ﰡ
٢٩٧- ﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ﴾ أي : " انكحوا اثنين اثنين إلى آخركم، أو ثلاث نسوة إلى آخركم، أو أربع نسوة إلى آخركم "، فكل واحد منا مخير بين الواحدة والاثنين والثلاث والأربع. وقد غلط من قال : " إن مقتضى هذه الآية جواز التسع، وهو اثنان وثلاث : خمس ورباع يصرن : تسعة " ٢.
وقيل : إن مقتضى اللغة ليس هو هذا، اثنان وثلاثة وأربعة، مثل : مثنى غير اثنين وثلاث غير ثلاثة، ورباع غير أربعة. وتحت كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة عدد غير متناه، بخلاف اثنين وثلاثة وأربعة إنما تحته عدد محصور، وهو نص فيه كسائر الأعداد، فقد صح أن هذه الصيغ المعدولة عن أسماء الأعداد للعموم وهو المطلوب. ( العقد المنظوم : ٢/١٥٠ )
٢٩٨- معنى " مثنى " عند العرب : اثنين اثنين غير منحصر، ومعنى ثلاث : ثلاث غير منحصر وكذلك رباع إلى عشار، جعلت هذه الصيغة عوض التكرار، فيكون معنى الآية : " إما اثنين أو ثلاث أو رباع "، فظهر غلط من أباح التسع بناء على ضم الاثنين إلى ما بعدها. ( الذخيرة : ٤/٣١٤ )
٢٩٩- ﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ﴾. معناه : " ألا تعدلوا في تزويجهن "، وهو دليل جواز العقد عليهن قبل البلوغ، لأن من بلغ لا يقال له : يتيم. ( نفسه : ٤/٢٢٨ )
٣٠٠- خير بين نكاح وملك اليمين، وملك اليمين لا يجب إجماعا : فكذلك النكاح لتعذر التخيير بين الواجب وما ليس واجبا. ( نفسه : ٤/١٨٩ )
٢ - حكى ابن العربي المعافري عن قوم لم يعينهم أنهم توهموا أن هذه الآية تبيح للرجال تزوج تسع نساء زعما منهم بأن مثنى وثلاث ورباع مرادفة لاثنين وثلاثة وأربعة، وإن الواو للجمع فحصلت تسعة، وهي عدد أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. ن : أحكام القرآن : ١/٣١٢. كما نسب القرطبي هذا الرأي على الرافضة وإلى بعض أهل الظاهر، ولم يعين واحدا منهما – ن: الجامع لأحكام القرآن : ٥/١٧..
٣٠٣- ﴿ فإن أنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ معناه : " إصلاح المال إجماعا "، ونحن نمنع تحققه قبل الغاية المذكورة. ( نفسه : ٨/٢٣٠ )
٣٠٤- قال الأئمة : ينفك الحجر بمجرد البلوغ لعموم الآية. ( نفسه : ٨/٢٢٩ )
٣٠٥- اختلف في الرشد، في الكتاب١ : " إصلاح المال وصونه عن المعاصي قاله أشهب، ولا يعتبر سفه الدين ". وقال الشافعي : لابد في الرشد من إصلاح المال والدين معا ووافقه ابن المواز٢ وخالفه أبو حنيفة وابن حنبل، لأن من ضعف حزمه عن دينه الذي هو أعظم من ماله لا يوثق به في ماله.
وجوابه : أن وازع المال طبيعي ووازع الدين شرعي.
أجمعنا على أن إصلاح المال مراد، واختلف هل غيره مراد أم لا ؟ والأصل عدم إرادته، بل الآية تقتضي عدم اشتراطه لقوله :﴿ حتى إذا بلغوا النكاح ﴾ والبلوغ مظنة العقل ونقص الدين بحصول الشهوة وتوفر الداعية على الملاذ حينئذ، فلما اقتصر على هذه الغاية علمنا أن المراد صلاح المال فقط، ولأنا نجد الفاسق شديد الحرص على المال في كثير من الناس. قال اللخمي : إذا أحرز ماله ولم يحسن التنمية لا يضره لأن الولي إذا أمسك المال عنده لم ينمه، ولإجماعنا على أن العجز عن التجر لا يوجب الحجر، وهذا إذا كان عينا وما لا يخشى فساده وأما الربع فيخشى خرابه معه فلا يدع إليه لأنه في معنى عدم الإحراز وفساد الدين إن كان لا يفسد المال كالكذب وشهادة الزور لا يمنع لإجماعنا على أنه لا يستأنف عليه لذلك حجرا وهو يشرب الخمر ولا يدفع إليه ماله لأنه يستعين به على ذلك.
وكل من بلغ من الأيتام حجر عليه فهو على السفه حتى يختبر لظاهر القرآن، أما من له أب، أو يتيم لم يحجر عليه. ففي المدونة٣ : " إذا احتلم الغلام ذهب حيث شاء ولا يمنعه الأب، وحمله على الرشد لوجود مظنته، وقاله ابن حبيب في اليتيم غير المحجور ولأن غالب بني آدم مجبولون على حب الدنيا والحرص عليها ". ( نفسه : ٨/٢٣ )
٣٠٦- ﴿ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ﴾ : إذ قال الوصي : دفعت للأيتام أموالهم بعد البلوغ والرشد، لم يصدق إلا ببينة لأن الله تعالى لم يجعله أمينا على الدفع بل على الحفظ فقط لقوله تعالى :﴿ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ﴾ فلو كان أمينا لا يستغني عن البينة. ( الذخيرة : ٧/١٨٠و ٨/١٧ )
٣٠٧- في الجلاب : " الوصي مصدق في نفقة اليتيم وولي السفيه " ٤ وقال الشافعي، لأنهما أمينان، ويعسر الإشهاد منهما على ذلك، بخلاف رد المال لقوله تعالى :﴿ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ﴾ فلما أمره بالإشهاد لم يؤتمن على الرد بخلاف المودع فإنه مؤتمن في الرد. ( نفسه : ٨/٢٤١ )
٢ - هو محمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندري المعروف بابن المواز، صاحب كتاب "الموازية"، وهو من مختصرات المدونة (ت : ٢٦٩ هج) بدمشق. ن : المدارك : ٣/٧٢. والديباج : ٢/١١٦..
٣ - ن : المدونة : ٤/٧٥ بتصرف..
٤ - كتاب التفريع في الفروع الفقهية : ٢/٢٥٧..
يا أيها الراكب المزجي مطيته*** سائل ببني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم : بادروا بالعذر والتمسوا*** وجها ينجيكم إني أنا الموت
فوصف نفسه بأنه الموت لأنه سببه. ( الذخيرة : ١٠/١٤٩ )
٣١١- قال مالك : " ولا يدخل ولد البنات لعدم دخولهم في قوله تعالى :﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ " ١ وقال الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا*** بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ولأن العادة نسبتهم إلى نسب أبيهم دون أمهم.
وقال الشافعي وأحمد : لا يندرج في الولد إلا ولد الصلب، لأنه الحقيقة، وإطلاق الولد على غيره مجاز، ولذلك فإن بنت الابن إنما ورثت بالسنة دون قوله تعالى :﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾. ( نفسه : ٦/٣٥٢-٣٥٣ )
٣١٢- قال الأصحاب في قوله صلى الله عليه وسلم : " القاتل لا يرث " ٢ إنه خصص قوله تعالى :﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يتوارث أهل ملتين ". ٣ ( شرح التنقيح : ٢٠٧ )
٣١٣- إن الصحابة خصصوا قوله تعالى :﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ بما رواه الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " ٤. ( العقد المنظوم : ٢/٤٠٧ )
٣١٤- ﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ لأن عقله مثل عقليهما، وشهادته بشهادتهما، ودينه بدينهما، فله من الإرث مثلهما، وقيل : لأنه يتزوج فيعطي صداقا وهي تأخذ صداقا، فيزيد بقدر ما يعطي ويبقى له مثل ما أخذت فيستويان. ( الذخيرة : ١٣/٣٠ )
٣١٥- ﴿ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ﴾ : اعتبر ابن عباس ظاهر اللفظ فجعل الثلثين للثلاث من البنات، وللبنتين النصف. واختلف فيها على رأي الجمهور، فقيل : زائدة. وخطأه المحققون، فإن زيادة الظرف بعيدة، وقيل : اثنتين فما فوقهما، وهو خلاف الظاهر أيضا.
والصواب : أن الله تعالى نص على الزائد على الاثنتين في البنات ولم يذكر الابنتين. ونص على اثنتين في الأخوات ولم يذكر الزائد اكتفاء بآية البنات في الأخوات، وبآية الأخوات في البنات، لأن القرآن كالكلمة الواحدة يفسر بعضه بعضا، وعلم فرض البنتين بالحديث النبوي فاستقامة الظواهر وقامت الحجة لأن الله تعالى إذا جعل الثلثين للأختين فالبنتان أولى لقربهما، ولأن البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث، فأولى أن تأخذه مع أختها لأنها ذات فرض مثلها، والتسوية بين البنتين والأختين والأخت الواحدة في النصف خلاف القياس والحديث المتقدم٥. ( نفسه : ١٣/٣٠ )
٣١٦- إن للاثنتين الثلثين، لأن الذكر إذا كان مع ابنته له الثلثان، فجعل البنتين بمنزلة ذكر في بعض أحواله، فهو من باب ملاحظة ما تقدم من الحكمة في جعل الأنثى على النصف، والكثير من البنات سقط اعتباره في التأثير في الزيادة كالذكور إذا كثر عددهم اشتركوا في نصيب الواحد إذا انفرد فسوي بين البابين في الإلغاء. ( الذخيرة : ١٣/٣٠-٣١ )
٣١٧- فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنتي سعد ابن الربيع من أبيهما الثلثين٦، قال سحنون : وهو أول ميراث قسم في الإسلام. ( نفسه : ١٣/٢٩ )
٣١٨- خصص الصحابة عموم قوله تعالى :﴿ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ﴾ يخبر محمد بن مسلمة٧ والمغيرة بن شعبة٨ أنه صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس٩، لأن المتوفاة إذا خلفت زوجا وبنتين وجدة، فللزوج : الربع، ثلاثة، وللبنتين : الثلثان، ثمانية، وللجدة : السدس، اثنان، عالت المسألة إلى ثلاثة عشر، وثمانية من ثلاثة عشر أقل من ثلثي التركة. ( العقد المنظوم : ٢/٤٠٧ )
٣١٩- قوله تعالى :﴿ وإن كانت واحدة فلها النصف ﴾ لأن الذكر لو انفرد لكان له الكل، فهي إذا انفردت لها النصف على النصف منه في الأحكام كما تقدم. ( الذخيرة : ١٣/٣٠ )
٣٢٠- قال الشافعي : الجد كالأب لاندراجه في آية الميراث في قوله تعالى :﴿ ولأبويه لكل واحد منهما السدس ﴾. ( نفسه : ٧/١٥٨ )
٣٢١- سمى الأم أبا مجازا من باب التغليب، وهو في لسان العرب يقع إما لخفة اللفظ كالعمرين، فإن لفظ " عمر " أخف من لفظ أبي بكر، أو لفضل المعنى وخفته، نحو : " لنا قمراها والنجوم الطوالع ". فغلب لفظ القمر على الشمس لأنه مذكر والشمس مؤنثه، والمذكر أخف وأفضل. وإما لكراهة اللفظ لإشعاره بمكروه، نحو قول عائشة رضي الله عنها : " وما لنا عيش إلا الأسودان " ١٠ تريد : التمر والماء، والتمر أسود والماء أبيض، وكلاهما مذكر على وزن أفعل، فلا تفاوت، بل لفظ الأبيض يشعر بالبرص فغلبت الأسود عليه.
فهذه ثلاثة أسباب للتغليب في اللغة. ( نفسه : ١٣/٣١ )
٣٢٢- أعطي السدس للأبوين لأنه أدنى سهام الفرائض في القرابات، وكذلك في الخبر فيمن أوصي له بسهم من ماله، قال : يعطى السدس. والابن أقوى العصبات، ومقتضاه حرمان الأب، وبر الأب يقتضي عدم الحرمان، فاقتصر له على أقل السهام، وسويت الأم به لأنه من باب ملاحظة أصل البر لا من باب تحقيق المستحق. ( نفسه : ١٣/٣١ )
* قوله تعالى :﴿ وورثه أبواه فلأمه الثلث ﴾.
٣٢٣- معناه : والثلثان للأب، ولما كان ذكر الضد المقابل يدل على مقابله اكتفى بذكره عن ذكره. ( الفروق : ٣/٨ )
٣٢٤- محمول على ما إذا كان للأب الثلثان أو لا يكون أب فلا يبخس الأب. أما إذا كان فلم يتعرض له النص. فعيناه بالقواعد. ( الذخيرة : ١٣/٥٧ )
٣٢٥- لأنهما اجتمعا في درجة واحدة وهما ذكر وأنثى فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. ( الذخيرة : ١٣/٣٢ )
* قوله تعالى :﴿ فإن كان له إخوة فلأمه السدس ﴾ :
٣٢٦- لم يذكر الأب وحجب بالإخوة لأن المال قبل نزول المواريث كان كله للعصبة، فلما قسم الله تعالى لكل واحد ما سماه بقي الأب على مقتضى الأصل، له ما بقي بعد السدس كالعام إذا خص. ويأخذ الأب ما عدا السدس لأنه أقرب عصبة من الإخوة، وحجبنا الإخوة إلى السدس لأن الأخ يدلي بالبنوة لأنه ابن أبيه. وقد تقدم أن شأن البنوة إسقاط الآباء والأمهات، وإنما يقتصر لهما على أدنى السهام ملاحظة لأصل بر الوالدين. فالتحقيق أنهم نزعوا من الأم، والأب نزع من الإخوة التي كانت الأم تأخذه معه، ولم يحجب الأخ الواحد ولا الأخت الواحدة، وإن حجب الولد الواحد لأن الولد الواحد ابن الميت، والأخ ابن أبيه، فهو أبعد رتبة فضوعفت الرتبة في البعد بواحد، كما نقصت الرتبة في القرب بواحد، فإن اجتمع ابنة وأخت فللبنت النصف وللأخت النصف، أما البنت فلأنها نصف ابن كما تقدم، وأما الأخت فلأنها ولد أبيه، فبالأب تستحق ذلك لأنه لو حضر كان له، ولأن العم ولد جده وهو يأخذه لو حضر، وهذه ولد أبيه فهي أقرب منه، ألا ترى أنها لو كانت أختا لأم لم تأخذ شيئا لهذا السر( نفسه : ١٣/٣٢ )
* قوله تعالى :﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين ﴾ :
٣٢٧- جعل ملك الورثة بعد الدين. ( نفسه : ٧/٢٥٠ )
٣٢٨- الدين مقدم على الوصية إجماعا. ( نفسه : ٧/٩٨ )
٣٢٩- جعل الميراث متأخرا عن الدين والوصية، فانظر إنه قد تقدم مقادير وهي : النصف والثلثان والسدس والثلث، ومقدرات وهي : الأنصاب من الأموال، فهل المتأخر المقدار أو المقدر ؟ فإن كان المتأخر المقدار فيكون المعنى : للبنت النصف، وكونه نصفا إن تقدن على الدين زاد، أو تأخر نقص، فأخبر الله تعالى أن النصف المراد إنما هو النصف الذي يصغر بتأخيره عن إخراج الدين والوصية، ويكون أصل التمليك لم يتعرض له بالتأخير، أو أصل التمليك متأخرا عن الدين، فلا تكون التركة على ملك الورثة قبل وفاء الدين على هذا التقدير، وتكون على ملكهم على التقدير الأول، وهو أصل مختلف فيه بين العلماء.
لم قدم الوصية في اللفظ على الدين مع عدم وجوبها ووجوبه، والشأن تقديم الأعم ؟ الجواب : أن النفوس مجبولة على إهمال الوصية لعدم وجوبها في أصلها وعدم المعارضة، فقدمها الله تعالى ليشعر النفوس بميل صاحب الشرع لها، فيبعد إهمالهم لإخراجها، واستغنى الدين بقوة جناب المطالب به عن ذلك.
وقال لي بعض الفضلاء : إنما قدم الوصية لأنه أضاف إليه " بعد "، والميراث إنما يقسم بعدها لا بعد الدين، فإن الدين يخرج أولا ثم الميراث. فلما كان الميراث إنما يقع بعد الوصية لا بعد الدين لأنها المتأخرة في الإخراج جعل اللفظ على وفق الواقع، فقيل : من بعد وصية، ولو قال : من بعد دين أو وصية يوصي بها لكانت البعدية مضافة للدين وكان الدين يتأخر إخراجه عن الوصية وهو خلاف الإجماع.
قلت له : هذا يتم لو قال بالواو المقتضبة للجمع، وإنما الآية " بأو " المقتضبة أحدهما وحده. فعلى هذا ميت له وصية بغير دين وآخر له دين بغير وصية، فلم قدمت الوصية مع ضعفها مع أنها منفردة فيعود السؤال.
قال : تكون " أو " بمعنى الواو.
قلت : ينتقض المعنى نقضا شديدا، إن جعلنا " أو " بمعنى الواو يكون الميراث متأخرا عن مجموعهما لا عن أحدهما، ويلزم من ترجيح المجموع عليه ترجيح جزئه عليه، فلا يلزم التأخير عن الدين وحده. وإن جعلناها على بابها يكون الميراث متأخرا عن أحدهما ويلزم من تأخيره وترجيح أحدهما عليه ترجيح المجموع عليه ضرورة. فظهر أن المعنى مع الواو ينتقض نقضا شديدا فلا يصار إليه.
٣٣٠- تقديم الوصية على الميراث يدل على وجوب تنفيذها وصحتها. ( الذخيرة : ٧/٥ )
٢ - خرجه بهذا اللفظ ابن ماجة والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا، وخرجه مالك بلفظ :"ليس لقاتل شيء" قال الترمذي :"هذا حديث لا يصح ولا يعرف إلا من هذا الوجه". ن : سنن الترمذي، أبواب الفرائض، باب : ما جاء في إبطال ميراث القاتل.
سنن ابن ماجة، كتاب الديات، باب :"القاتل لا يرث". الموطأ، كتاب العقل، باب : ما جاء في ميراث القاتل..
٣ - خرجه بهذا اللفظ ابن ماجة والترمذي، وفي رواية عن أبي داود زيادة. ن – سنن ابن ماجة، كتاب الفرائض، باب : ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك. وسنن الترمذي، أبواب الفرائض، باب : لا يتوارث أهل ملتين. وسنن أبي داود، كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر..
٤ - أخرجه البخاري عن أبي بكر الصديق مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ :"لا نورث ما تركناه صدقة". ن : صحيح البخاري، كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم :"لا نورث ما تركناه صدقة". وخرجه مسلم بمثل لفظه عن عائشة رضي الله عنها، كتاب الجهاد والسير، الباب نفسه..
٥ - يقصد حديث أبي موسى الأشعري الذي سئل عن بنت وابنة ابن وأخت. فقال :"للبنت النصف، وللأخت النصف، وأتت بنت مسعود فإنه سيتابعني. فسئل ابن مسعود وأخبر يقول أبي موسى، فقال : قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. أقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت". ن : الذخيرة ١٣/٢٨. والحديث خرجه البخاري في صحيحه : ٨/١٨٨..
٦ - أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن جابر قال :"جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال : يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: "اعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك". ن : تفسير ابن كثير : ١/٦٨٩. لباب النقول للسيوطي : ٥٣..
٧ - ورد هذا الخبر في العديد من الروايات، منها ما أخرجه الإمام مالك في الموطأ :"جاءت الجدة لأم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فسألته ميراثها، فقال لها أبو بكر : مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر : هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة. فأنفذه لها أبو بكر... الحديث" ن : الموطأ : كتاب الفرائض، باب : ميراث الجدة.
ومحمد بن مسلمة هو : أبو سعيد بن عدي الأنصاري، شهد بدرا وأحدا وغيرهما من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبوك. وقد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وبها مات (ت : ٤٣ هج) ن : أعلام النبلاء : ٢/٣٦٩. أسد الغابة : ٤/٣٣٦..
٨ - هو أبو عيسى أبو عبد الله المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أحد كبار الصحابة، أسلم عام الخندق، وشهد الحديبية وبيعة الرضوان (ت : ٥٠ هج) ن : أسد الغابة : ٤/٤٧١..
٩ - أخرج هذا الخبر مالك في الموطإ كما تقدم وأبو داود في سننه : كتاب الفرائض، باب : ميراث الجدة. وابن ماجة في سننه : كتاب الفرائض، باب : ميراث الجدة. والترمذي في سننه : أبواب الفرائض، باب : ما جاء في ميراث الجدة..
١٠ - خرجه البخاري في كتاب الرقائق، ح : ٥٩٧٨. ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، ح : ٥٢٨٢. عن عروة قال :"... قلت : يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت : الأسودان، التمر والماء... الحديث"..
٣٣٢- قوله تعالى :﴿ ولكم نصف ما ترك أزواجكم ﴾ هو عام في الحقوق، ولم يخرج عن حقوق الأموال إلا صورتان فيما علمت : حد القذف وقصاص الأطراف والجرح والمنافع في الأعضاء فإن هاتين الصورتين تنتقلان للوارث وهما ليستا بمال- لأجل شفاء غليل الوارث بما دخل على عرضه من قذف مورثه والجناية عليه، وأما قصاص النفس فإنه لا يورث فإنه لم يثبت للمجني عليه قبل موته وإنما ثبت للوارث ابتداء، لأن استحقاقه فرع زهوق النفس فلا يقع إلا للوارث١ بعد موت الموروث. ( الفروق : ٣/٢٧٩ )
* قوله تعالى :﴿ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ﴾ :
٣٣٣- قيل : هي مشتقة من الإكليل لأن الإنسان ينزل منه أبناؤه فهم تحته، ولذلك يقول العلماء : الابن وإن سفل، وينزل من آبائه، ولذلك يقولون : الأب وإن علا فهم فوقه، وإخوته حوله مثل الأجنحة، فإذا لم يكن أبناء تحته ولا آباء فوقه بقي في الوسط وإخوته حوله عن يمينه وشماله فأشبه الإكليل. وقيل : من " الكلال " الذي هو التعب، أي : كلت الرحم عن ولادة الأبناء، قال ابن يونس٢ : وقيل يكفي في الكلالة عدم الولد. وفي مسماها ثلاثة أقوال : قيل : اسم للميت، أي : هو مع الورثة كالإكليل، وقيل : للورثة الذين ليس فيهم ولد ولا أب، وقيل : للفريضة التي لا يرث فيها ولد ولا والد. وأجمع الناس على أن المراد بالإخوة هاهنا إخوة الأم، وإن كان اللفظ صالحا لهم ولغيرهم من الإخوة. ( الذخيرة : ١٣/٣٤-٣٥ )
* قوله تعالى :﴿ فلكل واحد منهما السدس ﴾ :
٣٣٤- أعطي له ما كان لأمه التي يدلي بها، ولذلك استوى ذكرهم وأنثاهم، لأن الأصل أنثى فلا أثر للذكورة، والأم إنما ترث السدس مع وجودها فكان ذلك للواحد، والأم لها حالان : الثلث والسدس، فجعل حالاهما لحالتهما، إن انفرد الواحد فالسدس، أو اجتمعوا فالثلث، فسر هذه القروض الأم، وسر الأم فيهما الأب والبنوة كما تقدم، ولما كان أعلى أحوال الأم الثلث، وأقل أحوالها السدس، وأعلى أحوال الإخوة الاجتماع، وأدناها الانفراد، فرض الأعلى للأعلى، والأدنى للأدنى، واستوى الذكر والأنثى، بخلاف الأشقاء والأولاد وسائر القرابات والزوجين، لأن الذكر فضل الأنثى إنما كان، إذا كان الذكر عاصبا، ولا عصوبة مع الإدلاء بأنثى التي هي الأم، أما الزوج وإن لم يكن عصبة فلأنه يدلي بنفسه، وهو أشرف من الزوجة بالذكورة، وهاهنا الأخ الذكر للأم لم يدل بنفسه بل بالأم فيسقط اعتبار خصوص كونه ذكرا. ( نفسه : ١٣/ ٣٥ )
* ﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار ﴾ :
٣٣٥- حكم تعالى ببقاء دين الميت بعد موته وأوجب قضاءه من ماله. ( الذخيرة : ١١/٣١٢ )
٣٣٦- " غير مضار " قيل معناه : غير مضار بالزيادة على الثلث. ( نفسه : ٧/٣٨ )
٢ - هو أبو حامد محمد بن يونس الملقب بعماد الدين الموصلي (ت : ٦٠٨ هج) من مصنفاته :"المحيط في الجمع بين المهذب والوسيط"، و"شرح الوجيز" للغزالي. ن : وفيات الأعيان : ٦/٢٦٨. و"مرآة الجنان" : ٣/٤٣٤..
٣٣٨- " هناك " تخصيص يسمونه التخصيص بالواقع، وقد لا يتعين ولا يعلم لنا كقوله تعالى :﴿ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله نارا ﴾ يقطع بأن الواقع أن بعض من صدق عليه العصيان لا يعذب، إما لأنه تاب أو بفضل الله تعالى لقوله تعالى :﴿ ويعفو عن كثير ﴾١ أو بالشفاعة، لكن هذا الذي خصص من هذه الأنواع غير معلوم لنا عدده، ولا أشخاصه ولا صفته. ( شرح التنقيح : ٢١٥ )
٣٤٠- نسخ آية الحبس في البيوت بالرجم، وقال الشافعي : " لم يقع، لأن آية الحبس في البيوت نسخت بالجلد " ٢. ( تنقيح الفصول المطبوع مع الذخيرة : ١/١١٢ )
٣٤١- وأما قول الشافعي- رضي الله عنه- : " إن آية الحبس نسخت بالجلد " فذلك يتوقف على تاريخ لم يتحقق، ومن أين لنا أن آية الجلد نزلت بعد آية الحبس ؟ بل ظاهر السنة يقتضي خلاف ما قاله، لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب رجم بالحجارة والبكر بالبكر رجم مائة وتغريب عام " ٣ فظاهره يقتضي أن الآن نسخ ذلك الحكم٤. ( شرح التنقيح : ٣١٣ )
٢ - ن : الرسالة : ١٢٩-١٣٠..
٣ - رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق، عن قتادة عن الحسن، عن حطان، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال الترمذي :
"هذا حديث حسن صحيح".
ن : صحيح مسلم : ٥/١١٥.
- مستند أحمد : ٥/٣١٨.
- تحفة الأحوذي : ٤/٧٠٩..
٤ - وقع الخلاف بين العلماء حول مستند هذا النسخ : أهو الآية الثانية من سورة النور، أم حديث عيادة المشهور؟ ن : بحثا في الموضوع للدكتور مصطفى زيد في كتابه : النسخ في القرآن : ١/١٣٩ وما بعدها..
٣٤٠- نسخ آية الحبس في البيوت بالرجم، وقال الشافعي :" لم يقع، لأن آية الحبس في البيوت نسخت بالجلد " ٢. ( تنقيح الفصول المطبوع مع الذخيرة : ١/١١٢ )
٣٤١- وأما قول الشافعي- رضي الله عنه- :" إن آية الحبس نسخت بالجلد " فذلك يتوقف على تاريخ لم يتحقق، ومن أين لنا أن آية الجلد نزلت بعد آية الحبس ؟ بل ظاهر السنة يقتضي خلاف ما قاله، لأنه صلى الله عليه وسلم قال :" خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب رجم بالحجارة والبكر بالبكر رجم مائة وتغريب عام " ٣ فظاهره يقتضي أن الآن نسخ ذلك الحكم٤. ( شرح التنقيح : ٣١٣ )
٢ - ن : الرسالة : ١٢٩-١٣٠..
٣ - رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق، عن قتادة عن الحسن، عن حطان، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال الترمذي :
"هذا حديث حسن صحيح".
ن : صحيح مسلم : ٥/١١٥.
- مستند أحمد : ٥/٣١٨.
- تحفة الأحوذي : ٤/٧٠٩..
٤ - وقع الخلاف بين العلماء حول مستند هذا النسخ : أهو الآية الثانية من سورة النور، أم حديث عيادة المشهور؟ ن : بحثا في الموضوع للدكتور مصطفى زيد في كتابه : النسخ في القرآن : ١/١٣٩ وما بعدها..
الجواب : قال ابن عباس رضي الله عنه : " كانت الجاهلية إذا مات أحدهم عن امرأة كان أولياؤه أحق بها من أهلها ولا يمكنونها أن تتزوج حتى يتركها أهل البيت، فتكون المرأة نفسها هي المورثة ليتزوج بها١.
وقيل : المرأة يحبسها وليها حتى يرثها دون زوج، فعلى هذا يكون الموروث مالها لا هي.
و " العضل " : المنع بشدة وكراهة، والمراد هاهنا الأزواج، معناه : يضيف عليها الزوج حتى يأخذ مالها بالمخالعة والفداء.
و " الفاحشة " : سوء العشرة مع الزوج، فإذا كان الضرر من قبلها وطلبت الفراق، وسألت أن تعطى شيئا للخلع جاز أخذه في هذه الحالة دون غيرها. فالإلجاء على المخالعة حرام إلا في هذه الحالة.
و " أن " مع الفعل بتأويل المصدر، والمصدر مؤول باسم الفاعل المنصوب على الحال تقديره : " إلا آتيات بفاحشة ظاهرة "، فهي حالة مستثناة من الأحوال التي لم ينطبق بها، استثناء متصلا من أعم العام. ( الاستغناء في الاستثناء : ٤٢٠ )
٣٤٣- فالاستثناء عائد على العضل دون الإرث. ( الاستغناء : ٥٧٤ )
وتقدير الآية من جهة المعنى : " لا تأخذوا من إحداهن شيئا وإن عظم إذا قررتموه لها "، وإن كان اللفظ لفظ ثبوت، لكن المعنى على النفي، فلذلك عم. ( العقد المنظوم : ٢/٥٣٣ )
٣٤٦- والنكاح حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، وقد أجمع الناس على أن العقد يحرم على الابن، فنحمل نحن هذه الآية على الوطء، فعلى هذا إذا وطئها حلالا أو حراما حرمت على الابن.
وتحريم بالعقد والصيغة أيضا، ويكون هذا أولى لأن الأصل في الكلام الحقيقة، والأصل أيضا عدم الترادف على مدلول واحد. ( الفروق : ٣/١١٤ )
٣٤٨- مجاز في التركيب لأن التحريم إنما وضع ليركب مع الأفعال دون الذوات ( شرح التنقيح : ٤٥-٤٦ )
٣٤٩- المراد الاستمتاع المتعلق بهن دون أعيانهن المذكورة في الآية. ( الفروق : ١/٦٨ )
٣٥٠- ومقتضى هذا اللفظ ( أي التحريم ) لغة : أن تكون ذوات الأمهات حراما، فإن المفعول الذي ذكر في اللفظ فإنه١ دل العقل على أن الذوات غير مقدورة لنا ودلت اللغات وعوائد الشرع أن التحريم وجميع الأحكام الشرعية لا تقع إلا في مقدور، فلا تكون ذوات الأمهات محرمة لهذه المقدمات فتعين حينئذ أن يكون هنالك مضاف محذوف، تقديره : " حرمت عليكم استمتاعات أمهاتكم ".
هذا مقتضى اللغة والقواعد المتقدمة، ثم إنه كثر حذف هذا المضاف وتطاول الاستعمال وغلب حتى صار هذا المركب الموضوع لتحريم ذوات الأمهات لغة موضوعا لتحريم أنواع الاستمتاع في العرف، بحيث ستجد بعد هذا النقل التصريح بذلك المضاف، وصار كأنه كالزيادة المستقلة المذكورة.
ولو قلت : " الأمهات " وحده، لم يفد عموم تحريم أنواع الاستمتاع.
أو : " حرمت " وحده، لم يفد عموم الاستمتاع.
بل المجموع هو المفيد لعموم تحريم أنواع الاستمتاع بسبب النقل العرفي، ولذلك فإنك لو لم تأتي بصيغة العموم، بل بلفظ مفرد دل على لفظ واحد، يحصل العموم.
فإذا قلت : " حرمت عليكم هذه المرأة بالرضاع " لم يفهم أحد إلا تحريم جميع أنواع الاستمتاع بها بسبب النقل العرفي٢.
وكذلك لو قلت : " حرمت عليكم هذه الميتة " لكان اللفظ أيضا موضوعا لتحريم المنافع المتعلق بها المقصود منها، ولم يحتج إلى تقدير مضاف بعد هذا النقل، لأنا إنما قدرناه ولأن اللفظ لم يكن موضوعا له، بل لتحريم الذوات، فلما صار اللفظ موضوعا له عرفا، استغنينا عن سبب التصريح به.
ولو قلت : " حرمت عليكم الفعال الخبيث أو المشتملة على المفاسد " لم يكن فيه نقل عرفي، بل ذلك بالوضع اللغوي، من غير احتياج إلى تقدير مضاف ولا نقل لأن هذا الموطن لم يحتج إلى حذف مضاف ولا تقديره. بل اللفظ في نفسه لا مجاز فيه ولا حذف، كامل واف بالدلالة على هذا المعنى من غير احتياج إلى ضميمة، وإنما حصل النقل هنالك لأنه كان محتاجا باعتبار الوضع اللغوي إلى مضاف محذوف. فتأمل ذلك. ( العقد المنظوم : ١/٣٩٩ )
* قوله تعالى :﴿ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ﴾ :
٣٥١- قال الإمام فخر الدين : " إن فقهاء الأمصار في هذه الأعصار لم يزالوا يخصون أعم الخيرين بأخصهما٣ مع فقد علمهم بالتاريخ مع أن ابن عمر لم يخص قوله تعالى :﴿ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ﴾ بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان " ٤.
ويمكن الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أنا لا ندعي الإجماع إلا بعده في الأعصار المتأخرة، ولا تنافي بين تقدم الخلاف وتأخر الإجماع.
ثانيهما : القاعدة المتقدمة : " إن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات " ومن جملة الأحوال خمس رضعات، والرضعة الواحدة، فيكون التعين تقييدا لتلك الرضعة التي هي مفهومة من قوله تعالى :﴿ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ﴾ ولعله كان لا يرى تقييد المطلق ويرى تخصيص العام، والكل مختلف فيه، فلعل مدركه عدم التقييد لا عدم التخصيص ". ( العقد المنظوم : ٢/٤٣٣ وما بعدها )
* قوله تعالى :﴿ وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ﴾
٣٥٢- قال اللخمي : وتحرم المرأة الجد للأم والجد للأب لاندراجهما في لفظ الآباء، كما تندرج جدات امرأته وجدات أمها من قبل أمها وأبيها في قوله تعالى :﴿ وأمهات نسائكم ﴾ وبنت بنت الزوجة وبنت ابنها وكل من نسب إليها بالبنوة وإن سفل، في قوله تعالى :﴿ وربائبكم ﴾.
تنبيه : اعلم أن هذه الاندراجات ليست بمقتضى الوضع اللغوي، ولذلك صرح الكتاب العزيز بالثلث للأم، ولم يعطه الصحابة رضي الله عنهم للجدة بل حرموها حتى روي الحديث في السدس٥، وصرح بالنصف للبنت وللبنتين بالثلثين على السوية، وورثت بنت الابن مع البنت السدس بالسنة. وابن الابن كالابن في الحجب، والجد ليس كالأب، والإخوة تحجب الأم. وبنوهم لا يحجبون، فعلمنا أن لفظ الأب حقيقة في الأب القريب، مجاز في آبائه، ولفظ الابن حقيقة في القريب، مجاز في أبنائه إن دل إجماع على اعتبار المجاز وإلا ألغي، وإن هذه الاندراجات في تحريم المصاهرة بالإجماع لا بالنص، وإن الاستدلال بنفس اللفظ متعذر، لأن الأصل عدم المجاز والاقتصار على الحقيقة. ( الذخيرة : ٤/٢٦٨-٢٦٩ )
٣٥٣- فقوله تعالى :﴿ اللاتي دخلتم بهن ﴾ صفة تعقبت الجملتين فتعمهما كالاستثناء والشرط إذا تعقبا الجمل عما، والعجب أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الاستثناء والصفة إذا تعقبا جملا عمهما وخالف أصله هاهنا ولم يقل به هاهنا، فقد خالف أصله. وجوابه : أنا نمنع العود هاهنا على الجملتين وإن سلمنا أنه يعود في غير هذه الصورة بسبب أن النساء في الجملة الأولى مخفوض بالإضافة، والنساء في الجملة الثانية مخفوض بحرف الجر الذي هو " من " والعامل في الصفة هو العامل في الموصوف على الأصح، فلو كان صفة للجملتين لعمل في الصفة الواحدة عاملان وهما الإضافة وحرف الجر. واجتماع عاملين على معمول واحد ممتنع على الأصح كما تقرر في علم النحو٦، فهذا هو المانع للشافعي من إجراء أصله.
فإن قلت : أعيد النعت على الجملة الأولى وهو قوله تعالى :﴿ وأمهات نسائكم ﴾ فيكون الدخول شرطا في تحريم الأم بهذه الآية، ويكون الدخول شرطا في الجملة الثانية بالإجماع فإنا لا نعلم خلافا في شرطية الدخول في تحريم البنت فيثبت الحكمان في الجملتين بالإجماع والآية، ويكون هذا أولى لئلا يترادف الإجماع والآية على الجملة الأولى، والأصل عدم الترادف. ( الفروق : ٣/١١٣-١١٤ والذخيرة : ١/٢٦١. )
٣٥٤- لما دلت النصوص على تحريم أمهات النساء والربائب، حمل على العقد إذ لا يفهم من نسائنا عرفا إلا الحرائر اللاتي لا يستبحن إلا بالعقد، وألحق الملك بالعقد لاستوائهما في المعنى المتقدم، وألحقت شبهتهما بهما في التحريم، لأنها ألحقت بهما في لحوق الولد وسقوط الحد وغيرهما. ( الذخيرة : ٤/٢٦١ )
٣٥٥- لما كانت الأم أشد برا بابنتها من الابنة بأمها لم يكن العقد عليها كافيا في بضعتها لابنتها إذا عقد عليها لضعف ميلها للزوج بمجرد العقد، وعدم مخالطته، فاشترط في التحريم إضافة الدخول وكان ذلك كافيا في بغضة البنت لضعف ودها، فيحرم العقد لئلا تعق أمها. ( نفسه : ٤/٢٦٠-٢٦١ )
* قوله تعالى :﴿ وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ﴾ :
٣٥٦- الحليلة لغة : الزوجة. ( نفسه : ٤/٢٥٨ )
٣٥٧- قوله تعالى :﴿ من أصلابكم ﴾ احترازا من التي دون الرضاع. ( نفسه : ٤/ ٢٥٨ )
٣٥٨- حرم صلى الله عليه وسلم من الرضاع ما يحرم من النسب٧.
تنبيه : قال اللخمي : كل أم حرمت بالنسب حرمت أختها، وكل أخت حرمت لا تحرم أختها إذا لم تكن خالة، فقد يتزوج الرجل المرأة ولكل واحد منهما ولد، فالولد منهما تحل له ابنة المرأة من غير أبيه، وكل عمة حرمت قد لا تحرم أختها لأنها قد لا تكون أخت أبيه ولا أخت جده. ( الفروق : ٣/١١٤ )
* قوله تعالى :﴿ وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ﴾ :
٣٥٩- يقتضي تحريم الجمع مطلقا، ولذلك قال علي رضي الله عنه : " حرمتهما آية وأحلتهما آية " ٨، وذلك كثير في الكتاب والسنة. ( الذخيرة : ١/١٥٧ و ٥/٣٢٨ )
٣٦٠- يحمل على عمومه دون التخصيص، الذي هو الأختان الحرتان دون المملوكتين. ( شرح التنقيح : ١١٢ )
٣٦١- الأختان بملك اليمين، حرم الجمع بينهما قوله تعالى :﴿ وأن تجمعوا بين الأختين ﴾ وأحل الجمع بينهما قوله تعالى :﴿ أو ما ملكت أيمانكم ﴾ وليست إحداهما أخص من الأخرى حتى يقدم الخاص على العام لأن الأولى تتناول المملوكتين والحرتين، فهي أعم من الثانية، والثانية تتناول الأختين وغيرهما، فتكون كل واحدة منهما أعم من الأخرى من وجه وأخص من وجه فتستويان، ولذلك فإن عثمان رضي الله عنه : " أحلتهما آية حرمتهما آية " ٩. ووجه الترجيح للتحريم كما قاله جمهور الفقهاء من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الأولى سيقت للتحريم، والثانية سيقت للمدح بحفظ الفروج، والقاعدة : أن الكلام إذا سيق لمعنى لا يستدل به في غيره، فلا تعارض الأولى الثانية. فتكون آية التحريم سالمة من المعارض فتقدم.
ثانيها : إن الأولى لم يجمع على تخصيصها، والثانية أجمع على تخصيصها بما لا يقبل الوطء من المملوكات، وبما يقبله لكنه محرم إجماعا كالذكور وأخوات الرضاع وموطوءات الآباء من الإماء وغير المخصوص أرجح مما أجمع على تخصيصه.
ثالثها : أن الأصل في الفروج التحريم حتى يتيقن الحل فتكون الأولى على وفق الأصل ولم يتعين رجحان الثانية عليها فيعمل بمقتضاها موافقة للأصل. ( الفروق : ٣/١٣٠ والذخيرة : ١/٣١٣-٣١٤ )
٢ - يقول الإمام القرافي في مكان آخر من "العقد..." :"كان أصل هذا التركيب أن يفيد في ظاهره تحريم الأم نفسها من جهة الوضع لأن مفعوله في الظاهر إنما هو الأمهات، ودل الفعل والعادة والشرائع على أن الذات ثم الأمهات وغيرها لا يتعلق بها تحريم ولا تحليل، لأن من شرط الذي يتعلق به حكم شرعي أن يكون فعلا للمكلف مقدورا له. والذوات ليست مقدورة للعباد، فلا يتعلق بها حكم شرعي. فيتعين حذف مضاف تقديره :"يحرم عليكم استمتاع أمهاتكم أو وطء أمهاتكم" فيصح اللفظ وينتظم التكليف. هذا هو مقتضى اللغة ثم صار هذا اللفظ موضوع الاستمتاع لا يفهم منه إلا ذلك، ولا يحتاج إلى حذف مضاف أصلا بل بقي اللفظ مستقلا بنفسه في الدلالة على ذلك من غير إضمار شيء" : ٢/٤٥٢..
٣ - المحصول: ١/٣/١٧٣..
٤ - أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن الحارث أن أم الفضل حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا تحرم الرضعة أو الرضعتان أو المصة أو المصتان..." كتاب الرضاع، باب : في المصة والمصتين. ون : سنن الترمذي، أبواب الرضاع، باب : لا تحرم المصة والمصتان. وسنن النسائي، كتاب النكاح، باب : القدر الذي يحرم من الرضاعة..
٥ - انظر الحديث وتخريجه في الصفحة : ١٠٨ من هذا البحث (القسم الثاني من الرسالة)..
٦ - قال ابن مالك في ألفيته :
إن عاملان اقتضبا في اسم عمل*** قبل فللواحد منهما العمل
والثاني أولى عند أهل البصرة*** واختار عكسا غيرهم ذا أسره
ن. شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك : ٢/١٥٧..
٧ - الحديث أخرجه البخاري في كتاب الشهادات وكتاب النكاح. ومسلم في كتاب الرضاع. وأبو داود في كتاب النكاح. والترمذي في كتاب الرضاع، بألفاظ مختلفة، منها : ما خرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال :"قال النبي صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة :"لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، هي بنت أخي من الرضاعة". ح : ٢٤٥١..
٨ - يقصد آية التحليل :﴿أو ما ملكت أيمانكم﴾ النساء : ٣. ن : المستصفى : ٢/١٤٩. وتفسير ابن كثير : ١/٧١٣..
٩ - ن. المستصفى : ٢/٣٨١. وتفسير ابن كثير : ١/٧١٢..
٣٦٣- المحصنات أي : الزوجات. ( الذخيرة : ١٢/١٠٣ )
٣٦٤- في هذه الآية من المسائل : على أي شيء عطف و " المحصنات " ؟ وما معنى الإحصان ؟ وما معنى هذا الاستثناء ؟ وهل هو متصل أم لا ؟
والجواب : أنه معطوف على المحرمات المتقدمات التي أولهن :﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ﴾٣ إلى قوله تعالى :﴿ ... والمحصنات ﴾.
والتحصن : التمنع، حصن المكان- بضم الصاد- إذا امتنع، ومنه : الحصن، لأنه يمنع من فيه، وحصنت المرأة : " امتنعت بوجه من وجوه الإحصان، وأحصنت – بالألف- نفسها، وأحصنها غيرها ".
وورد الإحصان في القرآن واللغة بأربعة معان :
أحدها : الزواج لأن الزوج يمنع المرأة من غيره ويحفظها.
ثانيها : الحرية، لأن الإماء كن عرفن في الجاهلية بالزنى، والحرة بخلاف ذلك، فوصف الحرة يمنع من إقدام السفلة على الحرة باعتبار عادتهم، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن هند بنت عتبة٤، حين المبايعة، لما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولا يزنين " لما تلا عليها آية المبايعة في سورة الممتحنة٥ فقالت : " أو تزني الحرة " ؟ ٦ !.
وهو معنى قول عمر رضي الله عنه للأمة حين سترت رأسها : " أتتشبهين بالحرائر يا لكعاء " ٧.
إنما ذمها على التشبه، ونهاها عنه، وإن كان وصف كمال، لأن تشبه الإماء بالحرائر يقضي إلى اللبس، فلا ينحصر الزنى في الإماء لعدم التمييز، فلذلك نهاها سدا للذريعة.
ثالثها : الإسلام، لأنه يمنع الدم والمال، ويعصم المسلم أيضا من الفساد وسوء الخلق لقول الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ***...
رابعها : العفة، لأن المتصف بها يمنع من الوقوع في عرضه، ويمنع النفس من الميل إلى الفساد. فلا تخرج ألفاظ القرآن عن هذه الأربعة وتحمل كل آية على ما يليق بها منها.
والمراد هاهنا، قال ابن عباس وجماعة : " المراد المتزوجات " فإن ذوات الزوج٨ حرام على السيد وغيره، إلا ما ملكت أيمانكم من أرض الحرب بالسبي، فإنهن حلال لمن وقعن في سهمه، لأن السبي يبطل نكاح الحربي٩.
وعن ابن عباس أيضا، وابن مسعود أن بيع الأمة المتزوجة وهبتها والتصدق بها وعتقها وإرثها وطلاق لها من زوجها كطلاق زوجها لها، فمعناه : " إلا ما ملكت أيمانكم بأحد هذه الطرق فلا يحرم وطؤه " ١٠.
ومذهب مالك والشافعي، وجمهور العلماء على أن انتقال ملك الأمة لا يكون طلاقا١١.
وقال طاوس١٢ وغيره : المحصنات " العفائف المسلمات أو أهل الكتاب، لا يحل منهن أحد إلا بملك اليمين " ١٣.
ويعني بملك اليمين مطلق ما يحصل به الملك من شراء ونكاح وغيره من الأسباب المبيحة للنكاح، يحمل التحريم المستثنى منه على تحريم الزنى.
وعن عروة١٤ : " المحصنات هاهنا الحرائر ويكون :- ما ملكت أيمانكم- أي بالنكاح ".
فيكون الاستثناء متصلا، وإن أريد بالملك كان منقطعا، لاختلاف الجنس، وعن مجاهد١٥ أنه كان يقول " لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل " ١٦ وعن ابن شهاب١٧ : أن المراد جميع أنواع الإحصان، ويحمل الاستثناء في كل معنى من الإحصان على ما يليق به، وهو يتخرج على قاعدة مختلف فيها، وهي استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه. ومذهب مالك والشافعي جوازه. ( الاستغناء في الاستثناء : ٣١٣ إلى ٣١٦ )
* ﴿ إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ :
٣٦٥- يتناول الجمع بين الأختين في الملك. ( الذخيرة : ١/١٥٧ ( كتاب تنقيح الفصول ) ).
* ﴿ وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ﴾ :
٣٦٦- خصص الصحابة قوله تعالى :﴿ وأحل لكم ما وراء ذالكم ﴾ بخبر أبي هريرة في المنع من نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أختها وبنت أختها١٨.
قلت : وهذا مطلق أيضا في الأحوال فلا يتعين التخصيص. ( العقد المنظوم : ٢/٤٠٩ )
٢ - أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب : جواز وطء المسببة بعد الاستبراء. ن : كذلك "لباب النقول" للسيوطي : ٥٥. وتفسير ابن كثير : ١/٧١٣..
٣ - سورة النساء : ٢٣..
٤ - هي أم معاوية بن أبي سفيان بن حرب، أسلمت في الفتح بعد إسلام زوجها. توفيت في خلافة عمر بن الخطاب – ن : سيرة ابن هشام : ٢/٦٨. والاستيعاب : ٤/١٩٢٢- طبقات ابن سعد : ٨/١٧٠..
٥ - الآية : ١٢..
٦ - ن : الرواية في تفسير ابن كثير : ٤/٥٥٢. بإسناده عن ابن إسحاق. وفي أسد الغابة : ٦/٢٩٣..
٧ - اللكعاء أو اللكيعة : اللثيمة- ن : اللسان : ٨/٣٢٢..
٨ - وهو مروي عن مالك أيضا قال :"المحصنات ذوات الأزواج"- ن : أحكام ابن العربي : ١/٣٨١، ومروي عن ابن المسيب: تفسير ابن كثير : ١/٧١٤..
٩ - ذكر ابن رشد في المقدمات أربعة أقوال لعلماء المالكية في هذه المسألة : ن : ملحق المدونة: ٥/٢٥٤-٢٥٥..
١٠ - ن : تفسير ابن كثير : ١/٧١٤..
١١ - ن : بداية المجتهد : ٤/٢٩١..
١٢ - هو أبو عبد الرحمان طاوس بن كيسان الخولاني اليماني، تابعي فارسي. سمع ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما (ت : ١٠٦ هج) ن : الوفيات : ٢/٥٠٩-٥١٠.- تهذيب التهذيب : ٥/٨- طبقات ابن سعد : ٧/٥٣٧..
١٣ - ن : تفسير ابن كثير : ١/٧١٥..
١٤ - هو عروة بن الزبير بن العوام، أحد الفقهاء السبعة (ت : بالمدينة : ٩٣ هج) ن :"وفيات الأعيان" : ١/٣١٦. حلية الأولياء : ٢/١٧٦..
١٥ - هو مجاهد بن جبير، أو الحجاج المكي، أحد أعلام التابعين والمفسرين، تلميذ ابن عباس (ت : ١٠١ هج) وقيل غير ذلك ن : صفوة الصفوة : ٢/٢٠٨، تهذيب الأسماء : ٢/٨٣..
١٦ - قال ابن رشد :"قوله :- إلا ما ملكت أيمانكم- من السبايا ذوات الأزواج أحلهن الله لنا بملك اليمين إذا سبين دون أزواجهن، أو معهم على مذهب من يرى أن السباء يهدم النكاح. وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال..." ن :"المقدمات" ملحق المدونة : ٥/٢٥٤-٢٥٥..
١٧ - هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، تابعي، كان يحفظ ٢٢٠٠ حديث، نصفها مسند. ن : تذكرة الحفاظ : ١/١٠٢- وفيات الأعيان : ١/٤٥١..
١٨ - أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة بلفظ :"لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها". ن : صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب :"لا تنكح المرأة على عمتها"- ن : صحيح مسلم كتاب النكاح، باب :"تحريم الجمع بين المرأة وعمتها". وهذا التخصيص نقله القرافي عن الرازي :"المحصول" : ١/٣/١٣٧..
٣٦٨- في الجوهر : " لا يجوزك ( الزواج من الأمة ) إلا بثلاثة شروط : عدم الطول، وخشي العنت، وكونها مسلمة، وقاله الشافعي لقوله تعالى :﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات... لمن خشي العنت منكم ﴾ وروي عن مالك الجواز مطلقا.
ومنشأ الخلاف مفهوم الشرط الذي في الآية : هل هو ليس بحجة، فيتأتى قول مالك، لأن الآية لم تدل على المنع بمنطوقها، بل بالمفهوم ؟ أو حجة فيأتي قول ابن القاسم، وإذا فرعنا على المشهور، ففي الكتاب١ : الطول : صداق الحرة لقوله تعالى :﴿ استأذنك أولوا الطول منهم ﴾٢ ﴿ ومن يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات ﴾ فيدل على أن الطول : المال والقدرة، وقاله الشافعي، ولا يرعى٣ القدرة على النفقة، لأنها شرط في التمكن من البقاء إلا في العقد، واشتراطها أصبغ لأنه لا يزوج إن علم عجزه عنها. وروي أن الطول : وجود الحرة في عصمته، لأن القدرة عليها إذا امتنعت فهو أولى. وعلى المشهور : لو عدم المال وخشي العنت أبيحت له الأمة، وإن كان تحته ثلاث حرائر.
قال القاضي أبو بكر : " ولو قدر على صداق كتابته للزوج الأمة، ولو عالته الحرة في المهر فسرق فلم يجد غيرها تزوج الأمة، ولو قنعت بدون صداق المثل وهو قادر عليه، حرمت الأمة " ٤، وأما العنت فهو الزنى، سمي بذلك لأن أصله التضييق والمشقة لقوله تعالى :﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾٥ أي : " لضيق عليكم "، ومنه : التعنت في الصحبة، ولما كان الزنى يؤدي إلى عذاب الله تعالى وكفى به حرجا، سمي عنتا من تسمية السبب باسم المسبب، وإنما يتم بغلبة الشهوة وضعف الخوف من الله، فإذا اشتد الخوف وأمن على نفسه حرمت الأمة " ٦. ( نفسه : ٤/٣٤٤-٣٤٥ )
* قوله تعالى :﴿ فإذا أحصن فإن آتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ :
٣٦٩- قرئ : أحصن وأحصن. بفتح الصاد وكسرها، فالثاني معناه : تزوجن، قاله القاضي إسماعيل٧ لتقدم قوله : " من فتياتكم المؤمنات ". ( الذخيرة : ١٢/٧٥ )
٣٧٠- قوله تعالى :﴿ فنصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ أي : الحرائر المسلمات، لا الحرائر المتزوجات، لأن حدهن الرجم، وهو لا يتبعض. ( نفسه : ١٢/٧٦ )
٣٧١- تنبيه : آية التشطير إنما تناولت الإناث لقوله تعالى :﴿ فعليهن ﴾ وإنما ألحق الذكور بالإجماع. ( نفسه : ٤/٢٠٥ )
٣٧٢- لم يتناول الذكور، فألحقوا بهن لعدم الفارق٨ خاصة، لا لحصول الجامع. ( الفروق : ٣/٢٦٣ )
٣٧٣- قال اللخمي : يجلد الحر والحرة مائة، والعبد – ومن فيه علقة٩ رق- خمسين، لقوله تعالى :﴿ فعليهن ما على المحصنات من العذاب ﴾ بسوط بين سوطين لا جديد ولا بال، يضرب بين ضربين، في زمان بين زمانين، من رجل بين رجلين، لا بالقوي ولا بالضعيف.
وفي الموطإ : " اعترف رجل بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور، فقال : فوق هذا، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال : بين هذين، فأتي بسوط قد ركب به ولان، فأمر به فجلد. " ١٠ ولا يضع سوطا فوق سوط. ويعطى كل عضو حقه إلا الوجه والفرج. ( الذخيرة : ١٢/٨١ )
٣٧٤- في الكتاب : " حد القذف والخمر على العبد أربعون، نصف حد الحر، وحده في الزنا خمسون، لقوله تعالى :﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ " ١١. ( نفسه : ١٢/١١٣ )
٢ - سورة التوبة : ٨٦..
٣ - كذا في الأصل ولعلها : ولابد من القدرة (تصويب من المحقق). لكن عبارة الجواهر :"ولا تراعى القدرة" ن : الجواهر الثمينة : ٢/٥١..
٤ - في النص غموض وقد جاء في الجواهر : ٢/٥٢ :"قال القاضي أبو بكر : ولو قدر على طول حرة كتابية لنكح الأمة، ولو وجد حرة فغالته في المهر بمقدار يعد قبوله إسرافا ولم يجد غيرها نكح الأمة ولو وقعت بدون مهر المثل وهو قادر عليه لم ينكح الأمة". ولم أعثر على هذا النص في الأحكام ولا في القبس..
٥ - سورة البقرة : ٢٢٠..
٦ - ن : الجواهر الثمينة : ٢/٥١-٥٢ بتصرف..
٧ - هو إسماعيل بن إسحاق بن حماد الأزدي (٢٠٠ هج - ٢٨٢ هج) من مؤلفاته :"المبسوط في الفقه" و"شرح الموطأ" و"الأصول" وغيرها، ن : المدارك : ٣/١٦٨، الديباج : ١/٢٨٢. شجرة النور : ٦٥..
٨ - ويسمى أيضا بقياس المعنى وهو غير قياس الشبه وقياس العلة لأنه مثل إلحاق الذكور بالإناث من الرقيق في تشطير الحدود، ن : الفروق : ٣/٢٦٣..
٩ - جاء في اللسان : ١٠/٢٦٣ :"العلقة والعلاق : ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغذاء"..
١٠ - خرجه مالك في الموطإ، كتاب الحدود، باب : ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا. قال الباجي في شرح هذا الحديث :"قوله : قد ركب به ولان" يريد قد انكسرت حدته. ولم يخلق ولا بلغ من البيت مبلغا لا يألم من ضرب به" ن : المنتفى : ٧/١٤٢..
١١ - لم أهتد إلى هذا النص في المدونة..
٣٧٥- معنى الآية : إلا أن تكون تجارة فكلوها بالسبب الحق "، فلم يحكم بالنقيض، بل بغيره، فكان الاستثناء منقطعا. ( العقد : ٢/٢٩٥ )
٣٧٦- الاستثناء منقطع، مع أن المحكوم عليه بعد " إلا " هو عين الأموال التي حكم عليها قبل " إلا ". ( تنقيح الفصول المطبوع مع الذخيرة : ١/٩٦ )
٣٧٧- إنه مجاز لأن المتبادر هو الاستثناء المتصل- كما تقدم-١ وإنما يجب العدول هاهنا إلى المنقطع بقرينة التعذر، والذي يعذر إليه لقرينة التعذر هو المجاز. ( العقد المنظوم : ٢/٢٩٢ )
* قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ﴾ :
٣٧٨- أي : لا تقتلوا بعضكم بعضا. ( الذخيرة : ٨/٢٤٥ )
٣٧٩- روى أبو داود عن عمرو بن العاص قال : " احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك. فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فأخبرته الذي منعني من الاغتسال وقلت : سمعت الله تعالى يقول :﴿ ولا تقتُلوا أنفُسَكم إنَّ اللهَ كانَ بكُمْ رحِيمًا ﴾ فضحك صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا ". ٢ ( نفسه : ١/٣٤٠ )
.
٢ - الحديث خرجه في سننه: ١/٩٢. وأحمد في مسنده: ٤/٢٠٣- ٢٠٤..
٣٨١- قال أهل الحق : التقوى هي اجتناب الكبائر والصغائر لأن في الجميع عقوبة. وقالت المعتزلة : هي اجتناب الكبائر فقط لقوله تعالى :﴿ إنْ تجتنبوا كبائر ما تُنْهَونَ عنه نكَفِّر عنكم سيِّئاتكم ﴾. وإذا كانت الكبائر يقينا اجتنابها عذاب الصغائر لم يكن اجتناب الصغيرة تقوى لأنه لا يحسن فيمن بينه وبين السهام جدار أن يقال : اتقى السهام بترسه.
وجوابه : أن الصغيرة فيها التعزير والذم عاجلا والعقوبة آجلا، فاجتناب الكبيرة إنما يقي العقوبة الآجلة، وبقي التعزير والذم فيدفعان باجتناب الصغيرة، فصح أن اجتنابها تقوى شرعية، ودل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وأن تذكر المقابر والبلا " ١. ( نفسه : ١٣/٢٤٥ )
٣٨٣- قال الإمام مالك : " اختلف الناس في الفقر والغنى على أربعة أقوال :
فقيل : الغنى أفضل. وقيل : الكفاف. وقيل بالوقف. وهذا في حق من يقوم في كل حالة بما يليق. أما من لا يقوم بما يتعين عليه في حالة منها فلا خلاف أن الحالة الأخرى أفضل له. ففي الحديث : " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى. " ١
والفقر والغنى ليسا حسنين لذاتهما، بل بالنسبة لآثارهما في الناس.
والذي أراه : تفضيل الغنى على الفقر، وتفضيل الفقر على الكفاف لقوله تعالى :﴿ واسْألوا الله مِنْ فَضْلِهِ ﴾ وقوله تعالى :﴿ ووجدك عائلا فأغنى ﴾٢. وقوله تعالى :﴿ وأعيُنُهُم تفيضُ منَ الدَّمْعِ حَزَنًا ألاَّ يجِدوا ما يُنْفِقونَ ﴾٣. وقوله تعالى :﴿ الشيْطَانُ يعِدكُمُ الفقْرَ ويَأمُرُكُم بالفَحْشَاءِ واللهُ يعِدُكُم مغفرة منه وفضلا ﴾٤. وقال صلى الله عليه وسلم : " ذهب أهل الدثور بالأجور " ٥. وكان عليه السلام في آخر عمره على أكمل أحواله، وكان يدخر قوت عياله سنة، ولم يكن ذلك قبل ذلك، ونهى عليه السلام عن إضاعة المال. والآيات والأحاديث كثيرة جدا.
وكل ما يتصور من الفقير من الصبر والرضى يتصور من الغني في الإيثار. وليس كل ما يتصور من الغني من القربات يتصور من الفقير.
قال : وإنما قلت : إن الفقير أفضل من الكفاف لأن صاحب الكفاف يشكر الله على نعمته عليه في الكفاف، والفقير يؤجر من وجهين : الصبر والرضى.. ( الذخيرة : ١٣/٣٣١- ٣٣٢ )
٢ - سورة الضحى: ٨..
٣ - سورة التوبة: ٩٢..
٤ - سورة البقرة: ٢٦٨..
٥ - خرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة. ح: ١٦٧٤. وأحمد في مسنده، ح: ٢٠٥٠٨. عن جندب بن جنادة..
٣٨٧- إن السكران ما يمكنه أن يجتنب ولا أن يكلف لزمان عقله، فيتعين الحمل على السبب، أي : " لا تشربوا فيأتي وقت الصلاة وأنتم سكارى ". فالنهي إنما هو عن سبب سابق على السكر، لا عن قربان الصلاة في السكر. ( الاستغناء : ٥٣٣ )
٣٨٨- اختلف العلماء في الصلاة هاهنا، فقيل : المراد بالصلاة نفسها، فلا يقربها سكران، ولا جنب إلا أن يكون عابر سبيل، أي مسافرا، فيباح له التيمم، فيصلي به، وهو لا يرفع الحدث، فيصلي وهو جنب بناء على أن التيمم لا يباح لغير المسافر.
وقيل : المراد بالصلاة مواضعها أي : " لا تقربوا المساجد سكارى مطلقا ولا جنبا إلا عابري سبيل في المسجد من غير إقامة ". فاستثنى ذلك للجنب.
وعلى القولين يكون الاستثناء من الأحوال، تقديره : " لا تقربوا ذلك في حالة من الحالات إلا في هذه الحالة ". " فعابري " على هذا منصوب على الحال من غير تأويل، وهو مستثنى من الأحوال، استثناء متصلا من غير المنطوق أعم العام. ( نفسه : ٥٤٠ )
* قوله تعالى :﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾ :
٣٨٩- حجة الشافعي١ قوله تعالى :﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل ﴾ فاستثناء السبيل يدل على أن المستثنى منه بقاع، فيكون تقدير الآية : لا تقربوا مواضع الصلاة٢.
جوابه : أن الأصل عدم الإضمار، بل المراد الصلاة نفسها، نهينا عن قربانها سكارى، وجنبا إلا في السفر فإنا نقربها جنبا للتيمم، وخص السفر بالذكر لعدم الماء فيه غالبا. وهذا تفسير علي ابن أبي طالب. والأول لزيد بن أسلم رضي الله عنهما٣. ( الذخيرة : ١/٣٤١ )
٣٩٠- الاستغناء عائد على كونهم جنبا دون كونهم سكارى. ( الاستغناء : ٣٧٥ )
* قوله تعالى :﴿ أو جاء أحدكم من الغائط ﴾ :
٣٩١- أمر الله تعالى بالوضوء مما يحصل في الغائط. قال أبو حنيفة رحمه الله : " السبب في ذلك هو الخارج النجس الموجب لاستخباث جملة الجسد، كما أن الإنسان لو كان به برص أو جذام ببعض أعضائه كرهت جملته عرفا، فكذلك يستخبث شرعا، فيلحق به كل خارج نجس كالحجامة ونحوها.
وقال الشافعي رحمة الله عليه : المعتبر المخرج لأنه هو المفهوم المطرد عند قوله تعالى :﴿ أو جاء أحدكم من الغائط ﴾ أي : ما خرج من هذين المخرجين أوجب الوضوء كان طاهرا أو نجسا معتادا أو نادرا.
وقال مالك رحمة الله عليه : المعتبر الخارج والمخرج المعتادان اللذان يفهمان من الآية، وهما تعبدان لا يجوز التصرف فيهما بل يقتصر على مورد النص. وهذا هو الصواب والله أعلم٤ ". ( الذخيرة : ١/٢٣٧. )
* قوله تعالى :﴿ أو لامستم النساء ﴾ :
٣٩٢- في الجوهر : " الملموس إذا وجد اللذة توضأ خلافا للشافعي في أحد قوليه، لأن الله تعالى إنما خاطب اللامس بقوله :﴿ أو لامستم النساء ﴾ لاشتراكهما في اللذة، فيشتركان في موجبها كالتقاء الختانين، وإن لو يجد الملوس لذة فلا وضوء عليه إلا أن يقصد فيكون لامسا في الحكم ". ٥ ( نفسه : ١/٢٣٨ )
٣٩٣- لما كانت النساء تلمس طلبا للذة قال الله تعالى :﴿ أو لامستم النساء ﴾ والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون هذا نصا على إبطال مذهب الشافعية والحنفية وعلى اشتراط اللذة والطلب. ( نفسه : ١/٣٠٨ )
* قوله تعالى :﴿ فلم تجدوا ماءً فتيمَّموا صعيدا طيبا ﴾ :
٣٩٤- عدم الوجدان للماء إنما يتحقق عند بذل الجهد في الطلب في حق من يمكنه استعماله.
ويدل على وجوب الطلب إلى حين الصلاة أن الوضوء واجب إجماعا، فيجب طلب الماء، لأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب، فيكون طلب الماء واجبا حتى يتبين العجز فيتمم حينئذ، ولأن المفهوم من قوله تعالى :﴿ فلم تجدوا ماء ﴾ أي : بعد الطلب. ( نفسه : ١/٣٣٥ )
٣٩٥- قوله تعالى :﴿ فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ قال ثعلب وجماعة من أئمة اللغة كأبي عبيدة٦ والأصمعي٧ : " الصعيد وجه الأرض " ٨ من الصعود، وهو العلو، ومنه سميت القناة صعدة لعلوها، فكل ما صعد على وجه الأرض فهو صعيد يجوز التيمم به إلا ما خصه الدليل. ( الذخيرة : ١/٣٤٧ )
٢ - ن: بداية المجتهد: ١/٥٤١..
٣ - ن: تفسير ابن كثير: ١/٧٥٩..
٤ - ن. تفصيل هذه المسألة في بداية المجتهد: ١/٤٨٠..
٥ الجواهر الثمينة : ١/٥٧ بتصرف..
٦ - هو معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري، أبو عبيدة النحوي (ت: ٢٠٩هج) بالبصرة من كتبه: "مجاز القرآن" و"إعراب القرآن" و"أمثال العرب" وغيرها، ن: تذكرة الحفاظ: ١/٣٣٨- وميزان الاعتدال: ٣/١٨٩- تهذيب التهذيب: ١٠/٢٤٦..
٧ - هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي المعروف بالأصمعي، لغوي وفقيه من أهل البصرة (ت: ٢١٦ هج) من تأليفه: "نوادر العرب" و"الأجناس في أصول الفقه" و"اللغات" وغيرها، ن: معجم المؤلفين: ٢/٣٢٠..
٨ - ن: مجاز القرآن لأبي عبيدة: ١/١٢٨..
٣٩٧- قال المفسرون : هم العلماء، وقيل : ولاة الأمر والنهي من الملوك وغيرهم. أوجب الطاعة، وهو وجوب التقليد. ( نفسه : ٤٣١ )
٣٩٨- قال صاحب المقدمات : " كما وجب على الناس أن يكون منهم قضاة وأئمة أوجب عليهم طاعة ولاة أمورهم من القضاة وغيرهم، قال الله تعالى :﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ " ١. ( الذخيرة : ١٠/١٥ )
٣٩٩- الخلافة العظمى، وهي الولاية، وهي واجبة إجماعا، ووجوبها على الكفاية، أما وجوبها فلقوله تعالى :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ فطاعتهم فرع وجودهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
حكى العتبي١ أنه كان جالسا عند قبره عليه الصلاة والسلام فجاء أعرابي فقال : " السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع٢ أعظمه | فطاب من طيبهن القاع والأكم٣ |
نفسي الفداء بقبر أنت ساكنه | فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
٢ - القاع: أرض واسعة سهلة مطمئنة مستوية... ن: اللسان: ٨/٣٠٤ وما بعدها..
٣ - الأكم: أشراف في الأرض كالروابي... ن: اللسان: ١٢/٢١..
٤ - هذه الحكاية أوردها ابن كثير في تفسيره نقلا عن ابن منصور الصباغ بدون سند: ١/٧٨٧..
والجواب : أن الآية خطاب لجميع المؤمنين باتفاق في قوله :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ﴾.
واختلف في الفضل والرحمة المشار إليهما، فقيل : فضل الله تعالى القرآن، ورحمته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : إرشاد الله تعالى مطلقا، فلولاه لكانوا كفرة.
واختلف في المستثنى من أي شيء استثني ؟ فقيل : هو من قوله :﴿ أذاعوا به إلا قليلا ﴾. وقال قتادة : من قوله تعالى :﴿ يستنبطونه إلا قليلا ﴾. وقيل : بل من قوله تعالى :﴿ اتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ على سرد الكلام من غير تقديم.
ثم اختلف هؤلاء فقيل : معناه أن الله تعالى هدى الخلق للإيمان وكان أكثرهم تعرض لهم الشبهات، وأقلهم لا يعرض لهم ذلك، فلولا فضل الله على الجميع في التثبيت لارتدوا عن الإسلام إلا القليل الذين لا يحتاجون لصرف الشبهات، فإنهم إذا لم يأتهم صرف الشبهات لا يرتدون، لأنهم لا شبهات عندهم، فلا يتبعون الشيطان بالردة، قاله الضحاك.
وقيل :﴿ إلا قليلا ﴾ هم القوم الذين كانوا على الدين الصحيح قبل البعثة. فلو لم يأت فضل الله تعالى ورحمته بالقرآن ورسالة محمد عليه السلام لاتبع كل من هو مسلم بعد البعثة الشيطان إلا قليلا وهم أولئك العصابة، وهذا القول هو الذي يختاره الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى، لجمعه بين حمل كل لفظ على معنى صحيح، فالفضل للقرآن، والرحمة على رسالته عليه السلام ويكون الاستثناء على الأقرب إليه كما هو ظاهر اللفظ. ومن هذه الفرقة التي كانت على الهداية قبل البعثة ورقة بن نوفل١ وزيد بن عمرو بن نفيل٢ وغيرهما على ما ذكره ابن إسحاق٣ وغيره من أرباب السير.
وقيل : الاستثناء من المتبع فيه، ومعناه : " لاتبعتم الشيطان فيما يأمركم به إلا قليلا من ذلك، فإن أخلاقكم تأبى إتباعه فيه، لفرط قبحه ووضوح فساده، فإن الشيطان لا يكاد يأمر الإنسان إلا بملتبس حتى يتم مقصوده، أما واضح الفساد فلا، إلا ما شذ من غلط الشيطان في ذلك.
وقيل :﴿ إلا قليلا ﴾ إشارة إلى العدم، فإن العرب تعبر به عن العدم، تقول : " قل رجل يقول كذا إلا زيد ". كأنهم قالوا : لا يقوله إلا زيد "، لأنه القلة في معنى العدم، حكاه الطبري٤، وهو بعيد من جهة اقتران " القليل " هاهنا بالاستثناء.
وعلى هذا القول لا يكون الاستثناء لا متصلا ولا منقطعا بل يبقى في معنى التأكيد، كأنه قال : لم يبق منكم أحد إلا اتبع الشيطان.
وعلى القول الأول يكون الاستثناء متصلا لأنه من الجنس، وحكم عليه بالنقيض الذي هو عدم الإتباع.
فهذه الآية هي من أعظم الآيات المشكلات في الاستثناء. ( الاستغناء : ٣١٦- ٣١٧-٣١٨ )
٢ - هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي، أحد الحكماء، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، كان يكره عبادة الأصنام ولم يدرك الإسلام. توفي قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بخمس سنين. ن- الأعلام للزركلي: ٣/٦٠..
٣ - هو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء المدني، صاحب كتاب "السيرة النبوية" و "الخلفاء". (ت: ١٥١ هج). ن: تهذيب التهذيب: ٩/٣٨ والأعلام: ٦/٢٨ وتاريخ بغداد: ١/٢١٤..
٤ - لم أقف على هذا التفسير في جامع البيان للطبري: ١٤/١٨٥ وما بعدها. والطبري هو محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الآملي البغدادي، شيخ المفسرين، وكبير المؤرخين، وكبير المؤرخين. (ت: ٣١٠ هج). من مصنفاته: "جامع البيان عن تأويل أي القرآن" و"تاريخ الأمم والملوك" و"اختلاف الفقهاء" و"تاريخ الرجال" وغيرها. ن: لسان الميزان: ٥/٤ وما بعدها. تهذيب التهذيب: ١/٣٣٥. معجم الأدباء: ١٨/٥٠. تاريخ بغداد: ٢/١٦٢. وغيرها..
من كل ما نال الفتى*** قد نلته إلا التحية١
أي : الملك، والتحية : البقاء : وقيل : هو المراد بالبيت، والملك هو المشهور. وأصله : أن الملك كان يحيى، فيقال له : أبيت اللعن، ولا يقال لغيره ذلك. ( نفسه : ٢/٢١٤-٢١٥ )
٤١٠- وجوب رد السلام من قوله تعالى :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾ ولأنه يتعين حقه بالبداءة، وصفة السلام أن يقول المبتدئ : " السلام عليكم " ويقول الراد : " وعليكم السلام " أو : " السلام عليكم "، كما قيل له. ( نفسه : ١٣/٢٩٠ )
٤١١- قال ابن عطية٢ في تفسيره : " قيل إن " أو " للتنويع لا للتخيير، وقيل : للتخيير، ومعناه أن الإنسان مخير في أن يرد أحسن أو يقتصر على لفظ المبتدئ إن كان قد وقف دون البركات٣ وإلا لبطل التخيير لتعيين المساواة. وقيل : لابد من الانتهاء إلى لفظ البركات مطلقا، وحينئذ يتعين تنويع الرد إلى المثل إن كان المبتدئ انتهى للبركات، وإلى الأحسن إن كان المبتدئ اقتصر دون البركات. فهذا معنى التخيير والتنويع. وينبني على هذا : هل الانتهاء من البركات مأمور به مطلقا أو في صورة واحدة وهي إذا انتهى المبتدئ إلى البركات فقط٤. ( الفروق : ٢٥٥ والذخيرة : ١٣/٢٩٤- ٢٩٥ )
٢ - هو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمان بن عطية المحاربي الغرناطي، إمام في التفسير والقراءات والفقه، ولي قضاء المرية (ت: ٥٤٢ هج). ن: أعلام النبلاء: ١٩/٥٨٦. من مصنفاته: "المحرر الوجويز في تفسير الكتاب العزيز" و"الفهرست". ن: طبقات المفسرين للداودي: ١/٢٦٠..
٣ - يقصد قوله: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"..
٤ - ت- المحرر الوجيز: ٢/٨٧ بتصرف شديد..
والجواب : قال المفسرون : كان هذا أول الإسلام قبل استحكام القوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل، فأمر الله تعالى في هذه الآية أن من وصل إلى هؤلاء المشركين الذين لا عهد بيننا وبينهم صار بمنزلتهم، ويكون ناصرا بمنزلتهم، ومن جملة أحلافنا٢.
قال عكرمة٣ والسدي : " فلما كثر ناصرو الإسلام نسخت هذه الآية بآية براءة " ٤.
وقال أبو عبيدة وغيره : " ﴿ يصلون ﴾ هاهنا معناها : ينتسبون، لا يرحلون إليهم، لأن النسب وصلة معنوية " ٥.
والفرق بين اليمين والعهد والميثاق : أن اليمين هو الحلف، والعهد هو الإلزام أو الالتزام، ومنه قوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾٦ أي : أوفوا بما ألزمتكم من التكاليف، أوفي لكم بما التزمت لكم من الثواب ". ومنه عهدة البيع، أي : ما يلزم البائع من رد الثمن عند استحقاق المبيع أو رده بالعيب أو غير ذلك.
والميثاق هو العهد المؤكد باليمين، لأنه وثق به حينئذ، فالميثاق مجموعهما، وكل واحد منهما جزؤه. هذا أصله في اللغة، ثم قد يستعمل الميثاق في مطلق العهد أو الحلف من باب إطلاق اسم الكل على الجزء.
ومعنى قوله تعالى :﴿ أو جاءوكم حصرت صدورهم ﴾ أنه معطوف على ﴿ يصلون ﴾ أو على ﴿ بينكم وبنهم ميثاق ﴾، والمعنى في العطفين مختلف لاختلاف الحكم في أصحاب الميثاق الواصلين إليهم، وهو أيضا حكم كان قبل استحكام الإسلام، فكان المشرك إذا اعتزل وجاء إلى دار الإسلام مسلما كارها لقتال قومه مع المسلمين، ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل عليه. فهي منسوخة بما في براءة٧.
ومعنى ﴿ حصرت ﴾ : ضاقت٨، ومنه حصار العدو في القلاع، والحصر في القول، وهو ضيق الكلام على المتكلم. وهو عند جمهور النحويين في موضع نصب على الحال مقدر معها " قد "، تقديره : " جاءوكم وقد حصرت صدورهم "، أي : " ضاقت في القتال مع الفئتين "، لأن " قد " تصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال ليحصل الفرق بين الحال والخبر المستأنف، كقولك : جاء زيد ركب الفرس. إن أردت الحال قدرت " قد "، وإن أردت خبرا آخر عن زيد لم تقدرها.
وقال الزجاج : بل هي خبر بعد خبر لأن الأصل عدم الحذف. وقال المبرد : " حصرت " دعاء عليهم، كما تقول : " جاء زيد قاتله الله ". وقيل : هذا الدعاء لا يصح لأنه يصير دعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم. وجوابه : أنه دعاء عليهم بضيق صدرهم عن قتال المسلمين خاصة، أو بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيزا لهم، ولا يقاتلوا قومهم تحقيرا لهم. أي : هم أقل من ذلك ومستغنى عنهم، كما تقول : لا جعل الله فلانا علي ولا لي. أي : أنا مستغن عنه. فهذه الآية هي مما يتطارحها الفضلاء إعرابا ومعنى. ( الاستغناء : ٣١٨ إلى ٣٢٠ )
٢ - ن: جامع البيان: ٩/١٩..
٣ - هو أبو عبد الله، عكرمة، مولى ابن عباس، تابعي. (ت: ١٠٤ هج). ن: صفوة الصفوة: ٢/١٠٣. تهذيب الأسماء: ١/٣٤٠..
٤ - ن: جامع البيان: ٩/٢٤-٢٥. وقد قال بالنسخ أيضا كل من: أبي جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن"، وعبد القاهر الجرجاني في "الناسخ والمنسوخ" وغيرهم. نقلا عن د. مصطفى زيد في كتابه: "النسخ في القرآن": ٢/٧٨١ إلى ٧٨٦. وقد خلص إلى القول: "إن الآيتين محكمتان، وما قرره ابن عباس من أنهما منسوختان يعوزه الدليل" نفسه: ٢/٧٨٦..
٥ - لفظ أبي عبيدة: "فإن كانوا من أولئك القوم... " ن: مجاز القرآن: ١/١٣٦..
٦ - سورة البقرة: ٤٠..
٧ - ن. بحثا في الموضوع للدكتور مصطفى زيد في كتابه: "النسخ في القرآن": ٢/٧٨١ وما بعدها..
٨ - ن. مجاز القرآن لأبي عبيدة: ١/١٣٦. جامع البيان للطبري: ٤/٢٠٠..
والجواب : قال المفسرون : كان هذا أول الإسلام قبل استحكام القوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل، فأمر الله تعالى في هذه الآية أن من وصل إلى هؤلاء المشركين الذين لا عهد بيننا وبينهم صار بمنزلتهم، ويكون ناصرا بمنزلتهم، ومن جملة أحلافنا٢.
قال عكرمة٣ والسدي :" فلما كثر ناصرو الإسلام نسخت هذه الآية بآية براءة " ٤.
وقال أبو عبيدة وغيره :" ﴿ يصلون ﴾ هاهنا معناها : ينتسبون، لا يرحلون إليهم، لأن النسب وصلة معنوية " ٥.
والفرق بين اليمين والعهد والميثاق : أن اليمين هو الحلف، والعهد هو الإلزام أو الالتزام، ومنه قوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾٦ أي : أوفوا بما ألزمتكم من التكاليف، أوفي لكم بما التزمت لكم من الثواب ". ومنه عهدة البيع، أي : ما يلزم البائع من رد الثمن عند استحقاق المبيع أو رده بالعيب أو غير ذلك.
والميثاق هو العهد المؤكد باليمين، لأنه وثق به حينئذ، فالميثاق مجموعهما، وكل واحد منهما جزؤه. هذا أصله في اللغة، ثم قد يستعمل الميثاق في مطلق العهد أو الحلف من باب إطلاق اسم الكل على الجزء.
ومعنى قوله تعالى :﴿ أو جاءوكم حصرت صدورهم ﴾ أنه معطوف على ﴿ يصلون ﴾ أو على ﴿ بينكم وبنهم ميثاق ﴾، والمعنى في العطفين مختلف لاختلاف الحكم في أصحاب الميثاق الواصلين إليهم، وهو أيضا حكم كان قبل استحكام الإسلام، فكان المشرك إذا اعتزل وجاء إلى دار الإسلام مسلما كارها لقتال قومه مع المسلمين، ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل عليه. فهي منسوخة بما في براءة٧.
ومعنى ﴿ حصرت ﴾ : ضاقت٨، ومنه حصار العدو في القلاع، والحصر في القول، وهو ضيق الكلام على المتكلم. وهو عند جمهور النحويين في موضع نصب على الحال مقدر معها " قد "، تقديره :" جاءوكم وقد حصرت صدورهم "، أي :" ضاقت في القتال مع الفئتين "، لأن " قد " تصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال ليحصل الفرق بين الحال والخبر المستأنف، كقولك : جاء زيد ركب الفرس. إن أردت الحال قدرت " قد "، وإن أردت خبرا آخر عن زيد لم تقدرها.
وقال الزجاج : بل هي خبر بعد خبر لأن الأصل عدم الحذف. وقال المبرد :" حصرت " دعاء عليهم، كما تقول :" جاء زيد قاتله الله ". وقيل : هذا الدعاء لا يصح لأنه يصير دعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم. وجوابه : أنه دعاء عليهم بضيق صدرهم عن قتال المسلمين خاصة، أو بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيزا لهم، ولا يقاتلوا قومهم تحقيرا لهم. أي : هم أقل من ذلك ومستغنى عنهم، كما تقول : لا جعل الله فلانا علي ولا لي. أي : أنا مستغن عنه. فهذه الآية هي مما يتطارحها الفضلاء إعرابا ومعنى. ( الاستغناء : ٣١٨ إلى ٣٢٠ )
٢ - ن: جامع البيان: ٩/١٩..
٣ - هو أبو عبد الله، عكرمة، مولى ابن عباس، تابعي. (ت: ١٠٤ هج). ن: صفوة الصفوة: ٢/١٠٣. تهذيب الأسماء: ١/٣٤٠..
٤ - ن: جامع البيان: ٩/٢٤-٢٥. وقد قال بالنسخ أيضا كل من: أبي جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن"، وعبد القاهر الجرجاني في "الناسخ والمنسوخ" وغيرهم. نقلا عن د. مصطفى زيد في كتابه: "النسخ في القرآن": ٢/٧٨١ إلى ٧٨٦. وقد خلص إلى القول: "إن الآيتين محكمتان، وما قرره ابن عباس من أنهما منسوختان يعوزه الدليل" نفسه: ٢/٧٨٦..
٥ - لفظ أبي عبيدة: "فإن كانوا من أولئك القوم... " ن: مجاز القرآن: ١/١٣٦..
٦ - سورة البقرة: ٤٠..
٧ - ن. بحثا في الموضوع للدكتور مصطفى زيد في كتابه: "النسخ في القرآن": ٢/٧٨١ وما بعدها..
٨ - ن. مجاز القرآن لأبي عبيدة: ١/١٣٦. جامع البيان للطبري: ٤/٢٠٠..
٤١٣- أي : قتلا خطأ. ومعلوم أن القتل الخطأ بعض أفراد القتل، ومع ذلك فهو منقطع. ( العقد المنظوم : ٢/٢٩٤ )
٤١٤- لم يقع الحكم فيه بالنقيض، لأن نقيض " ما كان له أن يقتل " : كان له أن يقبل، ولم يحكم به سبحانه وتعالى، لأن اللام معناه في مثل هذا السياق الإباحة، فإذا قال الله تعالى : " لكم أن تفعلوا "، كان إذنا وإباحة، والقتل الخطأ ليس مباحا، بل هو معفو عنه، والمعفو عنه كالخطإ والنسيان، وفعل النائم لا يقال إنه مباح ومحرم فإن الله تعالى لم يأذن في قتل المؤمن بغير جناية البتة، بل عفا عن جناية الخطإ فقط. أما أنه أباحها فلا، وكذلك الساهي والنائم وبقية النظائر.
فالآية حينئذ لم يقع فيها الحكم بالنقيض البتة، فكان الاستثناء فيها منقطعا لعدم الحكم بالنقيض لا لعدم الحكم على الجنس والحكم على غير الجنس. ( الاستغناء : ٤٩٧ )
* قوله تعالى :﴿ ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ﴾ :
٤١٥- تقديره : " يجب عليكم تسليم الدية إلى أهله في كل حالة إلا في حالة التصدق، فلا يجب الدفع إليه وقد وهبوا ".
و﴿ أن يصدقوا ﴾ : " أن " مع الفعل بتأويل المصدر، والمصدر في تأويل اسم الفاعل المنصوب على المصدر والاستثناء معا، تقديره : " يجب الدفع إلى أهل الميت في كل حالة من الأحوال إلا متصدقين ". ( الاستغناء : ٥٤١ )
* قوله تعالى :﴿ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ﴾ :
٤١٦- لم يذكر دية فيمن أسلم ولم يهاجر من مكة فلا دية له، لقوله تعالى :﴿ ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ﴾١. ( الذخيرة : ١٢/٣٥٧ )
* قوله تعالى :﴿ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ﴾ :
٤١٧- قال مالك : " الآية في هدنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أصيب منهم ممن أسلم ولم يهاجر ففيه الدية إلى أهله الكفار الذين كان بين أظهرهم " ٢. ( شرح التنقيح : ١٥٤ )
* قوله تعالى :﴿ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ﴾ :
٤١٨- للتخيير والترتيب ألفاظ تدل عليهما في اللغة، والذي رأيته للفقهاء أن الله تعالى متى قال : " افعلوا كذا أو كذا " فهو للتخيير، وكذلك : " إما كذا وإما كذا "، ومتى قال : " فمن لم يجد كذا فليفعل كذا "، و " إن لم يجد كذا فليفعل كذا "، كما قال الله تعالى :﴿ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ﴾ فصورة الشرط مستند الترتيب ولفظ " أو " موجب للتخيير. ( شرح التنقيح : ١٥٤ )
٤١٩- في الجواهر : " كل حر مسلم قتل حرا مسلما معصوما خطأ فعليه تحرير رقبة مؤمنة سليمة من العيوب ليس فيها شرك ولا عقد حرية، فإن لم يجد : فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع انتظر القدرة على الصيام أو وجود رقبة. ولا إطعام فيها لعدمه في الآية " ٣. ( الذخيرة : ١٢/٤١٧ )
٢ - هذا القول والذي قبله مرويان عن مالك رحمه الله تعالى، فعن ابن رشد قال: قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قيل له: "أرأيت قوله تعالى: ﴿فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة﴾ ليس في هذا ذكر دية؟ فقال: إنما كان ذلك في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة يكون فيهم رجل مؤمن لم يهاجر وأقام معهم، فيصيبه المسلمون خطأ فليس عليهم دية لأنه يقول عز وجل: ﴿والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا﴾. وأما قوله تعالى: ﴿وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق﴾ فإنما ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أنه إن أصيب مسلم كان بين أظهرهم خطأ لم يهاجر، فإن ديته على المسلمين يؤدوها إلى قومه الذين كان بين أظهرهم الكفار..." ن. البيان والتحصيل: ٤/١٦٢. ١٦١..
٣ - الجواهر الثمينة: ٣/٢٨١..
٤٢٠- إنها نزلت بعد قوله تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ﴾ فشكى ابن أم مكثوم١ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعجزه عن الجهاد بسبب كونه أعمى، فنزل قوله تعالى :﴿ غير أولي الضرر ﴾٢. وهذا استثناء وقد تأخر عن أصل الكلام. ( شرح التنقيح : ٢٤٣- ٢٤٤. والاستغناء : ٢٥٧ )
٤٢١- يجوز الرفع على الصفة " للقاعدين " ٣، والنصب على الاستثناء والجر على بصفة المؤمنين.
قلت : هذه الآية في سورة النساء " قرأها ابن كثير٤ وأبو عمرو٥ وحمزة٦ بالرفع في الراء من " غير "، ونافع٧ والكسائي٨ بالنصب، والأعمش٩ بالخفض " ١٠.
قال أبو الحسن١١ : " ويقوي النصب على الاستثناء أنها نزلت استثناء بعدما قبلها. قال : ويحتمل أن يتحصل الاستثناء بالصفة ".
قال الزجاج : " ويجوز أيضا قراءة الرفع أن يكون استثناء كأنه قال : " لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولوا الضرر، فإنهم يساوون المجاهدين " ١٢.
قلت : وهذا بعيد جدا لأن المضرور غايته أن يعذر، أما أنه يسوى بمن حصل المصلحة فبعيد من قواعد الشرع، وكيف يستوي في الشرع المجاهد والعاجز، إذ سوى النساء مع علي بن أبي طالب والمقداد بن الأسود١٣ وعبد الله بن الزبير ؟ كلا والله، بل المتصدق أفضل من العاجز عن الصدقة، والمشتغل بالعلم ومحصله أفضل من العاجز عنه، وكذلك جميع قواعد البر، وهو الذي تقتضيه قواعد الشرع والنصوص كقوله صلى الله عليه وسلم في الأغنياء لما شكا إليه الفقراء عجزهم عن الصدقة : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ١٤ ولم يقل أنتم سواء. واستقراء الشريعة يحصل القطع في ذلك. قال : " ويجوز في قراءة النصب أن يكون على الحال " ١٥.
قال الثمانيني١٦ في " شرح اللمع " : يجوز أن يكون حالا من الضمير في " المؤمنين " فهو في صلة الألف واللام وناصب " المؤمنين "، فلا يجوز تقديمه على المؤمنين، لأن الصلة لا تتقدم على الموصول. ويجوز أن يكون حالا من الضمير في " القاعدين "، فهو صلة لام " القاعدين "، وهو الناصب له، ويكون معنى الكلام : " لا يستوي الذين قعدوا غير مضارين ". فعلى هذا يجوز أن يتقدم على " المؤمنين " ولا يتقدم على " القاعدين ".
قلت : وروي في الأحاديث : لما نزلت الآية، وهو قوله تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون... ﴾ جاء ابن أم مكثوم حين سمعها، فقال : يا رسول الله : " هل من رخصة فإني ضرير البصر ؟ " فنزل عند ذلك :﴿ غير أولي الضرر ﴾. وهذا يقتضي أن إنزالها متأخر وأن الاستثناء يجوز تأخيره بالزمان. ( الاستغناء : ٢٥٦ )
٢ - روى البخاري عن البراء قال: لما نزلت: ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين﴾ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع فلانا، فجاء ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال اكتب: ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله﴾ وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكثوم، فقال: يا رسول الله، أنا ضرير، فنزلت مكانها: ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر﴾ ن: لباب النقول: للسيوطي: ٦٧..
٣ - جاء في إعراب القرآن المنسوب للزجاج: "فمن رفع (غيرا) جعله تابعا ل (القاعدين)". ص: ١/١٦٦..
٤ - هو عبد الله بن كثير الداري المكي، أبو معبد، أحد القراء السبعة (ت: ١٢٠ هج) ن: وفيات الأعيان: ١/٢٥٠. الأعلام: ٤/١١٥..
٥ - هو زيان بن عمار التميمي المازني البصري، أبو عمرو بن العلاء، أحد القراء السبعة (ت: ١٥٤ هج) ن: الأعلام: ٣/٤١. فوات الوفيات: ١/١٦٤..
٦ - هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل التيمي، أحد القراء السبعة (ت: ١٥٦ هج) ن: تهذيب التهذيب: ٣/٢٧. ميزان الاعتدال: ١/٢٨٤..
٧ - هو نافع بن عبد الرحمان بن أبي دغيم الليثي بالولاء، المدني، أحد القراء السبعة (ت: ١٦٩ هج) ن: غاية النهاية: ٢/٣٣٠. وفيات الأعيان: ٢/١٥١..
٨ - هو أبو الحسن علي بن حمزة الكوفي المعروف بالكسائي، أحد القراء السبعة. (ت: ١٨٩هج). ن: طبقات القراء: ١/٥٣٥. بغية الرعاة: ٢/١٠٢..
٩ - هو سليمان بن مهران الأسدي بالولاء، الملقب بالأعمش، تابعي مشهور (ت: ١٤٠ هج). ن: الأعلام: ٣/١٣٥..
١٠ - قال مكي: "قرأ الكسائي ونافع وابن عامر بالنصب، على الاستثناء من "القاعدين"... وقال: وقرأ الباقون بالرفع على أن "غير" صفة ل "القاعدين". ن: الكشف عن وجوه القراءات السبع: ١/٣٩٦..
١١ - هو علي بن عيسى بن علي بن عبد الله، أبو الحسن الرماني، معتزلي مفسر (ت: ٣٨٤ هج). من مصنفاته: "شرح سيبويه" و"معاني الحروف". ن: "مفتاح السعادة: ١/١٤٢..
١٢ - ن: معاني القرآن: ٢/٩٢- ٩٣..
١٣ - هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة، المعروف بالمقداد بن الأسود، ويقال له أيضا: المقداد الكندي، من السابقين في الإسلام، شهد أحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ن: سيرة بن هشام: ١/٣٢٥ وأسد الغابة: ٤/٤٧٥ وما بعدها..
١٤ - خرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته..
١٥ - ن: معاني القرآن: ٢/٩٣..
١٦ - هو عمر بن ثابت الثمانين، أبو القاسم، ضرير، (ت: ٤٤٢ هج). صاحب كتاب: "شرح اللمع". ن: وفيات الأعيان: ١/٣٧٩..
فائدة : نقل ابن عطية في تفسيره : " ضرب في الأرض : إذا سافر للتجارة، وضرب الأرض : إذا سافر للحج أو الغزو، فكأن الأول لما كان طالبا لمتاع الدنيا كان ملتبسا بها وفيها، والثاني عابرها إلى الآخرة " ٢.
٤٢٤- خير الله تعالى المسافر بين ركعتين أو أربع ركعات، والركعتان واجبتان جزما، والزائد ليس بواجب لأنه لا يجوز تركه، وما يجوز تركه لا يكون واجبا، وأما الركعتان فلا يجوز تركهما إجماعا. فقد وقع التخيير بين الواجب وما ليس بواجب، وهذا خلاف المتعارف المعهود من القاعدة٣، وسببه أن التخيير وقع بين جزء وكل، لا بين أشياء متباينة. ( الفروق : ٢/١٠ )
٢ - لم أعثر على هذا النص في تفسير ابن عطية لهذه الآية وإنما قال: "(ضربتم) معناه: سافرتم". ثم شرع في تفصيل الأحكام المتعلقة بقصر الصلاة. ن: المحرر الوجيز: ٢/١٠٢ وما بعدها. وقد ذكر تفسيرا آخر للضرب في الأرض: ن: المحرر الوجيز: ٥/٣٩١..
٣ يقصد "الفرق الثامن والأربعون بين قاعدة التخيير الذي يقتضي التسوية وبين قاعدة التخيير الذي لا يقتضي التسوية بين الأشياء المخير بينها" ن: الفروق: ٢/٨..
٤٢٦- قال ابن الماجشون٤ : لا يقيمها ( أي صلاة الخوف ) الحضري لأنه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أخر الصلاة، ولم يصل صلاة الخوف، وكان في غزواته يصليها. ( نفسه : ٢/٣٣٧ )
جوابه : أن آية الخوف إنما نزلت بعد ذلك، وضابطها : أن الخوف المبيح إذا حصل قسم الإمام الناس طائفتين، إحداهما تحرس والأخرى يصلي بها شطر الصلاة إن كانت رباعية في الحضر، أو ثنائية في السفر وفي الصبح، والثلاثية في المغرب.
٢ - يقصد صلاة الخوف..
٣ - كذا في المصدر المحقق ولعل الصواب: "جواز صلاة طائفتين.."..
٤ - هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله التيمي بالولاء، أبو مروان، المعروف بابن الماجشون (ت: ٢١٢ هج) ن: ميزان الاعتدال: ٤/١٥٠. الأعلام: ٤/١٦٠..
٤٢٩- استثناء مفرغ لتوسطه بين الفعل والمفعول.
وفيه أسئلة، وهي إن من قصد إضلال غيره كيف يوصف بأنه أضل نفسه مع أنه لم يقصد لذلك ؟ وما وجه المجاز في ذلك ؟ وما المستثنى منه ؟
الجواب : إن المعنى في هذه الآية مبني على قاعدة وهي أن العرب تنفي الشيء لنفي ثمرته، وإن كان ثابتا في نفسه وتثبته لثبوت ثمرته، وإن كان منفيا في نفسه كما تقرر في علم البيان.
وهاهنا قصد الكفار إضلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تحصل ثمرته، فنفي لنفي ثمرته، لأن ثمرته أن يضل صلى الله عليه وسلم وهو لم يضل، فنفي عنه أن يكون صدر منهم ضلال في حقه صلى الله عليه وسلم، وحصلت ثمرة الضلال في حقهم، وهو الوقوع في المهالك من أمر الدنيا وأمر الآخرة، فجعلوا ضالين لأنفسهم بنفس الفعل الذي فعلوه مع غيرهم، لأن وبال ذلك الفعل بعينه إنما عاد عليهم.
فهذا وجه هذا السلب وهذا الثبوت بناء على هذه القاعدة العربية، وهذا وجه المجاز في هذا السلب وهذا الثبوت.
فإن قلت : ما العلاقة في هذا المجاز ؟
قلت : العلاقة فيه المشابهة، وهو من مجاز الاستعارة، لأن الحقيقة إذا وجدت بدون ثمرتها أشبهت الحقيقة المعدومة، لأن الحقيقة المعدومة لا تثبت ثمرتها فتشابها في عدم ثبوت الثمرة، فكان المجاز مستعارا. وكذلك إذا ثبتت الثمرة أشبهت هذه الحالة حالة ثبوت الحقيقة، فإن حال ثبوت الحقيقة بكون ثمرتها ولوازمها متحققة، فحصلت المشابهة، فكان المجاز مستعارا.
وأما المستثنى منه فهم أفراد الناس، وتقديره : " ما يضلون أحدا إلا أنفسهم ". فالمستثنى منه أفراد العقلاء. ( الاستغناء : ١٨١ إلى ١٨٣ )
* قوله تعالى :﴿ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ﴾ :
٤٣٠- عادة العرب في سياق الامتنان تأخير الأفضل وتقديم المفضول على الأفضل، فتكون موهبته صلى الله عليه وسلم من العلم أفضل من موهبته من الإنزال المتضمن للنبوة والرسالة، وهذا شرف عظيم شب فيه عمرو عن الطوق. ( الذخيرة : ١/٤٢ )
والجواب : إن النجوى هو كلام السر، وقيل : النجوى كلام الجماعة المنفردة كان سرا أم لا.
وأما مقابلة الجمع بالمفرد، فالذي رأيته للمفسرين والنحاة في هذا وأمثاله أنه مصدر، والمصدر يتناول القليل والكثير، فلذلك عبر به عن الجمع.
وكذلك يفرق صاحب الكشاف وغيره بين قوله تعالى :﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ﴾ لم أفرد السمع وجمع الأبصار ؟ فيقول : لأنه مصدر يصلح للكثير أو يتناول الكثير بخلاف البصر٢. وهو كثير في القرآن.
وعندي أن عليه إشكالين :
أحدهما : أن المصدر نحو " قياما " إنما وضع للقدر المشترك بين أفراد القيام واللفظ الموضوع للمشترك من أفراد، وأنواع لا يتناول خصوصيات تلك الأفراد وتلك الأنواع، وكذلك أسماء الأجناس موضوعة للمشترك دون الخصوصيات. ومن ادعى في مصدر منكر أنه من صيغ العموم فقد غلط في اللغة. وإذا استوى القسمان في الدلالة على المشترك وعدم الدلالة على الخصوصيات سقط الفرق الذي يشيرون إليه.
وثانيهما : أن اللفظ الدال على المشترك إذا استعمل في أحد أنواعه وأفراده من حيث هو ذلك الخاص كان مجازا لا حقيقة، فلا يحصل المقصود من التعبير عن الجمع به بمقتضى اللغة.
والسؤال إنما ورد على ما تدل اللغة عليه وما تقتضيه حقيقة، وإذا فتحنا باب المجاز جاز في جميع الأسماء كانت مصادر أم لا، ويبقى السؤال على حاله، بل الصواب في هذه الآية أنها على قاعدة التعبير عن اسم الفاعل بالمصدر نحو : " رجل عدم وصوم ". أي : " عادل وصائم ". ويصير معنى الآية : " لا خير في المتناجين إلا من أمر بصدقة ". أو نقول : إن اسم الجنس إذا أضيف عم أفراده، كقوله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ٣، يعم جميع أفراد الماء وأفراد الميتة. و " نجواهم " هاهنا أضيف إلى الضمير، فيكون عاما، فما قوبل الجمع إلا بالجمع، فإن العموم جمع متناه.
ويتصل الاستثناء بالحذف من الأول من المستثنى، إما أن نقول : " لا خير في ذي كثير من نجواهم إلا من أمر ". أو نقول : " لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر ". فنستثني نجوى من نجوى، أو من يعقل ممن يعقل فيصير الاستثناء متصلا، والمعنى عليه لا على الانقطاع. وأما تعيين كثير النجوى دون التعميم فلأنه لو عمم لم يقف الاستثناء عند غاية، فضلا عن الثلاثة المذكورة، لأن من جملة النجوى الكلام في التوحيد وآيات الله تعالى ومواعظه وغير ذلك مما هو تلاوة مطلقة وإخبار من غير أمر.
والمستثنى إنما هو ما كان أمرا خاصا، فيخرج الخبر والنهي والاستفهام وجميع ما هو مأمور به من ذلك، فإذا قال : " كثير " أخذ طائفة من النجوى فقط، وترك بقيتها، فحسن أن يستثنى ما ذكرته في الآية. ( الاستغناء : ٣٢١ إلى ٣٢٣ )
٤٣٢- في الصحاح : " الصلح هو اسم لمصدر يذكر ويؤنث. والمصدر : الصلاح ضد الفساد والمصالحة أيضا. وقد اصطلحا وتصالحا وإصلاحا- مشدد الصاد- وصلح الشيء يصلح صلوحا مثل : دخل يدخل دخولا. وصلح- بضم اللام- وصلاح مثل فطام، اسم مكة. والصلاح والإصلاح ضد الفساد والإفساد٤. وأصله في الشرع قوله تعالى :﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾. ( شرح التنقيح : ٣٢٤ )
٢ - ن: عبارة الزمخشري في الكشاف: ١/١٦٤ أو في ص: ١٠ من هذا التفسير المجموع..
٣ - أخرجه أبو داود في سننه كتاب: الطهارة، الباب: ٤١. ومالك في الموطأ. ح: ١٢. وأحمد في مسنده: ٢/٢٣٧..
٤ - ن: الصحاح للجوهري: ١/٣٨٣- ٣٨٤ بتصرف..
٤٣٤- الإجماع عند الكافة حجة خلافا للنظام١ والشيعة والخوارج، لقوله تعالى :﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ﴾. وثبوت الوعيد على المخالفة يدل على وجوب المتابعة. ( الاستغناء : ٢٦٧ )
٤٣٥- المراد الكل من حيث هو كل، لأن المعصوم مجموع الأمة لا أفرادها.
تعالى :﴿ ثم نخرجكم طفلا ﴾٢ أي : أطفالا.
والشيطان : من شاط : إذا هلك، أو شطن : إذا بعد. وتقول العرب : بئر شطون : إذا بعد قعرها. وهو بعيد المذهب في الشر.
وأما " المريد والمارد والأمرد والمرداء : " كلها من الملوسة وعدم ما يتمسك به ".
فإن قلت : فالإناث والشيطان من أي شيء استثنوا ؟ هل هو من جنسهم أو من غير جنسهم ؟ وكيف تصحيح هذا الاستثناء ؟
قلت : يتعين أن يكون الموصوف في المستثنى محذوفا، وأقيمت الصفة مقامه، ويكون المستثنى من الآلهة. ويكون تقدير الكلام في المعنى : " ما يدعون آلهة إلا آلهة إناثا، أي عجزة. ويتركون الإله القادر على كل شيء الذي تجب له العبادة ولا يستحقها غيره "، فنفى عنهم في دعائهم كل إله إلا الإناث والشيطان. فهذا تحرير هذا الاستثناء. ( ٤٣٥- الذخيرة : ٣/ ١٧٧ )
٢ - سورة الحج: ٥..
ومحبة الله تعالى في الآية عبارة عن إذنه، عبر بها عنه مجازا، لأن من أحب فعل الشيء وماله طبعه إليه أذن فيه، فهو من مجاز الملازمة.
والسوء هاهنا هو الإخبار بما وقع للضيف ونحوه. قال المفسرون : " هو الرجل يتضيف بالقوم فلا يضيفونه، فيقول : لم يضيفوني. فهذا هو المأذون فيه. " وأما الكذب والافتراء والتسلط على الأعراض مطلقا فحرام، وإنما أذن في مثل هذا لما فيه من الزجر عن ترك مكارم الأخلاق مع القدرة عليها، وعموم الحاجة إلى الضيافة، وكذلك ما في مسلم وغيره : " الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة " ١. ( نفسه : ٣٢٣- ٣٢٤ )
فمن أين للنصارى أو اليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى عليه السلام دون شبهه، بل إنما يحسن الظن والتخمين كما قال الله تعالى :﴿ وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ﴾.
- قال يوحنا : " كان يوسع عليه السلام مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهود في طلبه فخرج إليهم عليه السلام، وقال لهم : من تريدون ؟ قالوا : يسوع. وقد خفي شخصه عنهم. ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته " ٣. وذلك دليل الشبه ورفع عيسى عليه السلام، لا سيما قد حكى بعض النصارى أن المسيح عليه السلام قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة.
- قال متى : " بينما التلاميذ يأكلون طعاما مع يسوع عليه السلام قال : كلكم تشكُّون في هذه الليلة لأنه مكتوب أن أضرب الراعي فتفترق الغنم. فقال بطرس : لو شك جميعهم لم أشك أنا، فقال يسوع : الحق أقول لك : إنك في هذه الليلة تنكرني قبل أن يصيح الديك " ٤.
فقد شهد عليهم بالشك، بل على خيارهم بطرس فإنه خليفته عليهم، فقد انخرمت الثقة بأقوالهم وجزمهم بعدم إلقاء الشبه على غيره، وصح قوله تعالى :﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا ﴾.
- ذكر لوقا " أن يهوذا الدال عليه لما بصر ما فعل به ندم ورد الدراهم٥ جميعا، وقال : أخطأت إذ بعت دما صالحا، فقالوا له : ما علينا أنت بريء، فألقى الدراهم في البيت إلى موضع خنق فيه نفسه " ٦.
فنقول : هذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه بل فيها اختلافات منها :
أ- أنه يحتمل أن يهوذا كذب لهم في قوله : هو هذا. ويدل على وقوع ذلك ويقويه ظهور الندم بعد هذا، وقول المسيح له : يا صديق لم أقبلت ؟ ولو كان مصرا على الفساد لما سماه صديقا، ولأن الإنجيل شهد أن المسيح عليه السلام شهد للتلاميذ الاثني عشر بالسعادة، وشهادته حق، والسعيد لا يتم منه هذا الفساد العظيم إذا شرع فيه.
ويهوذا أحد الاثني عشر فيلزم إما أن يكون يهوذا ما دل، أو كون المسيح عليه السلام ما نطق بالصدق، أو أن كتابكم محرف. اختاروا واحدة من هذه الثلاثة.
ب- ومنها أنه يحتمل أن المسيح عليه السلام ذهب في الجماعة الذين أطلقهم الأعوان وكان المتكلم معهم غيره ممن يريد أن يبيع من الله تعالى وقاية للمسيح عليه السلام، هذا ليس ببعيد في إتباع الأنبياء عليهم السلام، لا سيما إتباع الإله على زعمهم.
ج- ومنها أن الأعوان اتخذوا عليه رشوة وأطلقوه كما أخذوا رداء الشاب المتقدم ذكره وأطلقوه. وإذا نقلتم أن يهوذا التلميذ مع جلالته قبل الرشوة على أن يعين على أخذه، فقبول الأعوان الرشوة في إطلاقه أقرب.
د- ومنها أنه يحتمل أن الله صور لهم شيطانا أو غيره بصورته فصلبوه، ورفع المسيح عليه السلام. ويدل على ذلك أنهم سألوه فسكت٧، وفي تلك السكتة تغيبت تلك الصورة، وهذا ممكن والله على كل شيء قدير.
وأنتم ليس عندكم نصوص قاطعة بصلبه لما بينا فيها من الاختلاف، واليهود أيضا ليسوا قاطعين بذلك لأنهم إنما اعتمدوا على قول يهوذا٨. فأي ضرورة تدعوكم إلى إثبات أنواع الإهانة والعذاب في حق رب الأرباب على زعمكم أيها الدواب، الذي يفضي من ضعف عقولهم العجب العجاب :
عجبي للمسيح بين النصارى*** وإلى أي والد نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا*** إنهم بعد قتله صلبوه
وإذا كان ما يقولون حقا*** وصحيحا فأين كان أبوه
حين خلى ابنه رهين الأعادي*** أتراه أرضوه أم أغضبوه
فلئن كان راضيا أذاهم*** فاحمدوه لأنهم عذبوه
ولئن كان ساخطا فاتركوه*** واعبدوهم لأنهم غلبوه
وهذه الأبيات برهان قاطع على النصارى، لا يحتاج معها إلى شيء آخر. فلقد أصبحوا هزءة للناظر ومصنعة للمناظر، ولله سر في إبعادهم عن مقام الكرامة، وتخصيصهم تخصيص السخط والندامة لما طبعوا عليه من الجهالة والبلاهة. ( الأجوبة الفاخرة : ١٩٤ إلى ١٩٩ )
٢ - هذا الكلام رد على زعم النصارى الذين قالوا: "القول بإلقاء الشبه على غير عيسى عليه السلام يفضي إلى السفسطة والدخول في الجهالات وما لا يليق بالعقلاء" ن: الأجوبة الفاخرة: ١٩٠..
٣ - يوحنا: ٤/٨-١٨..
٤ - متى: ٢٦/٣١-٣٥..
٥ - قال القرافي: "إن في الإنجيل لمتى أن يهوذا دل على عيسى بثلاثين درهما دفعها إليه اليهود". ن: إنجيل متى: ٢٦/١٦..
٦ - متى: ٣/٥-٢٧..
٧ - ورد في متى: "فقام رئيس الكهنة وقال له: أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟ وأما يسوع فكان ساكتا..." متى: ٢٦/٦٠-٦٢..
٨ - نشر إلى أن يهوذا المتحدث عنه في هذه النصوص هو رابع أبناء يعقوب من لينة وبه تسمت المملكة الشمالية، وكانت لها السلطة والزعامة- وظلمت مدة من الزمان حتى قضي عليها. ن: قاموس الكتاب المقدس: ١٠٨٥- ١٠٨٧..
فمن أين للنصارى أو اليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى عليه السلام دون شبهه، بل إنما يحسن الظن والتخمين كما قال الله تعالى :﴿ وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ﴾.
- قال يوحنا :" كان يوسع عليه السلام مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهود في طلبه فخرج إليهم عليه السلام، وقال لهم : من تريدون ؟ قالوا : يسوع. وقد خفي شخصه عنهم. ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته " ٣. وذلك دليل الشبه ورفع عيسى عليه السلام، لا سيما قد حكى بعض النصارى أن المسيح عليه السلام قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة.
- قال متى :" بينما التلاميذ يأكلون طعاما مع يسوع عليه السلام قال : كلكم تشكُّون في هذه الليلة لأنه مكتوب أن أضرب الراعي فتفترق الغنم. فقال بطرس : لو شك جميعهم لم أشك أنا، فقال يسوع : الحق أقول لك : إنك في هذه الليلة تنكرني قبل أن يصيح الديك " ٤.
فقد شهد عليهم بالشك، بل على خيارهم بطرس فإنه خليفته عليهم، فقد انخرمت الثقة بأقوالهم وجزمهم بعدم إلقاء الشبه على غيره، وصح قوله تعالى :﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا ﴾.
- ذكر لوقا " أن يهوذا الدال عليه لما بصر ما فعل به ندم ورد الدراهم٥ جميعا، وقال : أخطأت إذ بعت دما صالحا، فقالوا له : ما علينا أنت بريء، فألقى الدراهم في البيت إلى موضع خنق فيه نفسه " ٦.
فنقول : هذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه بل فيها اختلافات منها :
أ- أنه يحتمل أن يهوذا كذب لهم في قوله : هو هذا. ويدل على وقوع ذلك ويقويه ظهور الندم بعد هذا، وقول المسيح له : يا صديق لم أقبلت ؟ ولو كان مصرا على الفساد لما سماه صديقا، ولأن الإنجيل شهد أن المسيح عليه السلام شهد للتلاميذ الاثني عشر بالسعادة، وشهادته حق، والسعيد لا يتم منه هذا الفساد العظيم إذا شرع فيه.
ويهوذا أحد الاثني عشر فيلزم إما أن يكون يهوذا ما دل، أو كون المسيح عليه السلام ما نطق بالصدق، أو أن كتابكم محرف. اختاروا واحدة من هذه الثلاثة.
ب- ومنها أنه يحتمل أن المسيح عليه السلام ذهب في الجماعة الذين أطلقهم الأعوان وكان المتكلم معهم غيره ممن يريد أن يبيع من الله تعالى وقاية للمسيح عليه السلام، هذا ليس ببعيد في إتباع الأنبياء عليهم السلام، لا سيما إتباع الإله على زعمهم.
ج- ومنها أن الأعوان اتخذوا عليه رشوة وأطلقوه كما أخذوا رداء الشاب المتقدم ذكره وأطلقوه. وإذا نقلتم أن يهوذا التلميذ مع جلالته قبل الرشوة على أن يعين على أخذه، فقبول الأعوان الرشوة في إطلاقه أقرب.
د- ومنها أنه يحتمل أن الله صور لهم شيطانا أو غيره بصورته فصلبوه، ورفع المسيح عليه السلام. ويدل على ذلك أنهم سألوه فسكت٧، وفي تلك السكتة تغيبت تلك الصورة، وهذا ممكن والله على كل شيء قدير.
وأنتم ليس عندكم نصوص قاطعة بصلبه لما بينا فيها من الاختلاف، واليهود أيضا ليسوا قاطعين بذلك لأنهم إنما اعتمدوا على قول يهوذا٨. فأي ضرورة تدعوكم إلى إثبات أنواع الإهانة والعذاب في حق رب الأرباب على زعمكم أيها الدواب، الذي يفضي من ضعف عقولهم العجب العجاب :
عجبي للمسيح بين النصارى*** وإلى أي والد نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا*** إنهم بعد قتله صلبوه
وإذا كان ما يقولون حقا*** وصحيحا فأين كان أبوه
حين خلى ابنه رهين الأعادي*** أتراه أرضوه أم أغضبوه
فلئن كان راضيا أذاهم*** فاحمدوه لأنهم عذبوه
ولئن كان ساخطا فاتركوه*** واعبدوهم لأنهم غلبوه
وهذه الأبيات برهان قاطع على النصارى، لا يحتاج معها إلى شيء آخر. فلقد أصبحوا هزءة للناظر ومصنعة للمناظر، ولله سر في إبعادهم عن مقام الكرامة، وتخصيصهم تخصيص السخط والندامة لما طبعوا عليه من الجهالة والبلاهة. ( الأجوبة الفاخرة : ١٩٤ إلى ١٩٩ )
٢ - هذا الكلام رد على زعم النصارى الذين قالوا: "القول بإلقاء الشبه على غير عيسى عليه السلام يفضي إلى السفسطة والدخول في الجهالات وما لا يليق بالعقلاء" ن: الأجوبة الفاخرة: ١٩٠..
٣ - يوحنا: ٤/٨-١٨..
٤ - متى: ٢٦/٣١-٣٥..
٥ - قال القرافي: "إن في الإنجيل لمتى أن يهوذا دل على عيسى بثلاثين درهما دفعها إليه اليهود". ن: إنجيل متى: ٢٦/١٦..
٦ - متى: ٣/٥-٢٧..
٧ - ورد في متى: "فقام رئيس الكهنة وقال له: أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟ وأما يسوع فكان ساكتا..." متى: ٢٦/٦٠-٦٢..
٨ - نشر إلى أن يهوذا المتحدث عنه في هذه النصوص هو رابع أبناء يعقوب من لينة وبه تسمت المملكة الشمالية، وكانت لها السلطة والزعامة- وظلمت مدة من الزمان حتى قضي عليها. ن: قاموس الكتاب المقدس: ١٠٨٥- ١٠٨٧..
٤٤٦- في الآية سؤال : وهو أن يقال : ما المستثنى ؟ وما المستثنى منه ؟ فإنك لم تخرج عن بعض المرسلين حتى يتحقق لك الاستثناء، فيصعب الحال، بل أخذت جملة ما قبل إلا " مع حكم آخر فلم تخرج حكما من أحكام سابقة ولا أخرجت شيئا من المحكوم عليه، فكيف يتحقق معنى الاستثناء ؟
وجوابه أن تقول : المقصود بالاستثناء الأحوال الكائنة للمرسلين، فالأحوال هي المستثنى منها، وما بعد " إلا " هي الحالة المستثناة. والمقصود حصول حصر أحوالهم في هذه الحالة. فيكون التقدير في الآية : " وما أحد من أهل الكتاب إلا وهو في حالة الإيمان به قبل موته " وهو محصور في هذه الحالة دون نقيضها.
واختلف المفسرون في الضمير في " به " فقيل : " عائد على عيسى عليه السلام وقيل : على القرآن، أي : " لا يموت أحد إلا مؤمنا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم "، لأن كل أحد عند الموت يصير مؤمنا قهرا لمشاهدة الحق بالاحتضار من ملائكة قبض الروح، لكنه لما كان إيمانا غير اختياري لم يقبل من صاحبه.
وإن حملنا الضمير على عيسى عليه السلام، فيحتمل أيضا الإيمان عند الاحتضار، أي : يؤمن بعبوديته وعدم ربوبيته.
ويحتمل أن ينزل في آخر الزمان ويكذبهم، ويقتل أهل الأديان الباطلة، ولا يبقى إلا موحد كما جاءت الآثار فيؤمنوا به إيمانا معتدا به. وعلى هذا يكون عموم أهل الكتاب مختصا بمن يوحد ذلك اليوم. ( نفسه : ١٤٦ )
٤٤٧- فيه تفسيران :
أحدهما : أن كل كافر إذا عاين الملائكة عند قبض روحه ساعة الموت ظهر له٣ منهم الإنكار عليه، بسب ما كان عليه من الكفر فيقطع حينئذ بفساد ما كان عليه، ويؤمن بالحق على ما هو عليه، فإن الدار الآخرة لا يبقى فيها تشكك ولا ضلال، بل يموت الناس كلهم مؤمنين موحدين على قدم الصدق ومنهاج الحق، وكذلك يوم القيامة بعد الموت، لكنه إيمان لا ينفع ولا يعتد به، وإنما يقبل الإيمان من العبد حيث يكون متمكنا من الكفر، فإذا عدل عنه وآمن بالحق، كان إيمانه من كسبه وسعيه، فيؤجر عليه. أما إذا اضطر إليه فليس فيه أجر٤. فما من أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بنبوة عيسى عليه السلام، وعبوديته لله تعالى قبل موته، لكن قهرا لا ينفعه في الخلوص من النيران وغضب الديان٥.
ثانيهما : أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان عند ظهور المهدي بعد أن يفتح المسلمون قسطنطينية من الفرنج، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ولا يبقى على الأرض إلا المسلمون، ويستأصل اليهود بالقتل ويصرح بأنه عبد الله ونبيه٦، فتضطر النصارى إلى تصديقه حينئذ لإخباره لهم بذلك. وعلى التفسيرين ليس في دلالة على أن النصارى الآن على خير.
٥٩ :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾١٥٩. ( الأجوبة الفاخرة : ١٣١ إلى ١٣٣ )
٢ - "شرح سيبويه": ٢/٢٨٤، واللفظ الذي ورد في الأصل المطبوع هو: "تقديره: وإن أحد من أهل الكتاب، وما بعد "إلا" خبر محذوف"..
٣ - في الأصل المطبوع: "ظهر لهم منه...".
٤ - هذا ما قرره الله تعالى في الآية ١٨ من سورة النساء بقوله: ﴿وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما﴾..
٥ - عن شهب بن حوشب قال: "قال الحجاج: إني ما قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء، يعني هذه الآية، فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالوا: يا عدو الله، أتاك عيسى نبينا فكذبت به! فيقول: آمنت أنه عبد الله. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبينا فزعمت أنه هو الله وابن الله، فيقول: آمنت أنه عبد الله. فأهل الكتاب يؤمنون به، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان. فاستوى الحجاج جالسا، وقال: عن من نقلت هذا؟ فقلت: حدثني به محمد بن علي بن الحنفية، فأخذ ينكت الأرض بقضيب، ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية". وكذلك روي عن ابن عباس مثله. ن: جامع البيان: ٩/٣٨٠ وما بعدها. ومفاتيح الغيب: ١١/ ١٠٤..
٦ - روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا، والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتحون قسطنطينية. فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: أن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون. وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبنما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم- عليه السلام- فيؤمهم. فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء. فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته." صحيح مسلم، باب: في فتح قسطنطينية وخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم..
والحربي ليس بمسلم. ووافقنا الشافعي وابن حنبل رضي الله عنهم أجمعين، لأن الربا مفسدة في نفسه فيمتنع من الجميع، ولأنهم مخاطبون بفروع الشريعة لقوله تعالى :﴿ وحرم الربا ﴾٤ وعموم نصوص الكتاب والسنة يتناول الحربي. ( الفروق : ٣/٢٠٧ )
والحالة الثانية: ما إذا ظهر الربا بينهم.
ففي الحالة الأولى: رجح مالك والشافعي وابن حنبل معاملتهم على معاملة أهل الكفر.
وفي الحالة الثانية: قال اللخمي وغيره من أصحابنا: معاملة أهل الذمة أولى...." ن: الفروق: ٣/٢٣١-٢٣٢..
٢ - كذا في الأصل المطبوع، ولعل الصواب: الصرف. ن ترتيب الفروق: ٢/١٦٠. وجاء في اللسان: ٩/١٩٠: "الصرف: فضل الدرهم على الدرهم والدينار على الدينار لأن كل واحد منهما يصرف عن قيمة صاحبه.".
٣ - لم أعثر على هذا الحديث فيما اطلعت عليه من كتب الحديث ومعاجمها..
٤ - سورة البقرة: ٢٧٤..
والجواب من وجوه :
- أحدها : أن من المحال أن يكون المراد الروح والكلمة على ما تدعيه النصارى. وكيف يليق بأدنى العقلاء أن يصف عيسى عليه اللام بصفة وينادي بها على رؤوس الأشهاد، ويطبق بها الآفاق ثم يكفر من اعتقد تلك الصفة في عيسى عليه السلام، ويأمر بقتالهم وقتلهم، وسفك دمائهم وسبي ذراريهم، وسلب أموالهم، بل هو بالكفر أولى لأنه يعتقد ذلك مضافا إلى تكفير غيره والسعي في وجوه ضرره. وقد اتفقت الملل كلها، مؤمنها وكافرها، على أنه عليه السلام من أكمل الناس في الصفات البشرية خلقا وخلقا١ وعقلا ورأيا، فإنها أمور محسوسة، إنما النزاع في الرسالة البانية، فكيف يليق به عليه السلام أن يأتي بكلام هذا معناه، ثم يقاتل معتقده ويكفره، وكذا أصحابه رضي الله عنهم والفضلاء من الخلفاء من بعده، فهدا برهان قاطع على أن المراد على غير ما فهمه هذا القائل وغير ما تعتقده النصارى.
- ثانيهما : أن الروح اسم للريح الذي بين الخافقين، يقال لها ريح وروح، لغتان، وكذلك في الجمع : رياح وأرواح، واسم جبريل عليه السلام، وهو المسمى بروح القدس٢. والروح اسم للنفس المقومة للجسم الحيواني، والكلمة اسم للفظة المقيدة من الأصوات اسم للخبر من الكلام النفساني، ولذا يقال :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما***جعل اللسان على الفؤاد دليلا٣
والعالم مطبق على أن نفس الإنسان تحدثه بالخير والشر. وتطلق الكلمة على الحروف الدالة على اللفظة من الأصوات، ولهذا يقال : " هذه الكلمة خط حسن، ومكتوبة بالخبر ". وإذا كانت الروح والكلمة لهما معان عديدة، فعلى أيهما يحمل هذا اللفظ ؟ وحكم النصراني اللفظ على معتقده حكم بمجرد الهوى المحض.
وثالثها : وهو الجواب بحسب الاعتقاد لا بحسب الإلزام أن معنى الروح المذكورة في القرآن الكريم في حق عيسى عليه السلام هو الروح بمعنى النفس المقوم لبدن الإنسان. ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام من روحه أنه خلق روحا نفخها فيه، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله.
وروح كل حيوان هي روح الله تعالى، فإن الإضافة في لسان العرب تصدق حقيقة بأدنى الملابسة، كقوله أحد حاملي الخشبة الآخر : " طرفي مثل طرفك، وشل طرفك " يريد : طرف الخشبة. فجعله طرفا للحامل، ويقول : " طلع كوكب زيد "، إذا كان نجم عند طلوعه يسري بالليل. ونسبة الكوكب إليه نسبة المقارنة فقط. فكيف لا يضاف كل روح من الله تعالى وهو خالقها، ومدبرها في جميع أحوالها. وكذلك يقول بعض الفضلاء لما سئل عن هذه الآية فقال : نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام روحا من أرواحه، أي جميع أرواح الحيوان أرواحه، وأما تخصيص عيسى عليه السلام بالذكر فللتنبيه على شرف عيسى عليه السلام، وعلو منزلته بذكر الإضافة إليه كما قال تعالى :﴿ إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ﴾٤ و﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾٥ مع أن الجميع عبيده، وإنما التخصيص لبيان منزلة المخصص.
وأما الكلمة. فمعناها : أن الله تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
فما من موجود إلا وهو منسوب إلى كلمة " كن ". فلما أوجد الله تعالى عيسى عليه السلام قال له : " كن " في بطن أمه، فكان. وتخصيصه بذلك للشرف كما تقدم، فهذا معنى معقول متصور، فليس فيه شيء كما يعتقده النصارى، من أن صفة من صفات الله حلت في ناسوت عيسى عليه السلام، وكيف يمكن في العقل أن تفارق الصفة الموصوف، بل لو قيل لأحدنا : إن علمك أو حياتك انتقلت لزيد لأنكر ذلك كل عاقل، بل الذي يمكن أن يوجد في الغير مثل تلك الصفة. وأما أنها هي في نفسها تتحرك من محل إلى محل فمحال، لأن الحركات من صفات الأجسام والصفة ليست جسما، فإن كانت النصارى تعتقد أن الصفات أجسام والأجسام صفات، وأن أحكام المختلفات وإن تباينت شيء واحد، سقطت مكالمتهم، وذلك هو الظن بهم. بل يقطع بأنهم أبعد عن ذلك من موارد العقل، ومدارك النظر.
وبالجملة فهذه كلمات عربية في كتاب عربي، فمن كان يعرف لسان العب حق معرفته في إضافاته وتعريفاته وتخصيصاته وتعميماته، وإطلاقاته وتقييداته وسائر أنواع استعمالاته فليتحدث فيه ويستدل به، ومن ليس كذلك فليقلد أهله العلماء به، ويترك الخوض فيما لا يعنيه ولا يعرفه. ( الأجوبة الفاخرة : ٨١ إلى ٩٠ )
٢ - قال تعالى: ﴿تنزل الملائكة والروح فيها﴾ سورة القدر: ٤. وقال جل شأنه: ﴿قل نزله روح القدس من ربك بالحق﴾ سورة النحل: ١٠٢..
٣ - البيت للأخطل، وليس في ديوانه، وإنما ورد في "شرح المفصل" لابن يعيش: ١/٢١. نقلا عن معجم الشواهد العربية لعبد السلام هارون: ٢٧١..
٤ - سورة الأنفال: ٤١..
٥ - سورة الحجر: ٤٢..
٤٥٣- تقدم اشتقاقها١، وتلك الأقوال الثلاثة التي في مسماها هاهنا. وكان عمر رضي الله عنه يستشكلها كثيرا، وعنه في ذلك حكايات نقلها ابن عطية :
إحداها : روي عنه : ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( في شيء )٢ مراجعة ( إياه ) في الكلالة، ولوددت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى يبينها.
ثانيتها : كان يقول على المنبر : ثلاث٣ لو بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أحب إلي من الدنيا : الجد، والكلالة، والخلافة، وأبواب من الربا.
ثالثها : أنه كتب كتابا فيها ومكث يستخير الله تعالى فيه ويقول : اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه، فلما طعن دعا بالكتاب فمحي ولم يعلم ( أحد ) ما ( كان ) فيه.
رابعتها : أنه جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : لأقضين في الكلالة بقضاء تتحدث الناس في خدورها، فخرجت عليه حية من البيت وتفرقوا، فقال : لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه.
خامستها : أنه خطب الناس يوم جمعة فقال : والله ما أدع بعدي شيئا ( هو ) أهم ( إلي ) من ( أمر ) الكلالة، وقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فها حتى طعن في نحري وقل : تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء، فإن أعش فسأقضي فيها بقضية لا يختلف فيها اثنان ممن يقرأ القرآن.
وعن عقبة بن عامر : ما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة :
قال ابن عطية : فظاهر الكلام عمر أنها آية الصيف. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال : " ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف :" وإن كان رجل يورث كلالة. إلى آخر الآية " ٤. واستشكل عمر رضي الله عنه لها، فإنها بينة. غير أن اللفظ لا دلالة له على خصوص كونه اسما للميت أو المال أو الورثة، ولا على إخوة لأم أو أشقاء أو لأب، فلعله موضع الإشكال غير أنه لا يعرف أن المراد بالآية الأولى إخوة الأم، وبهذه إخوة الأب أو الشقائق.
* قوله تعالى :﴿ ليس له ولد وله أخت ﴾ : اشترط في توريثها عدم الولد، ولذلك قال ابن عباس : " يقدم العصبة عليها لظاهر الآية. فإن الله تعالى لم يجعل لها شيئا إلا عند عدم الولد ". وهذا الحديث٥ يبين أن مراد الله تعالى بالولد : الذكر.
* قوله تعالى :﴿ وله أخت فلها نصف ما ترك ﴾ : إنما كان لها النصف لأنها بنت أبيه، فالأخوات في الحقيقة بنات، غير أنهن أبعد مرتبة، فلا جرم قدم بنات الصلب عليهن وأجرين مجراهن عند عدمهن. ولما كان الأخ الذكر إذا انفرد له الكل كان لها النصف، لأن الأنثى نصف الذكر كما تقدم، وللأنثيين فأكثر الثلثان لأن الأنثى كالذكر، والذكر له الثلثان مع الأخت فجعل ذلك لهما. ولو بقيت البنت أو الأخت على النصف –حالة الاجتماع ولم تضار بأختها مع أن الابن لا يبقى على حاله عند الانفراد إذا كان معه أخته، ويضار بها- للزم ترجيح الأنثيين على الذكر، فكان المناسب أن يجعل الأنثيان مثل الذكر في أصل الفرض والمضارة، وسوي بين الأنثيين والزائد عليهما كما سوي بين الذكر والزائد عليه في حوز جميع المال، واستفيد الزائد من آية البنات، كما استفيد حكم البنتين من هذه الآية، فبقيت كل واحدة من الآيتين مبينة للأخرى. وقد تقدم بسطه في البنات.
* قوله تعالى :﴿ فإن كانتا اثنتين ﴾ :
اتفق النحاة على أن خبر المبتدإ لا يجوز أن يكون معلوما من الخبر. قال أبو علي : " يمتنع قولك : إن الذاهب جاريته صاحبها "، لأنه قد فهم من قولك : " جاريته " أنه صاحبها. وكذلك يفهم من قوله. ( الذخيرة : ١٣/٣٥ إلى ٣٨ )
٢ - الكلمات الموجودة بين قوسين أضفتها من المحرر الوجيز: ٢/١٤١- ١٤٢..
٣ - يبدو أنها أربعة وليس ثلاثة حسب ما أورده القرافي. وفي صحيح مسلم: "ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد والكلالة وباب من أبواب الربا" ن: صحيح مسلم: ٨/٢٤٥..
٤ - ن: المحرر الوجيز: ٢/١٤٢ بتصرف طفيف..
٥ - يقصد حديث عبد الله بن مسعود الذي سئل عن بنت وابنة فقال: أقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت. أخرجه البخاري في صحيحه: ٨/١٨٨.
وقد شرح الإمام القرافي هذا الحديث فقال: "إذا اجتمع بنت وبنت ابن وأخت فللبنت النصف لأنها نصف أخيها، وهي وبنت الابن ابنتان فلهما الثلثان، وهو أربعة أرباع، للبنت منها ثلاثة لأنها النصف، ولو كان مكان ابنة الابن أخوها كان له النصف الباقي فإذا كانت أنثى كان لها الربع من حظهما، لأنه إذا تبين أن البنتين للصلب لا يزيدان على الثلث فأولى إن كانت إحداهما بنت ابن. وإذا تعين لها الربع من حظهما فهو السدس تكملة للثلثين. فيلاحظ هاهنا أمور: أن البنتين لا يزيدان على الثلث، وان البنت لقربها جعل لها النصف، وأن السدس الصالح لبنت الابن هو ربع باعتبار الثلثين لا باعتبار أصل المال، وكان الأصل أن يكون لها الربع من أصل المال، لكن عدل عن ذلك ليلا ترجح هاتان على بنات الصلب. وللأخت ما بقي لأنها ذات فرض النصف، وتقوم مقام البنت عند عدمها فيكو للاثنتين منهن الثلثان. وهي تدلي بالبنوة لأنها بنت ابنه فنقدم لأنها من أرباب الفروض على العصبات فتأخذ ما بقي. لهذا السبب صارت الأخوات عصبة البنات. وهذا الحديث مخصص لقوله تعالى: ﴿ليس له ولد وله أخت﴾". ن: الذخيرة: ١٣/٣٨..