، وَالْهِجْرَةُ سَفَرٌ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ سَافَرَ
298
لِلْجِهَادِ أَوْ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللهِ إِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ وَخَافَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْهَا، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ مِنْهَا وَأَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَتَهَا بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ.
قَالَ: وَالْقَصْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى هُنَا لَيْسَ هُوَ قَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ الْمُبَيَّنِ بِشُرُوطِهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَهُوَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ، وَالشَّرْطُ فِيهَا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ
فَلَا مَفْهُومَ لَهُ لَغْوٌ مِنَ الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي أَغْلَى الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ، فَهَذَا الْقَصْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى هُوَ الْمُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (٢: ٢٣٩)، فَآيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْقَصْرِ مِنْ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَالرُّخْصَةُ فِي عَدَمِ إِقَامَةِ صُورَتِهَا بِأَنْ يَكْتَفِيَ الرِّجَالُ الْمُشَاةُ وَالرُّكْبَانُ بِالْإِيمَاءِ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْقَصْرِ الْمُرَادِ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا فِي الْقَصْرِ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتٍ بِأَنْ تُصَلِّي طَائِفَةٌ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا أَتَمَّتْهَا جَاءَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تَحْرُسُ الْأُولَى، فَصَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنْ وَاحِدَةً مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ تُتِمُّ الصَّلَاةَ اهـ، مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مُلَخَّصًا.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَقَدْ لَخَّصَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ أَحْسَنَ تَلْخِيصٍ، وَنَاهِيكَ بِسِعَةِ حَفْظِهِ وَحُسْنِ اسْتِحْضَارِهِ وَبَيَانِهِ، قَالَ فِي بَيَانِ هَدْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ، وَعِبَارَتُهُ فِيهِ مَا نَصُّهُ:
" وَكَانَ يَقْصُرُ الرُّبَاعِيَّةَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَمَّ الرُّبَاعِيَّةَ فِي سَفَرِهِ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ، فَلَا يَصِحُّ، وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَقُولُ: هُوَ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى.
وَقَدْ رُوِيَ: كَانَ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ الْأَوَّلُ بِالْيَاءِ آخِرُ الْحُرُوفِ وَالثَّانِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ، وَكَذَلِكَ " يُفْطِرُ وَتَصُومُ " أَيْ: تَأْخُذُ هِيَ بِالْعَزِيمَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ تَيْمِيَةَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، مَا كَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لِتُخَالِفَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ فَتُصَلِّيَ خِلَافَ صَلَاتِهِمْ، وَالصَّحِيحُ عَنْهَا: أَنَّ اللهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ تُصَلَّيَ بِخِلَافِ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ؟
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ " قُلْتُ ": وَقَدْ أَتَمَّتْ عَائِشَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ دَائِمًا، فَرَكَّبَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا، وَقَالَ: فَكَانَ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ هِيَ، فَغَلِطَ بَعْضُ
299
الرُّوَاةِ فَقَالَ: كَانَ يَقْصُرُ وَيُتِمُّ، أَيْ: هُوَ.
وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي تَأَوَّلَتْهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ،
فَقِيلَ: ظَنَّتْ أَنَّ الْقَصْرَ مَشْرُوطٌ بِالْخَوْفِ وَالسَّفَرِ فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ زَالَ سَبَبُ الْقَصْرِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرٌ صَحِيحٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَافَرَ آمِنًا وَكَانَ يُقْصِرُ الصَّلَاةَ، وَالْآيَةُ قَدْ أُشْكِلَتْ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ فَسَأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابَهُ بِالشِّفَاءِ وَأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ مِنَ اللهِ وَشَرْعٌ شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ.
وَكَانَ هَذَا بَيَانُ أَنَّ حُكْمَ الْمَفْهُومِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَأَنَّ الْجُنَاحَ مُرْتَفِعٌ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ عَنِ الْآمِنِ وَالْخَائِفِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ نَوْعُ تَخْصِيصٍ لِلْمَفْهُومِ أَوْ رَفْعٌ لَهُ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ قَصْرًا يَتَنَاوَلُ قَصْرَ الْأَرْكَانِ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَصْرَ الْعَدَدِ بِنُقْصَانِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُيِّدَ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفُ، فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرَانِ أُبِيحَ الْقَصْرُ فَيُصَلُّونَ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَقْصُورَةً عَدَدَهَا وَأَرْكَانَهَا، وَإِنِ انْتَفَى الْأَمْرَانِ فَكَانُوا آمِنِينَ مُقِيمِينَ، انْتَفَى الْقَصْرَانِ فَيُصَلُّونَ صَلَاةً تَامَّةً، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَصْرُهُ وَحْدَهُ، فَإِذَا وُجِدَ الْخَوْفُ وَالْإِقَامَةُ قُصِرَتِ الْأَرْكَانُ وَاسْتُوفِيَ الْعَدَدُ، وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ وُجِدَ السَّفَرُ وَالْأَمْنُ قَصَرَ الْعَدَدُ وَاسْتَوْفَى الْأَرْكَانَ وَسُمِّيَتْ صَلَاةَ الْأَمْنِ، وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ مَقْصُورَةً بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْعَدَدِ، وَقَدْ تُسَمَّى تَامَّةً بِاعْتِبَارِ إِتْمَامِ أَرْكَانِهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَصْرِ الْآيَةِ، وَالْأَوَّلُ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الصَّحَابَةِ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ عِنْدَهَا غَيْرُ مَقْصُورَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ وَإِنَّمَا هِيَ مَفْرُوضَةٌ كَذَلِكَ، وَأَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، مُتَّفَقٌ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَالْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ وَالْعِيدُ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَهُوَ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ
حَدِيثَيْهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَجَابَهُ بِأَنَّ هَذَا صَدَقَةُ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَدِينُهُ أَلَيْسَ السَّمْحَ، عَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ قَصْرَ الْعَدَدِ كَمَا فَهِمَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ قَصْرَ الْعَدَدِ مُبَاحٌ، يُنْفَى عَنْهُ الْجُنَاحُ، فَإِنْ شَاءَ
300
الْمُصَلِّي فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَتَمَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاظِبُ فِي أَسْفَارِهِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُرَبِّعْ قَطُّ إِلَّا شَيْئًا فَعَلَهُ فِي بَعْضِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ وَنُبَيِّنُ مَا فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَالَ أَنَسٌ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَالَ: " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلِيَتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ مَسْعُودٍ لِيَسْتَرْجِعَ مِنْ فِعْلِ عُثْمَانَ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا، بَلِ الْأَوْلَى عَلَى قَوْلٍ: وَإِنَّمَا اسْتَرْجَعَ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ مُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ فِي السَّفَرِ لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يَعْنِي فِي صَدْرِ خِلَافَتِهِ، وَإِلَّا فَعُثْمَانُ قَدْ أَتَمَّ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ خَرَجَ لِفِعْلِهِ تَأْوِيلَاتٌ، انْتَهَى نَصُّ عِبَارَتِهِ.
وَهَاهُنَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ سِتَّةَ تَأْوِيلَاتٍ لِإِتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ وَرَدُّهَا أَقْوَى رَدٍّ إِلَّا السَّادِسَ مِنْهَا فَقَالَ: إِنَّهُ أَحْسُنُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ عَنْ عُثْمَانَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَ بِمِنًى وَالْمُسَافِرُ إِذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ وَتَزَوَّجَ فِيهِ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَضْعِيفِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ كَانَ نَوَى الْإِقَامَةَ لِأَجْلِ الزَّوَاجِ، ثُمَّ ذَكَرَ الِاعْتِذَارَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَعَادَ قَوْلَ ابْنِ تَيْمِيَةَ: إِنَّ الْإِتْمَامَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذِبٌ عَلَيْهَا.
وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ وَعَنْ عَطَاءٍ
عَنْهَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ عَنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا، أَقُولُ: وَهُمَا ضَعِيفَانِ، ثُمَّ قَوَّاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِرِوَايَتَيْنِ لِلْدَارَقُطْنِيِّ.
إِحْدَاهُمَا: مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْهَا، وَقِيلَ: عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا وَحَسَّنَهَا، وَفِي الْعَلَاءِ مَقَالٌ يَمْنَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ، قِيلَ: مُطْلَقًا وَقِيلَ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ الْإِثْبَاتَ كَهَذَا الْحَدِيثِ، وَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ فِي مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ نَكَارَةً، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ حَدِيثٌ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهَا خَرَجَتْ مُعْتَمِرَةً مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ فَكَانَ يَقْصُرُ، وَكَانَتْ تُتِمُّ ثُمَّ ذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ أَحْسَنْتِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْدَارَقُطْنِيِّ صَحَّحَهَا عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ
301
ذِكْرُهَا عَنِ ابْنِ الْقَيِّمِ وَأَنَّهُ جَزَمَ بِغَلَطِ رَاوِيهَا، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ فِي الصَّلَاةِ وَيُتِمُّ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: وَقَدِ اسْتَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصِحَّتُهُ بَعِيدَةٌ إِلَخْ، وَقَدْ ضُبِطَ الْحَدِيثُ فِي التَّلْخِيصِ بِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ إِسْنَادِ الْإِتْمَامِ وَالْفِطْرِ إِلَى عَائِشَةَ لَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنُ تَيْمِيَةَ جَزَمَ بِكَذِبِ الْحَدِيثَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا ذَكَرَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِرِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ لَا رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ وَخُصُوصًا مَا يُخَالِفُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ عُثْمَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّاجِحُ وَهُوَ أَنَّهُ عَدَّ نَفْسَهُ بِالزَّوَاجِ مُقِيمًا غَيْرَ مُسَافِرٍ، وَأَمَّا تَأَوُّلُهَا الَّذِي رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْهَا فَهُوَ أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ ; لِأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ لَمَّا سَأَلَهَا: " يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهُ لَا يُشَقُّ عَلَيَّ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ وَيُعَارِضُهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ كَوْنُ فَرْضِ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ - الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنْهَا فَيَرْجَحُ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الثَّابِتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ إِلَّا عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا مُتَأَوِّلَيْنِ وَقَدْ عَرَفْتَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْإِتْمَامَ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَصِحَّ، فَالْحَقُّ مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ وُجُوبِ ذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهَلْ هُوَ أَصْلُ الْمَفْرُوضِ كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَوْ قَصْرٌ؟ خِلَافٌ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ
وَصَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ فِي الْقُرْآنِ، يَعْنِي صَلَاةَ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: يَا أَخِي إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ اهـ، أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ، وَالْحَاذِقُ مَنْ عَرِفَ كَيْفَ يُطَبِّقُ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقُرْآنِ فَهُوَ تَبْيِينٌ لَهُ لَا يَعْدِلُهُ تِبْيَانٌ.
مَسَافَةُ الْقَصْرِ
مِنَ الْمَبَاحِثِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ يُقَلِّدُهُمْ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ قَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ، وَكَذَا جَمْعَهَا وَالْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ، لَا يَكُونُ فِي كُلِّ سَفَرٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سَفَرٍ طَوِيلٍ وَأَقَلُّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مَرْحَلَتَانِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، وَالْعِبْرَةُ فِيهَا بِالذِّهَابِ، وَالْمَرْحَلَةُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّةً وَهِيَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ بِسَيْرِ الْأَقْدَامِ أَوِ الْأَثْقَالِ، أَيْ: الْإِبِلِ الْمُحَمَّلَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَلَا وَرْدَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ فُقَهَاءُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ، وَفِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ وَغَيْرَهُ نَقَلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (٢: ١٨٤)، أَنَّ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ يُبَاحُ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ سَفَرًا
302
طَالَ أَوْ قَصُرَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي السُّنَّةِ مَا يُقَيِّدُ هَذَا الْإِطْلَاقَ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى أَيْضًا وَنَذْكُرُ مِنْهَا الْفَتْوَى الْآتِيَةَ نَقْلًا مِنَ الْمُجَلَّدِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ وَهِيَ: (س ٥٢) مِنْ م. ب. ع. فِي سمبس برنيو (جاوه).
حَضْرَةُ فَخْرِ الْأَنَامِ، سَعْدِ الْمِلَّةِ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ، سَيِّدِي الْأُسْتَاذُ الْعَلَّامَةُ السَّيِّدُ مُحَمَّدْ رَشِيدْ رِضَا صَاحِبُ مِجَلَّةِ الْمَنَارِ الْغَرَّاءِ أَدَامَ اللهُ بِعَزِيزِ وَجُودِهِ النَّفْعَ، آمِينَ.
وَبَعْدُ إِهْدَاءُ أَشْرَفِ التَّحِيَّةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ فَيَا سَيِّدِي وَعُمْدَتِي أَرْجُو مِنْكُمُ الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا أُلْقِيهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَسْئِلَةِ لِتُجِيبُونِي عَنْهَا وَهِيَ - وَذَكَرَ أَسْئِلَةً - مِنْهَا:
هَلْ تُحَدُّ مَسَافَةُ الْقَصْرِ بِحَدِيثٍ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ وَإِلَى الطَّائِفِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ أَرْبَعَةٌ الْبُرُدُ هِيَ ثَمَانِيَةٌ
وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّةٌ؟ وَعَلَيْهِ فَكَمْ يَكُونُ قَدْرَ الْمَسَافَةِ الْمُعْتَبِرَةِ شَرْعًا بِحِسَابِ كِيلُو مِتْرٍ؟ أَفْتُونَا فَتْوَى لَا نَعْمَلُ إِلَّا بِهَا وَلَا نُعَوِّلُ إِلَّا عَلَيْهَا فَلَا زِلْتُمْ مَشْكُورِينَ وَكُنَّا لَكُمْ ذَاكِرِينَ:
ج: الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ ضَعِيفٍ، وَقَدْ نَسَبَهُ النَّوَوِيُّ إِلَى الْكَذِبِ، وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ رَوَيَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذْ لَمْ يَصِحَّ رَفْعُهُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَشُعْبَةُ هُوَ الشَّاكُّ فِي الْفَرَاسِخِ وَقَدْ يُقَالُ الْأَقَلُّ هُوَ الْمُتَيَقِّنُ، وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ حِكَايَةُ حَالٍ لَا تَحْدِيدَ فِيهَا، وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ فِي الْأَقْوَالِ فَهَلْ يُعَدُّ حُجَّةً فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ؟ وَهُنَاكَ وَقَائِعُ أُخْرَى فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَافَةِ.
فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَافَرَ فَرْسَخًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ بِسُكُوتِهِ عَنْهُ وَعَلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ وَأَقَلُّ مَا وَرَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِيلٌ وَاحِدٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ حَزْمٍ وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ عَدَمُ التَّحْدِيدِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي [ص ٤١٦ و٦٤٩ مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ].
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْبَرِيدَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَأَصْلُ الْمِيلِ مَدُّ الْبَصَرِ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَمِيلُ عَنْهُ فَلَا يُرَى، وَحُدُودُهُ بِالْقِيَاسِ، فَقَالُوا: هُوَ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، الذِّرَاعُ ١٤ أُصْبُعًا مُعْتَرِضَةٌ مُعْتَدِلَةٌ، وَالْأُصْبُعُ سِتُّ حَبَّاتٍ مِنَ الشَّعِيرِ مُعْتَرِضَةٌ مُعْتَدِلَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ بِقَدَمِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ أَيِ الْفَرْسَخُ ٥٥٤١ مِتْرًا اهـ.
303
هَذِهِ هِيَ الْفَتْوَى: وَأُزِيدُ الْآنَ: أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَدِ اعْتَمَدُوا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى تَحْدِيدِ سَفَرِ الْقَصْرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ، وَكَوْنِ الثَّانِي كَانَ يُسَافِرُ الْبَرِيدَ فَلَا يَقْصُرُ، وَهَذَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ
بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا قَصْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنْ يَقْصُرَ فِيمَا دُونَ يَوْمَيْنِ، يَعْنِي لَوْ بَلَغَهُ لَعَمِلَ بِهِ كَمَا هِيَ قَاعِدَتُهُ - رَحِمَهُ اللهُ -: " إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي "، وَقَدْ بَلَغَ غَيْرَهُ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ فِي هَذَا، وَهُوَ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ قَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ أَوْ أَمْيَالٍ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَأَصْرَحُهُ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ أَنَسًا سُئِلَ عَنِ الْقَصْرِ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَقَالَهُ، وَيُرَجِّحُ رِوَايَةَ الثَّلَاثَةِ الْأَمْيَالِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْفَرْسَخِ فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، فَوَجَبَ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ الْعَمَلُ بِهِ كَكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ.
كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ
قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِذْنِ بِالْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ أَيْ: وَإِذَا كُنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي جَمَاعَتِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِثْلُهُ فِي هَذَا كُلُّ إِمَامٍ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، إِقَامَةُ الصَّلَاةِ تُطْلَقُ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي يُدْعَى بِهِ إِلَى الدُّخُولِ فِيهَا وَهُوَ نِصْفُ ذِكْرِ الْأَذَانِ وَزِيَادَةُ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " مَرَّتَيْنِ بَعْدَ كَلِمَةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْأَذَانِ مَعَ زِيَادَةِ مَا ذُكِرَ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا مُقَوَّمَةً تَامَّةَ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَالْآدَابِ، وَالظَّاهِرُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، لِتَعْدِيَتِهِ بِاللَّامِ ; وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُبَيَّنَةَ فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ تَامَّةً بَلْ هِيَ مَقْصُورٌ مِنْهَا، وَتُقَابِلُ صَلَاةَ الْخَوْفِ هُنَا صَلَاةُ الِاطْمِئْنَانِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، فَمَعْنَى أَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ دَعَوْتَهُمْ إِلَى أَدَائِهَا جَمَاعَةً، أَيْ: وَالْزَمَنُ زَمَنُ الْحَرْبِ وَفِتْنَةُ الْكُفَّارِ مُخَوِّفَةٌ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، فِي الصَّلَاةِ يَقْتَدُونَ بِكَ وَيَبْقَى الْآخَرُونَ مُرَاقِبِينَ الْعَدُوَّ يَحْرُسُونَ الْمُصَلِّينَ خَوْفًا مِنَ اعْتِدَائِهِ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، أَيْ: وَلِيَحْمِلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَعَكَ فِي الصَّلَاةِ أَسْلِحَتَهُمْ وَلَا يَدَعُوهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَضْطَرُّوا إِلَى الْمُكَافَحَةِ عَقِبَهَا مُبَاشَرَةً أَوْ قَبْلَ إِتْمَامِهَا فَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ أَيْ جُمْلَةٍ هُوَ لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى لِقِيَامِهَا
بِالْحِرَاسَةِ، وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ أَنْ يَكُونَ لِلطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا أَيْ وَلْيَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ انْقِسَامِهِمْ إِلَى طَائِفَتَيْنِ وَاحِدَةٍ تُصَلِّي وَوَاحِدَةٍ تُرَاقِبُ وَتَحْرُسُ - حَامِلِينَ لِلسِّلَاحِ لَا يَتْرُكُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْجَمِيعِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يَحْمِلُوا أَسْلِحَتَهُمْ إِلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا قِتَالٌ وَلَا نِزَالٌ، فَاحْتِيجَ إِلَى الْأَمْرِ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مَظَنَّةُ الْمَنْعِ أَوِ الِامْتِنَاعِ، وَالْأَسْلِحَةُ جَمْعُ سِلَاحٍ وَهُوَ كُلُّ مَا يُقَاتَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ مِنْهُ فِي حَالِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ
304
التَّامَّةِ الْأَرْكَانِ مَا يَسْهُلُ حَمْلُهُ فِيهَا كَالسَّيْفِ وَالْخِنْجَرِ وَالنِّبَالِ مِنْ أَسْلِحَةِ الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَمِثْلَ الْبُنْدُقِيَّةِ عَلَى الظَّهْرِ وَالْمُسَدَّسِ فِي الْحِزَامِ أَوِ الْجَيْبِ مِنْ أَسْلِحَةِ هَذَا الْعَصْرِ فَإِذَا سَجَدُوا، أَيْ: فَإِذَا سَجَدَ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَعَكَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ أَيْ: فَلْيَكُنِ الْآخَرُونَ الَّذِينَ يَحْرُسُونَكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ، وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ الْمُصَلِّي لِلْحِرَاسَةِ سَاجِدًا ; لِأَنَّهُ لَا يَرَى حِينَئِذٍ مَنْ يَهُمُّ بِهِ، أَوْ عَبَّرَ بِالسُّجُودِ عَنِ الصَّلَاةِ أَيْ: إِتْمَامُهَا ; لِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْبَاقُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِيَامِ مَقَامَهُمْ وَالصَّلَاةُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَلُّوا، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، أَيْ: وَلْتَأْتِ طَائِفَةُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْحِرَاسَةِ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ كَمَا صَلَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ فِي الصَّلَاةِ كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَزَادَ هُنَا الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَهُوَ التَّيَقُّظُ وَالِاحْتِرَاسُ مِنَ الْمَخْلُوفِ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَلْ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِيهَا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ (٧١)، قِيلَ: إِنَّ حِكْمَةَ الْأَمْرِ بِالْحَذَرِ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَلَّمَا يَتَنَبَّهُ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، بَلْ يَظُنُّ إِذَا رَآهُمْ صَفًا أَنَّهُمْ قَدِ اصْطَفَوْا لِلْقِتَالِ، وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ وَالنِّزَالِ، فَإِذَا رَآهُمْ سَجَدُوا عَلِمَ أَنَّهُمْ فِي صَلَاةٍ، فَيُخْشَى أَنْ يَمِيلَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ قِيَامِهَا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا يَتَرَبَّصُ ذَلِكَ بِهِمْ عِنْدَ كُلِّ غَفْلَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - لَنَا هَذَا مُعَلِّلًا بِهِ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَالسِّلَاحِ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، أَيْ: تَمَنَّى أَعْدَاؤُكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ
وَأَمْتِعَتِكُمُ الَّتِي بِهَا بَلَاغُكُمْ فِي سَفَرِكُمْ بِأَنْ تَشْغَلَكُمْ صَلَاتُكُمْ عَنْهَا فَيَمِيلُونَ حِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ، أَيْ: يَحْمِلُونَ عَلَيْكُمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً وَأَنْتُمْ مَشْغُولُونَ بِالصَّلَاةِ وَاضِعُونَ لِلسِّلَاحِ تَارِكُونَ حِمَايَةَ الْمَتَاعِ وَالزَّادِ، فَيُصِيبُونَ مِنْكُمْ غِرَّةً فَيَقْتُلُونَ مَنِ اسْتَطَاعُوا قَتْلَهُ، وَيَنْتَهِبُونَ مَا اسْتَطَاعُوا أَخْذَهُ، فَلَا تَغْفُلُوا عَنْهُمْ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُمْ سَبِيلًا عَلَيْكُمْ، وَهَذَا الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْتَصُّ الطَّائِفَةَ الْحَارِسَةَ دُونَ الْمُصَلِّيَةِ وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا وَحِكَمِهَا.
وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْمُحَارِبِينَ، وَكَانَ يَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الْعُذْرِ مَا يَشُقُّ مَعَهُ حَمْلُ السِّلَاحِ، عَقَّبَ عَلَى الْعَزِيمَةِ بِالرُّخْصَةِ لِصَاحِبِ الْعُذْرِ فَقَالَ: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ، أَيْ: وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْكُمْ وَلَا إِثْمَ فِي وَضْعِ أَسْلِحَتِكُمْ إِذَا أَصَابَكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ تُمْطَرُونَهُ فَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُ السِّلَاحِ مَعَ ثِقَلِهِ فِي ثِيَابِكُمْ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَ الْمَاءُ السِّلَاحَ ; لِأَنَّهُ سَبَبُ الصَّدَأِ، أَوْ إِذَا كُنْتُمْ مَرْضَى بِالْجِرَاحِ أَوْ غَيْرِ الْجِرَاحِ مِنَ الْعِلَلِ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تَأْخُذُوا
305
حِذْرَكُمْ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ، فَإِنَّ عَدْوَكُمْ لَا يَغْفُلُ عَنْكُمْ وَلَا يَرْحَمُكُمْ، وَالضَّرُورَةُ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، بِمَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، كَإِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الْقُوَّةِ وَأَخْذِ الْحَذَرِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ، وَرَجَاءِ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرِّضْوَانِ وَالْأَجْرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَذَابَ ذَا الْإِهَانَةِ هُوَ عَذَابُ الْغَلَبِ وَانْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ إِذَا قَامُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا السِّيَاقِ كَالْأَمْرِ بِذِكْرِ اللهِ كَثِيرًا وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ (٤: ١٠٤)، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (٩: ١٤)، وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَنْفِي مَا رُبَّمَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ السِّلَاحِ وَالْحَذَرِ يُشْعِرُ بِتَوَقُّعِ النَّصْرِ لِلْأَعْدَاءِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الْآيَةِ لِلْمَرْضَى، نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
وَكَانَ جَرِيحًا، وَالْمَعْنَى عِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ قَدِ انْطَبَقَ حُكْمُهَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ بِأَحْكَامٍ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُسْفَانَ فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ وَعَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظَّهْرَ فَقَالُوا: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لَوْ أَصَبْنَا غُرَّتَهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: يَأْتِي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ; فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، الْحَدِيثَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرِبْنِ عَبْدِ اللهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
كَيْفِيَّاتُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي السُّنَّةِ
(١) وَرَدَ فِي أَدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَلَاةِ الْخَوْفِ جَمَاعَةً - كَيْفِيَّاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ أَنَّ أُصُولَهَا سِتٌّ، وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي وَقَائِعِهَا وَاعْتَمَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ كَيْفِيَّةٍ مِنْهَا صَحَّتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَهَاكَ أُصُولُهَا الْمَشْهُورَةُ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ (وَفِي لَفْظٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ) أَنَّ طَائِفَةً صُفَّتْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ - أَيْ تُجَاهَهُ مُرَاقَبَةً لَهُ فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى
306
فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فَسَلَّمَ بِهِمْ، وَغَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ هَذِهِ هِيَ غَزْوَةُ نَجْدٍ، لَقِيَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ فَتُوَافَقُوا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَلَكِنَّ الْقِتَالَ كَانَ مُنْتَظَرًا، فَلِذَلِكَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَسُمِّيَتْ ذَاتُ الرِّقَاعِ ; لِأَنَّهَا نَقَبَتْ أَقْدَامَهُمْ فَلَفُّوا عَلَى أَرْجُلِهِمُ الرِّقَاعَ أَيِ الْخِرَقَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ حِجَارَةَ تِلْكَ الْأَرْضِ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ كَالرِّقَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ فِي حَالَةِ كَوْنِ الْعَدْوِ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَهِيَ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ السُّجُودِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَظَاهِرُهَا أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُصَلِّي
رَكْعَةً وَاحِدَةً هِيَ فَرْضُهَا لَا تُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ، لَا مَعَ الْإِمَامِ وَلَا وَحْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَقَدْ قَالَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَفْقَهُ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهَا مِنْ فُقَهَاءِ آلِ الْبَيْتِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - الْقَاسِمُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاللهِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ، وَمِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ.
(٢) رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةٌ لِلْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً.
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ تَنْطَبِقُ عَلَى الْآيَةِ أَيْضًا وَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي حَالِ كَوْنِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى إِلَّا فِي قَضَاءِ كُلِّ فُرْقَةٍ رَكْعَةً بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ لِيَتِمَّ لَهَا رَكْعَتَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا تَأْتِيَانِ بِالرَّكْعَتَيْنِ عَلَى التَّعَاقُبِ لِأَجْلِ الْحِرَاسَةِ، وَأَمَّا فَرْضُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْكَيْفِيَّةِ الْأُولَى فَرَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تُتِمُّ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْطَعَ صَلَاتَهَا بِالْحِرَاسَةِ، فَتَكُونُ رَكْعَتَاهَا مُتَّصِلَتَيْنِ، وَأَنَّ الْأُولَى لَا تُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَنْصَرِفَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاتِهَا إِلَى مُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُسْعُودٍ فَإِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ وَقَامَ هَؤُلَاءِ أَيْ: الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا، وَقَدْ أَخَذَ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَشْهَبُ وَرَجَّحَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى غَيْرِهَا بِقُوَّةِ الْإِسْنَادِ وَمُوَافَقَتِهَا لِلْأُصُولِ فِي كَوْنِ الْمَأْمُومِ يُتِمُّ صَلَاتَهُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ.
(٣) رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعٌ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ ".
307
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى الْآيَةِ أَيْضًا، وَكَانَتْ كَاللَّتَيْنِ ذُكِرَتَا قَبْلَهَا فِي حَالِ وُجُودِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا تَفْصِيلٌ، كَأَنَّ جَابِرًا قَالَ مَا قَالَهُ لِمَنْ كَانَ يَعْرِفُ الْقِصَّةَ وَكَوْنُ كُلِّ طَائِفَةٍ كَانَتْ تُرَاقِبُ الْعَدُوَّ فِي جِهَتِهِ عِنْدَ صَلَاةِ الْأُخْرَى، أَوْ أَنَّ الرَّاوِيَ
عَنْهُ ذَكَرَ مِنْ مَعْنَى حَدِيثِهِ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ لِلْجَمَاعَةِ وَأَرْبَعًا لِلْإِمَامِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ لِكُلٍّ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَالْإِمَامِ، وَفِي رِوَايَةِ سَهْلٍ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِلْجَمَاعَةِ وَرَكْعَةً لِلْإِمَامِ، فَلَا فَرْقَ إِلَّا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذِهِ كَانَتْ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَكَذَلِكَ الْأُولَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَةَ كَانَتْ فِيهَا أَيْضًا أَوْ فَي غَزْوَةٍ مِثْلَهَا كَانَ الْعَدُوُّ فِيهَا فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِآخَرِينَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَلَّى بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَكَانُوا فِي مَقَامِهِمْ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَصَارَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وَقَدْ أَعَلُّوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ أَسْلَمَ بَعْدَ وُقُوعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِمُدَّةٍ وَأَجَابَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ عَمَّنْ صَلَّاهَا، فَيَكُونُ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَكَوْنَهَا تَفْسِيرًا لِمَا قَبْلَهَا - مُوَافَقَتُهَا لِلْآيَةِ فَضْلَ مُوَافِقَةٍ بِتَصْرِيحِهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَلَّاهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ كَانَتَا لَهُ نَفْلًا وَلَهَا فَرْضًا.
وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَحَكَوْهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إِذْ لَا دَلِيلَ لِنَسْخِهِ اهـ، أَقُولُ: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ إِعَادَةِ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ يَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ، وَلَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ النَّفْلُ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِجَوَازِ أَنْ تُحْسَبَ الثَّانِيَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ، وَمُوَافِقَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فِي عَدَمِ زِيَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَكْعَتَيْنِ فِي سَفَرِهِ، حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ الَّذِينَ يُجِيزُونَ أَدَاءَ الرُّبَاعِيَّةِ تَامَّةً فِي السَّفَرِ قَالُوا: إِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ كَانَتَا نَفْلًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ صَلَّى الْأَرْبَعَ مَوْصُولَةً لَكَانَ لِمُدَّعٍ أَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ اطِّرَادِ ذَلِكَ النَّفْيِ.
(٤) رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ احْتَجَّ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ وَابْنُ حَبَّانَ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِذِي قَرَدٍ - بِالتَّحْرِيكِ - وَهُوَ مَاءٌ عَلَى مَسَافَةِ لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَيْبَرَ، فَصَفَّ النَّاسَ صَفَّيْنِ ; صَفًّا خَلْفَهُ
308
وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينِ خَلْفَهُ رَكْعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا رَكْعَةً وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَصَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا، وَرَوَيَا مِثْلَ صَلَاةِ حُذَيْفَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ زَادِ الْمَعَادِ وَهُوَ: فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْقَوْلُ بِهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَمَنْ تَبِعَهُمَا.
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا ; إِذْ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ صَلَّتْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا أَتَمَّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَاتِ الْإِتْمَامِ: بِأَنَّ أَقَلَّ الْوَاجِبِ فِي الْخَوْفِ مَعَ السَّفَرِ رَكْعَةٌ، وَيَجُوزُ جَعْلُهَا رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ صَلَاةِ السَّفَرِ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ صَلَاةَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلَا يَتَّجِهُ هَذَا إِلَّا بِنَقْلٍ يُعْلَمُ بِهِ ذَلِكَ وَلَوْ بِبَيَانِ أَنَّ الْخَوْفَ كَانَ شَدِيدًا فِي الْغَزَوَاتِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً بِكُلِّ طَائِفَةٍ وَلَمْ تَقْضِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا أَيْ لَمْ تُتِمَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الْأَعْمَالُ لَا تُعَدُّ شُرُوطًا لَهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ.
(٥) رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ فَقَامَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّ وَظُهُورُهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ فَكَبَّرَ فَكَبَّرُوا جَمِيعًا الَّذِينَ مَعَهُ، وَالَّذِينَ مُقَابِلُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَرَكَعَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَتِ
الطَّائِفَةُ الَّتِي تَلِيهِ، وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ مُقَابِلِي الْعَدُوِّ، ثُمَّ قَامَ وَقَامَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ فَذَهَبُوا إِلَى الْعَدُوِّ فَقَابَلُوهُمْ، وَأَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ، ثُمَّ قَامُوا فَرَكَعَ رَكْعَةً أُخْرَى وَرَكَعُوا مَعَهُ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلَ الْعَدُوِّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدٌ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ كَانَ السَّلَامُ فَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا جَمِيعًا، فَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَانِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَانِ.
هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ تُشَارِكُ مَا قَبْلَهَا بِكَوْنِهَا مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي كَانَ الْعَدُوُّ فِيهَا فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَكَوْنُهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ نَجْدٍ وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَكَانَتْ بِأَرْضِ غَطَفَانَ، وَهُنَاكَ مَكَانٌ يُسَمَّى بَطْنَ نَخْلٍ وَهُوَ الَّذِي صَلَّى فِيهِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتُخَالِفُهَا كُلُّهَا
309
كَمَا تُخَالِفُ مَا أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ فِيمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا لِلْقِيَامِ تُجَاهَ الْعَدُوِّ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَتُخَالِفُ الْأَصْلَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَقْتَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ فَصَرَّحَتْ بِأَنَّهُ كَبَّرَ مَعَهُ الَّذِينَ صُفُّوا مَعَهُ قَالَتْ: " كَبَّرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَبَّرَتِ الطَّائِفَةُ الَّذِينَ صُفُّوا مَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدُوا ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعُوا، ثُمَّ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ سَجَدُوا هُمْ لِأَنْفُسِهِمُ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَامُوا فَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى حَتَّى قَامُوا مِنْ وَرَائِهِمْ وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَقَامُوا فَكَبَّرُوا ثُمَّ رَكَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَجَدَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَجَدُوا مَعَهُ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَجَدُوا لِأَنْفُسِهِمُ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَامَتِ الطَّائِفَتَانِ جَمِيعًا فَصَلُّوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَكَعَ فَرَكَعُوا ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدُوا جَمِيعًا ثُمَّ عَادَ فَسَجَدَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدُوا مَعَهُ سَرِيعًا كَأَسْرَعِ الْإِسْرَاعِ ثُمَّ سَلَّمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمُوا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ شَارَكَهُ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي عَنْعَنَتِهِ لَا فِي سَمَاعِهِ، وَهَذِهِ كَيْفِيَّةٌ أُخْرَى أَجْدَرُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهَا لِخُلُوِّهَا مِنْ ذِكْرِ الْإِحْرَامِ مَعَ عِلْمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَكَأَنَّ عَائِشَةَ أَجَابَتْ عَنْ تَرْكِ الْحِرَاسَةِ بِالْإِسْرَاعِ فِي السُّجُودِ، وَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَمَا أَرَى أَنَّ الشَّيْخَيْنِ تَرَكَا ذِكْرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي صَحِيحِيهِمَا لِأَجْلِ سَنَدَيْهِمَا فَقَطْ.
(٦) رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ خَلْفَهُ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعَنَا جَمِيعًا ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ وَقَامَ الصَّفُّ الْآخَرُ فِي نَحْرِ الْعَدْوِ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَرَفَعَنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا قَالَ فِي الْمُنْتَقَى بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ وَقَالَ: فَصَلَّاهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِعُسْفَانَ وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ وَالْبُخَارِيُّ لَمْ يُخَرِّجْ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ: إِنَّ جَابِرًا صَلَّى
310
مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ، وَأُجِيبُ بِتَعَدُّدِ الصَّلَاةِ وَحُضُورِ جَابِرٍ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَعُسْفَانُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ.
وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى نَصِّ الْآيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ كَانَ فِيهَا الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ فَاحْتِيجَ إِلَى وُقُوفِ طَائِفَةٍ تُجَاهَهُ لِحِرَاسَةِ الْمُصَلِّينَ وَلِهَذَا اسْتَنْكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ فِي الْكَيْفِيَّةِ الْخَامِسَةِ، وَفِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَاكْتُفِيَ فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَّا يَسْجُدَ الصَّفَّانِ مَعًا بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ ; لِأَنَّ حَالَ الْعَدُوِّ لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ إِلَّا فِي وَقْتِ السُّجُودِ.
(٧) رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (٢: ٢٣٩)، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَقَالَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا رِجَالًا - جَمْعُ رَاجِلٍ وَهُوَ مَا يُقَابِلُ الرَّاكِبَ - قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ مَالِكٌ قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ.
وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ مَرْفُوعًا قَالَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَقَالَ: " فَإِنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ
ذَلِكَ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا "، أَيْ: يُصَلِّي كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُ وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِيمَاءً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ صَلَاةُ النَّاسِ فُرَادَى عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ أَوِ الْفِرَارِ مِنَ الْخَوْفِ، لَا مِنَ الزَّحْفِ، أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ الْعَدُوِّ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَنْ يَطْلُبُ الْعَدُوَّ وَمَنْ يَطْلُبُهُ الْعَدُوُّ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَطْلُوبَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ يُومِئُ إِيمَاءً وَإِنْ كَانَ طَالِبًا نَزَلَ فَصَلَّى بِالْأَرْضِ.
وَفَصَّلَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ أَصْحَابِهِ فَيَخَافُ عَوْدَ الطَّلُوبِ عَلَيْهِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مُتَعَقَّبٌ بِكَلَامِ الْأَوْزَاعِيِّ فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ طَالِبًا مِنْ مَطْلُوبٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ عَمَلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ عِنْدَمَا أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ لِيَقْتُلَهُ إِذْ كَانَ يَجْمَعُ الْجُمُوعَ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: " فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي وَأُومِئُ إِيمَاءً "، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ مِنَ الْآيَةِ التَّالِيَةِ كَمَا يَأْتِي.
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ، أَيْ: أَدَّيْتُمُوهَا وَأَتْمَمْتُمُوهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ كَمَا بَيَّنَّا لَكُمْ مِنَ الْقَصْرِ مِنْهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ، وَقَوْلُهُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ (٢: ٢٠٠)، فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ أَيْ: اذْكُرُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ بِتَذَكُّرِ وَعْدِهِ بِنَصْرِ مَنْ
311
يَنْصُرُونَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِعْدَادِ الثَّوَابِ وَالرِّضْوَانِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَهُ مَا دَامُوا مُهْتَدِينَ بِكِتَابِهِ، جَارِينَ عَلَى سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَبِأَلْسِنَتِكُمْ بِالْحَمْدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ، اذْكُرُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ تَكُونُونَ عَلَيْهَا مِنْ قِيَامٍ فِي الْمُسَايَفَةِ وَالْمُقَارَعَةِ، وَقُعُودٍ لِلرَّمْيِ أَوِ الْمُصَارَعَةِ، وَاضْطِجَاعٍ مِنَ الْجِرَاحِ أَوِ الْمُخَادَعَةِ، لِتَقْوَى قُلُوبُكُمْ وَتَعْلُوَ هِمَمُكُمْ، وَتَحْتَقِرُوا مَتَاعِبَ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا فِي سَبِيلِهِ فَهَذَا مِمَّا يُرْجَى بِهِ الثَّبَاتُ وَالصَّبْرُ، وَمَا يَعْقُبُهُمَا مِنَ الْفَلَاحِ وَالنَّصْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٨: ٤٥).
وَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالذِّكْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ نَكُونُ عَلَيْهَا فِي الْحَرْبِ كَمَا يُعْطِيهِ السِّيَاقُ، فَأَجْدَرُ بِنَا أَنْ نُؤْمَرَ بِذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ السِّلْمِ كَمَا يُعْطِيهِ الْإِطْلَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي حَرْبٍ
دَائِمَةٍ وَجِهَادٍ مُسْتَمِرٍّ، تَارَةً يُجَاهِدُ الْأَعْدَاءَ، وَتَارَةً يُجَاهِدُ الْأَهْوَاءَ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْعُقَلَاءَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ (٣: ١٩١)، وَأَمَرَهُمْ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَذَكَرَ اللهُ أَعْوَانَ مَا يُعِينُ عَلَى تَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ الْغَافِلُونَ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَا يَفْرِضُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا جَزَاءً مَعْلُومًا ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حَالِ عُذْرٍ، غَيْرَ الذِّكْرِ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ، إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، فَقَالَ: فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَفِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّقَمِ وَالصِّحَّةِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ اهـ.
فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أَيْ: فَإِذَا اطْمَأَنَّتْ أَنْفُسُكُمْ بِالْأَمْنِ وَزَالَ خَوْفُكُمْ مِنَ الْعَدُّوِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، أَيِ ائْتُوا بِهَا مَقُومَةً تَامَّةَ الْأَرْكَانِ وَالْحُدُودِ وَالْآدَابِ، لَا تُقَصِّرُوا مِنْ هَيْئَتِهَا كَمَا أَذِنَ لَكُمْ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْخَوْفِ، وَلَا مِنْ رَكَعَاتِهَا وَنِظَامِ جَمَاعَتِهَا كَمَا أَذِنَ لَكُمْ فِي حَالٍ أُخْرَى مِنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالِاطْمِئْنَانِ الِاسْتِقْرَارُ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّفَرِ لِأَنَّهُ مَظَنَّتُهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُقَابِلًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ الْقَصْرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ إِذَا عَرَضَ الْخَوْفُ، وَمِنْ كَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَالْمُرَادُ بِالِاطْمِئْنَانِ فِيهِ مَا يُقَابِلُ السَّفَرَ وَالْخَوْفَ جَمِيعًا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ مَا يُقَابِلُ الْقَصْرَ مِنْهَا بِنَوْعَيْهِ: الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا وَحُدُودِهَا، وَالْقَصْرُ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَرَ تُقَابِلُهُ الْإِقَامَةُ، وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا أَقَمْتُمْ، وَالْخَوْفُ يُقَابِلُهُ الْأَمْنُ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (١٠٦: ٤)، وَلَمْ يَقُلْ هُنَا فَإِذَا أَمِنْتُمْ، وَمَعْنَى الِاطْمِئْنَانِ السُّكُونُ بَعْدَ اضْطِرَابٍ وَانْزِعَاجٍ فَهُوَ يُقَابِلُ كُلًّا مِنَ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ، إِذْ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ زَالَ خَوْفُهُ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ اطْمَأَنَّ نَوْعًا مِنَ الِاطْمِئْنَانِ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَنِ انْتَهَى سَفَرُهُ وَاسْتَقَرَّ فِي وَطَنِهِ أَنَّهُ اطْمَأَنَّ نَوْعًا مِنَ الِاطْمِئْنَانِ.
312
وَهَذَا الْمَعْنَى يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ وَرَدَتَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَا صَلَاةِ السَّفَرِ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ قَدْ ثَبَتَ الْقَصْرُ فِيهَا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ،
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا شُرِعَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ فَقَطْ فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ، وَمَعَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا جَامِعَتَانِ لِصَلَاةِ السَّفَرِ بِقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ فِيهِ، وَلِصَلَاةِ الْخَوْفِ بِأَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا مَا تَكُونُ فَرِيضَةُ الْمَأْمُومِ فِيهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالْإِيمَاءِ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ فِي اشْتِرَاطِ الْخَوْفِ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَفْهُومًا أَوْ جَعَلَ مَفْهُومَهُ مَنْسُوخًا، وَمَنْ فَصَلَ فَجَعَلَ شَرْطَ السَّفَرِ خَاصًّا بِقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ إِلَى ثِنْتَيْنِ وَشَرْطَ الْخَوْفِ خَاصًّا بِقَصْرِهَا إِلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوِ الْقَصْرِ مِنْ هَيْئَتِهَا وَأَرْكَانِهَا.
وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْنَى آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَجَعَلَ قَضَاءَ الصَّلَاةِ فِيهَا عِبَارَةً عَنْ أَدَائِهَا، وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَى: فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالْقِتَالِ فَصَلُّوا قِيَامًا مُسَايِفِينَ وَمُقَارِعِينَ، وَقُعُودًا جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ مُرَامِينَ، وَعَلَى جُنُوبِكُمْ مُثْخَنِينَ بِالْجِرَاحِ، وَفَسَّرَ الِاطْمِئْنَانَ بِالْأَمْنِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِقَضَاءِ مَا صَلَّى بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، أَيِ الْقَضَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي الْفِقْهِ وَهُوَ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، وَجَعَلَ الْآيَةَ بِهَذَا حُجَّةً لِلشَّافِعِيِّ فِي إِيجَابِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي حَالِ الْقِتَالِ فِي الْمَعْرَكَةِ كَيْفَمَا اتَّفَقَ ثُمَّ قَضَائَهَا فِي وَقْتِ الْأَمْنِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يُجِيزُ تَرْكَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَتَأْخِيرَهَا إِلَى أَنْ يَطْمَئِنَّ، وَقَدْ خَرَجَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا عَنِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنَ اسْتِعْمَالِ لَفْظَيِ الْقَضَاءِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ الدَّقِيقُ فِي فَهْمِ اللُّغَةِ وَتَفْسِيرِ أَكْثَرِ الْآيَاتِ بِمَا يُفْصِحُ عَنْهُ صَمِيمُهَا الْمَحْضُ، أُسْلُوبُهَا الْغَضُّ فَسُبْحَانَ الْمُنَزَّهِ عَنِ الذُّهُولِ وَالسَّهْوِ.
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا هَذَا تَذْيِيلٌ فِي تَعْلِيلِ وُجُوبِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ حَتَّى فِي وَقْتِ الْخَوْفِ وَلَوْ مَعَ الْقَصْرِ مِنْهَا، أَيْ: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي حُكْمِ اللهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِي هِدَايَةِ عِبَادِهِ كِتَابًا، أَيْ: فَرْضًا مُؤَكَّدًا ثَابِتًا ثُبُوتَ الْكِتَابِ فِي اللَّوْحِ أَوِ الطِّرْسِ، مَوْقُوتًا، أَيْ: مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ لَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا فِيهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَأَنَّ أَدَاءَهَا فِي أَوْقَاتِهَا مَقْصُورًا مِنْهَا بِشَرْطِهِ خَيْرٌ مِنْ تَأْخِيرِهَا لِقَضَائِهَا تَامَّةً، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ حِكْمَةِ التَّوْقِيتِ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ "، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ مَوْقُوتًا مُنَجَّمًا، كُلَّمَا مَضَى نَجْمٌ جَاءَ نَجْمٌ، قَالَ: يَقُولُ: كُلَّمَا مَضَى وَقْتٌ جَاءَ وَقْتٌ آخَرُ اهـ، يُقَالُ: وَقَتَ الْعَمَلَ يَقِتُهُ كَوَعَدَهُ يَعِدُهُ، وَوَقَّتَهُ تَوْقِيتًا إِذَا جَعَلَ لَهُ
وَقْتًا يُؤَدَّى فِيهِ، وَيُقَالُ: أَقَّتَهُ أَيْضًا بِالْهَمْزَةِ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ، كَمَا يُقَالُ: وَكَّدْتُ الشَّيْءَ تَوْكِيدًا وَأَكَّدْتُهُ تَأْكِيدًا.
313
حُكْمُ تَوْقِيتِ الصَّلَاةِ
التَّشْكِيكُ شَنْشَنَةٌ لِأَهْلِ الْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ مِنْ دُعَاةِ الْمِلَلِ، وَمُتَعَصِّبِي مُقَلَّدَةِ الْمَذَاهِبِ وَالنِّحَلِ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ يَتَّخِذُونَهُ صِنَاعَةً وَحِرْفَةً كَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِينَ عَرَفْنَاهُمْ فِي بِلَادِنَا، وَقَدْ صَارَ بَعْضُ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ يُرَوَّجُ فِي سُوقِ الْمُتَفَرْنِجِينَ، فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ مِنَ التَّفَصِّي مِنْ عُقُلِ الدِّينِ، وَمِنْ أَغْرَبِ ذَلِكَ اعْتِرَاضُهُمْ عَلَى تَوْقِيتِ الصَّلَاةِ وَزَعْمُهُمْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهَا رُسُومًا صُورِيَّةً، وَعَادَاتٍ بَدَنِيَّةً، وَأَنَّ الْمَعْقُولَ أَنْ يُوَكَّلَ هَذَا إِلَى اخْتِيَارِ الْمُؤْمِنِ فَيَذْكُرُ رَبَّهُ وَيُنَاجِيهِ عِنْدَمَا يَجِدُ فَرَاغًا تَسْلَمُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الشَّوَاغِلِ، وَلَا تُوجَدُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ أَوِ الْقَوَانِينِ، وَلَا نَظَرِيَّةٌ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَلَا مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِ وَالْآدَابِ، إِلَّا وَيُمْكِنُ الْجِدَالُ فِيهَا، وَالْمِرَاءُ فِي نَفْعِهَا أَوْ ضَرِّهَا، وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ١٣٢٨ هـ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَأَجَبْتُ عَنْهَا جَوَابًا وَجِيزًا مُسْتَعْجَلًا نُشِرَ فِي ص ٥٧٩ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ، وَقَدْ وَرَدَ مَعَ أَسْئِلَةٍ أُخْرَى:
" إِذَا كَانَتِ الْغَايَةُ مِنَ الصَّلَاةِ هِيَ الْإِخْلَاصُ لِلْخَالِقِ بِالْقَلْبِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَرْقِيَةِ النُّفُوسِ، وَكَانَ مِنَ الْمُحَتَّمِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ صَلَاتَهُ بِمَوَاعِيدَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ وَالنَّاسُ عَلَى مَا تَرَى، أَنَّ كُلَّ الصَّلَوَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ هِيَ بِإِخْلَاصٍ عِنْدَ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ؟ وَإِذَا كَانَ الْجُزْءُ الْقَلِيلُ مِنْهَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الدِّينِ وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ فَلِمَاذَا لَا تُتْرَكُ الْحُرِّيَّةُ التَّامَّةُ لِلنَّاسِ فِي تَحْدِيدِ مَوَاعِيدِ إِقَامَةِ صَلَوَاتِهِمْ؟ وَإِلَّا فَمَا هِيَ الْفَائِدَةُ الَّتِي تَعُودُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِلَا إِخْلَاصٍ وَلَا مَيْلٍ حَقِيقِيٍّ لِلْعِبَادَةِ، بَلِ اتِّبَاعًا لِلْمَوَاعِيدِ، وَاحْتِرَامًا لِلتَّقَالِيدِ؟
وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ:
الْجَوَابُ عَنْ هَذَا يَتَّضِحُ لَكُمْ إِذَا تَدَبَّرْتُمْ تَفَاوُتَ الْبَشَرِ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَكَوْنَ
الدِّينِ هِدَايَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ لَا خَاصًّا بِمَنْ كَانَ مِثْلَكُمْ قَوِيَّ الِاسْتِعْدَادِ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَفِيهِ الْفَائِدَةُ وَالْخَيْرُ، بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ إِلَى اجْتِهَادِهِ لَا يَتْرُكُ الْعِنَايَةَ بِتَكْمِيلِ إِيمَانِهِ، وَتَهْذِيبِ نَفْسِهِ، وَشُكْرِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي الْمَدَارِسِ الْعَالِيَةِ وَالْبَاحِثِينَ فِي عِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ يَنْتَقِدُونَ مَشْرُوعِيَّةَ تَوْقِيتِ الصَّلَوَاتِ وَالْوُضُوءِ وَقَرْنَ مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ بِعِلَلٍ مُوجِبَةٍ وَعِلَلٍ غَيْرِ مُوجِبَةٍ عَلَى الْحَتْمِ، وَلَكِنْ تَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ، وَرُبَّمَا انْتَقَدُوا أَيْضًا وُجُوبَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ يَجِبُ أَنْ تُتْرَكَ لِاجْتِهَادِ الْإِنْسَانِ يَأْتِيهَا عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا، وَالْعَقْلُ يُحَدِّدُ ذَلِكَ وَيُوَقِّتُهُ! ! هَؤُلَاءِ تَرَبَّوْا عَلَى شَيْءٍ وَتَعَلَّمُوا فَائِدَتَهُ فَحَسِبُوا لِاعْتِيَادِهِمْ وَاسْتِحْسَانِهِمْ إِيَّاهُ أَنَّهُمُ اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ وَلَمْ يَحْتَاجُوا فِيهِ إِلَى إِيجَابِ مُوجِبٍ وَلَا فَرْضِ شَارِعٍ،
314
وَأَنَّ مَا جَازَ عَلَيْهِمْ يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَكِلَا الْحُسْبَانَيْنِ خَطَأٌ، فَهُمْ قَدْ تَرَبَّوْا عَلَى أَعْمَالٍ مِنَ الطَّهَارَةِ - النَّظَافَةِ - مِنْهَا مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ كَغَسْلِ الْأَطْرَافِ فِي الصَّبَاحِ - التُّوَالِيتْ - وَهُوَ مِثْلُ الْوُضُوءِ، أَوِ الْغُسْلِ الْعَامِّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَتَعَلَّمُوا مَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ وَالْفَائِدَةِ، فَقِيَاسُ سَائِرِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ خَطَأٌ جَلِيٌّ.
إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ فِي وَقْتِهِ إِذَا تُرِكَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ ; وَلِذَلِكَ تَرَى الْبُيُوتَ الَّتِي لَا يَلْتَزِمُ أَصْحَابُهَا أَوْ خَدَمُهَا كَنْسَهَا وَتَنْفِيضَ فُرُشِهَا وَأَثَاثِهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ - عُرْضَةً لِلْأَوْسَاخِ، فَتَارَةً تَكُونُ نَظِيفَةً، وَتَارَةً تَكُونُ غَيْرَ نَظِيفَةٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَكْنُسُونَهَا وَيَنْفُضُونَ فُرُشَهَا وَبُسُطَهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ لَمْ يُلِمَّ بِهَا أَذًى أَوْ غُبَارٌ فَهِيَ الَّتِي تَكُونُ نَظِيفَةً دَائِمًا ; فَإِذَا كَانَتِ الْفَلْسَفَةُ تَقْضِي بِأَنْ يُزَالَ الْوَسَخُ وَالْغُبَارُ بِالْكَنْسِ وَالْمَسْحِ وَالتَّنْفِيضِ عِنْدَ حُدُوثِهِ، وَأَنْ يُتْرَكَ الْمَكَانُ أَوِ الْفِرَاشُ أَوِ الْبِسَاطُ عَلَى حَالِهِ إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَالتَّرْبِيَةُ التَّجْرِيبِيَّةُ تَقْضِي بِأَنْ تُتَعَهَّدَ الْأَمْكِنَةُ وَالْأَشْيَاءُ بِأَسْبَابِ النَّظَافَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعِينَةٍ لِيَكُونَ التَّنْظِيفُ خُلُقًا وَعَادَةً لَا تَثْقُلُ عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ حُدُوثِ أَسْبَابِهَا، فَمَنِ اعْتَادَ الْعَمَلَ لِدَفْعِ الْأَذَى قَبْلَ حُدُوثِهِ أَوْ قَبْلَ كَثْرَتِهِ فَلَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي دَفْعِهِ بَعْدَ حُدُوثِهِ أَوْلَى وَأَسْهَلُ.
وَعِنْدِي أَنْ أَظْهَرَ حِكْمَةٍ لِلتَّيَمُّمِ هِيَ تَمْثِيلُ حَرَكَةِ طَهَارَةِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ لِيَكُونَ أَمْرُهَا
مُقَرَّرًا فِي النَّفْسِ مُحَتَّمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ لِي " مِتْشِلْ أَنَسٍ " وَكِيلُ الْمَالِيَّةِ بِمِصْرَ فِي عَهْدِ " كُرُومَرْ ": إِنَّهُ يُوجَدُ إِلَى الْآنَ فِي أُورُبَّةَ أُنَاسٌ لَا يَغْتَسِلُونَ مُطْلَقًا، وَإِنَّنَا نَحْنُ الْإِنْكِلِيزُ أَكْثَرُ الْأُورُبِّيِّينَ اسْتِحْمَامًا، وَإِنَّمَا اقْتَبَسْنَا عَادَةَ الِاسْتِحْمَامِ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ، ثُمَّ سَبَقَنَا جَمِيعَ الْأُمَمِ فِيهَا، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَقَابِلْهُ بِعَادَاتِ الْأُمَمِ فِي النَّظَافَةِ الَّتِي هِيَ الرَّكْنُ الْعَظِيمُ لِلصِّحَّةِ وَالْهَنَاءِ.
وَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَعْمَالِ الْعَسْكَرِيَّةِ كَالْخِفَارَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا لِئَلَّا يُتَهَاوَنَ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَجَعَلَهَا مَرْتَبَةً مَوْقُوتَةً مَفْرُوضَةً بِنِظَامٍ غَيْرَ مَوْكُولَةٍ إِلَى غَيْرَةِ الْأَفْرَادِ وَاجْتِهَادِهِمْ.
إِذَا تَدَبَّرْتَ مَا ذَكَرْنَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - شَرَعَ الدِّينَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ فِطْرَةِ النَّاسِ وَتَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي يَعْتِقُهُمْ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ لِأَيِّ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِمْ، وَبِشُكْرِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِاسْتِعْمَالِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَمَنْعِ الشَّرِّ، وَلَا عَمَلَ يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ وَيُغَذِّيهِ وَيَزَعُ النَّفْسَ عَنِ الشَّرِّ وَيُحَبِّبُ إِلَيْهَا الْخَيْرَ وَيُرَغِّبُهَا فِيهِ - مِثْلُ ذِكْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، أَيْ: تَذَكُّرُ كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَتَقَرُّبُ عَبْدِهِ إِلَيْهِ بِالتَّخَلُّقِ بِصِفَاتِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا تَنْسَ أَنَّ الصَّلَاةَ شَامِلَةٌ لِعِدَّةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الذِّكْرِ وَالشُّكْرِ كَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا بِحَقِّهَا قَوِيَتْ مُرَاقَبَتُةُ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَحُبُّهُ لَهُ، أَيْ: حُبُّهُ لِلْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَبِقَدْرِ ذَلِكَ تَنْفُرُ نَفْسُهُ مِنَ الشَّرِّ وَالنَّقْصِ، وَتَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ، وَلَا يُحَافِظُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ
315
مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ عَلَى شَيْءٍ مَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا مُعَيَّنًا وَكِتَابًا مَوْقُوتًا، فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ الْمُهَذِّبِ لِلنَّفْسِ - وَهُوَ الصَّلَاةُ - تَرْبِيَةٌ عَمَلِيَّةٌ لِلْأُمَّةِ تُشْبِهُ الْوَظَائِفَ الْعَسْكَرِيَّةَ فِي وُجُوبِ اطِّرَادِهَا وَعُمُومِهَا وَعَدَمِ الْهَوَادَةِ فِيهَا، وَمَنْ قَصَّرَ فِي هَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الذَّكْرِ الْمُوَزَّعِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَنْسَى رَبَّهُ وَنَفْسَهُ، وَيَغْرَقَ فِي بَحْرٍ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَمَنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ وَزَكَتْ نَفْسُهُ لَا يَرْضَى بِهَذَا الْقَلِيلِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَمُنَاجَاتِهِ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنَ النَّافِلَةِ وَمِنْ أَنْوَاعِ الذَّكَرِ الْأُخْرَى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَزِيدَ، وَيَتَحَرَّى فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ أَوْقَاتَ الْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ الَّتِي يَرْجُو فِيهَا حُضُورَ قَلْبِهِ وَخُشُوعَهُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ السَّائِلُ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ
أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِنَّمَا كَانَتْ مَوْقُوتَةً ; لِتَكُونَ مُذَكِّرَةً لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ; لِئَلَّا تَحْمِلَهُمُ الْغَفْلَةُ عَلَى الشَّرِّ أَوِ التَّقْصِيرِ فِي الْخَيْرِ، وَلِمُرِيدِي الْكَمَالِ فِي النَّوَافِلِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ أَنْ يَخْتَارُوا الْأَوْقَاتَ الَّتِي يَرَوْنَهَا أَوْفَقَ بِحَالِهِمْ.
وَإِذَا رَاجَعْتَ تَفْسِيرَ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ (٢: ٢٣٨)، فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا تَجِدُ بَيَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا، وَبَيَانَ كَوْنِ الصَّلَاةِ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إِذَا وَاظَبَ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا، وَمَنْ لَا تَحْضُرُ قُلُوبُهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَى تِكْرَارِهَا فَلَا صَلَاةَ لَهُمْ فَلْيُجَاهِدُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتَغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا نَزَلَ فِيهَا إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ (٣: ١٤٠)، حِينَ بَاتُوا مُثْقَلِينَ بِالْجِرَاحِ، أَقُولُ: وَقَبْلَ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ هَذِهِ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٣: ١٣٩)، [رَاجِعْ ص ١١٩ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ]، فَالظَّاهِرُ أَنَّ عِكْرِمَةَ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ (أُحُدٍ) رِوَايَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتَنْبَطَ مِنْ مُوَافَقَةِ مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لِآيَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مِثْلَهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ثُمَّ جَاءَ الْجَلَالُ فَنَقَلَ رَأْيَ عِكْرِمَةَ بِالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ فَأَخْطَأَ فِي تَصْوِيرِهِ إِذْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ " لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَائِفَةً فِي طَلَبِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ فَشَكُوا الْجِرَاحَاتِ " وَقَدْ رَدَّ قَوْلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ فَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَانُوا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ يَرْغَبُونَ اقْتِفَاءَ أَثَرِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى إِثْقَالِهِمْ بِالْجِرَاحِ، وَلَا حَاجَةَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ إِلَى مَا ذَكَرَ بَلْ هُوَ مُنَافٍ لِلْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ إِذِ الْقِصَّةُ ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ تَامَّةً، وَهَذِهِ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ أَحْكَامٍ أُخْرَى.
ثُمَّ قَالَ: كَانَ الْكَلَامُ فِيمَا سَبَقَ فِي شَأْنِ الْحَرْبِ وَمَا يَقَعُ فِيهَا وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ
الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا
316
وَمَا يُرَاعَى فِيهَا إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ مُتَأَهِّبًا لِلْحَرْبِ مِنَ الْيَقَظَةِ وَأَخْذِ الْحَذَرِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فِي أَثْنَائِهَا، وَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ شِدَّةَ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ لَهُمْ وَتَرَبُّصِهِمْ غَفْلَتَهُمْ وَإِهْمَالَهُمْ لِيُوقِعُوا بِهِمْ، بَعْدَ هَذَا نَهَى عَنِ الضَّعْفِ فِي لِقَائِهِمْ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى كَوْنِ الْمُشْرِكِينَ أَجْدَرَ بِالْخَوْفِ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ مَا فِي الْقِتَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ مِنَ الْأَلَمِ وَالْمَشَقَّةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَيَمْتَازُ الْمُؤْمِنُ بِأَنَّ عِنْدَهُ مِنَ الرَّجَاءِ بِاللهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْكَافِرِ، فَهُوَ يَرْجُو مِنْهُ النَّصْرَ الَّذِي وَعَدَ بِهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهِ، وَيَرْجُو ثَوَابَ الْآخِرَةِ عَلَى جِهَادِهِ لِأَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقُوَّةُ الرَّجَاءِ تُخَفِّفُ كُلَّ أَلَمٍ وَرُبَّمَا تُذْهِلُ الْإِنْسَانَ عَنْهُ وَتُنْسِيهِ إِيَّاهُ اهـ.
أَقُولُ: فَالْآيَةُ تُفَسَّرُ هَكَذَا وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ، أَيْ: عَلَيْكُمْ بِالْعَزِيمَةِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ مَعَ أَخْذِ الْحَذَرِ وَالِاسْتِعْدَادِ حَتَّى لَا يُلِمَّ بِكُمُ الْوَهْنُ - وَهُوَ الضَّعْفُ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْخَلْقِ أَوِ الْخُلُقِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَاصَبُوكُمُ الْعَدَاوَةَ أَيْ طَلَبِهِمْ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالْهُجُومِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الْحَذَرِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ عِنْدَ أَدَائِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَلْتَزِمُ الدِّفَاعَ فِي الْحَرْبِ تَضْعُفُ نَفْسُهُ وَتَهِنُ عَزِيمَتُهُ، وَالَّذِي يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى الْمُهَاجَمَةِ تَعْلُو هِمَّتُهُ، وَتَشْتَدُّ عَزِيمَتُهُ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبِهِ، وَأَمْرٌ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُضَادُّهُ، فَتَحُولُ دُونَ عُرُوضِهِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ; لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْوَجَعِ وَالْأَلَمِ مِثْلُ مَا يَعْرِضُ لَكُمْ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْأَجْسَامِ الْحَيَّةِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَتَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَهُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، وَقَدْ وَعَدَكُمُ اللهُ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ النَّصْرَ أَوِ الْجَنَّةَ بِالشَّهَادَةِ إِذَا كُنْتُمْ لِلْحَقِّ تَنْصُرُونَ، وَعَنِ الْحَقِيقَةِ تُدَافِعُونَ، فَهَذَا التَّوْحِيدُ فِي الْإِيمَانِ، وَالْوَعْدِ مِنَ الرَّحْمَنِ هُمَا مَدْعَاةُ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ، وَمَنْفَاةُ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، وَالرَّجَاءُ يَبْعَثُ الْقُوَّةَ، وَيُضَاعِفُ الْعَزِيمَةَ، فَيَدْأَبُ صَاحِبُهُ عَلَى عَمَلِهِ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَالْيَأْسُ يُمِيتُ الْهِمَّةَ، وَيُضْعِفُ الْعَزِيمَةَ، فَيَغْلِبُ عَلَى صَاحِبِهِ الْجَزِعُ وَالْفُتُورُ، فَإِذَا اسْتَوَيْتُمْ
مَعَهُمْ فِي آلَامِ الْأَبْدَانِ، فَقَدْ فَضَلْتُمُوهُمْ بِقُوَّةِ الْوِجْدَانِ، وَجُرْأَةِ الْجَنَانِ، وَالثِّقَةِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فَأَنْتُمْ إِذَنْ أَجْدَرُ بِالْمُهَاجَمَةِ، فَلَا تَهِنُوا بِالْتِزَامِ خُطَّةِ الْمُدَافَعَةِ، وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ الْمُحِيطِ، وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ الثَّابِتَةُ، بِأَنْ يَكُونَ النَّصْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَمَا دَامُوا بِهَدْيِهِ عَامِلِينَ، وَعَلَى سُنَنِهِ سَائِرِينَ ; لِأَنَّ أَقَلَّ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا مُسَاوِينَ لِلْكُفَّارِ فِي عَدَدِ الْقِتَالِ وَأَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ وَهُمْ يَفْضُلُونَهُمْ بِالْقُوَى وَالْأَسْبَابِ الْبَاطِنَةِ، وَإِذَا أَقَامُوا الْإِسْلَامَ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يُقَامَ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ أَشَدَّ لِلْقِتَالِ اسْتِعْدَادًا، وَأَحْسَنَ نِظَامًا وَسِلَاحًا.
فَهَذِهِ الْآيَةُ بُرْهَانٌ عِلْمِيٌّ عَقْلِيٌّ عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِ التَّفْسِيرِ مِنْ مَبَاحِثِ الْمَنَارِ، وَنَقَلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَرْبِ الْإِنْكِلِيزِ لِأَهْلِ الْتِرَنْسِفَالِ
317
اعْتِرَافَ الْأُورُبِّيِّينَ بِكَوْنِ الْإِيمَانِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ فِي الْحَرْبِ، فَمَا بَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ لَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ بِعَرْضِهَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَالنَّظَرِ فِيمَا بَيْنَهُ مِنْ مَزَايَا الْإِيمَانِ! ؟
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى
نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا.
318
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ بِشْرٌ وَبَشِيرٌ وَمُبَشِّرٌ وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلًا مُنَافِقًا يَقُولُ الشِّعْرَ يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ثُمَّ يَنْحَلُهُ بَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: قَالَ فَلَانٌ كَذَا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، فَابْتَاعَ عَمِّي رَفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنَ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ فِيهَا سِلَاحٌ وَدِرْعٌ وَسَيْفٌ، فَعَدَى عَلَيْهِ مِنْ تَحْتُ فَنَقَبْتُ الْمَشْرَبَةَ وَأَخَذَ الطَّعَامَ وَالسِّلَاحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رَفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا وَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا، فَتَجَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ، فَقَالَ بَنُو أُبَيْرِقٍ: وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ، وَاللهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ، رَجُلٌ مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ، فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيَدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ؟ وَاللهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكُّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا وَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ
وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبْتٍ وَبَيِّنَةٍ؟ فَرَجَعْتُ فَأَخْبَرْتُ عَمِّي فَقَالَ: اللهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، بَنِي أُبَيْرِقٍ وَاسْتَغْفِرِ اللهَ، أَيْ: مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ إِلَى قَوْلِهِ: عَظِيمًا فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسِّلَاحِ فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ وَلَحِقَ بَشِيرٌ بِالْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ فَأَنْزَلَ اللهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى (٤: ١١٥)، إِلَى قَوْلِهِ: ضَلَالًا بَعِيدًا (٤: ١١٦)، قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِسَنَدِهِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: " عَدَا بَشِيرُ بْنُ الْحَارِثِ عَلَى عَلِيَّةِ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ عَمِّ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فَنَقَبَهَا مِنْ ظَهْرِهَا وَأَخَذَ طَعَامًا لَهُ وَدِرْعَيْنِ بِأَدَاتِهِمَا فَأَتَى قَتَادَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَدَعَا بَشِيرًا فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ وَرَمَى بِذَلِكَ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَا حَسَبٍ وَنَسَبٍ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَكْذِيبِ بَشِيرٍ وَبَرَاءَةِ لَبِيَدٍ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ الْآيَاتِ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
وَرَوَى
319
ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ فِي شَأْنِ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وَفِيمَا هَمَّ بِهِ نَبِيُّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ عُذْرِهِ، وَبَيِنَّ اللهُ شَأْنَ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، وَوَعَظَ نَبِيَّهُ وَحَذَّرَهُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَكَانَ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي ظَفَرٍ سَرَقَ دِرْعًا لِعَمِّهِ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، ثُمَّ قَذَفَهَا عَلَى يَهُودِيٍّ كَانَ يَغْشَاهُمْ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِيرِ، فَجَاءَ الْيَهُودِيُّ إِلَى نَبِيِّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهْتِفُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمُهُ بَنُو ظَفَرٍ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِيَعْذُرُوا صَاحِبَهُمْ، وَكَانَ نَبِيُّ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ هَمَّ بِعُذْرِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِي شَأْنِهِ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ: وَلَا تُجَادِلْ إِلَخْ، وَكَانَ طُعْمَةُ قَذَفَ بِهَا بَرِيئًا، فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ شَأْنَ طُعْمَةَ نَافَقَ وَلَحِقَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ فَأَنْزِلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ الْآيَةَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَسُرِقَتْ لِأَحَدِهِمْ دِرْعٌ فَأَظَنَّ بِهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَى صَاحِبُ الدِّرْعِ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ سَرَقَ
دِرْعِي، فَأْتِ بِهِ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا رَأَى السَّارِقُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَرِيءٍ وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ: إِنِّي قَدْ غَيَّبْتُ الدِّرْعَ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ وَسَتُوجَدُ عِنْدَهُمْ، فَانْطَلَقُوا إِلَى نَبِيِّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلًا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنْ صَاحِبَنَا بَرِيءٌ، وَإِنَّ سَارِقَ الدِّرْعِ فَلَانٌ، وَقَدْ أَحَطْنَا بِذَلِكَ عِلْمًا فَاعْذُرْ صَاحِبَنَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَجَادِلْ عَنْهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللهُ بِكَ يَهْلِكْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَرَّأَهُ أَوْ عَذَرَهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، إِلَى قَوْلِهِ: وَكِيلًا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ وَطَرَحَهَا عَلَى يَهُودِيٍّ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللهِ مَا سَرَقْتُهَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ طُرِحَتْ عَلَيَّ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَرَقَ جِيرَانٌ يُبَرِّئُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْيَهُودِيُّ الْخَبِيثُ يَكْفُرُ بِاللهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ: حَتَّى مَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِ الْقَوْلِ، فَعَاتَبَهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي ذَلِكَ فَقَالَ وَذَكَرَ الْآيَاتِ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّجُلِ: وَيُقَالُ: هُوَ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ.
وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ دِرْعًا فَخَانَهُ فِيهَا وَأَخْفَاهَا فِي دَارِ أَبِي مَلِيكٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَهَانَ طُعْمَةُ وَأُنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ الْيَهُودِيَّ لَمَّا جَاءَ يَطْلُبُ دِرْعَهُ، وَجَادَلَتِ الْأَنْصَارُ عَنْ طُعْمَةَ، وَطَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ أَنْ يُجَادِلَ عَنْهُ إِلَخْ، وَقَدِ اخْتَارَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْخَائِنَ هُوَ طُعْمَةُ وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ هُوَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْحَقِّ.
هَذَا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَأَمَّا وَجْهُ الِاتِّصَالِ وَالتَّنَاسُبِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا، فَقَدْ قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ مَا نَصَّهُ:
فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ،
320
ثُمَّ اتَّصَلَ بِذَلِكَ أَمْرُ الْمُحَارِبَةِ، وَاتَّصَلَ بِذِكْرِ الْمُحَارِبَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَمِثْلُ بَيَانِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، رَجَعَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَحْمِلُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَاطِلِ وَيَذْرَ الْحُكْمَ
بِالْحَقِّ، فَأَطْلَعَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِأَلَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَقْبَلَ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي بَيَانِ النَّظْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا عُرِفَ بِإِنْزَالِ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحِيدَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، طَلَبًا لِرِضَا قَوْمِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أُمِرَ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَ الْكُفَّارِ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْخِيَانَةُ مَعَهُمْ، وَلَا إِلْحَاقَ مَا لَمْ يَفْعَلُوا بِهِمْ، وَأَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يُبِيحُ الْمُسَامَحَةَ بِالنَّظَرِ لَهُ، بَلِ الْوَاجِبُ فِي الدِّينِ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَلَّا يَلْحَقَ الْكَافِرَ حَيْفٌ لِأَجْلِ أَنْ يَرْضَى الْمُنَافِقُ بِذَلِكَ اهـ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ أَنْ حَذَّرَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَقِّ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ طَمْسَهُ بِإِهْلَاكِ أَهْلِهِ، أَرَادَ أَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِمَّا يُخْشَى عَلَى الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الْعِنَايَةِ بِالنَّظَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَتَرْكِ حِفْظَهُ، فَإِنَّ إِهْمَالَ الْعِنَايَةِ بِالْحَقِّ أَشَدُّ الْخَطَرَيْنِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِفَقْدِ الْعَدْلِ أَوْ تَدَاعِي أَرْكَانِهِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى هَلَاكِ الْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ إِهْمَالُ غَيْرُ الْعَدْلِ مِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الدِّينُ ; فَالْعَدُوُّ لَا يُمْكِنُهُ إِهْلَاكُ أُمَّةٍ كَبِيرَةٍ وَإِعْدَامُهَا، وَلَكِنَّ تَرْكَ الْأُصُولِ الْمُقَوِّمَةِ لِلْأُمَّةِ كَالْعَدْلِ، وَغَيْرِهِ يُهْلِكُ كُلَّ أُمَّةٍ تُهْمِلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ [وَذَكَرَ الْآيَةَ الْأُولَى].
أَقُولُ: أَمَّا اتِّصَالُ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً فَالْأَقْرَبُ فِيهَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَيُمْكِنُ بَيَانُهُ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَيَسْتَعِدُّوا لِمُجَاهَدَتِهِمْ حِفْظًا لِلْحَقِّ أَنْ يُؤْتَى مِنَ الْخَارِجِ، أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُومُوا بِمَا يَحْفَظُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يُؤْتَى مِنَ الدَّاخِلِ، وَأَنْ يُقِيمُوهُ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -، وَلَا يُحَارِبُوا فِيهِ أَحَدًا، وَأَمَّا اتِّصَالُهَا بِمَجْمُوعِ مَا قَبْلَهَا فَقَدْ عَلِمْنَا مِمَّا مَرَّ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْبُيُوتِ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (٤: ٣٦)، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى هُنَا تَنَوَّعَتِ الْآيَاتُ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ إِلَى مُجَادَلَةِ الْيَهُودِ، وَبَيَانِ حَالِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالنَّعْيِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ كَالْيَهُودِ وَتَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا لِيُطَاعَ، وَالتَّرْغِيبُ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ،
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَبَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِيهِ، وَقَدْ عَادَ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَيْضًا إِلَى تَأْكِيدِ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَحَالِ الْمُنَافِقِينَ فِيهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْكَلَامُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ إِلَى بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ نَفْسِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ بَعْدَ مَا حَتَّمَ اللهُ التَّحَاكُمَ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِطَاعَتِهِ
321
فِيمَا يَحْكُمُ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَكَانَ هَذَا الِانْتِقَالُ فِي بَيَانِ وَاقِعَةٍ اشْتَرَكَ فِيهَا الْخِصَامُ بَيْنَ مَنْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ سَبَقَ شَرْحُ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ أَيْ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَبَيَانِهِ لِأَجْلِ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا عَلَّمَكَ اللهُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ فَاحْكُمْ بِهِ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، تُخَاصِمُ عَنْهُمْ وَتُنَاضِلُ دُونَهُمْ، وَهُمْ طُعْمَةُ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ سَرَقُوا الدِّرْعَ وَأَرَادُوا أَنْ يُلْصِقُوا جُرْمَهُمْ بِالْيَهُودِيِّ الْبَرِيءِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي السُّورَةِ الْآتِيَةِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ (٥: ٤٩)، فَالْحَقُّ هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ يَهُودِيًا أَوْ مَجُوسِيًّا، أَوْ مُسْلِمًا حَنِيفِيًّا، قَالَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ: بِمَا أَرَاكَ اللهُ، يَعْنِي بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فِي كِتَابِهِ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، يَقُولُ: وَلَا تَكُنْ لِمَنْ خَانَ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ خَصِيمًا تُخَاصِمُ عَنْهُ وَتُدَافِعُ عَنْهُ مَنْ طَالَبَهُ بِحَقِّهِ الَّذِي خَانَهُ فِيهِ اهـ، وَتَسْمِيَةُ إِعْلَامِهِ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ بِالْأَحْكَامِ إِرَاءَةٌ يَشْعُرُ بِأَنَّ عِلْمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا يَقِينِيٌّ كَالْعِلْمِ بِمَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، فَعَطْفُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْحُكْمِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ عَلَى جُمْلَةٍ قَبْلَهَا لِارْتِبَاطِهِمَا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تَتَهَاوَنْ بِتَحَرِّي الْحَقِّ اغْتِرَارًا بِلَحْنِ الْخَائِنِينَ، وَقُوَّةِ صَلَابَتِهِمْ فِي الْخُصُومَةِ ; لِئَلَّا تَكُونَ خَصِيمًا لَهُمْ وَتَقَعَ فِي وَرْطَةِ الدِّفَاعِ عَنْهُمْ، وَهَذَا الْخِطَابُ لَيْسَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ
أَنْ يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةُ حُكْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَحْيِ فَقَطْ، أَوْ بِالْوَحْيِ تَارَةً وَبِالِاجْتِهَادِ أُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: أَرَاكَ اللهُ مَعْنَاهُ: أَعْلَمَكَ عِلْمًا يَقِينِيًّا كَالرُّؤْيَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا الْوَحْيُ الَّذِي يَفْهَمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ مُرَادَ اللهِ فَهْمًا قَطْعِيًّا، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِي اللهُ - تَعَالَى -، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا أَحَدُنَا فَرَأْيُهُ أَنْ يَكُونَ ظَنًّا لَا عِلْمًا "، ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ ثُمَّ قَالَ:
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَحْكُمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالنَّصِّ، ثُمَّ فَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَا كَانَ جَائِزًا لَهُ، وَإِنَّمَا
322
يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ، وَذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِهِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْقِيَاسِ، وَعَدَمَ جَوَازِهِ لَوْلَا أَنْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَيْضًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الطُّوفِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي " كِتَابِ الْإِشَارَاتِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الْمَبَاحِثِ الْأُصُولِيَّةِ ": لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ، يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا نَصَّهُ لَكَ فِي الْكِتَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَرَاكَهُ بِوَاسِطَةِ نَظَرِكَ وَاجْتِهَادِكَ فِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَأَدِلَّتِهِ، وَفِيهِ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدِهِ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
" حُجَّةُ مَنْ أَجَازَ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ مَنْصِبُ كَمَالٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَوِّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ وَلَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهُ قَبْلَ قَتْلِهِ لَمْ أَقْتُلْهُ "، فِي قَضِيَّتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ.
حُجَّةُ الْمَانِعِ: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٥٣: ٣، ٤)، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى يَقِينِ الْوَحْيِ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ لِجَوَازِهِ فِي حَقِّهِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ.
" ثُمَّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ جَائِزٌ لَهُ، هَلْ يَقَعُ مِنْهُ الْخَطَأُ فِيهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْأُصُولِيِّينَ أَحَدُهُمَا: لَا، لِعِصْمَتِهِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ بِشَرْطِ أَلَّا يُقِرَّ عَلَيْهِ
اسْتِدْلَالًا بِنَحْوِ عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (٩: ٤٣)، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (٨: ٦٧)، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا مَسْأَلَةُ التَّفْوِيضِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى نَبِيٍّ حُكْمَ أُمَّةٍ بِأَنْ يَقُولَ: احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِاجْتِهَادِكَ وَمَا حَكَمْتَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ، أَوْ وَأَنْتَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَقَرَّ بِهِمَا الْجَوَازُ، وَهُوَ قَوْلُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ ; لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ إِصَابَةُ الْحَقِّ، وَكُلُّ مَضْمُونٍ لَهُ ذَلِكَ، جَازَ لَهُ الْحُكْمُ.
أَوْ يُقَالُ: هَذَا التَّفْوِيضُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا انْتَهَى كَلَامُ الطُّوفِيِّ.
أَقُولُ: الْآيَةُ فِي الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ لَا فِي الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا عَلَيْهِ أَيْضًا وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ; لِأَنَّ هَذَا فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ كَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحْيًا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْقَطِعُ أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ فَيَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، كَمَا كَانَ يُسْأَلُ أَحْيَانًا فَيُجِيبُ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لِلْوَحْيِ.
وَاسْتَغْفِرِ اللهَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " وَسَلْهُ أَنْ يَصْفَحَ لَكَ عَنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِكَ فِي مُخَاصَمَتِكَ عَنِ
323
الْخَائِنِ "، وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي الِاسْتِغْفَارِ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ:
١ - لَعَلَّهُ مَالَ إِلَى نُصْرَةِ (طُعْمَةَ) لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
٢ - لَعَلَّهُ هَمَّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ عَمَلًا بِشَهَادَةِ قَوْمِ طُعْمَةَ الَّتِي لَمْ يُكَذِّبْهَا شَيْءٌ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ لَوَقَعَ قَضَاؤُهُ خَطَأً لِبِنَائِهِ عَلَى كَذِبِ الْقَوْمِ وَزُورِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالذَّنَبُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ.
٣ - يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: وَاسْتَغْفِرِ اللهَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ طُعْمَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُظْهِرُوا بَرَاءَتَهُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَاسْتَغْفِرِ اللهَ مِمَّا يَعْرِضُ لَكَ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ مِنْ نَحْوِ مَيْلٍ إِلَى مَنْ تَرَاهُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ، أَوِ الرُّكُونُ إِلَى مُسْلِمٍ لِأَجْلِ إِسْلَامِهِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ الِاشْتِبَاهَ، وَتَكُونُ صُورَةُ صَاحِبِهِ صُورَةَ مَنْ أَتَى الذَّنْبَ الَّذِي يُوجِبُ لَهُ الِاسْتِغْفَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَمِّدًا لِلزَيْغِ عَنِ الْعَدْلِ، وَالتَّحَيُّزِ إِلَى الْخَصْمِ، فَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْحَقِّ، كَأَنَّ مُجَرَّدَ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِ الْمُخَادِعِ كَافٍ إِلَى وُجُوبِ الِاحْتِرَاسِ مِنْهُ، وَنَاهِيكَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِيهِ.
أَقُولُ: ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَ إِلَى تَصْدِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِدَانَةِ الْيَهُودِيِّ لِمَا كَانَ يَغْلُبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَعَلَى الْيَهُودِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ: إِنَّ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكُونُوا إِلَّا مُنَافِقِينَ ; لِأَنَّ مِثْلَ عَمَلِ طُعْمَةَ وَتَأْيِيدِ مَنْ أَيَّدَهُ فِيهِ لَا يَصْدُرُ عَمْدًا إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، وَتَبِعَ ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَّ لَوْ يَكُونُ الْفَلْجُ بِالْحَقِّ فِي الْخُصُومَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرَجَّحُ صِدْقُهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَاعِدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ انْتِظَارًا لِوَحْيِ اللهِ - تَعَالَى -، فَعَلَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَعَلَّمَنَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ الشَّخْصِيَّ، وَالْمَيْلَ الْفِطْرِيَّ وَالدِّينِيَّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَظْهَرَ لَهُمَا أَثَرٌ مَا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا أَنْ يُسَاعِدَ الْقَاضِي مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُسَاوِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ إِلَى تَأْيِيدِ مَنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ يُفْضِي إِلَى مُسَاعَدَتِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَيَكُونُ الْحَاكِمُ خَصِيمًا عَنْهُ لَوْ فَعَلَ، وَإِذَا كَانَ طَلَبُ الِانْتِصَارِ لَهُمْ مِنَ الْخَائِنِينَ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَقَدْ وَجَبَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ وَحُسْنِ الظَّنِّ فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُوَجَّهُ بِهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَبْلَغُ فِي تَنْزِيهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يَلِيقُ بِهِ، أَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَا يَنْقُضُهَا شَيْءٌ مِمَّا وَرَدَ وَلَا الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْحُكْمِ أَوِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ مَا أَوْحَاهُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ أَوْ مَا يَرَوْنَ بِاجْتِهَادِهِمْ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْكُمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَاتِ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِغَيْرِ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَأْيِيدٌ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ أَحْسَنَ الظَّنَّ فِي
324
أَمْرٍ بَيَّنَ لَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ حَقِيقَةَ الْوَاقِعِ فِيهِ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ فِي مُعَامَلَةِ ذَوِيهِ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: كَانَ شَأْنُهُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِرَارًا.
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ: يَخُونُونَهَا، بَلْ يَتَعَلَّمُونَ وَيَتَكَلَّفُونَ مَا يُخَالِفُ الْفِطْرَةَ مِنَ الْخِيَانَةِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالضَّرَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْخَائِنِينَ يُوجَدُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهَذَا النَّهْيُ لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَشْرِيعٌ وُجِّهَ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً ;
وَفِي جَعْلِهِ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لَهُ - وَهُوَ أَعْدَلُ النَّاسِ وَأَكْمَلُهُمْ - مُبَالَغَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ هَذِهِ الْخَلَّةِ الْمَعْهُودَةِ مِنَ الْحُكَّامِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا، أَيْ: مَنِ اعْتَادَ الْخِيَانَةَ وَأَلِفَ الْإِثْمَ فَلَمْ يَعُدْ يَنْفِرُ مِنْهُ، وَلَا يَخَافُ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ عَلَيْهِ، فَيُرَاقِبُهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللهُ أَهْلَ الْأَمَانَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ.
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ، أَيْ: إِنَّ شَأْنَ هَؤُلَاءِ الْخَوَّانِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِثْمِ أَنَّهُمْ يَسْتَتِرُونَ مِنَ النَّاسِ عِنْدَ ارْتِكَابِ خِيَانَتِهِمْ وَاجْتِرَاحِهِمُ الْإِثْمَ ; لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ ضُرَّهُمْ، وَلَا يَسْتَتِرُونَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِتَرْكِهِ لِأَنَّهُمْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ، إِذِ الْإِيمَانُ يَمْنَعُ مِنَ الْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَا تَقَعُ الْخِيَانَةُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ جَهَالَةٍ عَارِضَةٍ لَا تَدُومُ وَلَا تَتَكَرَّرُ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا خَطِيئَتُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِخْفَاءُ مِنْهُ - تَعَالَى - فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَرَاهُ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ فِي حَنَادِسِ الظُّلُمَاتِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتْرُكَ الذَّنْبَ وَالْخِيَانَةَ حَيَاءً مِنْهُ - تَعَالَى - أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ: وَهُوَ - تَعَالَى - شَاهِدُهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُدَبِّرُونَ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ، مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ، لِأَجْلِ تَبْرِئَةِ أَنْفُسِهِمْ وَرَمْيِ غَيْرِهِمْ بِخِيَانَتِهِمْ وَجَرِيمَتِهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى نَجَاتِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ.
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا مُسَاعَدَةَ بَنِي أُبَيْرِقٍ عَلَى الْيَهُودِيِّ جَمَاعَةٌ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجِدَالِ عَنْهُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى هَؤُلَاءِ وَحْدَهُمْ وَإِنْ بُدِئَ بِخِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، أَيْ: هَا أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ وَحَاوَلْتُمْ تَبْرِئَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، يَوْمَ يَكُونُ الْخَصْمُ وَالْحَاكِمُ هُوَ اللهُ الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ كَافَّةً؟ أَيْ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَادِلَ هُنَالِكَ أَحَدٌ عَنْهُمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ لَهُمْ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُرَاقِبُوا اللهَ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَحْسَبُوا أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنَالَ الْفَلْجَ بِالْحُكْمِ لَهُ مِنْ قُضَاةِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ حَقٍّ، يُمْكِنُهُ كَذَلِكَ أَنْ يَظْفَرَ فِي الْآخِرَةِ،
325
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
(٨٢: ١٩)، الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى الذَّرَّةِ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٢١: ٤٧)، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الدُّنْيَا لَا يُجِيزُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْمٌ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ.
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا هَذَا بَيَانٌ لِلْمَخْرَجِ مِنَ الذَّنْبِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَالسُّوءُ مَا يَسُوءُ أَيْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْغَمُّ وَالْكَدَرُ وَفَسَّرُوهُ بِالذَّنْبِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ تَسُوءُ وَلَوْ عِنْدَ الْجَزَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ تُشِيرُ إِلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتُكِبَتْ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَ السِّيَاقُ بِسَبَبِهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَاتُ تَحْذِيرٌ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ هَدْمَ رُكْنِهِمَا، وَهَذَا الرُّكْنُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَإِنَّمَا يُمْتَثَلُ هَذَا التَّحْذِيرُ بِالِاجْتِهَادِ وَتَحَرِّي الْعَدْلِ وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِ الْخُصَمَاءِ، وَالسُّوءُ مَا يَسُوءُ بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ، وَالظُّلْمُ مَا كَانَ ضَرَرُهُ خَاصًّا بِالْعَامِلِ كَتَرْكِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ: هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا، وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ لَازِمَهُ وَهُوَ الشُّعُورُ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ، وَلِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - خُطْبَةً فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِغْفَارِ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي تُذِيبُ الشَّحْمَ وَتُفْنِي الْعَظْمَ، وَمَعْنَى وِجْدَانِهِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا أَنَّ اللهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَرُدَّ تَوْبَةَ عَبْدِهِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى قَلْبِهِ وَعَلِمَ مِنْهُ الصِّدْقَ وَالْإِخْلَاصَ.
أَقُولُ: وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَاتِي عَنِ الدَّرْسِ عِنْدَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ لِهَذَا التَّعْبِيرِ وَهِيَ: وَتَرَكْتُ بَيَاضًا لِأَكْتُبَ فِيهِ مَا ظَهَرَ لِي مِنَ النُّكْتَةِ ثُمَّ نَسِيتُهُ إِلَى الْآنَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِوِجْدَانِ اللهِ غَفُورًا رَحِيمًا هُوَ أَنَّ التَّائِبَ الْمُسْتَغْفِرَ يَجِدُ أَثَرَ الْمَغْفِرَةِ فِي نَفْسِهِ بِكَرَاهَةِ الذَّنْبِ وَذَهَابِ دَاعِيَتِهِ، وَيَجِدُ أَثَرَ الرَّحْمَةِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُطَهِّرُ النَّفْسَ وَتُزِيلُ ذَلِكَ الدَّرَنَ مِنْهُ، فَيَكُونُ السُّوءُ أَوِ الظُّلْمُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ الْعَبْدُ مِصْدَاقًا لِقَوْلِ ابْنِ عَطَاءِ اللهِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ: رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَانْكِسَارًا، خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا، وَالْمُرَادُ الذُّلُّ وَالِانْكِسَارُ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الَّذِي يُورِثُ صَاحِبَهُ الْعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ مَعَ غَيْرِهِ، وَفِي الْآيَةِ تَرْغِيبٌ لِطُعْمَةَ وَأَنْصَارِهِ فِي التَّوْبَةِ.
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ: وَمَنْ يَعْمَلِ الْإِثْمَ عَنْ قَصْدٍ
وَيَرَ أَنَّهُ قَدْ كَسَبَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، فَإِنَّمَا كَسْبُهُ هَذَا وَبَالٌ عَلَى نَفْسِهِ وَضَرَرٌ لَا نَفْعَ لَهُمَا كَمَا يَتَوَهَّمُ لِجَهْلِهِ بِعَوَاقِبِ الْآثَامِ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنَ الْعَوَاقِبِ غَيْرِ الْمَأْمُونَةِ فِي الدُّنْيَا فَضِيحَةُ الْآثِمِ وَمَهَانَتُهُ بِظُهُورِ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ وَلِلْحَاكِمِ الْعَادِلِ، كَمَا وَقَعَ لِأَصْحَابِ الْقِصَّةِ الَّذِينَ نَزَلَتْ بِسَبَبِهِمُ الْآيَاتُ، وَسَتَرَى تَحْدِيدَ مَعْنَى الْإِثْمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا قَالَ الْأُسْتَاذُ
الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَدْ حَدَّدَ لِلنَّاسِ بِعِلْمِهِ حُدُودَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَضُرُّهُمْ تَجَاوُزُهَا، وَبِحِكْمَتِهِ جَعَلَ لَهَا عِقَابًا يَضُرُّ الْمُتَجَاوِزَ لَهَا، فَهُوَ إِذَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللهَ شَيْئًا.
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، أَقُولُ: يُطْلِقُ الْعُلَمَاءُ الْخَطِيئَةَ وَالْإِثْمَ وَالذَّنْبَ وَالسَّيِّئَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِكُلِّ لَفْظٍ مِنْهَا مَعْنًى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يُنَاسِبُهُ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ، وَيَقُولُ الرَّاغِبُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبْطِئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، أَيْ: مِثْلَ السُّكْرِ وَالْمَيْسِرِ ; لِأَنَّهُمَا يَشْغَلَانِ صَاحِبَهُمَا عَنْ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ (٢: ٢١٩)، وَأَمَّا الْخَطِيئَةُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مِنَ الْخَطَأِ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَصِيغَةُ فَعِيلَةُ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى أَيْضًا فَالْخَطِيئَةُ الْفِعْلَةُ الْعَرِيقَةُ فِي الْخَطَأِ لِظُهُورِهِ فِيهَا ظُهُورًا لَا يُعْذَرُ صَاحِبُهُ بِجَهْلِهِ، وَالْخَطَأُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تُخْطِئَ مَا يُرَادُ مِنْكَ، وَهُوَ مَا يُطَالِبُكَ بِهِ الشَّرْعُ وَيَفْرِضُهُ عَلَيْكَ الدِّينُ، أَوْ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالْعَهْدُ، وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مَا يُخْطِئُهُ الْفَاعِلُ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرْعِ: أَيْ يَتَجَاوَزُهُ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْ هُنَا جَعَلُوا الْخَطِيئَةَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا، وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ هُنَا بِالْخَطَأِ وَالْإِثْمِ بِالْعَمْدِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخَطِيئَةُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الذَّنْبِ عَنِ الْفَاعِلِ خَطَأً، أَيْ: مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَالْإِثْمُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَيَعْنِي بِالْمُلَاحَظَةِ تَذَكُّرَ ذَلِكَ وَتَصَوُّرَهُ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَقَالَ: إِنَّ عَدَمَ الْمُلَاحَظَةِ وَالشُّعُورِ بِالذَّنْبِ عِنْدَ فِعْلِهِ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ تَمَكُّنَ دَاعِيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ وَوُصُولَهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ وَالْأَخْلَاقِ الثَّابِتَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَقُولُ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَيَانُ تَوْجِيهًا لِقَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْخَطِيئَةَ هُنَا بِالْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ، وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ الْمَكْذُوبَ عَلَيْهِ أَيْ: يُحَيِّرُهُ وَيُدْهِشُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يُبْرِئْ نَفْسَهُ مِنْهُ أَيْ: مِمَّا ذَكَرَ، وَيَرْمِ بِهِ بَرِيئًا أَيْ: يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ وَيَزْعُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَسَبَهُ، فَقَدِ احْتَمَلَ أَيْ كَلَّفَ نَفْسَهُ أَنْ يَحْمِلَ وِزْرَ الْبُهْتَانِ بِافْتِرَائِهِ عَلَى الْبَرِيءِ وَاتِّهَامِهِ إِيَّاهُ، وَوِزْرُ: الْإِثْمُ الْبَيِّنُ الَّذِي كَسَبَهُ وَتَنَصَّلَ مِنْهُ، وَقَدْ فَشَا هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَعَ هَذَا يَنْسُبُ الْمَارِقُونَ ضَعْفَهُمْ إِلَى دِينِهِمْ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ تَرْكُ هِدَايَتِهِ، فَالْحَادِثَةُ الَّتِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِثْرَ وُقُوعِهَا كَانَتْ فَذَّةً فِي بَابِهَا، وَمَا زَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَرَقَ أَوْ خَانَ بَعْضُهُمْ، وَنَصَرَهُ آخَرُونَ وَبَهَتُوا الْيَهُودِيَّ بِرَمْيِهِ بِجُرْمِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ، لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُنَافِقُونَ فِي الْبَاطِنِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِثْمِ الْمُبِينِ، وَالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ، لَا يَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلَكِنَّ مِثْلَهَا صَارَ الْيَوْمَ مَأْلُوفًا، بَلْ وُجِدَ فِي بَعْضِهِمْ مَنْ يُفْتِي بِجَوَازِ خِيَانَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا عَلِمْنَا مِنْ وَاقِعَةِ حَالٍ اسْتُفْتِينَا فِيهَا وَنُشِرَتِ الْفَتْوَى فِي الْمَنَارِ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ هَذَا الْخِذْلَانِ.
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَالْحِكَمَ وَالْمَوَاعِظَ الْمُنْطَبِقَةَ عَلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَوَجَّهَ إِلَى كُلِّ مَنْ لَهُ شَأْنٌ فِيهَا مَا يُنَاسِبُهُ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، خَاطَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، أَيْ: لَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالتَّأْيِيدِ بِالْعِصْمَةِ، وَرَحْمَتُهُ لَكَ بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ، لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ بِمُسَاعَدَةِ الْخَائِنِ أَنْ يُضِلُّوكَ عَنِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ الْمُنْطَبِقِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَضِيَّةِ فِي نَفْسِهَا، أَيْ: يُضِلُّوكَ بِقَوْلِ الزُّورِ وَتَزْكِيَةِ الْمُجْرِمِ وَبُهْتِ الْيَهُودِيِّ الْبَرِيءِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالظَّوَاهِرِ، أَوْ بِمُحَاوَلَةِ الْمَيْلِ إِلَى إِدَانَةِ الْيَهُودِيِّ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُبِيحُ تَرْجِيحَ الْمُسْلِمِ عَلَى غَيْرِهِ وَنَصْرَهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا كَمَا يَعْهَدُونَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمِلَلِ، وَلَكِنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَطْمَعُوا فِي ذَلِكَ وَيَهُمُّوا بِهِ جَاءَكَ الْوَحْيُ بِبَيَانِ الْحَقِّ، وَإِقَامَةِ أَرْكَانِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، إِذْ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: جِئْنَا لِنُبَايِعُكَ عَلَى أَلَّا تَكْسِرَ أَصْنَامَنَا وَلَا تُعَشِّرْنَا، فَرَدَّهُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِانْحِرَافِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هَدَاهُمْ إِلَيْهِ
الْإِسْلَامُ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهِ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَقَدْ عَصَمَكَ اللهُ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُجَادِلْ عَنْهُمْ وَلَا أَطْمَعُهُمْ فِي التَّحَيُّزِ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ وَلَا بَعْدَهُ بِالْأَوْلَى.
هَذَا مَا ظَهَرَ لِيَ الْآنَ، وَقَدْ رَجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَتِهِ إِلَى مُذَكِّرَاتِي الَّتِي كَتَبْتُهَا فِي دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَإِذَا فِيهَا مَا نَصَّهُ:
كَانَ الْكَلَامُ فِي الْمُخْتَانِينَ أَنْفُسَهُمْ وَمُحَاوَلَتِهِمْ زَحْزَحَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَرَادَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَتَوْجِيهِهَا إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَيِّنَ فَضْلَهُ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا وَرَدَ مِنْ قِصَّةِ طُعْمَةَ ; لِأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ قَدْ هَمَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِإِضْلَالِ النَّبِيِّ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ قَدْ صَرَفَ نُفُوسَ الْأَشْرَارِ عَنِ الطَّمَعِ فِي إِضْلَالِهِ وَالْهَمِّ بِذَلِكَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْرَارَ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُمْ وَهِمَمُهُمْ إِلَى التَّلْبِيسِ عَنْ شَخْصٍ وَمُخَادَعَتِهِ وَمُحَاوَلَةِ صَرْفِهِ عَنِ الْحَقِّ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَشْغَلَ طَائِفَةً مِنْ وَقْتِهِ لِمُقَاوَمَتِهِمْ وَكَشْفِ حِيَلِهِمْ وَتَمْيِيزِ تَلْبِيسِهِمْ، وَذَلِكَ يَشْغَلُ الْمَرْءَ عَنْ تَقْرِيرِ الْحَقَائِقِ وَصَرْفِ وَقْتِ الْمُقَاوَمَةِ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ صَالِحٍ نَافِعٍ ; وَلِذَلِكَ تَفَضَّلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَحِمَهُ بِصَرْفِ كَيْدِ الْأَشْرَارِ عَنْهُ حَتَّى بَالِهِمْ بِغِشِّهِ وَزَحْزَحَتِهِ عَنْ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي أَقَامَهُ عَلَيْهِ اهـ.
328
وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، الْكِتَابُ: الْقُرْآنُ وَالْحِكْمَةُ فِقْهُ مَقَاصِدِ الْكُتَّابِ وَأَسْرَارِهِ، وَوَجْهِ مُوَافَقَتِهَا لِلْفِطْرَةِ وَانْطِبَاقِهَا عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَاتِّحَادِهَا مَعَ مَصَالِحِ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ (٤٢: ٥٢)، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَعْلِيمُهُ الْغَيْبَ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ الْكِتَابُ وَالشَّرِيعَةُ، وَخُصُوصًا مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَخَاصَمَ فِيهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْيَهُودِيِّ.
وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا، إِذِ اخْتَصَّكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ وَأَرْسَلَكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ النَّاسِ شُكْرًا لَهُ، وَيَجِبُ عَلَى أُمَّتِكَ مِثْلُ ذَلِكَ لِيَكُونُوا بِهَذَا الْفَضْلِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَقُدْوَةً لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ.
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا أَقُولُ: تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ طُعْمَةَ الْخَائِنَ لَمْ يَكَدْ يَفْتَضِحُ أَمْرُهُ حَتَّى فَرَّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَظْهَرَ الشِّرْكَ وَالطَّعْنَ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ لِيَتَّخِذَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ أَعْوَانًا وَنُصَرَاءَ يُعِينُونَهُ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْخِيَانَةِ بِالْعَصَبِيَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَمَا عَلِمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ جَاءَ لِيُبْطِلَ الْخِيَانَةَ وَالضَّلَالَ، وَيَمْحَقَ الْأَبَاطِيلَ، وَيُؤَيِّدَ الْحَقَّ وَالْفَضِيلَةَ، أَفَلَا يَسْمَعُ هَذَا الْمُبْطِلُونَ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّةَ الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ يُقَلِّدُونَ قُسُوسَ قُرُونِهِمُ الْمُظْلِمَةِ مُثِيرِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ جَمْعِيَّةَ لُصُوصٍ وَقُطَّاعَ طُرُقٍ، أَلَا يَدُلُّونَنَا عَلَى حُكُومَةٍ مِنْ أَرْقَى حُكُومَاتِهِمْ أَوْصَلَهَا دِينُهَا وَمَدَنِيَّتُهَا وَعُلُومُهَا وَحَضَارَتُهَا إِلَى الرِّضَا بِمُسَاوَاةِ أَبْنَائِهَا وَأَوْلِيَائِهَا بِأَعْدَى أَعْدَائِهَا وَيُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ مِثْلَمَا شَدَّدَتِ الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَضِيَّةِ طُعْمَةَ مَعَ الْيَهُودِيِّ؟ كَيْفَ وَنَحْنُ نَرَاهُمْ فِي بِلَادِنَا لَا يَرْضَوْنَ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَأَنَّ الرَّجُلَ
329
مِنْ أَشْرَارِ جُنَاتِهِمْ وَتُحُوتِ صَعَالِيكِهِمْ قَدْ يَقْتُلُ الْوَاحِدُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ فِي مِصْرَ فَيُحَاكِمُهُ قُنْصُلُ دَوْلَتِهِ كَمَا يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَغِيبَ عَنِ الْأَرْضِ الَّتِي لَوَّثَهَا بِدَمِ الْجِنَايَةِ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا ثُمَّ يَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ؟
فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ يَكُونُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا بَعْدَهُ نَزَلَ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ ضَمِيرَ نَجْوَاهُمْ، يَعُودُ عَلَى أُولَئِكَ الْمُخْتَانِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، الَّذِينَ يُبَيِّتُونَ فِي لَيْلِهِمْ مِنَ
الْأَقْوَالِ مَا لَا يُرْضِي رَبَّهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَالنَّجْوَى: مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ وَمَعْنَاهُ الْمُسَارَّةُ بِالْحَدِيثِ قِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ النَّجْوَةِ، وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ عَمَّا حَوْلَهُ بِحَيْثُ يَنْفَرِدُ مَنْ فِيهِ عَمَّنْ دُونَهُ، وَقِيلَ: مِنَ النَّجَاةِ، كَأَنَّهُ نَجَا بِسِرِّهِ مِمَّنْ يَحْذَرُ اطِّلَاعَهُمْ عَلَيْهِ، وَيُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ: قَوْمٌ نَجْوَى وَرَجُلَانِ نَجْوَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى (١٧: ٤٧)، وَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ (٥٨: ٧)، وَقَوْلُهُ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، وَأَجَازَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا أَنْ تَكُونَ النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ أَيْ: الْمُتَسَارِّينَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَنَاجِينَ الَّذِينَ يُسِرُّونَ الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةِ طُعْمَةَ الَّذِينَ أَرَادُوا مُسَاعَدَتَهُ عَلَى اتِّهَامِ الْيَهُودِيِّ وَبَهْتِهِ وَمِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَّا مَنْ أَمَرَ مِنْهُمْ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى النَّجْوَى، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا عَلَى ظَاهِرِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّجْوَى هُنَا بِمَعْنَى التَّنَاجِي، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ تَنَاجِي هَؤُلَاءِ النَّاسِ، وَلَكِنَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، فَذَلِكَ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي يَكُونُ فِي نَجْوَاهُ الْخَيْرُ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ لِلْإِعْرَابِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ (٢: ١٧٧)، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَرَأَيُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِيهِ [فَلْيُرَاجَعْ فِي ص ٩٠ وَمَا بَعْدَهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ هُنَا: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ الشَّرُّ، فَهُوَ الَّذِي يَجْرِي فِي نَجْوَاهُمْ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ النُّكْتَةَ فِي ذِكْرِ الْكَثِيرِ هُنَا هُوَ أَنَّ مِنَ النَّجْوَى مَا يَكُونُ فِي الشُّئُونِ الْخَاصَّةِ كَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ مَثَلًا فَلَا تُوصَفُ بِالشَّرِّ، وَلَا هِيَ مُرَادَةٌ مِنَ الْخَيْرِ،
330
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالنَّجْوَى الْكَثِيرَةِ الْمَنْفِيِّ الْخَيْرُ عَنْهَا النَّجْوَى فِي شُئُونِ النَّاسِ ; وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي هِيَ مَجَامِعُ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ اهـ.
أَقُولُ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ هُنَا فِي أُولَئِكَ الْخَائِنِينَ فَنَفْيُ الْخَيْرِ عَنِ الْكَثِيرِ مِنْ
نَجْوَاهُمْ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّنَا نَرَى الْكِتَابَ الْحَكِيمَ يَجْعَلُ النَّجْوَى مَظِنَّةَ الْإِثْمِ وَالشَّرِّ مُطْلَقًا ; وَلِذَلِكَ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بُقُولِهِ فِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥٨: ٩، ١٠)، وَهَذَا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى، ثُمَّ هُمْ يَعُودُونَ إِلَيْهَا وَهُمُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ النَّجْوَى مَظِنَّةَ الشَّرِّ فِي الْأَكْثَرِ هِيَ أَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ وَسُنَّةَ الْفِطْرَةِ الْمُتَّبَعَةَ هِيَ اسْتِحْبَابُ إِظْهَارِ الْخَيْرِ وَالتَّحَدُّثِ بِهِ فِي الْمَلَأِ، وَأَنَّ الشَّرَّ وَالْإِثْمَ هُوَ الَّذِي يُخْفَى، وَيُذْكَرُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَقَلَّمَا يَكْتُمُ النَّاسُ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ الْمُطْلَقِ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ خَيْرًا، وَإِنَّمَا الْغَالِبُ فِي كِتْمَانِ بَعْضِ الْخَيْرِ وَإِسْرَارِهِ وَجَعْلِ الْحَدِيثِ فِيهِ نَجْوًى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ خَيْرًا لِلْمُتَنَاجِينَ وَشَرًّا لِغَيْرِهِمْ أَوْ مُؤْذِيًا لَهُ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَأَسْرَارِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ الَّتِي يَتَوَخَّى بِهَا أَهْلُهَا نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ وَضَرَرَ غَيْرِهِمْ فَيَكْتُمُونَ أَخْبَارَهَا وَيَجْعَلُونَهَا نَجْوَى بَيْنِهِمْ لِئَلَّا تَصِلَ إِلَى خَصْمِهِمْ وَعَدُوِّهِمُ الَّذِي يَضُرُّهُ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَيَنْفَعُهُ مَا يُحْبِطُ عَمَلَهُمْ وَيُبْطِلُ كَيْدَهُمْ، وَيُشْبِهُ ذَلِكَ مَا يَكُونُ بَيْنَ التُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ طُلَّابِ الْكَسْبِ مِنَ التَّنَاجِي فِيمَا يَخَافُونَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ فَيَسْبِقُهُمْ إِلَيْهِ أَوْ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ مَا يُرِيدُونَ أَنْ يَفُوتَهُ مِنَ الْكَسْبِ خَيْرٌ لَهُمْ وَشَرٌّ لَهُمْ.
وَهُنَالِكَ أُمُورٌ مِنَ الْخَيْرِ تَتَوَقَّفُ خَيْرِيَّتُهَا أَوْ كَمَالُ الْخَيْرِ فِيهَا وَخُلُوُّهُ مِنَ الشَّوَائِبِ عَلَى كِتْمَانِهِ وَجَعْلِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ سِرًّا وَالْحَدِيثِ فِيهِ نَجْوَى، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَمَا اسْتَثْنَاهَا اللهُ - تَعَالَى - مِنَ النَّجْوَى الَّتِي لَا خَيْرَ فِي أَكْثَرِهَا إِلَّا لِأَنَّهَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى النَّجْوَى، وَإِنِّي لَمْ أَفْطِنْ لِهَذَا إِلَّا عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَلَيْسَ عِنْدِي فِيهِ نَقْلٌ، وَقَدْ عَجِبْتُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَيْفَ ذَهَبَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ مَا لَمْ أَعْجَبْ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ أَبُو عُذْرَةِ هَذِهِ الدَّقَائِقُ فِي عِلْمِ الْإِنْسَانِ وَالْقُرْآنِ ; عَلَى أَنَّنِي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيَّ جَمِيعُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُعْتَبَرَةِ لِأُرَاجِعَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِيهَا.
أَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ مِنَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي لَا مِرْيَةَ فِيهَا، وَإِنَّ إِظْهَارَهَا قَدْ يُؤْذِي الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَيَضَعُ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْرُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا أَشَدَّ إِيذَاءً وَإِهَانَةً لَهُ مِنْ
331
إِيتَائِهِ إِيَّاهَا جَهْرًا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - ; وَلِهَذَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (٢: ٢٧١)، فَقَدْ مَدَحَهَا اللهُ - تَعَالَى - مُطْلَقًا، وَجَعَلَ إِخْفَاءَ مَا يُؤْتَاهُ الْفَقِيرُ مِنْهَا خَيْرًا مِنْ إِظْهَارِهِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ يَتَأَذَّى بِالْإِظْهَارِ وَيَرَاهُ إِهَانَةً لَهُ، وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ الْفُقَرَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِالْإِظْهَارِ لَحَرَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَأَوْجَبَ الْإِخْفَاءَ إِيجَابًا، فَلَمَّا ذَمَّ اللهُ - تَعَالَى - النَّجْوَى وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَكَانَ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَلَّا يَتَنَاجَى الْمُتَعَاوِنُونَ عَلَى الْخَيْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالصَّدَقَةِ الْخَفِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْحَيَاءِ وَالْكَرَامَةِ الَّذِينَ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ بِأَمْرِهِمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، اسْتَثْنَى الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النَّجْوَى حَتَّى لَا يَتَحَامَاهُ الْمُتَوَرِّعُونَ خَوْفًا أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ فَقَدْ يَخْفَى وَجْهُ اسْتِثْنَائِهِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الْمُنْكَرِ، أَيْ: مَا تَعْرِفُهُ وَتُقِرُّهُ النُّفُوسُ وَتَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلْمَصَالِحِ وَانْطِبَاقِهِ عَلَى الطِّبَاعِ وَالْعُقُولِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْفِرَاسَةِ مِنَ الْعَرَبِ: إِنِّي لَأَعْرِفُ فِي عَيْنَيِ الرَّجُلِ إِذَا عَرَفَ، وَأَعْرِفُ فِي عَيْنَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ، وَأَعْرِفُ فِيهِمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يُنْكِرْ إِلَخْ، وَلَمَّا كَانَ الشَّرْعُ مُهَذِّبًا لِلنُّفُوسِ وَمُرْشِدًا لِلْعُقُولِ، وَمُقَوِّمًا لِمَا مَالَ وَانْآدَ مِنْ أَحْكَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِسُوءِ اجْتِهَادِ النَّاسِ صَارَ أَعْرَفُ الْمَعْرُوفِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ أَوْ أَقَرَّهُ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَأَنْكَرُ الْمُنْكَرَ مَا نَهَى عَنْهُ وَذَمَّهُ وَكَرِهَهُ، فَالَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ يَسْتَاءُ فِي الْغَالِبِ مِنَ الْآمِرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ حَقِيقَةً أَوِ ادِّعَاءً ; لِأَنَّهُ يَرَى فِي أَمْرِهِ إِيَّاهُ اسْتِعْلَاءً عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَاتِّهَامًا لَهُ بِالتَّقْصِيرِ أَوِ الْجَهْلِ، وَإِشْرَافًا عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّهْذِيبِ، مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَتِ النَّجْوَى بِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْإِيذَاءِ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَالْإِمْضَاءِ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، لِيَكُفَّ عَنْهُ مُحِبُّو الِاسْتِعْلَاءِ، وَلَا يَتَأَثَّمُ بِهِ مَنْ يَعْرِفُونَ فَائِدَةَ الْإِخْفَاءِ.
وَأَمَّا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ فَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِظْهَارِهِ
وَالتَّحَدُّثِ بِهِ فِي الْمَلَأِ شَرٌّ كَبِيرٌ، وَضَرَرٌ مُسْتَطِيرٌ، فَيَنْقَلِبُ الْإِصْلَاحُ الْمَطْلُوبُ إِفْسَادًا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ عَاشَ بَيْنَ النَّاسِ، وَاخْتَبَرَ أَحْوَالَهُمْ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْخِصَامِ وَالشِّقَاقِ وَالتَّنَازُعِ وَالصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي بِسَعْيِ مُحِبِّي الْإِصْلَاحِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا يُطَالَبُ بِهِ مِنَ الصُّلْحِ كَانَ بِأَمْرِ زَيْدٍ مِنَ النَّاسِ، لَا يَسْتَجِيبُ وَلَا يَقْبَلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُ عَنِ الرِّضَا بِذَلِكَ ذِكْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَعِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ بِسَعْيٍ وَتَوَاطُؤٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مُصَالَحَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ ذَلِكَ، وَالْجَهْرُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ قَدْ يُبْطِلُ ذَلِكَ، فَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْكِتْمَانِ وَأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهِ وَالسَّعْيُ إِلَيْهِ بَيْنَ مَنْ يَتَعَاوَنُونَ عَلَيْهِ بِالنَّجْوَى فِيمَا بَيْنَهُمْ.
332
لَوْ أُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّجْوَى لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَذَهَبَ اجْتِهَادُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَوَرِّعِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ فَيَتْرُكُونَ النَّجْوَى بِهَا خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا الْجَهْرَ بِالْأَمْرِ بِهَا فَيَفُوتُ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَلَوْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَإِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا تَرْكَ الْأَمْرِ بِهَا أَلْبَتَّةَ، لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَى النَّفْعِ الْمَقْصُودِ مِنَ الصَّدَقَةِ الضَّرَرُ، وَتَأْخُذُ مَنْ يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَيَتَحَوَّلُ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ إِلَى إِفْسَادٍ، فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي الْآنَ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، بَغَى الشَّيْءَ طَلَبَهُ بِالْفِعْلِ، وَابْتَغَاهُ أَبْلَغُ مِنْ بَغَاهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّلَبِ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِيهِ وَالِاعْتِمَالِ لَهُ، وَإِنَّمَا تُنَالُ مَرْضَاةُ اللهِ - تَعَالَى - بِالشَّيْءِ إِذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْخَيْرُ وَيَتِمُّ بِهِ النَّفْعُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ لَهُ مُظْهِرًا لِرَحْمَتِهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ، مَعَ تَذَكُّرِ هَذَا عِنْدَ الْعَمَلِ وَالشُّعُورِ بِهِ ; وَبِهَذَا الْقَيْدِ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ أَرْقَى مِنَ الْفَيْلَسُوفِ فِي عَمَلِهِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْغُرُورِ وَالدَّعْوَى فِيهِ، وَأَرْسَخَ قَدَمًا فِي الْإِخْلَاصِ، وَتَحَرِّي نَفْعَ النَّاسِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمِ مُزَاحَمَةِ الْأَهْوَاءِ الشَّخْصِيَّةِ لَهُ وَتَرْجِيحِهَا عَلَيْهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَأَخُصُّ مِنْهُمْ فَلَاسِفَةَ هَذَا الزَّمَانِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْخَيْرَ وَالْفَضِيلَةَ وَالْكَمَالَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ ; لِأَنَّهُ خَيْرٌ نَافِعٌ لِلْهَيْئَةِ
الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا، وَالْإِيمَانُ يَهْدِينَا إِلَى هَذَا وَإِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَهُوَ أَنْ نُشْعِرَ أَنْفُسَنَا عِنْدَ عَمَلِهِ أَنَّنَا مَظَاهِرُ لِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَرَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ وَمَجَالِي لِحِكْمَتِهِ فِي إِصْلَاحِ خَلْقِهِ، وَأَنَّ لَنَا بِذَلِكَ قُرْبًا مَعْنَوِيًّا مِنْ رَبِّنَا، وَأَنَّنَا نِلْنَا بِهِ مَرْضَاتَهُ عَنَّا، وَصِرْنَا بِهِ أَهْلًا لِلْجَزَاءِ الْأَوْفَى، فِي حَيَاةٍ أَشْرَفَ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَأَرْقَى وَإِنَّ هَذَا الْجَزَاءَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يَشْهَدُ اللهُ - تَعَالَى - بِعَظَمَتِهِ فِي كِتَابِهِ الْحَكِيمِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ جَزَاءِ الْمُلُوكِ وَالْكُبَرَاءِ لِمَنْ يُحْسِنُ خِدْمَتَهُمْ، وَيَنَالُ مَرْضَاتَهُمْ، بَلْ هُوَ أَثَرٌ فِطْرِيٌّ طَبِيعِيٌّ لِارْتِقَاءِ النَّفْسِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، الَّتِي لَا يُقْصَدُ بِهَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، إِلَى مَا يَزِيدُ اللهُ صَاحِبَهَا بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ.
إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيهَ فِي دِينِهِ، الَّذِي هُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، يَعْمَلُ الْخَيْرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، حَتَّى تَرْتَقِيَ رُوحُهُ ارْتِقَاءً تَصِلُ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْفَضْلِ، وَأَمَّا صَاحِبُ تِلْكَ النَّظَرِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ فَقَلَّمَا يَعْمَلُ بِهَا، وَإِنْ عَمِلَ بِهَا أَحْيَانًا فَقَلَّمَا يَكُونُ مُخْلِصًا فِي عَمَلِهِ، وَإِذَا تَعَارَضَ هَوَاهُ وَشَهْوَتُهُ مَعَ خَيْرِ غَيْرِهِ وَمَنْفَعَتِهِ فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ نَفْسَهُ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ مِمَّا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، فَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ وَمُقَلِّدَتُهُمْ يُؤْثِرُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَوْ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَمِيلُونَ فِي تَأْوِيلِ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ مَعَ الْهَوَى، وَقَدْ جَرَى لِي حَدِيثٌ مَعَ بَعْضِ كُبَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ فِي تَحْدِيدِ
333
مَعْنَى الْفَضِيلَةِ فَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْفَلْسَفَةِ، وَأَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْإِسْلَامِ الْجَامِعِ بَيْنَ الدِّينِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَمَّا حَدَّدَهَا بِمَا يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، قُلْتُ: إِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى فَمَا هُوَ الْبَاعِثُ لِلنُّفُوسِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ؟ قَالَ: هُوَ اعْتِقَادُ كُلِّ فَرْدٍ أَنَّ نَفْعَ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ نَفَعٌ لَهُ فَإِذَا صَلُحَتْ عَاشَ فِيهَا سَعِيدًا، وَإِذَا فَسَدَتْ لَحِقَهُ شَيْءٌ مِنْ فَسَادِهَا فَكَانَ بِهِ شَقِيًّا، قُلْتُ: مَعْنَى الْفَضِيلَةِ إِذًا أَنْ يَطْلُبَ الْإِنْسَانُ نَفْعَ نَفْسِهِ مَعَ مُلَاحَظَةِ نَفْعِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا، فَتَخْتَلِفُ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَنْدَرِجُ فِي مَفْهُومِهَا الْكُلِّيِّ بِاخْتِلَافِ آرَاءِ أَفْرَادِ النَّاسِ فِيمَا يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ وَفِيمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَنَافِعِ عِنْدَ تَعَارُضِهَا، مِثَالُ ذَلِكَ: إِذَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْرِقَ مَالَ رَجُلٍ أَوْ تَخُونَهُ فِيهِ إِذَا اسْتَوْدَعَكَ إِيَّاهُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ لِاعْتِقَادِكَ أَنَّكَ تَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَيْهِ مِنْ نَفْعِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، أَوْ
تُنْفِقُهُ فِيمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهَا، تَكُونُ بِهَذِهِ السَّرِقَةِ وَهَذِهِ الْخِيَانَةِ مُعْتَصِمًا بِعُرْوَةِ الْفَضِيلَةِ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَإِذَا قَدَرَ رَجُلٌ عَلَى أَنْ يَخُونَ آخَرَ فِي عِرْضِهِ وَيَزْنِيَ بِامْرَأَتِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ; لِأَنَّهُ فِي الْخَفَاءِ فَلَا يُثِيرُ نِزَاعًا وَلَا خِصَامًا فَلَا يُنَافِي الْفَضِيلَةَ، أَوْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لِأَنَّهُ بِإِيلَادِهَا وَلَدًا يَرِثُ مِنْ ذَكَائِهِ مَا يَكُونُ بِهِ خَيْرًا مِمَّنْ تَلِدُهُمْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا الشَّرْعِيِّ، أَوْ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا عِنْدَهُ كَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْعَمَلُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْفَضِيلَةِ الْمَحْدُودَةِ بِمَا ذَكَرْتُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ يُعَدُّ مِنَ الْفَضِيلَةِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ إِذَا كَانَ اعْتِقَادُ الْفَاعِلِ بِنَفْعِهِ لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ الْقَانُونُ لَا يُجِيزُ الْحُكْمَ لَهُ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ إِذَا ظَهَرَ الْأَمْرُ، وَرُفِعَ إِلَى الْقَاضِي.
أَقُولُ: وَقِسْ عَلَى السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفَاحِشَةِ جَمِيعَ الرَّذَائِلِ حَتَّى الْقَتْلَ، فَإِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْرِيفِ إِذَا ظَنَّ فَاعِلُهَا أَنَّهُ يَنْفَعُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ كَأَنْ يَقْتُلَ مَنْ يَرَى هُوَ فِي سِيَاسَتِهِ أَوِ اعْتِقَادِهِ أَوْ عَمَلِهِ ضَرَرًا وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ يَرَى ذَلِكَ نَافِعًا، فَهَذَا الْمَذْهَبُ الْجَدِيدُ فِي الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ هُوَ شَرُّ مَذْهَبٍ أُخْرِجَ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ الرَّذَائِلَ فِيهِ قَدْ تُسَمَّى عَقَائِلَ الْفَضَائِلِ، وَالْمَفَاسِدُ تُعَدُّ فِيهِ مِنْ أَنْفَعِ الْمَصَالِحِ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْهَوَى، وَلَوْلَا افْتِتَانُ ضُعَفَاءِ النُّفُوسِ بِبَعْضِ مَنْ يَقُولُونَ بِهِ لَمَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُحْكَى، وَكَانَ لِلْفَلَاسِفَةِ الْأَوَّلِينَ مَذَاهِبُ فِي الْفَضِيلَةِ مَعْقُولَةٌ، وَآرَاءٌ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ أَنْطَقَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِكَثِيرٍ مِنَ الْحِكَمِ، وَلَكِنْ ثَمَرَاتُ عُقُولِهِمْ لَمْ تَكُنْ دَانِيَةَ الْقُطُوفِ، يَجْنِيهَا الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَا لِهِدَايَةِ الْوَحْيِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَالتَّأْثِيرِ السَّرِيعِ فِي إِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الدِّينُ أَنْفَعَ مِنَ الْفَلْسَفَةِ لِلنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا أَسْنَدْتُهُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ
334
اللهِ: إِنَّهَا إِنَّمَا تُطْلَبُ بِالْإِخْلَاصِ، وَعَدَمِ إِرَادَةِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُتَفَاخِرُونَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ تَصَدَّقْنَا أَعْطَيْنَا مَنَحْنَا عَمِلْنَا وَعَمِلْنَا، فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا يَبْتَغُونَ الرِّبْحَ بِمَا يَبْذُلُونَ أَوْ يَعْمَلُونَ لَا مَرْضَاةً لِلَّهِ - تَعَالَى - ; وَلِذَلِكَ يَشُقُّ
عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا، وَأَنْ يُخْلِصُوا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ نَجِيًّا ; لِأَنَّ الِاسْتِفَادَةَ مِنْهُ بِجَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِمْ، وَتَسْخِيرِ النَّاسِ لِخِدْمَتِهِمْ، وَرَفْعِهِمْ لِمَكَانَتِهِمْ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِظْهَارِهِ لَهُمْ، لِيَتَعَلَّقَ الرَّجَاءُ فِيهِمُ انْتَهَى بِبَسْطٍ وَإِيضَاحٍ.
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلَخْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمَّا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ وَعْدَهُ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ لِلَّذِينِ يَتَنَاجَوْنَ بِالْخَيْرِ وَيَبْتَغُونَ بِنَفْعِ النَّاسِ مَرْضَاةَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعِيدَهُ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ بِالشَّرِّ، وَيُبَيِّتُونَ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِلنَّاسِ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مُشَاقُّونَ لِلرَّسُولِ إِذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَعِيدَ، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ، فَمَنْ نَظَرَ مِنْهُمْ فِي الدَّلِيلِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَقُّ وَبَقِيَ مُتَوَجِّهًا إِلَى طَلَبِهِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعَ الْإِخْلَاصِ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ كَالَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ، وَالْمُشَاقَّةُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى إِنَّمَا تَكُونُ عِنَادًا وَعَصَبِيَّةً أَوِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَةٍ تَفُوتُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ، اهـ.
أَقُولُ: الْمُشَاقَّةُ الْمُعَادَاةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَقَّ الْعَصَا، أَوْ هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الشَّقِّ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِينَ يَكُونُ فِي شِقٍّ غَيْرَ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ كَمَا قَالُوا، وَالْكَلَامُ جَاءَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى طُعْمَةَ، كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّتِهِ وَعَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فُطِرُوا عَلَى تَرْجِيحِ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ وَالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَعَرَفُوهُ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ دَخَلَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ وَرَأَى الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَقَوْمُهُ " كَطُعْمَةَ " وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا التَّرْجِيحِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَبَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ
النَّقْضَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَظْهَرَ لِلْمَرْءِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْهُدَى أَوْ أَنَّهُ أَهْدَى مِنْ مُقَابِلِهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُقَابِلٌ، وَسَبَبُ هَذَا وَمَنْشَؤُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فُطِرَ عَلَى حُبِّ نَفْسِهِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ لَهَا وَالسَّعْيِ إِلَى ذَلِكَ وَاتِّقَاءِ مَا يُنَافِيهِ وَيَحُولُ دُونَهُ ; لِذَلِكَ كَانَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَكُلُّ مَا حُرِّمَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَكُلُّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَوِ اسْتُحِبَّ لَهُمْ فِيهَا فَهُوَ
335
نَافِعٌ لَهُمْ ; وَلِهَذَا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ أَنْ يَتْرُكَهَا أَحَدٌ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهَا وَتَتَبَيَّنَ لَهُ، وَكَانَ إِنْ وَقَعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (٢: ١٣٠)، أَيْ: لَا أَحَدَ يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَنِ احْتَقَرَ نَفْسَهُ وَأَزْرَاهَا بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَصْنَافَ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الْهُدَى وَتَرْكِهِ وَسَبَبِ ذَلِكَ فَنَقُولُ:
(الصِّنْفُ الْأَوَّلُ) : مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ، وَوَصَلَ فِيهِ إِلَى حَقِّ الْيَقِينِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ اعْتِقَادًا، وَيَنْدُرُ جَدًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عَمَلًا وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلِمَةٌ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْحَقِّ كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ يَعْنِي الرُّجُوعَ بِالْعَمَلِ، إِذِ الْإِنْسَانُ يَمْلِكُ مِنْ عَمَلِهِ مَا لَا يَمْلِكُ مِنَ اعْتِقَادِهِ، فَمَنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَلَا شَرِيكًا لِلَّهِ يُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَهُ لَوْلَاهُ لَا يَسْتَطِيعُ بَعْدَ الْيَقِينِ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ عُبِدَ وَمِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أَوْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ وَيَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِ أَنْ يَدْعُوَهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ، وَأَنْ يَعْبُدَهَا بِغَيْرِ الدُّعَاءِ أَيْضًا كَالتَّمَسُّحِ بِهَا وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي يَعُدُّهُ أَهْلُهَا مِنْ شَعَائِرِ الْعِبَادَاتِ، لَا مِنْ عُمُومِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَاتِهَا لَا يَفْعَلُهُ، أَيْ: لَا يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْعَمَلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ السَّبَبِ، وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ.
(الصِّنْفُ الثَّانِي) : مَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بِالدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَرْجُحُ بِهَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ أَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، لَا بِالْبُرْهَانِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ أَوِ الْمُنْتَهِيَةِ إِلَيْهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْهُدَى بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ ; إِذْ يَكْفِي أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ بِهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، فَلَا يُشَاقَّانِ مَنْ جَاءَهُمْ بِذَلِكَ وَلَا يَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِ أَهْلِهِ إِلَّا لِسَبَبٍ يَقِلُّ وُقُوعُهُ كَمَا سَيَأْتِي.
(الصِّنْفُ الثَّالِثُ) : مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَقْلِيدًا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ النَّاسِ كَآبَائِهِ وَخَاصَّةً أَهْلَهُ وَرُؤَسَاءَ قَوْمِهِ، وَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِيمَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ وَالْهُدَى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ شَيْءٌ ; وَلِذَلِكَ يَتْرُكُونَ الْهُدَى إِلَى كُلِّ مَا يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ.
(الصِّنْفُ الرَّابِعُ) : مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى ; لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَى تَقْلِيدِ أَهْلِ الضَّلَالِ، فَلَمَّا دُعِيَ إِلَى الْهُدَى لَمْ يَنْظُرْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ الَّذِي دُعِيَ إِلَى دِينِهِ، وَلَا تَأَمَّلَ فِي دَلِيلِهِ لِأَنَّهُ صَدَّقَ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ قَلَّدَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا أَهْلَ الِاجْتِهَادِ، وَمَنْ يَنْقُلُ إِلَيْهِمْ مَذَاهِبَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقِيَ اللهَ سَالِمًا، وَمَنْ نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ زَلَّ وَضَلَّ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ
336
بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَدْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ كَالْمَجُوسِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ إِذَا تَرَكَ رُؤَسَاؤُهُمْ دِينَهُمْ أَوْ مَذْهَبَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَخَلُوا فِي مَذْهَبٍ أَوْ دِينٍ جَدِيدٍ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهِ عَدَاوَاتٌ دِينِيَّةٌ وَلَا سِيَاسِيَّةٌ تُنَفِّرُهُمْ تَنْفِيرًا طَبِيعِيًّا وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُلُوكَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَتَبَ لِكُلِّ رَئِيسٍ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمَ قَوْمِهِ أَوْ مَرْءُوسِيهِ إِذَا هُوَ تُوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ.
(الصِّنْفُ الْخَامِسُ) : كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي التَّقْلِيدِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ تَعْظِيمًا لِجُمْهُورِ قَوْمِهِ وَمَنْ نَشَأَ عَلَى احْتِرَامِهِمْ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَاسْتِبْعَادًا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلَالِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الدَّاعِي قَدْ عَرَفَ الْهُدَى مِنْ دُونِهِمْ، أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِهِمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ سَرْدِهَا، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُقَلَّدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَدْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ ذَاتِ الْكُتُبِ وَالْهَيَاكِلِ وَالرُّؤَسَاءِ الرُّوحِيِّينَ
أَنَّ تَقْلِيدَ هَؤُلَاءِ الْعَرَبِ أَضْعَفُ وَجَذَبَهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ أَسْهَلُ وَكَذَلِكَ كَانَ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ.
(الصِّنْفُ السَّادِسُ) : عُلَمَاءُ الْأَدْيَانِ الْجَدَلِيُّونَ الْمَغْرُورُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ بِهَا، الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْهُدَى فَلَمْ يَتَوَلَّوْا عَنْهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَاءَ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهِ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالْإِخْلَاصِ، بَلْ أَعْرَضُوا احْتِقَارًا لَهُ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ وَوَثِقُوا بِهِ، وَجَعَلُوهُ مَنَاطَ عَظَمَتِهِمْ، وَحَسِبُوهُ مُنْتَهَى سَعَادَتِهِمْ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَلِّدُونَ كَعَامَّتِهِمْ، وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّوَارِفِ عَنْ قَبُولِ الْهُدَى مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْجَدَلِيَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
(الصِّنْفُ السَّابِعُ) : الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا الصَّحِيحِ الْمُحَرِّكِ لِلنَّظَرِ، فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا وَلَمْ يُبَالُوا بِهَا لِأَنَّهُمْ رَأَوْهَا بَدِيهِيَّةَ الْبُطْلَانِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ كُفَّارِ هَذَا الزَّمَانِ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنَّهُ دِينٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْيَانِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَرَعَةِ فِيهِ وَفِي هَذِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَالْأَبَاطِيلِ وَمَا هُوَ كَذَا وَكَذَا، كَمَا اخْتَرَعَ وَافْتَرَى رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا مَا كَتَبُوهُ قَبْلَ تَأْلِيبِ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ عَلَى الْحَرْبِ الشَّهِيرَةِ بِالصَّلِيبِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ دِينِ " الْمُورْمُونِ " مَثَلًا.
(الصِّنْفُ الثَّامِنُ) : مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى وَجْهِهَا أَوْ غَيْرِ وَجْهِهَا فَنَظَرُوا فِيهَا بِالْإِخْلَاصِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا وَلَا تَبَيَّنَتْ لَهُمْ هِدَايَتُهَا، فَتَرَكُوهَا وَتَرَكُوا إِعَادَةَ النَّظَرِ فِيهَا.
(الصِّنْفُ التَّاسِعُ) : هُمْ أَهْلُ الِاسْتِقْلَالِ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي الدَّعْوَةِ كَمَنْ سَبَقَهُمْ، وَلَا يَتْرُكُونَ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الْحَقُّ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بَلْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ وَيَدْأَبُونَ طُولَ
337
عُمْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ نَقَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنْ مُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاتِهِمْ لِعُذْرِهِمْ.
(الصِّنْفُ الْعَاشِرُ) : مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالْهُدَى الْبَتَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَهْلِ الْفَتْرَةِ، وَمَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَنَاجُونَ.
هَذِهِ هِيَ أَصْنَافُ النَّاسِ فِي الْهُدَى وَالضَّلَالِ، بِحَسَبِ مَا خَطَرَ لِلْفِكْرِ الْقَاصِرِ الْآنَ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى صِنْفٍ مِنْهَا أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلَّا الْأَوَّلَ وَالثَّانِي، فَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ أَفْرَادِهِمَا فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُعَادِ سُنَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وَهُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةٍ أُخْرَى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٤٥: ٢٣)، وَهُمْ أَجْدَرُ النَّاسِ بِدُخُولِ جَهَنَّمَ، وَصَلْيُهَا الِاحْتِرَاقُ بِهَا وَسَائِرُ أَنْوَاعِ عَذَابِهَا ; لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَعَانَدُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْهَوَى.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَصْنَافِ فَيُوَلِّي اللهُ كُلًّا مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى أَيْضًا، كَمَا هِيَ سُنَّتَهُ فِي الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ مُرِيدًا مُخْتَارًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُحِيطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا لَهُ ; وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ أَحْوَالَ مَعِيشَتِهِ وَأَسَالِيبَ تَرْبِيَتِهِ، وَسَخَّرَ قُوَى الطَّبِيعَةِ الْعَاتِيَةِ لِمَنَافِعِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (٤٥: ١٣)، فَهُوَ مُرَبِّي نَفْسِهِ وَمُرَبِّي الطَّبِيعَةِ الَّتِي أَلَّهَهَا بَعْضُ أَصْنَافِهِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ لَا مُتَصَرِّفَ فَوْقَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَقُولُ هَذَا نَسْفًا لِأَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْأُورُبِّيَّةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ نَسْفِ أَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْغَابِرَةِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ الْأَفْعَالَ الْمُنْعَكِسَةَ تَعْمَلُ فِي الْإِنْسَانِ عَمَلَهَا، وَأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ بِهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا كَحُكْمِهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرَكَ لَهَا الْحُكْمَ اسْتَبَدَّتْ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَفِيهَا فَعَلَ.
قُلْتُ: إِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يُوَلِّيَ كُلًّا مِنَ الْأَصْنَافِ مَا تَوَلَّى، وَلَكِنَّهُ لَا يُصْلِي كُلًّا مِنْهُمْ جَهَنَّمَ الَّتِي سَاءَ مَصِيرُهَا ; لِأَنَّ إِصْلَاءَ جَهَنَّمَ هُوَ تَابِعٌ لِمَا يَتَوَلَّاهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الضَّلَالَةِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذْ تَوَلَّاهَا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتِ الْهِدَايَةُ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الطَّهَارَةِ
وَالزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ بِحَسَبِ تَزْكِيَةِ صَاحِبِهَا لَهَا، أَوْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَدْسِيَتِهِ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَاكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى.
وَإِنَّنِي لَا أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي اطَّلَعْتُ عَلَى تَفْسِيرٍ وَاضِحٍ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَكِيمَةِ الْعَالِيَةِ نَوَلِّهِ مَا تَوَلَّى، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ بِمَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، كَأَنْ يَقُولُوا: نُوَجِّهْهُ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَ،
338
أَوْ نَجْعَلْهُ وَالِيًا لِمَا اخْتَارَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ، أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْلَالَ كُلِّ فُرْقَةٍ بِالْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ، أَعْنِي مَذْهَبَهُمْ فِي الْكَسْبِ وَالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ، وَتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالشَّرِّ، وَالَّذِي أُرِيدُ بَيَانَهُ وَتَوْجِيهَ الْأَذْهَانِ إِلَى فَهْمِهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي عَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَمِقْدَارِ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْإِرَادَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَالْعَمَلِ بِالِاخْتِيَارِ، فَالْوِجْهَةُ الَّتِي يَتَوَلَّاهَا فِي حَيَاتِهِ، وَالْغَايَةُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْ عَمَلِهِ، يُوَلِّيهِ اللهُ إِيَّاهَا وَيُوَجِّهُهُ إِلَيْهَا، أَيْ يَكُونُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - وَالِيًا عَلَيْهَا، وَسَائِرًا عَلَى طَرِيقِهَا، فَلَا يَجِدُ مِنَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَا يَجْبِرُهُ عَلَى تَرْكِ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ شَاءَ - تَعَالَى - لِهَدَى النَّاسَ أَجْمَعِينَ بِخَلْقِهِمْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّاعَةِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ عَلَى مَا نَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَفَاوُتِ الِاسْتِعْدَادِ وَالْإِدْرَاكِ، وَعَمَلِ كُلِّ فَرْدٍ بِحَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا إِلَى آخِرِ مَا لَا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا مِنْ طَبَائِعِ الْبَشَرِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَوْلِيَةِ اللهِ لِمِثْلِ هَذَا مَا تَوَلَّى هُوَ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ وَالْأَلْطَافِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - عِنَايَةً خَاصَّةً بِبَعْضِ عِبَادِهِ وَرَاءَ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَنَهُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلْأَعْمَالِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ وَضَعَ نَفْسَهُ وَاخْتَارَ لَهَا وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارِ، نَعَمْ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهَبُ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَيَزِيدُهُمْ مَنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَيْسَ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مَظِنَّةً لَهُ، فَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيَقُولُ الَّذِينَ فَسَّرُوا التَّوْلِيَةَ بِهَذَا النَّفْيِ
وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْأَلْطَافِ: إِنَّ هَذَا الصِّنْفَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ ذَلِكَ، أَمِ الْحِرْمَانُ شَامِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ؟ وَهَلْ يَسْتَلْزِمُ حِرْمَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ هِدَايَتِهِ ثَانِيَةً أَمْ لَا؟ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَسْلَمُ مِنَ الْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا تُدْفَعُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدَةِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الضَّالِّينَ إِلَى الْهُدَى ; لِأَنَّ عِلْمَهُ بِحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَبُطْلَانِ مَا صَارَ إِلَيْهِ، لَا يَبْرَحُ يَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْفَلْجُ لَهُ.
أَمَّا السَّبَبُ الَّذِي يَحْمِلُ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى عَلَى تَرْكِهِ، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْأَحْوَالِ
339
النَّفْسَانِيَّةِ الْقَوِيَّةِ كَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ، وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِ، وَالشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْجِنْسِ، وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهِ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ صِدْقَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَلَّوْا عَنْهَا حَسَدًا لَهُ وَلِلْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِيثَارًا لِرِيَاسَتِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَرْؤُوسِينَ فِي غَيْرِهِمْ، وَارْتِدَادُ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ عَنِ الْإِسْلَامِ، لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَطَمَهُ مِنَ السُّوقَةِ، وَارْتَدَّ أُنَاسٌ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ دِينِهِمْ لِافْتِتَانِهِمْ بِبَعْضِ النِّسَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَيْ عِلَّةُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ هِيَ ضَعْفُ النَّفْسِ وَمَرَضُ الْإِرَادَةِ بِجَرَيَانِ صَاحِبِهَا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَعَدَمِ تَرْبِيَتِهَا عَلَى تَحَمُّلِ مَا لَا تُحِبُّ فِي الْعَاجِلِ لِأَجْلِ الْخَيْرِ الْآجِلِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ إِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ مِنْ تَرْجِيحِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ، وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمُتَّبَعُ لَا يَتَمَثَّلُ لَهُ النَّفْعُ الْآجِلُ كَمَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ النَّفْعُ الْعَاجِلُ لِضَعْفِ نَفْسِهِ، وَمَهَانَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنِ الْوُقُوفِ فِي مَهَبِّ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيلَ مَعَهُ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ مَدَّ سِمَاطًا عَامًّا لِلنَّاسِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمْ أَعْرَابِيًّا يَأْكُلُ بِشَرَهٍ شَدِيدٍ فَلَمَّا جَاءَتِ الْحَلْوَى تَرَكَ الطَّعَامَ وَوَثَبَ يُرِيدُهَا فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ سَيَّافَهُ أَنْ يُنَادِيَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْوَى قُطِعَتْ عُنُقُهُ بِأَمْرِ الْأَمِيرِ، وَالْحَجَّاجُ يَقُولُ وَيَفْعَلُ فَصَارَ الْأَعْرَابِيُّ يَنْظُرُ إِلَى السَّيَّافِ نَظْرَةً وَإِلَى الْحَلْوَى نَظْرَةً، كَأَنَّهُ يُرَجِّحُ بَيْنَ حَلَاوَتِهَا وَمَرَارَةِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُ
وَجْهُ التَّرْجِيحِ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ: " أُوصِيكَ بِأَوْلَادِي خَيْرًا " وَهَجَمَ عَلَى الْحَلْوَى وَأَنْشَأَ يَأْكُلُ وَالْحَجَّاجُ يَضْحَكُ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَهُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِدْلَالُ بَعْضِهِمْ بِهَا عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ مُخَالِفَهُ مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ فِي بَيَانِ حُجِّيَّتِهِ بِأَنَّهُ هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يَعْنُونَهُ هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا فِي أَيِّ عَصْرٍ عَلَى أَيِّ أَمْرٍ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِهِ لَا بَعْدَ عَصْرِهِ، وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي بَيَّنْتُ عَدَمَ اتِّجَاهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَنَارِ، وَكَذَلِكَ رَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَالْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ فِي إِرْشَادِ الْفُحُولِ، وَالْآيَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْإِجْمَاعِ الصَّحِيحِ هِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٥٩)، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَبَحْثُ الْإِجْمَاعِ فِيهَا، وَزِدْتُهُ بَيَانًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَعَلْتُهَا مُتَمِّمَةً لِتَفْسِيرِهَا.
340
إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا.
بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَهَنَّمَ هِيَ مَصِيرُ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيِّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ يَكُونُ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ ظَاهِرًا جَلِيًّا بِمِثْلِ مَا فَعَلَ طُعْمَةَ مِنْ تَرْكِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي عَصْرِهِ وَغَيْرِ عَصْرِهِ فِي كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فِيهَا فَتَرَكَهَا وَعَادَى أَهْلَهَا وَوَالَى أَعْدَاءَهُمْ، فَإِنَّ مُشَاقَّةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشَاقَّةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ لَا يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ مُشَاقَّةٌ لِلرَّسُولِ وَاتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ يُوَلِّيهِ اللهُ مَا تَوَلَّى، وَيُوَجِّهُهُ إِلَى حَيْثُ تَوَّجَهُ بِكَسْبِهِ وَاجْتِهَادِهِ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - وَكَّلَ أَمْرَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إِلَى نَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يَخْتَصَّ مَنْ شَاءَ مِنَ النَّاسِ بِرَحْمَةٍ مِنْ لَدُنْهُ.
341
وَبَقِيَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ مِنْ أَنْوَاعِ ضَلَالِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ وَمَا لَا يَغْفِرُهُ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَبَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا النَّصُّ بِعَيْنِهِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ إِعَادَتِهِ هُنَا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ قَانُونًا وَلَا كِتَابًا فَنِّيًّا فَيَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا حَافِظُهَا عِنْدَ إِرَادَةِ الْعَمَلِ بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَمَثَانِيَ يُتْلَى لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ تَارَةً فِي الصَّلَاةِ، وَتَارَةً فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا تُرْجَى الْهِدَايَةُ وَالْعِبْرَةُ بِإِيرَادِ الْمَعَانِي الَّتِي يُرَادُ إِيدَاعُهَا فِي النُّفُوسِ فِي كُلِّ سِيَاقٍ يُوَجِّهُ النُّفُوسَ إِلَيْهَا أَوْ بَعْدَهَا وَيُهَيِّئُهَا لِقَبُولِهَا، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِتَكْرَارِ الْمَقَاصِدِ الْأَسَاسِيَّةِ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَمَكَّنَ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ فِي النُّفُوسِ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ ; وَلِذَلِكَ نَرَى أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ الَّذِينَ عَرَفُوا سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَطَبَائِعَ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقَهُمْ يُكَرِّرُونَ مَقَاصِدَهُمْ فِي خُطَبِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمُ
الَّتِي يَنْشُرُونَهَا فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، بَلْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ: إِنَّ نَشْرَ التُّجَّارِ لِلْإِعْلَانَاتِ الَّتِي يَمْدَحُونَ بِهَا سِلَعَهُمْ وَبَضَائِعَهُمْ وَيَدُلُّونَ النَّاسَ عَلَى الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُبَاعُ فِيهَا هُوَ عَمَلٌ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ إِذَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَدْحُ الشَّيْءِ وَلَوْ مِنَ الْمُتَّهَمِ فِي مَدْحِهِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَتَتِمَّتُهَا هُنَا: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤: ٤٨)، وَقَدْ تَقَدَّمَهَا هُنَالِكَ إِثْبَاتُ ضَلَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَحْرِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ دَرَجَاتٌ، فَمِنْهَا مَا تَغْلِبُ النُّفُوسَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ نَزَوَاتُ الشَّهْوَةِ وَثَوَرَاتُ الْغَضَبِ ثُمَّ يَعُودُ صَاحِبُهُ وَيَتُوبُ، فَهَذَا مِمَّا تَنَالُهُ الْمَغْفِرَةُ، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ الدِّينِ فَلَا يُغْفَرُ الْمَيْلُ عَنْهُ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الشَّرَكِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ تُفِيدُ أَنَّ السِّيَاقَ هُنَا كَالسِّيَاقِ هُنَاكَ فَأَعَادَهَا لِذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ مُشَاقَّةَ الرَّسُولِ وَمُخَالَفَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْخُرُوجِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَالْوُقُوعِ فِي الشَّرَكِ ; لِأَنَّ التَّوْحِيدَ رُوحُ الدِّينِ وَقِوَامُهُ، فَالْمُنَاسَبَةُ هُنَا تَقْتَضِي أَنْ يُعَادَ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إِعَادَةٌ تُنَادِي الْبَلَاغَةُ بِطَلَبِهَا وَلَا تُعَدُّ مِنَ التَّكْرَارِ الَّذِي قَالُوا: إِنَّهُ يُنَافِي الْبَلَاغَةَ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ قَدْ فَهِمُوا مِنْكَ مَعْنَى تَمَامِ الْفَهْمِ كَمَا تُرِيدُ، ثُمَّ ذَكَرْتَهُ لَهُمْ بِعِبَارَةٍ لَا تَزِيدُهُمْ فَائِدَةً وَلَا تَأْثِيرًا جَدِيدًا وَلَا تَمْكِينًا لِلْمَعْنَى وَأَمَّا مَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا يُقَالُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْقُرْآنِ يُوَجَّهُ إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعُهُمْ يَسْمَعُونَهُ وَيَتْلُونَهُ كُلَّهُ وَيَتَذَكَّرُونَ عِنْدَ كُلِّ سِيَاقٍ مَا يُنَاسِبُهُ فِي غَيْرِهِ، وَإِذَا أَنْتَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا يَسْمَعُ هَذَا السِّيَاقَ الَّذِي
342
جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ ذَلِكَ السِّيَاقِ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْأُخْرَى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّكَ تَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَا مَحَلَّ لِجَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التِّكْرَارِ الَّذِي يَفِرُّونَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الشَّاعِرِ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فِي قَصِيدَتَيْنِ يَمْدَحُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجُلًا
غَيْرَ الَّذِي يَمْدَحُهُ فِي الْأُخْرَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ: إِنَّ هَذَا التَّكْرَارَ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْكِيدُ تُكَأَتُهُمْ فِي تَعْلِيلِ كُلِّ تِكْرَارٍ، وَإِنَّمَا نَقُولُ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ التَّكْرَارِ الْمَحْضِ مُنْتَقِدًا وَمُخِلًّا بِالْبَلَاغَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ رُكْنُ الْبَلَاغَةِ الرَّكِينِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الْمُتَكَلِّمُ مُرَادَهُ مِنَ النَّفْسِ بِدُونِهِ.
وَأَمَّا مَعْنَى إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلَا يَصُدُّنَا ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ فِيهِ شَيْئًا هُنَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا: أَكَّدَ اللهُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِأَحَدٍ شِرْكَهُ أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ قَدْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْمُذْنِبِينَ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي بَعْضِ مَبَاحِثِ الْمَنَارِ أَنَّ عِقَابَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُذْنِبِينَ هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِذُنُوبِهِمْ، وَمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَمَا أَنَّ السُّكَّرَ يُحْدِثُ فِي الْبَدَنِ أَمْرَاضًا يَتَعَذَّبُ صَاحِبُهَا بِهَا فِي الدُّنْيَا يُحَدِثُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَطَايَا أَمْرَاضًا فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ يَتَعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الْآخِرَةِ وَكَمَا أَنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ وَصِحَّةَ الْمِزَاجِ تَغْلِبُ بَعْضَ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ فَلَا يَظْهَرُ لَهَا تَأْثِيرٌ مُؤْلِمٌ يُعَذِّبُ صَاحِبَهُ كَذَلِكَ قُوَّةُ الرُّوحِ بِالتَّوْحِيدِ وَصِحَّةُ مِزَاجِهَا بِالْإِيمَانِ، وَالْفَضَائِلُ تَغْلِبُ بَعْضَ الْمَعَاصِي الَّتِي قَدْ يُلِمُّ بِهَا الْمُؤْمِنُ بِجَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا مِنْ قَرِيبٍ، وَلَكِنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ لَا تَدْفَعُ مَا يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ فَيَقْطَعُ نِيَاطَهُ أَوْ لِلدِّمَاغِ فَيُتْلِفُهُ، كَذَلِكَ الشِّرْكُ يُشْبِهُ فِي إِفْسَادِهِ لِلْأَرْوَاحِ مَا يُصِيبُ الْقَلْبَ أَوِ الدِّمَاغَ مِنْ سَهْمٍ نَافِذٍ أَوْ رَصَاصَةٍ قَاتِلَةٍ، فَلَا مَطْمَعَ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ الشِّرْكَ فِي نَفْسِهِ هُوَ مُنْتَهَى فَسَادِ الْأَرْوَاحِ وَسَفَاهَةِ الْأَنْفُسِ وَضَلَالِ الْعُقُولِ فَكُلُّ حَقٍّ أَوْ خَيْرٍ يُقَارِنُهُ لَا يَقْوَى عَلَى إِضْعَافِ شُرُورِهِ وَمَفَاسِدِهِ، وَالْعُرُوضِ إِلَى جِوَارِ اللهِ - تَعَالَى - بِرُوحِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ رُوحَهُ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا مُتَعَلِّقَةً بِشُرَكَاءَ يَحُولُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُلُوصِ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ، وَالْمُذْنِبُ قَدْ يَكُونُ فِي إِيمَانِهِ وَسَرِيرَتِهِ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ وَحْدَهُ، فَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ قَدْ يَعْصِي وَقَدْ يَأْبَقُ فَلَا الْعِصْيَانُ وَلَا الْإِبَاقُ يُخْرِجَانِهِ عَنْ كَوْنِهِ عَبْدًا لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ، وَلِسَيِّدِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَا يَغْفِرُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ
لَا قِنًّا وَلَا مُبْغِضًا ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩: ٢٩)،
343
بَلْ هُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا امْتِيَازَهُمْ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمُلُوكِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَبِيدٌ أَمْثَالُهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَرِكَةٌ مَا فِي مَقَامِ الْعِبَادَةِ لَا بِدُعَاءٍ وَلَا نِدَاءٍ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتَكْبَرُوا خَلْقَهُ أَوْ نَفْعَهُ أَوْ ضَرَّهُ كَالْكَوَاكِبِ وَالنَّارِ وَبَعْضِ الْأَنْهَارِ وَالْحَيَوَانَاتِ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ (٧: ١٩٤)، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ، أَيْ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ هُمْ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، الَّتِي تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أَيْ: أَقْرَبُهُمْ وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً كَالْمَلَائِكَةِ، وَالْمَسِيحِ يَبْتَغِي هَذِهِ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَإِنَّ أَعْرَفَهُمْ بِهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفًا مِنْهُ وَرَجَاءً فِي فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَتَجِدُ الْمَلَايِينَ مِنْهُمْ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَيُوَجِّهُونَ كُلَّ عِبَادَتِهِمْ إِلَيْهِ وَحْدَهُ تَارَةً، وَيَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ مَعَ اسْمِهِ تَارَةً أُخْرَى، وَتَجِدُ مَلَايِينَ مِنْ دُونِهِمْ يَدْعُونَ وَيُنَادُونَ مِنْ دُونِ الْمَسِيحِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَصْمُدُونَ إِلَى قُبُورِهِمْ أَوْ إِلَى الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الَّتِي اتَّخَذَهَا قُدَمَاءُ الْمَفْتُونِينَ بِهِمْ تِذْكَارًا لَهُمْ، وَإِنَّنِي أَكْتُبُ هَذَا فِي ضَوَاحِي مَدِينَةِ " دِهْلِي " مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِ الْهِنْدِ وَأَنَا أَرَى أَصْنَافًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَجُولُونَ أَمَامِي فِي مَصَالِحِهِمْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ خَلْقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٤٣: ٩)، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودَاتُ أَوِ الْأَوْلِيَاءُ وَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَشُفَعَاءٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ (١٠: ١٨)، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَقْبَلُ الْعِبَادَةَ إِلَّا خَالِصَةً لِوَجْهِهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ إِنَّا أَنْزَلَنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ (٣٩: ٢، ٣).
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُوَحِّدِينَ، وَهُمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَمَا يَفْعَلُ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي اللُّغَةِ كَمَا يُفْسِدُونَ فِي الدِّينِ، فَلَا يُسَمُّونَ أَعْمَالَهُمْ هَذِهِ عِبَادَةً، وَقَدْ
يُسَمُّونَهَا تَوَسُّلًا أَوْ شَفَاعَةً، وَلَا يُسَمُّونَ مَنْ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ شُرَكَاءَ، وَلَكِنْ لَا يَأْبَوْنَ أَنْ يُسَمُّوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ، وَإِنَّمَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْحَقَائِقِ لَا عَلَى الْأَسْمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ إِلَّا دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ وَنِدَاؤُهُ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، لَكَفَى ذَلِكَ عِبَادَةً لَهُ هُوَ وَشُرُكَاهُ بِاللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ " الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ " وَالْأُولَى تَفْقِدُ حَصْرَ الْعِبَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ حَصْرٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ مَا عَدَا الدُّعَاءَ لَا يُعَدُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ حَدِيثِ:
344
الْحَجُّ عَرَفَةُ أَيْ: هُوَ الرُّكْنُ الْأَهَمُّ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ عِنْدَ تَرْكِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ تَعْبِيرَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عَنِ الْعِبَادَةِ بِالدُّعَاءِ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جَدًا يَعْلَمُ كَمَا يَعْلَمُ مَنِ اخْتَبَرَ أَحْوَالَ الْبَشَرِ فِي عِبَادَاتِهِمْ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْفِطْرِيَّةُ الَّتِي يُثِيرُهَا الِاعْتِقَادُ الرَّاسِخُ مِنْ أَعْمَاقِ النَّفْسِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَأَنَّ مَا عَدَا الدُّعَاءَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَكُلَّهُ أَوْ جُلَّهُ تَعْلِيمِيٌّ تَكْلِيفِيٌّ يُفْعَلُ بِالتَّكَلُّفِ وَالْقُدْوَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ خَالِيًا مِنَ الشُّعُورِ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْقَوْلُ أَوِ الْعَمَلُ عِبَادَةً وَهُوَ الشُّعُورُ بِالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَرَاءُ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْأَدْعِيَةَ التَّعْلِيمِيَّةَ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ قَدْ تَكُونُ خَالِيَةً مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَرُوحِهَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ دُعِيَ بِهَا اللهُ وَحْدَهُ أَوْ دُعِيَ بِهَا غَيْرُهُ مَعَهُ أَوْ وَحْدَهُ، وَلَا سِيَّمَا الْأَدْعِيَةُ الرَّاتِبَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَوْقُوتَةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّ الْحَافِظَ لَهَا يُحَرِّكُ بِهَا لِسَانَهُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ بِشَيْءٍ آخَرَ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ جَدُّ الْعِبَادَةِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَفِيضُ عَلَى اللِّسَانِ مِنْ سُوَيْدَاءِ الْقَلْبِ وَقُرَارَةِ النَّفْسِ، عِنْدَ وُقُوعِ الْخَطْبِ وَشِدَّةِ الْكَرْبِ، وَالشُّعُورِ بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الشَّيْءِ، وَاسْتِعْصَاءِ الْوَسَائِلِ إِلَيْهِ، وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ دُونَهُ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي تَسْمَعُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ، وَذَوِي الْكُرُبَاتِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمُلِمَّاتِ، وَفِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ، وَلَدَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الْخَالِصُ الَّذِي يَغْشَاهُ جَلَالُ الْإِخْلَاصِ، وَيُمَثِّلُ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ مَعْنَى الْخُشُوعِ التَّامِّ وَنَاهِيكَ بِمَا يُفَجِّرُهُ هَذَا الْخُشُوعُ مِنْ
يَنَابِيعِ الدُّمُوعِ، ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي يَسْتَغِلُّهُ سَدَنَةُ الْهَيَاكِلِ وَيَسْتَثْمِرُهُ خَدَمَةُ الْمَقَابِرِ، وَيَضَنُّ بِهِ وَيُدَافِعُ عَنْهُ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ أَرْكَانِ رِيَاسَتِهِمْ عَلَى الْعَوَامِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضَنُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَرَى لِجُمْهُورِ الْجَاهِلِينَ غِنًى عَنْهُ، وَلَا يَرَى فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ اسْتِبْدَالَ التَّوْحِيدِ بِهِ، عَلَى أَنَّ الْمُوَحِّدِينَ أَعْلَى إِخْلَاصًا، وَأَشَدَّ حُبًّا لِلَّهِ وَخُشُوعًا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (٢: ١٦٥).
وَمِنْ يُشْرِكْ بِاللهِ أَيْ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ أَحَدًا أَوْ شَيْئًا فَيَدْعُهُ مَعَهُ، وَيَذْكُرِ اسْمَهُ مَعَ اسْمِهِ، أَوْ يَدْعُهُ مِنْ دُونِهِ، مُلَاحِظًا فِي دُعَائِهِ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ غَيْرَ مُلَاحِظٍ ذَلِكَ وَلَا مُتَذَكِّرٍ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ ذُكِّرَ بِهِ لَذَكَرَهُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ فِي الْعِبَادَةِ الَّذِي يَتَجَلَّى فِي الدُّعَاءِ هُوَ أَقْوَاهَا ; لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ فِيهِ يَكُونُ وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى النَّفْسِ مُسْتَعْبِدًا لَهَا، وَدُونَهُ الشِّرْكُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ الَّذِي يُحَاجُّكَ صَاحِبُهُ بِالشُّبَهَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ تَشْبِيهِ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِينَ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ
345
الْمُذْنِبَ الْخَاطِئَ وَالضَّعِيفَ الْمُقَصِّرَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُخَاطِبَ الْإِلَهَ الْعَظِيمَ كِفَاحًا وَلَا أَنْ يَدْعُوَهُ مُبَاشَرَةً، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ وَلِيًّا يَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، كَمَا يَتَّخِذُ آحَادُ الرَّعِيَّةِ الْوَسَائِطَ إِلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ النَّظَرِيَّةِ مُقَلِّدًا فِيهَا بِالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ الَّذِي يُسَمِّيهِ حُجَّةً وَدَلِيلًا سَلِيمَ الْوِجْدَانِ مِنْ تَأْثِيرِهَا لِعَدَمِ التَّقْلِيدِ فِيهَا بِتَكْرَارِ الْعَمَلِ فَهُوَ لَا يُلَابِسُهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَذَلِكَ مَنْ يُشْرِكْ فِي رُبُوبِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - بِاتِّخَاذِ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ شَارِعِينَ يُحِلُّونَ لَهُ مَا يَرَوْنَ تَحْلِيلَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ مَا يَرَوْنَ تَحْرِيمَهُ، فَيَتَّبِعُهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ يُشْرِكُ بِاللهِ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ فَقَدْ ضَلَّ عَنِ الْقَصْدِ، وَتَنَكَّبَ سَبِيلَ الرُّشْدِ ضَلَالًا بَعِيدًا عَنْ صِرَاطِ الْهِدَايَةِ، مُوغِلًا فِي مَهَامِّهِ الْغَوَايَةَ ; لِأَنَّهُ ضَلَالٌ يُفْسِدُ الْعَقْلَ وَيُدَسِّي النَّفْسَ فَيَخْضَعُ صَاحِبُهُ وَيَسْتَخْذِي لِعَبْدٍ مِثْلِهِ، وَيَخْشَعُ وَيَضْرَعُ أَمَامَ مَخْلُوقٍ يُحَاكِيهِ أَوْ يَزِيدُ
عَلَيْهِ فِي عَجْزِهِ فَيُطِيعُ مَنْ لَا يُطَاعُ، وَيَرْجُو وَلَا مَوْضِعَ لِلرَّجَاءِ، وَيَخَافُ وَلَا مَوْطِنَ لِلْخَوْفِ، وَيَكُونُ عَبْدًا لِلْأَوْهَامِ، عُرْضَةً لِلْخُرَافَاتِ، لَا اسْتِقْلَالَ لِعَقْلِهِ فِي إِدْرَاكِهِ، وَلَا لِإِرَادَتِهِ فِي عَمَلِهِ، بَلْ يَكُونُ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي تَصَرُّفِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا تَمْلِكُ لَهُ وَلَا لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا هِدَايَةً وَلَا غَوَايَةً قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَلَا غَوَايَةً وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ، فَهَذَا أَعْلَى وَأَعْظَمُ مَا أَعْطَاهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَيَّزَهُمْ بِهِ عَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ، وَهُوَ تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى دِينِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا مُسَيْطِرِينَ وَلَا جَبَّارِينَ، وَلَا آلِهَةً أَوْ أَرْبَابًا مَعْبُودِينَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١٨: ١١٠).
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا وَمِمَّا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ مَغْفِرَةِ اللهِ لِلشِّرْكِ مَعَ جَوَازِ غُفْرَانِ غَيْرِهِ يُؤْخَذُ مِنْ قَاعِدَتَيْنِ:
الْأُولَى: أَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ هُوَ بِسَلَامَةِ الْأَرْوَاحِ وَسَعَادَتِهَا أَوْ هَلَاكِهَا وَشَقَاوَتِهَا، هُوَ تَابِعٌ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَصِحَّةِ الْعَقِيدَةِ، وَدَرَجَةِ الْفَضِيلَةِ الَّتِي يُلَازِمُهَا فِعْلُ الْخَيْرَاتِ، وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ، أَوْ فَسَادُ الْفِطْرَةِ، وَخَطَأُ الْعَقِيدَةِ، وَالتَّدَنُّسُ بِالرَّذِيلَةِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ لِمَا يَكُونُ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ دَرَجَاتٍ وَدَرَكَاتٍ، أَسْفَلُهَا وَأَخَسُّهَا
346
الشِّرْكُ، وَأَعْلَاهَا كَمَالُ التَّوْحِيدِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا صِفَاتٌ وَأَعْمَالٌ تُنَاسِبُهُمَا، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَغْفِرَ الشِّرْكَ فَتَكُونَ رُوحُ صَاحِبِهِ مَعَ أَرْوَاحِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، تَجُولُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي عِلِّيِّينَ، لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا أَوْ تَبْدِيلًا لِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ النَّاسِ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ بِطَبْعِهِ وَصِفَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ كَمَا يَكُونُ الْأَخَفُّ مِنَ الْغَازَاتِ وَالْمَائِعَاتِ فَوْقَ الْأَثْقَلِ بِطَبْعِهِ، سُنَّةَ اللهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَغْيِيرَ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - بَعْضَ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا، أَيْ: إِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَتَفْرِيجِ كُرُوبِهِمْ، إِلَّا إِنَاثًا كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَكَانَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ صَنَمٌ يُسَمُّونَهُ أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، أَوِ
الْمُرَادُ أَسْمَاءُ مَعْبُودَاتِ وَآلِهَةٍ لَيْسَ لَهَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ شَيْءٌ كَمَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (١٢: ٤٠)، أَيْ: أَسْمَاءٌ مُؤَنَّثَةٌ فِي الْغَالِبِ، أَوِ الْمُرَادُ مَعْبُودَاتٌ ضَعِيفَةٌ أَوْ عَاجِزَةٌ كَالْإِنَاثِ لَا تَدْفَعُ عَدُوًّا وَلَا تُدْرِكُ ثَأْرًا، كَمَا وَصَفَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَصِفُ الضَّعِيفَ بِالْأُنُوثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَعْفِ الْمَرْأَةِ بَلْ ضَعْفِ جَمِيعِ إِنَاثِ الْحَيَوَانِ عَنِ الذُّكُورِ، حَتَّى قَالُوا لِلْحَدِيدِ اللَّيِّنِ أَنِيثٌ، وَرَجَّحَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ أَنَّ وَجْهَ تَسْمِيَةِ مَعْبُودَاتِهِمْ إِنَاثًا هُوَ كَوْنُهَا جَمَادَاتٍ مُنْفَعِلَةً لَا فِعْلَ لَهَا كَالْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ مُنْفَعِلٌ، كَمَا وُصِفَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِكَوْنِهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَيْسَ لَهَا أَيْدٍ تَبْطِشُ بِهَا وَلَا أَرْجُلٌ تَمْشِي بِهَا، كَأَنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ أُلُوهِيَّتِهَا بِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْعَارِ وَالْخِزْيِ بِعِبَادَةِ مَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ، وَقَدِ اسْتَبْعَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْسِيرَ الْإِنَاثِ بِالْأَصْنَامِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا اسْتَبْعَدَ تَفْسِيرَهُ بِالْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ بَنَاتِ اللهِ، وَقَالَ: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنَاثِ هُنَا الْمَوْتَى ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْإِنَاثِ لِضَعْفِهِمْ أَوْ يُقَالُ لِعَجْزِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ بَعْضَ الْمَوْتَى وَيَدْعُونَهَا كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُسْلِمِي هَذِهِ الْقُرُونِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ وَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ ذَلِكَ التَّوَجُّهُ الْمَخْصُوصُ بِطَلَبِ الْمَعُونَةِ لِهَيْبَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَا يَعْقِلُ الْإِنْسَانُ مَعْنَاهَا.
وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، أَيْ: وَمَا يَدْعُونَ بِدَعْوَتِهَا إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، قَالُوا: الشَّيْطَانُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَارِمِ الْخَبِيثِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَرِيدِ وَالْمَارِدِ الْمُتَعَرِّي مِنَ الْخَيْرَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَجَرٌ أَمْرَدٌ إِذَا تَعَرَّى مِنَ الْوَرَقِ، وَمِنْهُ رَمْلَةٌ مَرْدَاءُ لَمْ تُنْبِتْ شَيْئًا،
أَوْ هُوَ مِنْ مَرَدَ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا مُرِّنَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ يَأْتِيهِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ (٩: ١٠١)، أَيْ: شَيْطَانًا مَرَدَ عَلَى الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ،
أَوْ تَمَرَّدَ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ وَصَفَهُ وَصْفًا آخَرَ فَقَالَ: لَعَنَهُ اللهُ، وَاللَّعْنُ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ مَعَ السُّخْطِ وَالْإِهَانَةِ وَالْخِزْيِ، أَيْ: أَبْعَدَهُ اللهُ عَنْ مَوَاقِعَ فَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمُوجِبَاتِ رَحْمَتِهِ، أَيْ: أَنَّهُمْ مَا يَدْعُونَ إِلَّا ذَلِكَ الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ الْمَلْعُونَ الَّذِي هُوَ دَاعِيَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ بِمَا يُوَسْوِسُ فِي صَدْرِهِ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا إِلَخْ، النَّصِيبُ: الْحِصَّةُ وَالسَّهْمُ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ لَيْسَ نَصًّا فِي قِلَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، وَقَدْ يَتَبَادَرُ مِنْهُ الْقِلَّةُ، وَالْمَفْرُوضُ: الْمُعَيَّنُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرْضِ وَالْحَزِّ فِي الْخَشَبَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَمِنْهُ الْفَرْضُ فِي الْعَطَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّصِيبُ طَائِفَةَ الَّذِينَ يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ وَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَأَنْ يَكُونَ حَظُّهُ مِنْ نَفْسِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ، وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ الْفِطْرِيُّ لِلْبَاطِلِ وَالشَّرِّ الْمُقَابِلِ لِلِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: النَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ هُوَ مَا لِلشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلشَّرِّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ النَّجْدَيْنِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (٩٠: ١٠)، فَهَذَا هُوَ عَوْنُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي النَّاسِ حَتَّى الْمَعْصُومِينَ، وَلَكِنْ أَخْبَرَنَا اللهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ، فَإِذَا هُوَ زَيَّنَ لَهُمْ شَيْئًا لَا يَغْلِبُهُمْ عَلَى عَمَلِهِ، فَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا وَيَشْعُرُ مِنْ نَفْسِهِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالشِّرْكِ فَبِالْمَعْصِيَةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَةِ اهـ، أَقُولُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ وَأَمْثَالُهُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي مُخَاطَبَةِ إِبْلِيسَ مَعَ الْبَارِئِ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ مِنَ الْأَقْوَالِ التَّكْوِينِيَّةِ أَيِ الَّتِي يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ تَكْوِينِ الْعَالِمِ وَمَا خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَّانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (٤١: ١١)، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - هَذَا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَوْلٌ تَكْوِينِيٌّ لَا تَكْلِيفِيٌّ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ (٣٦: ٨٢)، وَقَوْلُهُمَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، تَكْوِينِيٌّ أَيْضًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمَا وُجِدَتَا كَمَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ تُوجَدَا عَلَيْهِ، كَمَا يُجِيبُ الْعَبْدُ الْعَاقِلُ نِدَاءَ
مَوْلَاهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ هَكَذَا فَدُعَاؤُهُ دُعَاءُ مُتَمَرِّدٍ عَلَى الْحَقِّ بَعِيدٍ عَنِ الْخَيْرِ، مُغْرَى بِإِغْوَاءِ الْبَشَرِ وَإِضْلَالِهِمْ كَمَا عَبَّرَ عَنْ طَبْعِهِ وَسَجِيَّتِهِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ.
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أَيْ: لِأَتَّخِذَنَّ مِنْهُمْ نَصِيبًا وَلِأُضِلَّنَّهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَلَأَشْغَلَنَّهُمْ
بِالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، أَيْ: هَذَا شَأْنُهُ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ، وَالْأَمَانِيِّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَهِيَ الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَمَنِّي الشَّيْءِ، يُقَالُ: تَمَنَّى الشَّيْءَ إِذَا أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْ لَهُ أَسْبَابَهُ، كَمَا يَتَمَنَّى الْمُقَامِرُ الثَّرْوَةَ بِالْمُقَامَرَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِلْغِنَى بَلْ لَيْسَتْ مِنَ الْكَسْبِ الْمُعْتَادِ، وَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: مَنَى لَكَ الْمَانِي أَيْ: قَدَّرَ لَكَ الْمُقَدِّرُ، وَالْمَصْدَرُ الْمَنَى بِالْفَتْحِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَمِنْهُ الْمَنَّا الَّذِي يُوزَنُ بِهِ فِيمَا قِيلَ، وَأَقُولُ: الْأَجْدَرُ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَصْلُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ فِي كَوْنِ الْأَشْيَاءِ الْجَامِدَةِ وَالْمُدْرَكَةِ بِالْحَوَاسِّ هِيَ أَصْلٌ لِلْأَشْيَاءِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالتَّمَنِّي تَقْدِيرُ شَيْءٍ فِي النَّفْسِ وَتَصْوِيرُهُ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ تَخْمِينٍ وَظَنٍّ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ رَوِيَّةٍ وَبِنَاءٍ عَلَى أَصْلٍ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُهُ عَنْ تَخْمِينٍ صَارَ الْكَذِبُ لَهُ أَمْلَكَ، فَأَكْثَرُهُ تَصَوُّرُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ إِضْلَالَهُ لِمَنْ يُضِلُّهُمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِهِمْ عَنِ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَشْغَلُهُمْ عَنِ الدَّلَائِلِ الْمُوصِلَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَأَمَّا التَّمْنِيَةُ فَهِيَ فِي الْأَعْمَالِ بِأَنْ يُزَيِّنَ لَهُمُ الِاسْتِعْجَالَ بِاللَّذَّاتِ الْحَاضِرَةِ وَالتَّسْوِيفِ بِالتَّوْبَةِ وَبِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بَلْ هَذَا اسْمٌ جَامِعٌ لِأَنْوَاعِ وَحْيِ الشَّيْطَانِ كُلِّهَا وَتَغْرِيرِهِ لِلنَّاسِ بِعَفْوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ.
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ الْبَتْكُ يُقَارِبُ الْبَتُّ فِي مَعْنَاهُ الْعَامُّ الَّذِي هُوَ الْقَطْعُ وَالْفَصْلُ، فَالْبَتُّ يُقَالُ فِي قَطْعِ الْحَبْلِ وَالْوَصْلِ مِنَ الْحِسِّيَّاتِ، وَفِي الطَّلَاقِ يُقَالُ طَلَّقَهَا بَتَّةً أَيْ: طَلَاقًا بَائِنًا، وَالْبَتْكُ يُقَالُ فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَالشَّعْرِ وَنَتْفِ الرِّيشِ، وَبَتَكْتُ الشَّعْرَ تَنَاوَلْتُ بِتْكَةً مِنْهُ، وَهِيَ - بِالْكَسْرِ - الْقِطْعَةُ الْمُنْجَذِبَةُ جَمْعُهَا بِتَكٌ قَالَ الشَّاعِرُ:
طَارَتْ وَفِي يَدِهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكٌ
وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ قَطْعِ آذَانِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ لِأَصْنَامِهِمْ كَالْبَحَائِرِ الَّتِي كَانُوا يَقْطَعُونَ أَوْ يَشُقُّونَ آذَانَهَا شَقًّا وَاسِعًا
وَيَتْرُكُونَ الْحِمْلَ عَلَيْهَا، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْخَفِ أَعْمَالِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ وَسَفَهِ عُقُولِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلِهَذَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيمَا قَبْلَهُ.
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللهِ وَسُوءُ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَامٌّ يَشْمَلُ التَّغْيِيرَ الْحِسِّيَّ كَالْخِصَاءِ، وَقَدْ رَوَوْا تَفْسِيرَهُ بِالْخِصَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا - فَلْيَعْتَبِرْ بِهِ مَنْ يَطْعَنُونَ فِي الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ بِاتِّخَاذِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَائِهِمْ لِلْخِصْيَانِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ خَصْيِهِمْ جَائِزٌ فِي هَذَا الدِّينِ - وَيَشْمَلُ سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّشْوِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بِالنَّاسِ الَّذِي حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ تَبْتِيكَ آذَانِ الْأَنْعَامِ فَكَيْفَ لَا يُحَرِّمُ سَمْلَ أَعْيُنِ النَّاسِ وَصَلْمَ آذَانِهِمْ وَجَدْعَ أُنُوفِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
349
وَلَا حُجَّةٍ، وَيَشْمَلُ التَّغْيِيرَ الْمَعْنَوِيَّ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِخَلْقِ اللهِ دِينُهُ ; لِأَنَّهُ دِينُ الْفِطْرَةِ وَهِيَ الْخِلْقَةُ، قَالَ - تَعَالَى -: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (٣٠: ٣٠)، وَرَوَى أَيْضًا تَفْسِيرَ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ بِوَشْمِ الْأَبْدَانِ وَوَشْرِ الْأَسْنَانِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُقْصَدُ بِهِ الزِّينَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَلَعَلَّ سَبَبَ التَّشْدِيدِ فِيهِ إِفْرَاطُهُمْ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى دَرَجَةِ التَّشْوِيهِ بِجَعْلِ مُعْظَمِ الْبَدَنِ وَلَا سِيَّمَا الظَّاهِرُ مِنْهُ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ أَزْرَقَ بِهَذَا النَّقْشِ الْقَبِيحِ وَكَانَ النَّاسُ وَلَا يَزَالُونَ يَجْعَلُونَ مِنْهُ صُوَرًا لِلْمَعْبُودَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا يَرْسِمُ النَّصَارَى بِهِ الصَّلِيبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَصُدُورِهِمْ، وَأَمَّا وَشْرُ الْأَسْنَانِ بِتَحْدِيدِهَا وَأَخْذِ قَلِيلٍ مِنْ طُولِهَا إِذَا كَانَتْ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّغْيِيرِ الْمُشَوِّهِ، بَلْ هُوَ إِلَى تَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَتَقْصِيرِ الشَّعْرِ أَقْرَبُ، وَلَوْلَا أَنَّ الشَّعْرَ وَالْأَظَافِرَ تَطُولُ دَائِمًا وَلَا تَطُولُ الْأَسْنَانُ لِمَا كَانَ ثَمَّ فَرْقٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ التَّغْيِيرَ الصُّورِيَّ الَّذِي يَجْدُرُ بِالذَّمِّ يُعَدُّ مِنْ إِغْرَاءِ الشَّيْطَانِ هُوَ مَا كَانَ فِيهِ تَشْوِيهٌ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ مِنَ السُّنَّةِ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَرَى قَلِيلٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ تَغْيِيرُ دِينِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ التَّغْيِيرُ الْحِسِّيُّ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ التَّغْيِيرُ الْمَعْنَوِيُّ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى مَا يَشْمَلُهُمَا، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِتَحْوِيلِ النَّفْسِ
عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَطَلَبِ الْحَقِّ وَتَرْبِيَتِهَا عَلَى الْأَبَاطِيلِ وَالرَّذَائِلِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَهَؤُلَاءِ يُفْسِدُونَ مَا خَلَقَ وَيَطْمِسُونَ عُقُولَ النَّاسِ، اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ الدِّينِ ; لِأَنَّ مَنْ قَالُوا إِنَّهُ تَغْيِيرُ الدِّينِ اسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ آنِفًا، وَالدِّينُ الْفِطْرِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَلْقِ اللهِ وَآثَارِ قُدْرَتِهِ لَيْسَ هُوَ مَجْمُوعَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مِنْ كَلَامِ اللهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ لِيُبَلِّغُوهُ وَيُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، لَا مِمَّا خَلَقَهُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الدِّينَ الْفِطْرِيَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَحَدِيثُ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى ذَلِكَ بِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ فُطِرَ عَلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْأَخْذِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوِ الْخَيْرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا بِالْبَدَاهَةِ، وَمِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأُسُسِهِ الْفِطْرِيَّةِ الْعُبُودِيَّةُ لِلسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْأَسْبَابُ وَتَقِفُ دُونَ اكْتِنَاهِ حَقِيقَتِهَا الْعُقُولُ، أَيْ: لِمَصْدَرِ هَذِهِ السُّلْطَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَكَانَ أَكْبَرُ وَأَشَدُّ
350
مُفَسَّدَاتِ الْفِطْرَةِ حَصْرَ تِلْكَ السُّلْطَةِ الْعُلْيَا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يَسْتَكْبِرُهَا الْإِنْسَانُ وَيَعِيَا فِي فَهْمِ حَقِيقَتِهَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ فَهْمُهَا وَعِلْمُهَا مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ لَوْ جَاءَهُ طَالِبُهُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَقَدْ بَيَّنَاهُ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (٤: ٤٨)، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَيَتْلُو هَذَا الْفَسَادَ وَالْإِفْسَادَ التَّقْلِيدُ الَّذِي يَمُدُّهُ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْعُقُولِ الَّتِي كَمَّلَ اللهُ بِهَا فِطْرَةَ الْبَشَرِ وَبَيْنَ عَمَلِهَا الَّذِي خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ لِأَجْلِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَرْجِيحُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَتَى تَبَيَّنَا لَهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُمَا.
وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، أَيْ: مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا لَهُ وَتِلْكَ حَالُهُ فِي التَّمَرُّدِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ وَإِغْوَائِهِ لِلنَّاسِ وَتَزْيِينِهِ لَهُمُ الشُّرُورَ وَسُوءَ التَّصَرُّفِ فِي فِطْرَةِ اللهِ وَتَشْوِيهِ خَلْقِهِ، بِأَنْ يُوَالِيَهُ وَيَتَّبِعَ وَسْوَسَتَهُ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا بَيِّنًا ظَاهِرًا فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ; إِذْ يَكُونُ أَسِيرَ الْأَوْهَامِ
وَالْخُرَافَاتِ، يَتَخَبَّطُ فِي عَمَلِهِ عَلَى غَيْرِ هُدًى فَيَفُوتُهُ الِانْتِفَاعُ التَّامُّ بِمَا وَهَبَهُ اللهُ مِنَ الْعَقْلِ وَسَائِرِ الْقُوَى وَالْمَوَاهِبِ.
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا (٢: ٢٦٨)، أَيْ: يَعِدُ النَّاسَ الْفَقْرَ إِذَا هُمْ أَنْفَقُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهَا هُنَا حَذْفُ مَفْعُولِ الْوَعْدِ فَهُوَ يَشْمَلُ الْوَعْدَ بِالْفَقْرِ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ مِنْ وُعُودِهِ الَّتِي يُوَسْوِسُ بِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَعِدُ مَنْ يُرِيدُ التَّصَدُّقَ الْفَقْرَ وَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِ قَائِلًا: إِنْ مَالَكَ يَنْفَدُ أَوْ يِقِلُّ فَتَكُونُ فَقِيرًا ذَلِيلًا، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ فِي الْوَسْوَسَةِ إِلَى مَنْ يُغْرِيهِ بِالْقِمَارِ مَسْلَكًا آخَرَ فَيَعِدُهُ الْغِنَى وَالثَّرْوَةَ، وَكَذَلِكَ يَعِدُ مَنْ يُغْرِيهِ بِالتَّعَصُّبِ لِمَذْهَبِهِ وَإِيذَاءِ مُخَالِفِهِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْجَاهَ وَالشُّهْرَةَ وَبُعْدَ الصِّيتِ، وَيُؤَيِّدُ وُعُودَهُ الْبَاطِلَةَ بِالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ يُلْقِيهَا إِلَيْهِ ; وَلِهَذَا أَعَادَ ذِكْرَ الْأُمْنِيَةِ فِي مَقَامِ بَيَانِ خُسْرَانِ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ لِسَانِ الشَّيْطَانِ قَوْلَهُ: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَتَمْنِيَتِهِ مَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُمْ قُرَنَاءُ السُّوءِ الَّذِينَ يُزَيِّنُونَ لِلنَّاسِ الضَّلَالَ وَالْمَعَاصِيَ وَيَعِدُونَهُمْ بِالْمَالِ وَالْجَاهَ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْلَا وُعُودُ الشَّيْطَانِ لَمَا عَنَى أَوْلِيَاؤُهُ بِنَشْرِ مَذَاهِبِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمْ وَأَضَالِيلِهِمْ، الَّتِي يَبْتَغُونَ بِهَا الرِّفْعَةَ وَالْجَاهَ وَالْمَالَ، وَهَؤُلَاءِ مَوْجُودُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيُعْرَفُونَ بِمَقَاصِدِهِمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا مَا قَبْلُهُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُ لِيَصِلَ بِهِ قَوْلَهُ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أَيْ: إِلَّا بَاطِلًا يَغْتَرُّونَ بِهِ، وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ مَا يُحِبُّونَ، وَأَقُولُ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْغُرُورَ بِأَنَّهُ إِظْهَارُ النَّفْعِ فِيمَا هُوَ ضَارٌّ، أَيْ: فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْبَثُ بِهِمُ الشَّيْطَانُ
351
بِوَسْوَسَتِهِ أَوْ بِإِغْوَاءِ دُعَاةِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ لَا يَجِدُونَ مَعْدِلًا عَنْهَا يَفِرُّونَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ مُنْجَذِبُونَ إِلَيْهَا بِطَبْعِهِمْ يَتَهَافَتُونَ فِيهَا بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يَتَهَافَتُ الْفَرَاشُ فِي النَّارِ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، هَؤُلَاءِ عِبَادُ اللهِ الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ وَلَا لِأَوْلِيَائِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، ذَكَرَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الشَّيْطَانَ وَيَتَّبِعُونَ إِغْوَاءَهُ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الْوَعْدِ بِالْوَعِيدِ وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا أَيْ: لَا قِيلَ أَصْدُقُ مِنْ قِيلِهِ، وَلَا وَعْدَ أَحَقُّ مِنْ وَعْدِهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ مَا وَعَدَ بِهِ، وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْوَفَاءِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاعُ لِقُدْرَتِهِ وَإِنَّمَا يُدَلِّي أَوْلِيَاءَهُ بِغُرُورٍ، فَوَعْدُهُ بَاطِلٌ وَقَوْلُهُ كَذِبٌ وَزُورٌ، وَالْقِيلُ بِوَزْنِ الْفِعْلِ قُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى وَعْدَهُ الْكَرِيمَ بِالْجَنَّاتِ وَالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ وَتَرْفَعُ النَّفْسَ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا مِرَارًا.
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا.
رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْعَرَبُ لَا نُبْعَثُ وَلَا نُحَاسَبُ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَقَالُوا:
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَأَنْزَلَ اللهُ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.
وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: احْتَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ وَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَحْنُ أَوْلَى بِاللهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللهِ مِنْكُمْ وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا الْآيَةَ، فَأَفْلَجَ اللهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ.
وَعَنِ السُّدِّيِّ: الْتَقَى نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَالَتِ الْيَهُودُ لِلْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، دِينُنَا قَبْلَ دِينِكُمْ وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَنَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا بَعْدَ كِتَابِكُمْ وَنَبِيُّنَا بَعْدَ نَبِيِّكُمْ وَدِينُنَا بَعْدَ دِينِكُمْ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ أَنْ تَتْبَعُونَا وَتَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ، فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ فَقَالَ: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ إِلَخْ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَأَبِي صَالِحٍ نَحْوُ ذَلِكَ، بَلْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَذَكَرُوا أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُقَالُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَتَكَلَّمَ كُلٌّ فِي تَفْضِيلِ دِينِهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَيْسَ شَرَفُ الدِّينِ وَفَضْلُهُ وَلَا نَجَاةُ أَهْلِهِ بِهِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: إِنَّ دِينِي أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ، وَأَحَقُّ وَأَثْبَتُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُوقِنًا بِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَهْدِيهِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعَمَلِ لَا عَلَى التَّمَنِّي وَالْغُرُورِ، فَلَا أَمْرُ نَجَاتِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّكُمْ فِي دِينِكُمْ، وَلَا أَمْرُ
نَجَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّهِمْ فِي دِينِهِمْ.
فَإِنَّ الْأَدْيَانَ مَا شُرِعَتْ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَاهِي، وَلَا تَحْصُلُ فَائِدَتُهَا بِمُجَرَّدِ الِانْتِمَاءِ إِلَيْهَا وَالتَّمَدُّحِ بِهَا بِلَوْكِ الْأَلْسِنَةِ وَالتَّشَدُّقِ فِي الْكَلَامِ، بَلْ شُرِعَتْ لِلْعَمَلِ، قَالَ: وَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا سَوَاءٌ صَحَّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَمْ لَمْ يَصِحَّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَانِيُّ الَّتِي كَانَ يَتَمَنَّاهَا أَهْلُ الْكِتَابِ غُرُورًا بِدِينِهِمْ، إِذْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصُّ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَ وَيَدَّعُونَ ; وَإِنَّمَا سَرَى هَذَا الْغُرُورُ إِلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ مِنِ اتِّكَالِهِمْ عَلَى الشَّفَاعَاتِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ فَضْلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْبِشْرِ بِمَنْ بُعِثَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِذَاتِهِمْ، فَهُمْ بِكَرَامَتِهِمْ
353
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ لَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَحَذَّرَنَا اللهُ أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَمَانِيُّ قَدْ دَبَّتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ (٥٧: ١٦) الْآيَةَ، فَهَذَا خِطَابٌ لِلَّذِينِ كَانُوا ضُعَفَاءَ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَلِأَمْثَالِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ حِينَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ وَبِمَا آلَ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمَرْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَمَانِيِّ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ طُرُقَ الْغُرُورِ وَمَدَاخِلَ الشَّيْطَانِ فِيهَا، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنِ الْحَسَنِ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ وَقَالَ الْحَسَنُ: " إِنَّ قَوْمًا غَرَّتْهُمُ الْمَغْفِرَةُ فَخَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَهُمْ مَمْلُوءُونَ بِالذُّنُوبِ وَلَوْ صَدَقُوا لَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ ".
ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ هَذَا حَالَ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ فِي غُرُورِهِمْ وَأَمَانِيِّهِمْ وَمَدْحِ دِينِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ بِهِ وَبَيَّنَ أَصْنَافَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا قَالَهُ: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ تَبَعًا لِمَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مَضَتْ: إِنَّ الْإِسْلَامَ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ، أَيُّ دِينٍ أَصْلَحَ إِصْلَاحَهُ؟ أَيُّ دِينٍ أَرْشَدَ إِرْشَادَهُ؟ أَيُّ شَرْعٍ كَشَرْعِهِ فِي كَمَالِهِ؟ وَلَوْ
سُئِلَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: مَاذَا فَعَلَ الْإِسْلَامُ وَبِمَاذَا يَمْتَازُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ؟ لَا يُحِيرُ جَوَابًا وَإِذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَسُئِلَ كَشْفَهَا حَاصَ حَيْصَةَ الْحُمُرِ، وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ أَعُوذُ بِاللهِ، وَالضَّالُّ يَبْقَى عَلَى ضَلَالِهِ، وَالطَّاعِنُ فِي الدِّينِ يَتَمَادَى فِي طَعْنِهِ، وَالْمَغْرُورُ يَسْتَرْسِلُ فِي غُرُورِهِ، فَالْكَلَامُ كَثِيرٌ وَلَا عِلْمَ وَلَا عَمَلَ يَرْفَعُ شَأْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، انْتَهَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِإِيضَاحٍ لِبَعْضِ الْجُمَلِ وَاخْتِصَارٍ فِي بَيَانِ ضُرُوبِ الْغُرُورِ وَأَصْنَافِ الْمُغْتَرِّينَ.
مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللهِ لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَنُوطًا بِالْأَمَانِيِّ وَالتَّشْبِيهَاتِ وَغُرُورِ النَّاسِ بِدِينِهِمْ، كَانَ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا النَّفْيَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَشَوَّفَ إِلَى اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ وَالْوُقُوفِ عَلَى حُكْمِ اللهِ فِيهِ، وَيَجْعَلُهُ مَوْضُوعَ السُّؤَالِ، فَبَيَّنَهُ عَزَّ وَجَلَّ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ سُوءًا يَلْقَى جَزَاءَهُ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ لَا يَتَخَلَّفُ فِي اتِّبَاعِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَنْزِلُ بِغَيْرِهِمْ كَمَا يَتَوَهَّمُ أَصْحَابُ الْأَمَانِيِّ وَالظُّنُونِ فَعَلَى الصَّادِقِ فِي دِينِهِ الْمُخْلِصِ لِرَبِّهِ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا هَدَاهُ إِلَيْهِ كِتَابُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَجْعَلُهُ مِعْيَارَ سَعَادَتِهِ لَا كَوْنَ ذَلِكَ الْكِتَابِ أَكْمَلَ، وَذَلِكَ الرَّسُولِ أَفْضَلَ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ دِينُهُ أَكْمَلَ تَكُونُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي التَّقْصِيرِ أَقْوَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ هَذِهِ الْكُلِّيَّةَ الْعَامَّةَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، رَاعَتْ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَخَافَتْهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا وَقَالَ: مَنْ يَنْجُ مَعَ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
354
أَمَا تَحْزَنُ، أَمَا تَمْرَضُ، أَمَا يُصِيبُكَ الْبَلَاءُ؟ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: هُوَ ذَاكَ وَأَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَحَادِيثَ فِي الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى الْأَعْمَالِ وَجَعَلَهَا تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ وَبَعْضُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مُطْلَقٌ عَامٌّ، وَيُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ أَوْ كَمَلَتِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ، وَإِذَا طَبَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، عَلِمْنَا أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا تَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا يُقَصِّرُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ السَّيْرِ عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَطَلَبِ الْأَشْيَاءِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَاتِّقَاءِ الْمَضَرَّاتِ بِاجْتِنَابِ عِلَلِهَا
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (٤٢: ٣٠)، وَمِنْ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ أَمْرَاضٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ عَمَلُ السُّوءِ يُدَسِّي النَّفْسَ وَيُدَنِّسُ الرُّوحَ كَانَ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِلْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا تَكُونُ الْخَمْرُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا بِتَأْثِيرِهَا فِي الْكَبِدِ وَالْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ وَالْجِهَازِ التَّنَفُّسِيِّ، بَلْ وَالْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فَهَلْ يَكُونُ الْمَرَضُ النَّاشِئُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ كَفَّارَةً لِلْجَزَاءِ عَلَى شُرْبِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مَعْنَى كَوْنِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا كَفَّارَاتٍ لِلذُّنُوبِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُصَبْ بِمَرَضٍ وَلَا مُصِيبَةٍ بِسَبَبِ ذَنْبِهِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُحْرَمُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ كَمَا إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي بَدَنِهِ تَأْثِيرًا شَدِيدًا؟ أَمِ الْمَصَائِبُ تَكُونُ كَفَّارَاتٍ لِلذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ مُسَبَّبَةٌ عَنْهَا وَلِغَيْرِهَا مُطْلَقًا؟ وَكَيْفَ يَنْطَبِقُ هَذَا التَّكْفِيرُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي الْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ؟ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يَشِذُّ شَيْءٌ عَنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمُصِيبَةَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا تَكُونُ كَفَّارَةً فِي الْآخِرَةِ إِذَا أَثَّرَتْ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ تَأْثِيرًا صَالِحًا وَكَانَتْ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْإِيمَانِ أَوْ تَرْكِ السُّوءِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ لِظُهُورِ ضَرَرِهِ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، أَوِ الرَّغْبَةِ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ بِمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الْعِبْرَةِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ الْمُهْتَدِي بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ فَتَكُونَ مُرَبِّيَةً لِعَقْلِهِ وَنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِ التَّفْسِيرِ مِرَارًا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مُصِيبَةٍ كَفَّارَةً لِذَنْبٍ أَوْ لِعِدَّةِ ذُنُوبٍ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الْمُصِيبَةُ سَبَبًا لِمُضَاعَفَةِ الذُّنُوبِ وَاسْتِحْقَاقِ أَشَدِّ الْعَذَابِ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي تَحْمِلُ أَهْلَ الْجَزَعِ وَمَهَانَةِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ - دَعِ الْكُفْرَ - عَلَى ذُنُوبٍ لَمْ يَكُونُوا لِيَقْتَرِفُوهَا لَوْلَا الْمُصِيبَةُ، وَالْكَلَامُ فِي الْآيَةِ عَلَى جَزَاءِ الْآخِرَةِ بِالذَّاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ وَيَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ عَمَلِ السُّوءِ تَأْثِيرًا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ شَرًّا مِنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى (٣٠: ١٠)، لَا يَجِدُ لَهُ وَلِيًّا غَيْرَ اللهِ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَيَدْفَعُ الْجَزَاءَ عَنْهُ، وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُهُ وَيُنْقِذُهُ مِمَّا يَحِلُّ بِهِ، لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَفَاخَرَ وَيَتَفَاخَرُ أَصْحَابُ الْأَمَانِيِّ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ
وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ
355
الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ الْبَشَرِ آلِهَةً وَأَرْبَابًا، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الْخَالِقَةُ، بَلْ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا شَافِعَةٌ وَوَاسِطَةٌ، فَكُلُّ تِلْكَ الْأَمَانِيِّ فِي الشُّفَعَاءِ كَأَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، بَرْقٌ خُلَّبٌ وَسَحَابٌ جَهَامٌ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِي النَّجَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، أَيْ: كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ مَا يَسْتَطِيعُ عَمَلَهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ - أَيِ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا النُّفُوسُ فِي أَخْلَاقِهَا وَآدَابِهَا وَأَحْوَالِهَا الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعَامِلُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى - خِلَافًا لِبَعْضِ الْبَشَرِ الَّذِينَ حَقَّرُوا شَأْنَ الْإِنَاثِ فَجَعَلُوهُنَّ فِي عِدَادِ الْعَجْمَاوَاتِ لَا فِي عِدَادِ النَّاسِ، مَنْ يَعْمَلْ مَا ذُكِرَ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْإِيمَانِ مُطَمْئِنٌ بِهِ، فَأُولَئِكَ الْعَامِلُونَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِزَكَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَطَهَارَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَيَكُونُونَ مَظْهَرَ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ، وَمَحَلَّ إِحْسَانِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَلَا يُظْلَمُونَ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا مَا، أَيْ لَا يَنْقُصُونَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ النَّقِيرِ وَهُوَ النُّكْتَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ وَهِيَ ثُقْبَةٌ صَغِيرَةٌ وَتُسَمَّى نَقْرَةً كَأَنَّهَا حَصَلَتْ بِنَقْرِ مِنْقَارٍ صَغِيرٍ، وَيُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْقِلَّةِ لَا يَنْقُصُونَ شَيْئًا بَلْ يَزِيدُهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ الَّتِي بِمَعْنَاهَا حَدِيثُ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ إِلَخْ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَهْمَا عَمِلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى عَمَلِهِ تِلْكَ الْجَنَّةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، إِلَّا بِفَضْلِ اللهِ الَّذِي جَعَلَ الْجَزَاءَ الْكَبِيرَ عَلَى عَمَلٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي هَدَى إِلَيْهِ، وَأَقْدَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قُدِّمَ هُنَا ذِكْرُ الْعَمَلِ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي خِطَابِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ قَدْ قَصَّرُوا فِي الْأَعْمَالِ وَاغْتَرُّوا بِالْأَمَانِيِّ ظَانِّينَ أَنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِسَابِ إِلَى أُولَئِكَ الرُّسُلِ وَالْإِيمَانِ بِتِلْكَ الْكُتُبِ، هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ جَنَّةِ اللهِ، وَأَكْثَرُ الْآيَاتِ يُقَدَّمُ فِيهَا ذِكْرُ الْإِيمَانِ عَلَى ذِكْرِ الْعَمَلِ لِوُرُودِهَا فِي سِيَاقِ بَيَانِ أَصْلِ الدِّينِ، وَمُحَاجَّةِ الْكَافِرِينَ، وَالْإِيمَانُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُقَدَّمُ وَالْعَمَلُ
أَثَرُهُ وَمُمِدُّهُ، وَمِنَ الْحَدِيثِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ قَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
هَذَا وَإِنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مَا يَدُكُّ صُرُوحَ الْأَمَانِيِّ وَمَعَاقِلَ الْغُرُورِ الَّتِي يَأْوِي إِلَيْهَا وَيَتَحَصَّنُ فِيهَا الْكُسَالَى وَالْجُهَّالُ وَالْفُسَّاقُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الدِّينَ كَالْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَظَنُّوا أَنَّ اللهَ الْعَزِيزَ الْحَكِيمَ يُحَابِي مَنْ يُسَمِّي نَفْسَهُ مُسْلِمًا، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مَنْ يُسَمِّيهَا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا بِمُجَرَّدِ اللَّقَبِ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَلْقَابِ لَا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمَتَى يَرْجِعُ هَؤُلَاءِ إِلَى هَدْيِ كِتَابِهِمُ الَّذِي يَفْخَرُونَ بِهِ، وَيَبْنُونَ قُصُورَ أَمَانِيِّهِمْ عَلَى دَعْوَى اتِّبَاعِهِ؟ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَحَرَّمُوا الِاهْتِدَاءَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْمُعَمَّمِينَ
سَمُّوا الِاهْتِدَاءَ بِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي أُقْفِلَ دُونَهُمْ بَابُهُ، وَانْقَرَضَ فِي حُكْمِهِمْ أَرْبَابُهُ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَقَدْ كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُهْتَدِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَئِمَّةً مُسْتَنْبِطِينَ، وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ، فَيَا أَهْلَ الْقُرْآنِ! لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا الْقُرْآنَ، وَتَهْتَدُوا بِهَدْيِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَتَبْذُلُوا فِي سَبِيلِهِ الْأَنْفُسَ وَالْأَمْوَالَ وَإِلَّا فَقَدْ رَأَيْتُمْ مَا حَلَّ بِكُمْ بَعْدَ تَرْكِ هِدَايَتِهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَضَيَاعِ الْمُلْكِ وَسُوءِ الْحَالِ فَإِلَى مَتَى هَذَا الْغُرُورُ وَالْإِهْمَالُ، وَحَتَّامَ تَتَعَلَّلُونَ بِالْأَمَانِيِّ وَكَوَاذِبِ الْآمَالِ؟
هَذَا وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ الْبَصِيرَةِ فِي غُرُورِ الْمُسْلِمِينَ بِدِينِهِمْ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَفِي نَشْرِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَ الْغُرُورِ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لِلْغَزَالِيِّ وَلَوْلَا أَنَّنِي الْآنَ حِلْفُ أَسْفَارٍ، لَا يَقِرُّ لِي فِي بَلَدٍ قَرَارٌ، لَأَطَلْتُ بَعْضَ الْإِطَالَةِ فِي بَيَانِ الْغُرُورِ وَالْمُغْتَرِّينَ، وَالْأَمَانِيِّ وَالْمُتَمَنِّينَ، إِثَارَةً لِكَوَامِنِ الْعِبْرَةِ وَاسْتِدْرَارًا لِبَوَاخِلِ الْعِبْرَةِ، وَلَيْسَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ بَلِ السَّعَادَةِ مَنُوطٌ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ مَعًا، أَتْبَعُ ذَلِكَ
بَيَانَ دَرَجَةِ الْكَمَالِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَقَالَ:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ جَعَلَ قَلْبَهُ سَلَمًا خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي دُعَاءٍ وَلَا رَجَاءٍ، وَلَا يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابًا مِنَ الْوُسَطَاءِ وَالْحُجَّابِ، بَلْ يَكُونُ مُوَحِّدًا صِرْفًا لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللهَ وَآثَارَ صِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلَا يَطْلُبُ شَيْئًا إِلَّا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَلَا يَأْتِي بُيُوتَ هَذِهِ الْخَزَائِنِ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا وَهِيَ السُّنَنُ وَالْأَسْبَابُ وَلَا يَدْعُو مَعَهُ وَلَا مِنْ دُونِهِ أَحَدًا فِي تَيْسِيرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَتَسْهِيلِ الطُّرُقِ وَتَذْلِيلِ الصِّعَابِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا الْإِيمَانِ الْخَالِصِ، وَالتَّوْحِيدِ الْكَامِلِ مُحْسِنٌ فِي عَمَلِهِ، مُتْقِنٌ لِكُلِّ مَا يَأْخُذُ بِهِ، مُتَخَلِّقٌ بِأَخْلَاقِ اللهِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، أَيْ: وَاتَّبَعَ فِي دِينِهِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ حَالَ كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، أَيْ: اتَّبَعَهُ فِي حَنِيفِيَّتِهِ، الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَيْلُهُ عَنِ الْوَثَنِيَّةِ وَأَهْلِهَا وَتَبَرُّؤُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ مِنْهَا وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٣: ٢٦ - ٢٨)، أَيْ: جَعَلَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الشِّرْكِ وَنَزَغَاتِهِ وَتَقَالِيدِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَدْعُو إِلَيْهَا النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَصْفُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ الدِّينِ وَآيَاتِهِ، وَذِكْرُ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ وَإِشْغَالِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ الْخَادِعَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَمْرَ
357
الْآخِرَةِ لَيْسَ بِالْأَمَانِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ اللهِ بِالْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ بِتَبْدِيلِ الْأَجْيَالِ وَالْآجَالِ، ثُمَّ زَادَ هَذَا بَيَانًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنَ أَنَّ صَفْوَةَ الْأَدْيَانِ الَّتِي يَنْتَحِلُهَا النَّاسُ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فِي إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَإِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَعَبَّرَ عَنْ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِعْرَاضِ وَالْخُشُوعِ وَالسُّرُورِ وَالْكَآبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُظْهِرُ بَعْضُ النَّاسِ الْخُضُوعَ أَوِ الِاحْتِرَامَ لِلْآخَرِ بِإِشَارَةِ الْيَدِ، وَلَكِنَّ هَذَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّلِ وَيُعْرَفُ بِالْمُوَاضَعَةِ، وَمَا يَظْهَرُ فِي الْوَجْهِ
هُوَ الْفِطْرِيُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى السَّرِيرَةِ، وَهُوَ يَتَمَثَّلُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْجَبْهَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْحَرَكَةِ، فَإِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ هُوَ تَرْكُهُ لَهُ، بِأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ وَإِظْهَارِ عُبُودِيَّتِهِ، وَهُوَ كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَهُوَ إِحْسَانُ الْعَمَلِ - خِلَافًا لِلْجَلَالِ فِيهِمَا إِذَا عُكِسَ - وَاتِّبَاعُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ يُرَادُ بِهِ فِيمَا يَظْهَرُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (٤٢: ١٣)، فَإِقَامَةُ الدِّينِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّدَيُّنِ الْمُطْلَقِ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ يَقُومُ بِنَاؤُهُ وَيَثْبُتُ، وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ فِيهِ وَالتَّعَادِي بَيْنَ أَهْلِهِ.
وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، أَيْ: اصْطَفَاهُ لِتَوْحِيدِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فِي زَمَنٍ وَبِلَادٍ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْوَثَنِيَّةُ، وَقَوْمٍ أَفْسَدَ الشِّرْكُ عُقُولَهُمْ وَدَنَّسَ فِطْرَتَهُمْ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَالِصًا مُخْلِصًا لِلَّهِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ اللهُ خَلِيلًا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُكْرِمَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ مَا شَاءَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ مِنْ لَفْظِ الْخَلِيلِ فِي اسْتِعْمَالِنَا لَهُ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْخُلَّةَ بَيْنَ الْخَلِيْلَيْنِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ التَّخَلُّلِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِامْتِزَاجِ وَالِاخْتِلَاطِ اهـ.
أَقُولُ: يُطْلَقُ الْخَلِيلُ بِمَعْنَى الْحَبِيبِ أَوِ الْمُحِبِّ لِمَنْ يُحِبُّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ خَالِصَةً مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ بِحَيْثُ لَمْ تَدَعْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا مَوْضِعًا لِحُبٍّ آخَرَ، وَهُوَ مِنَ الْخُلَّةِ - بِالضَّمِّ - أَيِ الْمَحَبَّةُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي تَتَخَلَّلُ النَّفْسَ وَتُمَازِجُهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا
وَاللهُ يُحِبُّ الْأَصْفِيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَيُحِبُّونَهُ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ كَامِلَ الْحُبِّ لِلَّهِ ; وَلِذَلِكَ عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ وَجَمِيعَ النَّاسِ فِي حُبِّهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخَلِيلَ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَّةِ - بِفَتْحِ الْخَاءِ - وَهِيَ الْحَاجَةُ ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ يَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى قَالَ فِي الْحَاجَاتِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ بِالتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٢٦: ٧٨، ٧٩)، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَكْمَلُ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْخُلَّةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ ;
لِيَتَذَكَّرَ
358
الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَهْلُ الْأَثَرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْمُتَفَاخِرِينَ بِدِينِهِمُ الْمُتَبَجِّحِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا بِأَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَقُوَّةِ الْعَقْلِ وَصَفَاءِ الرُّوحِ وَكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ بِالْوَحْيِ وَالْفِنَاءِ فِي التَّوْحِيدِ، فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ ! وَلَا تَكَادُ تُوجَدُ كَلِمَةٌ فِي اللُّغَةِ تُمَثِّلُ هَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ كَلِمَةِ الْخَلِيلِ، وَأَمَّا لَوَازِمُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْبَشَرِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ بِهِمْ فَيُنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِ شَيْءٍ مُحِيطًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: خُتِمَ هَذَا السِّيَاقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِفَوَائِدَ: (إِحْدَاهَا) التَّذْكِيرُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقًا وَمُلْكًا، وَهُوَ أَكْرَمُ مَنْ وَعَدَ وَأَقْدَرُ مَنْ أَوْعَدَ، (ثَانِيهَا) : بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ رُوحُ الدِّينِ وَجَوْهَرُهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَغَيْرُهُ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا، فَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ الْعَاقِلُ إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَيَتْرُكُ التَّوَجُّهَ إِلَى مَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ يُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ فِي التَّوَجُّهِ وَلَوْ لِأَجْلِ قُرْبِهِ مِنْهُ؟
(ثَالِثُهَا) : نَفْيُ مَا رُبَّمَا يَسْبِقُ إِلَى بَعْضِ الْأَذْهَانِ مِنَ اللَّوَازِمِ الْعَادِيَّةِ فِي اتِّخَاذِ اللهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا كَأَنْ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ هُنَالِكَ شَيْئًا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ أَوِ الْمُقَارَبَةِ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ وَمِنْ خَلْقِهِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ صِفَاتُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَرَاتِبُهَا فِي أَنْفُسِهَا وَبِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا هِيَ نُسِبَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمَعْبُودُ وَهِيَ مَخْلُوقَاتٌ مَمْلُوكَةٌ عَابِدَةٌ لَهُ خَاضِعَةٌ لِأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا، إِحَاطَةَ قَهْرٍ وَتَصَرُّفٍ وَتَسْخِيرٍ، وَإِحَاطَةَ عِلْمٍ وَتَدْبِيرٍ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْإِحَاطَةَ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِحَاطَةَ وُجُودٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ وَجُودُهَا مِنْ ذَاتِهَا، وَلَا هِيَ ابْتَدَعَتْ نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا وُجُودُهَا مُسْتَمَدٌّ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُودِ
الْوَاجِبِ الْأَعْلَى، فَالْوُجُودُ الْإِلَهِيُّ هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُخْلِصَ الْخَلْقُ لَهُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْعِبَادُ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ.
(يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد رِضا مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : هَذِهِ الْآيَاتُ كَانَتْ آخِرَ مَا فَسَّرَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَجَزَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَسَنَسْتَمِرُّ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي اقْتَبَسْنَاهَا مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنَّا مَحْرُومِينَ فِي تَفْسِيرِ سَائِرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ الَّتِي كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ عَلَى عَقْلِهِ الْمُنِيرِ إِلَّا فِي الْجُزْءِ الثَّلَاثِينَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ لَهُ تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ١٣٢٣ هـ، وَقَدْ تُوُفِّيَ شَهْرَ جُمَادَى الْأُولَى
مِنْهَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَنَفَعَنَا بِهِ، وَكَتَبْتُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَدِينَةٍ بُمْبَى أَوْ (بُومْبَايْ) مِنْ ثُغُورِ الْهِنْدِ فِي غُرَّةِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ ١٣٣٠ هـ وَاللهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ هَذَا التَّفْسِيرِ، إِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ.
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا.
تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (٤: ٣٦)، فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْقَرَابَةِ، وَمِنْ آيَةِ وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَحْكَامٍ عَامَّةٍ أَكْثَرُهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْقِتَالِ، وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِهَا هَا هُنَا تَأَخُّرُ نُزُولِهَا إِلَى أَنْ شَعَرَ النَّاسُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ بِالْحَاجَةِ إِلَى زِيَادَةِ الْبَيَانِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهْضِمُونَ حُقُوقَ الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ وَالْيَتِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْآيَاتُ
360
مُرَاعَاتَهَا وَحِفْظَهَا وَبَيَّنَتْهَا لَهُمْ، وَجَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ حُقُوقًا ثَابِتَةً مُؤَكَّدَةً فِي الْمَهْرِ وَالْإِرْثِ كَالرِّجَالِ وَحَرَّمَتْ ظُلْمَهُنَّ، وَتَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مِنْهُنَّ، مَعَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَحَدَّدَتِ الْعَدَدَ الَّذِي يَحِلُّ مِنْهُنَّ فِي حَالِ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الظُّلْمِ، فَبَعْدَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَرَفَ النِّسَاءُ حُقُوقَهُنَّ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ مَنَعَ الرِّجَالَ الْأَقْوِيَاءَ أَنْ يَظْلِمُوهُنَّ، فَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَعْرِفَ الرِّجَالُ شِدَّةَ التَّبِعَةِ الَّتِي عَلَيْهِمْ فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ، وَأَنْ يَقَعَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، كَأَنْ تُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَحِلَّ لَهُ أَوْ لَا يَحِلَّ أَنْ يَمْنَعَ الْيَتِيمَةَ مَا كَتَبَ اللهُ لَهَا مِنَ الْإِرْثِ وَهُوَ يَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَيَشْتَبِهُ بَعْضُهُمْ فِيمَا يُصَالِحُ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ، وَيَضْطَرِبُ بَعْضُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ بَيْنَ النِّسَاءِ، هَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَدْلُ فِي الْحُبِّ أَوْ فِي لَوَازِمِهِ الْعَمَلِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْمَحْبُوبَةِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا أَمْ لَا؟ كُلُّ هَذَا مِمَّا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ مِمَّا كَانَ يَكُونُ مَوْضِعَ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ ; فَلِهَذَا جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْآيَاتِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ عَدَمَ جَمْعِ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنَ
الْقُرْآنِ هُوَ الْهِدَايَةُ بِأَنْ تَكُونَ تِلَاوَتُهُ عِظَةً وَذِكْرَى وَعِبْرَةً يُنَمَّى بِهَا الْإِيمَانُ وَالْمَعْرِفَةُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَيُقَوَّي بِهَا شُعُورُ التَّعْظِيمِ وَالْحُبِّ لَهُ، وَتَزِيدُ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ، وَلَوْ طَالَ سَرْدُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَا سِيَّمَا مَوْضُوعُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، لَمَلَّ الْقَارِئُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ التَّفَكُّرُ فِي جُزْئِيَّاتِهَا وَوَقَائِعِهَا، فَيَفُوتُ بِذَلِكَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ، وَالْمَطْلُوبُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، وَحَسْبُ طُلَّابِ الْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ فِيهِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالسُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَلَا يَجْعَلُوهَا هِيَ الْأَصْلَ الْمَقْصُودَ مِنَ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلِلتَّعَبُّدِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ هُوَ مَا عَلِمْتَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ، فَمَعْنَاهُ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْفُتْيَا فِي شَأْنِهِنَّ، وَبَيَانِ الْمُشْكَلِ وَالْغَامِضِ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِهِنَّ، مِنْ حَيْثُ الْحُقُولُ الْمَالِيَّةُ وَالزَّوَاجُ لِأَجْلِهَا وَالنُّشُوزُ وَالْخِصَامُ وَالصُّلْحُ وَالْعَدْلُ وَالْعِشْرَةُ وَالْفِرَاقُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الْجَوَابُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ، وَغَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ " يَسْتَفْتُونَكَ فِي مِيرَاثِهِنَّ "، لِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلَغَنَا أَنَّكَ تُعْطِي الْبِنْتَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ وَإِنَّمَا كُنَّا نُوَرِّثُ مَنْ يَشْهَدُ الْقِتَالَ وَيَحُوزُ الْغَنِيمَةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِذَلِكَ أُمِرْتُ، فَيَا لَلَّهِ لِلْعَجَبِ! كَيْفَ يَغْفُلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ هُوَ اسْتِفْتَاءٌ وَفَتْوَى فَيُقَطِّعُونَهَا إِرْبًا إِرْبًا، وَيَجْعَلُونَهَا جِذَاذًا وَأَفْلَاذًا لَا صِلَةَ بَيْنَهَا، وَلَا جَامِعَةَ تَضُمُّهَا؟
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنَاتٍ أُمِّ
361
كُحَّةَ وَمِيرَاثِهِنَّ عَنْ أَبِيهِنَّ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ، وَهُوَ وَلِيُّهَا فَيَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جِمَالٍ وَمَالٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِذَا كَانَ مَرْغُوبًا عَنْهَا لِقِلَّةِ مَالِهَا وَجِمَالِهَا تَرَكَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ وَقَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِدَمَامَتِهَا،
وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ حَتَّى لَا يَذْهَبَ بِمَالِهَا، فَيَحْبِسُهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، بِمَا يُنَزِّلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَحْكَامِهِنَّ بَعْدَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءِ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ فِي شَأْنِهِنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ مِمَّا نَزَلَ قَبْلَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءِ فِي أَحْكَامِ مُعَامَلَةِ يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي جَرَتْ عَادَتُكُمْ أَلَّا تُعْطُوهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ مِنَ الْإِرْثِ إِذَا كَانَ فِي أَيْدِيكُمْ لِوِلَايَتِكُمْ عَلَيْهِنَّ، وَتَرْغَبُونَ فِي أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِجَمَالِهِنَّ وَالتَّمَتُّعِ بِأَمْوَالِهِنَّ، أَوْ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِدَمَامَتِهِنَّ، فَلَا تَنْكِحُونَهُنَّ، وَلَا تُنْكِحُونَهُنَّ لِغَيْرِكُمْ لِيَبْقَى مَالُهُنَّ فِي أَيْدِيكُمْ، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ لَا تُعْطُونَهُمْ حَقَّهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ وَالْيَتِيمِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَمَا بَعْدَهَا فِي آخِرِ آيَاتِ الْفَرَائِضِ يُذَكِّرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْمُفَصَّلَةِ أَنْ يَتَدَبَّرُوهَا وَيَتَأَمَّلُوا مَعَانِيَهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَتَغَافَلُوا عَنْ دَقَائِقِ الْأَحْكَامِ وَالْعِظَاتِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا إِرْجَاعُهُمْ عَنْ أَهْوَائِهِمْ، وَإِذَا تَوَهَّمُوا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا غَيْرَ قَطْعِيٍّ، وَأَنَّهُمْ بِالِاسْتِفْتَاءِ عَنْهُ رُبَّمَا يُفْتُونَ بِمَا فِيهِ التَّخْفِيفُ عَنْهُمْ، وَمُوَافَقَةُ رَغْبَتِهِمْ، لَجَئُوا إِلَى ذَلِكَ وَاسْتَفْتَوْا، وَقَدْ أَشَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِفْتَاءِ بَيَانُ دَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَا يَخْفَى مِنْهَا، وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرِ فِيهِنَّ، الْمَجْرُورِ أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ أَيْضًا فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَسْتَفْتُونَ عَنْهَا الْآنَ، فَيُبَيِّنُ لَكُمْ أَنَّهَا أَحْكَامٌ مُحْكَمَةٌ لَا هَوَادَةَ فِيهَا، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تَظْلِمُوا النِّسَاءَ وَأَمْثَالَهُنَّ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ لِصِغَرِهِمْ.
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ، أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى مِنْ هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَالْوِلْدَانِ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِالْقِسْطِ، أَيْ: أَنْ تَعْنُوا عِنَايَةً خَاصَّةً بِتَحَرِّي الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ،
وَمِثْلُهُ إِقَامَةُ الشَّيْءِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَكَانَ مِنَ الْكَمَالِ أَنْ يُعَامَلَ الْيَتِيمُ بِالْفَضْلِ لَا بِمُجَرَّدِ الْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا، أَيْ: وَمَا تَفْعَلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ لِلْيَتَامَى بِتَرْجِيحِ مَنْفَعَتِهِمْ، وَالزِّيَادَةِ فِي قِسْطِهِمْ، فَهُوَ مِمَّا لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى وَلَا يَنْسَى الْإِثَابَةَ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ
362
فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَتَكْمِيلٌ لِبَيَانِ مَرَاتِبِ مُعَامَلَتِهِمْ وَهِيَ ثَلَاثٌ، أُولَاهَا: هَضْمُ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ السُّفْلَى، وَالثَّانِيَةُ: الْقِيَامُ لَهُمْ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ بِأَلَّا يَظْلِمُوا مِنْ حُقُوقِهِمْ شَيْئًا وَهِيَ الْوَاجِبَةُ الْوُسْطَى، وَالثَّالِثَةُ: الزِّيَادَةُ فِي رِزْقِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَمَا لَا يَجِبُ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ، وَهِيَ الْمَنْدُوبَةُ الْفُضْلَى.
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا الْخَوْفُ: تَوَقُّعُ مَا يُكْرَهُ بِوُقُوعِ بَعْضِ أَسْبَابِهِ أَوْ ظُهُورِ بَعْضِ أَمَارَاتِهِ، وَالنُّشُوزُ التَّرَفُّعُ وَالْكِبْرُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْإِعْرَاضُ: الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ، أَيْ: وَإِنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا وَتَرَفُّعًا عَلَيْهَا، أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهَا، بِأَنْ ثَبَتَ لَهَا ذَلِكَ، وَتَحَقَّقَ وَلَمْ يَكُنْ وَهْمًا مُجَرَّدًا، أَوْ وِسْوَاسًا عَارِضًا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَعْلُ فِعْلِ الْخَوْفِ الْمَذْكُورِ، مُفَسِّرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى أَسَاسِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَكْثُرُ عِنْدَ النِّسَاءِ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ زَوْجَهَا مَشْغُولًا بِأَكْبَرِ الْعَظَائِمِ الْمَالِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ أَوْ حَلِّ أَعْوَصِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاكِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوِ الْمُهِمَّاتِ الدِّينِيَّةِ، لَا تَعُدُّ ذَلِكَ عُذْرًا يُبِيحُ لَهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ مُسَامَرَتِهَا أَوْ مُنَادَمَتِهَا، أَوِ الرَّغْبَةِ عَنْ مُنَاغَاتِهَا وَمُبَاعَلَتِهَا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَبَيَّنَ وَتَتَثَبَّتَ فِيمَا تَرَاهُ مِنْ أَمَارَاتِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ فَإِذَا ظَهَرَ لَهَا أَنَّ ذَلِكَ لِسَبَبٍ خَارِجِيٍّ لَا لِكَرَاهَتِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْ مُعَاشَرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْذُرَ الرَّجُلَ وَتَصْبِرَ عَلَى مَا لَا تُحِبُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهَا أَنَّ ذَلِكَ لِكَرَاهَتِهِ إِيَّاهَا وَرَغْبَتِهِ عَنْهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ يُصْلِحَا بِوَزْنِ يُكْرِمَا مِنَ الْإِصْلَاحِ وَالْبَاقُونَ " يَصَّالَحَا " بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَأَصْلُهُ يَتَصَالَحَا، أَيْ:
فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ الَّذِي يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا، كَأَنْ تَسْمَحَ لَهُ بِبَعْضِ حَقِّهَا عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ أَوِ الْمَبِيتِ مَعَهَا أَوْ بِحَقِّهَا كُلِّهَا فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا لِتَبْقَى فِي عِصْمَتِهِ مُكَرَّمَةً أَوْ تَسْمَحَ لَهُ بِبَعْضِ الْمَهْرِ وَمُتْعَةِ الطَّلَاقِ أَوْ بِكُلِّ ذَلِكَ لِيُطَلِّقَهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (٢: ٢٢٩)، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مَا تُعْطِيهِ مِنْ حَقِّهَا إِذَا كَانَ بِرِضَاهَا، لِاعْتِقَادِهَا أَنَّهُ خَيْرٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُلْجِئًا إِيَّاهَا إِلَيْهِ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ ظُلْمِهَا أَوْ إِهَانَتِهَا؛ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ يَكْرَهُهَا لِكِبَرِ سَنِّهَا أَوْ دَمَامَتِهَا وَيُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَيَخَافُ أَلَّا يَعْدِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَدِيدَةِ فَيُكَاشِفُهَا بِذَلِكَ وَيُخَيِّرُهَا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عِنْدَهُ بِشَرْطِ أَنْ تُسْقِطَ عَنْهُ حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ، أَيْ حِصَّتُهَا مِنَ الْمَبِيتِ عِنْدَهَا، وَمِثْلُهَا الرَّجُلُ الَّذِي عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ مَثَلًا يَكْرَهُ إِحْدَاهُمَا وَيُرِيدُ فِرَاقَهَا إِلَّا أَنْ تُصَالِحَهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْمَبِيتِ، أَوْ يَعْجَزُ عَنِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا فَيُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا إِلَّا أَنْ تُصَالِحَهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ، فَإِذَا لَمْ تَرْضَ الْمَكْرُوهَةُ لِكِبَرِهَا أَوْ قُبْحِهَا إِلَّا بِحَقِّهَا
363
فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ، وَجَبَ عَلَى الرَّجُلِ إِيفَاؤُهَا حَقَّهَا وَأَلَّا يُنْقِصَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُصَالِحَهَا بِمَالٍ يَبْذُلُهُ لَهَا بَدَلًا مِنْ لَيَالِيهَا، وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ جَازَ لَهُمَا، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيهِ كَمَا لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ صُوَرِ الصُّلْحِ، فَإِنَّ الْمَقْصِدَ هُوَ التَّرَاضِي وَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، مِنَ التَّسْرِيحِ وَالْفِرَاقِ، وَإِنْ كَانَ بِإِحْسَانٍ وَأَدَاءِ الْمَهْرِ وَالْمُتْعَةِ وَحِفْظِ الْكَرَامَةِ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقِ ; لِأَنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الرَّوَابِطِ وَأَحَقِّهَا بِالْحِفْظِ، وَمِيثَاقَهَا مِنْ أَغْلَظِ الْمَوَاثِيقِ وَأَجْدَرِهَا بِالْوَفَاءِ، وَعُرُوضُ الْخِلَافِ وَالْكَرَاهَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ وَسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ لِمَنْ يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ مِنَ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ، وَالشَّرِيعَةُ الْعَادِلَةُ الرَّحِيمَةُ هِيَ الَّتِي تُرَاعَى فِيهَا السُّنَنُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالْوَقَائِعُ الْفِعْلِيَّةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي ذَلِكَ أَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ ; فَإِنَّهُ جَعَلَ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ هِيَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْقِيَامَ بِرِيَاسَةِ الْأُسْرَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى مَصَالِحِهَا لِأَنَّهُ أَقْوَى بَدَنًا وَعَقْلًا وَأَقْدَرُ عَلَى الْكَسْبِ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ قَالَ: وَلَهُنَّ
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (٢: ٢٢٨)، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ هِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (٤: ٣٤)، وَفَرَضَ عَلَيْهِمُ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ فِي هَذِهِ الرِّيَاسَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ وَرَاءَ النَّفَقَةِ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ يُعَاشِرَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ يُحَصِّنَهَا وَيُعِفَّهَا وَيُحَصِّنَ نَفْسَهُ وَيُعِفَّهَا بِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا ضُرَّةً شَرِيكَةً فِي ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَزْمِنَةِ الْحُرُوبِ الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا الرِّجَالُ، وَتَكْثُرُ النِّسَاءُ كَمَا بَيَّنَّا كُلَّ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ أَوْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا النُّفُورُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ وَالْمَعْرُوفَ، فَإِنْ خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَعَلَى الَّذِي يُرِيدُ مِنْهُمَا أَنْ يَخْلُصَ مِنَ الْآخَرِ أَنْ يَسْتَرْضِيَهُ، وَكَمَا جَعَلَ اللهُ الطَّلَاقَ لِلرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَحْرَصُ عَلَى عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، لِمَا تَكَلَّفَهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ طَاعَةِ الِانْفِعَالِ الْعَارِضِ، جَعَلَ لِلْمَرْأَةِ حَقَّ الْفَسْخِ إِذَا لَمْ يَفِ بِحُقُوقِهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَالْإِحْصَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ خَيْرٌ لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ وَإِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ خَيْرِيَّةِ الصُّلْحِ فِي نَفْسِهِ.
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ، بَيَّنَ لَنَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ السَّبَبَ الَّذِي قَدْ يَحُولُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَبَيْنَ الصُّلْحِ الَّذِي فِيهِ الْخَيْرُ وَحَسْمُ مَادَّةِ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، لِأَجْلِ أَنْ نَتَّقِيَهُ وَنُجَاهِدَ أَنْفُسَنَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الشُّحُّ وَمَعْنَاهُ الْبُخْلُ النَّاشِئُ عَنِ الْحِرْصِ، وَمَعْنَى إِحْضَارِهِ الْأَنْفُسَ أَنَّهَا عُرْضَةٌ لَهُ، فَإِذَا جَاءَ مُقْتَضَى الْبَذْلِ أَلَمَّ بِهَا وَنَهَاهَا أَنْ تَبْذُلَ مَا يَنْبَغِي بَذْلُهُ لِأَجْلِ الصُّلْحِ وَإِقَامَةِ الْمَصْلَحَةِ ; فَالنِّسَاءُ حَرِيصَاتٌ عَلَى حُقُوقِهِنَّ فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ
364
شَحِيحَاتٍ بِهَا، وَالرِّجَالُ أَيْضًا حَرِيصُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَشِحَّةٌ بِهَا، فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ يَتَذَكَّرَ أَنَّ هَذَا مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ الَّذِي يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، وَأَنْ يُعَالِجَهُ فَلَا يَبْخَلُ بِمَا يَنْبَغِي بَذْلُهُ وَالتَّسَامُحُ فِيهِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ مِنْ أَقْبَحِ الْبُخْلِ أَنْ يَبْخَلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ الْآخَرِ، بَعْدَ أَنْ أَفْضَى بَعْضُهُمَا إِلَى بَعْضٍ وَارْتَبَطَا بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ الْعَظِيمِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّسَامُحُ بَيْنَهُمَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْآتِيَةُ:
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، أَيْ: وَإِنْ تُحْسِنُوا الْعِشْرَةَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَتَتَرَاحَمُوا وَتَتَعَاطَفُوا وَيَعْذُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَتَتَّقُوا النُّشُوزَ وَالْإِعْرَاضَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَنْعِ الْحُقُوقِ أَوِ الشِّقَاقِ، فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ خَبِيرًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِهِ وَخَفَايَاهُ وَلَا مِنْ قَصْدِكُمْ فِيهِ، فَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْكُمْ بِالْحُسْنَى، وَالَّذِينَ اتَّقَوْا بِالْعَاقِبَةِ الْفُضْلَى قَالَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حَثُّ الرِّجَالِ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى نِسَائِهِمْ وَعَدَمِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُنَّ، وَإِنْ كَرِهُوهُنَّ لِكِبَرِهِنَّ أَوْ دَمَامَتِهِنَّ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (٤: ١٩).
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، هَذِهِ الْآيَةُ فَتْوَى أُخْرَى غَيْرُ الْفَتَاوَى الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَالْمُسْتَفْتُونَ عَنْهَا هُمُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ زَوْجَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (٤: ٣)، وَمِثْلُهُمْ مَنْ عَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ نَاوِيًا الْعَدْلَ حَرِيصًا عَلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ وُعُورَةُ مَسْلَكِهِ، وَاشْتِبَاهُ أَعْلَامِهِ، وَالتَّحْدِيدُ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ اخْتِيَارُهُ مِنْهُ، فَالْوَرِعُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُحَاوِلُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى فِي إِقْبَالِ النَّفْسِ، وَالْبَشَاشَةِ وَالْأُنْسِ، وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَيَرَى أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُ الْوِجْدَانُ النَّفْسِيُّ، وَالْمَيْلُ الْقَلْبِيُّ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَلَا يَمْلِكُ آثَارَهُ الطَّبِيعِيَّةَ، وَلَوَازِمَهُ الْفِطْرِيَّةَ، فَخَفَّفَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ الْمُتَوَرِّعِينَ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْعَدْلَ الْكَامِلَ بَيْنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَهْمَا حَرَصْتُمْ عَلَى أَنْ تَجْعَلُوا الْمَرْأَتَيْنِ كَالْغِرَارَتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْوَزْنِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْعَدْلِ، فَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ بِحِرْصِكُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ لَمَا قَدَرْتُمْ عَلَى إِرْضَائِهِمَا بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، إِلَى الْمَحْبُوبَةِ مِنْهُنَّ بِالطَّبْعِ، الْمَالِكَةِ لِمَا لَا تَمْلِكُهُ الْأُخْرَى مِنَ الْقَلْبِ فَتُعْرِضُوا بِذَلِكَ عَنِ الْأُخْرَى فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، كَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ وَغَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، فَإِنَّ الَّذِي يُغْفَرُ لَكُمْ مِنَ الْمَيْلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالطَّبْعِ، هُوَ مَا لَا يَدْخُلُ فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَا يَكُونُ
مِنْ تَعَمُّدِ التَّقْصِيرِ أَوِ الْإِهْمَالِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَقُومُوا لَهَا بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كُلِّهَا وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: وَإِنْ تُصْلِحُوا فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ وَتَتَّقُوا ظُلْمَهُنَّ وَتَفْضِيلَ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمُعَامَلَاتِ
365
الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَكُمْ مَا دُونُ ذَلِكُ مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ بِالِاخْتِيَارِ، كَالْحُبِّ وَلَوَازِمِهِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِقْبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ شَأْنَهُ سُبْحَانَهُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ لِمُسْتَحِقِّهَا.
يَظُنُّ بَعْضُ الْمَيَّالِينَ إِلَى مَنْعِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ (٤: ٣)، أَنَّ التَّعَدُّدَ غَيْرُ جَائِزٍ ; لِأَنَّ مَنْ خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَدْلَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَخَبَرُهُ حَقٌّ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْعَدْلُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَعَدَمُ الْعَدْلِ صَارَ أَمْرًا يَقِينِيًّا، وَيَكْفِي فِي تَحْرِيمِ التَّعَدُّدِ أَنْ يَخَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ بِأَنْ يَظُنَّهُ ظَنًّا فَكَيْفَ إِذَا اعْتَقَدَهُ يَقِينِيًّا؟
كَانَ يَكُونُ هَذَا الدَّلِيلُ صَحِيحًا لَوْ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إِلَخْ، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْعَدْلِ هُوَ الْعَدْلُ الْكَامِلُ الَّذِي يَحْرِصُ عَلَيْهِ أَهْلُ الدِّينِ وَالْوَرَعِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَإِنَّ الْعَدْلَ مِنَ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الَّتِي يَشْتَبِهُ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ مِنْهَا بِمَا يُقَارِبُهُ مِنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَلَا يَسْهُلُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّهِ وَالْإِحَاطَةِ بِجُزْئِيَّاتِهِ، وَلَا سِيَّمَا الْجُزْئِيَّاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوِجْدَانَاتِ النَّفْسِ كَالْحُبِّ وَالْكُرْهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ فَلَمَّا أُطْلِقَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدْلِ اقْتَضَى ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ أَنْ يُفَكِّرَ أَهْلُ الدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالْحِرْصِ عَلَى إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ فِي مَاهِيَّةِ هَذَا الْعَدْلِ وَجُزْئِيَّاتِهِ وَيَتَبَيَّنُوهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَبَيَّنَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَدْلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْفَرْدَ الْكَامِلَ الَّذِي يَعُمُّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ ; لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
نَعَمْ إِنَّ فِي الْآيَةِ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا مِنْ غَيْرِ أُولَئِكَ الْوَرِعِينَ الْحَرِيصِينَ عَلَى إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا وَيَعْتَبِرُ بِهَا مِنْ عُبَّادِ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَقْصِدُونَ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ إِلَّا تَمْتِيعَ النَّفْسِ بِاللَّذَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ أَرْكَانِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (٣٠: ٢١)، وَلَا مُرَاعَاةِ أَمْرِ النَّسْلِ وَصَلَاحِ الذُّرِّيَّةِ، أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ مِنَ الزَّوَاجِ مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، يَتَزَوَّجُونَ الثَّانِيَةَ لِمَحْضِ الْمَلَلِ مِنَ الْأُولَى وَحُبِّ التَّنَقُّلِ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، لَا يَخْطُرُ فِي بَالِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَمْرُ الْعَدْلِ، وَلَا أَنَّهُ يَجِبُ لِإِحْدَاهُنَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ يَنْوِي مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يَظْلِمَ الْأُولَى وَيَهْضِمَ حَقَّهَا، وَلَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ ارْتَكَبَ فِي ذَلِكَ إِثْمًا، وَلَا أَغْضَبَ اللهَ وَاسْتَهَانَ بِأَحْكَامِهِ، وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ وَمُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ، يَظُنُّونَ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَمْرٌ سَهْلٌ فَيُقْدِمُونَ عَلَى التَّزَوُّجِ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَكَّرُوا
366
فِي حَقِيقَةِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ وَمَاهِيَّتِهِ، أَلَا فَلْيَتَّقِ اللهَ الذَّوَّاقُونَ! أَلَا فَلْيَتَّقِ اللهَ الْمُتْرَفُونَ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي مِيثَاقِ الزَّوْجِيَّةِ الْغَلِيظِ! وَفِي حُقُوقِهَا الْمُؤَكَّدَةِ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي عَاقِبَةِ نَسْلِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِ ذُرِّيَّتِهِمْ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي حَالِ أُمَّتِهِمُ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى دَعَائِمِ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَالذُّرِّيَّةِ الَّتِي تَنْشَأُ بَيْنَ أُمَّهَاتٍ مُتَعَادِيَاتٍ وَزَوْجٍ شَهْوَانِيٍّ ظَالِمٍ! أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَلْيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ لِيَعْلَمُوا هَلْ هُمْ مِنَ الْمُصْلِحِينَ لِأَمْرِ نِسَائِهِمْ وَنِظَامِ بُيُوتِهِمْ أَمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَهَلْ هُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ اللهَ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَمْ مِنَ الْمُتَسَاهِلِينَ أَوِ الْفَاسِقِينَ؟
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا أَيْ: وَإِنْ يَتَفَرَّقِ الزَّوْجَانِ اللَّذَانِ يَخَافَا كِلَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ، كَالَّذِي يَكْرَهُ امْرَأَتَهُ لِدَمَامَتِهَا أَوْ كِبَرِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَلَمْ يَتَصَالَحْ مَعَهَا عَلَى شَيْءٍ يَرْضَيَانِ بِهِ، وَكَالَّذِي عِنْدَهُ زَوْجَانِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَسْمَحُ لَهُ الْمَرْغُوبُ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا بِمُقَابِلٍ وَلَا غَيْرِ مُقَابِلٍ، إِنْ يَتَفَرَّقَ هَذَانَ - عَلَى تَرْجِيحِ الطَّلَاقِ عَلَى دَوَامِ الزَّوْجِيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِسْنَادُ
الْفِعْلِ إِلَيْهِمَا، وَعَدَمِ حِرْصِ أَحَدٍ مِنْهُمَا عَلَى اسْتِرْضَاءِ الْآخَرِ وَصُلْحِهِ - يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سِعَتِهِ، يُغْنِي اللهُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِسِعَةِ فَضْلِهِ، فَقَدْ يُسَخِّرُ لِلْمَرْأَةِ رَجُلًا خَيْرًا مِنْهُ يَقُومُ لَهَا بِحُقُوقِهَا، وَيَجْعَلُ لَهُ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ أَوْ يَتَزَوَّجُهَا مَنْ تُحْصِنُهُ وَتُرْضِيهِ فَيَسْتَقِيمُ أَمْرُ بَيْتِهِ وَتَرْبِيَةُ أَوْلَادِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جَدِيرًا بِإِغْنَاءِ اللهِ إِيَّاهُ عَنِ الْآخَرِ بِزَوْجٍ خَيْرٍ مِنْهُ، إِذَا الْتَزَمَا فِي التَّفَرُّقِ حُدُودَ اللهِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الِاتِّفَاقِ وَالصُّلْحِ، حَتَّى إِذَا ظَهَرَ لَهُمَا بَعْدَ إِجَالَةِ الرَّأْيِ فِيهِ وَالتَّرَوِّي فِي أَسْبَابِهِ وَوَسَائِلِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ لَهُمَا، تَفَرَّقَا بِإِحْسَانٍ يَحْفَظُ كَرَامَتَهُمَا وَلَا يَكُونَانِ بِهِ مُضْغَةً فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ، وَقُدْوَةً سَيِّئَةً لِفَاسِدِي الْأَخْلَاقِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا، أَيْ كَانَ وَلَا يَزَالُ وَاسِعَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ يُوَفِّقُ بَيْنَ أَقْدَارٍ، وَيُؤَلِّفُ بَيْنَ الْمُسَبِّبَاتِ وَالْأَسْبَابِ، حَكِيمًا فِيمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، جَاعِلًا لَهَا عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ النَّاسِ.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ الرَّغْبَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الْمُتَفَرِّقَيْنِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ مِنْ حُسْنِ تَعَامُلِهِمَا فِي تَفَرُّقِهِمَا، وَالْتِزَامِهِمَا فِيهِ حِفْظَ كَرَامَتِهِمَا، وَإِنَّمَا قُلْتُ: " قَدْ يَكُونُ " لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَغِّبًا لِدَهْمَاءِ النَّاسِ وَتُحُوتِهِمْ، فَهُوَ أَكْبَرُ الْمُرَغِّبَاتِ لِكِرَامِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَيْرُ فِيهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْفَاضِلَ الْكَرِيمَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ امْرَأَةً اخْتَلَفَتْ مَعَ بَعْلِهَا لِأَنَّ نَفْسَهَا الشَّرِيفَةَ لَمْ تَقْبَلْ أَنْ يَنْشُزَ أَوْ يُعْرِضَ عَنْهَا، أَوْ يَقْرِنَ بِهَا مَنْ لَا يَعْدِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ تَخْدِشْ كَرَامَتَهُ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، وَإِنَّمَا أَحَبَّتْ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَهُ عَلَى طَرِيقَةٍ عَادِلَةٍ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَتَفَرَّقَا بِأَدَبٍ وَإِحْسَانٍ حُفِظَ بِهِ شَرَفُهُمَا، وَحَسُنَ بِهِ ذِكْرُهُمَا، وَعُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي
367
أَسَاءَ إِلَيْهَا، لَا لِعَيْبٍ فِي أَخْلَاقِهَا وَلَا لِسُوءٍ فِي أَعْمَالِهِ، بَلْ لِتَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِغَيْرِهَا، فَإِنَّ هَذَا الْفَاضِلَ الْكَرِيمَ يَرَى فِيهَا أَفْضَلَ صِفَاتِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي يَتَسَاهَلُ لِأَجْلِهَا فِيمَا عَدَاهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَتَاةً رَغِبَ فِيهَا الْفِتْيَانُ وَغَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ نَصَفًا رَغِبَ فِيهَا كَثِيرُونَ مِنْ أَمْثَالِهَا فِي السِّنِّ وَشَرَفِ الْأَدَبِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ رَغْبَةً فِي مِثْلِهَا مَنْ يَتَزَوَّجُونَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، لَا لِمَحْضِ إِرْضَاءِ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُرْجَى أَنْ تَدُومَ لَهُمُ الْعِيشَةُ الْمَرْضِيَّةُ، كَذَلِكَ كَرَائِمُ النِّسَاءِ وَأَوْلِيَاؤُهُنَّ يَرْغَبُونَ فِي الرَّجُلِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ يُمْسِكُ
الْمَرْأَةَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانٍ، وَلَا يُلْجِئُهُ إِلَى الطَّلَاقِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.
اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي تَرْتِيبِ كِتَابِهِ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِي شُئُونِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى أَوْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا، أَنْ يُعَقِّبَ عَلَيْهَا بِآيَاتٍ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ تُذَكِّرُ الْمُخَاطَبِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ بِعَظَمَتِهِ وَسِعَةِ مُلْكِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ خَلْقِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ أَوْ إِثَابَتِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ لِخَيْرِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، تُذَكِّرُهُمْ بِذَلِكَ لِيَزْدَادُوا بِتَدَبُّرِهَا إِيمَانًا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهَا، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَاتُ:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مُلْكًا وَخَلْقًا وَعَبِيدًا، فَبِأَمْرِهِ وَحْدَهُ قَامَ نِظَامُ الْأَكْوَانِ، وَلَهُ وَحْدَهُ التَّدْبِيرُ وَالتَّكْلِيفُ الَّذِي يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرُ الْإِنْسَانِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ، فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ، فَبِإِقَامَةِ السُّنَنِ تَعْلُو مَعَارِفُكُمُ الْإِلَهِيَّةُ، وَتَرْتَقِي مَرَافِقُكُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَبِإِقَامَةِ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، تَتَزَكَّى أَنْفُسُكُمْ وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحُكُمُ الْمَدَنِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ وَإِنْ تَكْفُرُوا، نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ وَتَتْرُكُوا
368
تَقْوَاهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، لَا يَنْقُصُ كُفْرُكُمْ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا ضَرَرُهُ عَلَيْكُمْ، كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الشُّكْرِ خَاصَّةٌ بِكُمْ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ وَمِنْهُ، مَحْمُودًا بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ، مَحْمُودًا عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شُكْرِكُمْ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى حَمْدِكُمْ لِتَحْقِيقِ حَمْدِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (١٧: ٤٤)، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ آخِرُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ اكْتَفَيْنَا مِنْهُ بِمَحَلِّ الشَّاهِدِ فِي مَوْضُوعِنَا.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، أَعَادَ تَذْكِيرَهُمْ بِكَوْنِهِ مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيِ الْعَوَالِمُ كُلُّهَا لِيَتَمَثَّلُوا عَظَمَتَهُ، وَيَسْتَحْضِرُوا الدَّلِيلَ عَلَى غِنَاهُ وَحَمْدِهِ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ تَوَكَّلَ بِإِغْنَاءِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَقَامَا حُدُودَهُ فِي تَفَرُّقِهِمَا فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْجَازِ كُلِّ مَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ بِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكْتَفُوا بِهِ فِي التَّوَكُّلِ لَهُمْ، وَيُسْتَعْمَلُ الْوَكِيلُ بِمَعْنَى الْمُهَيْمِنِ وَالْمُسَيْطِرِ وَالرَّقِيبِ.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا عَلِمْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِنْ يَشَأْ أَنْ يُذْهِبَكُمْ بِعَذَابٍ يُنْزِلُهُ بِكُمْ، أَوْ أُمَّةٍ قَوِيَّةٍ يُسَلِّطُهَا عَلَيْكُمْ فَتَسْلُبُ اسْتِقْلَالَكُمْ حَتَّى تَجْعَلَكُمْ عَبِيدًا أَوْ كَالْعَبِيدِ لَهَا، لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَقُومُوا بِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمُ الَّتِي بِهَا وِحْدَتُكُمْ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُكُمْ وَيَأْتِ
بِآخَرِينَ، يَحُلُّونَ مَحَلَّهُمْ فِي الْوُجُودِ أَوِ الْحُكْمِ وَالتَّصَرُّفِ، وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٤: ١٩، ٢٠)، وَفِي سُورَةٍ أُخْرَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (٤٧: ٣٨)، قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ مِنْ قَبِيلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَاوِمُونَ دَعْوَتَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ وَتَوْجِيهٌ لِأَفْكَارِهِمْ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي سُنَنِهِ تَعَالَى بِحَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَكَوْنِ هَذِهِ السُّنَنِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهَا الْمَشِيئَةُ لَا مَرَدَّ لَهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ; لِأَنَّ بِيَدِهِ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ.
369
مَنْ كَانَ يُرِيدُ، مِنْكُمْ بِسَعْيِهِ وَكَدْحِهِ وَجِهَادِهِ فِي حَيَاتِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا، وَنَعِيمَهَا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، جَمِيعًا وَقَدْ وَهَبَكُمْ مِنَ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ وَهِدَايَةِ الْحَوَاسِ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ وَالدِّينِ مَا يُمْكِنُكُمْ بِهِ نَيْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا الثَّوَابَيْنِ جَمِيعًا وَلَا تَكْتَفُوا بِالْأَدْنَى الْفَانِي عَنِ الْأَعْلَى الْبَاقِي، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَيْسُورٌ لَكُمْ، وَمِمَّا تَنَالُهُ قُدْرَتُكُمْ، فَمِنْ سَفَهِ النَّفْسَ، وَأَفَنِ الرَّأْيِ، أَنْ تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِي أَهْلَهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّ كُلًّا مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَثَوَابِ الْآخِرَةِ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢: ٢٠١).
وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، سَمِيعًا لِأَقْوَالِ الْعِبَادِ فِي مُخَاطِبَاتِهِمْ وَمُنَاجَاتِهِمْ، بَصِيرًا بِجَمِيعِ أُمُورِهِمْ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاقِبُوهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَذَلِكَ الَّذِي يُعِينُهُمْ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ الَّتِي يَسْتَقِيمُ بِهَا أَمْرُ دُنْيَاهُمْ، وَيَسْتَعِدُّونَ بِهِ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي آخِرَتِهِمْ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ مَكَانُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مِمَّا قَبْلَهَا، وَهِيَ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ إِلَخْ، فَهُوَ يَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْقَرِيبَةِ خَاصَّةً بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ بِالْقِسْطِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِسْطِ فِي الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، فَهُنَالِكَ خَصَّ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءَ فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْتَاءِ فِيهِنَّ، وَلِأَنَّ حَقَّهُنَّ آكِدٌ وَظُلْمَهُنَّ مَعْهُودٌ، وَهَا هُنَا عَمَّمَ الْأَمْرَ
بِالْقِسْطِ لِأَنَّ الْعَدْلَ حِفَاظُ النِّظَامِ وَقِوَامُ أَمْرِ الِاجْتِمَاعِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالْحَقِّ، وَلَوْ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَعَدَمُ مُحَابَاةِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ لِغِنَاهُ، أَوْ مُرَاعَاتِهِ لِفَقْرِهِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ وَالْحَقَّ مُقَدَّمَانِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ وَحُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ مُحَابَاةُ الْأَقْرَبِينَ مَعْهُودَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّ أَمْرَهُمْ قَائِمٌ بِالْعَصَبِيَّةِ، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَانَ يَنْصُرُ قَوْمَهُ وَأَهْلَ عَصَبِيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَزُّ بِهِمْ، كَمَا يَظْلِمُ النِّسَاءَ وَالْيَتَامَى لِضِعْفِهِنَّ، وَعَدَمِ الِاعْتِزَازِ بِهِنَّ، فَحَظْرُ اللهِ مُحَابَاةَ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ أَهْلَهُ وَإِعْطَاءَهُمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُقَابِلُ حَظْرَ ظُلْمِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى هُنَاكَ وَهَضْمَ مَا لَهُنَّ مِنَ الْحَقِّ، رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ كَانَتِ الْبَقَرَةُ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ، ثُمَّ أَرْدَفَتْهَا سُورَةُ النِّسَاءِ قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ قِبَلَ ابْنِهِ أَوِ ابْنِ عَمِّهِ أَوْ ذَوِي رَحِمِهِ فَيَلْوِي بِهَا لِسَانَهُ أَوْ يَكْتُمُهَا مِمَّا يَرَى مِنْ عُسْرَتِهِ حَتَّى يُوسَرَ فَيَقْضِيَ فَنَزَلَتْ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، فَتَأَمَّلَ كَيْفَ بَقِيَ تَأْثِيرُ الْمُحَابَاةِ فِيهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ!.
الْقَوَّامُونَ بِالْقِسْطِ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْعَدْلَ بِالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا وَأَدُوَمِهَا فَإِنَّ قَوَّامِينَ، جَمْعُ قَوَّامٍ وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ، وَالْقِيَامُ بِالشَّيْءِ
هُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُسْتَوِيًا تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَةِ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ، لِتَأْكِيدِ الْعِنَايَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ بَنَى جِدَارًا مَائِلًا أَوْ نَاقِصًا لَا يُقَالُ إِنَّهُ أَقَامَ الْبِنَاءَ أَوْ أَقَامَ الْجِدَارَ، قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ (١٨: ٧٧).
وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْجِدَارُ إِلَى الْإِقَامَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَائِلًا مُتَدَاعِيًا لِلسُّقُوطِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْكِيدِ أَمْرِ الْعَدْلِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ، فَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ مُطْلَقًا يَكُونُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ تَقُولُ: اعْدِلُوا وَأَقْسِطُوا، وَتَقُولُ: كُونُوا عَادِلِينَ أَوْ مُقْسِطِينَ، وَهَذِهِ أَبْلَغُ ; لِأَنَّهَا أَمْرٌ بِتَحْصِيلِ الصِّفَةِ لَا بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالْقِسْطِ الَّذِي يَصْدُقُ بِمَرَّةٍ، وَتَقُولُ: أَقِيمُوا الْقِسْطَ وَأَبْلَغُ مِنْهُ: كُونُوا قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، أَيْ: لِتَكُنِ الْمُبَالَغَةُ وَالْعِنَايَةُ بِإِقَامَةِ الْقِسْطِ عَلَى وَجْهِهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِكُمْ بِأَنْ تَتَحَرَّوْهُ بِالدِّقَّةِ التَّامَّةِ حَتَّى يَكُونَ مَلَكَةً رَاسِخَةً فِي نُفُوسِكُمْ، وَالْقِسْطُ يَكُونُ فِي الْعَمَلِ كَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ، وَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ مِمَّنْ يُوَلِّيهِ السُّلْطَانُ أَوْ يُحَكِّمُهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ أَعْدَلَ الْأُمَمِ وَأَقْوَمَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا عِنْدَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ بِالْقُرْآنِ، وَصَدَقَ عَلَى سَلَفِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (٧: ١٨١)، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ أُولَئِكَ السَّلَفِ خَلْفٌ نَبَذُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، حَتَّى صَارَتْ جَمِيعُ الْأُمَمُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِظُلْمِ حُكَّامِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ، وَتَفْخَرُ عَلَيْهِمْ بِالْعَدْلِ بَلْ صَارَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ يَلْتَمِسُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْقِسْطَ، وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ.
371
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: شُهَدَاءَ لِلَّهِ، خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ: كُونُوا شُهَدَاءَ لِلَّهِ، وَالشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ بِوَزْنِ " فَعِيلٍ " وَالْأَصْلُ فِي صِيغَةِ " فَعِيلٍ " أَنْ تَدُلَّ عَلَى الصِّفَاتِ الرَّاسِخَةِ كَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ، فَهُوَ عَلَى هَذَا أَمْرٌ بِالْعِنَايَةِ بِأَمْرِ الشَّهَادَةِ وَالرُّسُوخِ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ فِي تَفْسِيرِ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَتُرَاجَعْ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا الْحَقَّ الَّذِي يَرْضَاهُ وَيَأْمُرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ
وَلَا مُحَابَاةٍ لِأَحَدٍ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَيْ: كُونُوا شُهَدَاءَ بِالْحَقِّ لِوَجْهِ اللهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ الَّذِي تُنَالُ بِهِ مَرْضَاتُهُ وَمَثُوبَتُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، بِأَنْ يَثْبُتَ بِهَا الْحَقُّ عَلَيْكُمْ وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَقٍّ، فَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِظْهَارُ الْحَقِّ أَوْ عَلَى وَالِدَيْكُمْ وَأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْكُمْ كَأَوْلَادِكُمْ وَإِخْوَتِكُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَلَا مِنْ صِلَةِ رَحِمِ الْأَقْرَبِينَ أَنْ يُعَانُوا عَلَى مَا لَيْسَ لَهُمْ بِحَقٍّ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ لَيِّهَا وَالتَّحْرِيفِ فِيهَا لِأَجْلِهِمْ، وَإِنَّمَا الْبِرُّ وَالصِّلَةُ فِي الْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَالَّذِينَ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الظُّلْمِ وَهَضْمِ حُقُوقِ النَّاسِ يَتَعَاوَنُ النَّاسُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ أَسْبَابِ فُشُوِّ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يَأْمَنُ شَرَّهًا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَالْمُحَابَاةُ فِي الشَّهَادَةِ مَفْسَدَةٌ ضَرَرُهَا عَامٌّ وَإِنْ كَانَتْ لِمَصْلَحَةٍ يُرِيدُ الْمُحَابِي بِهَا نَفْعَ أَهْلِهِ أَوِ الشَّفَقَةَ عَلَى فَقِيرٍ أَوِ الْعَصَبِيَّةَ لِغَنِيٍّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا، أَيْ: إِنْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا، وَشَرْعُهُ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ فِيهِمَا فَلَا تُحَابُوا الْغَنِيَّ طَمَعًا فِي بِرِّهِ، وَلَا خَوْفًا مِنْ شَرِّهِ وَلَا الْفَقِيرَ عَطْفًا عَلَيْهِ وَرَحْمَةً بِهِ، فَمَرْضَاةُ الْفَقِيرِ لَيْسَتْ خَيْرًا لَكُمْ وَلَا لَهُ مِنْ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا أَنْتُمْ أَرْحَمُ بِالْفَقِيرِ وَأَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ وَإِقَامَةَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ هِيَ خَيْرٌ لِلشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا لَمَا شَرَعَ اللهُ ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ فَكَانَ حِلْفُهُ مَعَ الْفَقِيرِ يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ، فَأَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ اهـ.
أَيْ: كَانَ مَيْلُهُ الْقَلْبِيُّ مُوَجَّهًا إِلَى الْفَقِيرِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّى لِظُلْمِ الْغَنِيِّ، وَهُوَ وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي تُظْهِرُهُ الْبَيِّنَةُ وَالْحُجَّةُ سَوَاءٌ أَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ وَنِعْمَ مَا قَالَ: هَذَا فِي الشَّهَادَةِ،
فَأَقِمِ الشَّهَادَةَ يَا ابْنَ آدَمَ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ أَوِ الْوَالِدَيْنِ أَوِ الْأَقْرَبِينَ أَوْ عَلَى ذَوِي قَرَابَتِكَ وَأَشْرَافِ قَوْمِكَ، فَإِنَّمَا الشَّهَادَةُ لِلَّهِ وَلَيْسَتْ لِلنَّاسِ، وَإِنَّ اللهَ رَضِيَ بِالْعَدْلِ لِنَفْسِهِ وَالْإِقْسَاطِ، وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، بِهِ يَرُدُّ اللهُ مِنَ الشَّدِيدِ عَلَى الضَّعِيفِ وَمِنَ الصَّادِقِ عَلَى الْكَاذِبِ، وَمِنَ الْمُبْطِلِ عَلَى الْمُحِقِّ،
372
وَبِالْعَدْلِ يُصَدَّقُ الصَّادِقُ وَيُكَذَّبُ الْكَاذِبُ، وَيَرُدُّ الْمُعْتَدِي وَيُوَبِّخُهُ تَعَالَى رَبُّنَا وَتَبَارَكَ، وَبِالْعَدْلِ يَصْلُحُ النَّاسُ، يَا ابْنَ آدَمَ! إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا، يَقُولُ اللهُ: " أَنَا أَوْلَى بِغَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ، وَلَا يَمْنَعُكُمْ غِنَى غَنِيٍّ، وَلَا فَقْرَ فَقِيرٍ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا تَعْلَمُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْحَقِّ " اهـ.
قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا، أَيْ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى وَمَيْلَ النَّفْسِ إِلَى أَحَدٍ مِمَّنْ كُلِّفْتُمُ الْعَدْلَ فِيهِمْ، أَوِ الشَّهَادَةَ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، كَرَاهَةَ أَنْ تَعْدِلُوا، بَلْ آثِرُوا الْعَدْلَ عَلَى الْهَوَى، فَبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ فِي الْوَرَى، أَوْ لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِئَلَّا تَعْدِلُوا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَالْهَوَى مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، كُتِبَتْ: تَلْوُوا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ لِتَحْتَمِلَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ تَلُوا، بِضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ الْوَاوِ مِنَ اللَّيِّ وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: وَإِنْ تَلُوا أَمْرَ الشَّهَادَةِ وَتُؤَدُّوهَا أَوْ تُعْرِضُوا عَنْ تَأْدِيَتِهَا وَتَكْتُمُوهَا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ خَبِيرًا بِعَمَلِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ قَصْدُكُمْ وَنِيَّتُكُمْ فِيهِ، وَعَلَى الثَّانِي: وَإِنْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ وَتُحَرِّفُوهَا، أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا فَلَا تُؤَدُّوهَا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعَمَلِكُمْ هَذَا خَبِيرًا فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمْ هُنَا بِكَوْنِهِ خَبِيرًا وَلَمْ يَقُلْ عَلِيمًا ; لِأَنَّ الْخِبْرَةَ هِيَ الْعِلْمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ وَخَفَايَاهَا، فَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ الَّذِي تَخْتَلِفُ فِيهِ النِّيَّاتُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الْغِشُّ وَالِاحْتِيَالُ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَغُشَّ نَفْسَهُ وَيَلْتَمِسَ لَهَا الْعُذْرَ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوِ التَّحْرِيفِ فِيهَا، فَهَلْ يَتَدَبَّرُ الْمُسْلِمُونَ الْآيَةَ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فَيُقِيمُوا الْعَدْلَ وَالشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ، أَمْ يَعْمَلُونَ بِرَأْيِ أَهْلِ الْحِيَلِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ كَلَّفَهُمُ اتِّبَاعَهُمْ دُونَ اتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ؟ !
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، رَوَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَسَدٍ وَأُسَيْدٍ ابْنَيْ كَعْبٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ قَيْسٍ وَسَلَامِ بْنِ أُخْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلَمَةَ بْنِ أَخِيهِ وَيَامِينَ بْنِ يَامِينَ إِذْ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: " يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ، وَمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعُزَيْرٍ وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ "، أَيْ: سِوَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، فَقَالَ: بَلْ آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ قَالَ: " فَآمَنُوا كُلُّهُمْ "، وَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ.
وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ الْأَعْظَمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِجِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَّلَهَا عَلَى رُسُلِهِ مِنْ قَبْلِ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ قَبْلَهُ رُسُلًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ عِبَادَهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي سُدًى، مَحْرُومِينَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفُوا أَعْيَانَ تِلْكَ الْكُتُبِ
373
وَلَا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ مِنْهَا صَحِيحًا غَيْرَ مُحَرَّفٍ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الْأَمْرَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ وَالْكِتَابِ الْآخَرِ، وَبَيْنَ مَا قَبْلُهُ كَمَا قُلْنَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ آمِنُوا، بِمَعْنَى اثْبُتُوا وَدَاوِمُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِذَلِكَ كَمَا قَالُوا، فَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْأَمْرِ بِالْمُوَاظَبَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ، سَوَاءٌ أَصَحَّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ.
وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ تَوَعَّدَ عَلَى الْكُفْرِ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ هُوَ الرَّكْنُ الْأَوَّلُ، وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْوَحْيَ إِلَى الرُّسُلِ هُوَ الرَّكْنُ الثَّانِي، وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرُّسُلِ هُوَ الرَّكْنُ الثَّالِثُ وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ بَلَّغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ تِلْكَ الْكُتُبَ فَبَلَّغُوهَا النَّاسَ هُوَ الرَّكْنُ الرَّابِعُ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يُجْزَى فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ عَلَى عَمَلِهِمْ
بِتِلْكَ الْكُتُبِ مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا ذَكَرَ كُلٌّ بِحَسَبِ كِتَابِهِ إِلَّا أَنْ يُنْسَخَ بِمَا بَعْدَهُ هُوَ الرُّكْنُ الْخَامِسُ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ كُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ ; لِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى فِيهِ أَوْ لِلتَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْجَهْلِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ وَأُمَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِقَوْلِهِ: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (٢: ٢٨٥)، وَلَوْلَا التَّقْلِيدُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ وَعَمًى، أَوِ التَّعَصُّبُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، لَمَا كَانَ يُعْقَلُ أَنْ يَفْهَمَ أَحَدٌ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَيُؤْمِنُ بِمُوسَى وَعِيسَى عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَإِنَّ سِرَّ الرِّسَالَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ، وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى وَلَا عِيسَى أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ أَجْمَعِينَ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ أَوْ بِمَلَائِكَتِهِ أَوْ بِبَعْضِ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوِ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الصَّحِيحِ الَّذِي يُنَجِّي صَاحِبَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَيُمَتِّعُهُ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَفَرَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَرْكَانِ بِجُحُودِ أَصْلِهِ وَإِنْكَارِهِ أَلْبَتَّةَ كَانَتْ حَيَاتُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَيَوَانِيَّةً مَحْضَةً، لَا يُزَكِّي نَفْسَهُ وَلَا يُعِدُّ رُوحَهُ لِلْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَإِنْ كَفَرَ بِبَعْضِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَانَ كُفْرُهُ بِهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِيمَانًا صَحِيحًا مَبْنِيًّا عَلَى فَهْمِ مَعْنَاهَا وَالْبَصِيرَةِ بِحِكْمَتِهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ آنِفًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ عَنْ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، وَمَحَجَّةِ السَّلَامَةِ وَإِنَّمَا أَبْعَدَهُ عَنْهَا جَهْلُ صَاحِبِهِ لِوُجُودِهَا، وَمَنْ جَهَلَ وُجُودَ الشَّيْءِ لَا يَطْلُبُهُ بِالْبَحْثِ عَنْ بَيِّنَاتِهِ، وَطَلَبِ أَعْلَامِهِ وَآيَاتِهِ، وَأَمَّا مَنْ ضَلَّ عَنِ الشَّيْءِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ، فَإِنَّهُ يَبْحَثُ عَنْهُ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ضَلَالُهُ قَرِيبًا، وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ مِنْ أَبْلَغِ الْوَصْفَ وَأَعْلَاهُ، وَقَدْ وَحَّدَ لَفْظَ الْكِتَابِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِيُنَاسِبَ لَفْظَ الرُّسُلِ الْمُفْرَدَ، وَجَمَعَهُ فِي آخِرِهَا لِيُنَاسِبَ جَمْعَ الرُّسُلِ.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
بَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَالَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهُنَّ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ نِفَاقًا أَوْ تَقْلِيدًا، وَكَانَ الْكُفْرُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَدَعْ فِيهَا اسْتِعْدَادًا لِفَهْمِ الْإِيمَانِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْصِمْهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ وَلَا ذَاقُوا حَلَاوَتَهُ، ثُمَّ وَعِيدُ الْمُنَافِقِينَ كَافَّةً وَبَيَانُ مُوَالَاتِهِمُ لِلْكَافِرِينَ وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاسُبِ الَّذِي يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْوَعِيدِ وَتَحْذِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا، ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ مِنْ ذَبْذَبَتِهِمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ أَنَّهُ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِفَهْمِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيَّتِهِ وَمَزَايَاهُ، فَهُمْ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ لَا يُرْجَى لَهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا إِلَى سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِهِ، وَلَا أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا دَنَّسَ أَرْوَاحَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْآيَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَمْثَالِهِمْ ; لِأَنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ لَمْ يَكُنْ لِيَحْرِمَ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْهِدَايَةَ بِمَحْضِ الْخَلْقِ وَالْمَشِيئَةِ، وَإِنَّمَا مَشِيئَتُهُ مُقْتَرِنَةٌ بِحِكْمَتِهِ، وَقَدْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ كَسْبُ الْبَشَرِ لِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ
مُؤَثِّرًا فِي نُفُوسِهِمْ، فَمَنْ طَالَ
عَلَيْهِ أَمَدُ التَّقْلِيدِ، حُجِبَ عَقْلُهُ عَنْ نُورِ الدَّلِيلِ، حَتَّى لَا يَجِدَ إِلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَمَنْ طَالَ عَلَيْهِ عَهْدُ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، حُجِبَ عَنْ أَسْبَابِ الْغُفْرَانِ، وَهِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢)، وَقَوْلُهُ حِكَايَةً لِدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقَهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٤٠: ٧)، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ عِبَارَةٌ عَنْ مَحْوِ أَثَرِ الذَّنْبِ مِنَ النَّفْسِ بِتَأْثِيرِ التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُضَادُّ أَثَرُهُ أَثَرَ ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (١١: ١١٤)، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ بَلْ يُقْبَلُ قَطْعًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ آمَنَ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنَ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَوَّلُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ كُفْرَ الْيَهُودِ الْأَوَّلَ كَانَ بِاتِّخَاذِهِمُ الْعَجْلَ وَعِبَادَتِهِ، وَالثَّانِي كُفْرُهُمْ بِالْمَسِيحِ، وَالثَّالِثَ الَّذِي ازْدَادُوا بِهِ كُفْرًا هُوَ كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ قَدْ آمَنُوا، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَهُوَ يَظْهَرُ فِيمَنْ جَهَرُوا بِالْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا يَظْهَرُ فِيمَنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَقْلِيدًا لِبَعْضِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى الْكُفْرِ لِمِثْلِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَكَذَا فَعَلُوا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ الْكُفْرَ أَلْصَقُ بِنُفُوسِهِمْ لِطُولِ أُنْسِهِمْ بِهِ وَانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْبِشَارَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُرُّ، فَهِيَ إِذًا مَأْخُوذَةٌ مِنَ انْبِسَاطِ بَشْرَةِ الْوَجْهِ، كَمَا أَنَّ السُّرُورَ مَأْخُوذٌ مِنَ انْبِسَاطِ أَسَارِيرِهِ، وَعَلَى هَذَا يَقُولُونَ: إِنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِيمَا يَسُوءُ كَمَا هُنَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبِشَارَةَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسِرُّ وَفِيمَا يَسُوءُ اسْتِعْمَالًا حَقِيقِيًّا ; لِأَنَّ أَصْلَهَا الْإِخْبَارُ بِمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي بَشْرَةِ الْوَجْهِ فِي الِانْبِسَاطِ وَالتَّمَدُّدِ، أَوِ الِانْقِبَاضِ وَالتَّغَضُّنِ، وَالْأَلِيمُ: الشَّدِيدُ الْأَلَمِ.
ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُبَشِّرِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ الْمُعَادِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءً وَأَنْصَارًا، مُتَجَاوِزِينَ وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَارِكِيهَا إِلَى وِلَايَتِهِمْ وَمُمَالَأَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الدَّوْلَةَ سَتَكُونُ لَهُمْ فَيَجْعَلُونَ لَهُمْ يَدًا عِنْدَهُمْ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، إِنْ كَانُوا يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ وَهِيَ الْمَنَعَةُ وَالْغَلَبَةُ وَرِفْعَةُ الْقَدْرِ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، فَهُوَ يُؤْتِيهَا مَنْ يَشَاءُ فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَطْلُبُوهَا مِنْهُ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَّتِهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعِ هِدَايَةِ وَحْيِهِ الَّذِي يُرْشِدُهُمْ إِلَى طُرُقِهَا، وَيُبَيِّنُ أَسْبَابَهَا، وَقَدْ آتَاهَا اللهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِاهْتِدَائِهِمْ بِكِتَابِهِ، وَسِيَرِهِمْ عَلَى سُنَنِهِ، وَلَمَّا أَعْرَضَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الَّتِي اعْتَزَّ بِهَا سَلَفُهُمْ ذُلُّوا وَسَاءَتْ حَالُهُمْ، وَصَارَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ يُوَالُونَ الْكَفَّارَ دُونَهُمْ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ وَالشَّرَفَ وَمَا هُمْ لَهُمَا بِمُدْرِكِينَ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يُوَفِّقَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى تِلْكَ الْهِدَايَةِ فَيَعُودُوا إِلَى حَظِيرَةِ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (٦٣: ٨).
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، قَالُوا: الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ مِنْ صَادِقٍ وَمُنَافِقٍ، وَالَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ ; لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ (٦: ٦٨)، نَزَلَتْ هَذِهِ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ إِذْ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي الْكُفْرِ وَذَمِّ الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَجْلِسُونَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ لِضَعْفِهِمْ وَقُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ، فَأُمِرُوا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ الْجُلُوسِ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ فَعْلَيْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَجْلِسُونَ مَعَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ لَهُمْ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ ذَلِكَ وَمَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا كَانَ يُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَمَعْنَى سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا، سَمِعْتُمُ الْكَلَامَ الَّذِي مَوْضُوعُهُ جَعْلُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيرُ وَالتَّنْفِيرُ، بِمُجَرَّدِ السَّفَهِ وَقَوْلِ الزُّورِ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مُحْدَثٍ فِي الدِّينِ وَكُلُّ مُبْتَدَعٍ، كَمَا رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِهَا دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ دَلِيلٌ عَلَى اجْتِنَابِ كُلِّ مَوْقِفٍ يَخُوضُ فِيهِ أَهْلُهُ بِمَا يُفِيدُ التَّنَقُّصَ وَالِاسْتِهْزَاءَ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ أُسَرَاءِ التَّقْلِيدِ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا آرَاءَ الرِّجَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ سِوَى قَالَ إِمَامُ مَذْهَبِنَا: كَذَا وَقَالَ فَلَانٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ بِكَذَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ أَوْ بِحَدِيثٍ نَبَوِيٍّ سَخِرُوا مِنْهُ وَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَى مَا قَالَهُ رَأْسًا أَوْ يُلْقُوا لَهُ بَالًا وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ، وَخَطْبٍ شَنِيعٍ، وَخَالَفَ مَذْهَبَ إِمَامِهِ الَّذِي نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مُعَلِّمِ الشَّرَائِعِ، بَالَغُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى جَعَلُوا رَأْيَهُ الْفَائِلَ، وَاجْتِهَادَهُ الَّذِي هُوَ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ مَائِلٌ مُقَدَّمًا عَلَى اللهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا صَنَعَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ بِأَهْلِهَا وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ انْتَسَبَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ إِلَيْهِمْ بَرَاءٌ مِنْ فِعْلِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، كَمَا أَوْضَحَ الشَّوْكَانِيُّ ذَلِكَ فِي " الْقَوْلِ الْمُفِيدِ " وَ " أَدَبِ الطَّلَبِ " اهـ، وَيَا لَيْتَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا كَلَامَ شُيُوخِهِمْ أَصْلًا لِلدِّينِ، وَالْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَرْعَيْنِ أَوْ مُهْمَلَيْنِ، يَتَّبِعُونَ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الِانْتِسَابَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَدْيَهُمْ، وَلَا يَتَّبِعُونَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُ كُلُّ أَهْلِ عَصْرٍ شُيُوخَهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ.
إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ إِنَّكُمْ إِنْ قَعَدْتُمْ مَعَهُمْ تُكُونُونَ مِثْلَهُمْ وَشُرَكَاءَ لَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ ; لِأَنَّكُمْ أَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَرَضِيتُمُوهُ لَهُمْ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ بِالشَّيْءِ وَإِقْرَارُ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ إِقْرَارَ الْكُفْرِ بِالِاخْتِيَارِ كُفْرٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ إِقْرَارَ الْمُنْكَرِ وَالسُّكُوتَ عَلَيْهِ مُنْكَرٌ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَأَنَّ إِنْكَارَ الشَّيْءِ يَمْنَعُ فُشُوَّهُ
377
بَيْنَ مَنْ يُنْكِرُونَهُ حَتْمًا، فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ، وَيَتَأَمَّلُوا كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُلْحِدِينَ فِي الْبِلَادِ الْمُتَفَرْنِجَةِ يَخُوضُونَ فِي آيَاتٍ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِالدِّينِ، وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْكُتُ لَهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ كُفْرِهِمْ لِضَعْفِ الْإِيمَانِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى.
إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا، هَذَا وَعِيدٌ لِلْفَرِيقَيْنِ الْمُسْتَهْزِئَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِمُقَرِّبِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بِأَنَّهُمْ سَيَجْتَمِعُونَ فِي الْعِقَابِ كَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِثْمِ وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، أَيِ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا يَحْدُثُ مِنْ كَسْرٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَهَذَا وَصْفٌ لِلْمُنَافِقِينَ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، هَذَا تَفْضِيلٌ لِلتَّرَبُّصِ أَيْ: فَإِنْ نَصَرَكُمُ اللهُ أَوْ فَتَحَ عَلَيْكُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَكُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْكُمْ يَسْتَحِقُّونَ مُشَارَكَتَكُمْ فِي نِعْمَتِكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ مِنَ الظَّفَرِ - لِأَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ - مَتُّوا إِلَيْهِمْ وَمَنُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَخْذِيلِهِمْ، وَالتَّوَانِي فِي الْحَرْبِ مَعَهُمْ، وَالِاسْتِحْوَاذُ يُفَسِّرُونَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنَ الْحَوْذِ وَهُوَ السُّوقُ، سُمِّيَ حَوْذًا لِأَنَّ الْحَوْذِيَّ السَّائِقُ يَضْرِبُ حَاذِيَيِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْحَاذِيَانِ هُمَا جَانِبَا الْفَخْذَيْنِ مِنَ الْوَرَاءِ، وَالْحَاذِ الظَّهْرُ وَيُطْلَقُ عَلَى جَانِبَيْهِ حَاذِيَيْنِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ السُّوقِ يَسْتَوْلِي بِهِ الْحَوْذِيُّ عَلَى مَا يَسُوقُهُ، فَصَارُوا يُطْلِقُونَ الِاسْتِحْوَاذَ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ تَسْخِيرِهِ أَوِ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَهُمْ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ إِنَّنَا قَدِ اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْكُمْ، وَتَمَكَّنَّا مِنَ الْإِيقَاعِ بِكُمْ، وَلَمْ نَفْعَلْ بَلْ مَنَعْنَاكُمْ أَيْ جَمَعْنَاكُمْ وَحَفِظْنَاكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالنُّكْتَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ ظَفَرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَتْحِ وَأَنَّهُ مِنَ اللهِ، وَعَنْ ظَفَرِ الْكَافِرِينَ بِالنَّصِيبِ هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي الْقِتَالِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُ لَهُمُ الْفَتْحُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، وَلَكِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ قَدْ يَقَعُ فِي أَثْنَائِهَا نَصِيبٌ مِنَ الظُّفَرِ لِلْكَافِرِينَ لَا يَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَكُونَ فَتْحًا يَسْتَوْلُونَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧)، الْمُقَيَّدُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤٧: ٧، ٨)، وَإِنَّمَا نَصْرُ اللهِ أَنْ يَقْصِدَ بِالْحَرْبِ حِمَايَةَ الْحَقِّ وَتَأْيِيدَهُ وَإِعْلَاءَ كَلِمَتِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَآيَتُهُ مُرَاعَاةُ سُنَنِ اللهِ فِي أَخْذِ أُهْبَتِهِ، وَإِعْدَادِ عُدَّتِهِ، الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا كِتَابُهُ الْعَزِيزُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ (٨: ٦٠)، وَقَوْلِهِ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٨: ٤٥)، وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ كَوْنَ الْإِيمَانِ نَفْسِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِعْدَادَ وَأَخْذَ الْحَذَرِ، وَإِنَّمَا غُلِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ وَفَتَحَ الْكُفَّارُ بِلَادَهُمُ الَّتِي فَتَحُوهَا هُمْ مِنْ قَبْلُ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ ; لِأَنَّهُمْ مَا عَادُوا يُقَاتِلُونَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ
378
وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا عَادُوا يَعُدُّونَ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قُوَّةٍ كَمَا أَمَرَهُمُ الْقُرْآنُ، فَهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُنْشِئُوا الْبَوَارِجَ الْمُدَرَّعَةَ، وَالْمَدَافِعَ الْمُدَمِّرَةَ وَيَتَعَلَّمُوا مَا يَلْزَمُ لَهَا وَلِلْحَرْبِ مِنَ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْمِيكَانِيكِيَّةِ، وَهِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ دِينِهِمْ ; لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ تَرَكُوا كُلَّ ذَلِكَ بَلْ صَارَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ فِيهِمْ يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ: يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَهُنَالِكَ لَا تَرُوجُ دَعْوَاهُمُ الَّتِي يَدَّعُونَهَا عِنْدَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ أَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، أَيْ: إِنَّ الْكَافِرِينَ لَا يَكُونُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ سَبِيلٌ مَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ يَقُومُونَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَيَتَّبِعُونَ هَدْيَهُ، وَكَلِمَةُ سَبِيلٍ هُنَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ خَصَّهَا بِالْحُجَّةِ، وَسَبَبُ هَذَا التَّخْصِيصِ عَدَمُ فَهْمِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ النَّصْرِ مَضْمُونًا بِوَعْدِ اللهِ وَسُنَّتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِشَرْطِهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْآخِرَةِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ عَامٌّ فَلَا سَبِيلَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وَمَا غَلَبَ الْكَافِرُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُرُوبِ وَالسِّيَاسَةِ وَأَسْبَابِهَا الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ صَارُوا
أَعْلَمَ بِسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَمَ عَمَلًا بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ تَرَكُوا ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَ، فَلْيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الْمُعْتَبِرُونَ.
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا.
اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهَا تَتِمَّةُ الْكَلَامِ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَثُرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ أَحْوَالِهِمْ هُمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، وَبَاقِيهَا فِي بَيَانِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا وَمُحَاجَّتِهِمْ إِلَّا الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ.
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مُخَادَعَةِ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَكِنَّنِي لَا أَتَذَكَّرُهُ الْآنَ وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا فِي السَّفَرِ وَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّفْسِيرِ لَيْسَ مَعِي فَأُرَاجِعَهُ، كَانَتِ الْعَرَبُ تُسْنِدُ الْخِدَاعَ إِلَى الضَّبِّ، كَمَا اشْتَقَّتْ كَلِمَةَ النِّفَاقِ مِنْ جُحْرِهِ الَّذِي سُمِّيَ النَّافِقَاءَ، وَهُوَ إِنَّمَا يَخْدَعُ طَالِبَهُ بِجُحْرِهِ، قِيلَ: لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ بَابَيْنِ، إِذَا فُوجِئَ مِنْ أَحَدِهِمَا هَرَبَ مِنَ الْآخَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُعَدُّ عَقْرَبًا فَيَجْعَلُهَا فِي بَابِهِ لِتَلْدَغَ مَنْ يُدْخِلُ يَدَهُ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْعَقْرَبُ بَوَّابُ
الضَّبِّ وَحَاجِبُهُ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ " أَخْدَعُ مِنْ ضَبٍّ "، وَيَقُولُونَ: طَرِيقٌ خَادِعٌ وَخَيْدَعٌ أَيْ: مُضِلٌّ، كَأَنَّهُ يَخْدَعُ سَالِكَهُ فَيَحْسَبُهُ مُوصِلًا إِلَى غَايَتِهِ أَوْ قَرِيبًا وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْخِدَاعُ صِيغَةُ مُشَارَكَةٍ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ اسْتِعْمَالِهِمْ هُوَ إِيهَامُكَ أَنَّ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ عَلَى مَا تُحِبُّ أَوْ تُرِيدُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ مَا تُحِبُّ وَمَا تُرِيدُ، كَمَا يُوهِمُ جُحْرُ الضَّبِّ مَنْ يُرِيدُ صَيْدَهُ أَنَّهُ قَرِيبُ الْمَنَالِ لَيْسَ دُونَهُ مَانِعٌ، فَإِذَا مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ لَدَغَتْهُ الْعَقْرَبُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَقْرَبٌ خَرَجَ الضَّبُّ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ وَرَجَعَ الصَّائِدُ بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ، وَكَمَا يُوهِمُ الطَّرِيقُ الْخَيْدَعُ سَالِكَهُ فَيَضِلُّ دُونَ الْغَايَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا.
قَالَ الرَّاغِبُ: " الْخِدَاعُ إِنْزَالُ الْغَيْرِ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ بِأَمْرٍ يُبْدِيهِ عَلَى خِلَافِ مَا يُخْفِيهِ قَالَ تَعَالَى: يُخَادِعُونَ اللهَ، أَيْ يُخَادِعُونَ رَسُولَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُعَامَلَةَ الرَّسُولِ كَمُعَامَلَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ (٤٨: ١٠)، وَجَعَلَ ذَلِكَ خِدَاعًا لَهُ تَفْظِيعًا لِفِعْلِهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ الرَّسُولِ وَعِظَمِ أَوْلِيَائِهِ، وَقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِنَّ هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِمِثْلِهِ فِي الْحَذْفِ لَا يَحْصُلُ لَوْ أَتَيَ بِالْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فَظَاعَةُ فِعْلِهِمْ فِيمَا تَحَرَّوْهُ مِنَ الْخَدِيعَةِ وَأَنَّهُمْ بِمُخَادَعَتِهِمْ إِيَّاهُ يُخَادِعُونَ اللهَ، وَالثَّانِي: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْمَقْصُودِ بِالْخِدَاعِ وَأَنَّ مُعَامَلَتَهُ كَمُعَامَلَةِ اللهِ وَأَعَادَ هُنَا الِاسْتِشْهَادَ بِآيَةِ الْمُبَايَعَةِ.
أَقُولُ: فَسَّرَ مُخَادَعَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمُخَادَعَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْلِيَائِهِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ; لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ كَانَتْ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَبَيْنَهُمْ ; وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ لَا يَقْصِدُونَ مُخَادَعَتَهُ، وَالْمُعَطِّلِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِهِ، وَالْمَعْدُومُ لَا تَتَوَجَّهُ النَّفْسُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٢: ٨)، وَقَدْ عَزَا إِلَيْهِمُ الْمُخَادَعَةَ هُنَالِكَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّهُمْ صِنْفٌ ثَالِثٌ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ الَّذِينَ
380
ذُكِرُوا ثُمَّتْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا
شَأْنُهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَصْدُرَ عَنْهُ مُخَادَعَةُ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَفْعَلُ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ وَأَكْلِ الرِّبَا بِتَطْبِيقِ حِيَلِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ لِفُقَهَائِهِمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ وَمَنْعِ الرِّبَا، وَهُوَ الرَّحْمَةُ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُوَاسَاتُهُمْ وَإِعَانَةُ سَائِرِ أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَعَدَمُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، أَقُولُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ غَيْرِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِهِ مُخَادَعَةَ اللهِ تَعَالَى قَصْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ فِي مَعْنَى الْمُخَادَعَةِ.
وَالْوَجْهُ الْمَعْقُولُ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ مُخَادَعَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمُخَادَعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَهُمْ فِيمَا يُقِيمُونَ بِهِ دِينَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْهُ لَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِنَّ الْمُخَادَعَةَ فِي مِثْلِ هَذَا قَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً أَوْ مَكْرُوهَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا غِشٌّ وَلَا ضَرَرٌ، وَالْمُحَرَّمُ مِنْهَا لِضَرَرِهِ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْمُخَادَعَةِ فِي شُئُونِ الْإِيمَانِ وَتَبْلِيغِ دِينِ اللهِ وَإِقَامَةِ كِتَابِهِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُخَادَعَةِ لَهُ وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا تَعْظِيمَ شَأْنِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مُخَادَعَتِهِمْ بِمُخَادَعَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ خَادِعُهُمْ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى خِدَاعِهِمْ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمُخَادَعَةِ لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ (٣: ٥٤)، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَلَفْظِ الْمَكْرِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعَانِي الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ غَالِبًا أَوْ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ صَاحِبِهَا وَعَجْزِهِ وَغَلَبِ ذَلِكَ فِيهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْخِدَاعَ قَدْ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ، وَلِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَبَاحَ الشَّرْعُ الْخِدَاعَ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّ الْحَرْبَ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَلِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَا يُحِبُّونَ وَمَا يُرِيدُونَ بِلَفْظٍ مُشْتَقٍّ مِنَ الْخَدِيعَةِ، كَأَنَّهُمْ بِخِدَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَسِيرُونَ فِي طَرِيقٍ خَادِعٍ يَضِلُّونَ فِيهِ مَطْلَبَهُمْ وَيَنْتَهُونَ إِلَى الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُبُونَ السَّلَامَةَ وَالْفَلَاحَ، وَهَذَا يُلَاقِي قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ: يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٢: ٩)، فَخِدَاعُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ لَهَا هُوَ عَيْنُ خَدِيعَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ، إِذْ كَانَتْ سُنَّتُهُ فِيمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَفْظُ خَادِعُهُمْ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَالَّذِي يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْغَلَبَةِ، - وَهُوَ مَا تَضُمُّ عَيْنَ فِعْلِهِ الْمُضَارِعِ - أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى يَغْلِبُهُمْ فِي الْخَدِيعَةِ يَجْعَلُ خِدَاعَهُمْ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ.
هَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَأُمَّةٍ، يُخَادِعُونَ وَيَكْذِبُونَ، وَيَكِيدُونَ وَيَغُشُّونَ، وَيَتَوَلَّوْنَ
381
أَعْدَاءَ أُمَّتِهِمْ، وَيَتَّخِذُونَ لَهُمْ يَدًا عِنْدَهُمْ، يَمُتُّونَ بِهَا إِلَيْهِمْ إِذَا دَالَتِ الدَّوْلَةُ لَهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ بَيَانُ ذَبْذَبَتُهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى كُلٍّ مِنَ الْأُمَّتَيْنِ حَالُهُمْ.
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
فَهُمْ يَهْدِمُونَ بِنَاءَ الثِّقَةِ بِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَكَأَيِّنْ مِنْ مُنَافِقٍ كَانَتْ خِيَانَتُهُ لِأُمَّتِهِ وَمُسَاعَدَةُ أَعْدَائِهَا عَلَيْهَا سَبَبًا لِهَلَاكِهِ بِأَيْدِي أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ فِي هَذَا خَيْرٌ لَكَانَ قَوْمُهُ أَوْلَى بِخَيْرِهِ مِنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ خَانَهُمْ فَسَتَكُونُ خِيَانَتُهُ لَنَا أَشَدَّ، وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَ أَخْبَارَ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارِ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَلَا يَعْتَبِرُونَ وَيَكْثُرُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي طَوْرِ ضِعْفِ الْأُمَّةِ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهَا ; لِأَنَّهُمْ طُلَّابُ الْمَنَافِعِ وَلَوْ فِيمَا يَضُرُّ أُمَّتَهُمْ وَالنَّاسَ أَجْمَعِينَ، وَإِنَّمَا تُلْتَمَسُ الْمَنَافِعُ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ وَإِنِ اقْتَرَنَ الْتِمَاسُهَا بِالْعَارِ، وَالذُّلِّ وَالصَّغَارِ.
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى، أَيْ: مُتَثَاقِلِينَ لَا رَغْبَةَ تَبْعَثُهُمْ وَلَا نَشَاطَ ; لِأَنَّهُمْ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ لَا يَرْجُونَ فِيهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَبْتَغُونَ بِهَا تَرْبِيَةَ مَلَكَةِ مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَحُبِّهِ وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ لِتَنْتَهِيَ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَتَكُونَ أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَهُمْ كُلْفَةٌ مُسْتَثْقَلَةٌ، فَإِذَا كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ تَرَكُوهَا، وَإِذَا كَانُوا مَعَهُمْ سَايَرُوهُمْ بِالْقِيَامِ إِلَيْهَا يُرَاءُونَ النَّاسَ بِهَا، أَيْ: يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَرَاهُمُ النَّاسُ الْمُؤْمِنُونَ فَيَعُدُّوهُمْ مِنْهُمْ، فَالْكَسَلُ: التَّثَاقُلُ عَمَّا يَنْبَغِي النَّشَاطُ فِيهِ، وَالْمُرَاءَاةُ
أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ الَّذِي يُرَائِيكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ كَمَا يَرَاكَ، فَهُوَ فِعْلُ مُشَارَكَةٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا، قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ إِلَّا بِالْأَذْكَارِ الْجَهْرِيَّةِ الَّتِي يَسْمَعُهَا النَّاسُ كَالتَّكْبِيرَاتِ، وَقَوْلُ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالسَّلَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا ذِكْرُ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ هَذَا مِنَ الْمُرْتَابِينَ دُونَ الْجَاحِدِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ أَيْ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا قَلِيلًا، وَذَلِكَ إِذَا أَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ وَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَرِيبَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تُرَادَ كُلُّهَا مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَلَعَلَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَقْوَاهَا، هَذِهِ حَالُ مُنَافِقِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَمُنَافِقُو هَذَا الْعَصْرِ الْأَخِيرِ شَرٌّ مِنْهُمْ لَا يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَرَوْنَ لِلْمُؤْمِنِينَ قِيمَةً فِي دُنْيَاهُمْ فَيُرَاءُوهُمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَقَعُ الرِّيَاءُ بِالصَّلَاةِ مِنْ بَعْضِهِمْ إِذَا صَارُوا وُزَرَاءَ وَحَضَرُوا مَعَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ بَعْضَ الْمَوَاسِمِ الدِّينِيَّةِ الرَّسْمِيَّةِ، وَقَلَّمَا يَحْضُرُونَ مَعَهُمْ غَيْرَ الْمَوَاسِمِ الْمُبْتَدَعَةِ كَلَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلَيْلَةِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ.
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ الرَّاغِبُ: الذَّبْذَبَةُ حِكَايَةُ صَوْتِ الْحَرَكَةِ لِلشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ اضْطِرَابٍ وَحَرَكَةٍ، قَالَ تَعَالَى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ: مُضْطَرِّينَ مَائِلِينَ تَارَةً إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَتَارَةً إِلَى الْكَافِرِينَ "، وَقِيلَ: بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:
382
لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، أَيْ: لَا يَخْلُصُونَ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ; لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْمَنْفَعَةَ وَلَا يَدْرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، فَهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى الْيَمِينِ تَارَةً وَإِلَى الشَّمَالِ أُخْرَى، فَمَتَى ظَهَرَتِ الْغَلَبَةُ التَّامَّةُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مِنْهُ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، أَيْ: وَمَنْ قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا عَنِ الْحَقِّ مُوغِلًا فِي الْبَاطِلِ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ سَبِيلًا لِلْهِدَايَةِ بِرَأْيِكَ وَاجْتِهَادِكَ، فَإِنَّ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، هَذَا هُوَ مَعْنَى إِضْلَالِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يَتَّفِقُ بِهِ نُصُوصُ كِتَابِهِ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ، وَتَظْهَرُ بِهِ حِكْمَتُهُ فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْشِئُ فِطْرَةَ بَعْضِ النَّاسِ
عَلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ فَيَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى ذَلِكَ لَا عَمَلَ لَهُ وَلَا اخْتِيَارَ فِيهِ كَعَمَلِ الْمَعِدَةِ فِي الْهَضْمِ، وَالْقَلْبِ فِي دَوْرَةِ الدَّمِ، كَمَا تَوَهَّمَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا عِلْمَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ جُمْلَةَ: وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُرَاءُونَ وَكَذَا مُذَبْذَبِينَ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُنَافِقِينَ، يُوَالُونَهُمْ وَيَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ النَّصْرُ وَالسُّلْطَانُ، وَأَنْ يُلْحَقُوا بِهِمْ، وَيَعُدُّوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ مُؤْمِنٍ، حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحْذُوَ بَعْضُ ضُعَفَائِهِمْ حَذْوَ الْمُنَافِقِينَ فِي وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي خِلَافِ مَصْلَحَتِهِمْ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ، وَيَرْجُونَ مِنْهُمُ الْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَخْطُرُ فِي بَالِ صَاحِبِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِذْ كَتَبَ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِهِمْ ; لِأَنَّ لَهُ عِنْدَهُمْ أَهْلًا وَمَالًا، فَالْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ مِنَ الْوِلَايَةِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ النُّصْرَةُ، وَأَمَّا الْوَلَايَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَهِيَ تَوَلِّي الْأَمْرِ، وَقِيلَ: يُطْلَقُ اللَّفْظَانِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْمُرَادُ هُنَا النُّصْرَةُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ فِيمَا يُنَافِي مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (٥: ٥١)، إِلَخْ، وَإِنْ عَمَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ بَعْدَهَا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥: ٥٢)، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَالْخَوْفُ مِنْ إِصَابَةِ الدَّائِرَةِ، وَذِكْرُ الْفَتْحِ وَنَدَمِهِمْ إِذَا جَعَلَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ هُنَا وِلَايَةُ النُّصْرَةِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا حَرْبًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ لَا يَشْمَلُ مَنْ لَيْسُوا كَذَلِكَ كَالذِّمِّيِّينَ إِذَا اسْتَخْدَمَتْهُمُ الدَّوْلَةُ، فِي أَعْمَالِهَا الْحَرْبِيَّةِ أَوِ الْإِدَارِيَّةِ بَلْ لِهَؤُلَاءِ حُكْمٌ آخَرُ.
وَلَمَّا كُنْتُ فِي الْآسِتَانَةِ سَنَةَ ١٣٢٨ هـ أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْرِفَ حَالَ التَّعْلِيمِ الدِّينِيِّ فِي دَارِ الْفُنُونِ الَّتِي هِيَ الْمَدْرَسَةُ الْجَامِعَةُ فِي عَاصِمَةِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا دَخَلَتُ الْحُجْرَةَ الَّتِي يُقْرَأُ
فِيهَا التَّفْسِيرَ أَلْفَيْتُ الْمُدَرِّسَ يُفَسِّرُ آيَةَ الْمَائِدَةِ هَذِهِ وَعُمْدَتُهُ تَفْسِيرُ الْبَيْضَاوِيِّ، وَهُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَارِسِهِمُ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ يُفَسِّرُ الْآيَةَ بِعَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَدَمِ مُعَاشَرَتِهِمْ مُعَاشَرَةَ الْأَحْبَابِ " وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ أَغْلَاطِهِ "، فَلَمَّا قُرِّرَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُ بِالتُّرْكِيَّةِ قَامَ أَحَدُ الطَّلَبَةِ وَقَالَ لَهُ: إِذَنْ كَيْفَ جَعَلَتْهُمْ دَوْلَتُنَا فِي مَجْلِسَيِ الْمَبْعُوثِينَ وَالْأَعْيَانِ وَفِي هَيْئَةِ الْوُكَلَاءِ؟ أَيْ: وُزَرَاءُ الدَّوْلَةِ فَفَاجَأَ الْمُدَرِّسَ الْحَصْرُ وَخَرَجَ الْعَرَقُ مِنْ جَبِينِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنَّ عَمَلَ الدَّوْلَةِ هَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دِيوَانِ الْحَرْبِ الْعُرْفِيِّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْإِعْدَامِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَهَلْ لِلْمُقَلِّدِ إِلَّا نَقْلُ مَا يَرَاهُ فِي الْكِتَابِ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنَّ أُجِيبَ هَذَا الطَّالِبَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُمْتُ وَاقِفًا وَبَيَّنْتُ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَكَيْفَ كَانَ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَتَحْقِيقُ كَوْنِ الْوِلَايَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الْآيَةِ، وَهِيَ وِلَايَةُ النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ لَهُمْ وَكَانُوا مُحَارِبِينَ، وَكَوْنُ اسْتِخْدَامِ الذِّمِّيِّينَ مِنْهُمْ فِي الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهَا بَلْ لَهُ أَحْكَامٌ أُخْرَى، وَالصَّحَابَةُ قَدِ اسْتَخْدَمُوهُمْ فِي الدَّوَاوِينِ الْأَمِيرِيَّةِ، وَالْعَبَّاسِيُّونَ جَعَلُوا إِسْحَاقَ الصَّابِيَّ وَزِيرًا فَاقْتَنَعَ السَّائِلُ، وَأَفْرَخَ رَوْعَ الْمُدَرِّسِ، وَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ مُدِيرُ قِسْمِ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأَدَبِيَّاتِ فِي دَارِ الْفُنُونِ اتَّخَذَهُ وَسِيلَةً لِإِصْدَارِ أَمْرٍ مِنْ نَاظِرِ الْمَعَارِفِ بِقِرَاءَةِ دَرْسِ التَّفْسِيرِ وَكَذَا دَرْسِ الْحَدِيثِ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي بَعْضِ السِّنِينِ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِجَعْلِي مُدَرِّسًا لِلتَّفْسِيرِ إِنْ أَقَمْتُ فِي الْآسِتَانَةِ.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُجَّةً بَيِّنَةً عَلَى اسْتِحْقَاقِكُمْ لِعَذَابِهِ إِذَا اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْمُنَافِقِينَ، فَالسُّلْطَانُ بِمَعْنَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى السُّلْطَةِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُسَلِّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، وَلَكِنَّ وَصْفَ السُّلْطَانِ بِالْمُبِينِ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيُسْتَعْمَلُ الْمُبِينُ بِمَعْنَى الْبَيِّنِ فِي نَفْسِهِ، وَمَعْنَى الْمُبَيِّنِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَزَاءَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ بَيَانِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا هَذَا الْجَزَاءَ فَقَالَ:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، الدَّرْكُ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَبِهِ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَبِفَتْحِهَا وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّبَقَةِ أَوِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ مُتَدَارِكَةٌ مُتَتَابِعَةٌ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ دَارَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ ذَاتُ دَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَسْفَلُ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّ دَارَ النَّعِيمِ دَرَجَاتُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ أَهْلِهَا فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٢٠: ٧٥، ٧٦).
وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ; لِأَنَّهُمْ شَرُّ أَهْلِهَا بِمَا جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَمُخَادَعَةِ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَغِشِّهِمْ، فَأَرْوَاحُهُمْ أَسْفَلُ الْأَرْوَاحِ وَأَنْفُسُهُمْ أَخَسُّ الْأَنْفُسِ، وَأَكْثَرُ الْكُفَّارِ قَدْ أَفْسَدَ فِطْرَتَهُمُ التَّقْلِيدُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الْجَهْلُ بِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، فَهُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ، بِاتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ، وَوُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قِيَاسًا عَلَى مُعَامَلَةِ مُلُوكِهِمُ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَأُمَرَائِهِمُ الظَّالِمِينَ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ فِي الدِّينِ وَمُخَادَعَةَ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْغِشِّ، وَمُقَابَلَةِ هَذَا بِوَجْهٍ وَذَاكَ بِوَجْهٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُونَ أَسْفَلَ النَّاسِ أَرْوَاحًا وَعُقُولًا كَانُوا أَجْدَرَ النَّاسِ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا، يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِهَا أَوْ يَرْفَعُهُمْ مِنَ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى إِلَى مَا فَوْقَهَا.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الشَّدِيدِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَنْ تَابُوا مِنَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِالنَّدَمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مَعَ تَرْكِهِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ مُقَارَفَتِهِ وَعَزَّزُوا هَذِهِ التَّوْبَةَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
(أَحَدُهَا) : الْإِصْلَاحُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَغْسِلُ مَا تَلَوَّثَتْ بِهِ النَّفْسُ مِنْ أَعْمَاقِ النِّفَاقِ، كَالْتِزَامِ الصِّدْقِ وَالنَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَالْأَمَانَةِ التَّامَّةِ، وَالْوَفَاءِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ:
(ثَانِيَهَا) : الِاعْتِصَامُ بِاللهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِ، تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِهِ وَتَأَدُّبًا بِآدَابِهِ، وَاعْتِبَارًا بِمَوَاعِظِهِ، وَرَجَاءً فِي وَعْدِهِ وَخَوْفًا مِنْ وَعِيدِهِ، وَانْتِهَاءً عَنْ مُنْهِيَاتِهِ، وَائْتِمَارًا بِأَوَامِرِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ
آلِ عِمْرَانَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ (٣: ١٠٣)، وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بِرِهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلَنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٤: ١٧٤، ١٧٥)، أَيْ: اعْتَصَمُوا بِهَذَا النُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
(ثَالِثُهَا) : إِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فَلَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ أَحَدٌ، وَلَا يُدْعَى مَعَهُ أَحَدٌ، لَا لِكَشْفِ ضُرٍّ وَلَا لِجَلْبِ نَفْعٍ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ يُجْعَلُونَ وُسَطَاءَ عِنْدَهُ، بَلْ يَكُونُ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالْعِبَادَةِ - وَأَعْظَمُهَا وَأَهَمُّ أَرْكَانِهَا الدُّعَاءُ - خَالِصًا لَهُ وَحْدَهُ، لَا تَتَوَجَّهُ فِيهِ النَّفْسُ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَسْأَلُ اللِّسَانُ سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْبَشَرِ بِمَنْ عَدَاهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هَذَا هُوَ أَهَمُّ مَا يُقَالُ فِي إِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ:
فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣٩: ٢، ٣)، فَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْهَاوِيَةِ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ.
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ لِتِلْكَ الْأَعْمَالِ عَامِلُونَ، يَكُونُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، يُؤْمِنُونَ إِيمَانَهُمْ وَيَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ، ثُمَّ يُجْزَوْنَ جَزَاءَهُمْ، وَهُوَ مَا عَظَّمَ اللهُ تَعَالَى شَأْنَهُ بِقَوْلِهِ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، أَيْ: سَوْفَ يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ كُنْهَهُ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٢: ١٧).
مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ بَيَّنَ اللهُ لَنَا بِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ تَشَفِّيًا مِنْهُ وَلَا انْتِقَامًا بِالْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنَ الِانْتِقَامِ بِحَسَبِ اسْتِعْمَالِهِمْ إِيَّاهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ جَزَاءُ كُفْرِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ وَالْجَوَارِحِ، بِاسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَا إِلَى تَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ بِالْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ، وَكُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى بِاتِّخَاذِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَإِنْ سَمَّاهُمْ بَعْضُهُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ، فَبِكُفْرِهِمْ بِاللهِ
تَعَالَى وَبِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ تَفْسُدُ فِطْرَتُهُمْ، وَتَتَدَنَّسُ أَرْوَاحُهُمْ فَتَهْبِطُ بِهِمْ فِي دَرَكَاتِ الْهَاوِيَةِ وَيَكُونُونَ هُمُ الْجَانِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ شَكَرُوا وَآمَنُوا فَطَهُرَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، وَظَهَرَتْ آثَارُ عُقُولِهِمْ وَسَائِرُ قُوَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُصْلِحَةِ لِمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَعَرَجَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الْقُدْسِيَّةُ إِلَى الْمَقَامِ الْكَرِيمِ، وَالرِّضْوَانِ الْكَبِيرِ فِي دَارِ النَّعِيمِ، وَقَدَّمَ الشُّكْرَ هُنَا عَلَى الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ مَعْرِفَةَ النِّعَمِ وَالشُّكْرَ عَلَيْهَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ وَالْإِيمَانِ بِهِ.
وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا، يُثِيبُ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ الْمُصْلِحِينَ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ، لَا أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ، بَلْ يُعْطِيهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى شُكْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (١٤: ٧) سَمَّى ثَبَاتَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ شُكْرًا، وَهُمْ إِنَّمَا يُحْسِنُونَ بِشُكْرِهِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ وَعَنْ شُكْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَلَكِنْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ، بِأَنْ يَكُونَ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَثَرٌ صَالِحٌ فِي النَّفْسِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ.
وَأَنْ يَشْكُرَ لَنَا ذَلِكَ فِي الدَّارَيْنِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
386
تَمَّ الْجُزْءُ الْخَامِسُ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ نُشِرَ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ.
بَدَأَتُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْجُزْءِ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ سَنَةَ ١٣٢٨ هـ، فَفَاتَنِي تَصْحِيحُ مَا طُبِعَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتِي تِلْكَ، وَأَتْمَمْتُهُ فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتَيْ هَذَا الْعَامِ (١٣٣٠ هـ) إِلَى الْهِنْدِ فَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي الْبَحْرِ وَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي الْمُدُنِ وَالطُّرُقِ بِالْهِنْدِ، وَمِنْهُ مَا كَتَبْتُهُ فِي مَسْقَطَ وَالْكُوَيْتِ وَالْعِرَاقِ، وَقَدْ أَتْمَمْتُهُ فِي الْمَحْجَرِ الصِّحِّيِّ بَيْنَ حَلَبَ وَحَمَاةَ فِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ، وَنُشِرَ آخِرُهُ فِي جُزْءِ الْمَنَارِ الَّذِي صَدَرَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْحِيحِ شَيْءٍ مِمَّا كَتَبْتُهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الرِّحْلَةِ أَيْضًا.
وَفِي أَثْنَاءِ هَذَا الْجُزْءِ انْتَهَتْ دُرُوسُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ، وَسَنَسِيرُ فِي تَتِمَّةِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَخَذْنَاهَا عَنْهُ وَنَهْتَدِي بِهَدْيِهِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.
387
الْجُزْءُ السَّادِسُ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا.
بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَاخِرِ الْجُزْءِ الْمَاضِي مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مِمَّا قَبْلَهَا بِالْإِجْمَالِ، وَلِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُنَاسِبَةٌ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا وَمَا بَعْدَهُمَا وَإِنْ كَانَتَا كَالْغَرِيبَتَيْنِ فِي هَذَا السِّيَاقِ الشَّارِحِ لِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ وَمُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ عُيُوبِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مِثْلِ أَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٥٧: ١٦) ثُمَّ بَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ حُكْمَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَإِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ لِئَلَّا يَسْتَدِلَّ الْمُؤْمِنُونَ بِذِكْرِ عُيُوبِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أَوْ مَشْرُوعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَفْشُو ذَلِكَ فِيهِمْ، وَفِيهِ مِنَ الضَّرَرِ مَا تَرَى بَيَانَهُ فِيمَا يَلِي:
قَالَ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ يُنْسَبُ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ أَوِ الْكُرْهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، وَيَلْزَمُ الْحُبَّ الرِّضَا وَالْإِثَابَةُ وَضِدَّهُ ضِدُّهُمَا، وَالْجَهْرُ يُقَابِلُ السِّرَّ وَالْإِخْفَاءَ وَالْكِتْمَانَ، وَالسُّوءُ مِنَ الْقَوْلِ: مَا يَسُوءُ مَنْ
يُقَالُ فِيهِ، كَذِكْرِ عُيُوبِهِ وَمَسَاوِيهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَجْهَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذِكْرِ الْعُيُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّ فِي هَذَا الْجَهْرِ مَفْسَدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ:
3
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مَجْلَبَةٌ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ مَنْ يَجْهَرُونَ بِالسُّوءِ وَمَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ هَذَا السُّوءُ، وَقَدْ تُفْضِي الْعَدَاوَةُ إِلَى هَضْمِ الْحُقُوقِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ.
ثَانِيَتُهُمَا: أَنَّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ بِذِكْرِهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ تَأْثِيرًا ضارًّا ; فَإِنَّ النَّاسَ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَمَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يَذْكُرُ آخَرَ بِالسُّوءِ لِكُرْهِهِ إِيَّاهُ أَوِ اسْتِيَائِهِ مِنْهُ يُقَلِّدُهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ إِذَا كَانَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مِثْلُهُ، وَيَزْدَادُ ضَرَاوَةً فِيهِ إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ وُقُوعُهُ مِنْهُ، أَوْ يُقَلِّدُ فَاعِلَ السُّوءِ فِي عَمَلِهِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّقْلِيدُ، أَوْ مِنْ طَبَقَةٍ دُونَ طَبَقَتِهِ فِي الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ; لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ يُقَلِّدُونَ خَوَاصَّهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْمُنْكَرَاتُ فِي الْخَوَاصِّ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَفْشُوَ فِي الْعَوَامِّ، وَمَنْ تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَى مُنْكَرٍ أَوْ فَاحِشَةٍ يَتَجَرَّأُ عَلَى ارْتِكَابِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ سَلَفًا وَقُدْوَةً فِيهِ، وَرُبَّمَا لَا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، بَلْ يُؤَثِّرُ سَمَاعُ الْقَوْلِ السُّوءِ فِي نُفُوسِ خَوَاصِّ الْكُهُولِ الْأَخْيَارِ، وَلَيْسَ تَأْثِيرُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْعَوَامِّ وَالصِّغَارِ. فَسَمَاعُ السُّوءِ كَعَمَلِ السُّوءِ، ذَاكَ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ النَّاظِرِ، وَأَقَلُّ تَأْثِيرِهِ أَنَّهُ يُضْعِفُ فِي النَّفْسِ اسْتِبْشَاعَهُ وَاسْتِغْرَابَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَكَرَّرَ سَمَاعُ خَبَرِهِ أَوِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنَّنَا نَرَى عُلَمَاءَ التَّرْبِيَةِ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ كُتُبِ التَّعْلِيمِ غُفْلًا مِنَ الْقَوْلِ السُّوءِ وَالْكَلِمِ الْخَبِيثِ وَمِنَ الرَّفَثِ وَأَسْمَاءِ أَعْضَاءِ التَّنَاسُلِ حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ الَّتِي يُرَاجِعُ فِيهَا طُلَّابُ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ حِرْصًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ تَعْلَقَ بِهَا كَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ مِنْ كَلِمِ السُّوءِ تَقُودُهَا إِلَى عَمَلِ السُّوءِ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ تَفْتَحُ لِمَنْ تَعْلَقُ بِنَفْسِهِ بَابًا مِنَ الْفَسَادِ لَا يَنْجُو مِنْ شَرِّهِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَيْضًا.
يَجْهَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَبْلَغَ تَأْثِيرِ الْكَلَامِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ ; فَلَا يُنَزِّهُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ السُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا أَسْمَاعَهُمْ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَمَا يَعْقِلُ كُنْهَ ذَلِكَ إِلَّا الْعَالِمُونَ الرَّاسِخُونَ، وَإِنَّ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى كَلِمَةً شِعْرِيَّةً فِي الْمُبَالَغَةِ
فِي تَمْثِيلِهِ لِلْفَهْمِ وَتَقْرِيبِهِ إِلَى الذِّهْنِ يَعُدُّهَا الْبَدِيعِيُّ مِنَ الْإِغْرَاقِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَهِيَ: إِنَّنِي إِذَا أَلْقَيْتُ كَلِمَةً فِي مَكَانٍ خَالٍ مِنَ النَّاسِ فِي حِنْدِسِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً فِي الْهَوَاءِ حَتَّى تُصَادِفَ نَفْسًا مُسْتَعِدَّةً فَتُؤَثِّرَ فِيهَا. أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ، وَقَدِ اتَّفَقَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْأَمْرِيكَانِيِّينَ أَنِ اهْتَدَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ وَصَارُوا يَتَرَدَّدُونَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ لِأَخْذِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَحِكَمِهِ عَنْهُ وَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُهُمْ يَوْمًا وَإِذَا بِلِسَانِهِ قَدْ فَلَتَتْ مِنْهُ كَلِمَةُ " الْيَأْسِ " وَكَانَ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ فَتَاةٌ ذَكِيَّةُ الْفُؤَادِ فَقَالَتْ لِلْأُسْتَاذِ: كَيْفَ يَنْطِقُ مِثْلُكَ فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ
4
مِنَ الْكَلِمَاتِ ذَاتِ الْمَدْلُولَاتِ الضَّارَّةِ؟ فَأُعْجِبَ الْأُسْتَاذُ بِذَكَائِهَا وَفَهْمِهَا، وَوَافَقَهَا عَلَى قَوْلِهَا، وَأَظُنُّ أَنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اجْتِنَابُهُ عِنْدَ بَيَانِ بَعْضِ الْحَقَائِقِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَمُلَتْ تَرْبِيَتُهُمْ، وَإِنَّمَا يُتَحَرَّى اجْتِنَابُ ذِكْرِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِي خِطَابِ النَّشْءِ فِي الْمَدَارِسِ وَالْبُيُوتِ. وَتَكَلَّمَ فِي تَأْثِيرِ الْكَلَامِ فِي كُلِّ سَامِعٍ. وَذَكَرَ كَلِمَتَهُ الَّتِي نَقَلْنَا آنِفًا، فَقَالَتْ لَهُ الْفَتَاةُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُفَسِّرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَلِيلَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ إِجْمَالِيًّا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ وَلَوْ فِي الْمَكَانِ الْخُلْوِ (أَوْ كَتَبَهُ) يَنْتَقِلُ مِنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِعَادَةُ ذِكْرِهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِمْ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِمْ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: أَحْسَنْتِ.
لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا الْإِسْرَارَ بِهِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ نَهْيِهِ تَعَالَى عَنِ النَّجْوَى بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَأَمْرِهِ بِالتَّنَاجِي بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَقَطْ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْجَهْرَ هُنَا بِالذِّكْرِ لِمُنَاسَبَةِ بَيَانِ مَفَاسِدِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ كَمَا عَلِمْتَ. وَالْجَهْرُ بِالسُّوءِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنَ الْإِسْرَارِ بِهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ وَفَسَادَهُ يَفْشُو فِي جُمْهُورِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ. وَقَدْ قُلْتُ يَوْمًا لِلْعَالِمِ اللُّغَوِيِّ الرَّاوِيَةِ الشَّهِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّد مَحْمُود بْنِ التَّلَامِيدِ التَّرْكَزِيِّ الشِّنْقِيطِيِّ: إِنَّنِي أَنْكَرْتُ نَفْسِي فِي مِصْرَ فَإِنَّ كَثْرَةَ رُؤْيَتِي لِلْمُنْكَرَاتِ فِيهَا كَكَشْفِ الْعَوْرَاتِ فِي الْحَمَّامَاتِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى أَفَارِيزِ الطُّرُقَاتِ، وَكَثْرَةِ سَمَاعِي لِقَوْلِ السُّوءِ خَفَّفَ اسْتِبْشَاعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَضَعُفَ كُرْهُ أَصْحَابِهِ وَالنُّفُورُ مِنْهُمْ، فَإِنَّنِي كُنْتُ فِي بَلَدِي الْقَلَمُونِ الْمُجَاوِرَةِ لِطَرَابُلُسَ الشَّامِ، إِذَا سَمِعْتُ بِأَنَّ
رَجُلًا ارْتَكَبَ فَاحِشَةً لَا أَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَيْهِ وَلَا الْحَدِيثَ مَعَهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ: وَأَنَا أَيْضًا أَنْكَرْتُ نَفَسِي مِثْلَكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَاذَا اخْتَرْتَ تَرْكَ وَطَنِكَ الَّذِي لَا تَرَى وَلَا تَسْمَعُ فِيهِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ السُّوءِ مِثْلَ الَّذِي تَرَى وَتَسْمَعُ فِي مِصْرَ الَّتِي آثَرْتَهَا عَلَيْهِ؟ فَجَوَابِي: إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَسْتَطِيعُ، وَأَنَا فِي وَطَنِي الْأَوَّلِ، أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَلَا أَنْ أَكْتُبَهُ، وَلَا أَنْ أَخْدِمَ الْمِلَّةَ وَالْأُمَّةَ بِمَا خَدَمْتُهُمَا بِهِ فِي مِصْرَ، وَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْخِدْمَةَ فَرْضٌ عَلَيَّ، وَقَدْ آذَتْنِي الْحُكُومَةُ الْحَمِيدِيَّةُ عَلَيْهِ فِي أَهْلِي وَمَالِي وَأَنَا بَعِيدٌ عَنْ سُلْطَتِهَا، وَلَوْ قَدَرَتْ عَلَيَّ لَمَا اكْتَفَتْ بِمَنْعِي مِنْ هَذِهِ الْخِدْمَةِ بَلْ لَنَكَّلَتْ بِي تَنْكِيلًا.
لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أَيْ لَكِنْ مَنْ ظَلَمَهُ ظَالِمٌ فَجَهَرَ بِالشَّكْوَى مِنْ ظُلْمِهِ شَارِحًا ظُلَامَتَهُ لِلْحُكَّامِ أَوْ غَيْرِ الْحُكَّامِ مِمَّنْ تُرْجَى نَجْدَتُهُ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى إِزَالَةِ الظُّلْمِ - فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْجَهْرِ، وَلَا يَكُونُ خَارِجًا عَمَّا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ لِعِبَادِهِ أَنْ يَسْكُتُوا عَلَى الظُّلْمِ وَيَخْضَعُوا لِلضَّيْمِ بَلْ يُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَعِزَّاءَ أُبَاةً، فَإِذَا تَعَارَضَتْ مَفْسَدَةُ الْجَهْرِ بِالشَّكْوَى مِنَ الظُّلْمِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ السُّوءِ، وَمَفْسَدَةُ السُّكُوتِ عَلَى الظُّلْمِ وَهُوَ مَدْعَاةُ فُشُوِّهِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ الْمُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِ الْأُمَمِ وَخَرَابِ الْعُمْرَانِ، كَانَ
5
أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ مُقَاوَمَةَ الظُّلْمِ بِالْجَهْرِ بِالشَّكْوَى مِنْهُ وَبِكُلِّ الْوَسَائِلِ الْمُمْكِنَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا جَهْرَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الظُّلْمُ لِلدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْجَهْرَ بِمَعْنَى الْمُجَاهِرِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ ; أَيْ لَا يُحِبُّ اللهُ الْمُجَاهِرِينَ بِالسُّوءِ إِلَّا الْمَظْلُومِينَ مِنْهُمْ إِذَا هَبُّوا لِمُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ، وَلَوْ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ إِذَا تَعَذَّرَ الْفِعْلُ.
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قُلْنَاهُ آنِفًا أَنَّ إِبَاحَةَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ لِلْمَظْلُومِ أَوْ مَشْرُوعِيَّتَهُ لَهُ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ ; لِأَنَّهُ ارْتِكَابُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَالضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَّبِعَ هَوَاهُ فِي الِاسْتِرْسَالِ وَالتَّمَادِي فِي الْجَهْرِ بِالسُّوءِ، بِمَا لَا دَخْلَ لَهُ فِي مَنْعِ الظُّلْمِ وَالتَّفَصِّي مِنْهُ وَأَطْرِ الظَّالِمِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْأَخْذِ عَلَى
يَدِهِ أَوْ يَنْتَهِي عَنِ الظُّلْمِ، وَأَرْجُو أَلَّا يُؤَاخِذَهُ اللهُ بِمَا يُحَرِّكُ بِهِ الْأَلَمُ لِسَانَهُ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْحًا لِظُلَامَتِهِ، وَوَسِيلَةً لِلِانْتِصَافِ مِنْ ظَالِمِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: " إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ; أَيْ كَانَ السَّمْعُ وَالْعِلْمُ وَلَا يَزَالَانِ مِنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ فَلَا يَفُوتُهُ تَعَالَى قَوْلٌ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ السَّبَبُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِ الْعِبَادِ وَلَا مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَلَا نِيَّاتِهِمْ فِيهِمَا، فَمَنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْجَهْرِ بِالسُّوءِ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ لِضَرَرِهِ وَمَفْسَدَتِهِ فِيهِمْ بِسَبَبِ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُهُ وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَى جَهْرِهِ، وَرُبَّمَا أَثَابَهُ عَلَى مَا يَقْصِدُ مِنْ رَفْعِ الضَّيْمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِرْجَاعِ الظَّالِمِ إِلَى رُشْدِهِ، وَإِرَاحَةِ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤَاخَذْ عَلَى ظُلْمِهِ إِيَّاهُ يَزْدَادُ ضَرَاوَةً فِيهِ وَإِصْرَارًا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كِرَامِ النَّاسِ وَأَتْقِيَائِهِمُ الَّذِينَ لَا يَقَعُ الظُّلْمُ مِنْهُمْ إِلَّا هَفَوَاتٍ.
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا، لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عُذْرِ الظُّلْمِ، بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا، وَحُكْمَ الْعَفْوِ عَنِ السُّوءِ وَعَدَمِ مُؤَاخَذَةِ فَاعِلِهِ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ فَاعِلِي الْخَيْرَاتِ، جَهْرًا أَوْ سِرًّا، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْهِمْ يَجْزِيهِمْ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ، فَيَعْفُو عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَيُجْزِلُ مَثُوبَتَهُمْ، وَكَانَ شَأْنُهُ الْعَفْوَ وَهُوَ الْقَدِيرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ الثَّوَابُ الْكَثِيرُ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، وَإِذَا عَفَا فَإِنَّمَا يَعْفُو عَنْ قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ عَلَى الْعِقَابِ، فَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ (وَهِيَ كَلِمَةُ قَدِيرٍ) هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى إِجْزَالِ الْمَثُوبَةِ وَعَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ
6
مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِلَّا كَانَ وَضْعُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرَ مُتَّفِقٍ مَعَ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ. وَإِذَا قَالَ مَلِكٌ أَوْ أَمِيرٌ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ أَوْ رِجَالِ دَوْلَتِهِ: إِنْ تَعْمَلْ كَذَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَرَضِيَّةِ فَإِنَّ عِنْدِي مَالًا كَثِيرًا، أَوْ بِيَدِي أَعْلَى الْأَوْسِمَةِ وَالرُّتَبِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَجْزِيَهُ عَلَى ذَلِكَ بِدُرَيْهِمَاتٍ يَرْضَخُ بِهَا لَهُ، أَوْ رُتْبَةٍ وَاطِئَةٍ يُوَجِّهُهَا إِلَيْهِ، أَوْ وِسَامٍ مِنَ الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا يُحَلِّيهِ بِهِ، بَلْ يَفْهَمُ مِنْ هَذَا كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ
أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ يَكُونُ عَظِيمًا. وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ كَلِمَةَ " قَدِيرًا " قَدْ أَفَادَتْ بِوَضْعِهَا هُنَا الدَّلَالَةَ عَلَى عِظَمِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي رَغَّبَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الْعَفْوِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَلَمْ نَقْصُرْهَا عَلَى الْأَمْرِ الثَّانِي وَحْدَهُ كَمَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ آيَةٍ أَوْ سِيَاقٍ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْمُسِيءِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ خَاصًّا بِالْأَخِيرِ مِنْهَا.
الْأَصْلُ فِي الشَّرِّ أَلَّا يُفْعَلَ - قَوْلًا كَانَ أَمْ عَمَلًا - إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَالْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِمَّنْ ظُلِمَ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى إِزَالَةِ الظُّلْمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْخَيْرِ أَنْ يُفْعَلَ، قَوْلًا كَانَ أَمْ عَمَلًا. وَأَمَّا الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ فَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَامِلِينَ وَالْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ وَأَثَرِ الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ لَهُ، فَمَنْ كَانَ كَامِلَ الْإِيمَانِ عَالِيَ الْأَخْلَاقِ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ فِي إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَهُوَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِنْيَةٍ صَالِحَةٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ بَيِّنَةٍ، وَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُرَجِّحَ الْإِخْفَاءَ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ هَوًى فِيهِ. وَمِنْ بَوَاعِثِ الْإِبْدَاءِ قَصْدُ الْقُدْوَةِ، وَمِنْ بَوَاعِثِ الْإِخْفَاءِ قَصْدُ السَّتْرِ وَحِفْظِ كَرَامَةِ مَنْ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ الْخَيْرَ كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُتَعَفِّفِينَ.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا
7
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَصْلَيِ الْإِيمَانِ الْأَوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ يُبْنَى عَلَيْهِمَا مَا عَدَاهُمَا وَكَوْنَهُمَا لَا يُقْبَلُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِدُونِ الثَّانِي، فَمَنِ ادَّعَاهُ فَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ، وَجَزَاءَ
الْكَافِرِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَزَاءَ مَنْ أَقَامَهُمَا كَمَا أَمَرَ اللهُ أَنْ يُقَامَا فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ تَفْسِيرٌ لِتَفْرِقَتِهِمْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ ; أَيْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِرُسُلِهِ، وَهُمْ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ لِإِنْكَارِهِمُ الْوَحْيَ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أَتَوْا بِمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرَائِعِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَكْثَرُ كُفَّارِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ، بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَدَّعُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، كَقَوْلِ الْيَهُودِ: نُؤْمِنُ بِمُوسَى وَنَكْفُرُ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ. وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُمَا رَسُولَيْنِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ بِفَصْلِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا، هَذَا هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي حَكَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى أُولَئِكَ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُسُلِهِ ; أَيْ أُولَئِكَ الْمُفَرِّقُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْكُفْرِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْحُكْمَ بِالْجُمْلَةِ الْمُعَرَّفَةِ الْجُزْءَيْنِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، وَبِقَوْلِهِ: حَقًّا، وَأَيُّ حَقٍّ يَكُونُ أَثْبَتَ وَأَصَحَّ مِمَّا يُحِقُّهُ اللهُ تَعَالَى حَقًّا؟ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ نُكْتَةُ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ؛ إِذْ قَالَ: لِلْكَافِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ " لَهُمْ " عَذَابًا مُهِينًا أَيْ ذَا إِهَانَةٍ تَشْمَلُهُمْ فِيهِ الْمَذَلَّةُ وَالضَّعَةُ.
أَمَّا سَبَبُ هَذَا الْحُكْمِ الشَّدِيدِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ، فَهُوَ أَنَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ أَيْ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا وَلَا يُؤْمِنُ بِوَحْيِهِ إِلَى رُسُلِهِ لَا يَكُونُ إِيمَانُهُ بِصِفَاتِهِ صَحِيحًا، وَلَا يَهْتَدِي إِلَى مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الشُّكْرِ سَبِيلًا، لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَعْبُدُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِيهِ، وَلَا كَيْفَ يُزَكِّي نَفْسَهُ التَّزْكِيَةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا دَارَ كَرَامَتِهِ ; وَلِذَلِكَ نَرَى هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ بِالرُّسُلِ مَادِّيِّينَ لَا تُهِمُّهُمْ إِلَّا شَهَوَاتُهُمْ، وَأَوْسَعُهُمْ عِلْمًا وَأَعْلَاهُمْ تَرْبِيَةً مَنْ يُرَاعِي فِي أَعْمَالِهِ مَا يُسَمُّونَهُ الشَّرَفَ بِاجْتِنَابِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ بَيْنَ الطَّبَقَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا أَوِ اجْتِنَابِ إِظْهَارِهِ فَقَطْ.
وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. كَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يُعَدُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَصُّبِ لِبَعْضِهِمْ، وَحِفْظِ بَعْضِ الْمَأْثُورِ عَنْهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ إِيمَانًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا تِلْكَ تَقَالِيدٌ اعْتَادُوهَا، وَعَصَبِيَّةٌ جِنْسِيَّةٌ أَوْ سِيَاسِيَّةٌ جَرَوْا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ بِالرِّسَالَةِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُرْضِي اللهَ تَعَالَى هُوَ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى فَهْمِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَالْمُرَادِ مِنْهَا وَصِفَاتِ الرُّسُلِ وَوَظَائِفِهِمْ وَتَأْثِيرِ هِدَايَتِهِمْ، وَمِنْ فَهْمِ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ بِمُوسَى وَعِيسَى وَيَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَإِنَّ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ قَدْ ظَهَرَتْ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَكْمَلِ مَا ظَهَرَتْ فِي غَيْرِهِ، وَالْهِدَايَةَ بِهِ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنَ الْهِدَايَةِ بِمَنْ قَبْلَهُ، وَحُجَّتَهُ كَانَتْ أَنْهَضَ، وَطُرُقَ الْعِلْمِ بِهَا أَقْوَى، وَالشُّبْهَةَ عَلَيْهَا
8
أَضْعَفَ، فَقَدْ نَشَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ وَمَهْدِ الشَّرَائِعِ وَالْعِلْمِ، وَنَشَأَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أُمَّةٍ ذَاتِ شَرِيعَةٍ، وَدَوْلَةٍ ذَاتِ عِلْمٍ وَمَدَنِيَّةٍ، وَبِلَادٍ انْتَشَرَتْ فِيهَا كُتُبُ الْآدَابِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَظْهَرُ الْبُرْهَانُ عَلَى كَوْنِ مَا جَاءَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا وَحْيًا إِلَهِيًّا لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ كَمَا يَظْهَرُ الْبُرْهَانُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَهُوَ الْأُمِّيُّ الَّذِي نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَنُقِلَ كِتَابُهُ وَأُصُولُ دِينِهِ بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ وَالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ دُونَ دِينِهِمَا. وَأَمَّا جَعْلُ النَّصَارَى نَبِيَّهُمْ إِلَهًا فِي الشَّكْلِ الَّذِي أَظْهَرَهُ فِيهِ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ الْوَثَنِيُّ وَخَلَفُهُ مِنَ الرُّومَانِيِّينَ فَذَلِكَ طَوْرٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفْهُ الْمَسِيحُ وَحَوَارِيُّوهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَشْكِيلٌ لِدِينِهِمْ بِشَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ وَثَنِيَّتِهِمُ السَّابِقَةِ مُؤَلَّفٌ مِنْ تَقَالِيدِ وَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْأُورُبِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُقَابِلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَلْتَزِمُونَ الْعَمَلَ إِلَّا بِشَرِيعَةِ الْأَخِيرِ مِنْهُمْ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الْوُلَاةِ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمُ السُّلْطَانُ إِلَى الْبِلَادِ، وَمَثِلِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا كَمَثَلِ الْقَوَانِينِ الَّتِي تُصْدِرُ الْإِدَارَةُ السُّلْطَانِيَّةُ بِالْعَمَلِ بِهَا (وَلَا حَرَجَ فِي ضَرْبِ الْأَدْنَى مَثَلًا لِلْأَعْلَى) فَكُلُّ وَالٍ يُحْتَرَمُ لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ، وَكُلُّ قَانُونٍ يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْأَخِيرُ
يَنْسَخُ مَا قَبْلُهُ، فَالتَّفْرِقَةُ إِمَّا مِنْ جَهْلِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ جَهْلُ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَإِمَّا مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَإِيثَارِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرُسُلِهِ، فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ، وَبِهَا يَعْرِفُونَ الرُّسُلَ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَحَّ إِيمَانُهُمْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَكَانُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهِ، يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمُ الصَّحِيحِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هُوَ أَثَرُهُ وَلَازِمُهُ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْعَمَلُ هُنَا كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ الْعَامَّةُ فِي مَقَامِ الْجَزَاءِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ - بِلَا تَفْرِقَةٍ - بِالْكُفْرِ التَّامِّ، وَمُقَابَلَةِ وَعْدِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِوَعِيدِهِ لِلْكَافِرِينَ، وَلَمْ يَقُلْ فِي هَؤُلَاءِ: إِنَّهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا قَالَ فِي أُولَئِكَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ; لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ يُوجَدُ وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ لَازِمُهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَيَغْتَرُّ بِذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ النَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى كَثْرَةِ مَا يُنَافِيهِ وَيَرُدُّهُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ. أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ وَصْفَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٨: ٢ - ٤) وَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْوَعْدِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تَجِدْهُ عَظِيمًا ; فَإِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
9
حَقًّا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ، بِلَامِ الْمِلْكِ، جَزَاءً عَلَى مَا أَثْبَتَ لَهُمْ مِنْ أَصْلِ شَجَرَةِ الْإِيمَانِ وَفُرُوعِهَا، وَأَمَّا أُولَئِكَ الَّذِينَ أَثْبَتَ لَهُمُ الْأَصْلَ فَقَطْ ; وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ بِلَا تَفْرِقَةٍ بَيْنَهُمْ فَإِنَّمَا وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ يُعْطِيهِمْ أُجُورَهُمْ أَيْ: بِحَسْبَ حَالِهِمْ فِي الْعَمَلِ. قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ عَنْ قَالُونَ: " يُؤْتِيهِمْ " فِي الْآيَةِ بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ.
وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، غَفُورًا لِهَفَوَاتِ مَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ ; فَلَمْ يُشْرِكْ بِرَبِّهِ شَيْئًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، رَحِيمًا بِهِمْ يُعَامِلُهُمْ بِالْإِحْسَانِ لَا بِمَحْضِ الْعَدْلِ، وَقَدْ يَخْتَصُّ مَنْ شَاءَ بِضُرُوبٍ مِنْ رَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ.
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا
10
تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبِلَ هَذِهِ بَيَانُ حَالِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ رُسُلِهِ ; فَيُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ جَعَلُوا الدِّينَ رِيَاسَةً وَعَصَبِيَّةً، لَا هِدَايَةً إِلَهِيَّةً، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ أَحْوَالِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ مِنْهُمْ فِي تَعَنُّتِهِمْ، وَتَعْجِيزِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فَقَالَ:
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، بِأَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا مُحَرَّرًا بِخَطٍّ سَمَاوِيٍّ يَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِلَيْهِمْ، أَوْ يَنْزِلَ بِاسْمِ جَمَاعَتِهِمْ، أَوْ أَسْمَاءِ
أَفْرَادٍ مُعَيَّنِينَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا ذَلِكَ (أَقْوَالٌ) وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابُ شَرِيعَةِ هَذَا النَّبِيِّ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَالْأَلْوَاحِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ نَقُولُ: إِنَّنَا نَجِدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِنَا أَنَّ التَّوْرَاةَ نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى كُلُّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ نَزَلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الْيَهُودَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ شَرِيعَتَهُ كُلَّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَالتَّوْرَاةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِمَّا كَانَ يَغُشُّ بِهِ الْيَهُودُ الْمُسْلِمِينَ ; فَالْمَعْرُوفُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَهُمْ، أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى جُمْلَةً وَاحِدَةً هُوَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ مَنْقُوشَةً فِي لَوْحَيْنِ، جَاءَ بِهِمَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ الْمَصْنُوعَ مِنَ الْحُلِيِّ، فِي غَيْبَتِهِ غَضِبَ، وَأَلْقَى اللَّوْحَيْنِ، فَكَسَرَهُمَا، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَنْحِتَ لَوْحَيْنِ آخَرَيْنِ مِنَ الْحَجَرِ، وَكَتَبَ لَهُ فِيهِمَا تِلْكَ الْوَصَايَا (رَاجِعِ الْفَصْلَ ٢٤ وَالْفَصْلَ ٣١ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ) وَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ فَقَدْ كَانَتْ تُوحَى إِلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْهِ مَكْتُوبَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ، هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَالتَّعْجِيزِ، لَا بِقَصْدِ طَلَبِ الْحُجَّةِ لِأَجْلِ الِاقْتِنَاعِ، وَإِنْ تَعْجَبْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ سُؤَالِهِمْ، وَتَسْتَنْكِرْهُ وَتَسْتَكْبِرْهُ عَلَيْهِمْ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً، سَأَلَهُ ذَلِكَ سَلَفُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا الْخَلَفُ وَالسَّلَفُ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ سَوَاءٌ ; لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ تَرِثُ الْآبَاءَ، وَالْإِرْثَ يَكُونُ عَلَى أَشَدِّهِ وَأَتَمِّهِ فِي أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَأْبَوْنَ مُصَاهَرَةَ الْغُرَبَاءِ، عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْقُرْآنِ، فِي مُخَاطَبَةِ الْأُمَمِ وَالْحِكَايَةِ عَنْهَا، مَعْرُوفَةٌ، مِمَّا تَقَدَّمَ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ كَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ لِتَكَافُلِهَا، وَتَوَارُثِهَا، وَاتِّبَاعِ خَلَفِهَا لِسَلَفِهَا تُعَدُّ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ فَيُنْسَبُ إِلَى الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهَا مَا فَعَلَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَيُمْكِنُ جَرَيَانُ الْكَلَامِ هُنَا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ ; وَذَلِكَ أَنْ كُلًّا مِنَ السُّؤَالَيْنِ مُسْنَدٌ إِلَى جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ أُسْنِدَ إِلَيْهِمُ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ عَيْنَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ أُسْنِدَ إِلَيْهِمُ السُّؤَالُ الثَّانِي.
11
إِنَّ سُؤَالَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ رُؤْيَةَ اللهِ - تَعَالَى - جَهْرَةً أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ سُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَكُلٌّ مِنَ السُّؤَالَيْنِ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ أَوْ عِنَادِهِمْ، أَمَّا سُؤَالُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَا ظَهَرَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ، وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْآيَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْأُمُورِ الْمُسْتَغْرَبَةِ ; كَحِيَلِ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ لِمُخَالَفَتِهَا لِلْعَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَتْ لَهُمْ كُتُبُهُمْ أَنَّهُ يَقُومُ فِيهِمْ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، وَأَنَّ النَّبِيَّ يُعْرَفُ بِدَعْوَتِهِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، لَا بِمُجَرَّدِ آيَةٍ أَوْ أُعْجُوبَةٍ يَعْمَلُهَا (كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ، وَغَيْرِهِ) وَإِمَّا أَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ يَقْتَرِحُونَ مَا يَقْتَرِحُونَ تَعْجِيزًا وَمُرَاوَغَةً. وَأَيًّا مَا قَصَدُوا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا سَأَلُوا ; كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦: ٧).
وَأَمَّا سُؤَالُهُمْ رُؤْيَةَ اللهِ جَهْرَةً ; أَيْ عِيَانًا، كَمَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِاللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ جِسْمٌ مَحْدُودٌ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَتُحِيطُ بِهِ أَشِعَّةُ الْأَحْدَاقِ، وَقَدْ عُوقِبُوا عَلَى جَهْلِهِمْ هَذَا ; فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ إِذْ شَبَّهُوا رَبَّهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَرَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى مَا فَوْقَ مَرْتَبَتِهَا، وَقَدْرِهَا وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ (٦: ٩١) وَالصَّاعِقَةُ نَارٌ جَوِّيَّةٌ، تَشْتَعِلُ بِاتِّحَادِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسَّلْبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، رَاجِعْ آيَةَ ٥٥ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً، فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَفِيهَا التَّعْبِيرُ بِالنَّارِ بَدَلَ الصَّاعِقَةِ، وَرُبَّمَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهَا نَارٌ خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الْعَدَمِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّهَا مِنَ الصَّوَاعِقِ الْمُعْتَادَةِ أَرْسَلَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ظُلْمِهِمْ هَذَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حَدَثَتْ بِأَسْبَابِهَا، وَاللهُ تَعَالَى يُوَفِّقُ أَقْدَارًا لِأَقْدَارٍ.
ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، الْمُثْبِتَةُ لِلتَّوْحِيدِ النَّافِيَةُ لِلشِّرْكِ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (٥١ و٩٢) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ، الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ اتِّخَاذُ الْعَجَلِ حِينَ تَابُوا مِنْهُ
تِلْكَ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ الَّتِي قَتَلُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ كَمَا بَيَّنَ اللهِ لَنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٥١ - ٥٤) فَرَاجِعْهُ، وَمَا قَبْلَهُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا أَيْ سُلْطَةً ظَاهِرَةً بِمَا أَخْضَعْنَاهُمْ لَهُ عَلَى تَمَرُّدِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ حَتَّى فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ.
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ; أَيْ بِسَبَبِ مِيثَاقِهِمْ ; لِيَأْخُذُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بِقُوَّةٍ، وَيَعْمَلُوا بِهِ مُخْلِصِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا أَيْضًا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
12
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ (٢: ٦٣) وَمِنْهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا كَانَ آيَةً، مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا قَاطِعًا فِيهِ ; بِدَلِيلِ آيَةِ الْأَعْرَافِ، فَرَاجِعْهُ.
وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ; أَيِ ادْخُلُوا بَابَ الْقَرْيَةِ أَيِ: الْمَدِينَةِ خَاضِعِينَ لِلَّهِ، أَوْ مُطَامِنِي الرُّءُوسِ، مَائِلِي الْأَعْنَاقِ ; ذِلَّةً وَانْكِسَارًا لِعَظْمَةِ اللهِ، كَمَا يُقَالُ سَجَدَ الْبَعِيرُ: إِذَا طَامَنَ رَأْسَهُ لِرَاكِبِهِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: شَجَرَةٌ سَاجِدَةٌ لِلرِّيَاحِ: إِذَا كَانَتْ مَائِلَةً، وَالسَّفِينَةُ تَسْجُدُ لِلرِّيَاحِ ; أَيْ تُطِيعُهَا، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْأَسَاسِ. قِيلَ: تِلْكَ الْقَرْيَةُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ: أَرِيحَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُخْتَارَ السُّكُوتُ عَنْ تَعْيِينِهَا، كَمَا سَكَتَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ.
وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُوا حُدُودَ اللهِ فِيهِ بِالْعَمَلِ الدُّنْيَوِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: أَنَّ بَعْضَهُمُ اعْتَدَى فِي السَّبْتِ، وَجَاءَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بَيَانُ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ بِصَيْدِ السَّمَكِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الْمُعْتَدِينَ، وَبَعْضَهُمْ سَكَتُوا، فَهُمْ قَدْ خَالَفُوا فِي السَّبْتِ، وَخَالَفُوا فِي دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا فَلَا تَسْتَغْرِبْ بَعْدَ هَذَا مُشَاغَبَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعَانَدَتَهُمْ لَهُ.
وَأَخْذنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ; أَيْ عَهْدًا مُؤَكَّدًا ; لَيَأْخُذُنَّ التَّوْرَاةَ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ، وَلَيَعْمَلُنَّ بِهَا، وَلَيُقِيمُنَّ حُدُودَ اللهِ فِيهَا، وَلَا يَعْتَدُونَهَا، وَقَدْ أَخَذَ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عِدَّةَ مَوَاثِيقَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ كُلِّهَا بِقُوَّةٍ وَاجْتِهَادٍ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ ; مِنَ الْبِشَارَةِ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ مَا تَرَاهُ، أَوْ نَرَى بَقَايَاهُ إِلَى الْآنِ، فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْفَصْلِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ، وَهُوَ آخِرُ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ، وَأَمَّا الْفَصْلُ
الْأَخِيرُ، وَهُوَ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ، فَهُوَ فِي ذِكْرِ مَوْتِ مُوسَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
افْتَتَحَ الْفَصْلَ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ: " ١ - هَذَا كَلَامُ الْعَهْدِ الَّذِي أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى بِأَنْ يَقْطَعَهُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي أَرْضِ مُوآبَ، سِوَى الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ مَعَهُمْ فِي حُورِيبَ، وَسَمَّاهُ فِيهِ عَهْدًا وَقَسَمًا، وَتَوَعَّدَ عَلَى نَقْضِهِ فِيهِ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ وَالْغَضَبِ، وَجَمِيعِ اللَّعَنَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ ; وَمِنْهَا الِاسْتِئْصَالُ مِنْ أَرْضِهِمْ، كَمَا وَعَدَ عَلَى حِفْظِهِ بِأَعْظَمِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ.
وَكَذَلِكَ عَظَّمَ أَمْرَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّلَاثِينَ، وَالْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ، وَمِمَّا جَاءَ فِي آخِرِهِ، وَنَعْتَمِدُ بِنَصِّهِ تَرْجَمَةَ الْيَسُوعِيِّينَ - لِأَنَّهَا أَفْصَحُ - قَوْلُهُ:
" ٢٤ وَلِمَا فَرَغَ مُوسَى مِنْ رَقْمِ كَلَامِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ فِي سِفْرٍ بِتَمَامِهَا ٢٥ أَمَرَ مُوسَى اللَّاوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ، وَقَالَ لَهُمْ: ٢٦ خُذُوا سِفْرَ هَذِهِ التَّوْرَاةِ، وَاجْعَلُوهَا إِلَى جَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ فَيَكُونُ ثَمَّ عَلَيْكُمْ شَاهِدًا ٢٧ لِأَنِّي أَعْلَمُ تَمَرُّدَكُمْ، وَقَسَاوَةَ رِقَابِكُمْ ; فَإِنَّكُمْ وَأَنَا فِي
الْحَيَاةِ مَعَكُمُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَرَّدْتُمْ عَلَى الرَّبِّ فَكَيْفَ بَعْدَ مَوْتِي ٢٨ اجْمَعُوا إِلَيَّ شُيُوخَ أَسْبَاطِكُمْ وَعُرَفَاءَكُمْ حَتَّى أَتْلُوَ عَلَى مَسَامِعِكُمْ هَذَا الْكَلَامَ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ ٢٩ فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بَعْدَ مَوْتِي سَتُفْسِدُونَ وَتَعْدِلُونَ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَنَنْتُهَا لَكُمْ فَيُصِيبُكُمُ الشَّرُّ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ إِذَا صَنَعْتُمُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَيْثُ تُسْخِطُونَهُ بِأَعْمَالِ أَيْدِيكُمْ ٣٠ وَتَلَا مُوسَى عَلَى مَسَامِعِ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ كَلَامَ هَذَا النَّشِيدِ إِلَى آخِرِهِ.
أَمَّا النَّشِيدُ الَّذِي وَثَّقَ بِهِ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْجُمْلَةِ (٤٣) مِنْهُ وَأَوَّلُهُ: " أَنْصِتِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ فَأَتَكَلَّمُ وَتَسْتَمِعُ الْأَرْضُ لِأَقْوَالِ فِيَّ " وَبَعْدَهَا أَمَرَهُ اللهُ بِأَنْ يَمُوتَ وَبَارَكَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ آخِرُ وَحْيِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ: " ٣٣: ٢ أَقْبَلَ الرَّبُّ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَاعِيرَ وَتَجَلَّى مِنْ جَبَلِ فَارَانَ (وَتَرْجَمَةُ الْبُرُونُسْتَانِ، وَتَلَأْلَأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ) وَأَتَى مِنْ رُبُوَاتِ الْقُدْسِ وَعَنْ يَمِينِهِ قَبَسُ نَارِ شَرِيعَةٍ لَهُمْ، وَفَارَانُ هِيَ مَكَّةُ كَمَا ذُكِرَ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ، وَفِي الْفَصْلِ (٢١) مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَى هَاجَرَ بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ وَلَدَهَا إِسْمَاعِيلَ (أُمَّةً عَظِيمَةً) وَأَنَّهُ " ٢١ سَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ " وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ سَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ الَّتِي بَنَى بِهَا هُوَ وَوَالِدُهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْتَ اللهِ الْحَرَامَ، وَبِهِ تَكَوَّنَتْ
مَكَّةُ، وَجَبَلُ فَارَانَ هُوَ أَبُو قُبَيْسٍ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْوَحْيُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ. فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ قَدْ نَقَضُوا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ الْغَلِيظَ عَلَيْهِمْ بِحِفْظِ التَّوْرَاةِ كَمَا تَنَبَّأَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ فَهَلْ يُسْتَغْرَبُ مِنْهُمْ تَحْرِيفُ بِشَارَتِهِ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُشَاقَّتُهُمَا؟ قَالَ، تَعَالَى:
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ أَيْ فَبِسَبَبِ نَقْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمِيثَاقِهِمُ الَّذِي وَاثَقَهُمُ اللهُ بِهِ إِذْ نَكَثُوا فَتْلَهُ، وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَهُ وَحَرَّمُوا مَا أَحَلَّهُ، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَرَاهُمْ مِنْهَا مَا لَمْ يَرَهُ سِوَاهُمْ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ بُعِثُوا لِهِدَايَتِهِمْ، كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي يَذْكُرُ أَهَمَّ كَبَائِرِهَا فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ ; أَيْ بِسَبَبِ هَذَا كُلِّهِ فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا مِنَ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَإِزَالَةِ الْمُلْكِ وَالِاسْتِقْلَالِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ قَدْ مَزَّقَتْ نَسِيجَ وَحْدَتِهِمْ، وَفَرَّقَتْ شَمْلَ أُمَّتِهِمْ، وَذَهَبَتْ بِرِيحِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَأَفْسَدَتْ جَمِيعَ أَخْلَاقِهِمْ، فَكُلُّ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ هُوَ أَثَرُ ذَلِكَ النَّقْصِ وَالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي التَّارِيخِ وَالْعَيَانِ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَكَلِمَةُ " مَا " الْفَاصِلَةُ بَيْنَ الْبَاءِ وَقَوْلِهِ: " نَقْضِهِمْ " تُفِيدُ التَّأْكِيدَ سَوَاءٌ كَانَتْ مَزِيدَةً فِي الْإِعْرَابِ، أَوْ نَكِرَةً تَامَّةً وَمَجْرُورَةً بِالْبَاءِ، وَ " نَقْضِهِمْ " بَدَلٌ مِنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ:
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (٤: ١٦٠) كَأَنَّهُ قَالَ: فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَبِكُفْرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِيسَى، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى أُمِّهِ، وَتَبَجُّحِهِمْ بِدَعْوَى قَتْلِهِ، وَبِظُلْمِهِمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَحْكَامِهِمْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ إِلَخْ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ إِلَخْ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَمِثْلُ هَذَا مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ إِذَا طَالَ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَا الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَحْرِيمَ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْجَرَائِمِ الَّتِي مِنْهَا قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَهْتُ الْمَسِيحِ وَوَالِدَتِهِ
الْعَذْرَاءِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ عِقَابٌ قَلِيلٌ لَا يُقَابِلُ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ كُلِّهَا. بَلْ هُوَ قَلِيلٌ عَلَى أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَهُوَ إِنَّمَا كَانَ جَزَاءً عَلَى مَا دُونَ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ مِنْ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ فَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ " غُلْفٌ " جَمْعُ " أَغْلَفٍ " وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ غِلَافٌ يَمْنَعُ نُفُوذَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ أَيْ إِنَّ قُلُوبَهُمْ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ; فَهِيَ لَا تُدْرِكُهُ، وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ (٤١: ٥).
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَمْعُ غِلَافٍ (كَكِتَابٍ، وَكُتُبٍ) وَسُكِّنَتِ اللَّامُ فِيهِ كَمَا تُسَكَّنُ فِي الْكُتُبِ، وَالرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ وَغُلْفٌ لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ ; فَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ جَدِيدٍ تَسْتَفِيدُهُ مِنَ الرَّسُولِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ هَذَا الزَّعْمَ بِقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ أَيْ لَيْسَ مَا وَصَفُوا بِهِ قُلُوبَهُمْ هُوَ الْحَقَّ الْوَاقِعَ. بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ; أَيْ كَانَ كُفْرُهُمُ الشَّدِيدُ وَمَا لَهُ مِنَ الْأَثَرِ الْقَبِيحِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، سَبَبًا لِلطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَيْ جَعْلِهَا كَالسَّكَّةِ الْمَطْبُوعَةِ، (الدَّرَاهِمِ مَثَلًا) فِي قَسْوَتِهَا، وَتَكَيُّفِهَا بِطَبْعَةٍ خَاصَّةٍ لَا تَقْبَلُ غَيْرَهَا مِنَ النُّقُوشِ ; فَهُمْ بِجُمُودِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ التَّقْلِيدِيِّ، وَلَوَازِمِهِ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ آخَرَ نَظَرَ اسْتِدْلَالٍ وَاعْتِبَارٍ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِيهِ تَأَمُّلَ الْإِخْلَاصِ وَالِاسْتِبْصَارِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي يَنَالُهَا كَسْبُهُمْ، وَيَصِلُ إِلَيْهَا اخْتِيَارُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْتَارُونَ إِلَّا مَا أَلِفُوا وَتَعَوَّدُوا، وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ لَمْ يُبْصِرْ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ لَمْ يُؤْمِنْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْإِيمَانِ ; كَإِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَهُوَ إِيمَانٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَى ضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا، أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ; كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا - كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَرِينَةِ - الْكُفْرُ بِعِيسَى ; وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ
15
بَهْتَ أُمِّهِ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) وَهُوَ قَذْفُهَا بِالْفَاحِشَةِ. وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ
الَّذِي يَبْهَتُ مَنْ يُقَالُ فِيهِ ; أَيْ يُدْهِشُهُ، وَيُحَيِّرُهُ لِبُعْدِهِ عَنْهُ، وَغَرَابَتِهِ عِنْدَهُ، يُقَالُ: قَالَ فُلَانٌ الْبُهْتَانَ، وَقَوْلُهُ الْبُهْتَانُ، وَقَالَ الزُّورَ، وَفِي حَدِيثِ الْكَبَائِرِ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ. أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ، كَمَا يَقُولُ فِي مُقَابِلِهِ: قَالَ الْحَقَّ. قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَوَصَفَ الْبُهْتَانَ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَيُّ بُهْتَانٍ تُبْهَتُ بِهِ الْعَذْرَاءُ التَّقِيَّةُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ أَيْ: فَهَذَا الْكُفْرُ وَالْبُهْتَانُ مِنْ أَسْبَابِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَلَعْنَتِهِ، وَمِنْ تَوَابِعِهِ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلُهُ.
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ أَيْ: وَبِسَبَبِ قَوْلِهِمْ هَذَا فَإِنَّهُ قَوْلٌ يُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْجَرْأَةِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالضَّرَاوَةِ بِارْتِكَابِ الْجَرَائِمِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللهِ وَرُسُلِهِ. وَوَصْفُهُ هُنَا بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ لِلْإِيذَانِ بِتَهَكُّمِهِمْ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِدَعْوَتِهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فِيهِمْ، لَا الْأُلُوهِيَّةَ كَمَا تَزْعُمُ النَّصَارَى. عَلَى أَنَّ أَنَاجِيلَهُمْ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ مُوَحِّدًا لِلَّهِ - تَعَالَى - مُدَّعِيًا لِلرِّسَالَةِ ; كَقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (٣: ١٧ وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ).
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رَسُولَ اللهِ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ الِاخْتِصَاصِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى فَظَاعَةِ عَمَلِهِمْ، وَدَرَجَةِ جَهْلِهِمْ، وَشَنَاعَةِ زَعْمِهِمْ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ، كَمَا زَعَمُوا تَبَجُّحًا بِالْجَرِيمَةِ، وَمَا صَلَبُوهُ كَمَا ادَّعَوْا وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أَيْ وَقَعَ لَهُمُ الشُّبْهَةُ أَوِ الشَّبَهُ ; فَظَنُّوا أَنَّهُمْ صَلَبُوا عِيسَى، وَإِنَّمَا صَلَبُوا غَيْرَهُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّبَهِ أَوْ الِاشْتِبَاهِ يَقَعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ أَيْ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَكٍّ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ ; أَيْ فِي حَيْرَةٍ، وَتَرَدُّدٍ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ثَابِتٍ قَطْعِيٍّ. لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ أَيِ الْقَرَائِنَ الَّتِي تُرَجِّحُ بَعْضَ الْآرَاءِ الْخِلَافِيَّةِ عَلَى بَعْضٍ. فَالشَّكُّ الَّذِي هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ شَامِلٌ لِمَجْمُوعِهِمْ، لَا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، هَذَا إِذَا كَانَ كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ الْمَنْطِقِ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا تَسَاوَى طَرَفَاهُ بِحَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ فِي أَمْرِهِ هُمْ أَفْرَادٌ رَجَّحُوا بَعْضَ مَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ، بِالْقَرَائِنِ أَوْ بِالْهَوَى وَالْمَيْلِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا مَعْنًى
اصْطِلَاحِيٌّ لِلشَّكِّ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، فَهُوَ نَحْوٌ مِنْ مَعْنَى الْجَهْلِ، وَعَدَمِ اسْتِبَانَةِ مَا يَجُولُ فِي الذِّهْنِ مِنَ الْأَمْرِ، قَالَ الرَّكَّاضُ الدَّبِيرِيُّ:
يَشُكُّ عَلَيْكَ الْأَمْرُ مَا دَامَ مُقْبِلًا وَتَعْرِفُ مَا فِيهِ إِذَا هُوَ أَدْبَرَا
فَجَعَلَ الْمَعْرِفَةَ فِي مُقَابَلَةِ الشَّكِّ. وَقَالَ ابْنُ الْأَحْمَرِ:
وَأَشْيَاءٌ مِمَّا يَعْطِفُ الْمَرْءَ ذَا النُّهَى تَشُكُّ عَلَى قَلْبِي فَمَا أَسْتَبِينُهَا
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّكَّ ضِدُّ الْيَقِينِ. فَهُوَ إذًا يَشْمَلُ الظَّنَّ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ، وَهُوَ مَا تَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ. فَالشَّكُّ فِي صَلْبِ الْمَسِيحِ هُوَ التَّرَدُّدُ فِيهِ، أَكَانَ هُوَ الْمَصْلُوبَ
16
أَمْ غَيْرُهُ! فَبَعْضُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِ الشَّاكِّينَ فِيهِ يَقُولُ: إِنَّهُ هُوَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَمَا لِأَحَدٍ مِنْهُمَا عِلْمٌ يَقِينِيٌّ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ. وَفِي الْأَنَاجِيلِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ النَّصَارَى، أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لِتَلَامِيذِهِ: (كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ، فِيَّ، فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ) أَيِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا لِلْقَتْلِ (مَتَّى ٢٦: ٣١ وَمُرْقُسُ ١٤: ٢٧).
فَإِذَا كَانَتْ أَنَاجِيلُهُمْ لَا تَزَالُ نَاطِقَةً بِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ تَلَامِيذَهُ وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِهِ يَشُكُّونَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَخَبَرُهُ صَادِقٌ قَطْعًا، فَهَلْ يُسْتَغْرَبُ اشْتِبَاهُ غَيْرِهِمْ وَشَكُّ مَنْ دُونَهُمْ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ صَارَتْ قِصَّتُهُ رِوَايَةً تَارِيخِيَّةً مُنْقَطِعَةَ الْإِسْنَادِ؟ !
وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا أَيْ وَمَا قَتَلُوا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَتْلًا يَقِينًا، أَوْ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَهَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الْمُعْتَمَدَةُ، عِنْدَ النَّصَارَى، تُصَرِّحُ بِأَنَّ الَّذِي أَسْلَمَهُ إِلَى الْجُنْدِ هُوَ يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيُّ، وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ عَلَامَةً: أَنَّ مَنْ قَبَّلَهُ يَكُونُ هُوَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، فَلَمَّا قَبَّلَهُ قَبَضُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِنْجِيلُ بِرْنَابَا فَيُصَرِّحُ بِأَنَّ الْجُنُودَ أَخَذُوا يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيَّ نَفْسَهُ ظَنًّا أَنَّهُ الْمَسِيحُ ; لِأَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ. فَالَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْجُنُودَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ شَخْصَ الْمَسِيحِ مَعْرِفَةً يَقِينِيَّةً. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا لِلْعِلْمِ الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ، وَمَا قَتَلُوا الْعِلْمَ يَقِينًا وَتَثْبِيتًا بِهِ. بَلْ رَضُوا بِتِلْكَ الظُّنُونِ الَّتِي يَتَخَبَّطُونَ بِهَا، يُقَالُ: قَتَلْتُ الشَّيْءَ عِلْمًا وَخَبَرًا، كَمَا فِي الْأَسَاسِ، إِذَا أَحَطْتَ بِهِ وَاسْتَوْلَيْتَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُنَازِعَ ذِهْنَكَ مِنْهُ اضْطِرَابٌ وَلَا
ارْتِيَابٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الظَّنِّ الَّذِي يَتَّبِعُونَهُ قَالَ: (لَمْ يَقْتُلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ; أَيْ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ ظَنًّا غَيْرَ مُمَحَّصٍ، وَلَا مُوَفًّى أَسْبَابَ التَّرْجِيحِ وَالْحُكْمِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَأْثُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ عُمْدَتَهُمْ فِيهَا النَّقْلُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ. وَلَكِنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ تَشْتَمِلُ عَلَى نَحْوِ مَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ مُقَدَّمَاتِ الْقِصَّةِ ; كَجَمْعِ الْمَسِيحِ لِحَوَارِيِّيهِ (أَوْ تَلَامِيذِهِ) وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَغَسْلِهِ لِأَرْجُلِهِمْ، وَقَوْلِهِ لِبَعْضِهِمْ: إِنَّهُ يُنْكِرُهُ قَبْلَ صِيَاحِ الدِّيكِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَمِنْ بَيْعِهِ بِدَلَالَةِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ، فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ قَلِيلٍ، وَكَوْنِ الدِّلَالَةِ عَلَيْهِ كَانَتْ بِتَقْبِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ.
وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ شَبَهَهُ أُلْقِيَ عَلَى مَنْ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: بَلْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانُوا مَعَهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَيْنِ عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ رِوَايَاتِ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَجَا مِنْ أَيْدِي مُرِيدِي قَتْلِهِ، فَقَتَلُوا آخَرَ ظَانِّينَ أَنَّهُ هُوَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ، تَعَالَى: بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ فَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
17
وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (٣: ٥٥) رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ التَّوَفِّي هُنَا بِالْإِمَاتَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ تَفْسِيرُهَا بِأَصْلِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ الْأَخْذُ وَالْقَبْضُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَمِنَ الرَّفْعِ إِنْقَاذُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِنَايَةٍ مِنَ اللهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ " فَرَفْعُهُ إِيَّاهُ: تَوَفِّيهِ إِيَّاهُ وَتَطْهِيرُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا " أَيْ: لَيْسَ الْمُرَادُ الرَّفْعَ إِلَى السَّمَاءِ، لَا بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَلَا بِالرُّوحِ فَقَطْ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّوَفِّيَ: الْإِمَاتَةُ، لَا يَظْهَرُ لِلرَّفْعِ مَعْنًى إِلَّا رَفْعُ الرُّوحِ، وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَفَعَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ الْمِعْرَاجِ ; إِذْ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ هُوَ وَابْنَ خَالَتِهِ يَحْيَى فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُفِعَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، لَدَلَّ أَيْضًا عَلَى رَفْعِ يَحْيَى وَسَائِرِ مَنْ رَآهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فِي سَائِرِ السَّمَاوَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ يَسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وُجُوهًا ; مِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِ رَافِعُكَ إِلَيَّ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِي، وَجَعَلَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي (٣٧: ٩٩) وَإِنَّمَا ذَهَبَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ الْمُرَادَ رَفَعُهُ إِلَى مَكَانٍ لَا يَمْلِكُ فِيهِ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ.
وَقَدْ فَسَّرْنَا آيَةَ آلِ عِمْرَانَ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَذَكَرْنَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِيهَا، وَفِي مَسْأَلَةِ نُزُولِ عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى تَمْحِيصٍ وَبَيَانٍ، لَيْسَ التَّفْسِيرُ بِمَحَلٍّ لَهُ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُثْبِتْ لَنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا فَبِعِزَّتِهِ، وَهِيَ كَوْنُهُ يَقْهَرُ وَلَا يُقْهَرُ، وَيَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، أَنْقَذَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْيَهُودِ الْمَاكِرِينَ وَالرُّومِ الْحَاكِمِينَ، وَبِحِكْمَتِهِ جَزَى كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، فَأَحَلَّ بِالْيَهُودِ مَا أَحَلَّ بِهِمْ، وَسَيُوَفِّيهِمْ جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أَيْ: لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَآيَتُهُ لِلنَّاسِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ ذَلِكَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، عِنْدَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ يَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقُّ فِي أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا ; فَالْيَهُودِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولٌ صَادِقٌ غَيْرُ دَعِيٍّ وَلَا كَذَّابٍ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَلَا هُوَ إِلَهٌ، وَلَا ابْنُ اللهِ.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ أَمْرِهِ مَعَهُمْ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ (٥: ١١٧) وَقَدْ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ، فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّكْلِيفِ، بِإِيمَانِهِ، وَعَلَى الْكَافِرِ بِكُفْرِهِ
18
لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ، وَكُلُّ نَبِيٍّ شَهِيدٌ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤: ٤١) وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ
أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عِيسَى لَمَّا يَمُتْ، وَأَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَوَّلُوا قَوْلَهَ تَعَالَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (٣: ٥٥) وَهُمْ عَلَى هَذَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَأْوِيلِ النَّفْيِ الْعَامِّ هُنَا بِتَخْصِيصِهِ بِمَنْ يَكُونُ مِنْهُمْ حَيًّا عِنْدَ نُزُولِهِ، فَيَقُولُونَ: الْمَعْنَى: وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَنْزِلُ الْمَسِيحُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَيَتْبَعَنَّهُ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى شَيْءٍ لَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى يَكُونَ قَرِينَةً لَهُ، وَالْأَخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ لَمْ تَرِدْ مُفَسِّرَةً لِلْآيَةِ.
أَمَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّظْمِ الْبَلِيغِ، فَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنِ اطِّلَاعِ النَّاسِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ، عَلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْ كَوْنِهِمْ يُبَشَّرُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، أَوْ بِعَذَابِهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ، بِضَمِّ الْحَاءِ: أَيْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَعَنْ عَائِشَةَ زِيَادَةٌ فِي حَدِيثِ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ " الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَقَالَ: " لَيْسَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللهِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللهَ فَأَحَبَّ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللهِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللهِ فَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ مَنْدَهْ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " مَا مِنْ نَفْسٍ تُفَارِقُ الدُّنْيَا حَتَّى تَرَى مَقْعَدَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ " وَرَوَى مِثْلَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ; مِنْ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ تُخَاطِبُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ، بِحَقِيقَةِ أَمْرِ الْمَسِيحِ، مَعَ الْإِنْكَارِ الشَّدِيدِ وَالتَّقْبِيحِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ النَّصُّ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَى تَصْرِيحِ فِرْعَوْنَ بِالْإِيمَانِ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ. وَلَهَا دَلَائِلُ أُخْرَى كَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
19
(فَصْلٌ فِي مَبَاحِثَ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الصَّلْبِ) إِنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلْبِ مِنَ الْمَسَائِلِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي لَهَا نَظَائِرُ وَأَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ، فَقَدْ كَانَ الْمُلُوكُ وَالْحُكَّامُ يَقْتُلُونَ وَيَصْلُبُونَ، وَنَاهِيكَ بِالرُّومَانِيِّينَ وَقَسْوَتِهِمْ، وَالْيَهُودِ وَعَصَبِيَّتِهِمْ، وَقَدْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ ; أَشْهَرُهُمْ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَالْفَائِدَةُ فِي إِثْبَاتِ التَّارِيخِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْوَقَائِعِ لَا تَعْدُو الْعِبْرَةَ بِأَخْلَاقِ الْأُمَّةِ، وَدَرَجَةِ ضَلَالِهَا وَهِدَايَتِهَا، وَسِيرَةِ الْحُكَّامِ فِيهَا. وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ فِي عَصْرِ الْمَسِيحِ تَحْتَ سُلْطَانِ الرُّومِ (الرُّومَانِيِّينَ) وَالْحَاكِمُ الرُّومَانِيُّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ (بِيلَاطِسُ) لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ قَتْلَ الْمَسِيحِ، وَلَمْ يَحْفَلْ بِوِشَايَةِ الْيَهُودِ وَسِعَايَتِهِمْ فِيهِ، وَلَا خَافَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا يُزِيلُ سُلْطَانَ الرُّومِ عَنْ قَوْمِهِ، هَكَذَا تَقُولُ النَّصَارَى فِي كُتُبِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْيَهُودُ تُرِيدُ قَتْلَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِمَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ الَّذِي يُزَحْزِحُهُمْ عَنْ تَقَالِيدِهِمُ الْمَادِّيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ بِقَتْلِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى قَدْ أُصِيبُوا بِالضَّرَاوَةِ بِسَفْكِ دِمَاءِ النَّبِيِّينَ وَالْمُصْلِحِينَ، فَسَوَاءٌ صَحَّ خَبَرُ دَعْوَى قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ، فَلَا صِحَّتُهُ تُفِيدُنَا عِبْرَةً بِحَالِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً، وَلَا عَدَمُهَا يُنْقِصُ مِنْ مَعْرِفَتِنَا بِأَخْلَاقِهِمْ وَتَارِيخِ زَمَنِهِمْ.
نَعَمْ إِنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلْبِ لَيْسَتْ فِي ذَاتِهَا بِالْأَمْرِ الَّذِي يُهْتَمُّ بِإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ فِي كِتَابِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِأَكْثَرَ مِنْ إِثْبَاتِ قَتْلِ الْيَهُودِ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَقْرِيعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، لَوْلَا أَنَّ النَّصَارَى جَعَلُوهَا أَسَاسَ الْعَقَائِدِ وَأَصْلَ الدِّينِ، فَمَنْ فَاتَهُ الْإِيمَانُ بِهَا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَمَنْ آمَنَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ كَانَ هُوَ النَّاجِيَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاءِ مَعَ الْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ وَالْقِدِّيسِينَ. لِأَجْلِ هَذَا كَبُرَ عَلَيْهِمْ نَفْيُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ وَصَلْبِهِ، وَهُمْ يُورِدُونَ فِي ذَلِكَ الشُّبُهَاتِ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ ; لِهَذَا رَأَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ عَقِيدَةَ الصَّلْبِ عِنْدَهُمْ، وَشُبُهَاتِهِمْ عَلَى نَفْيِهَا مَعَ الْجَوَابِ عَنْهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْمُهِمَّةِ.
عَقِيدَةُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَالصَّلْبِ:
نَرَى دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ الْمُنْبَثِّينَ فِي بِلَادِنَا، قَدْ جَعَلُوا قَاعِدَةَ دَعْوَتِهِمْ وَأَسَاسَهَا عَقِيدَةَ صَلْبِ الْمَسِيحِ فِدَاءً عَنِ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَالتَّثْلِيثُ يَلِيهَا ; لِأَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ هُوَ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ أَوَّلًا، وَيُجْعَلُ مَا عَدَاهُ تَابِعًا لَهُ ; وَلِذَلِكَ كَانَ التَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلَ وَالْأَسَاسَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَيَلِيهِ الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَدَعَا أَهْلَ الْكِتَابِ فِي كُتُبِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذُ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٣: ٦٤) وَبِهَذَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى
20
فَكَانَ يَكْتَفِي فِي دَعْوَتِهِ الْأَوْلَى لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ بِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ ; لِأَنَّ شِرْكَهُمْ إِنَّمَا كَانَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. وَهِيَ اتِّخَاذُ أَوْلِيَاءَ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ، بِوَاسِطَتِهِمْ يَدْفَعُ اللهُ عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ، وَأَمَّا مُشْرِكُو أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ قَدْ طَرَأَ عَلَى تَوْحِيدِهِمْ مِثْلُ هَذَا الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِاتِّخَاذِ الْمَسِيحِ إِلَهًا، وَاتِّخَاذِ غَيْرِهِ مِنْ حَوَارِيِّيهِ وَغَيْرِهِمْ، آلِهَةً بِالْوَسَاطَةِ وَالشَّفَاعَةِ، وَطَرَأَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ ذَلِكَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ; بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِيمَا يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ. فَدَعَاهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَعًا.
فَلَوْلَا أَنَّ عَقِيدَةَ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ أَصْلُ هَذِهِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، لَمَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ.
أَمَّا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، كَمَا سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ دُعَاةِ الْبُرُوتِسْتَانْتِ، فِي بَعْضِ الْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَعْقِدُونَهَا لِلدَّعْوَةِ فِي مَدَارِسِهِمْ، وَفِي الْمَجَالِسِ الْخَاصَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ لَنَا حُضُورُهَا مَعَ بَعْضِهِمْ، فَهِيَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا عَصَى اللهَ - تَعَالَى - بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا صَارَ هُوَ وَجَمِيعُ أَفْرَادِ ذُرِّيَّتِهِ خُطَاةً مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ، ثُمَّ إِنْ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ جَاءُوا خُطَاةً مُذْنِبِينَ فَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ أَيْضًا بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهُ بِذَنْبِ أَبِيهِمُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِذُنُوبِهِمْ، وَلَمَّا
كَانَ اللهُ - تَعَالَى - مُتَّصِفًا بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ جَمِيعًا، طَرَأَ عَلَيْهِ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ) مُشْكِلٌ مُنْذُ عَصَى آدَمُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا عَاقَبَهُ هُوَ وَذُرِّيَّتَهُ كَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِرَحْمَتِهِ فَلَا يَكُونُ رَحِيمًا! ! وَإِذَا لَمْ يُعَاقِبْهُ كَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِعَدْلِهِ فَلَا يَكُونُ عَادِلًا! ! فَكَأَنَّهُ مُنْذُ عَصَى آدَمُ كَانَ يُفَكِّرُ فِي وَسِيلَةٍ يَجْمَعُ بِهَا بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ (سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَحُلَّ ابْنُهُ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ هُوَ نَفْسُهُ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَيَتَّحِدُ بِجَنِينٍ فِي رَحِمِهَا، وَيُولَدُ مِنْهَا، فَيَكُونُ وَلَدُهَا إِنْسَانًا كَامِلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْنُهَا، وَإِلَهًا كَامِلًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْنُ اللهِ، وَابْنُ اللهِ هُوَ اللهُ، وَيَكُونُ مَعْصُومًا مِنْ جَمِيعِ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يَعِيشَ زَمَنًا مَعَهُمْ يَأْكُلُ مِمَّا يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا يَشْرَبُونَ، وَيَتَلَذَّذُ كَمَا يَتَلَذَّذُونَ وَيَتَأَلَّمُ كَمَا يَتَأَلَّمُونَ، يُسَخِّرُ أَعْدَاءَهُ لِقَتْلِهِ أَفْظَعَ قِتْلَةٍ، وَهِيَ قِتْلَةُ الصَّلْبِ الَّتِي لَعَنَ صَاحِبَهَا فِي الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، فَيَحْتَمِلُ اللَّعْنَ وَالصَّلْبَ لِأَجْلِ فِدَاءِ الْبَشَرِ وَخَلَاصِهِمْ مِنْ خَطَايَاهُمْ، كَمَا قَالَ يُوحَنَّا فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى: وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا ; لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (٣٧: ١٨٠).
كُنْتُ مَرَّةً مارًّا بِشَارِعِ مُحَمَّدِ عَلِيٍّ فِي الْقَاهِرَةِ، وَأَنَا قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا، فَرَأَيْتُ رَجُلًا وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ يَدْعُو كُلَّ مَنْ مَرَّ أَمَامَهُ تَفَضَّلُوا تَعَالَوُا اسْمَعُوا كَلَامَ اللهِ. وَلَمَّا خَصَّنِي بِالدَّعْوَةِ أَجَبْتُ فَدَخَلْتُ، فَإِذَا بِنَاسٍ عَلَى مَقَاعِدَ مِنَ الْخَشَبِ فِي رَحْبَةِ
21
الْمَدْرَسَةِ، فَلَمَّا كَثُرَ الْجَمْعُ قَامَ أَحَدُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فَأَلْقَى نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنَ الْعَقِيدَةِ الصَّلِيبِيَّةِ، وَبَعْدَ فَرَاغِهِ وَحَثِّهِ النَّاسَ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا قَالَهُ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَدَعَوَاهُ أَنْ لَا خَلَاصَ لَهُمْ بِدُونِهِ، قُمْتُ فَقُلْتُ: إِذَا كُنْتُمْ قَدْ دَعَوْتُمُونَا إِلَى هَذَا الْمَكَانِ لِتُبَلِّغُونَا الدَّعْوَةَ شَفَقَةً عَلَيْنَا وَرَحْمَةً بِنَا، فَأْذَنُوا لِي أَنْ أُبَيِّنَ لَكُمْ مَوْقِعَهَا مِنْ نَفْسِي. فَأَذِنَ لِي الْقَسُّ بِالْكَلَامِ فَوَقَفْتُ فِي مَوْقِفِ الْخَطَابَةِ، وَأَوْرَدْتُ عَلَيْهِمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْقَضَايَا الْمُتَنَاقِضَةِ، الَّتِي سَأُبَيِّنُهَا هُنَا، وَطَلَبْتُ الْجَوَابَ عَنْهَا. فَكَانَ الْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ خَاصٌّ بِالْوَعْظِ وَالْكِرَازَةِ دُونَ الْجِدَالِ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْجِدَالَ وَالْمُنَاظَرَةَ فَمَوْضِعُهَا الْمَكْتَبَةُ الْإِنْكِلِيزِيَّةُ،
فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ الْحَاضِرُونَ هَذَا الْجَوَابَ صَاحُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. وَانْصَرَفُوا. أَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَدُونَكَهُ بِالِاخْتِصَارِ:
(مَا يَرِدُ عَلَى عَقِيدَةِ الصَّلْبِ) (١) لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، وَفِي كُلِّ صُنْعِهِ حَكِيمًا ; لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ وَالْبَدَاءَ عَلَى الْبَارِئِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَأَنَّهُ حِينَ خَلَقَ آدَمَ مَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَحِينَ عَصَى مَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ فِي شَأْنِهِ حَتَّى اهْتَدَى إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ أُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ مَرَّتْ عَلَى خَلْقِهِ، كَانَ فِيهَا جَاهِلًا كَيْفَ يَجْمَعُ بَيْنَ تَيْنَكِ الصِّفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَوَاقِعًا فِي وَرْطَةِ التَّنَاقُضِ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ قَدْ يَقْبَلُهَا مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الدِّينِ عِنْدَهُمْ أَلَّا يَتَّفِقَ مَعَ الْعَقْلِ، وَأَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُهُ بِكُلِّ مَا يُسْنَدُ إِلَى مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ عَمَلُ الْعَجَائِبِ، وَيَقُولُ: آمَنْتُ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ وَلَمْ تُذْعِنْ لَهُ نَفْسُهُ. وَمَنْ يَنْقُلُونَ فِي أَوَّلِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ (سِفْرِ التَّكْوِينِ) هَذِهِ الْجُمْلَةَ (٦: ٦ فَنَدِمَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ) تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا.
٢ - يَلْزَمُ مَنْ يَقْبَلُ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَنْ يُسَلِّمَ مَا يُحِيلُهُ كُلُّ عَقْلٍ مُسْتَقِلٍّ، مِنْ أَنَّ خَالِقَ الْكَوْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَحُلَّ فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي نِسْبَتُهَا إِلَى سَائِرِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ الذَّرَّةِ إِلَيْهَا وَإِلَى سَمَوَاتِهَا الَّتِي تُرَى مِنْهَا، ثُمَّ يَكُونُ بَشَرًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَتْعَبُ، وَيَعْتَرِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِي الْبَشَرَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَعْدَاؤُهُ بِالْقَهْرِ وَالْإِهَانَةِ، فَيَصْلُبُوهُ مَعَ اللُّصُوصِ، وَيَجْعَلُوهُ مَلْعُونًا بِمُقْتَضَى حُكْمِ كِتَابِهِ لِبَعْضِ رُسُلِهِ (تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا).
٣ - تَقْتَضِي هَذِهِ الْقِصَّةُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَدْ أَرَادَ شَيْئًا بَعْدَ التَّفَكُّرِ فِيهِ أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، ذَلِكَ أَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يَخْلُصُوا وَيَنْجُوا بِوُقُوعِ الصَّلْبِ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ خَلَاصَهُمْ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، لَنَا
22
أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا أَحَدٌ قَطُّ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقُ
الْعَقْلِ وَجَزْمُهُ بِالشَّيْءِ، وَالْعَقْلُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُدْرِكَ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ تَقْلِيدًا لِمَنْ لَقَّنَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ سَمَّيْنَا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إِيمَانًا، نَقُولُ: إِنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ لَا يَقُولُونَهُ. بَلْ يَرُدُّونَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهُ أَيْضًا بِالدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ، مِنْ دِينٍ ثَبَتَتْ أُصُولُهُ عِنْدَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِمِثْلِهَا لِآلِهَةٍ أُخْرَى، فَإِذَا عَذَّبَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُدْخِلْهُمْ مَلَكُوتَهُ، كَمَا تَدَّعِي النَّصَارَى، لَا يَكُونُ رَحِيمًا عَلَى قَاعِدَةِ دُعَاةِ الصَّلْبِ وَالصَّلِيبِ، فَكَيْفَ جَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ؟ !
٤ - يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ شَيْءٌ أَعْظَمُ مِنْ عَجْزِ الْخَالِقِ (تَعَالَى وَتَقَدَّسَ) عَنْ إِتْمَامِ مُرَادِهِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ كُلٍّ مِنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ فِي صَلْبِ الْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُ عَذَّبَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَشَرٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ، فَتَعْذِيبُهُ بِالصَّلْبِ وَالطَّعْنِ بِالْحِرَابِ، عَلَى مَا زَعَمُوا، لَا يَصْدُرُ مِنْ عَادِلٍ، وَلَا مِنْ رَحِيمٍ بِالْأَحْرَى، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ غَيْرَ عَادِلٍ وَلَا رَحِيمٍ؟ أَوْ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا رَحِيمًا فَيَخْلُقُ خَلْقًا يُوقِعُهُ فِي وَرْطَةِ الْوُقُوعِ فِي انْتِفَاءِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَيُحَاوِلُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَيَفْقِدُهُمَا مَعًا؟ !
٥ - إِذَا كَانَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَوِ الْقِصَّةِ يَنْجُو مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، كَيْفَمَا كَانَتْ أَخْلَاقُهُ وَأَعْمَالُهُ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهَا إِبَاحِيِّينَ، وَأَنْ يَكُونَ الشِّرِّيرُ الْمُبْطِلُ الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَيُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، مِنْ أَهْلِ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى، لَا يُعَذَّبُ عَلَى شُرُورِهِ وَخَطِيئَاتِهِ، وَلَا يُجَازَى عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ هَوَاهُ، وَهُوَ آمِنٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا مُفْسِدًا لِلْبَشَرِ، وَإِذَا كَانَ يُعَذَّبُ عَلَى شُرُورِهِ وَخَطِيئَاتِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ الصَّلِيبِيِّينَ، فَمَا هِيَ مَزِيَّةُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ امْتِيَازٌ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي نَفْسِ الْجَزَاءِ، فَأَيْنَ الْعَدْلُ الْإِلَهِيُّ؟
٦ - مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ وَلَا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، يَقُولُ: إِنَّ عَفْوَ الْإِنْسَانِ عَمَّنْ يُذْنِبُ إِلَيْهِ، أَوْ عَفْوَ السَّيِّدِ عَنْ عَبْدِهِ الَّذِي يَعْصِيهِ - يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْكَمَالَ، بَلْ يَعُدُّونَ الْعَفْوَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَضَائِلِ، وَنَرَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ مِنَ الْأُمَمِ
الْمُخْتَلِفَةِ، يَصِفُونَهُ بِالْعَفُوِّ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أَهْلٌ لِلْمَغْفِرَةِ، فَدَعْوَى الصَّلِيبِيِّينَ أَنَّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ مِمَّا يُنَافِي الْعَدْلَ مَرْدُودَةٌ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ.
23
(الْجَزَاءُ وَالْخَلَاصُ فِي الْإِسْلَامِ) يَتَوَهَّمُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَمِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي سَرَتْ إِلَى بَعْضِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ - أَنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَالسَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ فِيهَا، إِنَّمَا تَكُونُ بِمِثْلِ مَا يُسَمُّونَهُ الْفِدَاءَ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ. وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفَادِي، فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ الْمَسِيحُ، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ مُحَمَّدٌ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; وَلِذَلِكَ يُشَكِّكُونَ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ، بِمَا يَكْتُبُونَ مِنْ سَفْسَطَةِ الْجَدَلِ فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، وَمَا يَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَجَامِعِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَمَدَارُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ، وَإِنَّ نَبِيَّنَا قَدْ أَذْنَبَ. وَالْمُذْنِبُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْقِذَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ تَبِعَةِ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ.
أَمَّا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا بِتَخْطِئَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَطْ، وَلَا بِتَعْجِيزِهِمْ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَقْتَرِفْ خَطِيئَةً بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَكَوْنِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ هُنَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا فُرِضَ أَنَّ عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُعَدُّ نَقْلُهُمْ تَوَاتُرًا صَحِيحًا، قَدْ لَازَمُوا الْمَسِيحَ فِي كُلِّ سَاعَاتِ حَيَاتِهِ وَدَقَائِقِهَا، فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُ خَطِيئَةً فِيهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا قَطُّ. أَوْ فَرْضُ نَصٍّ صَرِيحٍ مِنَ الْوَحْيِ يَخُصُّهُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَقُومُ حُجَّةً عَلَيْنَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحُجُّونَا بِمَا عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِأَنَّ هَذَا - عَلَى كَوْنِهِ عَامًّا يُعَدُّ عِنْدَنَا لِجَمِيعِ الرُّسُلِ - مِنْ الِاحْتِجَاجِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ اعْتِقَادَنَا يَنْقُضُ اعْتِقَادَهُمْ وَاعْتِقَادَهُمْ يَنْقُضُ اعْتِقَادَنَا، فَالِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا إِذَا نَفَعَ فِي إِفْحَامِ الْخَصْمِ وَإِلْزَامِهِ، لَا يَنْفَعُ فِي إِقْنَاعِهِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْإِقْنَاعُ، لَا مُجَرَّدُ الْغَلَبِ فِي الْخِصَامِ.
وَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخَطِيئَةِ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَذِّرٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُشَاغَبَةُ بِمِثْلِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (٤٨: ٢) لِأَنَّ الْخَطِيئَةَ الَّتِي نَنْفِيهَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمَسِيحِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، هِيَ مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ -
تَعَالَى - بِارْتِكَابِ مَا نَهَى الله عَنْهُ، أَوْ تَرْكُ مَا أَمَرَ بِهِ. وَالذَّنْبُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ عَمَلٍ لَهُ تَبِعَةٌ لَا تَسُرُّ الْعَامِلَ وَلَا تُوَافِقُ غَرَضَهُ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ذَنَبِ الْحَيَوَانِ. وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِثَالُهُ مِنْ عَمَلِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْنُهُ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ وَالْقُعُودِ عَنِ السَّفَرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ إِذْنُهُ لَهُمْ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا وَهُمْ كَارِهُونَ وَمُصِرُّونَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، يَضُرُّونَ وَلَا يَنْفَعُونَ، كَمَا قَالَ، تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ (٩: ٤٧) وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّادِقُ مِنَ الْمُعْتَذِرِينَ، وَعَلِمَ الْكَاذِبِينَ مِنْهُمْ. فَكَانَ هَذَا الْإِذْنُ ذَنْبًا ; لِأَنَّ لَهُ عَاقِبَةً مُخَالِفَةً لِلْمَقْصِدِ أَوْ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ عَدَمُ ذَلِكَ التَّبَيُّنِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْكَاذِبِينَ فِي الِاعْتِذَارِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانَ، مَا كَانُوا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا، أَذِنَ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذَا
24
الذَّنْبِ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنَتْ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٩: ٤٣) فَمِثْلُ هَذَا، وَإِنْ سُمِّيَ ذَنْبًا لُغَةً، لَا يُعَدُّ مِنَ الْخَطَايَا الَّتِي تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ مَلَكُوتِ اللهِ، وَمَثُوبَتَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تَجْعَلُ شَفَاعَتَهُ مَرْدُودَةً. عَلَى أَنَّ فِي سِيرَةِ كَثِيرٍ مِنَ الصُّلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ وَلَمْ تَقَعْ مِنْهُ خَطِيئَةٌ مِنَ الْخَطَايَا الَّتِي يَرْمِي الصَّلِيبِيُّونَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
لَا نَرُدُّ عَلَى قَاعِدَةِ هَؤُلَاءِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ النَّوَاقِضِ لِأُسُسِهِمْ، وَالْهَوَادِمِ لِأَبْنِيَتِهِمْ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَنَا هِيَ مَوْضُوعَ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ مَزَاعِمَهُمْ فِيهَا صَحِيحَةٌ، لَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ شَيْئًا ; وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَا فِيهَا هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِهَا الْمُفَصَّلِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَذْكُرُهَا هُنَا بِالْإِيجَازِ ; لِأَنَّ شَرْحَهَا قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَنَقُولُ:
إِنَّ مَدَارَ نَجَاةِ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَفَوْزَهُ بِالنَّعِيمِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَتَطْهِيرِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ حَتَّى تَكُونَ مُتَخَلِّيَةً عَنِ الْأَبَاطِيلِ وَالشُّرُورِ، مُتَحَلِّيَةً بِالْفَضَائِلِ وَعَمَلِ الْبَرِّ وَالْخَيْرِ، وَمَدَارُ الْهَلَاكِ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (٩١: ٧ - ١٠) فَاللهُ - تَعَالَى - جَعَلَ كُلَّ إِنْسَانٍ
مُتَمَكِّنًا بِقُوَاهُ الْفِطْرِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْفُجُورِ وَالشُّرُورِ، وَمِنْ أَعْمَالِ التَّقْوَى وَالْخَيْرَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُزَكِّي نَفْسَهُ بِهَذِهِ، أَوْ يُدَسِّيهَا بِتِلْكَ. فَمَنْ صَحَّتْ عَقِيدَتُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ صَلُحَتْ نَفْسُهُ وَزَكَتْ، وَكَانَتْ أَهْلًا لِلنَّعِيمِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَمَنْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُ خُرَافِيَّةً بَاطِلَةً وَأَعْمَالُهُ سَيِّئَةً، فَسَدَتْ أَخْلَاقُهُ وَخَبُثَتْ نَفْسُهُ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي تَكَلَّفَ تَدْسِيَتَهَا وَدَهْوَرَتَهَا إِلَى هَاوِيَةِ الْجَحِيمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي التَّزْكِيَةِ أَلَّا يُلِمَّ الْإِنْسَانُ بِخَطَأٍ، وَلَا تَقَعَ مِنْهُ سَيِّئَةٌ أَلْبَتَّةَ. بَلِ الْمَدَارُ عَلَى طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخُبْثِ وَسُوءِ النِّيَّةِ، بِحَيْثُ إِذَا غَلَبَهُ بَعْضُ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ فَأَلَمَّ بِذَنْبٍ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَلْجَأُ إِلَى النَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَتَكْفِيرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ. فَيَكُونُ مَثَلُ نَفْسِهِ كَمَثَلِ بَيْتٍ تَتَعَاهَدُهُ رَبَّتُهُ بِالْكَنْسِ وَالْمَسْحِ وَسَائِرِ وَسَائِلِ النَّظَافَةِ، فَإِذَا أَلَمَّ بِهِ غُبَارٌ أَوْ أَصَابَهُ دَنَسٌ بَادَرَتْ إِلَى إِزَالَتِهِ فَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّظَافَةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ بِذَلِكَ مَا لَا تَخْلُو مِنْهُ الْبُيُوتُ النَّظِيفَةُ عَادَةً مِنْ قَلِيلِ غُبَارٍ أَوْ وَسَخٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُزَالَ، فَالْجَزَاءُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّفْصِيلِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ; مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (٤: ١٢٣، ١٢٤)
25
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٤: ١٧، ١٨) وَقَوْلِهِ، تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٤: ٣١) وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (٤: ٤٨، ١١٦) إِلَخْ.
فَمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فِي تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَإِصْلَاحِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ، كَانَ مَقْبُولًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا يُؤَاخِذُهُ - تَعَالَى - بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَحْرُومًا مِنْ رِضْوَانِهِ الْأَكْبَرِ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ شَفَاعَةُ شَافِعٍ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءً لَوْ مَلَكَ الْفِدَاءَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يَشْفَعَ لِأَحَدٍ لَمْ يُرْضِ اللهَ - تَعَالَى - بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا الْحَقُّ وَالْخَيْرُ عَلَى ضِدِّهِمَا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ
(٢: ٢٥٥) وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢١: ٢٨) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ (٢: ١٢٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ (٢: ٢٥٤).
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَتَدْسِيَتِهَا بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ وَكَسْبِهِ الِاخْتِيَارِيِّ، أَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّدْسِيَةِ، مُرَتَّبٌ عَلَيْهِمَا تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ، بِفَضْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ (٢: ٢٦١) وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ (٤: ١٧٣).
أَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّعَالِيمُ الْإِسْلَامِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَرْفَعُ قَدْرَ الْإِنْسَانِ، وَتُعْلِي هِمَّتَهُ، وَتَحْفِزُهُ إِلَى طَلَبِ الْكَمَالِ بِإِيمَانِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ؟ أَلَيْسَتْ أَفْضَلَ وَأَنْفَعَ مِنْ الِاتِّكَالِ عَلَى تِلْكَ الْقِصَّةِ الصَّلِيبِيَّةِ الْمَأْثُورِ مِثْلُهَا عَنْ خُرَافَاتِ الْوَثَنِيِّينَ؟ الَّتِي لَا يُصَدِّقُهَا عَقْلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلَا يَطْمَئِنُّ بِهَا قَلْبٌ سَلِيمٌ، الْمُخَالِفَةِ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَنِظَامِ الْخِلْقَةِ، الَّتِي أَفْسَدَتِ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ فِي الْمَمَالِكِ الصَّلِيبِيَّةِ مُنْذُ شَاعَتْ فِيهَا بِنُفُوذِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ الصَّلِيبِيِّ، إِلَى أَنْ عَتَقَتْ أُورُبَّةُ مِنْ رِقِّ الْكَنِيسَةِ، بِنُورِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِقْلَالِ اللَّذَيْنِ أَشْرَقَا عَلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ. (وَلَكِنْ وَاأَسَفَا عَلَى ذَلِكَ النُّورِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، ظَاهِرُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَبَاطِنُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وَوَاشَوْقَاهُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَنْدَكُّ فِيهِ هَذَا السُّورُ الَّذِي حَجَبَهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ).
26
(عَقِيدَةُ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ وَثَنِيَّةٌ) اعْتَرَفَ أَمَامَنَا كَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُمْ نَصَارَى، بِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ لَا تُعْقَلُ، وَأَنَّ الْعُمْدَةَ عِنْدَهُمُ النَّقْلُ عَنْ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْكُتُبُ ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَقْبَلُوا جَمِيعَ مَا فِيهَا، سَوَاءٌ عُقِلَ أَمْ لَمْ يُعْقَلْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ كُلَّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِيهِ عَقَائِدُ وَأَخْبَارٌ يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِاسْتِحَالَتِهَا، وَلَكِنَّهَا تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِاسْتِحَالَتِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَخْبَارٌ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِمَعْرِفَتِهَا ; لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهَا كُلَّهَا
مِنَ الْمُمْكِنَاتِ أَخْبَرَ بِهَا الْوَحْيُ، فَصَدَّقْنَاهُ، فَالْإِسْلَامُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَ بِالْمُحَالِ.
وَأَمَّا نَقْلُهُمْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ عَنْ كُتُبِهِمْ (وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ) فَهُوَ مُعَارَضٌ بِنَقْلٍ مِثْلِهِ عَنْ كُتُبِ الْوَثَنِيِّينَ وَتَقَالِيدِهِمْ، فَهَذِهِ عَقِيدَةٌ وَثَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ سَرَتْ إِلَى النَّصَارَى مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، كَمَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ، وَمُؤَرِّخُوهُمْ، وَعُلَمَاءُ الْآثَارِ وَالْعَادِيَاتِ مِنْهُمْ فِي كُتُبِهِمْ.
قَالَ (دُوَانُ) فِي كِتَابِهِ: " خُرَافَاتُ التَّوْرَاةِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الدِّيَانَاتِ الْأُخْرَى " (. ص ١٨١، ١٨٢) مَا تَرْجَمَتُهُ بِالتَّلْخِيصِ:
" إِنَّ تَصَوُّرَ الْخَلَاصِ بِوَاسِطَةِ تَقْدِيمِ أَحَدِ الْآلِهَةِ ذَبِيحَةَ فَدَاءٍ عَنِ الْخَطِيئَةِ، قَدِيمُ الْعَهْدِ جِدًّا عِنْدَ الْهُنُودِ الْوَثَنِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ " وَذَكَرَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ:
مِنْهَا قَوْلُهُ: يَعْتَقِدُ الْهُنُودُ أَنَّ كَرَشْنَا الْمَوْلُودَ الْبِكْرَ، الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِلَهِ فِشْنُو الَّذِي لَا ابْتِدَاءَ لَهُ وَلَا انْتِهَاءَ - عَلَى رَأْيِهِمْ - تَحَرَّكَ حُنُوًّا كَيْ يُخَلِّصَ الْأَرْضَ مِنْ ثِقَلِ حِمْلِهَا، فَأَتَاهَا وَخَلَّصَ الْإِنْسَانَ بِتَقْدِيمِ نَفْسِهِ ذَبِيحَةً عَنْهُ.
وَذَكَرَ أَنَّ (مِسْتَرْ مُورْ) قَدْ صَوَّرَ كَرَشْنَا مَصْلُوبًا، كَمَا هُوَ مُصَوَّرٌ فِي كُتُبِ الْهُنُودِ، مَثْقُوبَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَعَلَى قَمِيصِهِ صُورَةُ قَلْبِ الْإِنْسَانِ مُعَلَّقًا. وَوَجَدْتُ لَهُ صُورَةً مَصْلُوبًا وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَالنَّصَارَى تَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ صُلِبَ وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنَ الشَّوْكِ.
وَقَالَ (هُوكْ) فِي ص ٣٢٦ مِنَ الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنْ رِحْلَتِهِ: " وَيَعْتَقِدُ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ بِتَجَسُّدِ أَحَدِ الْآلِهَةِ، وَتَقْدِيمِ نَفْسِهِ ذَبِيحَةً فِدَاءً لِلنَّاسِ مِنَ الْخَطِيئَةِ ".
وَقَالَ (مورينورليمس) فِي ص ٣٦ مِنْ كِتَابِهِ (الْهُنُودُ) : وَيَعْتَقِدُ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ بِالْخَطِيئَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي مُنَاجَاتِهِمْ، وَتَوَسُّلَاتِهِمُ الَّتِي يَتَوَسَّلُونَ بِهَا بَعْدَ " الْكِيَاتْرِي " وَهُوَ: إِنِّي مُذْنِبٌ، وَمُرْتَكِبُ الْخَطِيئَةِ، وَطَبِيعَتِي شِرِّيرَةٌ، وَحَمَلَتْنِي أُمِّي بِالْإِثْمِ، فَخَلِّصْنِي يَا ذَا الْعَيْنِ الْحَنْدُوقِيَّةِ، يَا مُخَلِّصَ الْخَاطِئِينَ مِنَ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ ".
27
وَقَالَ الْقَسُّ جُورَكْ كُوكْسَ فِي كِتَابِهِ (الدِّيَانَاتُ الْقَدِيمَةُ) فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْهُنُودِ: " وَيَصِفُونَ كَرَشْنَا بِالْبَطَلِ الْوَدِيعِ الْمَمْلُوءِ لَاهُوتًا لِأَنَّهُ قَدَّمَ شَخْصَهُ ذَبِيحَةً ".
وَنَقَلَ هِيجِينْ عَنْ (أندرادا الْكروزويوس) وَهُوَ أَوَّلُ أُورُبِّيٍّ دَخَلَ بِلَادَ
النِّيبَالِ وَالتِّبْتِ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِلَهِ (أَنْدَرَا) الَّذِي يَعْبُدُونَهُ: إِنَّهُ سُفِكَ دَمُهُ بِالصَّلْبِ وَثَقْبِ الْمَسَامِيرِ، لِكَيْ يُخَلِّصَ الْبَشَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ صُورَةَ الصَّلِيبِ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِهِمْ.
وَفِي كِتَابِ جورجيوس الرَّاهِبِ صُورَةُ الْإِلَهِ (أَنْدَرَا) هَذَا مَصْلُوبًا، وَهُوَ بِشَكْلِ صَلِيبٍ أَضْلَاعُهُ مُتَسَاوِيَةُ الْعَرْضِ مُتَفَاوِتَةُ الطُّولِ، فَالرَّأْسِيُّ أَقْصَرُهَا (وَفِيهِ صُورَةُ وَجْهِهِ) وَالسُّفْلِيُّ أَطُولُهَا، وَلَوْلَا صُورَةُ الْوَجْهِ لَمَا خَطَرَ لِمَنْ يَرَى الصُّورَةَ أَنَّهَا تُمَثِّلُ شَخْصًا.
هَذَا، وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ الْبُوذِيِّينَ فِي (بُوذَهْ) هُوَ أَكْثَرُ انْطِبَاقًا عَلَى مَا يَرْوِيهِ النَّصَارَى عَنِ الْمَسِيحِ، مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. حَتَّى إِنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ الْمَسِيحَ، وَالْمَوْلُودُ الْوَحِيدُ، وَمُخَلِّصَ الْعَالَمِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ كَامِلٌ، وَإِلَهٌ كَامِلٌ تَجَسَّدَ بِالنَّاسُوتِ، وَإِنَّهُ قَدَّمَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةً ; لِيُكَفِّرَ ذُنُوبَ الْبَشَرِ، وَيُخَلِّصَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَلَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَيَجْعَلَهُمْ وَارِثِينَ لِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.
بَيَّنَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ، مِنْهُمْ (بِيلْ) فِي كِتَابِهِ (تَارِيخُ بُوذَهْ) وَ (هُوكْ) فِي رِحْلَتِهِ وَ (مُولَرْ) فِي كِتَابِهِ (تَارِيخُ الْآدَابِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ) وَغَيْرُهُمْ.
وَمَنْ أَرَادَ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ إِلَهِ النَّصَارَى، وَآلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ الْأَوَّلِينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ فِي الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَهَلْ يُتَصَوَّرُ مِنْ مُسْلِمٍ هَدَاهُ اللهُ بِالْإِسْلَامِ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالدِّينِ الْقَيِّمِ دِينِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَى تَكْرِيمِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَحِبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَيَرْضَى لِنَفْسِهِ التَّخَبُّطَ فِي ظُلُمَاتِ الْعَقَائِدِ الْوَثَنِيَّةِ؟ !
(شُبَهَاتُ النَّصَارَى عَلَى إِنْكَارِ الصَّلْبِ)
(الشُّبْهَةُ الْأُولَى) : يَدَّعِي بَعْضُهُمْ فِيمَا يُمَوِّهُ بِهِ عَلَى عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلْبِ مُتَوَاتِرَةٌ، فَالْعِلْمُ بِهَا قَطْعِيٌّ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: أَنَّ دَعْوَى التَّوَاتُرِ مَمْنُوعَةٌ ; فَإِنَّ التَّوَاتُرَ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْبَارِ عَدَدٍ كَثِيرٍ، لَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ اتِّفَاقَهُمْ، وَتَوَاطُؤِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، بِشَيْءٍ قَدْ أَدْرَكُوهُ بِحَوَاسِّهِمْ إِدْرَاكًا صَحِيحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَكَانَ خَبَرُهُمْ بِذَلِكَ مُتَّفِقًا لَا خِلَافَ فِيهِ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّوَاتُرُ فِي طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ شَيْئًا (مَثَلًا) وَأَخْبَرُوا بِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّوَاتُرُ فِي طَبَقَاتٍ كَانَ
28
مَا بَعْدَ الْأُولَى مُخْبِرًا عَنْهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَفْرَادُ كُلِّ طَبَقَةٍ لَا يُجَوِّزُ عَقْلُ عَاقِلٍ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ قَدْ سَمِعَ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ يَحْصُلُ بِهِمُ التَّوَاتُرُ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ. وَأَنْ يَتَّصِلَ السَّنَدُ هَكَذَا إِلَى الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَا يَنْعَقِدُ التَّوَاتُرُ.
وَأَنَّى لِلنَّصَارَى بِمِثْلِ هَذَا التَّوَاتُرِ؟ وَالَّذِينَ كَتَبُوا الْأَنَاجِيلَ، وَالرَّسَائِلَ الْمُعْتَمَدَةَ عِنْدَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، وَمَنْ تُنْقَلُ عَنْهُ الْمُشَاهَدَةُ كَبَعْضِ النِّسَاءِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْوَهْمُ. بَلْ قَالَ يُوحَنَّا فِي إِنْجِيلِهِ: إِنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ وَهِيَ أَعْرِفُ النَّاسِ بِالْمَسِيحِ اشْتَبَهَتْ فِيهِ وَظَنَّتْ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، وَهُوَ قَدْ كَانَ صَاحِبَ آيَاتٍ، وَخَوَارِقَ عَادَاتٍ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْقَى شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَنْجُوَ بِالتَّشَكُّلِ بِصُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ، كَمَا رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: " إِنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ " وَكَمَا قَالَ مُرْقُسْ: إِنَّهُ ظَهَرَ لَهُمْ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى. ثُمَّ إِنَّ مَا عُزِيَ إِلَيْهِمْ، لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُمْ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، إِلَى الْعَصْرِ الَّذِي صَارَ لِلنَّصَارَى فِيهِ مُلْكٌ وَحُرِّيَّةٌ يُظْهِرُونَ فِيهِمَا دِينَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ انْقِطَاعَ أَسَانِيدِ هَذِهِ الْكُتُبِ بِالْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَةِ. وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا.
(الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) : يَقُولُونَ لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُتَوَاتِرَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، لَوُجِدَ، فِيهِمْ، مَنْ أَنْكَرَهَا، كَمَا وُجِدَتْ فِيهِمْ فِرَقٌ خَالَفَتِ الْجُمْهُورَ فِي أُصُولِ عَقَائِدِهِ ; كَالتَّثْلِيثِ، وَلَمْ تُخَالِفْهُ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا عَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَجْهَلُ تَارِيخَهُمْ، يَسِيرٌ عَلَى الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الصَّلْبَ مِنْهُمْ فِرْقَةُ السِّيرِنِثِيِّينَ، وَالتَّاتْيَانُوسِيِّينَ أَتْبَاعُ تَاتْيَانُوسَ تِلْمِيذِ يُوسْتِينُوسَ الشَّهِيدِ، وَقَالَ فُوتْيُوسُ: إِنَّهُ قَرَأَ كِتَابًا يُسَمَّى: " رِحْلَةُ الرُّسُلِ " فِيهِ أَخْبَارُ بُطْرُسَ، وَيُوحَنَّا، وَأَنْدَرَاوِسْ، وَتُومَا، وَبُولُسْ، وَمِمَّا قَرَأَهُ فِيهِ: " أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُصْلَبْ، وَلَكِنْ صُلِبَ غَيْرُهُ، وَقَدْ ضَحِكَ
بِذَلِكَ مِنْ صَالِبِيهِ "
هَذَا، وَإِنَّ مَجَامِعَهُمُ الْأُولَى قَدْ حَرَّمَتْ قِرَاءَةَ الْكُتُبِ الَّتِي تُخَالِفُ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ، وَالرَّسَائِلَ الَّتِي اعْتَمَدَتْهَا، فَصَارَ أَتْبَاعُهُمْ يَحْرِقُونَ تِلْكَ الْكُتُبَ وَيُتْلِفُونَهَا، وَإِنَّنَا نَرَى مَا سَلِمَ بَعْضُ نُسَخِهِ، مِنْهَا، كَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا يُنْكِرُ الصَّلْبَ، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ الَّتِي فُقِدَتْ كَانَتْ تُنْكِرُهُ أَيْضًا، فَنَحْنُ لَا ثِقَةَ لَنَا بِاخْتِيَارِ الْمَجَامِعِ لِمَا اخْتَارَتْهُ، فَنَجْعَلُهُ حُجَّةً، وَنَعُدُّ مَا عَدَاهُ كَالْعَدَمِ. عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْمُنْكِرِينَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِهِمْ، وَعَدَمُ وُجُودِهِمْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِتَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ثَابِتًا فِي نَفْسِهِ.
(الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) : يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنَاجِيلَ، وَرَسَائِلَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ قَدْ أَثْبَتَتِ الصَّلْبَ، وَهِيَ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ، فَوَجَبَ اعْتِقَادُ مَا أَثْبَتَتْهُ.
وَنَقُولُ (أَوَّلًا) : لَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ، وَلَا عَلَى أَنَّ كَاتِبِيهَا كَانُوا مَعْصُومِينَ، وَ (ثَانِيًا) : لَا دَلِيلَ عَلَى نِسْبَتِهَا إِلَى مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَ (ثَالِثًا)
29
أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِأَمْثَالِهَا كَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا، وَتَرْجِيحُهُمْ إِيَّاهَا عَلَى هَذَا الْإِنْجِيلِ لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا فِي اعْتِمَادِهَا تِلْكَ الْمَجَامِعَ الَّتِي لَا ثِقَةَ لَنَا بِأَهْلِهَا، وَلَا كَانُوا مَعْصُومِينَ عِنْدَهُمْ، وَلَا عِنْدَنَا، وَ (رَابِعًا) : أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ فِي قِصَّةِ الصَّلْبِ، وَفِي غَيْرِهَا، وَ (خَامِسًا) : أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِالْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي ثَبَتَ نَقْلُهُ بِالتَّوَاتُرِ الصَّحِيحِ، دُونَ غَيْرِهِ، فَقُصَارَى تِلْكَ الْكُتُبِ أَنْ تُفِيدَ الظَّنَّ بِالْقَرَائِنِ كَمَا قَالَ، تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَالْقُرْآنُ قَطْعِيٌّ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ.
إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَمُجَادِلِيهِمْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ مَحْفُوظَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ عَهْدِ الْمَسِيحِ إِلَى الْآنِ، وَأَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ فِرَقِهِمْ، وَمَعْرُوفَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْتَلِفُ فِيهَا اثْنَانِ. وَلَكِنْ مَنْ طَالَعَ كُتُبَهُمُ التَّارِيخِيَّةَ وَالدِّينِيَّةَ، يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ. وَإِنَّمَا يُصَدِّقُهُمُ الْمُسْلِمُونَ الْجَاهِلُونَ ; لِتَوَهُّمِ أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ نَشَأَتْ كَالْإِسْلَامِ فِي مَهْدِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَضَارَةِ، فَأَمْكَنَ حِفْظُ كُتُبِهَا كَمَا أَمْكَنَ حِفْظُ الْقُرْآنِ. وَشَتَّانَ بَيْنَ الْأُمَّتَيْنِ فِي نَشْأَتِهِمَا شَتَّانَ. وَإِلَيْكَ نَزْرًا مِنَ الْبَيَانِ، وَإِنْ شِئْتَ الْمَزِيدَ مِنْ مِثْلِهِ فَارْجِعْ إِلَى الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
الدَّلَائِلُ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِالْأَنَاجِيلِ: أَلَّفَ سَلْسُوسُ مِنْ عُلَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْمِيلَادِ كِتَابًا فِي إِبْطَالِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ قَالَ فِيهِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ أَكْهَارِنْ مِنْ عُلَمَاءِ أَلْمَانْيَةَ مَا تَرْجَمَتُهُ: " بَدَّلَ النَّصَارَى أَنَاجِيلَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا تَبْدِيلًا ; كَأَنَّ مَضَامِينَهَا بُدِّلَتْ ".
وَفِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْأَبْيُونِيَّةَ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْمِيلَادِ كَانَتْ تُصَدِّقُ إِنْجِيلَ مَتَّى وَحْدَهُ وَتُنْكِرُ مَا عَدَاهُ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْجِيلُ مُخَالِفًا لِإِنْجِيلِ مَتَّى الَّذِي ظَهَرَ بَعْدَ ظُهُورِ قُسْطَنْطِينَ، وَأَنَّ الْفِرْقَةَ الْمَارَسْيُونِيَّةَ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى الْقَدِيمَةِ كَانَتْ تَأْخُذُ بِإِنْجِيلِ لُوقَا، وَكَانَتِ النُّسْخَةُ الَّتِي تُؤْمِنُ بِهَا مُخَالِفَةً لِلْمَوْجُودَةِ الْآنَ، وَكَانَتْ تُنْكِرُ سَائِرَ الْأَنَاجِيلِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ.
وَفِي رِسَالَةِ بُولِسْ إِلَى أَهْلِ غِلَاطْيَةَ مَا نَصُّهُ (١: ٦ إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ (٧) لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ) هَكَذَا فِي تَرْجَمَةِ الْبُرُوتِسْتَانْتِ الْأَخِيرَةِ (يُحَوِّلُوا) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي نَقَلَ عَنْهَا كَثِيرُونَ " يُحَرِّفُوا " وَفِي تَرْجَمَةِ الْجِزْوِيتْ " يَقْلِبُوا " وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ بُولِسْ قَوْمٌ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى إِنْجِيلٍ غَيْرِ الَّذِي يَدْعُو هُوَ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ غَيْرَهُ أَنَّهُمْ حَرَّفُوهُ، أَوْ قَلَبُوهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ إِنْجِيلٌ آخَرُ، وَكَمَا اعْتَرَفَ بُولِسْ بِهَذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ فِي عَصْرِهِ رُسُلٌ كَذَّابُونَ غَدَّارُونَ
30
تَشَبَّهُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ. صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثِيوُسَ فَقَالَ: (١١: ١٣ لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى رُسُلِ الْمَسِيحِ (١٤) وَلَا عَجَبَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى مَلَاكِ نُورٍ (١٥) فَلَيْسَ عَظِيمًا إِذَا كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضًا يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ).
وَفِي سِفْرِ الْأَعْمَالِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ كَانُوا يَنْبَثُّونَ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ غَيْرَ مَا يُعَلِّمُهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ وَالْمَشَايِخَ أَرْسَلُوا بُولِسْ وَبِرْنَابَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ ;
لِتَحْذِيرِ إِخْوَانِهِمْ فِيهَا مِنَ الَّذِينَ يُوصُونَهُمْ بِالْخِتَانِ، وَحِفْظِ النَّامُوسِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ (١٥) مِنْهُ، وَفِي آخِرِهِ أَنَّهُ حَصَلَتْ مُشَاجَرَةٌ هُنَالِكَ بَيْنَ بُولِسْ وَبِرْنَابَا وَافْتَرَقَا. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ بُولِسْ كَانَ عَدُوَّ الْمَسِيحِيِّينَ، وَخَصْمَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْإِيمَانَ لَمْ يُصَدِّقْهُ جَمَاعَةُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْلَا أَنْ شَهِدَ لَهُ بِرْنَابَا لَمَا قَبِلُوهُ، وَبِرْنَابَا يَقُولُ فِي أَوَّلِ إِنْجِيلِهِ: إِنَّ بُولِسْ نَفْسَهُ كَانَ مِنَ الَّذِينَ بَشَّرُوا بِتَعْلِيمٍ جَدِيدٍ غَيْرِ تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ. فَمَعَ أَمْثَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ فِي أُمَّهَاتِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَثِقَ بِهَا؟
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ فِي قِصَّةِ الصَّلْبِ مِنْهَا: أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَنَّ الْمَسِيحَ بَذَلَ نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ فِدَاءً وَكَفَّارَةً عَنِ الْبَشَرِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ تُصَرِّحُ بِأَنَّهُ حَزِنَ وَاكْتَأَبَ عِنْدَمَا شَعَرَ بِقُرْبِ أَجَلِهِ، وَطَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ هَذِهِ الْكَأْسَ، فَفِي مَتَّى: (٣٧: ٢٦) ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ، وَابْنَي زَبْدَى، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ (٣٨) فَقَالَ لَهُمْ نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. امْكُثُوا هُنَا، وَاسْهَرُوا مَعِي (٣٩) ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا. بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ. فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً، وَصَلَّى قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، إِلَّا أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ.
وَمِثْلُ هَذَا فِي لُوقَا: (٢٢: ٤٣ - ٤٥) فَكَيْفَ يَقُولُ الْمَسِيحُ هَذَا، وَهُوَ إِلَهٌ عِنْدَهُمْ؟ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَجْهَلَ مَا يُمْكِنُ، وَمَا لَا يُمْكِنُ، وَأَنْ يَطْلُبَ إِبْطَالَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَرَادَ الْآبُ - وَهُوَ هُوَ عِنْدَهُمْ - أَنْ يَجْمَعَ بِهَا بَيْنَ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ؟
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهَا مَسْأَلَةُ اللِّصَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَالُوا: إِنَّهُمَا صُلِبَا مَعَهُ، قَالَ مُرْقُسُ: (١٥: ٢٧ وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ ; وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ، وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ (٢٨) فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: " وَأَحْصَى مَعَ أَثَمَةٍ " إِلَى أَنْ قَالَ: وَاللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَتَّى: (٢٧: ٤٤) وَأَمَّا لُوقَا فَقَدْ سَمَّى الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ صُلِبَا مَعَهُ: مُذْنِبَيْنِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (٢٣: ٣٩ وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ
31
الْمُعَلَّقَيْنِ مَعَهُ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلًا:
" إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا (٤٠) فَأَجَابَ الْآخَرُ وَانْتَهَرَهُ " إِلَخْ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَسِيحَ بَشَّرَ هَذَا بِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ فِي الْفِرْدَوْسِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَانَتْ نُبُوَّةُ الْكِتَابِ (الْمُرَادُ بِهِ أَشَعْيَا) أَنَّهُ يُصْلَبُ مَعَ أَثَمَةٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ثُمَّ كَانَ الْجَمْعُ اثْنَيْنِ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ كَيْفَ يَقُولُ اثْنَانِ مِنَ الْإِنْجِيلِيِّينَ الْمَعْصُومِينَ عَلَى رَأْيِهِمْ: إِنَّ الَّذِي عَيَّرَهُ وَأَهَانَهُ هُوَ أَحَدُهُمَا، وَالْآخَرَانِ وَهُمَا مِثْلُهُ فِي عِصْمَتِهِ يَقُولَانِ: بَلْ كِلَاهُمَا عَيَّرَاهُ؟ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُعَارَضَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ أَظْهَرِهَا: مَسْأَلَةُ دَفْنِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ وَقِيَامِهِ مِنَ الْقَبْرِ قَبْلَ فَجْرِ يَوْمِ الْأَحَدِ، مَعَ أَنَّ الْبِشَارَةَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، وَهِيَ مُدَّةُ يُونَانَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ.
وَمِنْهَا: مَسْأَلَةُ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي جِئْنَ الْقَبْرَ، وَفِيهَا عِدَّةُ خِلَافَاتٍ فِي وَقْتِ الْمَجِيءِ، وَرُؤْيَةِ الْمَلَكِ أَوِ الْمَلَكَيْنِ وَرُؤْيَتِهِ هُوَ إِلَخْ.
(الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُمْ: إِنَّ كُتُبَ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ قَدْ بَشَّرَتْ بِمَسْأَلَةِ الصَّلْبِ وَنَوَّهَتْ بِهَا تَنْوِيهًا.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ. بَلْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَأَوَّلْتُمْ عِبَارَاتٍ مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ وَجَعَلْتُمُوهَا مُشِيرَةً إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، أَوْ كَمَا قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: " إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ وَأَلْبَسْتُمُوهَا للْمَسِيحِ " كَمَا أَنَّكُمْ تَدَّعُونَ أَنَّ الذَّبَائِحَ الْوَثَنِيَّةَ كَانُوا يُشِيرُونَ بِهَا إِلَى صَلْبِ الْمَسِيحِ، فَكَأَنَّ جَمِيعَ خُرَافَاتِ الْبَشَرِ وَعِبَادَاتِهِمْ حُجَجٌ لَكُمْ عَلَى عَقِيدَتِكُمْ هَذِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَبَقُوكُمْ إِلَى مِثْلِهَا. عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَحَلِّهِ.
(الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ) : يَقُولُونَ: إِذَا جَازَ أَنْ يَشْتَبِهَ فِي الْمَسِيحِ وَيَجْهَلَ شَخْصَهُ الْجُنُودُ الَّذِينَ جَاءُوا لِلْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَالْحُكَّامُ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا صَلْبَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ فِي ذَلِكَ تَلَامِيذُهُ، وَمُرِيدُوهُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ؟
وَنَقُولُ: إِنَّ الْجَوَابَ عَلَى هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ عُهِدَ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يُشْبِهَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا شَبَهًا تَامًّا بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ أَحَدَ الْمُتَشَابِهَيْنِ الْمُعَاشِرُونَ وَالْأَقْرَبُونَ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا بَيْنَ الْغُرَبَاءِ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ. وَلَعَلَّهُ يَقِلُّ فِي الَّذِينَ يُسَافِرُونَ وَيَتَقَلَّبُونَ بَيْنَ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ، وَقَدْ وَقَعَ لِي غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ أُسَلِّمَ عَلَى رَجُلٍ غَرِيبٍ اشْتَبَهَ عَلَيَّ بِصَدِيقٍ لِي، ثُمَّ أَعْرِفُ بَعْدَ الْحَدِيثِ
مَعَهُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّنَا لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ نُورِدُ قَلِيلًا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَنِ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ يَثِقُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَنَا بِهِمْ مَا لَا يَثِقُونَ بِغَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الدُّعَاةَ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ، أَوْ مُقَلِّدَتُهُمْ.
قَالَ صَاحِبُ " كِتَابِ التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ " (أُمِيلُ الْقَرْنِ التَّاسِعِ عَشَرَ) حِكَايَةً عَنْ كِتَابٍ كَتَبَتْهُ امْرَأَةُ الدُّكْتُورِ إِرَاسِمْ إِلَى زَوْجِهَا مَا نَصُّهُ: " لَقَدْ كَثُرَ مَا لَاحَظْتُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَالْمَوْطِنِ تَشَابُهٌ كَالَّذِي يُوجَدُ بَيْنَ أَفْرَادِ
32
أُسْرَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْآخَرِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَتَدْرِي مَنْ هُوَ الَّذِي حَضَرَتْ صُورَتُهُ فِي ذِهْنِي عِنْدَ وُقُوعِ بَصَرِي عَلَى السَّيِّدَةِ وَارنجتُون؟ ذَلِكَ هُوَ صَدِيقُكَ يَعْقُوبُ نُقُولَا، خِلْتُنِي أَرَاهُ فِي زِيِّ امْرَأَةٍ " اهـ. فَهَذَا مِثَالٌ لِرَأْيِ الْكَاتِبِ فِي تَشَابُهِ النَّاسِ. وَفِي رِسَالَةٍ نُشِرَتْ فِي الْمُجَلَّدِ الْحَادِي عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ مَا نَصُّهُ (ص ٣٦٨) :
" وَيُوجَدُ فِي كُتُبِ الطِّبِّ الشَّرْعِيِّ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ فِي بَابِ تَحْقِيقِ الشَّخْصِيَّاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ لِلنَّاسِ الْخَطَأُ فِي مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَيَشْتَبِهُونَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ " جَاي " وَ " فرير " مُؤَلِّفَا (كِتَابِ أُصُولِ الطِّبِّ الشَّرْعِيِّ) فِي اللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ حَادِثَةً اسْتُحْضِرَ فِيهَا (١٥٠) شَاهِدًا لِمَعْرِفَةِ شَخْصٍ يُدْعَى " مارتين جير " فَجَزَمَ أَرْبَعُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُ هُوَ هُوَ، وَقَالَ خَمْسُونَ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَالْبَاقُونَ تَرَدَّدُوا جِدًّا وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُبْدُوا رَأْيًا، ثُمَّ اتَّضَحَ مِنَ التَّحْقِيقِ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ كَانَ غَيْرَ مَارتين جير، وَانْخَدَعَ بِهِ هَؤُلَاءِ الشُّهُودُ الْمُثْبِتُونَ، وَعَاشَ مَعَ زَوْجَةِ مَارتين مُحَاطًا بِأَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، وَكُلُّهُمْ مُصَدِّقُونَ أَنَّهُ مَارتين، وَلَمَّا حَكَمَتِ الْمَحْكَمَةُ عَلَيْهِ ; لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ اسْتَأْنَفَ الْحُكْمَ فِي مَحْكَمَةٍ أُخْرَى، فَأُحْضِرَ ثَلَاثُونَ شَاهِدًا آخَرُونَ، فَأَقْسَمَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ مارتين، وَقَالَ سَبْعَةٌ: إِنَّهُ غَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ الْبَاقُونَ، وَقَدْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ سَنَةَ ١٥٣٩ م، فِي فَرَنْسَا، وَأَمْثَالُهَا كَثِيرٌ.
" وَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَبَهِ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ لِغَيْرِهِمْ أَنْ وُجِدَ فِيهِمْ بَعْضُ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ شَابَهَهُمْ مِنَ الْكُسُورِ أَوِ الْجُرُوحِ أَوْ آثَارِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى تَعَسَّرَ تَمْيِيزُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ; وَلِذَلِكَ جَدَّ الْأَطِبَّاءُ فِي وَضْعِ مُمَيِّزَاتٍ لِأَشْخَاصِ الْبَشَرِ الْمُخْتَلِفِينَ " اهـ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : إِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا نَبِيَّهُ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَنْقَذَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَغَيَّرَ شَكْلَهُ هُوَ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَفِي أَنَاجِيلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ جُمَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ تُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا مِنْ قَبْلُ (مِنْهَا) قَوْلُهُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ يَوْمَئِذٍ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ يَتَشَكَّلُ بِغَيْرِ شَكْلِهِ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يَعْبُرَ عَنْهُ هَذِهِ الْكَأْسَ أَيْ قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ إِنْ أَمْكَنَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْخَاضِعَةِ لِمَشِيئَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى اسْتِجَابَةِ اللهِ لِدُعَائِهِ بِقَوْلِ يُوحَنَّا حِكَايَةً عَنْهُ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ الصَّلْبِ مِنْ آخِرِ الْفَصْلِ ١٦ " وَلَكِنْ ثِقُوا أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ " قَالَ هَذَا بَعْدَ إِخْبَارِهِمْ بِأَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ، وَيَبْقَى وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يَكُونُ مَعَهُ ; أَيْ بِعَوْنِهِ وَحِفْظِهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ مَتَّى (٢٦: ٥٦ حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلَامِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا) وَقَوْلُ مُرْقُسَ (١٤:
33
فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا) فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ التَّلَامِيذَ كُلَّهُمْ هَرَبُوا حِينَ جَاءَ الْجُنْدُ لِيَقْبِضُوا عَلَى الْمَسِيحِ، فَلَمْ يَكُنِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ هُنَالِكَ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اسْتِجَابَةِ اللهِ دَعَوَتَهُ بِأَنْ يُنْقِذَهُ، وَيَعْبُرَ عَنْهُ تِلْكَ الْكَأْسَ، عِبَارَةُ الْمَزْمُورِ (١٠٩) الَّتِي يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَسِيحُ. وَهَذَا نَصُّهَا " ٢٦ أَعِنِّي يَا رَبِّ، إِلَهِي، خَلِّصْنِي حَسَبَ رَحْمَتِكَ ٢٧، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ يَدُكَ، أَنْتَ يَا رَبِّ فَعَلَتْ هَذَا ٢٨، أَمَّا هُمْ فَيُلْعَنُونَ وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارِكُ، قَامُوا وَخُزُوا، أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ ٢٩ لِيَلْبَسَ خُصَمَائِي خَجَلًا، وَلْيَتَعَطَّفُوا بِخِزْيِهِمْ كَالرِّدَاءِ. أَحْمَدُ الرَّبَّ جِدًّا بِفَمِي وَفِي وَسَطِ كَثِيرِينَ أُسَبِّحُهُ ٣١ لِأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمِسْكِينِ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ ".
وَفِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي يَحْمِلُونَهَا عَلَى الْمَسِيحِ شَوَاهِدُ أُخْرَى بِمَعْنَى هَذَا.
(الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ) يَقُولُونَ: إِذَا كَانَ الْمَسِيحُ قَدْ نَجَا مِنْ أَعْدَائِهِ بِعِنَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَأَيْنَ ذَهَبَ؟ وَلِمَاذَا لَمْ يَقِفْ لَهُ أَحَدٌ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ؟.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ لَا تَرِدُ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ رُفِعَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا تَرِدُ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ تَوَفَّاهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، كَمَا رَفَعَ إِدْرِيسَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: لَا غَرَابَةَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنَّ أَخَاهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ بَيْنَ الْأُلُوفِ مِنْ قَوْمِهِ، الْخَاضِعِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَقَدِ انْفَرَدَ عَنْهُمْ، وَمَاتَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَكَيْفَ يُسْتَغْرَبُ أَنْ يَفِرَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
مِنْ قَوْمٍ أَعْدَاءٍ لَهُ، لَا وَلِيَّ لَهُ فِيهِمْ وَلَا نَصَيْرَ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ، قَدِ انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَقْتَ الشِّدَّةِ وَأَنْكَرَهُ أَمْثَلُهُمْ (بُطْرُسْ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ لَا بِدْعَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى مَكَانٍ مَجْهُولٍ، وَمَاتَ فِيهِ كَمَا مَاتَ مُوسَى (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) وَلَمْ يَعْرِفْ قَبْرَهُ أَحَدٌ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي آخِرِ سِفْرِ (تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ قَبْرَ الْمَسِيحِ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَدِ اكْتُشِفَ فِي الْهِنْدِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُ بَعْضِ النَّصَارَى بِعَدَمِ مَوْتِ الْمَسِيحِ بِالصَّلْبِ
رَوَوْا أَنَّ الْقَبْرَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الْمَصْلُوبُ وُجِدَ فِي صَبَاحِ الْأَحَدِ خَالِيًا وَاللَّفَائِفُ مُلْقَاةٌ، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالْوَثَنِيِّينَ لَمَّا عَلِمُوا بِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْجُثَّةَ سُرِقَتْ.
وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْمُدَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارِ وَكَذَا الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمَسِيحِيِّينَ الْعَقْلِيِّينَ: أَنَّ الَّذِي صُلِبَ لَمْ يَمُتْ. بَلْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أُنْزِلَ وَلُفَّ بِاللَّفَائِفِ، وَوُضِعَ فِي ذَلِكَ، النَّاوُوسِ أَفَاقَ وَأَلْقَى اللَّفَائِفَ حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِينَ رَفَعُوا الْحَجَرَ لِافْتِقَادِهِ خَرَجَ وَاخْتَفَى عَنِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ بِهِ أَعْدَاؤُهُ. وَمِمَّا أَوْرَدُوا مِنَ التَّقْرِيبِ عَلَى هَذَا، أَنَّ الْمَصْلُوبَ لَمْ يُجْرَحْ مِنْهُ إِلَّا كَفَّاهُ وَرِجْلَاهُ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنَ الْمَقَاتِلِ وَلَمْ يَمْكُثْ مُعَلَّقًا إِلَّا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَكَانَ يُمْكِنُ
34
أَنْ يَعِيشَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا جُرِحَ بِالْحَرْبَةِ خَرَجَ مِنْهُ دَمٌ وَمَاءٌ، وَالْمَيِّتُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صَلْبًا تَامًّا كَالْمُعْتَادِ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ.
وَمِنَ النُّقُولِ الصَّرِيحَةِ بِشُيُوعِ هَذَا الرَّأْيِ مَا جَاءَ فِي (ص ٥٦٣ مِنْ كِتَابِ ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ فِي بَيَانِ الْكِتَابِ) وَهُوَ: " فَلِلْكَفَرَةِ وَالْجَاحِدِينَ فِي تَكْذِيبِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ مَذَاهِبُ شَتَّى... فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَفَزَّتْهُمْ مَعَ بهردواك وَبُولِسْ غتلب حَمَاقَةُ الْجَهْلِ وَوَسَاوِسُ الْكُفْرِ إِلَى أَنْ قَالُوا: إِنَّ يَسُوعَ نَزَلَ عَنِ الصَّلِيبِ حَيًّا وَدُفِنَ فِي الْقَبْرِ حَيًّا ".
وَقَالَ (فِي ص ٥٦٤ مِنْهُ) : إِنَّ الْيَهُودَ وَالْوَثَنِيِّينَ وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمَسِيحِ وَدِينِهِ الْحَقِّ قَدْ تَوَغَّلُوا فِي بَيْدَاءِ الْهَذَيَانِ وَتَمَادَوْا فِي إِغْوَاءِ ضُلَّالِهِمْ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ تَلَامِيذَ
يَسُوعَ رَفَعُوا جَسَدَهُ خِفْيَةً، وَعَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْحُرَّاسِ، وَبَثُّوا فِي الْقَوْمِ أَنَّهُ انْبَعَثَ حَيًّا، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَائِعًا عِنْدَ الْيَهُودِ حِينَ كَتَبَ الْقِدِّيسُ مَتَّى إِنْجِيلَهُ (عَدَدُ ١٥ مِنْ فَصْلِ ٢٨ مِنْ مَتَّى) اهـ.
(الْقَوْلُ بِهِجْرَةِ الْمَسِيحِ إِلَى الْهِنْدِ) وَمَوْتِهِ فِي بَلْدَةِ (سَرَى نَكْرَا) فِي كَشْمِيرَ
يُوجَدُ فِي بَلْدَةِ سَرَى نَكْرَا وَ " نَقْرَ " (وَالْهُنُودُ تَكْتُبُ " نَكْرَ " بِالْكَافِ الْمُفَخَّمَةِ، وَهِيَ كَالْجِيمِ الْمِصْرِيَّةِ) مَقْبَرَةٌ فِيهَا مَقَامٌ عَظِيمٌ يُقَالُ هُنَاكَ: إِنَّهُ مَقَامُ نَبِيٍّ جَاءَ بِلَادَ كَشْمِيرَ مِنْ زُهَاءِ أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ يُسَمَّى بوزآسف، وَيُقَالُ إِنَّهُ اسْمُهُ الْأَصْلِيُّ عِيسَى صَاحِبٌ (وَكَلِمَةُ صَاحِبٍ فِي الْهِنْدِ لَقَبُ تَعْظِيمٍ كَلَقَبِ أَفَنْدِيٍّ عِنْدَ التُّرْكِ وَمِسْتَرْ وَمِسْيُو عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ) وَإِنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهُ ابْنُ مَلِكٍ. وَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مِمَّا يَتَنَاقَلُهُ أَهْلُ تِلْكَ الدِّيَارِ عَنْ سَلَفِهِمْ وَيُذْكَرُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ، وَإِنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَسَعْهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْقَبْرَ لِأَحَدِ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ أَوْ رُسُلِهِ.
ذَكَرَ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ غُلَامُ أَحْمَدَ الْقَادَيَانِيُّ الْهِنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ (الْهُدَى وَالتَّبْصِرَةُ لِمَنْ يَرَى) وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْإِجْمَالِ، وَأَنَّ تَفْصِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوجَدُ فِي كِتَابٍ مَعْرُوفٍ هُنَاكَ اسْمُهُ (إِكْمَالُ الدِّينِ) وَذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْقَبْرَ هُوَ قَبْرُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَرَسَمَ صُورَةَ الْمَقْبَرَةِ بِالْقَلَمِ، وَأَمَّا قَبْرُ الْمَسِيحِ فَوَضَعَهُ فِي الْكِتَابِ بِالرَّسْمِ الشَّمْسِيِّ (الْفُوتُوغْرَافِيِّ) مَكْتُوبًا عَلَيْهِ (مَقْبَرَةُ عِيسَى صَاحِبٍ).
وَغُلَامُ أَحْمَدَ هَذَا يُفَسِّرُ الْإِيوَاءَ فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٢٣: ٥٠)
35
بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْهِنْدِ وَاللُّجْأِ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي كَشْمِيرَ، فَإِنَّ الْإِيوَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ الْإِنْقَاذِ وَالتَّنْجِيَةِ مِنَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ
وَالْمَصَائِبِ وَالْمَخَاوِفِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٩٣: ٦) وَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ (٨: ٢٦) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ وَلَدِ نُوحٍ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ (١١: ٤٣) وَالرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَبِلَادُ كَشْمِيرَ مِنْ أَعْلَى بِلَادِ الدُّنْيَا، وَهِيَ ذَاتُ قَرَارٍ مَكِينٍ، وَمَاءٍ مَعِينٍ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الرَّبْوَةَ هِيَ رَمْلَةُ فِلَسْطِينَ أَوْ دِمَشْقَ الشَّامِ، وَلَوْ آوَى اللهُ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إِلَيْهِمَا لَمَا خَفِيَ مَكَانُهُمَا فِيهِمَا، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مُحَاوَلَةِ صَلْبِهِ وَتَأَلُّبِ الْيَهُودِ عَلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِيوَاءِ الَّذِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي الْإِنْقَاذِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا (٨: ٧٢) وَفِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢: ٦٩) وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ (١٢: ٩٩) وَلَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَبْلَ تَأَلُّبِ الْيَهُودِ عَلَيْهِ وَالسَّعْيِ لِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فِي مَخَافَةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْإِيوَاءِ فِي مَأْمَنٍ مِنْهُمْ، فَفِرَارُهُ إِلَى الْهِنْدِ وَمَوْتُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَقْلًا وَلَا نَقْلًا.
(الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ) يَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْخُذُونَ بِقَوْلِ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَغَيْرِهِ بِالْمَوْضُوعِ، وَأَقْوَالِ مُبْتَدَعَةِ النَّصَارَى الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ يَهُوذَا هُوَ الَّذِي صُلِبَ لَا الْمَسِيحُ مَعَ أَنَّ يَهُوذَا قَدِ انْتَحَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْإِنْجِيلِ.
وَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ: اتَّفَقَتِ النَّصَارَى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيَّ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَكَانَ يَهُوذَا رَجُلًا عَامِّيًّا مِنْ بَلْدَةٍ تُسَمَّى (خَرْيُوتَ) فِي أَرْضِ يَهُوذَا، تَبِعَ الْمَسِيحَ وَصَارَ مِنْ خَوَاصِّ أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يُلَقِّبُونَهُمْ بِالتَّلَامِيذِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ مَعَهُ فِي الْمَلَكُوتِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا، وَيَدِينُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; أَيْ يُحَاسِبُونَهُمْ فِي يَوْمِ الدِّينِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ يَهُوذَا كَانَ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ فِي خَلْقِهِ، كَمَا نَقَلَ (جُورْجُ سَايِلْ) الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِيمَا عَلَّقَهُ عَلَى سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ إِلَى (السِّيرْتِثِيِّينَ وَالْكَرْبُوكْرَاتِيِّينَ) مِنْ أَقْدَمِ فِرَقِ النَّصَارَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا صَلْبَ الْمَسِيحِ وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الَّذِي صُلِبَ هُوَ يَهُوذَا الَّذِي كَانَ يُشْبِهُهُ شَبَهًا تَامًّا.
وَقَالُوا: إِنَّ يَهُوذَا أَسِفَ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ إِسْلَامِهِ الْمَسِيحَ إِلَى الْيَهُودِ حَتَّى حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى بَخْعِ نَفْسِهِ (الِانْتِحَارِ) فَذَهَبَ إِلَى حَقْلٍ، وَخَنَقَ نَفْسَهُ فِيهِ (مَتَّى ٢٧: ٣ -) ١٠) أَوْ عَلَّقَهَا (أَعْمَالٌ ١: ١٨) وَغَرَضُنَا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ بَيَانُ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ يَهُوذَا فُقِدَ بَعْدَ حَادِثَةِ
36
الصَّلْبِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا هُوَ قَتْلُ نَفْسِهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْأَسَفِ، وَاخْتَلَفَ الرُّسُلُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانُوا مَعْصُومِينَ (؟) وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا فُقِدَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي صُلِبَ، وَالْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي نَجَّاهُ اللهُ - تَعَالَى - وَرَفَعَهُ، فَإِنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ انْفِعَالُهُ وَأَلَمُ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَبْخَعَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ خَنْقًا أَوْ شَنْقًا لَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَبْسُلَهَا بِالِاسْتِسْلَامِ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، فَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ يَهُوذَا عِنْدَمَا دَلَّ الْيَهُودَ عَلَى الْمَسِيحِ فِي اللَّيْلِ رَأَى بِعَيْنَيْهِ عِنَايَةَ اللهِ - تَعَالَى - بِإِنْجَائِهِ وَإِنْقَاذِهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ (كَمَا أَنْجَى أَخَاهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَيْدِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَكَانُوا أَشَدَّ مَعْرِفَةً لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْيَهُودِ لِلْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَذْلِ الْمَالِ لِمَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ كَمَا بَذَلَتِ الْيَهُودُ ثَلَاثِينَ قِطْعَةً مِنَ الْفِضَّةِ لِيَهُوذَا. فَخَرَجَ لَيْلَةَ الْهِجْرَةِ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ عِنْدَ دَارِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَلَمْ يُبْصِرُوهُ) فَلَمَّا رَأَى يَهُوذَا ذَلِكَ وَعَلِمَ دَرَجَةَ عِنَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عَظُمَ ذَنْبُهُ فِي نَفْسِهِ وَاسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُ ذَنْبَهُ كَمَا كَفَّرَ ذَنْبَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ مِنْ غَيْرِ مُقَاوِمَةٍ تُذْكَرُ. فَرِوَايَةُ الْإِنْجِيلِ وَسِفْرِ الْأَعْمَالِ عَنْ وِجْدَانِهِ مَخْنُوقًا أَوْ مَشْنُوقًا غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ، وَقَدْ تَعَارَضَ الْقَوْلَانِ فَتَسَاقَطَا، وَوَجَبَ اعْتِمَادُ قَوْلِ بِرْنَابَا الَّذِي أَخَذَ بِهِ بَعْضُ قُدَمَاءِ النَّصَارَى.
وَإِذَا كَانَ إِيمَانُ يَهُوذَا قَوِيًّا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ - دَرَجَةِ الِانْتِحَارِ وَالْبَخْعِ مِنْ أَلَمِ الذَّنْبِ - فَلَيْتَ شِعْرِي لِمَاذَا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ حَتَّى ادَّعَوْا أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا، وَأَنَّ كُرْسِيَّهُ فِي الْمَلَكُوتِ سَيَبْقَى خَالِيًا، وَبِشَارَةُ الْمَسِيحِ لَهُ لَا تَكُونُ صَادِقَةً، وَلِمَاذَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ بُطْرُسَ الَّذِي أَنْكَرَ الْمَسِيحَ وَتَرَكَهُ، وَلَعَنَهُ الْمَسِيحُ فِي حَيَاتِهِ وَسَمَّاهُ شَيْطَانًا، عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ دُونَ تَوْبَةِ يَهُوذَا، وَمَا كَانَ يَهُوذَا إِلَّا مُتَمِّمًا لِذَرِيعَةِ الْفِدَاءِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ عِنْدَهُمْ؟
الشُّبْهَةُ الثَّامِنَةُ: يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ قَامَ مِنْ قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَدَفْنِهِ وَظَهَرَ لِلنِّسَاءِ وَلِتَلَامِيذِهِ وَلِأُنَاسٍ آخَرِينَ، وَأَرَى بَعْضَهُمْ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ فِي جَسَدِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى قِيَامِهِ جَمِيعُ الْأَنَاجِيلِ، فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي صُلِبَ غَيْرُهُ؟ وَنَقُولُ أَوَّلًا: إِنَّهُ لَا ثِقَةَ لَنَا بِرِوَايَةِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، وَبَيَّنَّا الدَّلَائِلَ عَلَى عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا بِالِاخْتِصَارِ، وَمِنْهَا تَعَارُضُهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنُبَيِّنُهَا هُنَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّطْوِيلِ. وَثَانِيًا: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى سَبَبٌ ثُمَّ تَوَسَّعَ الْقَوْمُ فِيهَا كَمَا هِيَ عَادَتُهُمْ فِي الرِّوَايَاتِ عَنِ الْعَجَائِبِ وَالْمُسْتَغْرَبَاتِ حَتَّى تَسَنَّى لَبِوُلِسَ وَمُرِيدِيهِ أَنْ يُفْرِغُوهَا فِي هَذَا الْقَالَبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَسَتَرَى بَيَانَ هَذَا قَرِيبًا.
أَمَّا الْبَيَانُ الْأَوَّلُ: فَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى أَنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ وَمَرْيَمَ الْأُخْرَى (أَيْ أُمَّ يَعْقُوبَ) جَاءَتَا وَقْتَ الْفَجْرِ لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ فَوَجَدَتَا الْمَلَكَ قَدْ دَحْرَجَ الْحَجْرَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُمَا
37
أَنَّ يَسُوعَ قَامَ مِنْهُ وَسَبَقَ تَلَامِيذَهُ إِلَى الْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَهُ، فَذَهَبَتَا لِتُخْبِرَا التَّلَامِيذَ، فَلَاقَاهُمَا يَسُوعُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ لَهُمَا كَمَا قَالَ الْمَلَكُ (رَاجِعْ ٢٨ مَتَّى وَهُوَ الْفَصْلُ الْأَخِيرُ).
وَفِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ مِنْ مُرْقُسَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ ثَلَاثًا، الثَّالِثَةُ سَالُومَةُ، وَأَنَّهُنَّ جِئْنَ الْقَبْرَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُنَّ رَأَيْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجًا وَلَمْ يَقُلْ كَمَتَّى: إِنَّ الْمَلَكَ كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُنَّ وَجَدْنَ فِي الْقَبْرِ شَابًّا عَنِ الْيَمِينِ، وَإِنَّهُ قَالَ لَهُنَّ: " اذْهَبْنَ، وَقُلْنَ لِتَلَامِيذِهِ، وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ " فَزَادَ عَطْفَ بُطَرُسَ عَلَى التَّلَامِيذِ، وَقَالَ: إِنَّهُنَّ هَرَبْنَ وَلَمْ يَقُلْنَ لِأَحَدٍ شَيْئًا ; إِذْ أَخَذَتْهُنَّ الرِّعْدَةُ وَالْحَيْرَةُ وَكُنَّ خَائِفَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ ظَهَرَ أَوَّلًا لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ (أَيْ دُونَ مَنْ كَانَ مَعَهَا خِلَافًا لِمَتَّى) فَذَهَبَتْ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فَلَمْ يُصَدِّقُوا، ثُمَّ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لِاثْنَيْنِ وَهُمَا مُنْطَلِقَانِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَخْبَرَا الْبَاقِينَ فَلَمْ يُصَدِّقُوا (١٤) أَخِيرًا ظَهَرَ لِلْأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ، وَهَذَا مِمَّا زَادَهُ عَلَى مَتَّى.
وَأَمَّا لُوقَا فَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي جِئْنَ لِافْتِقَادِ الْقَبْرِ هُنَّ الثَّلَاثُ اللَّوَاتِي ذَكَرَهُنَّ مُرْقُسُ، وَلَا الثِّنْتَانِ اللَّتَانِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا مَتَّى، بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُنَّ نِسَاءٌ كُنَّ جِئْنَ مِنَ الْجَلِيلِ مَعَ يُوسُفَ الَّذِي دَفَنَ يَسُوعَ، وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَالدَّفْنَ. وَأَنَّهُنَّ جِئْنَ أَوَّلَ
الْفَجْرِ، لَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، كَمَا قَالَ مُرْقُسُ، وَأَنَّهُنَّ وَجَدْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجًا فَدَخَلْنَ الْقَبْرَ، وَلَمْ يَجِدْنَ الْجَسَدَ فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُنَّ وَجَدْنَ شَابًّا فِيهِ عَنِ الْيَمِينِ، كَمَا قَالَ مُرْقُسُ، وَلَا الْمَلَكَ عَلَى الْحَجَرِ خَارِجَهُ، كَمَا قَالَ مَتَّى. بَلْ قَالَ إِنَّهُنَّ بَيْنَمَا كُنَّ مُتَحَيِّرَاتٍ إِذَا رَجُلَانِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ، وَقَالَا لَهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ (وَهَذَا تَعْبِيرٌ قَدْ يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَذَكَّرَهُنَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يُسَلَّمُ وَيُصْلَبُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ. وَلَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِإِخْبَارِ التَّلَامِيذِ بِأَنْ يَسْبِقُوهُ إِلَى الْجَلِيلِ، وَأَنَّهُمْ هُنَاكَ يَرَوْنَهُ، كَمَا قَالَ مَتَّى وَمُرْقُسُ، وَقَالَ: إِنَّهُنَّ رَجَعْنَ وَأَخْبَرْنَ الْأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ) فَخَالَفَ مُرْقُسَ الَّذِي قَالَ: إِنَّهُنَّ لَمْ يَقُلْنَ شَيْئًا. وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ هُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَبُونَا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ. وَإِنَّ التَّلَامِيذَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ لَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ ; إِذْ تَرَاءَى لَهُمْ كَلَامُهُنَّ كَالْهَذَيَانِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ (أَيْ يَسُوعُ) مَشَى مَعَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى قَرْيَةِ عَمْوَاسَ، وَهِيَ عَلَى ٦٠ غَلْوَةً مِنْ أُورْشَلِيمَ (خِلَافًا لِمُرْقُسَ الَّذِي قَالَ: لِاثْنَيْنِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ) وَقَالَ: إِنَّ أَعْيُنَهُمَا أُمْسِكَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَأَنَّهُمَا ذَكَرَا قِصَّتَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ " إِنْسَانًا نَبِيًّا " وَأَنَّهُ وَبَّخَهُمَا وَوَصَفَهُمَا بِالْغَبَاوَةِ وَبُطْءِ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمَا ضَيَّفَاهُ فِي الْقَرْيَةِ، وَأَنَّهُ لَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا
38
وَأَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَرَ وَنَاوَلَهُمَا، انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، فَعَرَفَاهُ، ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا، وَأَنَّهُمَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ رَجَعَا إِلَى أُورْشَلِيمَ وَوَجَدَا الْأَحَدَ عَشَرَ (هَكَذَا مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا مِنْهُمْ فَيَكُونُ الْبَاقِي تِسْعَةً) مُجْتَمِعِينَ هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ ظَهَرَ لِسَمْعَانَ. فَأَخْبَرَاهُمْ خَبَرَهُمَا. وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُمْ، وَأَكَلَ مَعَهُمْ.
وَأَمَّا يُوحَنَّا فَقَدْ خَالَفَ الثَّلَاثَةَ فَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ (٢٠) أَنَّ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةَ جَاءَتْ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِرًا، وَالظَّلَامُ بَاقٍ، فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعًا، فَرَكَضَتْ إِلَى سَمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الْآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ. فَرَكَضَا إِلَى الْقَبْرِ، وَدَخَلَا فِيهِ ; فَرَأَيَا الْأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَكَانَتْ مَرْيَمُ تَبْكِي خَارِجَ الْقَبْرِ، ثُمَّ انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ فَنَظَرَتْ مَلَكَيْنِ جَالِسَيْنِ ; وَاحِدًا عِنْدَ الرَّأْسِ، وَالْآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ،
وَبَعْدَ الْكَلَامِ مَعَهُمَا عَنْ سَبَبِ بُكَائِهَا، الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفًا فَلَمْ تَعْرِفْهُ، وَظَنَّتْ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، ثُمَّ تَعَرَّفَ إِلَيْهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تُخْبِرَ التَّلَامِيذَ بِقَوْلِهِ " إِنِّي صَاعِدٌ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ " فَأَخْبَرَتْهُمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ التَّلَامِيذَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَشِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْأَبْوَابُ مُغْلَقَةً، خَوْفًا مِنَ الْيَهُودِ، فَجَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَأَنَّ تُومَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَظَهَرَ لَهُ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ (٢١) أَنَّهُ أَظْهَرَ نَفْسَهُ لِلتَّلَامِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ أَوَّلًا، ثُمَّ اصْطَادُوا سَمَكًا بِأَمْرِهِ وَحَضَرَ غَدَاءَهُمْ.
هَذَا مُلَخَّصُ دَعْوَى قِيَامِ يَسُوعَ مِنَ الْقَبْرِ بِرِوَايَةِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ، وَيَرَى الْمُتَأَمِّلُ فِيهَا أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُمْ فِي الْجَلِيلِ، كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ وَعَنِ الْمَلَكِ أَوِ الْمَلَكَيْنِ. وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ فِي الْمُتَعَارِضَيْنِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَنْ يُقَالَ: " تَعَادَلَا فَتَسَاقَطَا " وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنِ الْقَوْلِ بِهَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّعَارُضِ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ - اتِّقَاءَ الْوُقُوعِ فِي التَّرْجِيحِ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، نَقُولُ: إِنَّ رِوَايَاتِ الْأَرْبَعَةِ سَاقِطَةٌ لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا. فَهَذَا هُوَ بَيَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي الْمَبْنِيُّ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى سَبَبٌ أَوْ أَصْلٌ بُنِيَ عَلَيْهِ ; فَبَيَانُهُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَاعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ قَامَ مِنْ قَبْرِهِ، وَأَنَّهُ رَآهُ بَعْضُ النِّسَاءِ وَبَعْضُ تَلَامِيذِهِ، وَاضْطَرَبَتِ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ كُلُّ مُؤَلِّفِ إِنْجِيلٍ مَا سَمِعَهُ، وَأَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْإِشَاعَاتِ تَخَيُّلَ مَرْيَمَ الْمَجْدَلَانِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ الْمِزَاجِ (الَّتِي رَوَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ أَنَّ الْمَسِيحَ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ) أَنَّهَا رَأَتِ الْمَسِيحَ وَكَلَّمَتْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ الْخَيَالِيَّةُ اتَّفَقَتْ لِغَيْرِهَا أَيْضًا مِنَ التَّلَامِيذِ أَوْ غَيْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ سَمِعُوهَا مِنْهَا، وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ كَثِيرًا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بِالشَّوَاهِدِ.
39
وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْخَيَالِ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ وَبَّخَهُمْ عَلَى غَبَاوَتِهِمْ، وَضَعْفِ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَاشَرُوهُ زَمَنًا رَأَوْا فِيهِ مَا أَيَّدَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، أَوَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ مَا كَانَ بَعْضُهُمْ
يُصَدِّقُ بَعْضًا. بَلْ يَتَّهِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْكَذِبِ وَالْهَذَيَانِ، وَأَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ تَرَكُوا نَبِيَّهُمْ وَقْتَ الشِّدَّةِ، وَأَنْكَرَهُ أَمْثَلُهُمْ، وَارْتَشَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الصَّيَّادِينَ وَالنِّسَاءِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْهُمْ عَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْخَيَالِ، وَطَالَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَالِ الِانْفِعَالَاتِ الْعَصَبِيَّةِ لِلنَّاسِ، كَالْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَالْعِشْقِ، يَتَرَاءَى لِلْإِنْسَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ شَخْصٌ يُكَلِّمُهُ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا كَمَا يَحْصُلُ فِي الرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ. وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ رَاجَتْ سُوقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ حَتَّى صَارُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحْضِرُ الرُّوحَ، وَكَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ ; وَلِذَلِكَ احْتَرَسَ عَنْهُ بَعْضُ مُؤَلِّفِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ لَهُمْ خَافُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ رُوحًا، فَنَفَى هُوَ ذَلِكَ.
وَقَدْ كُنَّا بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي مُحَاكَمَةِ الْقَادِرِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ) الَّذِي أَلَّفْنَاهُ فِي زَمَنِ التَّحْصِيلِ. وَمِمَّا قُلْنَاهُ فِيهِ: إِنَّ الصُّوفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ وَالرُّؤْيَةِ الْخَيَالِيَّةِ. وَمِمَّا أَوْرَدْنَاهُ عَنْ صَاحِبِ كِتَابِ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي: وَاقِعَةٌ جَرَتْ فِي بَلَدِهِمْ (فَاسَ) قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْجَزَّارِينَ أَنَّهُ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ يُحِبُّهُ كَثِيرًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ شَخْصُهُ فِي فِكْرِهِ حَتَّى إِنَّ عَقْلَهُ وَجَوَارِحَهُ كَانَتْ كُلُّهَا مَعَهُ، فَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا إِلَى أَنْ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى بَابِ الْفُتُوحِ أَحَدِ أَبْوَابِ فَاسَ حَرَسَهَا اللهُ تَعَالَى لِشِرَاءِ الْغَنَمِ عَلَى عَادَةِ الْجَزَّارِينَ، فَجَالَ فِكْرُهُ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ الْمَيِّتِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَجُولُ فِكْرُهُ فِيهِ إِذْ رَآهُ عِيَانًا وَهُوَ قَادِمٌ إِلَيْهِ حَتَّى وَقَفَ إِلَى جَنْبِهِ. قَالَ فَكَلَّمْتُهُ وَقُلْتُ لَهُ: يَا وَلَدِي خُذْ هَذِهِ الشَّاةَ - لِشَاةٍ اشْتَرَيْتُهَا - حَتَّى أَشْتَرِيَ أُخْرَى، وَقَدْ حَصَلَتْ غَيْبَةٌ قَلِيلَةٌ عَنْ حِسِّي، فَلَمَّا سَمِعَنِي مَنْ كَانَ قَرِيبًا أَتَكَلَّمُ مَعَ الْوَلَدِ، قَالُوا: مَعَ مَنْ تَتَكَلَّمُ أَنْتَ؟ فَلَمَّا كَلَّمُونِي رَجَعْتُ إِلَى حِسِّي، وَغَابَ الْوَلَدُ عَنْ بَصَرِي، فَلَا يَدْرِي مَا حَصَلَ فِي بَاطِنِي مِنَ الْوَجْدِ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. اهـ.
وَمَا كُلُّ مَا يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَةٌ خَيَالِيَّةٌ كَالرُّؤْيَةِ الْمَنَامِيَّةِ، وَإِنَّنِي أَعْرِفُ امْرَأَةً كَبِيرَةَ السِّنِّ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا (الْقَلَمُونِ) كَانَتْ دَائِمًا تَرَى الْمَوْتَى، وَتُخَاطِبُهُمْ، وَتَأْنَسُ بِخِطَابِهِمْ تَارَةً، وَيَظْهَرُ عَلَيْهَا الِانْقِبَاضُ أُخْرَى. وَكَانَ أَكْثَرُ حَدِيثِهَا
مَعَ أَخٍ لَهَا مَاتَ غَرِيقًا. وَكُنْتُ أَجْزِمُ أَنَا، وَكُلُّ مَنْ عَرَفَهَا، بِأَنَّهَا غَيْرُ كَاذِبَةٍ وَلَا مُتَصَنِّعَةٍ. بَلْ كَانَتْ هَائِمَةً فِي ذَلِكَ، وَلَا تُبَالِي بِشَيْءٍ.
وَلَا يَغُرَنَّ الْعَاقِلَ انْتِشَارُ أَمْثَالِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَجَعْلِهَا مِنَ الْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ، فَإِنَّ هَذَا مَعْهُودٌ فِي النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الْفَيْلَسُوفُ الْعَالِمُ الِاجْتِمَاعِيُّ غوستاف لوبون
40
الْفَرَنْسِيُّ بَيَانًا عِلْمِيًّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ (رُوحُ الِاجْتِمَاعِ) وَمِمَّا قَالَهُ فِي بَيَانِ قَابِلِيَّةِ الْجَمَاعَاتِ لِلتَّأَثُّرِ وَالتَّصْدِيقِ وَانْخِدَاعِ الْفِكْرِ مَا يَأْتِي مُلَخَّصًا:
" إِنَّ سُرْعَةَ تَصْدِيقِ الْجَمَاعَةِ لَيْسَ هُوَ السَّبَبَ الْوَحِيدَ فِي اخْتِرَاعِ الْأَقَاصِيصِ الَّتِي تَنْتَشِرُ بَيْنَ النَّاسِ بِسُرْعَةٍ. بَلْ لِذَلِكَ سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ التَّشْوِيهُ الَّذِي يَعْتَوِرُ الْحَوَادِثَ فِي مُخَيِّلَةِ الْمُجْتَمِعِينَ ; إِذْ تَكُونُ الْوَاقِعَةُ بَسِيطَةً لِلْغَايَةِ فَتَنْقَلِبُ صُورَتُهَا فِي خَيَالِ الْجَمَاعَةِ بِلَا إِبْطَاءٍ ; لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تُفَكِّرُ بِوَاسِطَةِ التَّخَيُّلَاتِ، وَكُلُّ تَخَيُّلٍ يَجُرُّ إِلَى تَخَيُّلَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَدْنَى عَلَاقَةٍ مَعْقُولَةٍ ".
وَلَقَدْ كَانَ يَجِبُ تَعَدُّدُ صُوَرِ التَّشْوِيشِ الَّتِي تُدْخِلُهَا الْجَمَاعَةُ عَلَى حَادِثَةٍ شَاهَدَتْهَا، وَتَنَوُّعُ تِلْكَ الصُّوَرِ ; لِأَنَّ أَمْزِجَةَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ تَتَكَوَّنُ هِيَ مِنْهُمْ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ بِالضَّرُورَةِ، لَكِنَّ الْمُشَاهَدَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالتَّشْوِيشُ وَاجِبٌ عِنْدَ الْكُلِّ بِعَامِلِ الْعَدْوَى ; لِأَنَّ أَوَّلَ تَشْوِيشٍ تَخَيَّلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ كَالْخَمِيرَةِ تَنْتَشِرُ مِنْهُ الْعَدْوَى إِلَى الْبَقِيَّةِ. فَقَبْلَ أَنْ يَرَى جَمِيعُ الصَّلِيبِيِّينَ الْقِدِّيسَ جُورْجَ فَوْقَ أَسْوَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَانَ بِالطَّبْعِ قَدْ تَخَيَّلَهُ أَحَدُهُمْ أَوَّلًا فَمَا لَبِثَ التَّأَثُّرُ وَالْعَدْوَى أَنْ مَثَّلَاهُ لِلْبَقِيَّةِ جِسْمًا مَرْئِيًّا.
هَكَذَا وَقَعَتْ جَمِيعُ التَّخَيُّلَاتِ الْإِجْمَاعِيَّةِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي رَوَاهَا التَّارِيخُ، وَعَلَيْهَا كُلِّهَا مَسْحَةُ الْحَقِيقَةِ لِمُشَاهَدَتِهَا مِنَ الْأُلُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ النَّاسِ.
" وَلَا يَنْبَغِي فِي رَدِّ مَا تَقَدَّمَ الِاحْتِجَاجُ بِمَنْ كَانَ بَيْنَ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ الرَّاجِحِ وَالذَّكَاءِ الْوَافِرِ ; لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِتِلْكَ الصِّفَةِ فِي مَوْضُوعِنَا ; إِذِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّظَرِ وَالتَّمْيِيزِ مَا دَامُوا فِي الْجَمَاعَةِ، وَرُبَّ مُعْتَرِضٍ يَقُولُ:
إِنَّ تِلْكَ سَفْسَطَةٌ لِأَنَّ الْوَاقِعَ غَيْرُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ بَيَانَهُ يَسْتَلْزِمُ سَرْدَ عَدَدٍ عَظِيمٍ مِنَ الْحَوَادِثِ التَّارِيخِيَّةِ، وَلَا يَكْفِي لِهَذَا الْعَمَلِ عِدَّةُ مُجَلَّدَاتٍ، غَيْرَ أَنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَتْرُكَ الْقَارِئَ أَمَامَ قَضَايَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ سَآتِي بِبَعْضِ الْحَوَادِثِ أَنْقُلُهَا بِلَا انْتِقَاءٍ مِنْ بَيْنِ الْأُلُوفِ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُمْكِنُ سَرْدُهَا.
" وَأَبْدَأُ بِرِوَايَةِ وَاقِعَةٍ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي مَوْضُوعِنَا ; لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ خَيَالٍ اعْتَقَدَتْهُ جَمَاعَةٌ ضَمَّتْ إِلَى صُفُوفِهَا مِنَ الْأَفْرَادِ صُفُوفًا وَأَنْوَاعًا مَا بَيْنَ جَاهِلٍ غَبِيٍّ، وَعَالَمٍ أَلْمَعِيٍّ، رَوَاهَا عَرَضًا رُبَّانُ السَّفِينَةِ (جُولْيَانُ فِيلِيكْسَ) فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي مَجَارِي مِيَاهِ الْبَحْرِ، وَسَبَقَ نَشْرُهَا فِي (الْمَجَلَّةِ الْعِلْمِيَّةِ) قَالَ:
" كَانَتِ الْمُدَرَّعَةُ (بِيلْ بُولْ) تَبْحَثُ فِي الْبَحْرِ عَنْ بَاخِرَةٍ (بِيرْسُو) حَيْثُ كَانَتْ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهَا بِعَاصِفَةٍ شَدِيدَةٍ، وَكَانَ النَّهَارُ طَالِعًا، وَالشَّمْسُ صَافِيَةً، وَبَيْنَمَا هِيَ سَائِرَةٌ إِذَا بِالرَّائِدِ يُشِيرُ إِلَى زَوْرَقٍ يُسَاوِرُهُ الْغَرَقُ، فَشَخَصَ رِجَالُ السَّفِينَةِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا، وَرَأَوْا جَمِيعًا مِنْ عَسَاكِرَ وَضُبَّاطٍ زَوْرَقًا مَشْحُونًا بِالْقَوْمِ، تَجُرُّهُ سُفُنٌ تَخْفِقُ عَلَيْهَا أَعْلَامُ الْيَأْسِ وَالشِّدَّةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ خَيَالًا، فَقَدْ أَنْفَذَ الرُّبَّانُ زَوْرَقًا صَارَ يَنْهَبُ الْبَحْرَ إِنْجَادًا لِلْبَائِسِينَ.
41
فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُمْ، رَأَى مَنْ فِيهِ مِنَ الْعَسَاكِرِ وَالضُّبَّاطِ أَكْدَاسًا مِنَ النَّاسِ يَمُوجُونَ وَيَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ، وَسَمِعُوا ضَجِيجًا مُبْهَمًا يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهٍ عَدِيدَةٍ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا الْمَرْئِيَ وَجَدُوهُ أَغْصَانَ أَشْجَارٍ مُغَطَّاةٍ بِأَوْرَاقٍ قُطِعَتْ مِنَ الشَّاطِئِ الْقَرِيبِ. وَإِذْ تَجَلَّتِ الْحَقِيقَةُ غَابَ الْخَيَالُ.
" هَذَا الْمِثَالُ يُوَضِّحُ لَنَا عَمَلَ الْخَيَالِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِحَالٍ لَا تَحْتَمِلُ الشَّكَّ، وَلَا الْإِبْهَامَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. فَهُنَا جَمَاعَةٌ فِي حَالَةِ الِانْتِظَارِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَهُنَاكَ رَائِدٌ يُشِيرُ إِلَى وُجُودِ مَرْكَبٍ حَفَّهُ الْخَطَرُ وَسَطَ الْمَاءِ، فَذَلِكَ مُؤَثِّرٌ سَرَتْ عَدْوَاهُ، فَتَلَقَّاهُ كُلُّ مَنْ فِي الْبَاخِرَةِ مِنْ عَسَاكِرَ وَضُبَّاطٍ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ.
ثُمَّ بَيَّنَ الْمُؤَلِّفُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِانْخِدَاعِ يَقَعُ لِلْجَمَاعَاتِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فِيمَا هُوَ بَعِيدٌ عَنِ اخْتِصَاصِهِمُ الْعِلْمِيِّ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْوَاقِعَةِ الْآتِيَةِ:
(قَالَ) : وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ لَنَا (مِسْيُو دَافِي) أَحَدُ عُلَمَاءِ النَّفْسِ الْمُحَقِّقِينَ وَقَدْ نَشَرَتْهُ حَدِيثًا مَجَلَّةُ (أَعْصُرُ الْعُلُومِ النَّفْسِيَّةِ) وَهُوَ: دَعَا (مِسْيُو دَافِي)
جَمَاعَةً مِنْ كِبَارِ أَهْلِ النَّظَرِ ; مِنْهُمْ عَالِمٌ مِنْ أَشْهَرِ عُلَمَاءِ إِنْكِلْتِرَةَ وَهُوَ (مِسْتَرْ وَلَاسْ) وَقَدَّمَ لَهُمْ أَشْيَاءَ لَمَسُوهَا بِأَيْدِيهِمْ، وَوَضَعُوا عَلَيْهَا خُتُومًا كَمَا شَاءُوا، ثُمَّ أَجْرَى أَمَامَهُمْ جَمِيعَ ظَوَاهِرِ فَنِّ اسْتِخْدَامِ الْأَرْوَاحِ: مِنْ تَجْسِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْكِتَابَةِ عَلَى الْأَلْوَاحِ، حَتَّى كَتَبُوا لَهُ شَهَادَاتٍ قَالُوا فِيهَا: إِنَّ الْمُشَاهَدَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ أَمَامَهُمْ، لَا تُنَالُ إِلَّا بِقُوَّةٍ فَوْقَ قُوَّةِ الْبَشَرِ، فَلَمَّا صَارَتِ الشَّهَادَاتُ فِي يَدِهِ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَمِلَهُ شَعْوَذَةٌ بَسِيطَةٌ جِدًّا. قَالَ رَاوِي الْحَادِثَةِ: لَيْسَ الَّذِي يُوجِبُ الدَّهَشَ وَالِاسْتِغْرَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ إِبْدَاعُ (دَافِي) وَمَهَارَتُهُ فِي الْحَرَكَاتِ الَّتِي عَمِلَهَا. بَلْ هُوَ ضَعْفُ الشَّهَادَاتِ الَّتِي كَتَبَهَا أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ " ثُمَّ اسْتَنْتَجَ الْمُؤَلِّفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ: إِذَا كَانَ انْخِدَاعُ الْعُلَمَاءِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَاقِعًا فَمَا أَسْهَلَ انْخِدَاعَ الْعَامَّةِ!.
ثُمَّ ذَكَرَ حَادِثَةً وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ كِتَابَتِهِ لِهَذَا الْبَحْثِ، وَخَاضَتْ فِيهِ جَرَائِدُ بَارِيسَ، وَكَانَ مَنْشَأُ الِانْخِدَاعِ فِيهَا الشَّبَهَ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ بَحْثِنَا، قَالَ (فِي ص ٥٠ مِنَ النُّسْخَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَرْجَمَةِ) :
" أَنَا أَكْتُبُ هَذِهِ السُّطُورَ، وَالْجَرَائِدُ مَلْأَى بِذِكْرِ غَرَقِ بِنْتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، وَإِخْرَاجِ جُثَّتَيْهِمَا مِنْ نَهْرِ (السِّينِ) عُرِضَتِ الْجُثَّتَانِ، فَعَرَفَهُمَا بِضْعَةُ عَشَرَ شَخْصًا مَعْرِفَةً مُؤَكَّدَةً، وَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهَا اتِّفَاقًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَكٌّ فِي نَفْسِ قَاضِي التَّحْقِيقِ فَأَذِنَ بِدَفْنِهِمَا، وَبَيْنَمَا النَّاسُ يَتَأَهَّبُونَ لِذَلِكَ سَاقَ الْقَدْرُ الْبِنْتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَرَفَهُمَا الشُّهُودُ بِالْإِجْمَاعِ، وَظَهَرَ أَنَّهُمَا بَاقِيَتَانِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَفْقُودَتَيْنِ إِلَّا شَبَهٌ بِعِيدٌ جِدًّا، وَالَّذِي وَقَعَ هُوَ عَيْنُ مَا وَقَعَ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا: تَخَيَّلَ الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْغَرِيقَتَيْنِ هُمَا فُلَانَةٌ وَفُلَانَةٌ، فَقَالَ ذَلِكَ، فَسَرَتْ عَدْوَى التَّأْثِيرِ إِلَى الْبَاقِي " اهـ.
تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى تَخَيُّلِ بَعْضِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ تَقَعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ
42
وَمَكَانٍ، وَيَنْخَدِعُ بِهَا الْعُلَمَاءُ كَالْعَوَامِّ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ غُوسْتَافُ لُوبُونْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يُجْهَلُ تَعْلِيلُهُ مِنَ الْفَلَتَاتِ وَالشَّوَاذِّ، وَإِنَّنَا بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ بِأَيَّامٍ جَاءَتْنَا مَجَلَّةُ الْمُقْتَطَفِ (الصَّادِرَةُ فِي ٢٣ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذَا الْعَامِ ١٣٣١) فَقَرَأْنَا فِي مَقَالَةٍ فِيهَا عُنْوَانُهَا (مُنَاجَاةُ الْأَرْوَاحِ وَالْبَحْثُ فِي النَّفْسِ) : أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْ عُلَمَاءِ الْإِنْجِلِيزِ وَكِبَارِ عُقَلَائِهِمُ الثِّقَاتِ شَاهَدُوا وَاقِعَةً مِنْ وَقَائِعِ مُسْتَحْضِرِي
الْأَرْوَاحِ، احْتَاطُوا فِيهَا أَشَدَّ الِاحْتِيَاطِ ; لِئَلَّا تَكُونَ غِشًّا أَوْ شَعْوَذَةً، وَكَانَ الْوَسِيطُ فِيهَا - أَيِ الَّذِي يَسْتَحْضِرُ الرُّوحَ - رَجُلًا اسْمُهُ (مِسْتَرْ هُومْ) وَقَدْ شَهِدَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ الثِّقَاتُ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا الرُّوحَ الْمُسْتَحْضَرَ فَخَاطَبَ كُلًّا مِنْهُمْ بِاسْمِهِ، وَأَجَابَهُ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ وَأَنَّ أَحَدَهُمْ سَأَلَهُ: أَلَكَ جِسْمٌ حَقِيقِيٌّ أَمْ أَنْتَ خَيَالٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ جِسْمِي أَقْوَى مِنْ جِسْمِكَ، فَامْتَحَنَهُ بِوَضْعِ أُصْبُعِهِ فِي فِيهِ فَأَلْفَاهُ حَارًّا، وَأَسْنَانُهُ صُلْبَةٌ حَادَّةٌ، وَعَضَّهُ عَضَّةً صَرَخَ مِنْ أَلَمِهَا.
قَالَ الْمُقْتَطَفُ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَاقِعَةِ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَعْوَذَةً مِنْ (مِسْتَرْ هُومْ) أَيْ وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ قَدْ رَبَطُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِأَسْلَاكٍ مِنَ النُّحَاسِ إِلَى كُرْسِيٍّ مُتَّصِلٍ بِالْمَوْقِدِ مُوَثَّقًا بِذَلِكَ الرِّبَاطِ، وَلَحَمُوا الْأَسْلَاكَ بِلِحَامٍ مَعْدِنِيٍّ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ أَنْ تُزِيحَهُ مِنْ مَكَانِهِ مَا لَمْ تُقْطَعِ الْأَسْلَاكُ الْمَعْدِنِيَّةُ، ثُمَّ رَأَوْهُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْوَاقِعَةِ كَمَا تَرَكُوهُ فِي قُيُودِهِ وَأَغْلَالِهِ.
(ثُمَّ قَالَ الْمُقْتَطَفُ وَهُوَ مَحِلُّ الشَّاهِدِ) :" وَإِذَا لَمْ يَكُنْ (هُومْ) قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُوكَسْ وَكْرُوكَسْ وَغِلْتُونْ قَدْ خُدِعُوا كُلُّهُمْ فَرَأَوْا مَا لَا يُرَى وَسَمِعُوا مَا لَا يُسْمَعُ ; لِأَنَّهُ كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْضُ النَّاسِ أَفْعَالًا خَارِقَةً، لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُمْ فِعْلَهَا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَيَّلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، كَيْفَ لَا؟ وَالنَّائِمُ وَالْحَادِسُ يَرَيَانِ وَيَسْمَعَانِ مَا لَا وُجُودَ لَهُ ".
أَقُولُ: فَإِذَا جَازَ فِي رَأْيِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ وَفَلَاسِفَتِهِ أَنْ يَنْخَدِعَ الْعُلَمَاءُ الطَّبِيعِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ بِالتَّخَيُّلِ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْخَدِعَ بِهِ مِثْلُ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ (الْهِسْتِيرِيَّةِ) وَتُومَا وَإِخْوَانِهِ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ! وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَخَيَّلَ ضُبَّاطُ الْمُدَرَّعَةِ (بِيلْ بُولْ) وَعَسْكَرُهَا وَبَحَّارَتُهَا زَوْرَقًا يُسَاوِرُهُ الْغَرَقُ، فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ بِأَعْيُنِهِمْ، وَهُوَ مُكْتَظٌّ بِالْمُسْتَنْجِدِينَ الْمُسْتَغِيثِينَ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَيْدِيَهُمْ تُومِئُ وَتُشِيرُ، وَيَسْمَعُونَ جَلَبَتَهُمْ بِالصِّيَاحِ وَالضَّجِيجِ، وَإِذَا جَازَ أَيْضًا أَنْ يَتَخَيَّلَ جَمَاهِيرُ الصَّلِيبِيِّينَ الْقِدِّيسَ جُورْجَ فَوْقَ أَسْوَارِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ; فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ حَقِيقَةً، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا التَّخَيُّلِ فِي أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْمَسِيحَ بَعْدَ حَادِثَةِ الصَّلْبِ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَلَى انْقِطَاعِ سَنَدِهَا؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَجْزِمَ بِضْعَةُ عَشَرَ شَاهِدًا فِي الْبِنْتَيْنِ
43
اللَّتَيْنِ غَرِقَتَا فِي نَهْرِ السِّينِ جَزْمًا مَبْنِيًّا عَلَى مَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْزِمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي يَهُوذَا الَّذِي كَانَ يُشْبِهُ الْمَسِيحَ مَنْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ؟ !
وَقَعَ فِي عَصْرِنَا هَذَا وَاقِعَتَانِ مِنْ قَبِيلِ مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الْمَسِيحِ، وَرُؤْيَةِ الْقِدِّيسِ جُورْجَ (إِحْدَاهُمَا) : وَقَعَتْ فِي الشَّامِ مُنْذُ سِنِينَ ; وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا اسْمُهُ عَلِي رَاغِب اشْتَغَلَ بِالتَّصَوُّفِ وَالرِّيَاضَةِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْخَيَالَاتُ فَكَانَ إِذَا تَخَيَّلَ شَيْئًا مُهِمًّا عِنْدَهُ يَتَمَثَّلُ لَهُ، كَأَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدِ اشْتَغَلَ زَمَنًا بِقِرَاءَةِ الْأَنَاجِيلِ حَتَّى كَانَ يَحْفَظُ مِنْهَا مَا لَا يَكَادُ يَحْفَظُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى، ثُمَّ إِنَّهُ عَاشَرَ بَعْضَ النَّصَارَى فِي دِمَشْقَ حَتَّى كَانَ يَحْضُرُ كَنَائِسَهُمْ، فَكَثُرَ تَخَيُّلُهُ لِقِصَّةِ الصَّلْبِ الَّتِي قَرَأَهَا فِي الْأَنَاجِيلِ فَرَأَى الْمَسِيحَ مَرَّةً مُتَمَثِّلًا أَمَامَهُ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الصَّلْبِ، وَرَأَى أَثَرَ الْمَسَامِيرِ فِي يَدَيْهِ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ حِسِّيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَخَطَبَ فِي النَّصَارَى بِذَلِكَ، فَصَدَّقُوهُ وَقَالُوا إِنَّهُ قِدِّيسٌ، وَشَاعَتِ الْمَسْأَلَةُ وَلَغَطَ النَّاسُ بِهَا، ثُمَّ الْتَقَى الشَّيْخُ طَاهِرٌ الْجَزَائِرِيُّ بِالشَّيْخِ رَاغِبٍ هَذَا، وَتَحَدَّثَا فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَفْجَأْهُ الشَّيْخُ طَاهِرُ بِالتَّخْطِئَةِ، بَلْ شَغَلَ بَالَهُ وَخَيَالَهُ بِآيَاتِ الْمَسِيحِ، وَبِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الظُّهُورِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ (كَمَا ذَكَرُوا فِي الْإِنْجِيلِ) وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا إِلَى مَسْأَلَةِ إِلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى يَهُوذَا، وَمَا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ التَّشْبِيهِ لَهُمْ، فَمَا زَالَ يُحَدِّثُهُ بِمِثْلِ هَذَا حَتَّى ذَهَبَ، وَلِقِصَّةِ الصَّلْبِ فِي خَيَالِهِ صُورَةٌ أُخْرَى، فَرَأَى الْمَسِيحَ مُتَمَثِّلًا أَمَامَهُ، وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ وَلَا غَيْرِهَا أَثَرٌ لِلصَّلْبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ مَسْأَلَةِ الصَّلْبِ فَقَالَ لَهُ: أَلْقَيْتُ عَلَى يَهُوذَا صُورَةً مِنْ صُوَرِي فَأَخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَذَهَبَ الشَّيْخُ رَاغِبٌ وَخَطَبَ فِي النَّصَارَى بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ فَنَبَذُوهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَجْنُونٌ. فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ تُشْبِهُ رُؤْيَةَ تُومَا لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَأَمَّا الْوَاقِعَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَخَيَّلَ أَنَّ الشَّيْخَ الْمَتْبُولِيَّ خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ الْمَعْرُوفِ بِجِوَارِ مَحَطَّةِ مِصْرَ، وَوَقَفَ عَلَى قُبَّتِهِ، ثُمَّ طَارَ فِي الْهَوَاءِ، وَنَزَلَ عَلَى الْكَنِيسَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي يُنْشِئُهَا الْيُونَانِيُّونَ، وَلَمَّا شَاعَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْقَاهِرَةِ، اجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ عِنْدَ الْكَنِيسَةِ، وَصَارُوا يَهْتِفُونَ بِاسْمِ الْمَتْبُولِيِّ، فَفَرَّقَتْهُمُ الشُّرْطَةُ وَالشَّحْنَةُ بِالْقُوَّةِ، وَادَّعَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْمَتْبُولِيَّ فِيهَا. وَرَوَتْ بَعْضُ الْجَرَائِدِ
الْيَوْمِيَّةِ أَنَّ مَجْذُوبًا مِنْ أَبْنَاءِ السَّبْعِينَ قَالَ: أَنَا الْمَتْبُولِيُّ، فَصَدَّقَهُ النَّاسُ، وَصَارُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ. وَلَوْلَا حَزْمُ الْحُكُومَةِ لَحَدَثَ بَيْنَ عَوَامِّ الْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِيِّينَ مِنْ جَرَّاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِتَنٌ سُفِكَتْ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَلَكِنَّ الْحُكُومَةَ تَدَارَكَتْ ذَلِكَ، وَفَرَّقَتْ شَمْلَ الْجَمَاهِيرِ، وَقَبَضَتْ عَلَى بَعْضِهِمْ وَحَبَسَتْهُمْ.
هَذَا، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يُنَاجُونَ الْأَرْوَاحَ يَرَوْنَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ كَثِيرًا، وَقَدْ تَعَرَّفَ إِلَيَّ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْمَظَاهِرِ الدُّنْيَوِيَّةِ، يُخْفِي تَصَوُّفَهُ عَنْ أَقْرَانِهِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يَرَى أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَتَلَقَّى عَنْهُمْ عُلُومًا يَكْتُبُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ رَأَى عِيسَى وَمَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا
44
السَّلَامُ - مِرَارًا وَتَلَقَّى عَنْهُمَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ مَرْيَمَ عَنْ تَمَثُّلِ الْمَلَكِ لَهَا وَنَفْخِهِ فِيهَا، فَأَجَابَتْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ نَحْوُ مَا يَحْصُلُ بِالزَّوَاجِ مِنَ التَّلْقِيحِ، وَسَأَلْتُهُ أَنَا عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَرْوَاحِ الَّذِي نَسْمَعُهُ عَنِ الْإِفْرِنْجِ، هَلْ هُوَ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُؤْثَرُ عَنِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ قَبْلِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَهُ حِيَلٌ، وَبَعْضَهُ لَهُ أَصْلٌ دُونَ مَا عِنْدَنَا وَأَبْعَدُ عَنْهُ بِمَرَاحِلَ. وَأَنَا لَا أَتَّهِمُ هَذَا الرَّجُلَ بِالْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَتَّهِمُ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَقُولُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ خَيَالِيَّةً أَيْضًا كَرُؤْيَةِ الشَّيْخِ رَاغِبٍ فَهِيَ تُؤَكِّدُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةِ الْمَسِيحِ، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً - وَهِيَ وَلَا شَكَّ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا يُثْبِتُهُ الْكَثِيرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ - فَهِيَ مُصَدِّقَةٌ لِخَبَرِ الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَنَاقِضَةٌ لِتِلْكَ الْعَقِيدَةِ الْخَيَالِيَّةِ، الْمُقَرَّرِ مِثْلُهَا عِنْدَ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ.
حَاصِلُ الْمَبَاحِثِ وَالشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَسِيحِ: حَاصِلُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ: أَنَّ قِصَّةَ الصَّلْبِ لَيْسَ لَهَا سَنَدٌ مُتَّصِلٌ إِلَى الْأَفْرَادِ الَّذِينَ رُوِيَتْ عَنْهُمْ، وَأُولَئِكَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ رَوَوْهَا غَيْرُ مَعْرُوفِينَ مَعْرِفَةً يَقِينِيَّةً، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَلَّفَهَا عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ، وَأَنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ الْإِسْنَادِ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ النَّصْرَانِيَّةَ الْمَعْرُوفَةَ الْآنَ هُوَ بُولِسِ الْيَهُودِيُّ الَّذِي كَانَ أَشَدَّ أَعْدَاءِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَلَدَّ خُصُومِ أَتْبَاعِهِ خِصَامًا، ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نِكَايَتِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَمْرِهِمْ إِلَّا بِدُخُولِهِ فِيهِمْ، فَفَعَلَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الصَّلْبِ، وَرُؤْيَةِ الْمَسِيحِ بَعْدَهُ،
فَالَّذِي يَقْرُبُ مِنَ الْمَعْقُولِ فِي تَصْوِيرِهِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ.
وَلَا يَرُوعَنَّ الْقَارِئَ الْمُسْتَقِلَّ الْفِكْرِ هَذِهِ الشُّهْرَةُ الْمُنْتَشِرَةُ بِانْتِشَارِ النَّصَارَى فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَيْدِ، فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي إِثْبَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ كَوْنَهُ فِي زَمَنِ وُقُوعِهَا، كَمَا ثَبَتَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ فِي زَمَنِ نُزُولِهِ حِفْظًا وَكِتَابَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ هَذِهِ الشُّهْرَةَ الْمُنْتَشِرَةَ لِلْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ تَمْنَعْ بَعْضَ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارِ مِنَ الشَّكِّ فِي وُجُودِهِ نَفْسِهِ، وَلَا مِنْ تَرْجِيحِ كَوْنِ قِصَّتِهِ خَيَالِيَّةً، لَا حَادِثَ الصَّلْبِ وَالْقِيَامِ مِنْهَا فَحَسْبُ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ فِي بَعْضِ آلِهَةِ الْوَثَنِيِّينَ، وَفِي (هُومِيروُسَ) شَاعِرِ الْيُونَانِ الَّذِي تُضْرَبُ بِشِعْرِهِ الْأَمْثَالُ، فَهُوَ أَشْهَرُ رَجُلٍ فِي تَارِيخِ أُمَّتِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْهَرِ تَوَارِيخِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَمَثَلُهُ فِي تَارِيخِ أُمَّتِنَا الْعَرَبِيَّةِ قَيْسٌ الْعَامِرِيُّ الشَّهِيرُ بِمَجْنُونِ لَيْلَى. ذَكَرَ فِي (الْأَغَانِي) رِوَايَاتٍ عَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الشِّعْرَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ هُوَ لِبَعْضِ كُبَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، عَزَاهُ إِلَى مَجْهُولٍ تَسَتُّرًا بِعِشْقِهِ.
مِثْلُ هَذَا فِي التَّارِيخِ كَثِيرٌ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ عَقْلًا، وَلَكِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نُؤْمِنُ بِالْمَسِيحِ لَا لِذِكْرِهِ فِي أَنَاجِيلِهِمْ، وَكُتُبِهِمْ، فَكَمْ فِي الْكُتُبِ مِنْ قِصَصٍ خَيَالِيَّةٍ مِثْلَ قِصَّتِهِ، بَلْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ
45
أَثْبَتَ وُجُودَهُ وَنُبُوَّتَهُ، وَالْقُرْآنُ ثَابِتٌ عِنْدَنَا قَطْعًا، فَنُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ. وَإِنَّ لِي كَلِمَةً قَدِيمَةً أَذْكُرُهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي لَمْ أَتَوَسَّعْ فِيهِ، إِلَّا لِرَدِّ هَجَمَاتِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّذِينَ أَسْرَفُوا فِي الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ: إِنَّ إِثْبَاتَ الْقُرْآنِ لِلْمَسِيحِ هُوَ أَقْوَى حُجَّةٍ عَلَى مُنْكِرِي آيَاتِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَقْوَى شُبْهَةٍ عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الشُّبَهَاتِ الَّتِي يُورِدُهَا الْمَلَاحِدَةُ وَالْعَقْلِيُّونَ مِنَ النَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ عَلَى إِثْبَاتِهِ كَوْنُ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ آيَةً، وَأَنَّ اللهَ آتَاهُ آيَاتٍ أُخْرَى - هِيَ أَقْوَى الشُّبَهَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ رَدَّهَا سَهْلٌ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِيمَانِ بِقُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَتَصَرُّفِهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا يَشَاءُ. وَمِنْ آيَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - عَدَمُ مُوَافَقَتِهِ لِلنَّصَارَى فِي رِوَايَاتِهِمْ فِي الصَّلْبِ وَالتَّثْلِيثِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ:
إِنَّ تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمَعْرُوفَةَ، عِنْدَ النَّصَارَى، دَفَعَتْ بَعْضَ الرَّاغِبِينَ فِي التَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأَنَاجِيلِ بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقُرْآنِ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (٤: ١٥٧) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَا هُوَ مَظِنَّةُ الْقَتْلِ ; لِأَنَّهُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِهِ، وَوَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِهِ، وَهُوَ ذَلِكَ التَّعْلِيقُ عَلَى الْخَشَبَةِ الَّذِي كَانَ بِدُونِ كَسْرِ عَظْمٍ، وَلَا إِصَابَةِ عُضْوٍ رَئِيسِيٍّ، وَلَمْ يَطُلْ زَمَنُهُ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ صَلْبًا. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ (٤: ١٥٧) وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، وَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ هُوَ الْأَقْرَبُ.
وَمِمَّنْ وَلِعَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ الْبُولِسِيَّةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَهْدَ الْجَدِيدَ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ قِسِّيسٌ مِنْ طَائِفَةِ الرُّومِ الْأُرْثُوذُكْسِ اسْمُهُ (خِرِيسْتُوفُورَسْ جُبَارَهْ) كَانَ بِرُتْبَةِ أَرَشْمِنْدِرِيتْ، وَكَادَ يَكُونُ مُطْرَانًا، فَخَلَعَ ثَوْبَ (الْكَهَنُوتِ) وَطَفِقَ يَدْعُو إِلَى التَّأْلِيفِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَيَقُولُ بِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا، وَيُؤَلِّفُ الْكُتُبَ فِي ذَلِكَ، يُثْبِتُ فِيهَا التَّوْحِيدَ وَصِدْقَ الْقُرْآنِ، وَنُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ صِحَّةِ الْأَنَاجِيلِ وَتَطْبِيقِهَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُؤَلِّفَ حِزْبًا، وَإِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا فِي عَمَلِهِ، وَكَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُحْسِنُ الظَّنَّ فِيهِ أَيْضًا، وَيَرَى أَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ، وَتَمْهِيدٍ لِلتَّأْلِيفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَظُهُورِ دِينِ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ وَدِينُ الْمَسِيحِ وَدِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَكِنَّ الْمُحَالَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ دِينِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَبَيْنَ الدِّيَانَةِ الْبُولِسِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ حَقِيقَةً، وَالْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَعَلَى عَقِيدَةِ
46
الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ الْوَثَنِيَّةِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّثْلِيثِ، وَبَيْنَ عَقِيدَةِ نَجَاةِ الْإِنْسَانِ وَسَعَادَتِهِ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَعَقِيدَةِ نَجَاتِهِ بِإِيمَانِهِ بِلَعْنِ رَبِّهِ لِنَفْسِهِ، وَتَعْذِيبِهِ إِيَّاهَا عَنْ عَبِيدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ لِرَبِّهِ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ.
إِلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْجَامِعُ الْمُؤَلِّفُ، وَلَكِنْ تَرَكَ دَعْوَتَهُ الْمُنْتَمُونَ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَسْتَجِيبُ لَهُ الْمُخَالِفُ؟ فَدِينُ التَّوْحِيدِ وَالتَّأْلِيفِ لَا يَقُومُ بِدَعْوَتِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَحْمِي دُعَاتَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَبْذُلُ لَهُ الْمَالَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ أَحَدٌ، وَدِينُ التَّعْدِيدِ وَالْفِدَاءِ تُبْذَلُ لَهُ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَيُسْتَأْجَرُ لِدَعْوَتِهِ الْأُلُوفُ مِنَ الْمُجَادِلِينَ وَالْعَامِلِينَ، وَتَحْمِيهِمُ الدُّوَلُ الْقَوِيَّةُ بِالْمَدَافِعِ وَالْأَسَاطِيلِ. عَلَى أَنَّنَا لَا نَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، فَكَمَا وَفَّقَ
لِتَأْلِيفِ جَمَاعَةِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ، فَهُوَ الَّذِي يُوَفِّقُ لِمُسَاعَدَتِهَا مَنْ أَرَادَ، وَاللهُ خَلَقَنَا مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ يَسْتَيْقِظَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَقْدَتِهِمْ، وَيَتَنَبَّهُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَيَعْرِفُوا الْغَرَضَ مِنْ حِرْصِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى تَنْصِيرِهِمْ، وَأَنَّ أَوَّلَ بَلَايَا دَعْوَتِهِمْ، وَمَا يَنْشُرُونَ مِنْ صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، وَيُنْشِئُونَ مِنْ مَدَارِسِهِمْ وَمُسْتَشْفَيَاتِهِمْ، هُوَ إِبْطَالُ ثِقَةِ الْمُسْلِمِينَ بِدِينِهِمْ، وَحَلُّ الرَّابِطَةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَشُعُوبِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا طُعْمَةً لِلطَّامِعِينَ، بَلْ عَبِيدًا لِلطَّامِعِينَ، فَإِذَا انْتَبَهُوا وَفَقِهُوا عَرَفُوا كَيْفَ يَحْفَظُونَ أَنْفُسَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ بِحِفْظِ دِينِهِمْ، وَتَوْثِيقِ رَابِطَتِهِ بَيْنَهُمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْجَمْعِيَّاتِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ الَّتِي تُنْشِئُهَا جَمْعِيَّاتُ التَّغْرِيرِ بِالتَّبْشِيرِ لِهَدْمِ الْإِسْلَامِ، بِإِنْشَاءِ خَيْرٍ مِنْهَا لِإِعْلَاءِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْعَقْلِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْعَدْلِ وَالْعُمْرَانِ، الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيَجْذِبُونَ إِلَيْهِ مَنْ فِي بِلَادِ أِمِرِيكَةَ وَأُورُبَّةَ مِنَ الْمُسْتَقِلِّينَ الْأَحْرَارِ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(بَهَاءُ اللهِ الْبَابِيُّ وَمَسِيحُ الْهِنْدِ الْقَادَيَانِيُّ) يَعْلَمُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي عَلَامَاتِ السَّاعَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَالُ لَهُ الْمَهْدِيُّ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قَدْ مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَنْزِلُ فِي آخِرِ مُدَّتِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَرْفَعُ الْجِزْيَةَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْمَسِيخَ الدَّجَّالَ، وَلَيْسَ هَذَا مَقَامَ تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحَالُ أَنْ نَذْكُرَ مِنْ ضَرَرِهَا أَنَّهَا - لِانْتِظَارِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، وَيَأْسِهِمْ مِنْ إِعَادَةِ عَدْلِ الْإِسْلَامِ وَمَجْدِهِ بِدُونِهَا - قَدْ كَانَتْ مَثَارَ فِتَنٍ عَظِيمَةٍ. فَقَدْ ظَهَرَ فِي بِلَادٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ أُنَاسٌ يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ يَخْرُجُ عَلَى أَهْلِ السُّلْطَانِ وَيَسْتَجِيبُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَغْرَارِ، فَتَجْرِي الدِّمَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جُنُودِ الْحُكَّامِ كَالْأَنْهَارِ، ثُمَّ يَكُونُ النَّصْرُ وَالْغَلَبُ لِلْأَقْوِيَاءِ بِالْجُنْدِ وَالْمَالِ، عَلَى الْمُسْتَنْصِرِينَ بِتَوَهُّمِ
47
التَّأْيِيدِ السَّمَاوِيِّ
وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَدِ ادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَةَ أَيْضًا أُنَاسٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ أَصَابَهُمْ هَوَسُ الْوِلَايَةِ وَالْأَسْرَارِ الرُّوحِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْثِيرٌ يُذْكَرُ.
كَانَتْ آخِرُ فِتْنَةٍ دَمَوِيَّةٍ مِنْ فِتَنِ هَذِهِ الدَّعْوَى فِتْنَةُ مَهْدِيِّ السُّودَانِ، وَكَانَتْ قَبْلَهَا فِتْنَةُ (الْبَابِ) الَّذِي ظَهَرَ فِي بِلَادِ إِيرَانَ، وَأَمْرُهُ مَشْهُورٌ. وَقَدْ بَنَى بَعْضُ أَتْبَاعِهِ عَلَى أَسَاسِ دَعْوَتِهِ بِنَاءً مِنْ أَنْقَاضِ تِلْكَ الدَّعْوَى، وَلَكِنَّهُ جَاءَ أَكْبَرَ مِنْهَا، ذَلِكَ الْمُدَّعِي هُوَ مِيرْزَا حُسَيْنٌ الْمُلَقَّبُ بِبَهَاءِ اللهِ، ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَبَثَّ دُعَاتَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمَا، وَمِمَّا يَدْعُونَ بِهِ النَّصَارَى إِلَى دِينِهِمْ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبَهَاءَ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِتْنَتَهُمْ فِي (الْمَنَارِ) وَرَدَدْنَا عَلَيْهِمْ مِرَارًا، وَظَهَرَ فِي الْهِنْدِ رَجُلٌ آخَرُ سِلْمِيٌّ (بِالطَّبْعِ) ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَهُوَ (غُلَامٌ أَحْمَدُ الْقَادَيَانِيُّ) الَّذِي نَقَلْنَا عَنْ بَعْضِ كُتُبِهِ نَبَأَ الْتِجَاءِ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَى الْهِنْدِ، وَهُوَ إِنَّمَا عُنِيَ بِبَيَانِ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ مِنْ مُقَدَّمَاتِ إِثْبَاتِ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَرْسَلَ إِلَيَّ الْكِتَابَ الَّذِي نَقَلْتُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ، وَغَيْرَهُ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي يَدْعُو بِهَا إِلَى نَفْسِهِ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي (الْمَنَارِ) فَهَجَانِي فِي كِتَابٍ آخَرَ، وَتَوَعَّدَنِي بِقَوْلِهِ عَنِّي: " سَيُهْزَمُ فَلَا يُرَى " وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا نَبَأُ وَحْيٍ جَاءَهُ مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ كَانَ هُوَ الَّذِي انْهَزَمَ وَمَاتَ.
كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَسْتَدِلُّ بِمَوْتِ الْمَسِيحِ وَرَفْعِ رُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا رُفِعَتْ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَلَا يَزَالُ أَتْبَاعُهُ يَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ. وَقَدْ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ أَدْعِيَاءِ الْمَهْدَوِيَّةِ مِنْ شِيعَةِ إِيرَانَ (كَالْبَابِ وَالْبَهَاءِ) فِي اسْتِنْبَاطِ الدَّلَائِلِ الْوَهْمِيَّةِ عَلَى دَعْوَتِهِ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى إِنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَهُ فِي تَفْسِيرِهَا كِتَابٌ فِي غَايَةِ السَّخَفِ يَدَّعِي أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَهُ، فَجَعَلَهَا مُبَشِّرَةً بِظُهُورِهِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ مَسِيحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَإِنَّمَا فَتَحَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذَا الْبَابَ الْغَرِيبَ مِنْ أَبْوَابِ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَتَحْرِيفِ أَلْفَاظِهِ عَنِ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا إِلَى مَعَانٍ غَرِيبَةٍ لَا تُشْبِهُهَا وَلَا تُنَاسِبُهَا - أُولَئِكَ الزَّنَادِقَةُ مِنَ الْمَجُوسِ وَأَعْوَانِهِمُ الَّذِينَ وَضَعُوا تَعَالِيمَ فِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ، فَرَاجَتْ حَتَّى عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَلِمَنْ يَسْتَدِلُّ بِالْكَلِمِ عَلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي اسْتِعْمَالِ لُغَتِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا شَاءَ عَلَى مَا شَاءَ، وَهُوَ يَجِدُ مِنْ جَاهِلِي اللُّغَةِ وَفَاقِدِي الِاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِيِّ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ كُلَّ دَعْوَى.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ يُثْبِتُ أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَيَحْكُمُ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ فَهِيَ تُخَالِفُ دَعْوَى الْقَادْيَانِيِّ، فَإِنَّ مِنْهَا أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي دِمَشْقَ لَا فِي الْهِنْدِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَقْتُلُ الدَّجَّالَ الَّذِي يَظْهَرُ قَبْلَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْكُمُ وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، وَلَا يَزَالُ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ مَالِئًا الْأَرْضَ، وَنَاهِيكَ بِمَا هُوَ جَارٍ، مِنْهَا، فِي بِلَادِ الْبَلْقَانِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِنَّ دُوَلَ الْبَلْقَانِ النَّصْرَانِيَّةَ مَا ظَهَرُوا عَلَى الْعُثْمَانِيِّينَ فِي مَكَانٍ إِلَّا وَأَسْرَفُوا فِي قَتْلِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَنَسْفِ دِيَارِهِمْ بِالدِّينَامِيتِ، أَوْ إِحْرَاقِهِمْ بِالنَّارِ،
48
بَعْدَ سَلْبِ الْأَمْوَالِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَكُلُّ هَذَا يُعْمَلُ بِاسْمِ الصَّلِيبِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ، فَأَيْنَ هُوَ مِمَّا وَرَدَ مِنْ كَسْرِ الْمَسِيحِ لِلصَّلِيبِ؟ وَمَا كَانَ الْقَادَيَانِيُّ إِلَّا خَاضِعًا لِدَوْلَةٍ مِنْ دُوَلِ الصَّلِيبِ، وَلَكِنَّ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ أَنَّهُ لَا يَدْعُوهُمْ أَحَدٌ إِلَى شَيْءٍ مَهْمَا كَانَ بَعِيدًا عَنِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، إِلَّا وَيَجِدُ فِيهِمْ مَنْ يُصَدِّقُهُ وَيَسْتَجِيبُ لَهُ. فَنَسْأَلُ اللهَ التَّأْيِيدَ بِالْهِدَايَةِ، وَالْحِفْظِ مِنَ الْغِوَايَةِ، آمِينَ.
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا
بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مَا كَانَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَالْكُفْرِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ.... ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ جَزَاءَهُمْ عَلَى مَا دُونُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَقَالَ:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ أَيْ فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ قَدِ اسْتَحَقُّوا بِظُلْمِ مَا ظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ نُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَتْ
أُحِلَّتْ لَهُمْ وَلِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَحَرَّمْنَاهَا عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً وَتَرْبِيَةً لَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ ظُلْمِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَكْبَرَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَ رَبِّهِمْ، وَقَتْلِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَكُفْرِهِمْ بِالْمَسِيحِ وَبَهْتِهِمْ لِأُمِّهِ، وَتَبَجُّحِهِمْ بِدَعْوَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ؟ فَتَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ بِظُلْمٍ مُبْهَمٍ مِنْهُمْ، وَبِمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنَ الْمَعَاصِي عَطْفًا عَلَيْهِ زَائِدًا عَنْهُ، أَوْ بَيَانًا لَهُ - يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ الْعَظِيمِ وَالْخِزْيِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى نَقْضِ الْمِيثَاقِ الْأَكْبَرِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ الْمَحْذُوفُ لِقَوْلِهِ، تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ إِلَخْ. فَهُوَ قَدْ حَذَفَ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقَ، ثُمَّ ذَكَرَ عِقَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَحْرِيمُ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ.
49
فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقَ الْمَحْذُوفَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَخَتَمَ الْآيَاتِ بِذِكْرِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
أَمَّا الطَّيِّبَاتُ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ فَهِيَ مُبَيَّنَةٌ بِقَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَعَلَى الَّذِينَ هَادَوْا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (٦: ١٤٦) الْآيَةَ، هَكَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَجْزِمْ بِتَعْيِينِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعَرِّفْ مَا نَكَّرَهُ الْكِتَابُ. وَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ (الْأَحْبَارِ) تَفْصِيلُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَانَتْ قَدْ أُحِلَّتْ لَهُمْ بِقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلَّ، وَبِإِحْلَالِهَا لِسَلَفِهِمْ، كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ (٣: ٩٣) فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ.
وَتَقْدِيمُ فَبِظُلْمٍ عَلَى حَرَّمْنَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ الظُّلْمِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ، وَقَدْ أَبْهَمَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ هُنَا ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السِّيَاقِ الْعِبْرَةُ بِكَوْنِهِ عُقُوبَةً لَا بَيَانُهُ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَبْهَمَ الظُّلْمَ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لَهُ ; لِيَعْلَمَ الْقَارِئُ وَالسَّامِعُ أَنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ الظُّلْمِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانًا لَهُ. وَالْعِقَابُ قِسْمَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَقْسَامٌ سَيَأْتِي بَسْطُهَا، وَمِنَ الدُّنْيَوِيِّ: التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ الشَّاقَّةُ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ، وَالْجَزَاءُ الْوَارِدُ فِيهَا عَلَى الْجَرَائِمِ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، وَمَا اقْتَضَتْهُ سُنَنُ اللهِ - تَعَالَى - فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ،
مِنْ كَوْنِ الظُّلْمِ سَبَبًا لِضَعْفِ الْأُمَمِ، وَفَسَادِ عُمْرَانِهَا، وَاسْتِيلَاءِ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَى مُلْكِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ، تَعَالَى: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَبِظُلْمٍ وَقَدْ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ هُوَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُبَيِّنٌ لَهُ - أَيْ لِلظُّلْمِ - وَهُوَ حِينَئِذٍ لَا يُنَافِي الْحَصْرَ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَعْمُولِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى عَامِلِهِ، يُنَافِي الْحَصْرَ إِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مُغَايِرًا لَهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُبَيِّنًا لَهُ فَهُوَ عَيْنُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُغَايَرَةٍ وَأَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الظُّلْمِ لِلِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ قُبْحِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَاقْتِضَائِهِ الْعِقَابَ لَا لِلْحَصْرِ، وَقِيلَ إِنَّ (بِصَدِّهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَبِسَبَبِ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِلَخْ شَدَّدْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامٍ وَتَكَالِيفَ أُخْرَى كَالْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا فِي حَادِثَةِ الْقَتِيلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنَ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ، وَهُوَ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَأَبْلَغُ فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ.
وَالصُّدُودُ وَالصَّدُّ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمَعْنَاهُ الْمَنْعُ أَيْ صُدُودُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِمَا كَانُوا يَعْصُونَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُعَانِدُونَهُ، أَوْ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
50
بِسُوءِ الْقُدْوَةِ أَوْ بِالْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ: صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فِي الْإِشْكَالِ وَحَارَ بَعْضُهُمْ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَنَسُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غِنًى عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ حَتَّى عَدَّ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُشْكِلَاتِ ; لِأَنَّ تَحْرِيمَ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ الصَّدُّ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ سَبَبًا لَهَا، وَالسَّبَبُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمُسَبِّبِ؟ وَيَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ بِجَعْلِ هَذَا الصَّدِّ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَسَاءَلَ بَعْضُهُمْ: مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَمَتَى كَانَ؟ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْأَفْهَامِ الضَّعِيفَةِ، وَتَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، يُوَلِّدُونَ لَنَا شُبَهًا عَلَى الْقُرْآنِ وَأَصْلِ الدِّينِ، يَنْقُلُهَا الْكَافِرُونَ بِهِ عَنْهُمْ، وَيَطْعَنُونَ بِهَا فِي بَلَاغَتِهِ وَبَيَانِهِ، وَالصَّوَابُ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَأَنَّ صَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ هُوَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ غَوَايَةً وَإِغْوَاءً، وَذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ.
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أَيْ وَبِسَبَبِ أَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَكِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِنَّمَا تُصَرِّحُ بِتَحْرِيمِ أَخْذِهِمُ الرِّبَا مِنْ
شَعْبِهِمْ، وَمِنْ إِخْوَتِهِمْ دُونَ الْأَجَانِبِ ; فَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ (٢٢: ٣٥ إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلَا تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي. لَا تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا) وَفِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ (الْأَحْبَارِ) (٢٥: ٣٥ وَإِذَا افْتَقَرَ أَخُوكَ وَقَصُرَتْ يَدُهُ عِنْدَكَ، فَاعْضُدْهُ غَرِيبًا أَوْ مُسْتَوْطِنًا فَيَعِيشُ مَعَكَ ٣٦ لَا تَأْخُذْ مِنْهُ رِبًا وَلَا مُرَابَحَةً. بَلِ اخْشَ إِلَهَكَ فَيَعِيشُ أَخُوكَ مَعَكَ ٣٧ فِضَّتَكَ لَا تُعْطِهِ بِالرِّبَا، وَطَعَامَكَ لَا تُعْطِهِ بِالْمُرَابَحَةِ) وَفِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ (٢٣: ١٩ لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبًا ; رِبَا فِضَّةٍ، أَوْ رِبَا طَعَامٍ، أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا ٢٠ لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا، وَلَكِنْ لِأَخِيكَ لَا تُقْرِضْ بِرِبًا).
وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا هُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ نُسْخَةَ مُوسَى فُقِدَتْ بِإِجْمَاعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَذِهِ الَّتِي عِنْدَهُمْ قَدْ كُتِبَتْ بَعْدَ السَّبْيِ، وَثَبَتَ تَحْرِيفُهَا بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِبَارَةَ " لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا " قَدْ أَخَذَهَا الَّذِي كَتَبَ التَّوْرَاةَ - عِزْرَا أَوْ غَيْرُهُ - مِنْ مَفْهُومِ الْأَخِ ; لِأَنَّهُ كَتَبَ مَا حَفِظَ مِنْهَا بِالْمَعْنَى. وَهَذَا مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الَّذِي لَا يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ لَقَبٍ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِمْ قَدْ أَطْلَقُوا ذَمَّ الرِّبَا، وَالنَّهْيَ عَنْهُ إِطْلَاقًا، فَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَلَا بِإِخْوَتِهِمْ ; كَقَوْلِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْمَزْمُورِ الْخَامِسِ عَشَرَ: وَهُوَ الرَّابِعُ عَشَرَ، فِي نُسْخَةِ الْجِزْوِيتْ: " وَفِضَّتُهُ لَا يُعْطِيهَا بِالرِّبَا وَلَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ مِنَ الْبَرِيءِ " وَكَقَوْلِ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي سِفْرِ الْأَمْثَالِ: (٢٨: ٨ الْمُكْثِرُ مَالَهُ بِالرِّبَا وَالْمُرَابَحَةِ، فَلِمَنْ يَرْحَمُ الْفُقَرَاءَ يَجَمَعُهُ) وَقَوْلِ حَزْقِيَالَ مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ الرَّبُّ فِي صِفَاتِ الْبَارِّ: (١٨: ٧ بَذَلَ خُبْزَهُ لِلْجَوْعَانِ، وَكَسَا الْعُرْيَانَ ثَوْبًا، وَلَمْ يُعْطِ بِالرِّبَا،
51
وَلَمْ يَأْخُذْ مُرَابَحَةً) وَشَرِيعَةُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ التَّوْرَاةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا إِطْلَاقَ تَحْرِيمِ الرِّبَا مِنْهَا.
وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّشْوَةِ وَالْخِيَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَإِنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ مَالِ آخَرَ شَيْئًا بِغَيْرِ مُقَابِلٍ فَقَدْ أَكَلَهُ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ بِالْمُقَابِلِ إِذَا كُنْتَ تَمْلِكُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْكَ بَذْلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى هَذِهِ الذُّنُوبِ بَعْدَ بَيَانِ بَعْضِ جَزَائِهَا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا عَذَابَ النَّارِ الْمُؤْلِمِ أَعْتَدْهُ اللهُ: أَيْ هَيَّأَهُ لِلَّذِينِ كَفَرُوا مِنْهُمْ بِأَيِّ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَلَا سِيَّمَا عِيسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُمُ الَّذِينَ بَيَّنَ اللهُ حَالَهُمْ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ.
لَمَّا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي هَذَا السِّيَاقِ بِبَيَانِ سُوءِ حَالِ الْيَهُودِ وَكُفْرِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ مَا ذَكَرَ عَنْهُمْ عَامٌّ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِمْ، جَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ عَقِبَهُ فِي بَيَانِ حَالِ خِيَارِهِمْ، الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبْ عَمَى التَّقْلِيدِ بِبَصِيرَتِهِمْ، وَهُوَ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَيْ: لَكِنْ أَهْلُ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِالدِّينِ مِنَ الْيَهُودِ، الْآخِذُونَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ دُونَ التَّقْلِيدِ، الرَّاسِخُونَ أَيْ: الثَّابِتُونَ فِيهِ ثَبَاتَ الْأَطْوَادِ، بِحَيْثُ لَا يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ عَامَّتِهِمْ، أَوْ مِنْ أُمَّتِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، إِيمَانَ إِذْعَانٍ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، لَا إِيمَانَ دَعْوَى وَعَصَبِيَّةٍ وَجَدَلٍ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنِ الْمُقَلِّدَةِ فِي كُلِّ الْمِلَلِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فِي الْقُرْآنِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ بِالْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ. رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ: اسْتَثْنَى اللهُ مِنْهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّ اللهِ، يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُصَدِّقُونَ بِهِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ، وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، حِينَ فَارَقُوا يَهُودَ وَأَسْلَمُوا.
وَمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ مَا تَقَدَّمَ جُمْلَةً تَامَّةً ظَاهِرٌ يُسِيغُهُ الْفَهْمُ بِغَيْرِ غُصَّةٍ، وَلَا يَعْتَرِضُ الذِّهْنَ فِيهِ شُبْهَةٌ وَلَا كَبْوَةٌ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّ جُمْلَةَ " يُؤْمِنُونَ " إِلَخْ. حَالِيَّةٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ لَا خَبَرِيَّةٌ، أَوْ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ جُمْلَةُ " أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ " فِي آخِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ رَاجَعْتُ تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تِقَدَّمَ فَإِذَا هُوَ يَجْزِمُ بِأَنَّ الرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا هُوَ
52
يُفَسِّرُ الرَّاسِخِينَ بِالْمُسْتَدِلِّينَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَكُونُ
بِحَيْثُ إِذَا شُكِّكَ يَشُكُّ، وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَتَشَكَّكُ أَلْبَتَّةَ، وَأَوْرَدَ فِي قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَإِلَّا لَقَالَ: " لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، هُمْ وَمُؤْمِنُو الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ.
وَأَمَّا قولُهُ، تَعَالَى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ فَهُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَ " الْمُقِيمِينَ " فِيهِ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوِ الْمَدْحِ، عَلَى مَا قَالَهُ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ سِيبَوَيْهَ وَغَيْرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْنِي أَوْ أَخُصُّ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَإِنَّهُمْ أَجْدَرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُوخِ فِي الْإِيمَانِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الْعِنَايَةِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، وَالنُّكْتَةُ هُنَا مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ مَزِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَكَوْنِ إِقَامَتِهَا آيَةَ كَمَالِ الْإِيمَانِ. عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ فِي كَلِمَةٍ بَيْنَ أَمْثَالِهَا يُنَبِّهُ الذِّهْنَ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا، وَيَهْدِي الْفِكْرَ إِلَى اسْتِخْرَاجِ مَزِيَّتِهَا، وَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْبَلَاغَةِ، وَنَظِيرُهُ فِي النُّطْقِ أَنْ يُغَيِّرَ الْمُتَكَلِّمُ جَرَسَ صَوْتِهِ وَكَيْفِيَّةَ أَدَائِهِ لِلْكَلِمَةِ الَّتِي يُرِيدُ تَنْبِيهَ الْمُخَاطَبِ لَهَا ; كَرَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ خَفْضِهِ أَوْ مَدِّهِ بِهَا، وَقَدْ عَدَّ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ الْجَاهِلِينَ أَوِ الْمُتَجَاهِلِينَ مِنَ الْغَلَطِ فِي أَصَحِّ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقِيمِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ أَنْفُسُهُمْ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ (٢١: ٧٣) أَيْ: إِقَامَتُهَا، أَوِ الْمَلَائِكَةُ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (٣٧: ١٦٥، ١٦٦) وَوَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢١: ٢٠) وَالْإِيمَانُ بِهِمْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ كَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَبْلَغُ عِبَارَةً، وَإِنْ عَدَّهُ الْجَاهِلُ أَوِ الْمُتَجَاهِلُ غَلَطًا أَوْ لَحْنًا، وَرُوِيَ أَنَّ الْكَلِمَةَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعَةٌ (وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ، وَعَمَّنْ قَرَأَهَا مَرْفُوعَةً ; كَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيِّ كَانَتْ قِرَاءَةً، وَإِلَّا فَهِيَ كَالْعَدَمِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ لَحْنًا سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَقَدْ ضَعَّفَ السَّخَاوِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَفِي سَنَدِهَا اضْطِرَابٌ
وَانْقِطَاعٌ ; فَالصَّوَابُ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَلَوْ صَحَّتْ لَمَا صَحَّ أَنْ يُعَدَّ مَا هُنَا مِنْ ذَلِكَ اللَّحْنِ ; لِأَنَّهُ فَصِيحٌ بَلِيغٌ، وَإِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ، رَاجَعْتُ الْكَشَّافَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ كَسَرَهُ سِيبَوَيْهَ عَلَى أَمْثِلَةٍ وَشَوَاهِدَ. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا زَعَمُوا مِنْ وُقُوعِهِ لَحْنًا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ مَنْ يَنْصُرُهُ فِي الْكِتَابِ أَيْ كِتَابِ سِيبَوَيْهَ وَلَمْ يَعْرِفْ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ
53
وَمَا لَهُمْ مِنَ النَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ مِنْ الِافْتِنَانِ، وَغُبِّيَ عَلَيْهِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَانُوا أَبْعَدَ هِمَّةً فِي الْغَيْرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَبِّ الْمَطَاعِنِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا فِي كِتَابِ اللهِ ثُلْمَةً لِيَسُدَّهَا مَنْ بَعْدَهُمْ، وَخَرْقًا يَرْفُوهُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ. اهـ.
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَطْفًا عَلَى الرَّاسِخُونَ وَعَلَى ضَمِيرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. أَوْ كَذَلِكَ، أَيْ مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِثْلَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ بِالتَّبَعِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَسْتَلْزِمُ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الَّذِي يُقِيمُ الصَّلَاةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَ الزَّكَاةَ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُعْلِي هِمَّتَهُ، وَتُزَكِّي نَفْسَهُ، فَيَهُونُ عَلَيْهِ مَالُهُ، وَقَدْ قَالَ، تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٧٠: ١٩ - ٢٢) إِلَخْ.
وَقَدْ يَرِدُ هَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَ الْإِيمَانَ بِاللهِ قَبْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ الْإِيمَانَ غُفْلًا مُطْلَقًا، أَوْ ذُكِرَتْ أَرْكَانُهُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا كَقَوْلِهِ، تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٨: ١٠٧) وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ وَكَقَوْلِهِ: إِنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (٢: ٦٢) وَالْجَوَابُ: أَنِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَهَمُّ ; الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ لَا الْأَهَمُّ فِي ذَاتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - فِي سِيَاقِ تَخْطِئَةِ الْمُفَاخِرِينَ بِدِينِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا
(٤: ١٢٤) بَعْدَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فَالسِّيَاقُ لِبَيَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَمَلِ بِالدِّينِ، لَا بِالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ وَإِلَى الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَالْفَخْرِ بِذَلِكَ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالسِّيَاقُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ هُوَ بَيَانُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عَصْرِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ الْمُهِمُّ أَوَّلًا بَيَانَ إِيمَانِ خِيَارِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كَإِيمَانِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلِهِ، ثُمَّ كَوْنُ هَذَا الْإِيمَانِ إِذْعَانِيًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَاكْتَفَى مِنْهُ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِوَصْفِهِمْ بِأَوَّلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ ; أَيْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ كُلُّهُ سَنُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا، لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ مِنْهُمْ.
54
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.
لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، وَكَانَ أَوَّلُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ، فَيَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِبَعْضِهِمْ، وَيُصَرِّحُونَ بِالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ هَذَا عَيْنُ الْكَفْرِ، وَإِيمَانٌ يُتَّبَعُ فِيهِ الْهَوَى لَيْسَ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمَعْنَى رِسَالَتِهِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ عِنَادِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَإِعْنَاتِهِمْ وَسُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَبَيَّنَ لَهُ - تَعَالَى - أَنَّهُمْ شَاغَبُوا مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَبْلِهِ، وَسَأَلُوهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَبَهَتُوا أُمَّهُ، وَحَاوَلُوا قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ، فَلَيْسَ كُفْرُهُمْ وَعِنَادُهُمْ نَاشِئًا عَنْ عَدَمِ وُضُوحِ الدَّلِيلِ. بَلْ عَنْ عِنَادٍ أَصِيلٍ وَهَوًى دَخِيلٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَبَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَلَمَا شَاغَبُوكَ بِهَذَا الْقَالِ وَالْقِيلِ ; لِأَنَّ أَمْرَ نُبُوَّتِكَ وَرِسَالَتِكَ أَوْضَحُ دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا مِمَّا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِمِثْلِهِ مِمَّنْ قَبْلَكَ ; وَلِهَذَا نَاسَبَ أَنْ يَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ، وَيُمَهِّدَ لِلْكَلَامِ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى بِبَيَانِ أَنَّ الْوَحْيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِيمَانُهُمْ بِمَنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ صَحِيحًا مَبْنِيًّا عَلَى الْفَهْمِ وَالْبَصِيرَةِ لَمَا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: إِنَّا بِمَا لَنَا مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْإِرَادَةِ
55
الْمُطْلَقَةِ اللَّائِقَةِ بِمَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي هِيَ شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ، قَدْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْقُرْآنَ، كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، الَّذِينَ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِمْ هَؤُلَاءِ النَّاسُ، وَلَمْ نُنَزِّلْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَمِهِمْ وَلَا مِنْهُمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، كَمَا سَأَلُوكَ لِلتَّعْجِيزِ وَالْعِنَادِ ; لِأَنَّ الْوَحْيَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِعْلَامِ السَّرِيعِ الْخَفِيِّ، وَمَا هُوَ بِالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ الْحِسِّيِّ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ رُوحِيٌّ، يُعِدُّ اللهُ لَهُ النَّبِيَّ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (٤٢: ٥٢).
الْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١٩: ١١) وَعَلَى الْإِلْهَامِ الَّذِي يَقَعُ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ أَخْفَى مِنَ الْإِيمَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى (٢٧: ٧) وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللهِ، تَعَالَى. وَعَلَى مَا يَكُونُ غَرِيزِيَّةً دَائِمَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ (١٦: ٦٨) وَعَلَى الْإِعْلَامِ فِي الْخَفَاءِ، وَهُوَ أَنْ تُعْلِمَ إِنْسَانًا بِأَمْرٍ تُخْفِيهِ عَنْ غَيْرِهِ
، وَمِنْهُ قَوْلُهُ، تَعَالَى: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ (٦: ١١٢) وَأُطْلِقَ عَلَى الْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ ; لِمَا يَكُونُ فِيهِمَا مِنَ التَّخْصِيصِ. وَوَحْيُ اللهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ هُوَ: مَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي يُخْفِيهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَعَدَّ أَرْوَاحَهُمْ لِتَلَقِّيهِ بِوَاسِطَةٍ كَالْمَلِكِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَعَرَّفَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ بِأَنَّهُ: " عِرْفَانٌ يَجِدُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْأَوَّلُ بِصَوْتٍ يَتَمَثَّلُ لِسَمْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صَوْتٍ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ بِأَنَّ الْإِلْهَامَ وِجْدَانٌ تَسْتَيْقِنُهُ النَّفْسُ وَتَنْسَاقُ إِلَى مَا يَطْلُبُ عَلَى غَيْرِ شُعُورٍ مِنْهَا مِنْ أَيْنَ أَتَى؟ وَهُوَ أَشْبَهُ بِوِجْدَانِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ ".
ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ إِمْكَانِهِ وَوُقُوعَهُ فِي فَصْلَيْنِ لَمْ يَنْسِجْ أَحَدٌ عَلَى مِنْوَالِهِمَا.
بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ (وَقِصَّةُ بَعْثَتِهِ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَهُوَ السِّفْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَسْفَارِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ) وَإِنَّمَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ إِذَا كَانَتْ مُقَدَّمَاتُهُ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ.
ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بِالذِّكْرِ لِشُهْرَتِهِمْ وَعُلُوِّ مَقَامِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ أَيْ وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ بَعْدَهُ ; فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى آلِهِ الْكِرَامِ، فَمُجْمَعٌ عَلَى فَضْلِهِ وَنُبُوَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ وَعِنْدَ الْعَرَبِ أَيْضًا، وَكُلُّ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَيَعْقُوبُ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَاشْتُهِرَ بِلَقَبِ (إِسْرَائِيلَ) فَسَائِرُ أَنْبِيَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَيُسَمَّوْنَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَهُوَ مِنْ نَسْلِ أَخِيهِ الْأَكْبَرِ إِسْمَاعِيلَ الذَّبِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
56
وَأَمَّا الْأَسْبَاطُ فَجَمْعُ سِبْطٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ. وَأَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ اثْنَا عَشَرَ سِبْطًا، فَكُلُّ نَسْلٍ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ الْعَشْرَةِ، وَوَلَدَيِ ابْنِهِ يُوسُفَ وَهُمَا (إِفْرَايِمْ وَمَنْسَى) يُسَمَّى سِبْطًا ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْأَسْبَاطَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَأَمَّا أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ الْعَشْرَةُ آبَاءُ الْأَسْبَاطِ الْأُخْرَى فَهُمْ:
١ - رُؤْبِينُ (بِالْهَمْزَةِ، وَيُخَفَّفُ فَيُقَالُ رُوبِينُ) وَتَصَرَّفَ فِيهِ بَعْضُ الْعَرَبِ فَقَالُوا رُوبِيلُ.
٢ - شَمْعُونُ ٣ - يَهُوذَا ٤ - يَسَاكِرُ ٥ - زَبُولُونُ ٦ - بِنْيَامِينَ ٧ - دَانَ ٨ - نَفْتَالِي ٩ - جَادُ ١٠ - أَشِيرُ. فَسُلَالَةُ هَؤُلَاءِ مَعَ سُلَالَةِ ابْنَي يُوسُفَ هُمُ اثْنَا عَشَرَ سِبْطًا.
وَأَمَّا سُلَالَةُ (لَاوِي) الِابْنِ الثَّالِثِ لِيَعْقُوبَ فَلَمْ تُجْعَلْ سِبْطًا مُسْتَقِلًّا، بَلْ نِيطَ بِهِمْ خِدْمَةٌ دِينِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَلَهُمْ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَسْبَاطِ: الْوَحْيُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بُعِثُوا فِيهِمْ، وَخُصَّ مِنْهُمْ بِالذِّكْرِ أَشْهَرُ الْمُرْسَلِينَ ; لِأَنَّ لَهُمْ كُتُبًا يُهْتَدَى بِهَا، وَمَا كُلُّ نَبِيٍّ يُوحَى إِلَيْهِ يَكُونُ مُرْسَلًا وَلَهُ كِتَابٌ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْأَسْبَاطَ هُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَلِذَلِكَ اسْتَشْكَلُوا الْوَحْيَ إِلَيْهِمْ وَكَوْنَهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مَعَ مَا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ كَيْدِهِمْ لِأَخِيهِمْ يُوسُفَ، وَكَذِبِهِمْ عَلَى أَبِيهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالنَّبِيِّينَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَرْضَى هَذَا مِنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا. وَهُمْ يَقُولُونَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَحْتَجُّونَ بِهِ خَاصًّا بِالرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْأَسْبَاطِ عَلَى أَبْنَاءِ إِسْرَائِيلَ مِنْ صُلْبِهِ خَاصَّةً غَلَطٌ، وَإِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا حَاجَّهُمُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَّا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، فَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ.
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا أَيْ وَكَمَا أَعْطَيْنَا دَاوُدَ كِتَابًا خَاصًّا مَزْبُورًا، أَيْ مَكْتُوبًا، فَالزَّبُورُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ، كَالرُّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَخَلَفٌ بِضَمِّ الزَّايِ، وَهُوَ جَمْعٌ، وَزْنُ مُفْرَدِهِ، وَوَزْنُهُ (كَعِرْقٍ وَعُرُوقٍ) أَوْ (فِلْسٍ وَفُلُوسٍ) وَقِيلَ جَمْعُ زَبُورٍ بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ مَصْدَرٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِمَعْنَى كِتَابٍ وَمَكْتُوبٍ، وَقَدْ ذُكِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَمْ يُعْطَفْ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَيُفِيدُ مُطْلَقَ الْوَحْيِ، لِأَنَّ لِزَبُورِ دَاوُدَ شَأْنًا خَاصًّا فِي كُتُبِ الْوَحْيِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَعَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ مُوَافِقٌ لِنَسَقِ الْفَوَاصِلِ ; فَائْتَلَفَ بِهِ اللَّفْظُ مَعَ الْمَعْنَى، فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً وَحُسْنًا.
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أَيْ وَأَرْسَلْنَا غَيْرَ هَؤُلَاءِ رُسُلًا آخَرِينَ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلِ تَنْزِيلِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَهُمُ الْمَسْرُودَةُ أَسْمَاؤُهُمْ، أَوِ الْمُبَيَّنَةُ قِصَصُهُمْ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَأَجْمَعُ
الْآيَاتِ لِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي
57
سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٦: ٨٤ - ٨٦) وَأَجْمَعُ السُّوَرِ لِقَصَصِهِمْ " هُودٌ " وَ " طسم الشُّعَرَاءُ " وَمِنْهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ.
وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أَيْ كَالْمُرْسَلِينَ إِلَى الْأُمَمِ الْمَجْهُولِ عِلْمُهَا وَتَارِيخُهَا، عِنْدَ قَوْمِكَ وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُجَاوِرِينَ لِبِلَادِكَ، كَأُمَمِ الشَّرْقِ: الصِّينِ وَالْيَابَانِ وَالْهِنْدِ، وَأُمَمِ بِلَادِ الشَّمَالِ: أُورُبَّةَ، وَأُمَمِ الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنَ الْأَرْضِ: أَمِرِيكَةَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُصَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ خَبَرَ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ ; لِأَنَّ حِكْمَةَ ذِكْرِ الرُّسُلِ، وَفَوَائِدَ بَيَانِ قَصَصِهِمْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَتَحَقَّقُ بِقِصَصِ أُولَئِكَ الْمَجْهُولِ حَالُهُمْ وَحَالُ أُمَمِهِمْ، عِنْدَ قَوْمِهِ وَجِيرَانِ بَلَدِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ، تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٢: ١١١) وَقَوْلِهِ: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١١: ١٢٠) وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطَّوْرِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٨: ٤٤ - ٤٦) فَالْعِبْرَةُ وَالتَّثْبِيتُ وَالذِّكْرَى وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِي قَصَصِ مَنْ ذَكَرَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ دُونَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُمْ، وَحَسْبُنَا الْعِلْمُ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ الرُّسُلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، فَكَانَتْ رَحْمَتُهُ بِهِمْ عَامَّةً، لَا مَحْصُورَةً فِي شَعْبٍ مُعَيَّنٍ احْتَكَرَهَا لِنَفْسِهِ كَمَا كَانَ يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ، غَيْرَ مُبَالِينَ بِكَوْنِهِ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللهِ وَلَا يَنْطَبِقُ عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ، قَالَ، تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (١٦: ٣٦) وَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٣٥: ٢٤) وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ
مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالدِّينِ السَّمَاوِيِّ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَزْعُمُ مُشَاغِبُوهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُقْتَبَسٌ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَكَمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْحَقَائِقِ، وَلَكِنْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَا نَخُوضُ فِي إِحْصَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ ; فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُبَيِّنِ اللهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلَا رَسُولُهُ فِيمَا صَحَّ مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ.
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا خَاصًّا مُمْتَازًا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ ضُرُوبِ الْوَحْيِ الْعَامِّ لِأُولَئِكَ
النَّبِيِّينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفِ التَّعْبِيرُ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ إِيتَاءِ دَاوُدَ الزَّبُورَ. وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى الْوَحْيُ إِلَيْهِمْ تَكْلِيمًا، وَالتَّكْلِيمُ لَهُمْ وَحْيًا، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ (٤٢: ٥١) وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَكْلِيمَ مُوسَى كَانَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، وَهُوَ التَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَدْ سَمَّاهُ وَحْيًا فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (٢٠: ١٣) إِلَخْ. أَمَّا حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَالتَّكْلِيمِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَخُوضَ فِيهِ ; لِأَنَّنَا لَمْ نَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، عَلَى أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ كَلَامِ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ بِوَاسِطَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَجْعَلُ كُلَّ ذَرَّةٍ مِنَ الْهَوَاءِ مُتَكَيِّفَةً بِهِ، وَهِيَ أَعَمُّ الْوَسَائِطِ وَأَظْهَرُهَا، وَأَمَّا الْحِجَابُ فَحِكْمَتُهُ: حَصْرُ الْقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ، وَالِاسْتِعْدَادُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ تَتَّحِدُ فِيهِ هُمُومُهَا وَأَهْوَاؤُهَا الْمُتَفَرِّقَةُ، كَمَا كَانَ شَأْنُ مُوسَى إِذْ رَأَى النَّارَ فِي الشَّجَرَةِ. وَأَمَّا الرَّسُولُ الَّذِي يُرْسِلُهُ اللهُ فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ فَهُوَ مَلَكُ الْوَحْيِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرُّوحِ الْأَمِينِ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ عَلَى كَوْنِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى لَمْ يَكُنْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ هُنَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ (٢: ٢٥٣) وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ كَلِمَةَ (تَكْلِيمًا) الْمُؤَكِّدَةَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيمُ مَجَازِيًّا، فَإِنَّ الْفَرَّاءَ قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَا وَصَلَ إِلَى الْإِنْسَانِ كَلَامًا بِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ مَا لَمْ يُؤَكَّدْ بِالْمَصْدَرِ، فَإِذَا أُكِّدَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيمُ نَفْسُهُ مَجَازِيًّا ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمَجَازَ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْإِسْنَادِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْنِدَ الْكَلَامَ الْمُؤَكَّدَ بِمِثْلِهِ إِلَى الْمُبَلِّغِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا يُبَلِّغُ عَنِ الْمَلِكِ حَاجِبُهُ أَوْ وَزِيرُهُ، وَعَنِ الْمَرْأَةِ الْمُحَجَّبَةِ زَوْجُهَا أَوْ وَلَدُهَا، أَقُولُ: وَمِنْهُ إِسْنَادُ الْكَلَامِ إِلَى التُّرْجُمَانِ ;
إِذِ الْمَقْصِدُ مِنَ التَّكْلِيمِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَلَوْ بِوَاسِطَةِ التُّرْجُمَانِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمَقْصِدُ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِسَالَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا. وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْهُمْ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ ; كَقَوْلِ هِنْدِ بِنْتِ النُّعْمَانِ فِي زَوْجِهَا رُوحِ بْنِ زِنْبَاعَ وَزِيرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
بَكَى الْخَزُّ مِنْ رُوحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامِ الْمَطَارِفُ
فَأَكَّدَتْ " عَجَّتْ " مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَجَازٌ ; لِأَنَّ الْمَطَارِفَ جَمْعُ مِطْرَفٍ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ وَهُوَ رِدَاءٌ لَهُ خَزٌّ لَهُ أَعْلَامٌ لَا تَعِجُّ (وَالْعَجِيجُ: الصِّيَاحُ).
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ أَرْسَلْنَا أُولَئِكَ الرُّسُلَ الَّذِينَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَفَرَ وَأَجْرَمَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ بِأَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا وَأَجْرَمُوا إِلَّا لِجَهْلِهِمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ، تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (٢٠: ١٣٤)
59
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٨: ٤٧) ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٢٨: ٥٩) وَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٧: ١٥) وَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ (٦: ١٥٥ - ١٥٧).
الْمُتَبَادِرُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْأُولَى أَنَّهَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا سَوَاءٌ كَانَ بِالِاسْتِئْصَالِ أَوْ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْأَخِيرُ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَعَمُّ، وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُ الْوَعِيدُ بِسَبَبِ الْعَذَابِ، وَالتَّهْدِيدُ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ
آيَاتِ رَبِّكَ (٦: ١٥٨) وَفِيهِ تَهْدِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، أَوْ بِالْمَوْتِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، وَيَعْقُبُ ذَلِكَ عَذَابُ الْآخِرَةِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا فَهِيَ مُطْلَقَةٌ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهَا أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ قَطْعَ حُجَّةِ النَّاسِ وَاعْتِذَارِهِمْ بِالْجَهْلِ، عِنْدَمَا يُحَاسِبُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ وَيَقْضِي بِعَذَابِهِمْ، وَمَفْهُومُهُ وَمَفْهُومُ سَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّهُ لَوْلَا إِرْسَالُ الرُّسُلِ لَكَانَ لِلنَّاسِ أَنْ يَحْتَجُّوا فِي الْآخِرَةِ عَلَى عَذَابِهَا وَعَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي كَانَ أَصَابَهُمْ بِظُلْمِهِمْ. وَاسْتَدَلَّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى امْتِنَاعِ مُؤَاخَذَةِ اللهِ النَّاسَ وَتَعْذِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْهِدَايَةِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِآيَةِ الْإِسْرَاءِ عَلَى نَجَاةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَكُلِّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَلَمَّا كَانُوا شِيَعًا تَتَعَصَّبُ كُلُّ شِيعَةٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبٍ يُنْسَبُ إِلَى عَمِيدٍ مِنْهُمْ قَدَّسُوهُ بِإِشْهَارِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ صَارَتْ كُلَّ شِيعَةٍ تَلْتَمِسُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُؤَيَّدُ مَذْهَبَهَا وَتُؤَوِّلُ مَا يَنْقُضُهُ. وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ أَوَّلَ بَعْضُهُمْ آيَةَ الْإِسْرَاءِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ فِيهَا الْعَقْلُ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهَا كَالْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، فَلَا يَجِدُ أَبْرَعُ الْمُؤَوِّلِينَ وَالْمُحَرِّفِينَ مَنْفَذًا لِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الرُّسُلِ الْمُبَشِّرِينَ الْمُنْذِرِينَ، الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي سِيَاقِ إِثْبَاتِ الْوَحْيِ، وَقَصَّ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ بَعْضَهُمْ، وَذَكَرَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَبَيَّنَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْقَصَصِ: حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ الْعَقْلُ، وَلَكِنْ قَدْ يَقُولُهُ الَّذِي جُنَّ فِي مَذْهَبِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا، وَمَا الْمَجَانِينُ فِي ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، وَكَيْفَ وَالتَّقْلِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَالِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِمَا يُعْزَى إِلَى الْمَذْهَبِ بِحُجَّةِ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ تَعْجِزُ
60
عُقُولُهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُونَ كَلَامَ عُلَمَائِهِمْ دُونَ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ!.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ اتَّبَعَ النَّاسُ مَذَاهِبَهُمْ فِي التَّكْلِيفِ، هَلْ يَتَوَقَّفُ كُلُّهُ عَلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ أَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِالْعَقْلِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ إِيمَانٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى أَحَدٍ كُفْرٌ وَلَا جُرْمٌ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ ثَوَابًا
وَلَا عِقَابًا عَلَى شَيْءٍ، إِلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ قَامَتْ بِهَا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ؛ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الْعَمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ فَحَسْبُ، وَلَا يُجَازَى إِلَّا عَلَى ذَلِكَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بَعْدَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ لَا يَتَعَدَّى مَا جَاءُوا بِهِ لِمَنْ بَلَغَتْهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ بِعَقْلِهِ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَعْمَالِ وَقُبْحَهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ الْحَسَنَ وَيَتْرُكَ الْقَبِيحَ، وَاللهُ - تَعَالَى - يُؤَاخِذُهُ بِحَسْبِ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ، كَمَا يُؤَاخِذُهُ بِحَسْبِ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ.
وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا: أَنَّ عَدَمَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُؤَاخِذَهُمْ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْهُدَى الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا مَنْ سُنَّتِهِ أَنْ يُعَذِّبَ الْأُمَمَ التَّعْذِيبَ السَّمَاوِيَّ الْعَامَّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فُكَلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٢٩: ٤٠) إِلَّا إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَكَذَّبُوهُ، وَسُنَّتُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّعْذِيبِ مُبِيَّنَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَهُوَ لَا يَأْخُذُ بِهِ كُلَّ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، بَلْ مَنْ أَنْذَرَهُمُ الْعَذَابَ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَتَمَادَوْا فِي عِنَادِ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.
وَمَنْ أَخَذَ الْقُرْآنَ بِجُمْلَتِهِ، وَفَقِهَ أَحْكَامَهُ وَحُكْمَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الدِّينَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، بَلْ يُعْرَفُ بِالْوَحْيِ، وَأَنَّهُ مَعَ هَذَا مُوَافِقٌ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِعْدَادِهَا لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي عَالَمِ الْقُدُسِ، فَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ، يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَالتَّرْكِ جَزَاءٌ وَضْعِيٌّ يُحَدِّدُهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا الْجَزَاءُ خَاصٌّ بِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ عَلَى وَجْهِهَا. وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُوَافِقٌ لِسُنَنِ الْفِطْرَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَعَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ تَدْسِيَتُهَا. وَتَأْثِيرُ الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ الَّتِي يَهْدِي إِلَيْهِ تَأْثِيرٌ فِطْرِيٌّ ذَاتِيٌّ. فَكُلُّ مَنِ اهْتَدَى بِهَا زَكَتْ نَفْسُهُ بِقَدْرِ اهْتِدَائِهِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولًا جَاءَ بِهَا، وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا، فَكُلُّ مَنْ تَلَوَّثَتْ بِهَا نَفْسُهُ فَسَدَتْ وَسَفُلَتَ، وَالْأَصْلُ فِي
61
هَذَا وَذَاكَ الْإِخْلَاصُ فِي إِيثَارِ مَا يَعْتَقِدُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَالْخَيْرُ عَلَى ضِدِّهِ، فَكَمَا
دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِلَّا إِذَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُمْ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّتُهُمْ ; لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ وَضْعِيٌّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الْوَضْعِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ هُوَ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ تَدُلُّ آيَاتٌ أُخْرَى عَلَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ الْعَامِّ بِالْقِسْطِ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النُّفُوسِ، فَمَنْ دَسَّى نَفْسَهُ وَأَبْسَلَهَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللهِ كَمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَأَسْلَمَهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ عَاقِلٌ: إِنَّ نُفُوسَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَكُونُ سَوَاءً مَهْمَا اخْتَلَفَتْ عَقَائِدُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ، فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْعَقْلِ وَإِدْرَاكِ الْحِسِّ، إِذْ لَمْ تُوجَدْ وَلَا تُوجَدُ أُمَّةٌ إِلَّا وَفِيهَا الصَّالِحُونَ وَالطَّالِحُونَ وَالْأَبْرَارُ وَالْفُجَّارُ، وَالَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْهُدَى عَلَى دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى وَالْعَكْسُ. فَهَلْ يَكُونُ الْفَرِيقَانِ عِنْدَ الْحُكْمِ الْعَدْلِ سَوَاءً؟ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ (٥: ١٠٠) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١١: ٢٤).
لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ إِنْكَارِهِمْ نُبُوَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَمِ شَهَادَتِهِمْ بِهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ ; لِوُضُوحِهَا، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا الْمُبَاهَتَةَ وَالْمُكَابَرَةَ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِيمَانِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ يُثْبِتُ دَعْوَاهُ وَيَكُونُ شَاهِدًا لَهُ مُقْنِعًا لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُ أَنَّ هَذَا الطَّلَبَ جَارٍ عَلَى شَنْشَنَتِهِمْ فِي مُعَامَلَةِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلُ، وَأَنْ وَحْيَهُ إِلَيْهِ هُوَ مِنْ جِنْسِ وَحْيِهِ إِلَى أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَيَشْهَدُونَ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ مَعَ وُضُوحِ أَمْرِ نُبُوَّتِكَ فِي نَفْسِهِ، لَا يَشْهَدُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانُوا يَشْهَدُونَ لِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، لَكِنَّ اللهَ يَشْهَدُ لَكَ بِهِ، فَإِنَّهُ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أَيْ: مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِهِ إِلَيْكَ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (١١: ٤٩) مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا (٤٢: ٥٢) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٢٩: ٤٨) فَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنْ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْأُمَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأُسْلُوبِ
الْبَدِيعِ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ، مِنْ مَزْجِ هَذِهِ الْعُلُومِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مَزْجًا دَقِيقًا يُؤَلِّفُ بَيْنَ مَا كَانَ مَوْضُوعُهُ مِنْهَا أَعْلَى الْمَوْضُوعَاتِ ; كَالْمَسَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا أَدْنَى كَشُئُونِ الْكُفَّارِ وَالْمُجْرِمِينَ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنْ آيَاتِهِ كَالْكَثِيرِ مِنْهَا مُؤَثِّرًا فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَتَغْذِيَتِهَا بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْأَرْوَاحِ بِهِدَايَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاسُقِ وَالتَّصَادُقِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، عَلَى كَثْرَةِ عُلُومِهِ وَتَشَعُّبِ
62
فُنُونِهِ، هُوَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا الْبَارِزَةِ فِي أَعْلَى حَالِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، مُثْبِتٌ لِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِ وَبِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِهِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْخَصَائِصَ وَالْمَزَايَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا أَفْرَادُ الْعُلَمَاءِ الْوَاسِعِي الِاطِّلَاعِ، فَضْلًا عَنْ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَوَصَلَ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا مِمَّا دُونَهُ مِنْ مَظَاهِرِ فَصَاحَةِ قَوْمِهِ ; كَالشِّعْرِ وَالْخَطَابَةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَفُحُولِ الْبَلَاغَةِ الْمُقَرَّمِينَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: مَاذَا يَضُرُّكَ جُحُودُ الْيَهُودِ وَعَدَمُ شَهَادَتِهِمْ لَكَ، وَاللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ، وَقَدْ أَيَّدَ شَهَادَتَهُ لَكَ بِعِلْمِهِ الَّذِي أَوْدَعَهُ هَذَا الْقُرْآنَ، فَكَانَ بِذَلِكَ مُثْبِتًا لِحَقِيَةِ نَفْسِهِ وَكَوْنِهِ أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، بِأَقْوَى مِنْ إِثْبَاتِ الدَّعَاوَى بِالْبَيِّنَاتِ وَالشَّهَادَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَيُؤَيِّدُهَا كَذَلِكَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ بِتَصْدِيقِ مَا أَنْزَلَهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ لَكَ بِالْفَلَاحِ وَالنَّصْرِ، وَوَعِيدِ مَنْ عَادَوْكَ بِالْخِذْلَانِ وَالْخُسْرِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ أَيْضًا بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ إِلَيْكَ هُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ مِنْهُمْ، أَنْتَ تَرَاهُ وَتَتَلَقَّى عَنْهُ لَا رَيْبَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ، وَاللهُ يُؤَيِّدُكَ بِجُنْدٍ مِنْهُمْ يَنْفُخُونَ رُوحَ التَّثْبِيتِ وَالسَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (٨: ١٢) وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، وَثَبَتَتْ بِهِ شَهَادَةُ مَلَائِكَةِ اللهِ عِنْدَ نَبِيِّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِخْبَارِ اللهِ، وَبِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مَنْ صِدْقِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا فَشَهَادَتُهُ أَصْدَقُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
(٦: ١٩).
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
63
لَقَدْ تَجَلَّتْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الْحُجَّةُ، وَتَضَاءَلَ كُلُّ مَا أَوْرَدَهُ الْيَهُودُ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شُبْهَةٍ، فَثَبَتَتْ هَذِهِ النُّبُوَّةُ بِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، فَحَسُنَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُنْذِرَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى صَدِّهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَإِنَّمَا يُنْذِرُهُمْ، عَزَّ وَجَلَّ، سُوءَ الْعَاقِبَةِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَصِيرَهُمْ مِنَ الْهَاوِيَةِ، لِذَلِكَ قَالَ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى، وَحَمَلُوا غَيْرَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا بِسُوءِ الْقُدْوَةِ وَتَمْوِيهِ الشُّبْهَةِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا بِسَيْرِهِمْ فِي سُبُلِ الشَّيْطَانِ سَيْرًا حَثِيثًا، بَعُدُوا بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بُعْدًا شَاسِعًا حَتَّى لَمْ يَعُودُوا يُبْصِرُونَ مَا اتَّصَفَتْ بِهِ مِنَ الْوُضُوحِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَلَا يَفْقَهُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى خَيْرِ الْعَاقِبَةِ وَمَرْسَى السَّلَامَةِ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَقُبْحِ عَمَلِهِمْ، وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِإِغْوَائِهِمْ إِيَّاهُمْ بِزُخْرُفِ قَوْلِهِمْ وَسُوءِ سِيرَتِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ يُؤَثِّرَانِ فِي النَّفْسِ وَيُكَيِّفَانِهَا بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ مِنَ الظُّلْمَةِ وَفَسَادِ الْفِطْرَةِ، لَا يَزُولَانِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَتَأْثِيرِ عَقَائِدِهَا وَأَعْمَالِهَا فِيهَا، إِلَّا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ
الَّذِي يُزَكِّي النَّفْسَ وَيُطَهِّرُهَا فَتَنْشَأُ خَلْقًا جَدِيدًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْحِسَابِ وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ; أَيْ يُوَصِّلُهُمْ إِلَى طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِمْ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَهِيَ تِلْكَ الْهَاوِيَةُ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ يُدَسِّي نَفْسَهُ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَوْغَلُوا فِي السَّيْرِ فِيهَا طُولَ عُمُرِهِمْ، كَالَّذِي يَهْبِطُ الْوَادِيَ يَكُونُ مُنْتَهَى شَوْطِهِ قَرَارَةُ ذَلِكَ الْوَادِي لَا قِمَّةَ الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَانْتِظَارُ الْمَغْفِرَةِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ لِهَؤُلَاءِ، كَانْتِظَارِ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ وَالنَّقِيضِ مِنَ النَّقِيضِ، أَوِ انْتِظَارِ إِبْطَالِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَنَقْضِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ، لَا مَا يَزْعُمُهُ الْقَائِلُونَ بِالْجَبْرِ لَفْظًا وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى فَقَطْ، وَلَا مَا يَزْعُمُهُ خُصُومُهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، عَلِمَ اللهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، وَإِلَّا وَجَبَ تَقْيِيدُ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ وَالْهِدَايَةِ لِغَيْرِ طَرِيقِ جَهَنَّمَ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَا حَمَلَ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ إِلَّا غَفْلَتُهُمْ عَنْ كَوْنِ هَذَا هُوَ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ فِي
الْآخِرَةِ، وَظَنَّهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَخْ. هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْهِدَايَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي سَاقَهُمْ إِلَى مُعْتَرَكِهِمْ فِي الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، لِعَدَمِ تَطْبِيقِ مِثْلِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَاطِّرَادِ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ.
وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَصِلُوهَا، قَالَ: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ يَدْخُلُونَهَا وَيَذُوقُونَ عَذَابَهَا حَالَ كَوْنِهِمْ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا. قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ أَبَدًا يَنْفِي أَنْ يُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُكْثِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ الْخُلُودُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، أَمَّا مَعْنَى الْخُلُودِ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ: بَقَاءُ الشَّيْءِ مُدَّةً طَوِيلَةً عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا تَغَيُّرٌ وَلَا فَسَادٌ، كَقَوْلِهِمْ لِلْأَثَافِيِّ (حِجَارَةِ الْمَوْقِدِ) خَوَالِدُ، قَالَ: (وَذَلِكَ لِطُولِ مُكْثِهَا، لَا لِدَوَامِ بَقَائِهَا) وَفَسَّرَ الْخُلْدَ فِي " اللِّسَانِ " بِدَوَامِ
الْبَقَاءِ فِي دَارٍ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالسُّكْنَى الدَّائِمَةِ فِي الْعُرْفِ: مَا يُقَابِلُ السُّكْنَى الْمُؤَقَّتَةَ الْمُتَحَوِّلَةَ كَسُكْنَى الْبَادِيَةِ، فَالَّذِينَ لَهُمْ بُيُوتٌ فِي الْمُدُنِ يَسْكُنُونَهَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: إِنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَخَلَدَ بِالْمَكَانِ يَخْلُدُ خُلُودًا، مِنْ بَابِ نَصَرَ، وَأَخْلَدَ: أَقَامَ، وَخَلَدَ - كَضَرَبَ وَنَصَرَ - خُلْدًا وَخُلُودًا: أَبْطَأَ عَنْهُ الشَّيْبُ. وَمَنْ كَبِرَ وَلَمْ يَشِبْ أَوْ لَمْ تَسْقُطْ أَسْنَانُهُ يُقَالُ لَهُ الْمُخَلَّدُ، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
لِمَنِ الدِّيَارُ غَشَيْتُهَا بِالْغَرْقَدِ كَالْوَحْيِ فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ الْمُخَلَّدِ
وَالْأَبَدُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: " عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةِ الزَّمَانِ الْمُمْتَدِّ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ كَمَا يَتَجَزَّأُ الزَّمَانُ، وَتَأَبَّدَ الشَّيْءُ: بَقِيَ أَبَدًا، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَمَّا يَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً " وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: " الْأَبَدُ: الدَّهْرُ. وَفِيهِ تَسَاهُلٌ، وَقَالُوا فِي الْمَثَلِ: " طَالَ الْأَبَدُ عَلَى لُبَدٍ " يُضْرَبُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَا قَدُمَ، وَقَالُوا: أَبَدَ بِالْمَكَانِ - مِنْ بَابِ ضَرَبَ - أُبُودًا: أَقَامَ بِهِ وَلَمْ يَبْرَحْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ بِمَعْنَى اللَّانِهَايَةِ يَدُورُ فِي كَلَامِهِمْ.
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا أَيْ: وَكَانَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ سَهْلًا عَلَى اللهِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَلَا يَسْتَعْصَى عَلَى قُدْرَتِهِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَدَبَّرَ وَيَتَفَكَّرَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ وَلَا مَفَرَّ، وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقِرٌّ.
يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ نَادَى اللهُ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ النَّاسِ فِي سِيَاقِ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ، فَبِالْأَوْلَى تَقُومُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ كَكِتَابِهِمْ، وَذَكَرَ الرَّسُولَ هَهُنَا مُعَرَّفًا ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بُشِّرُوا بِهِ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ بِعْثَتَهُ، بِعُنْوَانِ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْكَامِلُ، الَّذِي هُوَ الْمُتَمِّمُ الْخَاتَمُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا
يَنْتَظِرُونَ مِنَ اللهِ مَسِيحًا وَنَبِيًّا بَشَّرَ بِهِمَا أَنْبِيَاؤُهُمْ، مَا جَاءَ فِي أَوَائِلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا بَعْضَ الْكَهَنَةِ وَاللَّاوِيِّينَ إِلَى يُوحَنَّا (يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِيَسْأَلُوهُ مَنْ هُوَ. وَكَانَتْ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ النُّبُوَّةِ فَسَأَلُوهُ أَأَنْتَ الْمَسِيحُ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: أَأَنْتَ النَّبِيُّ؟ قَالَ: لَا. وَالشَّاهِدُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ النَّبِيَّ بِلَامِ الْعَهْدِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ يَهُودَ الْعَرَبِ وَنَصَارَاهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ تَذْكُرُ مَجِيءَ الرَّسُولِ الْمُعَرَّفِ بِصِيغَةِ التَّحْقِيقِ، قَدْ
فَهِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَهُمْ بِهِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّوْرَاةِ (وَهُوَ فِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) وَعِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ (وَسَيَأْتِي شَاهِدٌ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ) وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ يَفْهَمْ مِنَ التَّعْرِيفِ مَعْنًى آخَرَ هُوَ صَحِيحٌ وَمُرَادٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فِي الرُّسُلِ لِظُهُورِ نُبُوَّتِهِ، وَنُصُوعِ حُجَّتِهِ، وَعُمُومِ بَعْثَتِهِ، وَخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ جَاءَ النَّاسَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِمْ: أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ بَيَانٍ لِلْحَقِّ، وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ الْمُؤَيِّدَةَ لَهُ، وَاخْتِيَارُ لَفْظِ الرَّبِّ هُنَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ يُقْصَدُ بِهِ تَرْبِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْمِيلُ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةُ نُفُوسِهِمْ ; وَلِهَذَا قَالَ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَآمِنُوا، فَإِنْ تُؤْمِنُوا يَكُنِ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ ; لِأَنَّهُ يُزَكِّيكُمْ وَيُطَهِّرُكُمْ مِنَ الْأَدْنَاسِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، هَذَا هُوَ التَّقْدِيرُ الْمُتَبَادِرُ عِنْدِي وَعَلَيْهِ الْكِسَائِيُّ، وَأَمَّا الْخَلِيلُ وَتِلْمِيذُهُ سِيبَوَيْهِ فَيُقَدِّرَانِ: وَاقْصِدُوا بِالْإِيمَانِ خَيْرًا لَكُمْ، أَيْ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَآمِنُوا إِيمَانًا خَيْرًا لَكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ إِنْ تُؤْمِنُوا يَكُنِ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ إِيمَانِكُمْ، وَقَادِرٌ عَلَى جَزَائِكُمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ كُفْرُكُمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ عَمَلِكُمْ ; لِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَعَبِيدًا، وَكُلٌّ يَعْبُدُهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، أَمَّا عِبَادَةُ الْكَرْهِ وَعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَبِالْخُضُوعِ لِلسُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى مَا لَيْسَ لَهُ إِدْرَاكٌ وَلَا عَقْلٌ، وَأَمَّا عِبَادَةُ الِاخْتِيَارِ، فَخَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الْأَخْيَارِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ جُنُودِ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا أَيْ وَكَانَ شَأْنُهُ الْعِلْمَ الْمُحِيطَ وَالْحِكْمَةَ الْكَامِلَةَ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي إِيمَانِكُمْ وَكُفْرِكُمْ، وَلَا يَعْدُو حِكْمَتَهُ أَمْرُ جَزَائِكُمْ، وَحَاشَا عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ أَنْ يَخْلُقَكُمْ عَبَثًا، وَأَنْ يَتْرُكَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ سُدًى، كَلَّا إِنَّهُ يَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَطُوبَى لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.
هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى خَاصَّةً بَعْدَ مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ غَلَتِ الْيَهُودُ فِي تَحْقِيرِ عِيسَى وَإِهَانَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَفَرَّطُوا كُلَّ التَّفْرِيطِ، فَغَلَتِ النَّصَارَى فِي تَعْظِيمِهِ وَتَقْدِيسِهِ فَأَفْرَطُوا كُلَّ الْإِفْرَاطِ، فَلَمَّا دَحَضَ - تَعَالَى - شُبُهَاتِ أُولَئِكَ قَفَّى بِدَحْضِ شُبُهَاتِ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ فَتَتَجَاوَزُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا اللهُ لَكُمْ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، كِلَاهُمَا مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ وَضْعِهِ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ أَيِ الثَّابِتَ الْمُتَحَقِّقَ فِي نَفْسِهِ، إِمَّا بِنَصٍّ دِينِيٍّ مُتَوَاتِرٍ، وَإِمَّا بِبُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ، وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَزَاعِمِكُمْ فِي الْمَسِيحِ شَيْءٌ مِنْهُمَا إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ إِلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَعِبَادَةِ الْمَالِ، وَإِيثَارِ شَهَوَاتِ الْأَرْضِ عَلَى مَلَكُوتِ
67
السَّمَاءِ، وَزَهَّدَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّقْوَى، وَبَشَّرَهُمْ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُقِيمُهُمْ عَلَى صِرَاطِ الِاعْتِدَالِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ حُقُوقِ الْأَرْوَاحِ وَحُقُوقِ الْأَجْسَادِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَيْ وَهُوَ تَحْقِيقُ كَلِمَتِهِ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى أُمِّهِ مَرْيَمَ وَمِصْدَاقُهَا، وَالْمُرَادُ: كَلِمَةُ التَّكْوِينِ أَوِ الْبِشَارَةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَشَّرَهَا بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَهَبَ لَهَا غُلَامًا زَكِيًّا، فَاسْتَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ وَهِيَ عَذْرَاءُ لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَقَالَ لَهَا: كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣: ٤٧) فَكَلِمَةُ (كُنْ) هِيَ الْكَلِمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكْوِينِ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - عِنْدَ إِرَادَتِهِ خَلْقَ الشَّيْءِ وَإِيجَادَهُ، وَقَدْ خَلَقَ الْمَسِيحَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَفِي تَفْسِيرِهَا وُجُوهٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص ٢٥٠ مِنْ هَذِهِ الطَّبْعَةِ) وَالْإِلْقَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي وَالْكَلَامِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَتَاعِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ (١٦: ٨٦، ٨٧) وَمَعْنَاهُ الطَّرْحُ وَالنَّبْذُ، فَلَمَّا عَبَّرَ اللهُ عَنِ التَّكْوِينِ أَوِ الْبِشَارَةِ بِالْكَلِمَةِ حَسُنَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَيْ أَوْصَلَهَا إِلَيْهَا وَبَلَّغَهَا إِيَّاهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِرُوحٍ مِنْهُ تَعَالَى، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِيهِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (٢: ٢٥٣) وَقَالَ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (٥٨: ٢٢).
(وَثَانِيهِمَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خُلِقَ بِنَفْخٍ مِنْ رُوحِ اللهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي أُمِّهِ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا (٢١: ٩١) وَقَالَ - تَعَالَى - فِيهَا: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٩: ١٧) كَمَا قَالَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ ذِكْرِ بَدْئِهِ مِنْ طِينٍ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٣٢: ٨، ٩) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا النَّفْخُ أَيْ نَفَخَ الْمَلَكُ بِأَمْرِ اللهِ فِي مَرْيَمَ، فَإِنَّهُ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى النَّفْخِ وَالنَّفَسِ
الَّذِي يُنْفَخُ، كَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي إِضْرَامِ النَّارِ:
فَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ وَأَحْيِهَا بِرُوحِكَ وَاجْعَلْهَا لَهَا فَيْئَةً قَدْرَا
وَالرُّوحُ الَّذِي يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْمِ الرِّيحِ (وَأَصْلُ الرِّيحِ رِوْحٌ بِالْكَسْرِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتُنَاسِبَ الْكَسْرَةَ، وَجَمْعُهُ أَرْوَاحٌ، وَأَصْلُ هَذَا رِوَاحٌ بِالْكَسْرِ) كَمَا أَنَّ اسْمَ النَّفْسِ بِسُكُونِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَسِ بِفَتْحِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرُوحٌ مِنْهُ الْأَمْرَانِ مَعًا ; أَيْ أَنَّهُ خُلِقَ بِنَفْخِ الْمَلَكِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالرُّوحِ وَبِرُوحِ الْقُدُسِ، فِي أُمِّهِ نَفْخًا كَانَ كَالتَّلْقِيحِ الَّذِي يَحْصُلُ بِاقْتِرَانِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَانَ
68
مُؤَيَّدًا بِهَذَا الرُّوحِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ ; وَلِذَلِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الرُّوحَانِيَّةُ، وَظَهَرَتْ آيَاتُ اللهِ فِيهِ زَمَنَ الطُّفُولِيَّةِ وَزَمَنَ الرُّجُولِيَّةِ إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا (٥: ١١٠) فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوحٌ كَأَنَّهُ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمَلَكِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبَ وِلَادَتِهِ وَأَيَّدَهُ بِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، كَمَا يُقَالُ: " رَجُلٌ عَدْلٌ " عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ: ذُو عَدْلٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا: الرَّحْمَةُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمُؤْمِنِينَ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (٥٨: ٢٢) وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِيهِ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا (١٩: ٢١) وَيُمْكِنُ إِدْخَالُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوعِهِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ أَنَّ الرُّوحَ مَا بِهِ الْحَيَاةُ. وَالْحَيَاةُ قِسْمَانِ: حِسِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ ; فَالْأُولَى: مَا يَشْعُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيُدْرِكُ وَيَتَفَكَّرُ وَيَتَذَكَّرُ، وَالثَّانِيَةُ: مَا بِهِ يَكُونُ رَحِيمًا حَكِيمًا فَاضِلًا مُحِبًّا مَحْبُوبًا نَافِعًا لِلْخَلْقِ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ الْوَحْيَ رُوحًا فَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (٤٢: ٥٢) وَقَالَ: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ (١٦: ٢) وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَآيَةُ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ عِيسَى بِكَلِمَتِهِ، وَجَعْلِهِ بَشَرًا سَوِيًّا بِمَا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، كَآيَتِهِ فِي خَلْقِ آدَمَ بِكَلِمَتِهِ وَمَا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ; إِذْ كَانَ خَلْقُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي خَلْقِ النَّاسِ مِنْ ذِكَرٍ وَأُنْثَى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(٣: ٥٩).
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، صِفَةٌ لِـ رُوحٍ أَيْ وَرُوحٍ كَائِنَةٍ مِنْهُ، وَزَعَمَ بَعْضُ النَّصَارَى أَنَّ " مَنْ " لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنَّ عِيسَى جُزْءٌ مِنَ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ ابْنُهُ، وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ طَبِيبًا نَصْرَانِيًّا لِلرَّشِيدِ نَاظَرَ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ الْوَاقِدَيَّ الْمَرْوَزِيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ فِي كِتَابِكُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، جُزْءٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَرَأَ لَهُ الْوَاقِدِيُّ قَوْلَهُ، تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (٤٥: ١٣) وَقَالَ: يَلْزَمُ إذًا أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَجْزَاءً مِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ وَأَسْلَمَ، فَفَرِحَ الرَّشِيدُ بِإِسْلَامِهِ، وَوَصَلَ الْوَاقِدِيَّ بِصِلَةٍ فَاخِرَةٍ.
أَمَّا أَنَاجِيلُ النَّصَارَى وَكُتُبُهُمْ فَقَدِ اسْتَعْمَلَتْ لَفْظَ الرُّوحِ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيحِ وَفِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَتَّى: (١: ١٨ أَمَّا وِلَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هَكَذَا، لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ) وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا تَفْصِيلٌ لِظُهُورِ الْمَلَكِ جِبْرِيلَ لَهَا، وَتَبْشِيرِهِ إِيَّاهَا بِوَلَدٍ، وَمُحَاوَرَتِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا: (٥٣ الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ) فَرُوحُ
69
الْقُدُسِ لَيْسَ هُوَ اللهَ، وَمَنْ يُؤَيِّدُهُ اللهُ بِهِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، فَفِي هَذَا الْفَصْلِ نَفْسِهِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا أَنَّ (الِيصَابَاتَ) أُمَّ يَحْيَى امْتَلَأَتْ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (٤١) وَبِذَلِكَ حَمَلَتْ بِيَحْيَى وَكَانَتْ عَاقِرًا، وَأَنَّ زَكَرِيَّا أَبَاهُ امْتَلَأَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (٦٧) وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْهُ مَا نَصُّهُ: " ٢٥ وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورْشَلِيمَ اسْمُهُ سَمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ (٢٦) وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ " وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ عِنْدَهُمْ لَا حَاجَةَ لِإِضَاعَةِ الْوَقْتِ بِكَثْرَةِ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا وَاحِدٌ، وَهُوَ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ الَّذِينَ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَالْقُدْسُ: الطُّهْرُ، وَيُذْكَرُ فِي مُقَابِلِهِ فِي الْأَنَاجِيلِ الرُّوحُ النَّجِسُ، أَيِ: الشَّيْطَانُ، فَجَعَلُوهُ إِلَهًا كَمَا فَعَلَ الْوَثَنِيُّونَ مِنْ قَبْلُ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ عِيسَى خُلِقَ بِوَاسِطَةِ رُوحِ الْقُدُسِ، وَأَنَّ يَحْيَى خُلِقَ كَذَلِكَ وَكَانَ خَلْقُهُ آيَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، إِذْ كَانَ
أَبُوهُ شَيْخًا كَبِيرًا وَأُمُّهُ عَاقِرًا، وَلَكِنَّ الْوَاسِطَةَ وَالسَّبَبَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُسَمَّى بِرُوحِ الْقُدُسِ، أَيَّدَهُمُ اللهُ بِهِ نِسَاءً وَرِجَالًا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَعَ هَذَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَرُوحٌ مِنْهُ يُفِيدُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ عَنِ التَّرْكِيبِ وَالتَّجَزُّؤِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِخَلْقِهِ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ تَلَامِيذَ الْمَسِيحِ أَنْفُسَهُمْ كَانُوا مُؤَيَّدِينَ بِرُوحِ الْقُدُسِ حَتَّى مَنْ طَرَدَهُ الْمَسِيحُ وَلَعَنَهُ مِنْهُمْ وَسَمَّاهُ شَيْطَانًا، وَقَدْ أَيَّدَ بِهِ مَنْ كَانَ دُونَهُمْ أَيْضًا.
عَلِمْنَا أَنَّ مُؤَلِّفِي الْأَنَاجِيلِ يَسْتَعْمِلُونَ كَلِمَةَ رُوحِ الْقُدُسِ اسْتِعْمَالًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَلَكِنَّ يُوحَنَّا قَدِ انْفَرَدَ بِعِبَارَاتٍ يُمْكِنُ إِرْجَاعُهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ تَحْرِيفُهَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ كَمَا فَعَلُوا، فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرُّوحَ مُنْبَثِقٌ مِنَ الْآبِ وَإِنَّهُ عَيْنُ الْآبِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ يُوحَنَّا حِكَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ: (١٥: ١٦ وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْآبِ رُوحِ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ الْآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي) أَصْلُ الِانْبِثَاقِ: أَنْ يَكْسِرَ الْمَاءُ مَا أَمَامَهُ مِنْ سَدٍّ عَلَى الشَّطِّ، وَيَفِيضُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ، وَفِي قِرَاءَةٍ أُخْرَى فِي تَرْجَمَةِ الْبُرُوتُسْتَانْتِ " يَخْرُجُ " فَمِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اسْتَنْبَطُوا عَقِيدَةً وَثَنِيَّةً تَنْقُضُهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ فِي الْأَنَاجِيلِ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (وَفَرْقٌ بَيْنَ يَنْبَثِقُ مِنْ عِنْدِهِ وَبَيْنَ انْبَثَقَ مِنْهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمُوا أَيْضًا) وَهِيَ بِشَارَةٌ مِنَ الْمَسِيحِ بِمَنْ يُرْسِلُهُ اللهُ - تَعَالَى - بَعْدَهُ الَّذِي عَبَّرُوا عَنْهُ هُنَا بِالْمُعَزِّي، وَكَلِمَةُ الْمُعَزِّي تَرْجَمَةٌ لِلْبَارَقْلِيطِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ يُونَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا (مُحَمَّدٌ أَوْ أَحْمَدُ) وَتُقْرَأُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَبِالْإِمَالَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي تَحْرِيفِهَا عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي
70
قُلْنَاهُ إِلَى مَعْنَى الْمُعَزِّي الَّذِي قَالُوهُ، إِلَّا إِلَى لَيِّ اللِّسَانِ بِهَا لَيًّا قَلِيلًا، وَقَدْ تُرْجِمَتْ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا (بِمُحَمَّدٍ) فَكَانَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَوْضِعَ الِاسْتِغْرَابِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ظَانِّينَ أَنَّ بِرْنَابَا نَقَلَ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ مُحَمَّدٍ الْعَرَبِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَطَقَ بِتَرْجَمَتِهَا، وَمِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ تَرْجَمَةُ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ، عَلَى أَنَّ " رُوحَ الْحَقِّ " مِنْ جُمْلَةِ أَسْمَاءِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا تَرَى فِي أَسْمَائِهِ الْمَسْرُودَةِ فِي دَلَائِلَ الْخَيْرَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَ يُوحَنَّا فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ تَفْصِيلًا عَنِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِبِشَارَتِهِ بِالْبَارَقْلِيطِ، مِنْهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يَذْهَبَ هُوَ مِنَ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَذْهَبْ لَا يَأْتِي الْبَارَقْلِيطُ، وَأَنَّهُ مَتَى
جَاءَ يُبَكِّتُ الْعَالِمَ عَلَى الْخَطِيئَةِ وَعَلَى الْبِرِّ وَالْحِسَابِ (الدَّيْنُونَةِ) وَفَسَّرَ الْخَطِيئَةَ بِعَدِمِ الْإِيمَانِ بِهِ، أَيِ الْمَسِيحُ، وَمِنْهُ أَنَّهُ هُوَ - أَيِ الْمَسِيحُ - لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ ; لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ وَعَدَمِ طَاقَتِهِمُ الِاحْتِمَالَ، قَالَ: وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ (١٤) ذَاكَ يُمَجِّدُنِي ; لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَ الْمَسِيحِ أَحَدٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَبَّخَ النَّاسَ وَبَكَّتَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ وَعَلَى طَعْنِ بَعْضِهِمْ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ، وَعَلَى غُلُوِّ طَائِفَةٍ فِيهِمَا وَجَعْلِهِمَا إِلَهَيْنِ مَعَ اللهِ، وَعَلَّمَ النَّاسَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَأَخْبَرَ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلِيَّةِ - لَمْ يَجِئْ أَحَدٌ بِكُلِّ هَذَا إِلَّا رُوحُ الْحَقِّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُنْبَثِقٌ مِنَ اللهِ أَيْ مُرْسَلٌ مِنْهُ لِإِحْيَاءِ النَّاسِ، كَمَا يُرْسِلُ اللهُ الْغَيْثَ لِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ شَبَّهَ بَعْثَتَهُ بِالْغَيْثِ الَّذِي تَأْخُذُ مِنْهُ كُلُّ أَرْضٍ بِحَسْبَ اسْتِعْدَادِهَا. فَإِذَا كَانَتْ عِبَارَةُ يُوحَنَّا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْحَقِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَهُ تَدُلُّ بِلَفْظِ الِانْبِثَاقِ عَلَى مَا قَالُوا، فَلْيَجْعَلُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْأُقْنُومُ الثَّالِثُ أَوْ أُقْنُومًا رَابِعًا، وَيَنْتَقِلُوا مِنَ التَّثْلِيثِ إِلَى التَّرْبِيعِ، لَا، لَا أَقُولُ لَهُمْ أَصِرُّوا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَالتَّضْلِيلِ، بَلْ أَقُولُ لَهُمْ مَا قَالَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِلَى قَوْلِهِ، تَعَالَى:
فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ إِلَخْ ; أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ النُّقُولُ، فَآمِنُوا بِاللهِ إِيمَانًا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ، فَرْدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، تَنَزَّهَ عَنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ، وَنِسْبَتِهَا إِلَيْهِ. وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَهُوَ الْخَالِقُ، وَمَمْلُوكَةٌ وَهُوَ الْمَالِكُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ فِي مَجْمُوعِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنْ حَبَّةِ رَمْلٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَابِسِ مِنْهَا، وَمِنْ نُقْطَةِ مَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بِحَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، فَمِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ نِدٌّ وَكُفْءٌ فِيهَا، أَوْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَلَّ أَوِ اتَّحَدَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَآمِنُوا بِرُسُلِهِ كُلِّهِمْ، كَمَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لَهُ خَصَّهُمْ بِضَرْبٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ " الْوَحْيِ " لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ كَيْفَ يُوَحِّدُونَ رَبَّهُمْ وَيَعْبُدُونَهُ وَيَشْكُرُونَهُ، وَكَيْفَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيُصْلِحُونَ ذَاتَ بَيْنِهِمْ
71
وَلَا تَقُولُوا: الْآلِهَةُ ثَلَاثَةٌ: الْآبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ، أَوْ: اللهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ كُلٌّ مِنْهَا عَيْنُ الْآخَرِ، فَكُلٌّ
مِنْهَا إِلَهٌ كَامِلٌ، وَمَجْمُوعُهَا إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَتُسَفِّهُوا أَنْفُسَكُمْ بِتَرْكِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْقَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ الَّذِي هُوَ عَقِيدَةُ الْوَثَنِيِّينَ الطَّغَامِ، ثُمَّ تَدَّعُوَا الْجَمْعَ بَيْنَ التَّثْلِيثِ الْحَقِيقِيِّ وَالتَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ تُحِيلُهُ الْعُقُولُ وَلَا تَقْبَلُهُ الْأَفْهَامُ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ أَيِ انْتَهَوْا عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ابْتَدَعْتُمُوهُ فِي دِينِ الْأَنْبِيَاءِ تَقْلِيدًا لِآبَائِكُمُ الْوَثَنِيِّينَ الْأَغْبِيَاءِ، يَكُنْ هَذَا الِانْتِهَاءُ خَيْرًا لَكُمْ، أَوِ انْتَهُوا عَنْهُ وَانْتَحِلُوا قَوْلًا آخَرَ خَيْرًا لَكُمْ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ بِتَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ حَتَّى الْمَسِيحِ الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ إِلَهًا فَإِنَّ مِمَّا لَا تَزَالُونَ تَحْفَظُونَ عَنْهُ قَوْلَهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: (وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ).
إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ أَجْزَاءٌ وَلَا أَقَانِيمُ، وَلَا هُوَ مُرَكَّبٌ وَلَا مُتَّحِدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كَمَا تَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ إِنَّهُ ابْنُهُ وَإِنَّهُ هُوَ عَيْنُهُ، فَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ جِنْسٌ فَيَكُونَ لَهُ مِنْهُ زَوْجٌ يَقْتَرِنُ بِهَا فَتَلِدُ لَهُ ابْنًا، وَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْوَلَدِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، عَلَى لَفْظِ الِابْنِ الَّذِي يُعَبِّرُونَ بِهِ، هِيَ بَيَانُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يُرِيدُونَ الِابْنَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا، أَيْ مَوْلُودًا مِنْ تَلْقِيحِ أَبِيهِ لِأُمِّهِ، وَهَذَا مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ ابْنٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً كَمَا أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَدَاوُدَ وَعَلَى صَانِعِي السَّلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَخْيَارِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ دَخْلٌ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِيَّةِ.
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَيْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ خَاصٌّ مَوْلُودٌ مِنْهُ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى ابْنَهُ حَقِيقَةً، بَلْ لَهُ كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَسِيحُ مِنْ جُمْلَتِهَا خَلَقَ كُلَّ ذَلِكَ خَلْقًا، وَكُلُّ ذِي عَقْلٍ مِنْهَا وَإِدْرَاكٍ يَفْتَخِرُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (١٩: ٩٣) لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالنَّبِيِّينَ الصَّالِحِينَ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ التَّالِيَةُ لِهَذِهِ، وَلَا بَيْنَ مَنْ خَلَقَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ كَالْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ، وَمَنْ خُلِقَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَحَوَّاءَ وَعِيسَى، وَمَنْ خُلِقَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، كُلُّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - سَوَاءٌ، عَبِيدٌ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ مُحْتَاجُونَ دَائِمًا إِلَى فَضْلِهِ، وَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَمَا يَشَاءُ
وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا أَيْ بِهِ الْكِفَايَةُ لِمَنْ عَرَفَهُ وَعَرَفَ سُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ إِذَا وَكَّلُوا إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ، وَلَمْ يُحَاوِلُوا الْخُرُوجَ عَنْ سُنَنِهِ وَشَرَائِعِهِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ.
72
فَصْلٌ فِي عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ
قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَثَنِيَّةٌ نَقَلَهَا الْوَثَنِيُّونَ الْمُتَنَصِّرُونَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، وَفَسَّرُوا بَعْضَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي كُتُبِهِمُ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهُمْ شُبْهَةً يَتَّكِئُونَ عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّضْلِيلِ، وَأَرْغَمُوهَا عَلَيْهِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، هَدَمُوا بِهِ آيَاتِ التَّوْحِيدِ الْقَوِيَّةِ الْبُنْيَانِ، الْعَالِيَةِ الْأَرْكَانِ ; أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَثَنْيَةً، فَقَدْ بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ بِالتَّفْصِيلِ، وَأَتَوْا عَلَيْهِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ وَالتَّارِيخِ، وَإِنَّنَا نُشِيرُ إِلَى قَلِيلٍ مِنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ.
١ - التَّثْلِيثُ عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ:
قَالَ مُورِيسْ فِي (ص ٣٥ مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنْ كِتَابِهِ: الْآثَارُ الْهِنْدِيَّةُ الْقَدِيمَةُ) مَا تَرْجَمَتُهُ: " كَانَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَائِدَةِ تَعَالِيمٌ دِينِيَّةٌ جَاءَ فِيهَا الْقَوْلُ بِاللَّاهُوتِ الثُّلَاثِيِّ، أَوِ الثَّالُوثِيِّ ".
وَقَالَ دُوَانْ (فِي ص ٣٦٦ مِنْ كِتَابِهِ: خُرَافَاتُ التَّوْرَاةِ وَمَا يُمَاثِلُهَا فِي الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى) إِذَا رَجَّعْنَا الْبَصَرَ إِلَى الْهِنْدِ نَرَى أَنَّ أَعْظَمَ وَأَشْهَرَ عِبَادَتِهِمُ اللَّاهُوتِيَّةِ هُوَ التَّثْلِيثُ، وَيُسَمُّونَ هَذَا التَّعْلِيمَ بِلُغَتِهِمْ " تري مورتي " وَهِيَ عِبَارَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ بِلُغَتِهِمُ السِّنْسِكْرِيتِيَّةِ: (تري) وَمَعْنَاهَا ثَلَاثَةٌ، وَ (مورتي) وَمَعْنَاهَا هَيْئَاتٌ أَوْ أَقَانِيمُ، وَهِيَ بِرَهْمَا، وَفِشْنُو وَسِيفَا. ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ مُتَّحِدَةٍ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْوَحْدَةِ ; فَهِيَ إِلَهٌ وَاحِدٌ (بِزَعْمِهِمْ).
وَقَدْ شَرَحَ الْمُؤَلِّفُ مَعْنَى هَذِهِ الْأُصُولِ أَوِ الْأَقَانِيمِ عِنْدَهُمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يَرْمُزُونَ إِلَيْهَا بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَهِيَ (أ. و. م) وَأَنَّهُمْ يَصِفُونَ هَذَا الثَّالُوثَ الْمُقَدَّسَ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ فِي الْجَوْهَرِ وَلَا فِي الْفِعْلِ وَلَا فِي الِاتِّحَادِ، بِقَوْلِهِمْ: بِرَهْمَا الْمُمَثِّلُ لِمَبَادِئِ التَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ، وَلَا يَزَالُ خَلَّاقًا إِلَهِيًّا، وَهُوَ (الْآبُ) وَفِشْنُو يُمَثِّلُ حِفْظَ الْأَشْيَاءِ الْمُكَوَّنَةِ (أَيْ مِنَ الزَّوَالِ وَالْفَسَادِ) وَهُوَ الِابْنُ الْمُنْبَثِقُ وَالْمُتَحَوِّلُ عَنِ اللَّاهُوتِيَّةِ، وَسِيفَا هُوَ
الْمُهْلِكُ وَالْمُبِيدُ وَالْمُبْدِئُ وَالْمُعِيدُ (أَيِ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ وَالتَّحْوِيلُ فِي الْكَوْنِ) وَهُوَ (رُوحُ الْقُدُسِ) وَيَدْعُونَهُ (كِرِشْنَا) الرَّبُّ الْمُخَلِّصُ وَالرُّوحُ الْعَظِيمُ الَّذِي وُلِدَ مِنْهُ (فِشْنُو) الْإِلَهُ الَّذِي ظَهَرَ بِالنَّاسُوتِ عَلَى الْأَرْضِ لِيُخَلِّصَ النَّاسَ، فَهُوَ أَحَدُ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ.
إِلَى آخَرِ مَا قَالَ، وَمِنْهُ أَنَّهُمْ يَرْمُزُونَ لِلْأُقْنُومِ الثَّالِثِ بِصُورَةِ حَمَامَةٍ، وَهَذِهِ عَيْنُ عَقِيدَةِ النَّصَارَى فِي التَّثْلِيثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهِيَ عَقِيدَةٌ بُرْهُمِيَّةٌ وَثَنِيَّةٌ، أَخَذَهَا النَّصَارَى عَنِ الْبَرَاهِمَةِ وَصَارُوا يَدْعُونَهُمْ أَخِيرًا إِلَيْهَا.
وَكَانَ مُنْتَهَى شَوْطِ أَحَدِ الْيَسُوعِيِّينَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ ثَالُوثَ الْبَرَاهِمَةِ وَأَمْثَالِهِمْ نَجِسٌ،
73
وَثَالُوثَ النَّصَارَى مُقَدَّسٌ! فَإِذَا قَالَ لَهُمُ الْوَثَنِيُّونَ: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَارْجِعُوا إِلَى الْأَصْلِ وَدَعُوا الْمُبْتَدَعَ. فَبِمَاذَا يَحُجُّونَهُمْ؟
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَصْلُ عَقِيدَةِ الْبَرَاهِمَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَصَفَ لَهُمُ الْإِلَهَ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا حَقِيقَةُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهِيَ (١) مَا بِهِ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، وَ (٢) الْحِفْظُ وَالْإِمْدَادُ، وَ (٣) التَّصَرُّفُ وَالتَّغْيِيرُ فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَدَبَّتْ إِلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ، جَعَلُوا لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إِلَهًا، وَجَعَلُوا أَسْمَاءَ الصِّفَاتِ أَسْمَاءَ أَقَانِيمَ وَذَوَاتٍ، وَلَمَّا كَانُوا نَاقِلِينَ بِالتَّوَاتُرِ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ اللهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، قَالُوا: إِنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَيْنُ الثَّلَاثَةِ. وَسَرَتْ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ.
وَلِلْهُنُودِ تَمَاثِيلُ لِلْوَحْدَةِ وَالتَّثْلِيثِ، رَأَيْتُ وَاحِدًا مِنْهَا فِي دَارِ الْعَادِيَاتِ الَّتِي بَنَتْهَا الْحُكُومَةُ الْهِنْدِيَّةُ الْإِنْكِلِيزِيَّةُ فِي ضَوَاحِي مَدِينَةِ بَنَارِسْ (الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ) وَهُوَ تِمْثَالٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ. وَلَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ مُورِيسْ (فِي ص ٣٧٢ مِنَ الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ آثَارِ الْهِنْدِ الْقَدِيمَةِ) : لَقَدْ وَجَدْنَا فِي أَنْقَاضِ هَيْكَلٍ قَدِيمٍ قَوَّضَهُ مُرُورُ الْقُرُونِ صَنَمًا لَهُ ثَلَاثَةُ رُءُوسٍ عَلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الرَّمْزُ لِلثَّالُوثِ.
٢ - التَّثْلِيثُ عِنْدَ الْبُوذِيِّينَ:
قَالَ مِسْتَرْ فابر فِي كِتَابِهِ (أَصْلُ الْوَثَنِيَّةِ) : كَمَا نَجِدُ عِنْدَ الْهُنُودِ ثَالُوثًا مُؤَلَّفًا مِنْ بِرَهْمَا وَفِشْنُو وَسِيفَا، نَجِدُ عِنْدَ الْبُوذِيِّينَ ثَالُوثًا، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ (بُوذَهْ)
إِلَهٌ لَهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، وَكَذَلِكَ بُوذِيُّو (جِينِسْتَ) يَقُولُونَ: إِنَّ (جِيَفَا) مُثَلَّثُ الْأَقَانِيمِ (قَالَ) : وَالصِّينِيُّونَ يَعْبُدُونَ بُوذَهْ وَيُسَمُّونَهُ (فُو) وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ كَمَا تَقُولُ الْهُنُودُ.
وَذَكَرَ رَمْزَهُمْ (أ. و. م).
وَقَالَ دُوَانْ (فِي ص ١٧٢ مِنْ كِتَابِهِ خُرَافَاتِ التَّوْرَاةِ إِلَخْ) : وَأَنْصَارُ لَاوْكُومِتْذَا الْفَيْلَسُوفِ الصِّينِيِّ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ وَسِتِّمِائَةٍ (٦٠٤) يَدْعُونَ " شِيعَةَ تَاوُو " وَيَعْبُدُونَ إِلَهًا مُثَلَّثَ الْأَقَانِيمِ، وَأَسَاسُ فَلْسَفَتِهِ اللَّاهُوتِيَّةِ أَنَّ " تَاوُو " وَهُوَ الْعَقْلُ الْأَوَّلُ الْأَزَلِيُّ انْبَثَقَ مِنْهُ وَاحِدٌ، وَمِنَ الثَّانِي انْبَثَقَ ثَالِثٌ، وَعَنْ هَذَا الثَّالِثِ انْبَثَقَ كُلُّ شَيْءٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِالتَّوَلُّدِ وَالِانْبِثَاقِ أَدْهَشَ الْعَلَّامَةَ مُورِيسْ ; لِأَنَّ قَائِلَهُ وَثَنِيٌّ.
٣ - التَّثْلِيثُ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ:
قَالَ دُوَانْ فِي ص ٤٧٣ مِنْ كِتَابِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا: وَكَانَ قِسِّيسُو هَيْكَلِ مَنْفِيسَ بِمِصْرَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الثَّالُوثِ الْمُقَدَّسِ لِلْمُبْتَدِئِينَ بِتَعَلُّمِ الدِّينِ، بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَوَّلَ خَلَقَ الثَّانِيَ، وَهُمَا خَلَقَا الثَّالِثَ، وَبِذَلِكَ تَمَّ الثَّالُوثُ الْمُقَدَّسُ. وَسَأَلَ تُولِيسُو مَلِكُ مِصْرَ الْكَاهِنَ تِنِيشُوكِي أَنْ يُخْبِرَهُ
74
هَلْ كَانَ قَبْلَهُ أَحَدٌ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهَلْ يَكُونُ بَعْدَهُ أَحَدٌ أَعْظَمُ مِنْهُ؟ فَأَجَابَهُ الْكَاهِنُ: نَعَمْ، يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ وَهُوَ اللهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ الْكَلِمَةُ، وَمَعَهُمَا رُوحُ الْقُدُسِ ; وَلِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ طَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُمْ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ، وَعَنْهُمْ صَدَرَتِ الْقُوَّةُ الْأَبَدِيَّةُ، فَاذْهَبْ يَا فَانِي، يَا صَاحِبَ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَا رَيْبَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْأُقْنُومِ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ الْمُقَدَّسِ " كَلِمَةً " هُوَ مِنْ أَصْلٍ وَثَنِيٍّ مِصْرِيٍّ دَخَلَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الدِّيَانَاتِ كَالْمَسِيحِيَّةِ وَ " أَبُولُّو " الْمَدْفُونُ فِي (دِهْلِي) يُدْعَى " الْكَلِمَةَ " وَفِي عِلْمِ اللَّاهُوتِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُ (بِلَاتُو) قَبْلَ الْمَسِيحِ بِسِنِينَ عَدِيدَةٍ: " الْكَلِمَةُ هِيَ الْإِلَهُ الثَّانِي " وَيُدْعَى أَيْضًا: ابْنُ اللهِ الْبِكْرُ.
وَقَالَ بُونْوِيكُ (فِي ص ٤٠٢ مِنْ كِتَابِهِ: عَقَائِدُ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ) : أَغْرَبُ عَقِيدَةٍ عَمَّ انْتِشَارُهَا فِي دِيَانَةِ الْمِصْرِيِّينَ هِيَ قَوْلُهُمْ بِلَاهُوتِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَارَ بِوَاسِطَتِهَا، وَأَنَّهَا مُنْبَثِقَةٌ مِنَ اللهِ، وَأَنَّهَا هِيَ اللهُ، وَكَانَ بِلَاتُو عَارِفًا بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْوَثَنِيَّةِ، وَكَذَلِكَ أَرِسْطُو وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بِسِنِينَ -
بَلْ بِقُرُونٍ - وَلَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَيَعْتَقِدُونَ هَذَا الِاعْتِقَادَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. اهـ.
أَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللهُ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ خُلِقَ بِكَلِمَةِ اللهِ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَسَرَتْ إِلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ ظَنُّوا أَنَّ الْكَلِمَةَ ذَاتٌ تَفْعَلُ بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَقَالُوا مَا قَالُوا، وَالْحَقُّ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُرِيدُ خَلْقَهُ، وَمَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ شَيْءٍ كَانَ كَمَا أَرَادَ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٦: ٨٢) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ إِلَّا بَيَانُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي ضَلَّتْ بِهَا الْأُمَمُ مِنْ أَقْدَمِهَا - كَالْهُنُودِ وَالْمِصْرِيِّينَ - إِلَى أَحْدَثِهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى؛ لَكَفَى فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ لَنَا ضَلَالَ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَالْأَصْلَ الْمَعْقُولَ الْمَقْبُولَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ التَّوْحِيدِ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتَجَلَّى بِذَلِكَ دِينُ اللهِ إِلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ نَقِيًّا مِنْ أَدْرَانِ الشِّرْكِ وَنَزَغَاتِ الشَّيَاطِينِ.
٤ - التَّثْلِيثُ عِنْدَ الْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ آسِيَةَ:
قَالَ هِيجِينْ (فِي ص ١٦٢ مِنْ كِتَابِهِ الْأَنْكِلُوسَكْسُونْ) :" كَانَ الْفُرْسُ يَدْعُونَ مِتْرُوسَا: الْكَلِمَةَ وَالْوَسِيطَ وَمُخَلِّصَ الْفُرْسِ اهـ. " وَقَالَ مِثْلَ هَذَا دُونْلَابُ وَبِنْصُونُ، وَقَالَ دُوَانْ فِي كِتَابِهِ الَّذِي ذُكِرَ غَيْرَ مَرَّةٍ: كَانَ الْفُرْسُ يَعْبُدُونَ إِلَهًا مُثَلَّثَ الْأَقَانِيمِ مِثْلَ الْهُنُودِ، وَيُسَمُّونَهَا: أُوزْمِرْدَ وَمِتْرَاتَ وَأَهْرِمَنْ، فَأُوزْمِرْدُ الْخَلَّاقُ، وَمِتْرَاتُ ابْنُ اللهِ الْمُخَلِّصُ وَالْوَسِيطُ، وَأَهْرِمَن الْمَلَكُ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا أَصْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَكَيْفَ سَرَى إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَالْمَشْهُورُ
75
عَنْ مَجُوسِ الْفُرْسِ التَّثْنِيَةُ دُونَ التَّثْلِيثِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ بِإِلَهٍ مَصْدَرِ النُّورِ وَالْخَيْرِ، وَإِلَهٍ مَصْدَرِ الظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ.
وَنُقِلَ عَنِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْأَشُورِيِّينَ وَالْفِينِيقِيِّينَ الْإِيمَانُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَنَّهَا ذَاتٌ تُعْبَدُ، وَيُسَمِّيهَا الْكَلْدَانِيُّونَ (مِمْرَارُ) وَالْأَشُورِيُّونَ (مَرْدُوخُ) وَيَدْعُونَ مَرْدُوخَ ابْنَ اللهِ الْبِكْرَ، وَهَكَذَا الْأُمَمُ يَأْخُذُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ بِرْتِشِرْدُ (فِي ص ٢٨٥ مِنْ كِتَابِهِ: خُرَافَاتُ الْمِصْرِيِّينَ الْوَثَنِيِّينَ) :" لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنَ الْأَبْحَاثِ الدِّينِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ مَصَادِرَ شَرْقِيَّةٍ مِنْ ذِكْرِ أَحَدِ أَنْوَاعِ التَّثْلِيثِ أَوِ التَّوَلُّدِ الثُّلَاثِيِّ. وَنَقُولُ: إِنَّ أَدْيَانَ
أَسْلَافِهِ الْغَرْبِيِّينَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَعْرَقَ فِي الْوَثَنِيَّةِ، فَهُمْ تَلَامِيذُ الشَّرْقِيِّينَ فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا الْمِصْرِيِّينَ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ شَوَّهُوا الدِّيَانَةَ الْمَسِيحِيَّةَ الشَّرْقِيَّةَ، فَنَقَلُوهَا مِنَ التَّوْحِيدِ الْإِسْرَائِيلِيِّ إِلَى التَّثْلِيثِ الْوَثَنِيِّ.
٥ - التَّثْلِيثُ عِنْدَ أَهْلِ أُورُبَّةَ: الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ وَغَيْرِهِمْ:
جَاءَ فِي كِتَابِ (سُكَّانُ أُورُبَّةَ الْأَوَّلِينَ) مَا تَرْجَمَتُهُ: " كَانَ الْوَثَنِيُّونَ الْقُدَمَاءُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ ذُو ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ ".
وَجَاءَ فِي كِتَابِ " تَرَقِّي الْأَفْكَارِ الدِّينِيَّةِ " (ص ٣٠٧ م ا) : إِنَّ الْيُونَانِيِّينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِلَهَ مُثَلَّثُ الْأَقَانِيمِ، وَإِذَا شَرَعَ قِسِّيسُوهُمْ بِتَقْدِيمِ الذَّبَائِحِ يَرُشُّونَ الْمَذْبَحَ بِالْمَاءِ الْمُقَدَّسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِشَارَةً إِلَى الثَّالُوثِ وَيَرُشُّونَ الْمُجْتَمِعِينَ حَوْلَ الْمَذْبَحِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَأْخُذُونَ الْبَخُورَ مِنَ الْمِبْخَرَةِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْحُكَمَاءَ قَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ الْمُقَدَّسَةِ مُثَلَّثَةً، وَلَهُمُ اعْتِنَاءٌ بِهَذَا الْعَدَدِ فِي جَمِيعِ شَعَائِرِهِمُ الدِّينِيَّةِ. اهـ.
أَقُولُ: وَقَدِ اقْتَبَسَتِ الْكَنِيسَةُ بَعْدَ دُخُولِ نَصْرَانِيَّةِ قُسْطَنْطِينَ فِيهِمْ هَذِهِ الشَّعَائِرَ كُلَّهَا، وَنَسَخَتْ بِهَا شَرِيعَةَ الْمَسِيحِ الَّتِي هِيَ التَّوْرَاةُ، وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَسِيحِيِّينَ وَيَعْمَلُونَ كُلَّ شَيْءٍ بَاسِمِ الْمَسِيحِ! فَهَلْ ظُلِمَ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ بِالِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ كَمَا ظُلِمَ الْمَسِيحُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ لَا لَا.
وَنَقَلَ دُوَانْ عَنْ أُورْفِيُوسْ أَحَدِ كُتَّابِ الْيُونَانِ وَشُعَرَائِهِمْ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ الْأَشْيَاءِ صَنَعَهَا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ مُثَلَّثُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَقَانِيمِ ".
وَقَالَ فِسْكُ فِي ص (٢٠٥) مِنْ كِتَابِ (الْخُرَافَاتُ وَمُخْتَرِعُوهَا) : كَانَ الرُّومَانِيُّونَ الْوَثَنِيُّونَ الْقُدَمَاءُ، يُؤْمِنُونَ بِالتَّثْلِيثِ، يُؤْمِنُونَ بِاللهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْكَلِمَةِ، ثُمَّ بِالرُّوحِ.
وَقَالَ بَارْخُورِسْتُ فِي الْقَامُوسِ الْعِبْرَانِيِّ كَانَ لِلْفِنْلَنْدِيِّينَ (الْبَرَابِرَةُ الَّذِينَ كَانُوا فِي شَمَالِ بِرُوسْيَةَ) إِلَهٌ اسْمُهُ (تِرِيكْلَافُ) وَقَدْ وُجِدَ لَهُ تِمْثَالٌ فِي (هِرْتُونْجِرْ بِرْجَ) لَهُ ثَلَاثَةُ رُءُوسٍ
76
عَلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ. أَقُولُ: تِرِيكْلَافُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ: تِرِي، وَمَعْنَاهَا ثَلَاثَةٌ، وَكَلِمَةِ: كِلَافَ، وَلَعَلَّ مَعْنَاهَا إِلَهٌ.
وَقَالَ دُوَانْ (فِي ص ٣٧٧ مِنْ كِتَابِهِ) :" كَانَ الْإِسْكِنْدِنَاوِيُّونَ يَعْبُدُونَ إِلَهًا
مُثَلَّثَ الْأَقَانِيمِ يَدْعُونَهَا: أُودِينَ، وَتُورَا، وَفَرَى. وَيَقُولُونَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَقَانِيمُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ وُجِدَ صَنَمٌ يُمَثِّلُ هَذَا الثَّالُوثَ الْمُقَدَّسَ بِمَدِينَةِ (أُوبْسَالَ) مِنْ أَسُوجْ، وَكَانَ أَهْلُ أَسُوجْ وَنَرُوجْ وَالدِّنْمَارْكَ يُفَاخِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي بِنَاءِ الْهَيَاكِلِ لِهَذَا الثَّالُوثِ، وَكَانَتْ تَكُونُ جُدْرَانُ هَذِهِ الْهَيَاكِلِ مُصَفَّحَةً بِالذَّهَبِ، وَمُزَيَّنَةً بِتَمَاثِيلِ هَذَا الثَّالُوثِ، وَيُصَوِّرُونَ أُودِينَ بِيَدِهِ حُسَامٌ، وَتُورَا وَاقِفًا عَنْ شِمَالِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ بِيَدِهِ صَوْلَجَانُ، وَفِرِي وَاقِفًا عَنْ شِمَالِ تُورَا، وَفِيهِ عَلَامَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَيَدْعُونَ أَوَدِينَ الْآبَ، وَتُورَا الِابْنَ الْبِكْرَ أَيِ ابْنَ الْأَبِ أُودِينَ وَ " فِرِي " مَانِحُ الْبَرَكَةِ وَالنَّسْلِ وَالسَّلَامِ وَالْغِنَى. اهـ.
أَقُولُ: فَهَلْ تَرَكَ الْأُورُبِّيُّونَ أَدْيَانَهُمُ الْوَثَنِيَّةَ إِلَى دِينِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى أَسَاسِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، أَمْ ظَلُّوا عَلَى وَثَنِيَّتِهِمْ، وَأَدْخَلُوا فِيهَا شَخْصَ الْمَسِيحِ، وَجَعَلُوهُ أَحَدَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ قَبْلُ... ؟ إِنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ شَرِيعَةَ مُوسَى، وَإِنَّمَا جَاءَ لِيُتَمِّمَهَا، وَلَكِنَّ مُقَدَّسَهُمْ بُولِسْ نَقَضَهَا حَجَرًا حَجَرًا وَلَبِنَةً لَبِنَةً، إِلَّا ذَبِيحَةَ الْأَصْنَامِ وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ، وَالزِّنَا الَّذِي لَا عِقَابَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، فَأَرَاحَهُمْ وَمَهَّدَ لَهُمُ السَّبِيلَ لِتَأْسِيسِ دِينٍ جَدِيدٍ لَا يَتَّفِقُ مَعَ دِينِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي عَقَائِدِهِ وَلَا فِي أَحْكَامِهِ، وَلَا فِي آدَابِهِ، وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ الْإِفْرِنْجُ الَّذِينَ بَذَلُوا الْمَلَايِينَ مِنَ الدَّنَانِيرِ لِتَنْصِيرِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ، وَغَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْبَادُ جَمِيعِ الْبَشَرِ بِإِزَالَةِ مُلْكِهِمْ وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ ; لِتَكُونَ جَمِيعُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتُهَا وَزِينَتُهَا وَعَظْمَتُهَا خَالِصَةً لَهُمْ، فَهَلْ جَاءَ الْمَسِيحُ لِهَذَا، وَبِهَذَا أَمَرَ أَمْ بِضِدِّهِ؟
وَاللهِ إِنَّنِي لَا أَرَى مِنْ عَجَائِبِ أَطْوَارِ الْبَشَرِ وَقَلْبِهِمْ لِلْحَقَائِقِ وَلَبْسِهِمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَعْجَبَ وَأَغْرَبَ مِنْ وُجُودِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الْأَرْضِ! دِيَانَةٌ بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمَعْقُولِ، جَعَلُوهَا دِيَانَةً وَثَنِيَّةً بِتَثْلِيثٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ، أَخَذُوهُ مِنْ تَثْلِيثِ الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ الْمُقْتَبَسِ مِنْ تَثْلِيثِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَرَاهِمَةِ اقْتِبَاسًا مُشَوَّهًا. دِيَانَةُ شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، نَسَخُوا شَرِيعَتَهَا بِرُمَّتِهَا وَأَبْطَلُوهَا، وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا بِدَعًا وَتَقَالِيدَ غَرِيبَةً عَنْهَا. دِيَانَةُ زُهْدٍ وَتَوَاضُعٍ وَتَقَشُّفٍ وَإِيثَارٍ وَعُبُودِيَّةٍ، جَعَلُوهَا دِيَانَةَ طَمَعٍ وَجَشَعٍ وَكِبْرِيَاءٍ وَتَرَفٍ وَأَثَرَةٍ وَاسْتِعْبَادٍ لِلْبَشَرِ. دِيَانَةٌ أُصُولُهَا الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ
الْأُولَى، لَمْ تَرِدْ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَقِيدَتِهَا عَنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ جَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، دِيَانَةٌ نَسَبُوهَا إِلَى الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ نَصٌّ مِنْ كَلَامِهِ فِي أُصُولِ عَقِيدَتِهَا الَّتِي هِيَ التَّثْلِيثُ، وَإِنَّمَا بَقِيَ
77
عِنْدَهُمْ نُصُوصٌ قَاطِعَةٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَإِبْطَالِ التَّثْلِيثِ، وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْآبِ وَالِابْنِ الَّذِي أُطْلِقَ لَفْظُهُ مَجَازًا عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَبْرَارِ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْأَكْثَرِ بِابْنِ الْإِنْسَانِ.
لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ النُّصُوصِ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِلَّا مَا رَوَاهُ يُوحَنَّا فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ لَكَفَى، وَهُوَ قَوْلُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: (٣ وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) فَبَيَّنَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْإِلَهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ رَسُولُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَسَاسَ عَقِيدَتِهِمْ، يُرَدُّ إِلَيْهِ كُلُّ مَا يُوهِمُ خِلَافَهُ، وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ، لِأَجْلِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ.
وَنَقَلَ مُرْقُسُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ أَنَّ أَحَدَ الْكَتَبَةِ سَأَلَهُ عَنْ أَوَّلِ الْوَصَايَا قَالَ: فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: أَوَّلُ الْوَصَايَا: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. إِلَخْ... ٣٢ فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: جَيِّدًا يَا مُعْلِمُ بِالْحَقِّ قُلْتَ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ... ٣٤ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْلٍ قَالَ لَهُ: لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ) فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ هُوَ الْعَقِيدَةُ الْمَعْقُولَةُ الَّتِي تُؤْخَذُ عَلَى ظَاهِرِهَا بِلَا تَأْوِيلٍ، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَرَدَ مَا يُنَافِيهَا، وَجَبَ رَدُّهُ أَوْ إِرْجَاعُهُ إِلَيْهَا.
وَرَوَى يُوحَنَّا عَنْهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِهِ أَنَّهُ قَالَ: (٢٨ اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ) وَمِثْلُهُ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ رِسَالَةِ يُوحَنَّا الْأُولَى: (١٢ اللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ) وَفِي الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ رِسَالَةِ بُولِسَ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ تيِمُوثَاوِسْ: (١٦ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ) وَقَدْ رَأَى النَّاسُ الْمَسِيحَ وَالرُّوحَ الْقُدُسَ.
وَرَوَى مُرْقُسُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّاعَةِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا نَصُّهُ: (٣٢ وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا الِابْنُ إِلَّا الْآبُ) فَلَوْ كَانَ الِابْنُ عَيْنَ الْآبِ لَكَانَ يَعْلَمُ
كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ الْآبُ، وَقَوْلُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْقِيَامَةِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ خِطَابًا لِخَاتَمِ رُسُلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إِنَّمَا عَلَمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ (٧: ١٨٧).
وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَقْبَلُونَ نُصُوصَ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا لَأَتَيْنَاهُمْ بِشَوَاهِدَ مِنْهُ عَلَى التَّوْحِيدِ مُؤَيَّدَةً بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ عَنْ أَنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَلَيْسَ بِدْعًا فِيهِمْ، وَنَاهِيكَ بِالْفَصْلِ الرَّابِعِ وَالسِّتِّينَ مِنْهُ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْمَسِيحُ بِمَا آتَى اللهُ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ لَا تُنَافِي الْبَشَرِيَّةَ وَالْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِالْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالتِّسْعِينَ الَّذِي يَحْتَجُّ فِيهِ بِأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِكَلِمَتِهِ، وَأَنَّهُ يَرَى وَلَا يُرَى، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَسِّدٍ وَغَيْرُ مُرَكَّبٍ وَغَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَنَامُ، ثُمَّ قَالَ:
78
(١٩ فَإِنِّي بَشَرٌ مَنْظُورٌ، وَكُتْلَةٌ مِنْ طِينٍ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَفَانٍ كَسَائِرِ الْبَشَرِ ٢٠، وَإِنَّهُ كَانَ لِي بِدَايَةٌ، وَسَيَكُونُ لِي نِهَايَةٌ، وَإِنِّي لَا أَقْتَدِرُ أَنْ أَبْتَدِعَ خَلْقَ ذُبَابَةٍ).
وَحَسْبُنَا مَا كَتَبْنَاهُ هُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّثْلِيثِ الْآنَ، وَسَنُبْقِي بَقِيَّةَ مَبَاحِثِهَا إِلَى تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ الِاسْتِنْكَافُ: الِامْتِنَاعُ عَنِ الشَّيْءِ أَنَفَةً وَانْقِبَاضًا مِنْهُ، قِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ نَكَفَ الدَّمْعَ: إِذَا نَحَّاهُ عَنْ خَدِّهِ بِأُصْبُعِهِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ، وَنَكَفَ مِنْهُ: أَنِفَ، وَأَنْكَفَهُ عَنْهُ: بَرَّأَهُ، وَالْمَعْنَى: لَنْ يَأْنَفَ الْمَسِيحُ، وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَلَا هُوَ بِالَّذِي يَتَرَفَّعُ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَمِ خَلْقِ اللهِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ عَلَى الْعُقَلَاءِ مَنْ خَلْقِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالشُّكْرِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَفَاضَلُونَ بِهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِلَّهِ أَوْ عَنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ لَا يَسْتَنْكِفُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، (كُلُّ تَقْدِيرٍ مِنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ صَحِيحٌ يُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ) عَلَى أَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنَ الْمَسِيحِ خَلْقًا وَأَفْعَالًا، وَمِنْهُمْ رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي بِنَفْخَةٍ مِنْهُ خُلِقَ الْمَسِيحُ، وَبِتَأْيِيدِ اللهِ إِيَّاهُ بِهِ كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ، وَلَوْلَا نَفْخَتُهُ وَتَأْيِيدُهُ لَمَا كَانَ لِلْمَسِيحِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْحَلِيمِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَجُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا
جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ فَيُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَوَجْهُ التَّفْضِيلِ أَنَّ السِّيَاقَ فِي رَدِّ غُلُوِّ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ ; إِذِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَرَفَعُوهُ عَنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فَالْبَلَاغَةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَقْتَضِي التَّرَقِّيَ فِي الرَّدِّ مِنَ الرَّفِيعِ إِلَى الْأَرْفَعِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا التَّقِيَّ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ تَقْبِيلِ يَدِهِ الْوَزِيرُ وَلَا الْأَمِيرُ. فَإِذَا بَدَأْتَ بِذِكْرِ الْأَمِيرِ لَمْ يَعُدْ لِذِكْرِ الْوَزِيرِ مَزِيَّةٌ وَلَا فَائِدَةٌ، بَلْ يَكُونُ لَغْوًا ; لِأَنَّهُ يَنْدَمِجُ فِي الْأَوَّلِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ فَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَكَانَ آخَرُ شَوْطِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنْ جَعَلَ غَايَةَ الْآيَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لَا كُلِّ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ عَلَى الْكَشَّافِ بِرَدِّ طَرِيقَةِ التَّرَقِّي وَالتَّفَصِّي مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ عَادَ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ نَفْسِهِ، وَجَزَمَ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِظَمِ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ الرَّدَّ عَلَى مَنِ اسْتَكْبَرُوا خَلْقَ الْمَسِيحِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَصُدُورَ بَعْضِ الْآيَاتِ عَنْهُ، فَجَعَلُوهُ إِلَهًا، وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَيَعْمَلُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ آيَاتِ الْمَسِيحِ ; فَهُمْ بِهَذَا أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُنْصِفُ يَرَى أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي هَذَا مِنَ الرَّجْمِ
79
بِالْغَيْبِ، إِذْ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ، وَلَا نَصَّ، وَلَيْسَ لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَائِدَةٌ فِي إِيمَانٍ وَلَا عَمَلٍ، وَلَكِنَّهُ مِنْ تَوْسِيعِ مَسَافَةِ التَّفَرُّقِ بِالْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ.
وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ الِاسْتِكْبَارُ: أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ كَبِيرَةً فَوْقَ مَا هِيَ؛ غُرُورًا وَإِعْجَابًا، فَيَحْمِلُهَا بِذَلِكَ عَلَى غَمْطِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ كَانَ لِلَّهِ أَوْ لِخَلْقِهِ وَعَلَى احْتِقَارِ النَّاسِ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَمَنْ يَتَرَفَّعْ عَنْ عِبَادَتِهِ أَنَفَةً وَيَتَبَرَّأُ مِنْهَا، وَيَجْعَلْ نَفْسَهُ كَبِيرَةً فَيَرَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَا التَّلَبُّسَ بِهَا فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا أَيْ فَسَيَحْشُرُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَنْكِفِينَ وَالْمُسْتَكْبِرِينَ لِلْجَزَاءِ، مُجْتَمِعِينَ مَعَ غَيْرِ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالْمُسْتَنْكِفِينَ، الَّذِينَ ذَكَرَ بَعْضَهُمْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللهَ يَحْشُرُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ، فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، كَمَا وَرَدَ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُمْ وَيَجْزِيهِمْ عَمَلَهُمْ، كَمَا يَجْزِي غَيْرَهُمْ عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي قَوْلِهِ:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ يُعْطِيهِمْ أُجُورَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ وَافِيَةً تَامَّةً، كَمَا يَسْتَحِقُّونَ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي النَّفْسِ، وَيَزِيدُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ وَجُودِهِ مِنْ عَشْرَةِ أَضْعَافٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمُضَاعَفَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَيْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا مُؤْلِمًا، كَمَا يَسْتَحِقُّونَ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - أَيْضًا، وَلَكِنْ لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا ; لِأَنَّ الرَّحْمَةَ سَبَقَتِ الْغَضَبَ، فَهُوَ - تَعَالَى - يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَيُجَازِي الْمُسِيءَ بِالْعَدْلِ فَقَطْ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مَنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا أَيْ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَلِيًّا يَتَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ، وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُهُمْ، فَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (٨٢: ١٩).
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْإِعْرَابِ فِي الْآيَةِ: إِفْرَادُ فِعْلِ يَسْتَنْكِفُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ وَجَمْعُ فِعْلِ فَسَيَحْشُرُهُمْ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا ; فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَمِنْهَا: مَسْأَلَةُ مُطَابَقَةِ التَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُفَصِّلِ الْمَذْكُورِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ فِي آخِرِ الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِ التَّفْصِيلَ لِلْمُجَازَاةِ لَا لِلْمَحْشُورِينَ الْمَجْزِيِّينَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمُطَابَقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ لَازِمٌ لِلْحَشْرِ ; فَبَيَّنَهُ عَقِبَهُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْبَيْضَاوِيُّ، وَرَدَّهُ السَّعْدُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ جَمَعَ الْإِمَامُ الْخَوَارِجَ، فَمَنْ لَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِ كَسَاهُ وَحَمَلَهُ، أَيْ: أَعْطَاهُ مَا يَرْكَبُهُ، وَمَنْ خَرَجَ نَكَّلَ بِهِ. وَصِحَّةُ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدِهِمَا: أَنْ يُحْذَفَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الثَّانِي، كَمَا حُذِفَ أَحَدُهُمَا فِي التَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ عَقِيبَ هَذَا: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ.
80
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِمَّا يَعُمُّهُمْ، فَكَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيُعَذَّبُ بِالْحَسْرَةِ إِذَا رَأَى أُجُورَ الْعَامِلِينَ، وَبِمَا يُصِيبُهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ. اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى حَشْرِ الْمُسْتَنْكِفِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَمِيعًا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَثَمَّ
وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْعَامِلِينَ بِصِيغَةِ مُبْتَدَأٍ، يَكُونُ خَبَرُهُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ أَوِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ شَرْطًا كَمَا هُنَا، وَكَانَ جَزَاؤُهُ كَلَامًا عَامًّا يُشِيرُ إِلَى الْخَبَرِ إِشَارَةً ضِمْنِيَّةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٨: ٤٩) وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٥٧: ٢٤) وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَالْمُرَادُ: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ، فَسَيَجْزِيهِ إِذْ يَحْشُرُ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.
لَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ عَلَى النَّصَارَى وَفِيمَا قَبْلَهَا عَلَى الْيَهُودِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالنُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ، كَمَا قَامَتْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيهَا وَفِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ، وَظَهَرَتْ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ ظُهُورَ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ; لِأَنَّ سُحُبَ الشُّبَهَاتِ قَدِ انْقَشَعَتْ بِالْحُجَجِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا كُلَّ الِانْقِشَاعِ - نَادَى اللهُ - تَعَالَى - النَّاسَ كَافَّةً وَدَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ بُرْهَانِهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِالنُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ قِبَلِ رَبِّكُمْ، بِفَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِتَرْبِيَتِكُمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِكُمْ، بُرْهَانٌ عَظِيمٌ أَوْ جَلِيٌّ يُبَيِّنُ لَكُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، مُؤَيِّدًا لَكُمْ ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالْحِكَمِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الْأُمِّيُّ، الَّذِي يَظْهَرُ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ سِيرَتَهُ فِي نَشْأَتِهِ، وَتَرْبِيَتَهُ وَحَالَهُ فِي بَعْثَتِهِ، وَسُنَّتَهُ، أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانٌ عَلَى حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ: أُمِّيٌّ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ قَطُّ، وَلَمْ يُعْنَ فِي طُفُولِيَّتِهِ، وَلَا فِي شَبَابِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ يُسَمَّى عِلْمًا عِنْدَ قَوْمِهِ الْأُمِّيِّينَ ; كَالشِّعْرِ وَالنَّسَبِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ، قَامَ فِي كُهُولَتِهِ يُعَلِّمُ الْأُمِّيِّينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ حَقَائِقَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ،
81
وَصِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ،
وَمَا يَجِبُ لِتِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، وَمَا تَتَزَكَّى بِهِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ، وَتَصْلُحُ بِهِ الْحَيَاةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَيَكْشِفُ مَا اشْتَبَهَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ، وَمَا اضْطَرَبَ فِيهِ نُظَّارُ الْفَلْسَفَةِ الْعُلْيَا مِنْ مَسَائِلِ فَلْسَفَتِهِمْ، وَيَرْفَعُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ عَلَى أَسَاسِ الْحُجَجِ الْكَوْنِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيَسْلُكُ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي بَيَانِ الشَّرَائِعِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْحِكْمَةِ الْأَدَبِيَّةِ، وَالسِّيَاسَةِ الْحَرْبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُسَمَّى هُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانًا.
وَهُوَ بُرْهَانٌ بِسِيرَتِهِ الْعَمَلِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ بُرْهَانٌ فِي دَعْوَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقَدْ نَشَأَ يَتِيمًا لَمْ يُعْنَ بِتَرْبِيَتِهِ عَالِمٌ وَلَا حَكِيمٌ وَلَا سِيَاسِيٌّ، بَلْ تُرِكَ كَمَا كَانَ وِلْدَانُ الْمُشْرِكِينَ يُتْرَكُونَ وَشَأْنُهُمْ، وَكَانَ فِي سِنِّ التَّعْلِيمِ وَتَكَوُّنِ الْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ يَرْعَى الْغَنَمَ نَهَارًا وَيَنَامُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَلَا يَحْضُرُ سُمَّارَ قَوْمِهِ (مَوَاضِعَ السَّمَرِ فِي اللَّيْلِ) وَلَا مَعَاهِدَ لَهْوِهِمْ، وَاتَّجَرَ قَلِيلًا فِي شَبَابِهِ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَتْرَابِهِ، فَهُوَ لَمْ يُصَادِفْ مِنَ التَّرْبِيَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، مَا يُؤَهِّلُهُ لِلْمَنْصِبِ الَّذِي تَصَدَّى لَهُ فِي كُهُولَتِهِ، وَهُوَ تَرْبِيَةُ الْأُمَمِ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً اجْتِمَاعِيَّةً سِيَاسِيَّةً حَرْبِيَّةً، وَلَكِنَّهُ قَامَ بِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ أَكْمَلَ قِيَامٍ، وَمَا زَالَ يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِ مَا قَامَ بِهِ مَنْ يَسْتَعِدُّونَ لَهُ بِالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، فَكَانَ بِهَذَا بُرْهَانًا عَلَى عِنَايَةِ اللهِ بِهِ، وَتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُ بِوَحْيِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا أَيْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ كِتَابًا مِنْ لَدُنَّا هُوَ كَالنُّورِ، بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، مُبَيِّنٌ لِكُلِّ مَا أُنْزِلَ لِبَيَانِهِ، تَنْجَلِي لَكُمُ الْحَقَائِقُ بِبَلَاغَتِهِ وَأَسَالِيبِ بَيَانِهِ، بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا مَنْ تَدَبَّرَهُ وَعَقَلَ مَعَانِيَهُ، بَلْ تَثْبُتُ فِي عَقْلِهِ، وَتُؤَثِّرُ فِي قَلْبِهِ، وَتَكُونُ هِيَ الْحَاكِمَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُصْلِحَةَ لَهُ فِي عَمَلِهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، هُوَ أَثْبَتُ الْحَقَائِقِ، وَأَعْلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَشَرَ مِنَ الْمَعَارِفِ، وَأَفْضَلُ مَا تَتَزَكَّى بِهِ النُّفُوسُ وَتَتَرَقَّى بِهِ الْعُقُولُ، وَقَدْ بُعِثَ بِهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدْعُو أُمَّتَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَسْتَجِيبُ النَّاسُ لَهُمْ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِفَهْمِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعُلْيَا، ثُمَّ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُشَوِّهُوهَا بَعْدَهُمْ بِالشِّرْكِ وَضُرُوبِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي تَطْمِسُ الْعُقُولَ وَتُدَنِّسُ النُّفُوسَ، وَتَهْبِطُ بِالْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ أَوَجِ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ أَهْلًا لَهَا، إِلَى الْمَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ بِالْخُضُوعِ
وَالْخُنُوعِ وَالِاسْتِخْذَاءِ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جِنْسِهِمْ، أَوْ مِنْ أَجْنَاسٍ أُخْرَى، فَضَّلَ اللهُ جِنْسَهُمْ عَلَيْهَا، وَكَانَ أَقْرَبُ الْأُمَمِ التَّارِيخِيَّةِ عَهْدًا بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَكَانُوا عَلَى نِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ لَا يَزَالُونَ يَحْفَظُونَ بَعْضَ وَصَايَا رُسُلِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهَا إِذْ يُلْبِسُونَهَا بِالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ كَاتِّخَاذِ الْمَسِيحِ إِلَهًا، بَلِ اتِّخَاذِ مَنْ دُونَهُ مِنْ مُقَدَّسِيهِمْ آلِهَةً أَوْ أَنْصَافَ آلِهَةٍ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ وُسَطَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ فِي كُلِّ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ
82
وَبِالشَّرَكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ; بِاتِّخَاذِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُشَرِّعُونَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَيُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ فَيَتْبَعُونَهُمْ.
هَكَذَا كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي عَهْدِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتْبَعُونَ أُنَاسًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ وَمُقَدَّسِيهِمْ فِي عَقَائِدَ وَآدَابٍ وَشَرَائِعَ مَشُوبَةٍ بِالْوَثَنِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِغَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ وَحْيِ اللهِ الْمُنَزَّلِ، كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي أُمُورِ الدِّينِ الْخَالِصِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ، وَسَائِرِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ الْبَشَرُ يَسْتَقِلُّونَ بِمَعْرِفَةِ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ مِنَ اللهِ لَمَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى بَعْثَةِ الرُّسُلِ. وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُبَيِّنِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَوْ صَدَقُوا لَمَا صَارَ دِينُهُمْ فِي شَكْلٍ غَيْرِ مَا كَانَا عَلَيْهِ هُمَا، وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمَا فِي زَمَنِهِمَا، بِحَيْثُ لَوْ بُعِثَا ثَانِيَةً لَأَنْكَرَا كُلَّ مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَدْعِيَاءُ أَوْ أَكْثَرَهُ. وَإِذَا كَانَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ لِدِينِهِمَا وَهُوَ التَّوْحِيدُ قَدْ زُلْزِلَ عِنْدَ الْيَهُودِ، وَزَالَ مِنْ عِنْدِ النَّصَارَى فَكَيْفَ يَكُونُ دِينُهُمَا هُوَ دِينَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؟ ! هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَقْرَبُ النَّاسِ عَهْدًا بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ؟ فَمَا الَّذِي فَعَلَهُ الْقُرْآنُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ؟
لَوْ لَمْ يَجِئْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ بِغَيْرِ عُنْوَانِهِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) لَمَا كَانَ كِتَابُهُ نُورًا مُبِينًا لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ كَالْهُنُودِ وَالْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُصَرِّحُ بِمِثْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عِنْدَنَا أَوْ بِهَا نَفْسِهَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ مُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْبَشَرِ أَوِ الْحَيَوَانِ أَوِ الْجَمَادِ يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ بِصِفَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، غَيْرِ دَاخِلَةٍ فِي سِلْسِلَةِ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَيَتَوَجَّهُونَ
إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُعْتَقَدَةِ تَوَجُّهَ الْعِبَادَةِ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ فِي بَيَانِ الدَّيْنِ، فَيَجِبُ تَرْكُهُ إِلَى مَا يَضَعُهُ لَهُمْ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ - أَيْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ - أَوْ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ النَّظَرِ التَّقْلِيدِيِّ فِيهِ لِدَعْمِهِ بِهِ، وَإِرْجَاعِهِ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا كَانَتِ الْوَثَنِيَّةُ قَدْ تَغَلْغَلَتْ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ الْمَأْثُورَةِ وَأَفْسَدَتْهَا عَلَى أَهْلِهَا، فَقَلَّدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا وَرِثُوهُ مِنْهَا، أَنْزَلَ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ هَذَا النُّورَ الْمُبِينَ - الْقُرْآنَ - فَكَانَ أَشَدَّ إِبَانَةً لِدَقَائِقِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَخَفَايَاهَا مِنْ نُورِ الْكَهْرَبَاءِ الْمُتَأَلِّقِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي نَرَى فِيهِ السِّرَاجَ الْوَاحِدَ فِي قُوَّةِ مِئَاتٍ أَوْ أُلُوفٍ مِنْ نُورِ الشَّمْعِ، فَبَيَّنَ لِمَنْ يَفْهَمُ لُغَتَهُ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ الْمَادِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، وَضُرُوبِ الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّجَارِبِ، وَكَشْفِ مَا رَانَ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مِنْ شُبُهَاتِ الْمُضِلِّينَ وَأَوْهَامِ الضَّالِّينَ، الَّتِي مَزَجَتْهَا بِالشِّرْكِ مَزْجًا جَمَعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ - بَلِ النَّقِيضَيْنِ - جَمْعًا، وَلَوَّنَ أَسَالِيبَ الْكَلَامِ فِيهَا، وَنَوَّعَهُ لِتَتَقَبَّلَ النَّفْسُ تَكْرَارَهُ بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَلَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ تَرْتِيلِ آيَاتِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَلَلِ.
83
فَكَانَ بَيَانُهُ فِي تَشْيِيدِ صَرْحِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَتَقْوِيضِ بِنَاءِ الْوَثَنِيَّةِ بَيَانًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي كَمَالِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي كِتَابٍ بَشَرِيٍّ وَلَا إِلَهِيٍّ.
إِلَّا أَنَّ إِدْرَاكَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعُلْيَا وَالْإِحَاطَةَ بِهَا، وَالْعِلْمَ بِمَا كَانَ مِنْ ضُرُوبِ الشُّبُهَاتِ عَلَيْهَا، وَالْأَبَاطِيلِ الْمُتَخَلِّلَةِ فِيهَا، وَبِمَا لَهَا مِنَ التَّمَكُّنِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا امْتِلَاخُهَا وَانْتِزَاعُهَا مِنْ فُنُونِ الْبَيَانِ، بِحَسْبَ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَحْوِيلِ الْأُمَمِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَّفِقَ لِرَجُلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الْعِلْمِ، وَلَا عَاشَرَ أَحَدًا عَارِفًا بِهِمَا، كَيْفَ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فَوْقَ عُلُومِ الَّذِينَ صَرَفُوا كُلَّ حَيَاتِهِمْ فِي الدَّرْسِ وَالْقِرَاءَةِ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْبَيَانَ الْأَكْمَلَ لِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَاجْتِثَاثِ جُذُورِ الْوَثَنِيَّةِ، الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا - لَمْ يَكُنْ قَطُّ مَعْهُودًا مِنَ الْحُكَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَلَا مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ، دَعْ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ أَوِ الْمُتَعَلِّمِينَ ; لِهَذَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ اللهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنْزِلَ لِهَذَا النُّورِ الْمُبِينِ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (٢٦: ١٩٢ - ١٩٥).
فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا قُلْنَاهُ بِإِنْصَافٍ ظَهَرَ لَهُ بِهِ عَلَى اخْتِصَارِهِ: أَنَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ نَفْسُهُ بُرْهَانًا مِنَ اللهِ تَعَالَى - أَيْ حُجَّةً قَطْعِيَّةً - عَلَى حَقِّيَةِ دِينِهِ، وَأَنَّ كِتَابَهُ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ أُنْزِلَ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِعِلْمِهِ الْكَسْبِيِّ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ نُورًا مُبِينًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، لِيَرَوْا بِتَدْبِيرِهِ حَقِيقَةَ دِينِ اللهِ الَّذِي يُسْعِدُونَ بِهِ حَيَاتَهُمُ الدُّنْيَا، وَيَنَالُونَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ; وَلِذَلِكَ قَالَ:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ الِاعْتِصَامُ: الْأَخْذُ وَالتَّمَسُّكُ بِمَا يَعْصِمُ وَيَحْفَظُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِصَامِ، وَهُوَ: الْحَبَلُ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الْقِرْبَةُ وَالْإِدَاوَةُ لِتُحْمَلَ بِهِ، وَالْأَعْصَمُ: الْوَعْلُ يَعْتَصِمُ فِي شِعَافِ الْجِبَالِ وَقِنَنِهَا، فَالَّذِينَ يَعْتَصِمُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ يُدْخِلُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ لَا يُدْخِلُ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَفَضْلٍ خَاصٍّ لَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ تَنْكِيرُ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَرَحْمَةُ اللهِ وَفَضْلُهُ غَيْرُ مَحْصُورَيْنِ، وَلَكِنَّهُ يَخْتَصُّ مَنْ يَشَاءُ بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِهِمَا، وَقَدْ فُسِّرَتِ الرَّحْمَةُ هُنَا بِالْجَنَّةِ، وَالْفَضْلُ بِمَا يَزِيدُ اللهُ بِهِ أَهْلَهَا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْجَزَاءِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى تَقَدَّمَتْ: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَا بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ جَزَاءً وَزِيَادَةً، فَيَشْمَلَا مَا يَكُونُ لِأَهْلِ الِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الدُّنْيَا، إِذْ يَكُونُونَ رَحْمَةً لِلنَّاسِ بِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ، يُرْحَمُ النَّاسُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ رُحَمَاءَ بِالنَّاسِ، تَحْمِلُهُمْ رَحْمَتُهُمْ عَلَى
84
السَّعْيِ لِخَيْرِ النَّاسِ، وَبَذْلِ فَضْلِهِمْ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَمَالٍ لَهُمْ، فَيَكُونُونَ أَئِمَّةً لِلنَّاسِ بِرَحْمَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ.
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا أَيْ: وَيَهْدِيهِمْ - تَعَالَى - هِدَايَةً خَاصَّةً مُوَصِّلَةً إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا أَيْ طَرِيقًا قَوِيمًا قَرِيبًا يَبْلُغُونَ بِهِ الْغَايَةَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِالسِّيَادَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْكَمَالِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِالْجَنَّةِ وَالرِّضْوَانِ، فَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ إِلَّا بِالِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَيَا خَسَارَةَ الْمُعْرِضِينَ، وَيَا طُوبَى لِلْمُعْتَصِمِينَ، وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُ اللهِ لِلصَّادِقِينَ، فَفَازَ مَنِ اعْتَصَمَ مِنَ
الْأَوَّلِينَ، وَخَابَ وَخَسِرَ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ الْآخِرِينَ، فَعَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ بِذَلِكَ الْمُنْتَمُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَى هَذَا الدِّينِ.
وَقَدْ سَكَتَ عَنِ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْمُقَابِلِ لِهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَصِمِينَ؛ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ وَلِلْإِيذَانِ وَتَأَلُّقِ نُورِ الْبَيَانِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ، وَإِنْ وُجِدَ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لِأَنَّهُ كَالْعَدَمِ.
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ، فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةً فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ.
وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ آيَةِ الْفَرَائِضِ هُنَا لِلتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى عِنْدَ كَثِيرِينَ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَيْتُ فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثِ؟ قَالَ: " أَحْسِنْ " قُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ قَالَ: " أَحْسِنْ " ثُمَّ خَرَجَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: " إِنِّي لَا أَرَاكَ تَمُوتُ فِي وَجَعِكَ هَذَا، إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ وَبَيَّنَ مَا لِأَخَوَاتِكَ وَهُوَ الثُّلْثَانِ " فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ.
وَأَخْرَجَ الْعَدَنِيُّ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْفَرَائِضِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُذَيْفَةَ: نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
85
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ بِحُذَيْفَةَ فَلَقَّاهَا إِيَّاهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ نَظَرَ عُمَرُ فِي الْكَلَالَةِ فَدَعَا حُذَيْفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَقَدْ لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقَّيْتُكَ كَمَا لَقَّانِي، وَاللهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَبَدًا.
أَقُولُ: وَيُفَسِّرُ قَوْلَهُ " فَلَقَّيْتُكَ كَمَا لَقَّانِي " مَا رَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَبَلَّغَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُذَيْفَةَ، وَبَلَّغَهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ سَأَلَ عَنْهَا حُذَيْفَةَ، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ تَفْسِيرُهَا، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: وَاللهِ إِنَّكَ لَعَاجِزٌ إِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ إِمَارَتَكَ تَحْمِلُنِي عَلَى أَنْ أُحَدِّثَكَ مَا لَمْ أُحَدِّثْكَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ عُمَرُ: لَمْ أُرِدْ هَذَا، رَحِمَكَ اللهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص ٢٤٥ - ٣٤٨ مِنْ مَطْبُوعِ الْهَيْئَةِ) مَعْنَى الْكَلَالَةِ، وَاشْتِبَاهَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيهَا، وَسُؤَالَهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا بِنَفْسِهِ، وَبِوَاسِطَةِ بِنْتِهِ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِ عَنِ الْكَلَالَةِ فَلَمْ يَفْهَمْهَا، فَكَلَّفَ حَفْصَةَ أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا عِنْدَ مَا تَرَاهُ طَيِّبَةً نَفْسُهُ، وَرَوَى مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: " مَا سَأَلْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ " وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مِثْلَهُ، وَزَادَ: " فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا فَوَرَثَتْهُ كَلَالَةٌ " وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مَوْصُولًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنْزَلَ اللهُ فِي الْكَلَالَةِ آيَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِيهَا إِجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ، لَا يَكَادُ يَتَبَيَّنُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ظَاهِرِهَا، ثُمَّ أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ، وَهِيَ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ مَا لَيْسَ فِي آيَةِ الشِّتَاءِ، فَأَحَالَ السَّائِلَ عَلَيْهَا ; لِيَتَبَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا. اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ بَعْدَ بَيَانِ إِرْثِ الْوَالِدَيْنِ ; لِأَنَّهُمْ يَحُلُّونَ مَحَلَّهَا عِنْدَ فَقْدِهَا، فَيَأْخُذُونَ مَا كَانَتْ تَأْخُذُهُ، ثُمَّ عَرَضَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ إِخْوَةِ الْعَصَبِ عِنْدَ مَرَضِ جَابِرٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمَا وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي السَّفَرِ غَلَطٌ، سَبَبُهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ لَمَّا تَلَقَّاهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَنَّ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا مِنْ قَبْلُ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَظُنُّ الصَّحَابِيُّ
86
عِنْدَ سَمَاعِهِ الْآيَةَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ حَادِثَةٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَتَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَنْ عَلِمَ هَذَا سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنَ الْغَلَطِ عَلَى الْغَلَطِ، قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ السَّفَرَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هُوَ سَفَرُ حُجَّةِ الْوَدَاعِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ حُجَّةُ الْوَدَاعِ فِي الشِّتَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ آيَةُ الصَّيْفِ، وَرِوَايَةُ نُزُولِهَا بِسَبَبِ سُؤَالِ عُمَرَ لَا تَصِحُّ.
ثُمَّ إِنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ لَهُ مَثَارٌ مِنَ اللُّغَةِ وَمَجَالٌ مِنَ الْآيَتَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْلَ الْكَلَالَةِ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّسَبِ لِحًا ; أَيْ لَاصِقًا بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: مَا عَدَا الْوَلَدَ فَقَطْ، وَقِيلَ: الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عِنْدَ ذِكْرِهِ: وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ، وَقِيلَ: الْكَلَالَةُ مِنَ الْعَصَبَةِ مَنْ وَرِثَ مَعَهُ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ. وَيُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي يَرِثُهُ مَنْ ذُكِرَ. وَقِيلَ: بَلْ عَلَى الْوَرَثَةِ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ، وَقِيلَ: عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُرَجِّحُ الْقَرِينَةُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لُغَةً الَّذِي يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ النُّصُوصِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مِنَ الْمَوْرُوثِينَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ الْحَقُّ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَبُو دَاوُدَ وَوَصَلَهُ الْحَاكِمُ، وَلَعَلَّهُ لَوْ بَلَغَهُمْ كُلَّهُمْ لَزَالَ بِهِ كُلُّ خِلَافٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ مَجَالُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى الَّتِي ذُكِرَتْ بَيْنَ آيَاتِ الْفَرَائِضِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ لَمْ تُفَسِّرِ الْكَلَالَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ مَا يَرِثُهُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ إِرْثَ كَلَالَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَةِ فِيهَا الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتْ فَرْضَ أَخَوَاتِ الْعَصَبِ كَلَالَةً، وَاشْتَرَطَتْ فِيهِ عَدَمَ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ مَنْ تَأَمَّلَ الْآيَاتِ كُلَّهَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ قَبْلَ الْآيَةِ الْأُولَى إِرْثَ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ إِرْثَ الْوَالِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ وَعَدَمِهِ، وَمَعَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ إِرْثَ الْأَزْوَاجِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ وَعَدَمِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُدْلُونَ إِلَى مَنْ يَرِثُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُمْ يَرِثُ بِالْوَاسِطَةِ، فَيُعَدُّ كَلَالَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ جَاءَ
بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (٤: ١٢) وَمَعْنَى يُورَثُ كَلَالَةً: يَمُوتُ فَيَرِثُهُ مَنْ يَرِثُهُ مِنْ أَهْلِهِ إِرْثَ كَلَالَةٍ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ - أَيِ الْمَيِّتِ - كَلَالَةً ; أَيْ: لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ هَذَا مِنَ اللُّغَةِ لَعُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْرُ إِرْثِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْكَلَالَةُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِهِمَا، وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَلَّا يَكُونَ لَهُ زَوْجٌ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْكَلَالَةَ عَلَى النَّسَبِ دُونَ الصِّهْرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ الْقَرِينَةُ قَاضِيَةً بِأَنْ يُقَالَ:
87
إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَالَةِ هُنَا مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَلَا زَوْجٌ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ يَرِثُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَقَدْ ذُكِرَ فَرْضُهُ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَبْلَ ذِكْرِ الْكَلَالَةِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ أَصْحَابُ فَرْضٍ فِي الْكَلَالَةِ، وَأَنَّ فَرْضَهُمْ هُوَ فَرْضُ الْأُمِّ الَّتِي حَلُّوا مَحَلَّهَا فِي الْإِرْثِ، وَهُوَ مِنَ الْقَرَائِنِ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ، وَبَقِيَ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعًا أَوْ مِنَ الْأَبِ فَقَطْ مَسْكُوتًا عَنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهُ فَرْضٌ مِنَ الْأَقَارِبِ يَحُوزُ مَا بَقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ إِنْ كَانَ عَصَبَةً، عَلَى قَاعِدَةِ: (أَخْذِ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وَقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَقْرَبِ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ. فَلَمَّا مَرِضَ جَابِرٌ وَلَهُ أَخَوَاتٌ مِنْ عَصَبَتِهِ، أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ لَهُنَّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُنَّ فَرْضٌ وَهُوَ كَلَالَةٌ، وَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تُوَرِّثُ الْإِنَاثَ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الْفَتْوَى فِي الْكَلَالَةِ، فَجَعَلَ لَهُنَّ فِيهَا فَرْضًا، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ ; إِذْ نَفَتِ الْوَلَدَ، وَلَمْ تَنْفِ الْوَالِدَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَالْجُمْهُورِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ كَتَبَ رَأْيَهُ فِي لَوْحٍ وَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللهَ مُدَّةً فِيهِ، يَقُولُ: اللهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ. حَتَّى إِذَا طُعِنَ دَعَا بِالْكِتَابِ فَمُحِيَ، وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ كَتَبْتُ فِي الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كِتَابًا، وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللهَ فِيهِمَا، فَرَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَتَى عُمَرَ حِينَ طُعِنَ فَقَالَ: " احْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَلَّا يُدْرِكَنِي النَّاسُ، أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَقْضِ فِي الْكَلَالَةِ، وَلَمْ أَسْتَخْلِفْ عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةً، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي عَتِيقٌ " وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَنْكَرَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدٌ لَهُ وَلَا وَالِدٌ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ.
وَهَهُنَا عِبْرَةٌ يَجِبُ تَدَبُّرُهَا، وَهِيَ أَنَّنِي لَمْ أَرَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَغْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا أَدَلَّ مِنْهَا عَلَى قُوَّةِ دِينِهِ، وَإِيمَانِهِ بِالْقُرْآنِ، وَحِرْصِهِ عَلَى بَيَانِ كُلِّ حُكْمٍ مِنَ الشَّرْعِ بِدَلِيلِهِ، وَوُقُوفِهِ إِذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ الْحُجَّةُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ فَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَقَدْ سُئِلَ مَرَّةً عَنِ الْكَلَالَةِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: الْكَلَالَةُ، الْكَلَالَةُ، الْكَلَالَةُ، وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَأَنْ أَعْلَمَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ شَيْءٍ، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَلَمْ تَسْمَعِ الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصَّيْفِ؟ " فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَالظَّاهِرُ - إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ - أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُبَيِّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْكَامَ الْكَلَالَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَيَسْأَلُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ سُؤَالًا مُطْلَقًا مُبْهَمًا، لَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ مِنْهُ، فَيَذْكُرُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَلَا يَزِيدُهُ مِنِ اجْتِهَادِهِ شَيْئًا، فَكَبُرَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي نَفْسِهِ، وَصَارَتْ إِذَا ذُكِرَتْ تَهُولُهُ، وَتُحْدِثُ فِي نَفْسِهِ اضْطِرَابًا، فَلَا يَتَجَرَّأُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ
88
اجْتِهَادَهُ وَرَأْيَهُ فِي فَهْمِهَا. وَقَدْ عَهِدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَعْجِزُوا عَنْ تَصَوُّرِ بَعْضِ الْأُمُورِ ; كَبَعْضِ أَرْقَامِ الْحِسَابِ مَثَلًا، وَيَكُونُ تَصَوُّرُهُمْ وَإِدْرَاكُهُمْ لِكُلِّ مَا عَدَا ذَلِكَ صَحِيحًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَا تَخَافُهُ النَّفْسُ، وَيَضْطَرِبُ لَهُ الْعَصَبُ، كَالْقَوْلِ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا مَنْ يُقَدِّمُونَ اجْتِهَادَهُمْ أَوِ اجْتِهَادَ شُيُوخِهِمْ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوِ الَّذِينَ لَا يُقَدِّمُونَ كِتَابَ اللهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْكَلَالَةَ مِنَ الْوَارِثِينَ مَنْ كَلَّ وَأَعْيَا عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَيِّتِ الْمَوْرُوثِ بِنَفْسِهِ ; فَهُوَ يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ مَنْ يَتَّصِلُ نَسَبُهُ بِهِ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا النَّسَبُ الْمُتَّصِلُ بِالذَّاتِ - الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَمَا عَلَا مِنَ الْأُصُولِ وَسَفُلَ مِنَ الْفُرُوعِ - هُوَ عَمُودُ النَّسَبِ، فَلَا يَكُونُ كَلَالَةً ; فَالْكَلَالَةً مِنَ الْوَارِثِينَ إذًا هُمُ الْحَوَاشِي الَّذِينَ يُدْلُونَ إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةِ الْأَبَوَيْنِ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا مِنَ الْأَطْرَافِ، وَالْكَلَالَةُ مِنَ الْمَوْرُوثِينَ هُوَ الَّذِي يَرِثُهُ غَيْرُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَهَذَا مَا كَانَ يَفْهَمُهُ الصَّحَابَةُ ; لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا صِحَّةَ لِغَيْرِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ بَعْضُهُمْ إِلَّا لِنَفْيِ الْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُمْ عَهِدُوا أَنَّ الْقُرْآنَ خَالٍ مِنَ الْعَبَثِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فِي ذِكْرِ مَا يُثْبِتُهُ وَتَرْكِ مَا يَتْرُكُهُ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، وَهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُمْ حَفِظُوا هَذَا الْقُرْآنَ أَكْمَلَ حِفْظٍ وَأَتَمَّهُ،
فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ نَسُوا أَوْ تَرَكُوا ذِكْرَ نَفْيِ الْوَالِدِ مَعَ نَفْيِ الْوَلَدِ فِي الْآيَةِ ; وَلِهَذَا أَغْلَظَ حُذَيْفَةُ الرَّدَّ عَلَى عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ، لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ ; إِذْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا شَيْئًا بِرَأْيِهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَحَلُّ الْإِشْكَالِ هُوَ نُكْتَةَ نَفْيِ الْوَلَدِ دُونَ نَفْيِ الْوَالِدِ فِي الْآيَةِ، وَإِلَيْكَ تَفْسِيرُهَا مُتَضَمِّنًا لِهَذِهِ النُّكْتَةِ:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ أَيْ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْفُتْيَا فِي مَنْ يُورَثُ كَلَالَةً ; كَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَلَهُ أَخَوَاتٌ مَنْ عَصَبَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُفْرَضْ لَهُنَّ شَيْءٌ فِي التَّرِكَةِ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا فُرِضَ لِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَالثُّلُثُ لِمَا زَادَ عَنِ الْوَاحِدِ، شُرَكَاءَ فِيهِ مَهْمَا كَثُرُوا ; لِأَنَّهُ سَهْمُ أُمِّهِمْ لَيْسَ لَهَا سِوَاهُ، فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللهَ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الَّتِي سَأَلْتُمْ عَنْهَا بِقَوْلِهِ:
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ، فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ هَلَكَ: مَاتَ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ مُنْذُ قُرُونٍ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّحْقِيرِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ مُطْلَقًا، بِقَوْلِهِ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا (٤٠: ٣٤) وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ صِفَةٌ (امْرُؤٌ) أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (هَلَكَ) وَالْمَعْنَى: إِنْ هَلَكَ امْرُؤٌ عَادِمٌ لِلْوَلَدِ، أَوْ غَيْرُ ذِي وَلَدٍ، وَالْحَالُ أَنَّ لَهُ أُخْتًا مِنْ أَبَوَيْهِ مَعًا أَوْ مِنْ أَبِيهِ فَقَطْ، فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ.
وَالنُّكْتَةُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَالِدِ، تَظْهَرُ بِوُجُوهٍ: (١) أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْكَلَالَةِ لُغَةً.
(٢) أَنَّ الْأَكْثَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ عَنْ تَرِكَةٍ، بَعْدَ مَوْتِ وَالِدَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَالَ
89
الَّذِي يَتْرُكُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وِرَثَهُ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اكْتَسَبَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكَسْبُ فِي سِنِّ الشَّبَابِ وَالْكُهُولَةِ وَيَقِلُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَقَاءُ الْوَالِدَيْنِ، فَلَمْ يُرَاعَ فِي الذِّكْرِ إِيجَازًا (٣) وَهُوَ الْعُمْدَةُ أَنَّ عَدَمَ إِرْثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْوَالِدِ الَّذِي يُدْلُونَ بِهِ قَدْ عُلِمَ مِنْ آيَاتِ الْفَرَائِضِ الَّتِي أُنْزِلَتْ أَوَّلًا وَتَقَدَّمَتْ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ فِي بَيَانِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَعُلِمَ أَيْضًا مِنَ الْقَاعِدَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْإِرْثِ أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَمِنْ قَاعِدَةِ حَجْبِ الْوَالِدِ لِأَوْلَادِهِ، قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ الْأُولَى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ (٤: ١١) ; أَيْ: وَالْبَاقِي - وَهُوَ
الثُّلْثَانِ - لِأَبِيهِ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ (٤: ١١) لِأَنَّ أَوْلَادَهَا يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ نُقْصَانٍ ; فَيَكُونُ ثُلُثُهَا سُدُسًا، وَالسُّدُسُ الْآخَرُ يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَاقِيَ كُلَّهُ لِلْأَبِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ وُجُودَهُمَا يُنْقِصُ فَرْضَهَا، وَلَمْ تَفْرِضْ لَهُمْ شَيْئًا، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ لَيْسَ لَهُمْ فَرْضٌ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ حَجْبَ حِرْمَانٍ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى أَخِيهِمْ إِلَّا بِهِ، وَمَا يَتْرُكُهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَغَيْرِهِ يَعُودُ إِلَيْهِمْ ; فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْأَبِ فَائِدَةٌ فَتُرِكَ إِيجَازًا ; لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ لَفْظِ الْكَلَالَةِ وَمِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَالْقَوَاعِدِ الثَّابِتَةِ، وَكَذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَبْنِيِّ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَالْمُبَيِّنُ لَهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، وَلَيْسَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ نَفْيِ الْوَالِدِ هُنَا مَعَ إِرَادَتِهِ، إِلَّا مِثْلَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَرْضُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دِينٍ، كُلٌّ مِنْهُمَا عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ، فَاسْتُغْنِيَ عَنْ إِعَادَةِ ذِكْرِهِ، بَلْ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذِكْرِ نَفْيِ الْوَالِدِ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ مِنَ اللَّفْظِ، وَكَوْنِ الْغَالِبِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ، وَكَوْنِهِ إِنْ وُجِدَ يَكُونُ حَجْبُهُ لِأَوْلَادِهِ مَعْلُومًا قَطْعِيًّا ; لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ وَمَقِيسٌ، وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَرَّرْتُ بَعْضَ الْمَعَانِي ; لِاضْطِرَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْكَلَالَةِ، وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَيَانٍ تَامٍّ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَبَيْنَ عِبَارَةِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَلَدِ هُنَا هَلْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَيَشْمَلُ الْبِنْتَ، أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِالِابْنِ، كَمَا يُطْلَقُ أَحْيَانًا، وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأُخْتَ لَا تَرِثُ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ الِابْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ فَتَرِثُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى هُنَا لَمْ يَرَ إِرْثَ الْأُخْتِ مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ مَانِعًا مِنِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ وُجُودِ الْبِنْتِ، لِإِرْثِهَا النِّصْفَ فَرْضًا ; لِأَنَّ الْفَرْضَ الثَّابِتَ لَهَا هُنَا - وَهُوَ النِّصْفُ - يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَمُ وُجُودِ الْبِنْتِ، فَإِنَّهَا إِذَا وُجِدَتْ تَجْعَلُهَا عَصَبَةً تَرِثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَخْذِ كُلِّ ذِي فَرْضٍ حَقَّهُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْبَاقِي النِّصْفَ، وَقَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَارِثٌ إِلَّا الْبِنْتَ وَالْأُخْتَ كَانَ النِّصْفُ لِلْبِنْتِ فَرْضًا، وَالْبَاقِي وَهُوَ
90
النِّصْفُ لِلْأُخْتِ
تَعْصِيبًا لَا فَرْضًا، فَلَا يُنَافِي الْآيَةَ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْبِنْتِ زَوْجَةٌ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ الثُّمُنَ، فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لِلْأُخْتِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، وَلَوْ كَانَتْ تَرِثُ النِّصْفَ فَرْضًا مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ، وَوُجِدَ مَعَ الْبِنْتِ زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ لَعَالَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَكَانَ النَّقْصُ مِنَ السِّهَامِ لَاحِقًا بِكُلِّ الْأَنْصِبَاءِ فَلَا تَقِلُّ سِهَامُ الْأُخْتِ عَنْ سِهَامِ الْبِنْتِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَنْفِيَّ هُنَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَيْ وَالْمَرْءَ يَرِثُ أُخْتَهُ إِذَا مَاتَتْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، وَلَا وَالِدٌ يَحْجُبُهُ عَنْ إِرْثِهَا، كَمَا عُلِمَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَالَةِ، وَمِنَ الْآيَاتِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَبَيَّنَّا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ عَدَمَ ذِكْرِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَالِدِ ; لِأَنَّهُ كَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، كَاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَلْبَتَّةَ، وَرِثَهَا وَحْدَهُ فَكَانَ لَهُ كُلُّ التَّرِكَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَاعِدَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ ; لِأَنَّهُ مُقَابِلُ إِرْثِ الْأُخْتِ لِلنِّصْفِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْإِرْثَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ النَّصِيبَ ; لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ صَاحِبَ فَرْضٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، بَلْ هُوَ عَصَبَةٌ يَحُوزُ كُلَّ التَّرِكَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَرِثُ هُوَ مَعَهُ فَيَحُوزُ كَلَالَةَ جَمِيعِ مَا بَقِيَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَبِنْتُ الْأُخْتِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَهَا النِّصْفُ فَرْضًا إِذَا انْفَرَدَتْ، فَهُوَ يَرِثُ مَعَهَا الْبَاقِيَ، وَهُوَ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَإِذَا مَاتَتْ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتٍ وَزَوْجٍ ; فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْأَخِ الْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ. وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُدْخِلَ الصُّوَرَ الَّتِي يَرِثُ فِيهَا الْأَخُ مَعَ الْبِنْتِ الْأُخْتَ فِي مَفْهُومِ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَفَسَّرُوا الْوَلَدَ بِالِابْنِ، وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ ذَلِكَ إذًا ; لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَحْجُبُهُ عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنْ إِرَادَةُ هَذِهِ الصُّوَرِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، وَحُكْمُهَا مَعْلُومٌ مِنَ النُّصُوصِ الْأُخْرَى.
فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلْثَانِ مِمَّا تَرَكَ أَيْ فَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ بِالْأُخُوَّةِ أُخْتَيْنِ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ أَخُوهُمَا كَلَالَةً، وَكَذَا إِنْ كُنَّ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ بِالْأَوْلَى ; كَأَخَوَاتِ جَابِرٍ، وَكُنَّ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا، وَالْبَاقِي لِمَنْ يُوجَدُ مِنَ الْعَصَبَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ كَالزَّوْجَةِ، وَإِلَّا أَخَذَ كُلُّ ذِي فَرْضٍ فَرْضَهُ أَوَّلًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ،
وَعَبَّرَ بِالْعَدَدِ فَقَالَ: (اثْنَتَيْنِ) دُونَ (أُخْتَيْنِ) لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِخْوَةِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْفَرْضِ بِالْعَدَدِ.
وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً أَيْ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُونَ بِالْأُخُوَّةِ كَلَالَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي كُلِّ صِنْفٍ اجْتَمَعَ مِنْهُ أَفْرَادٌ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَوْلَادَ الْأُمِّ فَإِنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي سُدُسِ أُمِّهِمْ لِحُلُولِهِمْ مَحَلَّهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَرِثُوا ;
91
لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ عُصْبَةِ الْمَيِّتِ. وَفِي الْعِبَارَةِ تَغْلِيبُ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ.
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أَيْ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أُمُورَ دِينِكُمْ، وَمِنْ أَهَمِّهَا تَفْصِيلُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِهَا، كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، أَوْ تَفَادِيًا مِنْهَا مِنْ أَنْ تَضِلُّوا، وَالْمُرَادُ لِتَتَّقُوا بِمَعْرِفَتِهَا وَالْإِذْعَانِ لَهَا الضَّلَالَ فِي قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ وَغَيْرِهَا، هَذَا هُوَ التَّوْجِيهُ الْمَشْهُورُ زِدْنَاهُ بَيَانًا بِالتَّصَرُّفِ فِي التَّقْدِيرِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَقَدَّمَ الْبَيْضَاوِيُّ عَلَيْهِ وَجْهًا آخَرَ، فَقَالَ: " أَيْ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ضَلَالَكُمُ الَّذِي مِنْ شَأْنِكُمْ، إِذَا خُلِّيتُمْ وَطِبَاعَكُمْ لِتَحْتَرِزُوا عَنْهُ وَتَتَحَرَّوْا خِلَافَهُ " وَنَقَلَ الرَّازِيُّ عَنِ الْجُرْجَانِيِّ صَاحِبِ النَّظْمِ أَنَّهُ قَالَ: " يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَتَجْتَنِبُوهَا " اهـ.
وَالْكُوفِيُّونَ يُقَدِّرُونَ حَرْفَ النَّفْيِ، أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا.
وَالْأَوَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ أَظْهَرُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " لَا يَدْعُو أَحَدُكُمْ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُوَافِقَ مِنَ اللهِ سَاعَةَ إِجَابَةٍ " قِيلَ: مَعْنَاهُ لِئَلَّا يُوَافِقَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ الْبَصْرِيِّينَ: أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يُوَافِقَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَفِي مَعْنَى الْكَرَاهَةِ الْحَذَرُ وَالتَّفَادِي، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ وَتَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَمَا شَرَعَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَسِوَاهَا، إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّ فِيهَا الْخَيْرَ لَكُمْ وَحِفْظَ مَصَالِحِكُمْ، وَصَلَاحَ ذَاتِ بَيْنَكُمْ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، كُلُّهَا مُوَافَقَةٌ لِلْحِكْمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحَاطَةِ الْعِلْمِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْأُسْلُوبِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنَ السِّيَاقِ لَهُ حُكْمُ الْمَذْكُورِ فِي اللَّفْظِ حَتَّى فِي إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ لَفْظِ الْمَرْءِ فِي بَيَانِ مَرْجِعِ ضَمِيرِ " وَهُوَ يَرِثُهَا " بَلْ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمَعْنَى: " وَهُوَ " أَيْ أَخُوهَا، يَرِثُهَا إِلَخْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَتَا وَإِنْ كَانُوا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ تَارِيخِ الْقُرْآنِ وَأَسْبَابِ نُزُولِهِ: مَا رُوِيَ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ آخِرَ
آيَةٍ نَزَلَتْ. رَوَى الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً " بَرَاءَةٌ " أَيِ التَّوْبَةُ، وَآخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ أَيْ مِنْ آيَاتِ الْفَرَائِضِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَبِهَذَا لَا تُنَافِي مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: " مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِآيَةِ الرِّبَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا (٢: ٢٧٨) الْآيَةَ. وَذَكَرَ عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ، وَلَمْ يُفَسِّرْهَا، وَفِي رِوَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ، أَوْ آخِرَ مَا نَزَلَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ (٢: ٢٨١) الْآيَةَ، وَهِيَ بَعْدُ آيَاتِ الرِّبَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، أَوْ آخِرُهُ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ وَثَمَانُونَ
92
يَوْمًا. وَرِوَايَةُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ هِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، قَالَ: وَعَاشَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، تِسْعَ لَيَالٍ، وَمَاتَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ) وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَحْثٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِآخِرِ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ آخَرَ مَا نَزَلَ قَطْعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آخِرَهَا كُلِّهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(خُلَاصَةُ السُّورَةِ)
افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَذِكْرِ بَدْءِ خَلْقِ النَّاسِ وَتَنَاسُلِهِمْ، ثُمَّ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبُيُوتِ: الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ، وَحُقُوقِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ الْمَالِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ، وَمِنْهَا فَرَائِضُ الْمَوَارِيثِ، وَإِرْثُ النِّسَاءِ وَعَضْلُهُنَّ، وَعِقَابِ مَنْ يَأْتِي الْفَاحِشَةَ مِنَ الْجِنْسَيْنِ، وَمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ وَمُحَلَّلَاتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَزْوَاجِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَهَذَا نَسَقٌ وَاحِدٌ فِي خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً، تَتَخَلَّلُهَا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ وَالْوَعْدُ عَلَيْهَا، وَالْوَعِيدُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ بِاللهِ وَتُزَكِّي النَّفْسَ.
يَلِي ذَلِكَ مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، مُمَهَّدًا لَهَا بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، وَالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ، وَتَشْنِيعِ الْبُخْلِ وَكِتْمَانِ نِعَمِ اللهِ، وَوَعِيدِ الْكُفْرِ وَعِصْيَانِ الرَّسُولِ. وَذَلِكَ فِي بِضْعِ آيَاتٍ لَيْسَ فِيهَا مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ شَيْءٌ، إِلَّا مَا خُتِمَتْ بِهِ مِنْ آيَاتِ التَّيَمُّمِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ، ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَهَا بِحِكَايَةِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ فِي دِينِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ ; لِيُعْلَمَ مِنْهُ سُنَّةُ اللهِ وَحُكْمُهُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِمْ، وَتَكُونُ حَالُهُ كَحَالِهِمْ، كَمَا وَعَدَ مَنْ كَانَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ ; وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاحُ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْقُدْوَةِ، وَذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ ٤٤ إِلَى الْآيَةِ ٥٧.
وَلَمَّا كَانَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ ذِكْرٌ لِحَالِهِمْ فِي الْمُلْكِ لَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَثَرَةُ وَحِرْمَانُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَقَلِّ مَنْفَعَةٍ، بَيَّنَ عَقِبَهُ مَا يَجِبُ أَنْ تُؤَسَّسَ عَلَيْهِ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَهُوَ أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِالْعَدْلِ بِلَا مُحَابَاةٍ، وَإِطَاعَةُ اللهِ فِيمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِطَاعَةُ رَسُولِهِ فِيمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ مِنْ بَيَانِهَا وَالْقَضَاءِ بِهَا أَوْ بِاجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِيمَا يَضَعُونَ لِلنَّاسِ مِنَ النِّظَامِ الْمَدَنِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بِحَسْبِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَيَكُونُ مَا يَضَعُونَهُ مُطَاعًا فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يُعَامَلُوا بِهِ، وَأَهَمُّ ذَلِكَ
93
أَحْوَالُهُمْ وَمُعَامَلَتُهُمْ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ ; وَلِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ ذُكِرَتْ أَحْكَامٌ وَحِكَمٌ، وَمَوَاعِظُ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْقِتَالِ وَالْهِجْرَةِ وَالْأَمَانِ، وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ، وَقَدْ أَكَّدَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَمْرَ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهَذَا سِيَاقٌ بُدِئَ مِنَ الْآيَةِ (٦٠) وَانْتَهَى إِلَى الْآيَةِ (١٠٤).
بَعْدَ هَذَا جَاءَتْ آيَاتٌ فِي خِطَابِ الرَّسُولِ بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى وَاقِعَةٍ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُحَابِيَ الرَّسُولُ فِيهَا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَقَّبَهَا بِمَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ مِنَ الْوَعْظِ وَالْوَعِيدِ، وَلَاسِيَّمَا وَعِيدُ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، ثُمَّ مَسْأَلَةُ جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا عَدَا الشِّرْكَ
يَتْبَعُهَا بَيَانُ شَيْءٍ مِنْ ضَلَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، ثُمَّ بَيَانُ أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ مَنُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، لَا بِالْأَمَانِيِّ وَالِانْتِسَابِ إِلَى دِينٍ شَرِيفٍ وَنَبِيٍّ مُرْسَلٍ. فَكَانَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَوَاعِظُهَا فِي شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا، وَمَزَايَا الْإِسْلَامِ ; وَلِذَلِكَ خَتَمَهَا بِبَيَانِ حُسْنِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى فَضْلِهِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا، وَيَمْتَدُّ هَذَا السِّيَاقُ إِلَى الْآيَةِ (١٢٥).
تَلَا ذَلِكَ آيَاتٌ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَنُشُوزِ النِّسَاءِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَتَفَرُّقِهِمْ، دُعِّمَتْ بِآيَاتٍ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى وَالتَّذْكِيرِ بِاللهِ - تَعَالَى - وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالْأَمْرِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ، وَلَوْ عَلَى الْأَقْرَبِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ وَلَا شَفَقَةٍ، وَذَلِكَ فِي نَحْوٍ مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَهُ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَذِكْرِ أَرْكَانِهِ وَوَعِيدِ الَّذِينَ يَتَقَلَّبُونَ وَيَتَذَبْذَبُونَ فِيهِ، فَذَكَرَ مُوَالَاتَهُمْ لِلْكَافِرِينَ وَسَبَبَهَا وَمَنْشَأَهَا مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَمُخَادَعَتَهُمْ لِلَّهِ وَوَعِيدَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَجَزَاءَ مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ مِنْهُمْ، وَجَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَقَدِ انْتَهَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ (١٤٧) وَهِيَ آخِرُ الْجُزْءِ الْخَامِسِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ. فَافْتُتِحَ بِحُكْمِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِيهِ الْقُبْحُ وَالذَّمُّ، وَحُسْنُ مُقَابِلِهِ وَهُوَ إِبْدَاءُ الْخَيْرِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَبَعْدَ هَذَا ذَكَرَ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ بِدَعْوَى الْإِيمَانِ بِبَعْضٍ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَبَيَانُ عَرَاقَةِ هَذَا فِي الْكُفْرِ، وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْجَمِيعِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ مُشَاغَبَةِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُجَّتُهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِمُعَانَدَةِ مُوسَى، وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَنَقْضِ مِيثَاقِ اللهِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِيذَاءِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَالِافْتِخَارِ بِدَعْوَى قَتْلِهِ، وَخَتْمِ ذَلِكَ بِبَيَانِ حَالِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي نِصْفِ حِزْبٍ يَنْتَهِي بِالْآيَةِ (١٦٢).
بَعْدَ هَذَا أَقَامَ اللهُ حُجَّتَهُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ خَاتَمِ رُسُلِهِ بِكَوْنِ وَحْيِهِ إِلَيْهِ كَوَحْيِهِ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْهُمْ، وَكَوْنِهِ بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَى كُلِّ الْأُمَمِ، أَيْ: فَلَمْ يَجْعَلْهُ خَاصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَوْنِهِ -
94
تَعَالَى - يَشْهَدُ بِمَا أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ ; إِذْ جَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالْعِلْمِ الْأَعْلَى، مُنَزَّلًا عَلَى الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، وَخَتَمَ هَذَا بِبَيَانِ حَالِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ، وَغَايَتِهِ الَّتِي يَأُولُ إِلَيْهَا، وَدَعْوَةِ النَّاسِ كَافَّةً إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. فَتَمَّ هَذَا السِّيَاقُ بِبِضْعِ آيَاتٍ.
ثُمَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى وَإِبْطَالِ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَبَيَانِ مَا هُوَ الْمَسِيحُ، وَخَتْمِهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَبَيَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ تَعَالَى بُرْهَانٌ، وَكِتَابَهُ نُورٌ، وَدَعْوَةِ النَّاسِ
كَافَّةً إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِمَا، وَوَعْدِ مَنِ اعْتَصَمَ بِهَذَا الْكِتَابِ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ الْإِلَهِيَّيْنِ، وَهِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَهَذَا هُوَ خَتْمُ هَذِهِ السُّورَةِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ فِيهَا أُصُولَ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَهَمَّ فَرَائِضِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَنَاهِيكَ بِأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْأَهْلِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوْبَةِ وَالْقِتَالِ، وَشُئوُنِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَدَحْضِ شُبُهَاتِهِمْ، فَهِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ الطِّوَالِ فَوَائِدَ وَأَحْكَامًا وَحُجَجًا.
وَأَمَّا الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا، فَهِيَ ذَيْلٌ لِلسُّورَةِ فِي فَتْوَى مُتَمِّمَةٍ لِأَحْكَامِ الْفَرَائِضِ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ الْحِكْمَةَ فِي أُسْلُوبِ الْمَزْجِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا فَائِدَةُ الْأَحْكَامِ أَوِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُجْعَلُ ذَيْلًا أَوْ مُلْحَقًا لِكِتَابٍ أَوْ قَانُونٍ ; فَهِيَ أَنَّ الذِّهْنَ يَتَنَبَّهُ إِلَيْهَا أَفْضَلَ تَنَبُّهٍ، فَلَا يَغْفُلُ عَنْهَا كَمَا يَغْفُلُ عَمَّا يَكُونُ مُنْدَمِجًا فِي أَثْنَاءِ أَحْكَامٍ أَوْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، فَكَأَنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مُفْرَدَةً عَلَى غَيْرِ فَوَاصِلِ السُّورَةِ يُرَادُ بِهِ تَوْجِيهُ النُّفُوسِ إِلَيْهَا لِئَلَّا تَغْفُلَ عَنْهَا، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ صَارَ مَأْلُوفًا هَذَا الْعَصْرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أُمَمِ الْعِلْمِ، حَتَّى فِي الْمُرَاسَلَاتِ الْخَاصَّةِ يَجْعَلُونَ لِلرِّسَالَةِ ذَيْلًا يُسَمُّونَهُ حَاشِيَةً، كَمَا يَكُونُ مِمَّنْ نَسِيَ مَسْأَلَةً ثُمَّ تَذَكَّرَهَا بَعْدَ إِتْمَامِ الرِّسَالَةِ وَإِمْضَائِهَا بِكِتَابَةِ اسْمِهِ فِي آخِرِهَا، وَهُمْ يَتَعَمَّدُونَ ذَلِكَ كَثِيرًا ; لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْغَرَضِ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(يقولُ مُحَمَّد رَشِيد مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ: قَدْ وَفَّقَنِي اللهُ - تَعَالَى - لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ (١٣٣١هـ) وَإِيَّاهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ، وَيُؤَيِّدَنِي فِيهِ بِرُوحِ الْحَقِّ).
95
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
(وهي السُّورَةُ الْخَامِسَةُ، وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَيْهِ " فِلُوجِلْ " وَمِائَةٌ وَثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ، وَمِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ ; فَالْخِلَافُ فِيهَا عَلَى فَاصِلَتَيْنِ فَقَطْ).
هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَوْ فِي مَكَّةَ، وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (٥: ٣) إِلَخْ. نَزَلَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ غَدِيرِ خَمٍّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَامِنِ عَشَرِ ذِي الْحِجَّةِ مَرْجِعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ أَنَّ أَوَّلَ الْمَائِدَةِ نَزَلَ بِمِنًى، أَيْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَرَوَى عَنْ عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
أَمَّا التَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ قَالَ الْكَوَاشِيُّ: إِنَّهُ لَمَّا خَتَمَ سُورَةَ النِّسَاءِ آمِرًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ. وَنَقَلَ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ فِي بَيَانِ ذَلِكَ: أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِدَّةِ عُقُودٍ صَرِيحًا وَضِمْنًا ; فَالصَّرِيحُ عُقُودُ الْأَنْكِحَةِ، وَعَقْدُ الصَّدَاقِ، وَعَقْدُ الْحِلْفِ، وَعَقْدُ الْمُعَاهَدَةِ وَالْأَمَانِ، وَالضِّمْنِيُّ: عَقْدُ الْوَصِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، الدَّاخِلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (٤: ٥٨) فَنَاسَبَ أَنْ تُعَقَّبَ بِسُورَةٍ مُفْتَتَحَةٍ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الَّتِي فُرِغَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي تَمَّتْ وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا عُقُودٌ.
قَالَ: وَوُجِّهَ أَيْضًا تَقْدِيمُ النِّسَاءِ وَتَأْخِيرُ الْمَائِدَةِ بِأَنَّ أَوَّلَ تِلْكَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ (٤: ١) وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِتَنْزِيلِ الْمَكِّيِّ، وَأَوَّلُ هَذِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (٥: ١) وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِخِطَابِ الْمَدَنِيِّ، وَتَقْدِيمُ الْعَامِّ، أَيْ خِطَابُ النَّاسِ كَافَّةً وَشَبَهُ الْمَكِّيِّ أَنْسَبُ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي التَّلَازُمِ وَالِاتِّحَادِ نَظِيرُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، فَتَانِكَ اتَّحَدَتَا فِي تَقْرِيرِ الْأُصُولِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهَاتَانِ فِي تَقْرِيرِ الْفُرُوعِ الْحُكْمِيَّةِ، وَقَدْ خُتِمَتِ الْمَائِدَةُ بِالْمُنْتَهَى مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَكَأَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَبْدَأِ إِلَى الْمُنْتَهَى. اهـ.
أَقُولُ: هَذَا أَجْمَعُ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِ الرَّازِيُّ وَلَا الْبَقَاعِيُّ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ، وَأَنْتَ
96
Icon