تفسير سورة النساء

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة النساء من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة النساء
مدنية وآياتها مائة وست وسبعون
روى البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة النساء بالمدينة، وكذا أخرج ابن المنذر عن قتادة وأخرج البخاري عنه.

﴿ يا أيها الناس ﴾ خطاب للمجودين عند النبي صلى الله عند النبي صلى الله عليه وسلم ويتبعهم الناس أجمعون ﴿ اتقوا ربكم ﴾ أي العقاب بأن تطيعوا ﴿ الذي خلقكم ﴾ في بدأ الأمر﴿ من نفس واحدة ﴾ يعني آدم عليه السلام ﴿ وخلق ﴾ عطف على خلقكم أو على محذوف تقديره خلقها وخلق ﴿ منها زوجها ﴾ يعني حواء بالمدّ، من ضلع من أضلاعها اليسرى، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" استوصوا بالنساء خيرا فإنها خلقت من ضلع آدم " ١ الحديث متفق عليه وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : خلقت حواء من قصوى أضلاعه، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : خلقت حواء من آدم وهو نائم فاستيقظ الحديث، وجملة خلقها وخلق منها زوجها تقرير لخلقكم من نفس واحدة ﴿ وبث منها ﴾ أي نشر آدم وحواء ﴿ رجالا كثيرا ونساء ﴾ كثيرة غيركم أيها المخاطبون، اكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها إذ الحكمة تقتضي أن تكون النساء أكثر من الرجال حتى أباح الله تعالى لرجل أربعا من النساء، وذكر كثيرا حملا على الجمع ورتب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على كمال القدرة والنعمة المقتضيين الخشية والطاعة، وفيه تمهيد للأمر بالتقوى في صلة الأرحام وأداء حقوق العباد ﴿ واتقوا الله ﴾ عطف على اتقوا ربكم كأنه قيل اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقا بديعا ولكونه مستجمعا لجميع صفات الكمال أو لكونه مستحقا بذاته للخشية والطاعة ﴿ الذي تساءلون به ﴾ قرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين والباقون بالتشديد على إدغام التاء في السين يعني يسأل به بعضكم بعضا ويقول أسألك بالله ﴿ والأرحام ﴾ بالنصب عطفا على الله تعالى يعني واتقوا الأرحام أن تقطعوها عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الرحم معلقة بالعرش : تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله " ٢ متفق عليه، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم :" خلق الله الخلق فلما فزع منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرحمن، فقال : مه، قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يا رب، قال : فذاك " ٣ متفق عليه، وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس الواصل المكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " ٤ رواه البخاري، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " ٥ متفق عليه، وعن أبي هريرة أن الرجل قال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلهم عنهم ويجهلون علي، فقال :" لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك " ٦ رواه مسلم. وقرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور وهذه الآية دليل للكوفيين على جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار فإن القراءة متواترة، والمعنى يتساءلون بالله وبالأرحام ويقول للاستعطاف بالله والرحم إفعل كذا ﴿ إن الله كان عليكم رقيبا ﴾ حافظا مطلقا فلا تغفلوا عنه.
١ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (٢٥٥٥)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: ﴿وتقطعوا أرحامكم﴾ (٤٨٣٠) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (٢٥٥٤)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: ليس الواصل بالمكافئ (٥٩٩١)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: من أحب البسط في الرزق (٢٠٦٧) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (٢٥٥٧)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم (٣٣٣١) وأخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: الوصية بالنساء (١٤٦٨)..
٦ أخرجه مسلم كتاب: البر والصلة والآداب، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (٢٥٥٨)..
قال مقاتل والكلبي : إن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ يتيم له فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ﴾الآية، فلما سمع العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحلّ داره " يعني جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ثبت الأجر وبقي الوزر " فقال : ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده رواه الثعلبي والواحدي وذكره البغوي. والخطاب للأولياء والأوصياء. واليتامى : جمع يتيم وهو صغير لم يكن له أب ولا جد مشتق من اليتم بمعنى الانفراد ومنه الدرة اليتيمة، قال البيضاوي : إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس صاحب جمع على يتائم ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمى كأسرى لأنه من باب ثم جمع على يتامى كأسرى وأسارى. والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يتم بعد الاحتلام ولا صمات يوم إلى الليل " ١ رواه أبو داود بإسناد حسن عن علي، فالحديث إما مبني على العرف أو بيان للشريعة يعني لا حكم اليتم بعد البلوغ ومعنى الآية آتوا أموالهم إذا بلغوا بالإجماع ولدلالة قوله تعالى :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾٢ فإنه لما منع المال من السفيه مع كونه عاقلا بالغا فلأن يمنع من الصغير أولى، فاليتيم في الآية إما مورد على الأصل أو على الاتساع بقرب عهدهم بالصغرى حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم ﴿ ولا تتبدلوا ﴾ أي لا تستبدلوا والتفعل بمعنى الاستفعال سائغ يقال تعجل بمعنى استعجل ﴿ الخبيث ﴾ ي مال اليتيم الذي هو عليكم حرام خبيث ﴿ بالطيب ﴾ أي الحلال من أموالكم، قال سعيد بن جبير والزهري والسدي كان أولياء اليتامى يأخذون الجيّد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الرديء، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها المهزولة ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم فنهوا عن ذلك، وقال مجاهد : معنى الآية لا تتعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الموعود من الله، وقيل : معناه لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها ودفعها إلى المالك ﴿ ولا تأكلوا أموالهم ﴾ أي اليتامى مضمومة ﴿ إلى أموالكم ﴾ وقيل إلى هاهنا بمعنى مع كذا روى ابن المنذر عن قتادة ﴿ إنه ﴾ أي ذلك الأكل ﴿ كان حوبا كبيرا ﴾ ذنبا عظيما كذا قال ابن عباس، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اجتنبوا السبع الموبقات " فذكر منها " أكل مال اليتيم " ٣ متفق عليه.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الوصايا، باب: ما جاء متى ينقطع اليتم (٢٨٧٠)..
٢ سورة النساء، الآية: ٥..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما﴾ (٢٧٦٦).
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (٨٩)..

﴿ وإن خفتم ﴾ أيها الأولياء ﴿ ألا تقسطوا ﴾ أي لا تعدلوا وتجوروا من قسط بمعنى جاز ومنه القاسطون والهمزة للسلب يعني خفتم أن تجوروا ﴿ في اليتامى ﴾ اللاتي في حجوركم إذا نكحتموهن ﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾ الأجنبيات غير تلك اليتامى ويطلق اليتامى على الذكور والإناث، روى البخاري في الصحيح عن الزهري قال : كان عروة بن الزبير يحدث أنه سأل عائشة عن هذه الآية، قالت : هي اليتيمة في حجر وليها فيرغب يعني الولي غير المحرم مثل ابن العم في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها يعني أدنى من مهر مثلها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن من النساء، قالت عائشة ثم استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ﴾ إلى قوله ﴿ وترغبون أن تنكحوهن ﴾١ فبين الله في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال أو مال رغبوا ولم يلحقوا بسنتها بإكمال الصداق وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة الجمال والمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء، قال فكما تتركونها حين ترغبون عنها ليس لكم أن تنكحوها إذا ترغبون فيها إلا أن تقسطوا لها في الأدنى من الصداق وتعطوها حقها. وقال البغوي : قال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام فيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخله غريب، وقال عكرمة في تفسير الآية وهي رواية عطاء عن ابن عباس أنه كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر فإذا صار معدما من مؤن نسائه مال إلى مال يتيم في حجره فأنفقه، فقيل لهم لا تزيدوا على أربع حتى يحوجكم إلى أخذ أموال اليتامى. وقيل : لما نزل الوعيد في أكل أموال اليتامى كانوا يتحرجون في أمواله ويترخصون في النساء ويتزوجون ما شاءوا وربما لا يعدلون فنزلت فقال الله تعالى :﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا ﴾ في حقوق اليتامى فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء فانكحوا مقدار ما يمكنكم القيام بحقوقهن أخرجه ابن حرير، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والسدي. وقيل : كانوا يتحرجون عن ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنا فقيل لهم إن خفتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما طاب لكم وهذا قول مجاهد، وإنما عبر عنهن بما ذهابا إلى الصفة لأن ما يجيء في صفات من يعقل فكأنه قيل الطيبات من النساء أو أجراهن مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن كما في ﴿ ما ملكت أيمانكم ﴾ قيل : معنى ما طاب لكم ما أدركت البلوغ يقال طابت التمرة أي أدركت وهذا أولى بتأويل رواه البخاري عن عائشة يعني لا تنكحوا اليتامى وانكحوا البالغات، لكن كلمة لكم يأبي عنه إذ كان المناسب حينئذ فانكحوا ما طاب من النساء، وقيل : معناه ما حل لكم من النساء لأن منهن المحرمات كاللاتي في آية التحريم وهذا أنسب بقول مجاهد يعني خافوا الزنا وانكحوا ما حل لكم، لكن على هذا التأويل يلزم أن تكون الآية مجملة والإجمال خلاف الأصل، فالأولى أن يقال معناه ما استطاب منهن أنفسكم ومالت أنفسكم إليهن وهذا أنسب بجميع التأويلات فالمعنى فوت حقوقهن فانكوا ما طاب لكم من النساء فإن الحامي حينئذ بحقوقهن ميلان أنفسكم إليهن سواء كانت يتيمة أو بالغة، وأيضا كون المنكوحة مرغوبة للنفس أمنح من وقوعه في الزنا، وأيضا يناسب أن يقال : لا تزيدوا على أربع بل اقتصروا على المرغوبات فإن المرغوبات قل وجودهن والله أعلم.
( مسألة ) ولهذا سن للخاطب أن ينظر إلى وجه المخطوبة وكفيها قبل النكاح إجماعا، وقال داود بجواز النظر إلى سائر جسدها سوى السوءتين، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " ٢ رواه أبو داود، وعن المغيرة بن شعبة قال : خطبت امرأة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل نظرت إليها ؟ قلت : لا، قال :" فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " ٣ رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي ﴿ مثنى وثلاث ورباع ﴾ معدولة عن أعداد مكررة وهي اثنتين اثنتين وثلاث ثلاث وأربع أربع، وهي غير منصرفة للعدل والصفة فإنها بنيت صفات بخلاف أصولها لم تبن لها، وقيل : لتكرير العدل فإنها معدولة عن لفظ اثنتين وعن معناها على اثنتين مرة بعد أخرى منصوبة على الحال من ما طاب مفعول فانكحوا منكرة عند البصريين، وقال الكوفيون : هي معرفة لامتناع دخول حرف التعريف عليها فهي منصوبة على البدلية من ما طاب.
( مسألة ) أجاز الروافض بهذه الآية تسعا من المنكوحات وكذا نقل عن النخعي وابن أبي ليلى لأجل العطف بالواو والتي هي للجمع، قالوا : معنى الآية فانكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا ومجموع ذلك تسع، وأجاز الخوارج ثماني عشرة نظرا إلى تكرار المعنى وكلا القولين باطلان. أما قول الخوارج فلأن مثنى وأخوتها معدول عن عدد مكررة لا تقف إلى حد بإزاء ما يقابله لا لمكرر مرتين فمن قال لجماعة خذوا من هذه الدراهم مثنى معناه ليأخذ كل رجل منكم منها درهمين وليس المعنى خذوا منها أربعة دراهم، ولو كان كذلك فلا يستقيم معنى فانكحوا مثنى وثلاثة ورباع إذ لا يتصور لجميع الناس نكاح امرأتين أو ثلاث أو أربع أو تسع أو ثمان عشرة، ولذا قال صاحب الكشاف : لو أفردت لم يكن معنى، يعني لو قيل فانكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا لم يستقم المعنى. وأما ما قالت الروافض : إن المراد بها إباحة تسع لكل رجل فلأنه في عرف البليغ لا يؤدي معنى التسع بلفظ اثنتين وثلاث وأربع كما لا يخفى بل المعنى أنه يجوز لكل أحد نكاح اثنتين وكذا لكل نكاح ثلاث وكذا يجوز لكل نكاح أربع، قال البيضاوي : لو ذكرت بأو لذهب تجويز الاختلاف في العدد وفيه أنه لو كان كذلك لذهب بالواو تجويز الاتفاق، والحق أنه لا تفاوت في فهم المقصود بين مثنى أو ثلث وبين مثنى وثلاث، إذ لا يلتفت في أحد الصورتين إلى اشتراط أن يكون جميع الأمة على نحوه واحد من هذه الأقسام المجوزة البتة أو على أنحاء مختلفة البتة، وإنما جيء بالواو لأنه أقرب لإفادة التوزيع عند مقابلة المجموع بالمجموع.
( مسألة ) لا يجوز أن يتزوج ما فوق الأربعة من النساء عند الأئمة الأربعة وجمهور المسلمين، وحكي عن بعض الناس إباحة أي عدد شاء بلا حصر لأن قوله تعالى ﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾ يفيد العموم ولفظ مثنى تعداد عرفي لا قيد كما يقال خذ من هذا البحر ما شئت قربة وقربتين وثلاثا، ولو سلمنا كونه قيدا فالمعنى إباحة نكاح ما طاب من النساء حال كونهن مثنى وثلاث ورباع وذا لا يدل على نفي الحكم عما زاد على الأربع إلا بمفهوم العدد ولا عبرة بالمفهوم ألا ترى أن قوله تعالى :﴿ جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ﴾٤ لا يدل على أنه تعالى لم يجعل من الملائكة رسولا ذا أجنحة زائدة على أربعة جناح، كيف وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبرائيل وله ستمائة جناح والأصل في النكاح الحل على العموم لقوله تعالى :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾٥ وقوله :﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ﴾٦ وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم تزوج تسعا والأصل عدم الخصوصية إلا بدليل. ولنا : أن الآية نزلت في قيس بن الحارث، قال البغوي : روى أن قيس بن الحارث كانت تحته ثماني نسوة فلما نزلت هذه الآية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" طلق أربعا وأمسك أربعا " قال : فجعلت أقول للمرأة التي لم تلد مني يا فلانة أدبري والتي قد ولدت أقبلي، فكان من النبي صلى الله عليه سلم بيانا للآية وهو أعلم بمراد الله تعالى، فظهر أن الأصل في النكاح الحرمة والتضييق كما ذكرنا في تفسير سورة البقرة في مسألة حرمة إتيان النساء في أدبارهن في تفسير قوله تعالى :﴿ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾٧ وما قيل : إن الأصل فيه الحل ممنوع وقوله تعالى :﴿ وأحلّ لكم ما وراء ذلكم ﴾ المراد به ما وراء المحرمات من الأمهات وغيرهن المذكورات وذا لا يدل على العدد عموما ولا خصوصا بل على حل كل واحدة منهن وكذا قوله :﴿ والمحصنات من المؤمنين ﴾ الآية، فإن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي انقسام الآحاد على ألآحاد، فظهر ان الآية ما سيقت إلا لبيان العدد المحلل لا لبيان نفس الحل لأنه عرف من غيرها قبل نزولها كتابا وسنة فكان ذكره هنا مقيدا بالعدد ليس إلا البيان قصر الحل عليه أو هي لبيان الحل المقيد بالعدد لا مطلقا، كيف وهو حال مما طاب فيكون قيدا في العامل وهو الإحلال المفهوم من فانكحوا، وأيضا عدم جواز ما فوق الأربع من النساء ثبت بحديث ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أمسك أربعا وفارق سائرهن " ٨ رواه الشافعي وأحمد والترمذي وابن ماجه، وحديث نوفل بن معاوية قال : أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" فارق واحدة وأمسك أربعا " فعمدت إلى أقدامهن صحبة عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها " رواه الشافعي والبغوي في شرح السنة، وعلى حصر الحل في أربع انعقد الإجماع وقول بعض الناس في مقابلة الإجماع باطل، ولم يذهب إلى التعميم أحد من أهل البدع أيضا فإنه حصر الخوارج في ثمان عشرة والروافض في تسع.
( مسألة ) إذا أسلم الرجل وتحته أكثر من أربع أو أختان أو أم وبنتها وأسلمن معه أوهن كتابيات فعند مالك والشافعي وأحمد ومحمد بن الحسن : أنه يختار من الأكثر أربعا من الأختين ونحوهما واحدة، وقال أبو حنيفة : إن كان تزوجهن بعقدة واحدة فرق بينه وبينهن وغن كان على التعاقب فنكاح من يحل سبقة جائز ونكاح من تأخر فوقع به الجمع أو الزيادة على الأربع باطل إلا في أم وبنتها إذا دخل بهما لحرمة المصاهرة وما ذكرنا من الأحاديث، وحديث الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال : قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان ؟ قال :" اختر أيتهما شئت " ٩ رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه حجة للجمهور على أبي حنيفة.
( مسألة ) لا يجوز للعبد أن يتزوج أكثر من امرأتين عند الثلاثة، وقال مالك وداود وربيعة يتزوج أربعا لشمول هذه الآية الأحرار والعبيد، قلنا : المخاطبون بهذه الآية الأحرار دون العبيد بدليل آخر الآية ﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ﴾ إذ لا ملك للعبيد وروى ابن الجوزي في التحقيق عن عمر رضي الله عنه " ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة حيضتين " وكذا روى البغوي في المعالم وزاد فإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرا أو نصفا، قال ابن الجوزي : قال الحاكم أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد لا ينكح أكثر من امرأتين رواه ابن أبي شيبة والبيهقي.
﴿ فإن خفتم ﴾ أي خشيتم أيها الذين تريدون النكاح ﴿ ألا تعدلوا ﴾ بين الأزواج المتعددة ﴿ فواحدة ﴾ أي فانكحوا واحدة وذروا الجمع، وقرأ أبو جعفر فواحدة بالرفع على أنه فاعل فعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف فتكفيكم واحدة أو واحدة ﴿ أو ما ملكت أيمانكم ﴾ يعني السراري، لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في المنكوحات ولا قسم لهن ولا حصة في عددهن.
( مسألة ) تعليق الاختصار على الواحدة أو التسري بخوف الجور يدل على أنه عند القدرة على أداء حقوق الزوجات والعدل بينهم الأفض
١ أخرجه البخاري في كتاب: الشركة، باب: شركة اليتيم وأهل الميراث (٢٤٩٤) وأخرجه مسلم في أوائل كتاب التفسير (٣٠١٨)..
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها (٢٠٨٣)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في النظر إلى المخطوبة (١٠٨٧) وأخرجه النسائي في كتاب: النكاح، باب: إباحة النظر قبل التزويج (٣٢٢٦) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها (١٨٦٥)..
٤ سورة فاطر، الآية: ١.
٥ سورة النساء، الآية: ٢٤..
٦ سورة المائدة، الآية: ٥.
٧ سورة البقرة، الآية: ٢٢٢..
٨ أخرجه الشافعي في الباب الثالث في الترغيب في التزويج وما جاء في الخطب وما يحرم نكاحه وغير ذلك (٤٣).
وأخرجه أبو داود في كتاب: الطلاق، باب: فيمن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان (٢٢٣٩)..

٩ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان (١١٢٩)..
﴿ وآتوا النساء صدقاتهن ﴾ أي مهورهن سمي صداقا وصدقة، قال الكلبي وجماعة : هذا خطاب للأولياء. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها فنهاهم عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية، كذا قال البغوي : إن ولي المرأة كان إذا زوجها فإن
كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا وإن كان زوجها غريبا حملوها إليه على بعير ولم يعطوها من مهرها غير ذلك، وقال الحضرمي : كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته ولا مهر بينهما فنهوا عن ذلك وأمروا بتسمية المهر في العقد ويسمى هذا النكاح شغارا.
( مسألة ) ونكاح الشغار باطل عند مالك وأحمد وكذا عند الشافعي إن قال في صلب العقد : إن بضع كل واحدة منهما صداق الأخرى، فإن لم يقل ذلك بل قال زوّجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك بغير صداق فقال زوجتك فالنكاح صحيح عند الشافعي أيضا، ولزم المهر فيهما خلافا لمالك وأحمد، وهذا الخلاف مبني على تفسير الشغار، وقال أبو حنيفة : العقدان جائزان ولزم مهر المثل فيهما على كلا الصورتين. ولو قال زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ولم يقل بغير صداق ولم يذكر الصداق ؟ فقيل : جاز النكاح اتفاقا ولا يكون شغارا، ولو زاد قوله على ألا يكون بضع ابنتي صداقا لابنتك فلم يقبل الآخر بل زوّجه ابنته ولم يجعلها صداقا كان النكاح الثاني صحيحا اتفاقا والأول صحيحا عند أبي حنيفة دون الأئمة الثلاثة. احتجوا على بطلان الشغار بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن نكاح الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق " ١ متفق عليه، ورواه أيضا أصحاب السنن الأربعة وفي رواية لمسلم " لا شغار في الإسلام " وجه الاحتجاج أن النفي رفع لوجوده الشرعي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه والفاسد في النكاح لا يفيد الملك اتفاقا، وبالمعقول بأن كل بضع يكون في الشغار صداقا ومنكوحا فيكون مشتركا بين الزوج ومستحق المهر وهو باطل، وأجاب الحنيفة بأن متعلق النهي والنفي مسمى الشغار والمأخوذ في مفهومه خلوه عن الصداق، وكون البضع صداقا ونحن قائلون بنفي هذه الماهية وما صدق عليه شرعا فلا نثبت النكاح كذلك بل نبطله فبقي نكاحا سمي فيه ما لا يصلح مهرا فينعقد موجبا لمهر المثل كالنكاح المسمى فيه خمرا أو خنزيرا فما هو متعلق النهي لم نثبته، وما أثبتناه لم يتعلق به النهي بل اقتضت العمومات صحته وقد أبطلنا كونه صداقا فبقي كله منكوحا، وقال جماعة : الآية خطاب للأزواج أمروا بإيتاء نسائهم الصدقات ﴿ نحلة ﴾ قال أبو عبيدة : يعني عطاء من طيب نفس، فهو منصوب على المصدرية من آتوا أو على الحال من فاعل آتوا ومن الصدقات أي ناحلين أو منحولة من الله عليكم أي من خالص ما أعطاه الله لكم لا من مال الغير أو مال الشبهة، وقال أبو عبيدة : لا يكون النحلة إلا مسمات معلومة وقال قوم : عطية وهبة يعني من الله تعالى وتفضلا منه عليهن فهو منصوب على أنه حال من الصدقات، ولما كان الصداق عطية من الله تعالى على النساء صارت فريضة وحقا لهن على الأزواج، ونظرا إلى هذا قال قتادة فريضة وقال ابن جريج فريضة مسماة، وقال الزجاج : تدينا من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به فعلى هذا مفعول له أو حال من الصدقات أي دينا من الله شرعه.
﴿ فإن طبن ﴾ أي الزوجات ﴿ لكم عن شيء منه ﴾ لما كان معنى قوله تعالى :﴿ وآتوا النساء صدقاتهن ﴾ آتوا كل واحدة منهن صداقها، أفرد الضمير الراجع إلى الصداق المفهوم من الكلام، يعني طابت كل واحدة عن شيء من صداقها ولك أن تجعل الضمير راجعا إلى صداق ذكر في ضمن الجمع وقيل الضمير للإيتاء ﴿ نفسا ﴾ تميز عن الإسناد في طبن يعني طابت أنفسهن، والمعنى فإن وهبن لكم من الصداق شيئا عن طيب أنفسهن فجعل الله سبحانه العمدة طيب النفس للمبالغة ونقل الفعل من النفوس إلى أصحابها وعداه بعن لتضمين معنى التجافي والتجاوز، وقال كلمة منه بعثا لهم على الاقتصاد على الموهوب وإن كان قليلا وترك الطمع في الكل أو الكثير ﴿ فكلوه ﴾ أي خذوه يعني ذلك الشيء الموهوب ﴿ هنيئا مريئا ﴾ أي حلالا بلا تبعة، الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء، وقيل ما يلتذ به الإنسان والمري محمود العاقبة التام في الهضم الذي لا يضر، وهما صفتان من هني يهني على وزن ضرب يضرب ومرى يمري على سمع يسمع أقيمتا مقام مصدريهما، أو وصف مصدر محذوف أو جعلتا حالا من الضمير، قرأ أبو جعفر هنيا مريا بتشديد الياء فيهما من غير همز وكذلك بريّ بريون وبريا وكهيئة والباقون يهمزونها.
١ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الشغار (٥١١٢). وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: تحريم نكاح الشغار وبطلانه (١٤١٥)..
﴿ ولا تؤتوا السفهاء ﴾ يعني نسائكم وصبيانكم، وسماهم سفهاء استخفافا لعقولهم كذا قال الضحاك ومجاهد والزهري والكلبي وغيرهم وهو أوفق بقوله تعالى :﴿ أمولكم التي جعل الله لكم قياما ﴾ أي ما تقومون بها وتعيشون، قال الضحاك : بها يقام الحج والجهاد وأعمال البر وبه فكاك الرقاب من النار، وقال ابن عباس : لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم وتربيتهم كما قال الله تعالى :﴿ وارزقوهم فيها ﴾ أي منها ﴿ واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ﴾ لينا تطيب به أنفسهم، وقال سعيد بن جبير وعكرمة أن هذه الآية في مال اليتيم يكون عندك يقول الله سبحانه لا تؤته إياه وأنفق عليه، وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنهم قوامها ومدبروها، وهذا التأويل يناسب سوابق هذه الآية ولواحقها فإن الخطاب فيما سبق ولحق للأولياء، وإنما قال ﴿ وارزقوهم فيها ﴾ ولم يقل منها ليدل على أن تجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فيأكلها الإنفاق.
﴿ وابتلوا اليتامى ﴾ يعني اختبروا عقولهم قبل البلوغ بأن تدفعوا إليهم قليلا من المال حتى يتصرف فيه ويستبين حاله، فإن كان رشيدا يظهر رشده أول الأمر. ففي هذه الآية جليل على جواز إذن الصبي العاقل في التجارة وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وقال الشافعي : لا يجوز إذن التجارة للصبي والمراد بالابتلاء أن يكل إليه مقدمات العقد والأول أظهر ﴿ حتى إذا بلغوا النكاح ﴾ أي صلاح النكاح والتولد وذلك في الغلام بالاحتلام والإحبال والإنزال إذا وطئ وفي الجارية بالحيض والاحتلام والحبل، فإن لم يوجد شيء من ذلك فيهما فباستكمال خمس عشر سنة غلاما كان أو جارية عند مالك وأحمد والشافعي وأبي يوسف ومحمد وهو رواية عن أبي حنيفة وعليه الفتوى، والمشهور عن أبي حنيفة باستكمال سبع عشرة في الجارية وثمان عشرة في الغلام وفي رواية تسع عشرة في الغلام، احتج الجمهور بحديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود " رواه البيهقي في الخلافيات وسنده ضعيف، وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه " عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ثم عرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشر سنة فأجازه " ١ وعند أحمد الإنبات أيضا علم على البلوغ، وقال الشافعي : هو علم في المشركين وفي المسلمين عنه قولان، وقال أبو حنيفة : لا عبرة به والحجة في الباب حديث عطية القرظي قال :" عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فيّ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا هل نبت بعد فنظروا فلم يجدوني أنبت فخلى عني وألحقني بالسبي " ٢ رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم ﴿ فإن آنستم ﴾ أي أبصرتم ﴿ منهم ﴾ بعد البلوغ ﴿ رشدا ﴾ أي هداية في التصرفات وصلاحا في المعاملات كذا قال أبو حنيفة ومالك وأحمد، وقال الشافعي : صلاحا في الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه، روى البيهقي من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ آنستم منهم رشدا ﴾ معناه منهم صلاحا في دينهم بعد الحلم وحفظا لأموالهم " وروى مثله الثوري في جامعه عن منصور عن مجاهد والبيهقي من طريق يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن الحسن، فالفاسق غير رشيد عند الشافعي رشيد عنده غيره ﴿ فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ من غير تأخير عن البلوغ قوله فادفعوا جزاء لإن الشرطية، وإذا بلغوا ظرف فيه معنى الشرط متعلق بإدفعوا وحتى للابتداء وما قبلها سبب لما بعدها ولا يجوز أن يكون حتى جارة متعلقا بالجملة السابقة لأن إذا لتضمنه معنى في لا يصلح أن يدخل عليه حتى الجارة، فالمعنى وابتلوا اليتامى حتى تدفعوا إليهم أموالهم إذا بلغوا النكاح وآنستم منهم رشدا فالابتلاء سبب للدفع والدفع مشروط بشرطين البلوغ وإيناس الرشد، ولذا قال الشافعي ومالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد لا يدفع إليهم أموالهم أبدا ما لم يؤنس منهم الرشد خلافا لأبي حنيفة حيث قال إذا بلغ خمسا وعشرين سنة يدفع إليه ماله لأن المنع باعتبار أثر الصبا وهو في أوائل البلوغ وينقطع بتطاول الزمان فلا يبقى المنع، ولهذا قال أبو حنيفة لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال عنه لأنه ليس بأثر الصبا، قال أبو حنيفة تنكير رشدا في الآية يفيد التقليل يعني نوعا من الرشد حتى لا ينتظر به تمام الرشد فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة فقد يصير جدا في هذا السن فلا يخلو عن نوع من الرشد في التصرفات وإن منع المال عنه بطريق التأديب ولا تأديب بعد هذا ظاهرا أو غالبا فلا فائدة في المنع فلزم الدفع.
مسألة : السفيه الذي لا يدفع إليه ماله لا ينفذ تصرفه القولي في ماله مطلقا من البيع والإعتاق وغير ذلك عند الشافعي وعند محمد ينفذ ما لا يحتمل الفسخ كالعتق ولا ينفذها يحتمله كالبيع إلا بإذن وليه وعند أبي يوسف وأكثر العلماء ينفذ تصرفاته ما لم يحجر عليه القاضي ويجوز للقاضي حجره فإذا حجره القاضي لا ينفذ بيعه ولا كل تصرف يؤثر فيه الهزل وينفذ عتقه، وعلى العبد أن يسعى في قيمته عند أبي يوسف ومحمد، وعن محمد أنه لا يجب السعاية، وعند أبي حنيفة لا يجوز للقاضي الحجر على العاقل البالغ لأجل السفه أو الدين أو الفسق لأن فيه إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من التبذير فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى. والحجة للشافعي ومالك وأحمد وغيرهم في حجر السفيه هذه الآية فإنها تدل على منع الأموال عن السفيه وهو لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده، وقال أبو حنيفة : منع المال مفيد لأن غالب السفه في الهبات والصدقات وذلك موقوف على اليد لا يتم الهبة إلا بالقبض. والحجة لأبي حنيفة حديث أنس أن رجلا كان في عقدته ضعف وكان يبايع وأن أهله أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله احجر عليه، فدعاه نبي الله فنهاه عن البيع، فقال : يا رسول الله لا أصبر عن البيع، فقال :" إذا بايعت فقل لا خلابة " ٣ رواه الترمذي وأحمد وقال الترمذي هذا حديث صحيح. وجه الاحتجاج أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحجر عليه ولم يمنع نهي تحريم، وأجيب عنه بأن ذلك الرجل لم يكن مبذرا قصدا بل كان يلحقه الخسران في المبالغة لضعف عقله فأمكن تداركه بقوله لا خلابة وكلامنا في سفيه مبذر مضيع باختياره، قال البغوي : والدليل على جواز الحجر اتفاق الصحابة عليه، روى الشافعي عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف القاضي عن هشام بن عروة عن أبيه :" أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم، فقال علي : لآتين عثمان فلأحجرن عليك، فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك، فقال الزبير : أنا شريكك، في بيعك، فأتى علي عثمان رضي الله عنهم وقال : احجر على هذا، فقال الزبير : أنا شريكه، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ". وروى أبو عبيد في كتاب الأموال بسنده عن ابن سيرين قال : قال عثمان لعلي : ألا تأخذ على يد ابن أخيك ؟ يعني عبد الله بن جعفر وتحجر عليه اشترى سبخة بستين ألف درهم ما تسرني أنها لي بنعلي، فذكر القصة كما مر " قال البغوي : فكان ذلك اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير لدفعه.
مسألة : إذا بلغ الصغير رشيدا ثم صار سفيها مبذرا جاز الحجر عليه عند من أجاز الحجر عليه فيما بلغ سفيها كما تدل عليه قصة ابن جعفر رضي الله عنهما، والحجة لهم في جواز حجر المديون حديث كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه " رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي، وروى أبو داود في المراسيل من حديث عبد الرزاق مرسلا وكذا روى سعيد في سننه وابن الجوزي من حديث ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلا " قال كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا فلم يزل يداين حتى غرق ماله كله في الدين، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ من أجل رسول الله فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله حتى قام معاذ بغير شيء " قال عبد الحق : المرسل أصح من المتصل، وقال ابن الصلاح في الأحكام : هو حديث ثابت كان ذلك في سنة تسع من الهجرة وجعل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم، فقالوا : يا رسول الله بعه لنا قال ليس لكم إليه سبيل. وقال أبو حنيفة في المديون : إن القاضي لا يحجر عليه ولا يبيع ماله لأنه نوع حجر ولأنه تجارة لا عن تراض وقد قال الله تعالى :﴿ إلا أن تكو ن تجارة عن تراض ﴾٤ ولكن يحبسه أبدا حتى يبيعه في دينه إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه، والجواب عن قصة معاذ أنا لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم باع ماله ولم يرض به معاذ ومحال أن لا يرضى معاذ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فكان النبي صلى الله عليه وسلم باع ماله برضاه فهو من باب بيع الوكيل أو الفضولي مع الإجازة اللاحقة من المالك، وقول الراوي حجر على معاذ ماله وباعه زعم منه زعم بيع ماله حجرا عليه، كيف وقد أخرج البيهقي من طريق الواقدي هذا الحديث وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بعد ذلك إلى اليمن ليجبره، روى الطبراني في الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج بعث معاذا إلى اليمن وأنه أول من تاجر في ماله الله فظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحجر معاذا عن التصرفات.
مسألة : إذا أفلس وفرق ماله وبقي عليه دين وله حرفة تفضل أجرتها عن كفايته ؟ قال أحمد : جاز للحاكم إجازته في قضاء دينه، وعنه لا يؤجره وهو قول غيره من الأئمة. احتج أحمد بحديث رواه الدارقطني عن زيد بن أسلم قال : رأيت شيخا بالإسكندرية يقال له سرق فقلت : ماذا الاسم ؟ قال : اسم سمانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن أدعه، قلت : ولم سماك ؟ قال : قدمت المدينة وأخبرتهم أن مالي يقدم فبايعوني فاستهلكت أموالهم فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" أنت سرق " وباعني بأربعة أبعر، فقال الغرماء للذي اشتراني : ما تصنع به ؟ قال : أعتقه، قالوا : فلسنا بأزهد في الأجر منك فأعتقوني بينهم وبقي اسمي. قال ابن الجوزي : قد علم أنه لم يبع رقبته لأنه حر وإنما باع منافعه والمعنى أعتقوني من الاستخدام، قلت : لا وجه لحمل هذا الحديث على الإجارة لأنه إجارة على عمل مجهول فالحديث متروك بالإجماع وكان لرسول الله ولاية التصرف في الناس ما ليس لغيره، وروى مسلم عن أبي سعيد : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال :" تصدقوا عليه " فلم يبلغ وفاء دينه، فقال :" خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " ٥ فهذا الحديث صريح أنه لا سبيل إلى المديون إلا في استيفاء من ماله والله أعلم.
﴿ ولا تأكلوها ﴾ يعني أموال اليتامى يا معشر الأولياء ﴿ إسرافا ﴾ في القاموس : السرف محركة ضد القصد، وفي الصحاح السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان قال الله تعالى :﴿ فلا يسرف في القتل ﴾٦ وقال :﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾٧ لكن ذلك في الإنفاق أشهر فيقال تارة باعتبار القدر يعني الكثرة كما في قوله تعالى :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾٨ وتارة باعتبار الكيفية، ولهذا قال سفيان : ما أنفقت في طاعة الله فهو سرف وإن كان قليلا قال الله تعالى :﴿ وأن المسرفين هم أصحاب النار ﴾٩ قلت : فأكل مال اليتيم وإن كان قليلا فهو إسراف إن كان الولي غنيا وإن كان فقيرا فالتجاوز عن المعروف إسراف وإفراط ﴿ وبدارا ﴾ أي مبادرة ﴿ أن يكبروا ﴾ فيأخذوا منكم أموالهم فإسرافا وبدارا مصدر أن في موضع الحال، وأن يكبروا في موضع المصدر منصوب المحل ببدارا يعني لا تأكلوا مسرفين ومبادرين كبرهم، ويجوز أن يكونا مفعولي لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم في الأكل، وجاز أن يكون أن يكبروا منصوب المحل على أنه مفعول له للمبادرة أي لمبادرتكم لأجل مخافة أن يكبروا فيأخذوا من أيديكم ﴿ ومن كان غنيا فليستعفف ﴾ أي ليمتنع من مال اليتيم فلا يأخذ منه قليلا ولا كثيرا استعف أبلغ من عف كأنه طلب زيادة العفة ﴿ ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ﴾ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني لفقير ليس لي شيء ولي يتيم فقال :" كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادرة ولا متأثل " ١٠ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وع
١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب (٤٠٩٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: بيان من البلوغ (١٨٦٨)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: السير، باب: ما جاء في النزول على الحكم (١٥٨٤) وأخرجه النسائي في كتاب: الطلاق، باب: متى يقع طلاق الصبي (٣٤٢٠).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الأحكام، باب: من لا يجب عليه الحد (٢٥٤١)..

٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الطلاق واللعان، باب: ما جاء فيمن يخدع في البيع (١٢٥٠). وأخرجه أبو داود عن ابن عمر في كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يقول عند البيع لا خلابة (٣٤٩٧)..
٤ سورة النساء، الآية: ٢٩..
٥ أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: استحباب الوضع من الدين (١٥٥٦)..
٦ سورة الإسراء، الآية: ٣٣..
٧ سورة الزمر، الآية: ٥٣..
٨ سورة الأنعام، الآية: ١٤١..
٩ سورة غافر، الآية: ٤٣..
١٠ أخرجه أبو داود في كتاب: الوصايا، باب: ما جاء فيما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم (٢٨٦٩).
وأخرجه النسائي في كتاب: الوصايا، باب: ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه (٣٦٦١).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الوصايا، باب: قوله: ﴿ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف﴾ (٢٧١٨)..

أخرج أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الفرائض من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار من الذكور حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة وهما عصبتاه فأخذا ميراثه كله فأتت امرأته رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال ما أدري ما أقول ؟ فنزلت ﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ أي المتوارثون بالقرابة ولم يقل للنساء نصيب منه اهتماما لشأنهن ﴿ مما قل منه أو كثر ﴾ بدل من قوله مما ترك بإعادة العامل، وفائدته التوبيخ على عدم مبالاتهم في القليل ﴿ نصيبا مقروضا ﴾ نصب على أنه مصدر مؤكد كقوله :﴿ فريضة من الله ﴾١ أو حال من فاعل الظرف إذ المعنى ثبت لهم نصيب حال كونه مفروضا أي مقطوعا، والحال في الحقيقة قوله مفروضا لكن بحسب الظاهرة جعل الحال نصيبا ومفروضا صفة له، ويسمى الحال موطئة لأنه مقدمة لذكر ما هو الحال حقيقة أو على اختصاص بمعنى أعني نصيبا مقطوعا واجبا لهم لا يجوز لأحد التبديل فيه، وفيه دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه أو أبرأ عنه لا يسقط حقه. وفي الآية إجمال من وجهين : أحدهما في تعيين النصيب، وثانيهما في المراد بالأقرب وكلا الأمرين ورد بيانهما من الشرع، وذكر الوالدين مع دخولهما في الأقربين اهتماما لشأنهما ولأن سبب النزول ميراث الوالد. وذكر البغوي أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحة وثلاث بنات له منها فقام رجلان هما أبناء عم الميت وأوصياه سويد وعرفجة، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغار وإن كان الصغير ذكرا إنما كانوا يورثون الرجال ويقولون لا نعطي إلا من قاتل وحاز الغنيمة، فجاءت أم كحة فقالت يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك علي بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفقه عليهن وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناتي شيئا وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا : يا رسول ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا فأنزل الله هذه الآية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سويد وعرفجة : لا تفرقا من مال أوس بن ثابت شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبيّن كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهن فأنزل الله تعالى ﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ فلما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة : أن ادفعا إلى أم كحة الثمن وإلى بناته الثلثين ولكما باقي المال. قلت : ولما نزل عقيبه يوصيكم الله لم يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة والله أعلم، قال سعد : وقع في الكتب المعتبرة والروايات الصحيحة أوس بن ثابت هو أخو حسان بن ثابت استشهد بأحد، قال الشيخ جلال الدين السيوطي : وفيه نظر كأنه كان أخ حسان ولم يكن لبني العم مع الأخ سبيل، ونقله ابن حجر في الإصابة عن ابن مندة وخطّأه بأنه ليس أحد من إخوته أوس ولا من بني أعمامه عرفطة ولا خالدا، ثم ذكر الشيخ السيوطي أن جماعة من الصحابة يسمى أوسا مع اختلاف أسماء آبائهم فلعل الذي نزل فيه الآية أحد هؤلاء والله أعلم.
١ سورة النساء، الآية: ١١..
﴿ وإذا حضر القسمة ﴾ أي قسمة المواريث ﴿ أولوا القربى ﴾ غير الأقربين الذين لا يرثون ﴿ واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ﴾ أي شيئا مما ترك أو مما يقسم تصدقا عليهم، قال الحسن : كانو ا يعطون التابوت والأواني ورثّ الثياب والمتاع والشيء الذي يستحيى من قسمته، وقال سعيد بن جبير والضحاك : هذه الآية منسوخة بآية ﴿ يوصيكم الله ﴾١ وقال ابن عباس والشعبي والنخعي والزهري ومجاهد وجماعة : أنها محكمة، قال قتادة عن يحيى بن يعمر ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس هذه الآية وآية الاستئذان :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾٢ وقوله تعالى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾٣ الآية. فقيل : الأمر للوجوب حق واجب في أموال الصغار والكبار فإن كان الورثة كبارا تولوا إعطاءهم وإن كانوا صغارا أعطى وليهم، وروى محمد بن سيرين : أن عبيدة السلماني قسم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاما لأهل هذه الآية وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي، والصحيح أنه أمر ندب، قال بن عباس : إن كانت الورثة كبارا رضحوا لهم ويستقلوا ما يعطوا ولا يمنوا عليهم وإن كانوا صغارا اعتذر الولي أو الوصي فيقول إني لا أملك هذا المال إنما هو للصغار ولو كان لي منه شيء أعطيتكم وأن يكبروا فسيعرفون حقوقكم وهذا القول هو المعنى من قوله تعالى :﴿ وقولوا لهم قولا معروفا ﴾.
١ سورة النساء، الآية: ١١..
٢ سورة النور، الآية: ٥٨..
٣ سورة النور، الآية: ٥٨.
سورة الحجرات، الآية: ١٣..

﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ﴾ الضياع، الظاهر أن الأمر للأقوياء من الورثة وهذه الآية متصلة بقوله تعالى :﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب ﴾١ الآية وقوله تعالى :﴿ وإذا حضر القسمة ﴾ الآية، يعني ليعطي الأقوياء أنصباء النساء والضعفاء من الوراثة وليرضحوا من التركة غير الورثة من الضعفاء والفقراء والمساكين وليخشوا على أولاد الضعفاء الضياع كما لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع وأشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم، أو المعنى ليخشوا الله في تضييع ضعفاء الورثة كأنه تنازع الفعلان ليخش وليتقوا في قوله تعالى :﴿ فليتقوا الله ﴾ في اسم الله تعالى وأعمل الثاني كما هو مذهب البصريين وحذف من الأول ولو أعمل الأول لقيل فليقتلوه، أمرهم بالتقوى الذي هو غاية الخشية بعدما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى، وقال الكلبي : هذا الأمر للأوصياء والأولياء بأن يخشوا الله ويتقوه في أمر اليتامى ويحسنوا إليهم ويفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف متصل بقوله تعالى :﴿ وابتلوا اليتامى ﴾ ويكون قوله :﴿ للرجال نصيب ﴾ إلى هنا جملا معترضات، وفائدته أن ولاية اليتامى و ابتلاءهم وقسمة التركة إنما يتصور بعد دفع ما تقرر في الجاهلية أن لا ميراث للضعفاء إنما لمن يحارب، وجاز أن يكون أمرا للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم وبقوا خلفهم ضعافا هل يجوزوا حرمانهم، وقيل : هذه الآية في الرجل يحضره الموت فيقول من بحضرته إن ورثتك لا يغنون عنك شيئا أعتق وأعط فلانا كذا وفلانا كذا حتى يأتي على عامة ماله فهو أمر للحاضرين المريض عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضر بهم ويصرف المال عنهم، أو أمر للموصين بأن ينظروا للورثة الضعاف الذين خافوا عليهم الضياع ولا يسرفوا في الوصية ولا يزيدوا في الوصية على الثلث كيلا تحجف لورثته وجواب لو خافوا ولو مع ما في حيزه صلة للذين ﴿ وليقولوا قولا سديدا ﴾ يعني يقول الأقوياء من الورثة ضعفاءهم بالشفقة وحسن الأدب أو الأولياء لليتامى قولا حسنا شفقة كما يقولون لأولادهم بالشفقة أو الحاضرون الوصية يأمروا الموصي بالتصدق دون الثلث، أو الحاضرون القسمة اعتذروا إلى الفقراء أو الموصي يقول في الوصية قولا حسنا فيوصي بما دون الثلث ويراعي في الوصية حسن النية مع الإخلاص لله تعالى.
١ سورة النساء، الآية: ٧..
قال البغوي : قال مقاتل بن حبان : لما أكل مرثد بن زيد رجل من غطفان مال ابن أخيه وهو يتيم صغير نزلت ﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ﴾ مصدر أو حال أي أكلا ظلما أو ظالمين ﴿ إنما يأكلون في بطونهم ﴾ نارا ما يجر إلى النار ويؤل إليه، في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم :" رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل أحدهما قابضة على منخريه والأخرى على بطنه وخزنة جهنم يلقمونهم جمر جهنم وصخرها، فقلت : يا جبرائيل من هؤلاء ؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد الخدري، أخرج ابن أبي شيبة في مسنده وابن أبي حاتم في تفسيره ابن أبي حبان في صحيحه عن أبي بردة أنه صلى الله عليه وسلم قال :" يبعث الله قوما من قبورهم يتأجج أفواههم نارا فقيل : من هم ؟ فقال : ألم تر أن الله يقول :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ﴾ ﴿ وسيصلون سعيرا ﴾ قرأ الجمهور بفتح الياء أي يدخلونه وابن عامر وأبو بكر بضم الياء أي يدخلون النار ويحرقون، والسعير فعيل بمعنى المفعول من سعرت النار إذا لهبتها.
أخرج الأئمة الستة عن جابر بن عبد الله قال :" عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ ثم رش علي فأفقت، فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي ؟ فنزلت ( يوصيكم الله ) الآية " ١ وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان بنتا سعد بن الربيع قتل معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال :" يقضي الله في ذلك " فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال :" أعط لابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك " ٢ قال الحافظ : تمسك من قال إن الآية نزلت في قصة ابنتي سعد ولم تنزل في قصة جابر خصوصا أن جابر لم يكن له يومئذ ولد، قال : والجواب إنها نزلت في الأمرين معا ويحتمل أن يكون نزول أولها في قصة ابنتي سعد وآخرها وهو قوله :﴿ وإن كان رجل يورث كلالة ﴾ المتصل بهذه الآية في قصة جابر ويكون مراد جابر بقوله فنزلت ﴿ يوصيكم الله ﴾ الخ الآية المتصلة بها. وروي له سبب ثالث، أخرج ابن جرير عن السدي قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان لا يرث الرجل ولده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كحة وخمس بنات، فجاءت الورثة يأخذون ماله فشكت أم كحة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ﴿ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ﴾ ثم قال في أم كحة ﴿ ولهن الربع مما تركتم ﴾الآية. وقد ورد في قصة سعد بن الربيع وجه آخر أخرج القاضي إسماعيل في أحكام القرآن من طريق عبد الملك بن محمد بن حزم أن عمرة بنت حرام كانت تحت سعد بن الربيع فقتل عنها بأحد وكان له منها ابنة فأتت النبي صلى الله عليه وسلم لطلب ميراث ابنتها ففيها نزلت ﴿ يوصيكم الله ﴾ يأمركم ويعهد إليكم ﴿ في ﴾ شأن ميراث ﴿ أولادكم ﴾ وجاز أن يكون في معنى اللام كما في قوله عليه السلام " دخلت امرأة النار في هرة " ٣ وهذا إجمال تفصيله ﴿ للذكر ﴾ منهم ﴿ مثل حظ الأنثيين ﴾ منهم إذا اجتمع الصنفان يعني إن كان مع الاثنين أو أكثر ذكر واحد أو أكثر يعطى لكل واحد منهم مثل حظ الأنثيين منهم، ويعلم بدلالة النص أنه إن كان ذكر واحد أو أكثر مع واحدة أنثى يعطى للأنثى نصف حظ ذكر واحد، وجه تخصيص التنصيص على حظ الذكر تفضيله والتنبيه على أن التضعيف كاف للتفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة، هذا حكمهم عند اجتماع الصنفين وإن كان الأولاد صنفا واحدا أنثى فقط ﴿ فإن كن ﴾ أي الأولاد وأنثى الضمير باعتبار الخبر، أو الضمير راجع إلى بنات مذكورات في ضمن الأولاد ﴿ نساء فوق اثنتين ﴾ خبر ثان أوصفة نساء يعني زائدة على اثنتين ﴿ فلهن ثلثا ما ترك ﴾ الميت منكم ﴿ وإن كانت ﴾ المولودة المذكورة ضمن الأولاد ﴿ واحدة ﴾ قرأ نافع بالرفع على إن كانت تامة والباقون بالنصب على الخبرية ﴿ فلها النصف ﴾ ولم يذكر في الآية حكم الأنثيين، فقال ابن عباس : حكمهما حكم الواحدة لأنه الأقل المتيقن من النصيبين المذكورين، والصحيح أن لهما الثلثان وفيه انعقد الإجماع فقيل لفظ فوق زائدة كما في قوله تعالى :﴿ فاضربوا فوق الأعناق ﴾٤ ويؤيده من السنة ما ذكرنا من قصة سعد بن الربيع ونزول الآية فيهما، وقيل : ثبت حكمهما بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه جعل لأخت واحدة النصف كما جعل لبنت واحدة وجعل للأخوة والأخوات المختلطين للذكر مثل حظ الأنثيين كما جعل للأولاد المختلطين هكذا وجعل للأختين الثلثان فكذا للبنتين فثبت بالسنة والإجماع أن حكم ما فوق الإثنتين من الأخوات كحكم الإثنتين منهما الثابت بالنص وحكم الإثنتين كحكم ما فوقهما الثابت بالنص ولا وجه لإلحاق الإثنتين منهما بالواحدة، ولأن البنت لما كان حظها مع ابن واحد ذكر الثلث لا ينقص منه أبدا فمع بنت واحدة غيرها أولى ألا ينقص حظها من الثلث والله أعلم. والسكوت عن حكم الذكر إذا لم يكن معه أنثى يدل على أن المال كله له لأنه أولى بالميراث من الأنثى فلا جائز حرمانه، ولو كان له بعض المال لم يجز السكوت عن بيانه وقت الحاجة ولا يرث معه غيره بالعصبية لأنه أقرب العصبات فلا يترك شيئا لغيره ولأنه جعل الله سبحانه للذكر مثل حظ الأنثيين، وقد جعل للأنثى عند الانفراد النصف فللذكر عند الانفراد ضعف النصف وهو الكل وإذا كان للولد الذكر عند الانفراد جميع المال يحجب مع ولد ذكر صلبي أولاد الابن ذكورا كان أو أناثا أو مختلطين بالإجماع.
مسألة : أجمعوا على أن أولاد الابن لهم حكم أولاد الصلب عند الولد فللذكور أو ذكر منفرد منهم جميع المال ولواحدة منفردة من الإناث النصف والأكثر منها منفردات الثلثان وللذكر مثل حظ الأنثيين عند الاختلاط، ولهم عند الاختلاط مع واحدة صلبية أو أكثر ما بقي منها أو منهن للذكر مثل حظ الأنثيين، كذا روى الطحاوي عن عائشة أنها أشركت بين بنات ابن وبني ابن مع بنتين وبين الأخوة والأخوات لأب مع أختين لأب وأم فيما بقى ولذكر واحد أو أكثر مع بنت أو بنات جميع ما بقي منهم لقوله عليه السلام :" ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى جل ذكر " ٥ متفق عليه من حديث ابن عباس. ولبنت ابن واحدة أو أكثر منفردات مع واحدة صلبية السدس تكملة للثلثين لما رواه البخاري عن الهذيل بن شرحبيل قال : جاء رجل إلى أبي موسى وسلمان بن ربيعة فسألهما عن رجل مات عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم فقالا :" للبنت النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا، فأتى ابن مسعود فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين سأقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة للثلثين وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم٦، ولا يرثن مع الصلبيتين لإحرازهما تمام الثلثين إلا أن يكون بحذائهن أو أسفل منهم غلام فيعصبهن.
﴿ ولأبويه ﴾ أي أبوي الميت منكم ﴿ لكل واحد منهما ﴾ بدل من لأبويه بتكرر العامل وفائدته دفع توهم اشتراكهما في السدس والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا ﴿ السدس مما ترك ﴾ الميت﴿ إن كان له ولد ﴾ ذكر أو أنثى صلب أو ولد ابن غير أن الأب يأخذ السدس مع أنثى عند عدم ولد بالفرض وما بقي من ذوي الفروض بالعصوبة لأنه أولى رجل ذكر بعد الأبناء وأبناء الابن ﴿ فإن لم يكن له ولد ﴾ صلبي ولا ولد ابن ﴿ وورثه أبواه فلأمه الثلث ﴾ يعني ثلث جميع المال إن لم يكن معهما وارث صاحب فرض غيرهما وثلث ما بقي بعد فرض أحد الزوجين إن كان معهما أحد الزوجين ولا يتصور معهما غير الزوجين لأن الأخوة والأخوات والجد لا يرثون مع الأب والجدة مع الأم والمفروض عدم الولد، أو المعنى وورثه أبواه فقط فلأمه الثلث مما ترك بقرينة تقيد السدس به فعلى هذا يعرف ميراثهما مع أحد الزوجين بالمقايسة فكما كان للأم نصف ما للأب عند عدم غيرهما تضعيفا للذكر على الأنثى مع اتحاد القرابة يعني ثلث الكل والثلثان فكذا مع غيرهما يعني ثلث ما بقي والثلثان. عن ابن مسعود قال : كان عمر بن الخطاب إذا سلك طريقا فاتبعناه وجدنا سهلا وإنه سئل عن امرأة وأبوين فقال : للمرأة الربع وللأم الثلث ما بقي وما بقي فللأب، وبه قال زيد بن ثابت : إن للأم ثلث ما بقي بعد فرض أحد الزوجين في مسألة زوج وأبوين ومسألة زوجة وأبوين وعليه انعقد الإجماع، لو كان مكان الأب الجد فلها ثلث الكل، وروى البيهقي من طريق عكرمة قول ابن عباس أن للأم في المسألتين ثلث الكل وبه قال شريح ووافقه ابن سيرين في زوجة وأبوين وخالفه في زوج وأبوين، روى البيهقي عن النخعي أنه قال : خالف ابن عباس جميع أهل الفرائض في ذلك والسكوت عن حكم الأب بعد قوله وورثه أبواه يدل على أن الباقي يعني الثلثين للأب كأنه أولى بالميراث من الأم فلا جائز حرمانه، وقد نبه على ميراثه بقوله ورثه ولو كان له بعض المال لم يجز السكوت عن بيانه ولا يرث معه غيره بالعصبية لأنه أقرب العصبات عند عدم الولد فلا يترك لغيره شيئا، وهذه الآية تدل على أنه لو ورثته أمه فقط بدون الأب يكون لها الثلث بالطريق الأولى ولا دليل على الزيادة ﴿ فإن كان له إخوة ﴾ لأب أو لأم أولهما والمراد بالأخوة ما فوق الواحد إجماعا سواء كانوا ذكورا أو إناثا أو مختلطين وكذا المراد بكل جمع وقع في باب الفرائض والوصايا إجماعا، وقال ابن عباس : لا يحجب الأم من الثلث مادون الثلاثة. روى الحاكم وصححه أن ابن عباس دخل على عثمان فقال له محتجا لأنه كيف ترد الأم إلى السدس بالأخوين وليس بإخوة فقال عثمان : لا أستطيع رد شيء كان قبلي ومضى في البلدان وتوارث عليه الناس فاحتج عثمان بالإجماع وأجاب زيد بن ثابت بجواب آخر قالوا : يا أبا سعيد إن الله يقول :﴿ فإن كان له إخوة ﴾ وأنت تحجبها بأخوين فقال : إن العرب يسمى الأخوين أخوة. ﴿ فلأمه السدس ﴾ وهذه الآية تدل بالمفهوم والمخالف وما قبله بالمفهوم الموافق أن للأم مع أخ أو أخت واحدة الثلث فإنه إذا كان لها مع الأب الثلث فلها مع الأخ أو الأخت الثلث بالطريق الأولى.
قرأ حمزة والكسائي فلأمه في الوضعين هاهنا وفي القصص في أمّها وفي الزخرف في أم الكتاب في الوصل فقط بكسر الهمزة اتباعا للكسرة التي قبلها والباقون بضمها على الأصل، وإذا أضيف الأم جميع ووليت همزته كسرة وحملته أربعة مواضع في النحل ﴿ من بطون أمهاتكم ﴾٧ وكذا في النور والزمر والنجم فهمزة يكسر الهمزة والميم في الوصل والكسائي يكسر الهمزة في الوصل ويفتح الميم والباقون يضمون الهمزة ويفتحون الميم في الحالين.
مسألة : أجمعوا على أن الأخوة والأخوات يحجبن الأم من الثلث إلى السدس وإن كانوا محجوبين بالأب، وعن ابن عباس : أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا منه الم خلافا للجمهور.
مسألة : الجد الصحيح أعني أب الأب وإن علا له حكم الأب عند عدم الأب ولا شيء لأب الأم لأنه لا يصلح أن يكون مكان الأب ليس من جهته ولا مكان الأم لأنه ليس من جنسه ويسمى جدا فاسدا، فالجد الصحيح عصبة عند عدم الولد وله السدس مع ولد ذكر والسدس والتعصيب مع ولد أنثى، وخالف حكمة حكم الأب في أنه لا يرد الأم من الثلث إلى السدس أو الربع مع أحد الزوجين إجماعا. واختلفوا في أنه هل يحجب الأخوة كالأب أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : يحجبهم كلهم سواء كانوا من الأب أو الأم أو منهما وهو المروي عن أبي بكر وكثير من الصحابة، وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد : لا يحجب لإخوة والأخوات إن كانوا من الأبوين أو من الأب ويحجبهم إن كانوا من الأم : قال ابن الجوزي محتجا بعدم حجبهم أن التوريث بالأخوة منصوص عليه في القرآن فلا يثبت حجبهم إلا بنص، قلنا : لو كان كذلك فلم قلتم بحجب أولاد الأم مع الجد وهم منصوص توريثهم في القرآن، وأيضا تقولون بأن ابن الابن يحجب الأخوة كلهم لقيامه مقام الابن فلم لا تقولون بحجبهم بالجد لقيامه مقام الأب. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم :" ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " ٨ ولا شك أن الجد أولى من الأخ، لأنه أصل الميت دون الأخ ولنا أيضا أنه إذا اجتمع الجد مع الأخ
١ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: ﴿يوصيكم الله في أولادكم﴾ (٤٥٧٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الفرائض، باب: ميراث الكلالة (١٦١٦)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث البنات (٢٠٩٢) وأخرجه أبو داود في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الصلب (٢٨٨٨)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (٣٣١٨).
وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي (٢٦١٩)..

٤ سورة الأنفال، الآية: ١٢..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: ميراث الولد من أبيه وأمه (٦٧٣٢) وأخرجه مسلم في كتاب: الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها (١٦١٥)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: ميراث ابنة ابن مع ابنة (٦٧٣٦)..
٧ سورة النحل، الآية: ٧٨..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: ميراث الولد من أبيه وأمه (٦٧٣٢)..
﴿ ولكم نصف ما ترك أزواجكم ﴾ أي زوجاتكم ﴿ إن لم يكن لهن ولد ﴾ أي صاحب فرض أو عصبة من الأولاد سواء كان بواسطة أو بلا واسطة ﴿ فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أودين ولهن ﴾ أي للزوجات واحدة كانت أو أكثر ﴿ الر بع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ﴾ الصلب أو وولد الابن ﴿ فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أودين ﴾ وكذا ترث المعتدة من الطلاق الرجعي دون البائن إن كان الزوج طلقها صحيحا وكذا إن طلقها في مرض موته رجعيا إجماعا غير أن أبا حنيفة يقول ترث إن مات وهي في العدة، وقال أحمد : ترث وإن انقضت عدتها ما لم تتزوج قبل موته، وقال مالك ترث وإن تزوجت وللشافعي أقوال كالمذاهب الثلاثة، وكذا إن طلق في مرض موته طلاقا بائنا عند أبي حنيفة وأحمد إلا أن أبا حنيفة يشترط في إرثها أن لا يكون الطلاق عن طلب منها لأنها إن طلبت رضيت بإبطال حقها وللشافعي قولان أظهرهما أنها لا ثرت. روى أحمد عن معمر أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة فقال صلى الله عليه وسلم :" اختر منهن أربعا " فلما كان عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال : إني لأظن الشيطان مما يسترق من السمع سمع موتك فقذفه في نفسك وأعلمك أنك لا تمكث إلا قليلا وايم الله لتراجعن نسائك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك ولأمرت بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال " وحكم البخاري بصحة الموقوف منه عن الزهري عن سالم عن أبيه بخلاف أول القصة. قلت : هذا الحديث سند الإجماع على ألا ميراث بعد الطلاق الرجعي والحجة للجمهور على إيراثها بعد البائن أن عثمان رضي الله عنه ورث تماضر بنت الأصبع بن زياد الكلبية، وقيل بنت عمرو بن الشريد السلمية من عبد الرحمن بن عوف لما بت طلاق في مرضه ومات وهي في العدة بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا وقال ما اتهمته، ولكن وردت السنة وبمذهبنا ذهب عمر وابنه وعثمان وابن مسعود والمغيرة ونقله أبو بكر الرازي عن علي وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن عوف وعائشة وزيد بن ثابت ولم يعلم عن صحابي خلافه، وهو مذهب النخعي والشعبي وسعيد ابن المسيب وابن سيرين وعروة وشريح وربيعة بن عبد الرحمن وطاووس بن شبرمة والثوري والحماد بن أبي سليمان والحارث.
﴿ وإن كان رجل ﴾ يعني الميت أو الوارث ﴿ يورث ﴾ صفة رجل، فإن كان المراد به الميت فالمعنى يورث منه وإن كان المراد به الوارث فهو من أورث ﴿ كلالة ﴾ خبر كان أو خبره يورث وكلالة حال من الضمير فيه، وجاز أن يكون كلالة مفعولا له إن كان المراد بالكلالة قرابة ليست من جهة الولد. وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال أعني الإعياء يقال : كل الرجل في مشيه كلالا والسيف عن ضربته كلولا وكلالة واللسان عن الكلام فاستعير لقرابة وليست بالبعضية يعني ليس أحدهما متوالدا من الآخر لأنها كالة بالإضافة إليها ثم وصف بها من لا يرث منه والد ولا ولد ومن يرث ممن ليس له والد ولا ولد بمعنى ذي كلالة كذا قال البيضاوي، وقال البغوي : هو اسم للموروث الذي لا ولد له ولا والد وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما لأنه مات عن ذهاب طرفيه فكل عمود نسبه، وقال سعيد بن جبير : هو اسم لوارث ليس والدا للميت ولا ولده لأنهم يتكللون الميت من جوانبه وليس في عمود نسبه أحد كالإكليل يحيط بالرأس ووسط الرأس منه خال، وعليه حديث جابر حيث قال : إنما يرثني كلالة أي يرثني ورثة ليسوا لي بولد ولا والد. وسئل أبو بكر عن الكلالة فقال : إني سأقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد، فلما استخلف عمر قال إني لأستحي الله إن أراد شيئا قاله أبو بكر رواه البيهقي عن الشعبي، رواه ابن أبي حاتم في تفسيره والحاكم بإسناد صحيح عن ابن عباس عن عمر قوله وفي حديث مرفوع عن أبي هريرة فسر الكلالة بأنها غير الوالد والولد رواه الحاكم، وأخرج أبو الشيخ عن البراء قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة قال :" ما خلا الوالد والولد " وكذا أخرج أبو داود في المراسيل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عنه صلى الله عليه وسلم قال :" من لم يترك والدا ولا ولدا فورثته كلالة " قلت : والمراد بالوالد والولد في تفسير الكلالة الذكر من الأصولي أو الفروع حتى أنه إذا كان للميت بنت أو أم فهو كلالة أيضا يدل عليه حديث جابر فإن جابر بن عبد الله كان له عند نزول الآية بنت فقط ولم يكن له والد لن أباه عبد الله بن حرام مات يوم أحد قبل هذا والأخوة والأخوات ترث مع الأم والبنت بالإجماع، والمراد بالولد أعم من ولد الابن حتى لا يرث الأخوة مع ابن الابن بالإجماع، وكذا المراد بالوالد أعم من الجد لعدم الفصل بين الوالد والولد في تفسير الكلالة والله أعلم ﴿ أو امرأة ﴾ عطف على رجل، ونظم الآية وإن كان رجل أو امرأة يورث يعني أحدهما كلالة ﴿ وله ﴾ الضمير عائد إلى رجل لأنه مذكر، مبتدأ به أو إلى أحدهما من رجل وامرأة المذكورين وهو مذكر، والجملة الظرفية معطوف على خبر كان إن كان المراد برجل الميت، وإن كان المراد به الوارث فالضمير عائد إلى المورث المفهوم من السياق كضمير لأمه والجملة الظرفية حال من ضمير يورث والمعنى وإن كان رجل أو امرأة يورث أحدهما من الميت كلالة وهو يعني الوارث للميت ﴿ أخ أو أخت ﴾ أجمعوا على أن المراد بالأخ والأخت هاهنا الأخ والأخت لأم فقط يدل عليه قراءة أبي وسعد بن أبي وقاص، روى البيهقي أن سعدا قال الراوي أظنه ابن أبي وقاص كان يقرأ وله أخ أو أخت من أم " وروى أبو بكر بن المنذر أيضا عن سعد كذلك، وحكى الزمخشري عنه وعن أبي كعب، وقيل : قرأ ابن مسعود كذلك. قال الحافظ ابن حجر : لم أره عن ابن مسعود، ومن هاهنا يظهر أنه يجوز العمل بالقراءة الغير المتواترة كما هو مذهب أبي حنيفة إذا صح إسناده خلافا للشافعي في الأصول، قال البغوي : قال أبو بكر الصديق في خطبته : ألا إن الآية التي أنزل الله في أول سورة النساء في بيان الفرائض أنزلها في الولد والوالد والآية الثانية في الزوج والزوجة والأخوة من الأم والآية التي ختم بها السورة في الأخوة والأخوات من الأب ولأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام ﴿ بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " ١ { فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ﴾ أجمعوا على أن أولاد الأم إذا كانوا اثنين فصاعدا يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم في الاستحقاق والقسمة سواء. واختلفوا في مسألة حمارية وهي زوج وأم وأخوان لأم وأخ لأبوين : فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوة من أم الثلث ولا شيء لأخ لأبوين واحدا كان أو أكثر عند أبي حنيفة وأحمد وداود لأنه عصبة ولم يبق من أصحاب الفرائض شيء، وقال مالك والشافعي : يشارك الأخ لأبوين الأخوين لأم في الثلث الذي هو فرض لهما، ذكر الطحاوي أن عمر كان لا يشرك حتى ابتلى بمسألة فقال له الأخ لأب وأم : يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة ؟ فشركهم ولذلك سمى المسألة حمارية، ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن من حديث زيد بن ثابت وصححه الحاكم وفيه أبو أمية بن يعلى الثقفي ضعيف ورواه من طريق الشعبي عن عمر وعلي وزيد بن ثابت أنه لم يزدهم الأب إلا قربا، وأخرج الدارقطني من طريق وهب بن منبه عن مسعود بن الحكم الثقفي قال : أتى عمر في امرأة تركت زوجها وأمها وأخواتها لأمها وأخواتها لأبيها وأمها فشرك الأخوة للأم والأخوة للأب والأم، فقال له رجل : إنك لم تشرك بينهم عام كذا ؟ فقال : تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا، وأخرجه عبد الرزاق وأخرجه البيهقي من طريق ابن المبارك عن معمر، لكن قال عن الحكم عن ابن مسعود وصوبه النسائي، وأخرج البيهقي أيضا أن عمر أشرك بين الأخوة وأن عليا لم يشرك.
مسألة : ويسقط أولاد الأم بالولد وولد الابن والأب والجد بالإجماع، وإنما الخلاف في سقوط الأخوة من الأب أو منها مع الجد كما سبق، وكان القياس سقوطهم مع الأم لأنه من يدلي إلى الميت بشخص فإنه يسقط مع ذلك الشخص لكن تركنا القياس بالإجماع و لأن الأم لا ترث جميع المال ﴿ من بعد وصية يوصى بها ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم بفتح الصاد على البناء للمفعول والباقون بكسر الصاد على البناء للفاعل ﴿ أو دين غير مضار ﴾ حال من فاعل يوصي على قراءة من قرأ على البناء للفاعل، وأما على قراءة من قرأ على البناء للمفعول فهو حال من فاعل فعل مضمر يدل عليه الكلام فإن الفعل المبني للمفعول يدل على فعل مبني للفاعل، كما في قول الشاعر : ليبك يزيد ضارع لخصومة، أي غير مضار لورثته بالزيادة على الثلث في الوصية أو الإقرار بدين كاذبا أو الوصية بقصد الإضرار بالورثة دون القربة. عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة ﴿ من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ﴾ إلى قو له :﴿ وذلك الفوز العظيم ﴾٢ رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قطع ميراث وارثه قطع ميراثه من الجنة يوم القيامة " ٣ رواه ابن ماجه ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، وعن علي :" لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث " رواه البيهقي، وروي أيضا عن ابن عباس أنه قال : الذي يوصي بالخمس أفضل من الذي يوصي بالربع الحديث.
( فائدة ) : قيد الله تعالى الوصية والدين هاهنا بقوله غير مضار لا فيما سبق مع أنه معتبر في الجميع، لأن قرابة الأولاد وحسن معاشرة الأزواج مانع من الضرار غالبا وفي بني الأخياف مظنة الضرار قوي فلذا قيده بذلك.
( فصل ) الوصية منها الواجب والمندوب والمباح والحرام والمكروه، فمن كان عليه من دين أو زكاة أو نذر أو حج أو فائتة صلاة أو صوم يجب عليه أن يوصي بأداء ما وجب عليه وبفدية الصلاة والصوم من ماله فينفذ الديون من جميع ماله ويقدم من الديون ما هو معروفة الأسباب على غير ذلك عند أبي حنيفة، وقال الشافعي : هما سواء. وما عدا الدين ينفذ من ثلث ماله ولا يجوز أن يهمل مثل هذه الوصية، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " ٤ متفق عليه، وفي رواية لمسلم " ثلاث ليال " ومن ليس عليه واجب يستحب أن يوصى بالتصدق بما دون الثلث بالعشر أو الخمس أو الربع، ويباح إلى الثلث إن كان الورثة أغنياء لما مر من الأحاديث وإن كان الورثة فقراء فحينئذ يكره الوصية تنزيها، وترك الوصية أولى لما فيه من الصدقة على القريب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم صدقة وصلة " ٥ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي. ويحرم من الوصية ما فيه مضار للورثة أو قصد الإضرار بهم ﴿ وصية من الله ﴾ مصدر مؤكد أي يوصيكم وصية أو منصوب بغير مضار على المفعول به، يعني حال كونه غير مضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بالزيادة أو وصية بالأولاد والأزواج والأقارب بالإسراف في الوصية والإقرار الكاذب ﴿ والله عليم ﴾ بالمضار وغيره ﴿ حليم ﴾ لا يعاجل ب
١ سورة الأنفال، الآية: ٧٥..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الوصايا، باب، ما جاء في الوصية بالثلث (٢١١٦) وأخرجه أبو داود في كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية (٢٨٦٤)..
٣ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الوصايا، باب: الحيف في الوصية (٢٧٠٣) وفي الزوائد: في إسناده زيد العمي..
٤ أخرجه البخاري في أول كتاب: الوصايا (٢٧٣٨) وأخرجه مسلم في أول كتاب: الوصية (١٦٢٧)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في الصدقة على ذي القرابة (٦٥٨) وأخرجه النسائي في كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على الأقارب (٢٥٧٢) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزكاة، باب: فضل الصدقة (١٨٤٤)..
﴿ تلك ﴾ الأحكام في أمر اليتامى والوصايا والمواريث ﴿ حدود الله ﴾ أي شرائعه التي لا يجوز التجاوز عنها ﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ١٣ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدين فيها وله عذاب مهين ١٤ ﴾ قرأ نافع وابن عامر ندخله في الموضعين بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة، وأفرد الضمير في يدخله في الموضعين نظرا إلى لفظه من، وخالدين وخالدا منصوبا على الحال وجمعه مرة وإفراده أخرى نظرا إلى لفظه من، ومعناه، ولا يجوز أن يكون خالدا صفة لنار وإلا لوجب إبراز الضمير لكونه جاريا على غير من هو له والله أعلم، ويذكر حكم بن الأعيان والعلات في آخر السورة ولنذكر هاهنا ما بقي من مسائل الفرائض إشباعا للمقام.
مسألة : أجمعوا على أنه إذا زادت الفرائض على سهام التركة دخل النقص على كل واحد منهم على قدر حصته، وتسمى المسألة عائلة أي مائلة عن مساواة التركة الأسهم بالتعارض وعدم الترجيح وبالقياس على الديون إذا زادت على التركة، وقد انعقد عليه الإجماع في زمن عمر رضي الله عنه حين ماتت امرأة عن زوج وأختين فجمع الصحابة فاستشارهم فقال : أرأيت لو مات رجل وترك ستة دراهم وعليه لرجل ثلاثة ولرجل أربعة أليس جعل المال سبعة أجزاء ؟ فأخذت الصحابة بقوله رضي الله عنهم، ثم خالف ابن عباس بعد موت عمر فأنكروه فقيل له ألا قلت ذلك في حضرة عمر ؟ فقال : هيبة – وكان مهيبا- فقيل له : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك منفردا. روى البيهقي عن ابن عباس فقال : ترون الذي أحصى رمل عالج عددا يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا إذا ذهب نصف ونصف المال فأين موضع الثلث ؟ فقيل له : من أول من عال الفرائض ؟ قال : عمر وذكر القصة، قال ابن عباس وايم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر ما عالت فريضة وكذا أخرج الحاكم، وفي رواية وأيها قدم الله ؟ قال : كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله، فالذي قدم كالزوجين والأم والذي أخر كالأخوات والبنات فإذا اجتمع من قدم الله ومن أحر بدئ بمن قدم فأعطى حقه كاملا فإن بقي شيء كان لهن وإن لم يبق شيء فلا شيء لهن، وتبع ابن عباس في هذا القول محمد بن الحنيفة.
مسألة : أجمعوا على أن ما أبقته أصحاب الفرائض فهو لأولى رجل ذكر لما مر من الحديث ويسمى ذلك الرجل عصبة ويرث ذلك الرجل جميع المال عند عدم ذي فرض وأقربهم إلى الميت الابن، ثم ابنه وإن سفل ثم الأب ثم أبوه وإن علا، ثم الأخ لأب وأم ثم الأخ لأب ثم ابن الأخ لأب وأم ثم ابن الأخ لأب وهكذا حكم من سفل منهما، ثم العم لأب وأم ثم لأب ثم ابنها هكذا وإن سفل كل منهما ثم عم الأب هكذا لأب وأم لأب ثم أبناؤهما وإن سفل هكذا وهكذا أعمام الأجداد إلى ما لا نهاية لها. عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعيان بني الأب والأم يتوارثون دون بني العلات، يرث الرجل أخوه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه " رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم، ولا خلاف في هذا إلا ما مر الخلاف في مقاسمة الأخوة للجد.
مسألة : أجمعوا على أن من حظه النصف والثلثان من النساء تصير عصبة مع أخيها لقوله تعالى :﴿ مثل حظ الأنثيين ﴾ في الأولاد والأخوة ومن ليس بأهل فرض من النساء وأخوه عصبة لا عصبة كالعمة وبنت الأخ.
مسألة : وآخر العصبات مولى العتاقة بالإجماع. روى البيهقي وعبد الرزاق أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل فقال إني اشتريته وأعتقته فما أمر ميراثه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن ترك عصبة فالعصبة أحق وإلا فالولاء لك " وفي الصحيحين :" إنما الولاء لمن أعتق " ١ ثم عصبات مولى العتاقة، ولا ولاء للنساء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن، روى النسائي وابن ماجه من حديث ابنة حمزة أن ابنة حمزة أعتقت فمات مولاها وترك ابنته مولاته يعني ابنة حمزة فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته النصف ولابنة حمزة النصف، وروى الدارقطني والطحاوي هذا الحديث مرسلا، وقال البيهقي : اتفق الرواة على أن ابنة حمزة هي المعتقة دون أبيها، وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقططني.
مسألة : وإن بقي شيء من أصحاب الفرائض وليست للميت عصبة يرد ذلك على أصحاب الفرائض بقدر حصصهم غير الزوجين عند أبي حنيفة وأحمد، وقال مالك والشافعي : لا يرد والباقي لبيت المال، وأفتى المتأخرون من أصحاب الشافعي بالرد على أصحاب الفرائض لعدم انتظام أمر بيت المال، نقل القاضي عبد الوهاب المالكي عن أبي الحسن أن الصحيح عن عثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود أنهم كانوا لا يورثون ذوي الأرحام ولا يردون على أحد من أصحاب الفرائض، وروى الطحاوي بسنده عن إبراهيم قال عمر وعبد الله يورثان الأرحام قال الراوي قلت : أفكان علي يفعل ذلك ؟ قال : كان أشدهم في ذلك. وروى بسنده من طريقين عن سويد بن غفلة أن رجلا مات وترك ابنة وامرأة ومولاة، قال سويد : إني لجالس عند علي إذ جاءه مثل هذه الفريضة فأعطى ابنته النصف وامرأته الثمن ثم رد ما بقي علي ابنته ولم يعط المولى شيئا، وروى عن أبي جعفر من طريقين كان علي رضي الله عنه يرد بقية المواريث على ذوي السهام من ذوي الأرحام. وروى الطحاوي بسنده عن مسروق قال : أتى عبد الله في أخوة لأم دام فأعطى الأخوة الثلث وأعطى الأم سائر المال وقال الأم عصبة من لا عصبة له وكان لا يرد على إخوة لأم مع الأم ولا على ابنة ابن مع ابنة الصلب ولا على أخوات لأب مع أخت لأب وأم ولا على امرأة ولا على جدة و لا على زوج، قال الطحاوي : النظر عندنا ما ذهب إليه علي رضي الله عنه دون ما ذهب إليه ابن مسعود أن يكون ذوو الفروض فيما يرد عليهم من فصول المواريث كذلك، وأن لا يقدم من قرب رحمه على من كان أبعد رحما من الميت بل يقسم بقدر حصصهم لأنا قد رأينا في فرائضهم التي فرض لهم قد ورثوا جميعا بأرحام مختلفة ولم يكن بعضهم بقرب رحمه أولى بالميراث ممن بعد رحمه وهذا هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
مسألة : أجمعوا على أنه عند اجتماع جهتي فرض وتعصيب يعتبر الجهتان جميعا فإذا ماتت عن أبناء عم ثلاثة أحدهم أخ لأم لها والآخر وزوج لها يعطى السدس لأحدهم بالأخوة والنصف للثاني بالزوجية والباقي بين الثلاثة بالعصبية، ويصح المسألة من ثمانية عشر خمسة منها للأول واحد عشر للثاني واثنان للثالث، واختلفوا فيما إذا اجتمع جهتا فرض ؟ فقال مالك والشافعي : يرث بأقواهما فقط، وعند أبي حنيفة وأحمد : يرث بهما جميعا وذا لا يتصور إلا في مجوسي نكح المحارم ثم أسلم أو مسلم وطئ بشبهة وذلك كأم هي أخت لأب بأن نكح المجوسي ابنته فولدت بنتا ثم نكح البنت الثانية فولدت ولدا فللولد الثالث الثانية أمه وأخته لأب والأولى جدته وأخته لأب.
مسألة : اختلفوا في ميراث ذوي الأرحام سوى أصحاب الفروض والعصبات بعد إجماعهم على عدم توريثهم مع أحد من أصحاب الفروض سوى الزوجين واحد من العصبات إلا ما روي عن سعيد بن المسيب إن الخال يرث مع البنت، فذهب أبو حنيفة وأحمد : إلى توريثهم وحكي عن علي وابن مسعود وابن عباس، وذهب مالك والشافعي إلى عدم توريثهم ويكون المال لبيت المال، قالوا : حكي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وزيد والزهري والأوزاعي وأفتى المتأخرون من الشافعية بتوريثهم لعدم انتظام أمر بيت المال والحجة لنا في توريث ذوي الأرحام قوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾٢ وقد ذكر البغوي عن أبي بكر أنه قال في خطبته : إنها نزلت في أولي الأرحام بعضها أولى ببعض، قالوا : لا دليل لكم في هذه الآية لأن الناس كانوا يتوارثون بالتبني كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وكانوا يتعاقدون في الجاهلية على أن الرجل يرث الرجل فأنزل الله تعالى ﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ دفعا لذلك وردا للمواريث إلى ذوي الأرحام وقال :﴿ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ﴾٣ والمراد بأولي الأرحام في الآية هم العصبات وأصحاب الفروض، قلنا : على تقدير تسليم نزول الآية لذلك العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب واللفظ عام شامل لأصحاب الفروض والعصبات وغيرهم، ولنا من الأحاديث حديث أمامة بن سهل أن رجلا رمي بسهم فقتله وليس له وراث إلا خال فكتب في ذلك أبو عبيدة إلى عمر فكتب عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الخال وارث من لا وارث له " ٤ رواه أحمد والبزار، وروى الطحاوي بلفظ " الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا ورث له " وحديث المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الخال وارث من لا ورث له يرثه ويعقل عنه " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه ابن حبان، وحكى ابن حاتم عن أبي زرعة أنه حديث حسن وأعله البيهقي بالاضطراب، ورواه الطحاوي بلفظ " من ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه، والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه " وفي رواية مثله إلا أنه قال :" أرثه وأفك عنانه، والخال وارث من لا وارث له يرث ماله يفك عنانه " قلت : معنى قوله عليه السلام :" أنا وارث من لا وارث له " إن من لا وارث له فماله لبيت المال والنبي صلى الله عليه وسلم كان متواليا لبيت المال وحديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الخال وارث من لا وارث له " رواه الترمذي والنسائي والطحاوي وأعله النسائي بالاضطراب ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه، وحديث واسع بن حبان قال : توفي ثابت بن الدحداح وكان آتيا وهو الذي ليس له أصل يعرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي :" هل تعرفون له فيكم نسبا ؟ قال : لا يا رسول الله فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا لبابة بن المنذر ابن أخته فأعطاه ميراثه " رواه الطحاوي، وروى الطحاوي آثار عمر بن الخطاب أنه جعل في العمة والخالة الثلثين للعمة والثلث للخالة الثلثان لقرابة الأب والثلث لقرابة الأم، احتجوا بحديث أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة، قال : لا أدري حتى يأتينا جبرائيل، ثم قال : أين السائل عن ميراث العمة والخالة ؟ قال : فأتى الرجل فقال :" سارني جبرائيل لا شيء لهما " رواه الدارقطني والحديث ضعيف، قال الدارقطني : لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف وضاع للحديث والصواب مرسل، وقال أحمد بن حنبل : حرقنا حديثه، ورواه الحاكم من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر وصححه وفي إسناده عبد الله بن جعفر المدني وهو ضعيف، وروى الحاكم له شاهدا من حديث شريك بن عبد الله أن الحارث بن أبي عبيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سئل عن ميراث العمة والخالة فذكره " وفيه سليمان بن داود متروك، وأخرجه الدارقطني من وجه آخر غير شريك مرسلا، وحديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار " أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله رجل هلك وترك عمته وخالته ؟ فسأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على حماره فوقف ثم رفع يديه وقال : اللهم رجل هلك وترك عمته وخالته فيسأله الرجل ويفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، ثم قال :" لا
١ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: البيع والشراء مع النساء (٢١٥٥) وأخرجه مسلم في كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق (١٥٠٥)..
٢ سورة الأنفال، الآية: ٧٥..
٣ سورة الأحزاب، الآية، ٥..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الخال (٢١٠٤) وقال: هو مرسل..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:﴿ تلك ﴾ الأحكام في أمر اليتامى والوصايا والمواريث ﴿ حدود الله ﴾ أي شرائعه التي لا يجوز التجاوز عنها ﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ١٣ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدين فيها وله عذاب مهين ١٤ ﴾ قرأ نافع وابن عامر ندخله في الموضعين بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة، وأفرد الضمير في يدخله في الموضعين نظرا إلى لفظه من، وخالدين وخالدا منصوبا على الحال وجمعه مرة وإفراده أخرى نظرا إلى لفظه من، ومعناه، ولا يجوز أن يكون خالدا صفة لنار وإلا لوجب إبراز الضمير لكونه جاريا على غير من هو له والله أعلم، ويذكر حكم بن الأعيان والعلات في آخر السورة ولنذكر هاهنا ما بقي من مسائل الفرائض إشباعا للمقام.
مسألة : أجمعوا على أنه إذا زادت الفرائض على سهام التركة دخل النقص على كل واحد منهم على قدر حصته، وتسمى المسألة عائلة أي مائلة عن مساواة التركة الأسهم بالتعارض وعدم الترجيح وبالقياس على الديون إذا زادت على التركة، وقد انعقد عليه الإجماع في زمن عمر رضي الله عنه حين ماتت امرأة عن زوج وأختين فجمع الصحابة فاستشارهم فقال : أرأيت لو مات رجل وترك ستة دراهم وعليه لرجل ثلاثة ولرجل أربعة أليس جعل المال سبعة أجزاء ؟ فأخذت الصحابة بقوله رضي الله عنهم، ثم خالف ابن عباس بعد موت عمر فأنكروه فقيل له ألا قلت ذلك في حضرة عمر ؟ فقال : هيبة – وكان مهيبا- فقيل له : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك منفردا. روى البيهقي عن ابن عباس فقال : ترون الذي أحصى رمل عالج عددا يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا إذا ذهب نصف ونصف المال فأين موضع الثلث ؟ فقيل له : من أول من عال الفرائض ؟ قال : عمر وذكر القصة، قال ابن عباس وايم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر ما عالت فريضة وكذا أخرج الحاكم، وفي رواية وأيها قدم الله ؟ قال : كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله، فالذي قدم كالزوجين والأم والذي أخر كالأخوات والبنات فإذا اجتمع من قدم الله ومن أحر بدئ بمن قدم فأعطى حقه كاملا فإن بقي شيء كان لهن وإن لم يبق شيء فلا شيء لهن، وتبع ابن عباس في هذا القول محمد بن الحنيفة.
مسألة : أجمعوا على أن ما أبقته أصحاب الفرائض فهو لأولى رجل ذكر لما مر من الحديث ويسمى ذلك الرجل عصبة ويرث ذلك الرجل جميع المال عند عدم ذي فرض وأقربهم إلى الميت الابن، ثم ابنه وإن سفل ثم الأب ثم أبوه وإن علا، ثم الأخ لأب وأم ثم الأخ لأب ثم ابن الأخ لأب وأم ثم ابن الأخ لأب وهكذا حكم من سفل منهما، ثم العم لأب وأم ثم لأب ثم ابنها هكذا وإن سفل كل منهما ثم عم الأب هكذا لأب وأم لأب ثم أبناؤهما وإن سفل هكذا وهكذا أعمام الأجداد إلى ما لا نهاية لها. عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعيان بني الأب والأم يتوارثون دون بني العلات، يرث الرجل أخوه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه " رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم، ولا خلاف في هذا إلا ما مر الخلاف في مقاسمة الأخوة للجد.
مسألة : أجمعوا على أن من حظه النصف والثلثان من النساء تصير عصبة مع أخيها لقوله تعالى :﴿ مثل حظ الأنثيين ﴾ في الأولاد والأخوة ومن ليس بأهل فرض من النساء وأخوه عصبة لا عصبة كالعمة وبنت الأخ.
مسألة : وآخر العصبات مولى العتاقة بالإجماع. روى البيهقي وعبد الرزاق أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل فقال إني اشتريته وأعتقته فما أمر ميراثه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن ترك عصبة فالعصبة أحق وإلا فالولاء لك " وفي الصحيحين :" إنما الولاء لمن أعتق " ١ ثم عصبات مولى العتاقة، ولا ولاء للنساء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن، روى النسائي وابن ماجه من حديث ابنة حمزة أن ابنة حمزة أعتقت فمات مولاها وترك ابنته مولاته يعني ابنة حمزة فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته النصف ولابنة حمزة النصف، وروى الدارقطني والطحاوي هذا الحديث مرسلا، وقال البيهقي : اتفق الرواة على أن ابنة حمزة هي المعتقة دون أبيها، وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقططني.
مسألة : وإن بقي شيء من أصحاب الفرائض وليست للميت عصبة يرد ذلك على أصحاب الفرائض بقدر حصصهم غير الزوجين عند أبي حنيفة وأحمد، وقال مالك والشافعي : لا يرد والباقي لبيت المال، وأفتى المتأخرون من أصحاب الشافعي بالرد على أصحاب الفرائض لعدم انتظام أمر بيت المال، نقل القاضي عبد الوهاب المالكي عن أبي الحسن أن الصحيح عن عثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود أنهم كانوا لا يورثون ذوي الأرحام ولا يردون على أحد من أصحاب الفرائض، وروى الطحاوي بسنده عن إبراهيم قال عمر وعبد الله يورثان الأرحام قال الراوي قلت : أفكان علي يفعل ذلك ؟ قال : كان أشدهم في ذلك. وروى بسنده من طريقين عن سويد بن غفلة أن رجلا مات وترك ابنة وامرأة ومولاة، قال سويد : إني لجالس عند علي إذ جاءه مثل هذه الفريضة فأعطى ابنته النصف وامرأته الثمن ثم رد ما بقي علي ابنته ولم يعط المولى شيئا، وروى عن أبي جعفر من طريقين كان علي رضي الله عنه يرد بقية المواريث على ذوي السهام من ذوي الأرحام. وروى الطحاوي بسنده عن مسروق قال : أتى عبد الله في أخوة لأم دام فأعطى الأخوة الثلث وأعطى الأم سائر المال وقال الأم عصبة من لا عصبة له وكان لا يرد على إخوة لأم مع الأم ولا على ابنة ابن مع ابنة الصلب ولا على أخوات لأب مع أخت لأب وأم ولا على امرأة ولا على جدة و لا على زوج، قال الطحاوي : النظر عندنا ما ذهب إليه علي رضي الله عنه دون ما ذهب إليه ابن مسعود أن يكون ذوو الفروض فيما يرد عليهم من فصول المواريث كذلك، وأن لا يقدم من قرب رحمه على من كان أبعد رحما من الميت بل يقسم بقدر حصصهم لأنا قد رأينا في فرائضهم التي فرض لهم قد ورثوا جميعا بأرحام مختلفة ولم يكن بعضهم بقرب رحمه أولى بالميراث ممن بعد رحمه وهذا هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
مسألة : أجمعوا على أنه عند اجتماع جهتي فرض وتعصيب يعتبر الجهتان جميعا فإذا ماتت عن أبناء عم ثلاثة أحدهم أخ لأم لها والآخر وزوج لها يعطى السدس لأحدهم بالأخوة والنصف للثاني بالزوجية والباقي بين الثلاثة بالعصبية، ويصح المسألة من ثمانية عشر خمسة منها للأول واحد عشر للثاني واثنان للثالث، واختلفوا فيما إذا اجتمع جهتا فرض ؟ فقال مالك والشافعي : يرث بأقواهما فقط، وعند أبي حنيفة وأحمد : يرث بهما جميعا وذا لا يتصور إلا في مجوسي نكح المحارم ثم أسلم أو مسلم وطئ بشبهة وذلك كأم هي أخت لأب بأن نكح المجوسي ابنته فولدت بنتا ثم نكح البنت الثانية فولدت ولدا فللولد الثالث الثانية أمه وأخته لأب والأولى جدته وأخته لأب.
مسألة : اختلفوا في ميراث ذوي الأرحام سوى أصحاب الفروض والعصبات بعد إجماعهم على عدم توريثهم مع أحد من أصحاب الفروض سوى الزوجين واحد من العصبات إلا ما روي عن سعيد بن المسيب إن الخال يرث مع البنت، فذهب أبو حنيفة وأحمد : إلى توريثهم وحكي عن علي وابن مسعود وابن عباس، وذهب مالك والشافعي إلى عدم توريثهم ويكون المال لبيت المال، قالوا : حكي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وزيد والزهري والأوزاعي وأفتى المتأخرون من الشافعية بتوريثهم لعدم انتظام أمر بيت المال والحجة لنا في توريث ذوي الأرحام قوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾٢ وقد ذكر البغوي عن أبي بكر أنه قال في خطبته : إنها نزلت في أولي الأرحام بعضها أولى ببعض، قالوا : لا دليل لكم في هذه الآية لأن الناس كانوا يتوارثون بالتبني كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وكانوا يتعاقدون في الجاهلية على أن الرجل يرث الرجل فأنزل الله تعالى ﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ دفعا لذلك وردا للمواريث إلى ذوي الأرحام وقال :﴿ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ﴾٣ والمراد بأولي الأرحام في الآية هم العصبات وأصحاب الفروض، قلنا : على تقدير تسليم نزول الآية لذلك العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب واللفظ عام شامل لأصحاب الفروض والعصبات وغيرهم، ولنا من الأحاديث حديث أمامة بن سهل أن رجلا رمي بسهم فقتله وليس له وراث إلا خال فكتب في ذلك أبو عبيدة إلى عمر فكتب عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الخال وارث من لا وارث له " ٤ رواه أحمد والبزار، وروى الطحاوي بلفظ " الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا ورث له " وحديث المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الخال وارث من لا ورث له يرثه ويعقل عنه " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه ابن حبان، وحكى ابن حاتم عن أبي زرعة أنه حديث حسن وأعله البيهقي بالاضطراب، ورواه الطحاوي بلفظ " من ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه، والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه " وفي رواية مثله إلا أنه قال :" أرثه وأفك عنانه، والخال وارث من لا وارث له يرث ماله يفك عنانه " قلت : معنى قوله عليه السلام :" أنا وارث من لا وارث له " إن من لا وارث له فماله لبيت المال والنبي صلى الله عليه وسلم كان متواليا لبيت المال وحديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الخال وارث من لا وارث له " رواه الترمذي والنسائي والطحاوي وأعله النسائي بالاضطراب ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه، وحديث واسع بن حبان قال : توفي ثابت بن الدحداح وكان آتيا وهو الذي ليس له أصل يعرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي :" هل تعرفون له فيكم نسبا ؟ قال : لا يا رسول الله فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا لبابة بن المنذر ابن أخته فأعطاه ميراثه " رواه الطحاوي، وروى الطحاوي آثار عمر بن الخطاب أنه جعل في العمة والخالة الثلثين للعمة والثلث للخالة الثلثان لقرابة الأب والثلث لقرابة الأم، احتجوا بحديث أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة، قال : لا أدري حتى يأتينا جبرائيل، ثم قال : أين السائل عن ميراث العمة والخالة ؟ قال : فأتى الرجل فقال :" سارني جبرائيل لا شيء لهما " رواه الدارقطني والحديث ضعيف، قال الدارقطني : لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف وضاع للحديث والصواب مرسل، وقال أحمد بن حنبل : حرقنا حديثه، ورواه الحاكم من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر وصححه وفي إسناده عبد الله بن جعفر المدني وهو ضعيف، وروى الحاكم له شاهدا من حديث شريك بن عبد الله أن الحارث بن أبي عبيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سئل عن ميراث العمة والخالة فذكره " وفيه سليمان بن داود متروك، وأخرجه الدارقطني من وجه آخر غير شريك مرسلا، وحديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار " أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله رجل هلك وترك عمته وخالته ؟ فسأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على حماره فوقف ثم رفع يديه وقال : اللهم رجل هلك وترك عمته وخالته فيسأله الرجل ويفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، ثم قال :" لا
١ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: البيع والشراء مع النساء (٢١٥٥) وأخرجه مسلم في كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق (١٥٠٥)..
٢ سورة الأنفال، الآية: ٧٥..
٣ سورة الأحزاب، الآية، ٥..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الخال (٢١٠٤) وقال: هو مرسل..

﴿ والتي يأتين الفاحشة ﴾ يعني الزنا، وهو يشتمل السحاقات أيضا لعموم اللفظ ويشتمل أيضا أن يأتي المرأة الأجنبية في دبرها ﴿ من نساءكم فاستشهدوا ﴾ يعني اطلبوا أيها الحكماء من قاذفيهن شهداء ﴿ عليهن ﴾ بأنا رأيناهن كالميل في المكحلة ﴿ أربعة منكم ﴾يعني رجالا أربعة من المؤمنين العدول فلا يجوز في الحدود شهادة النساء إجماعا ﴿ فإن شهدوا ﴾ يعني الأربعة ﴿ فأمسكوهن ﴾ فاحبسوهن ﴿ في البيوت ﴾ واجعلوها عليهن سجنا ﴿ حتى يتوفاهن ﴾ أي يستوفي أزواجهن ﴿ الموت ﴾ يعني ملائكة الموت ﴿ أو يجعل الله ﴾ قيل أو بمعنى إلى أن ﴿ لهن سبيلا ﴾ يعني حكما جاريا مشروعا، روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ١.
( فائدة ) : اختلفوا في أن الإمساك في البيت هل كان حدا فنسخ أم كان حبسا ليظهر الحد ؟ والصحيح عندي أنه لم ينسخ بل الله سبحانه أمر بالحبس إلى أن ينزل الحد فيجري عليه وبعد نزول الحد هذا الحكم باق حتى يقام عليه الحدّ، قال في الهداية : قال في الأصل يحبسه يعني الحاكم حتى يسأل يعني عدالة الشهود، وسنذكر مسائل حد الزنا في سورة النور إن شاء الله تعالى.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: حد الزنا (١٦٩٠)..
﴿ والذين ﴾ قرأ ابن كثير هنا وفي طه ( إن هذان ) وفي الحج ( هذان ) وفي القصص ( هاتين ) وفي فصلت ( أرنا الذين ) بتشديد النون وتمكين مد الألف قبلها في الخمسة والباقون بالتخفيف من غير تمكين ﴿ يأتيانها ﴾ يعني الفاحشة وهي الزنا أو اللواطة ﴿ منكم فآذوهما ﴾ والمراد باللذان عند الأكثر الزاني والزانية وبقوله تعالى :﴿ فآذوهما ﴾ قال عطاء وقتادة : فعيروهما باللسان أما خفت الله أما استحييت الله، وقال ابن عباس : هو باللسان واليد يؤذي بالتعبير وضرب النعال. وعلى تقدير كون المراد بهذه الآية الزاني والزانية يشكل أنه ذكر في الآية الأولى الحبس وذكر في هذه الآية الإيذاء فكيف الجمع ؟ فقيل : الآية الأولى في الثيب وهذه في البكر، وقيل : هذه الآية سابقة على الأولى نزولا كان عقوبة الزناة الأذى ثم الحبس ثم الجلد، والظاهر عندي أن المراد باللذان يأتيان الفاحشة الرجال الذين عملوا عمل قوم لوط وهو قول مجاهد وحينئذ لا إشكال. والإيذاء غير مقدر في الشرع فهو مفوض إلى رأي الإمام كذا قال أبو حنيفة رحمه الله يعزرهما الإمام على حسب ما يرى، ومن تعزيره إذا تكرر فيه الفعل والتعزير ولم ينزجر أن يقتل عند أبي حنيفة محصنا كان أو غير محصن سياسة، قال ابن همام : لا حدّ عليه عند أبي حنيفة لكنه يعزر ويسجن حتى يموت ولو اعتاد اللواطة قتله الإمام، وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد : اللواطة يوجب الحد، فقال مالك وأحمد في أظهر الروايتين وهو أحد أقوال الشافعي حده الرجم بكل حال ثيبا كان أو بكرا وفي قول للشافعي حده القتل بالسيف، وأرجح أقوال الشافعي وهو قول أبي يوسف ومحمد ورواية عن أحمد لأن حده حد الزنا يجلد البكر ويرجم المحصن لأنه في معنى الزنا لأنه قضاء شهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حراما لقصد سفح الماء بل هو أشد من الزنا لأن حرمته منتهية بالنكاح فيثبت فيه حكم الزنا بدلالة النص وبما روى البيهقي من حديث أبي موسى مرفوعا " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان " وفيه محمد بن عبد الرحمن القشيري كذّبه أبو حاتم، ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى وفيه البشر بن الفضل البجلي مجهول، وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه. ولأبي حنيفة أنه ليس بزنا لغة، ولذلك اختلفت الصحابة في موجبه وهو أندر من الزنا لعدم الداعي إليه من الجانبين فليس في معناه. ووجه قول من قال يقتل حدا حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ١ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن عكرمة عنه، قال الترمذي : إنما يعرف من حديث ابن عباس من هذا الوجه، وقال الحاكم : صحيح الإسناد، وقال البخاري : عمرو بن أبي عمر الراوي عن عكرمة صدوق لكنه روى عن عكرمة مناكير واستنكره النسائي، وقال : ليس بالقوي، وقال ابن معين : ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس هذه وقد أخرج له الجماعة، وأخرج الحاكم بطرق أخر وسكت عنه وتعقبه الذهبي بأن عبد الرحمن العمري ساقط، ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة وإسناده أضعف من الأول بكثير كذا قال الحافظ وقال حديث أبي هريرة لا يصح، وأخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري وعاصم متروك، وقد رواه ابن ماجه أيضا من طريقه بلفظ فارجموا الأعلى والأسفل، وقال ابن الصلاح في أحكامه لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم في اللواطة ولا أنه حكم به فيه وثبت عنه أنه قال :" اقتلوا الفاعل والمفعول " قال أبو حنيفة : ولما كان هذا الحديث بهذه المثابة من التردد لا يجوز به الإقدام على القتل مستمرا على أنه حد كيف ولا يجوز عندنا الزيادة على الكتاب بحديث الآحاد و وإن كان صحيحا وقد ثبت بالكتاب الإيذاء وهو التعزير. فإن قيل : كون الآية في اللواطة لم يثبت قطعا بل قال أكثر المفسرين أن المراد به الزنا والزانية ؟ قلنا : الآية تشملها لعموم لفظها وإن كانت واردة في الزناة لأن الفاحشة كما يطلق على الزنا يطلق على اللواطة أيضا قال الله تعالى في قوم لوط :﴿ أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾٢ وفي الباب عن الصحابة روايات مختلفة، روى البيهقي في شعب الإيمان من طريق ابن أبي الدنيا عن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر : أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر الصحابة فسألهم فكان أشدهم في ذلك قولا علي قال : هذا ذنب لم يعص به إلا أمة واحدة صنع الله به ما علمتم نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأي الصحابة على ذلك، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي عن ابن عباس قال : ينظر أعلى بناء في القرية فيرمي منه منكوسا ثم يتبع بالحجارة، وكان مأخذ هذا القول أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولا شك في اتباع الهديم بهم وهم نازلون، وذكر عن الزبير يحسبان في أنتن المواضع حتى يموتا وروي البيهقي عن علي من طرق أنه رجم لوطيا، ويجمع هذه الأقوال وحديث ابن عباس المرفوع وما في معناه أن الرجل إذا اعتاد باللواطة وتكرر منه الفعل ولم ينزجر بالتعزير يقتل بأي وجه كان ويدل على التكرار والاعتياد لفظ المرفوع " من وجدتم يعمل قوم لوط " ولم يقل من عمل عمل قوم لوط وبه قال أبو حنيفة والله أعلم.
﴿ فإن تابا ﴾ عن الفاحشة ﴿ وأصلحا ﴾ العمل فيما بعد ﴿ فأعرضوا عنهما ﴾ فاقطعوا عنهما الايذاء ﴿ إن الله كان توابا ﴾ التوبة في الأصل بمعنى الرجوع فهي من العبد الرجوع عن المعصية ومن الله تعالى الرجوع عن إرادة العذاب، أو هو من الله تعالى بمعنى قبول التوبة أو توفيق التوبة ﴿ رحيما ﴾ يرحم التائبين.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الحدود، باب: ما جاء في حد اللوطي (١٤٥٦) وأخرجه أبو داود في كتاب: الحدود، باب: فيمن عمل عمل قوم لوط (٤٤٥١) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الحدود، باب: من عمل عمل قوم لوط (٢٥٦١)..
٢ سورة الأعراف، الآية: ٨٠..
﴿ إنما التوبة ﴾ أي الرجوع عن إرادة العذاب بالمغفرة أو قبول التوبة ﴿ على الله ﴾ أي كالمتحتم عليه بمقتضى وعده ﴿ للذين يعملون السوء ﴾ متلبسين ﴿ بجهالة ﴾ قال البغوي : قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية جهالة عمدا كان أو لم يكن وكل من عصى الله فهو جاهل، وكذا أخرج ابن جرير عن أبي العالية، وقال الكلبي : لم يجهل أنه ذنب لكنه جهل عقوبته، وقيل : معنى الجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، قلت : معنى الجهالة ذهوله عن عذاب الله عند ثوران النفس وغلبته الشهوة البهيمية أو السبعية ﴿ ثم يتوبون من قريب ﴾ من للتبعيض أي يتوبون في أي جزء من الزمان القريب، قيل : معنى القريب قبل أن يحيط السوء بحسناته فحبطها، وقيل : قبل أن يتوب في قلوبهم حبه فيطبع عليها ويرين السوء على قلبه، وقال السدي والكلبي : القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته، والصحيح أن المراد به في حياته قبل حضور الموت ومعاينة ملائكة العذاب كذا قال عكرمة والضحاك ويدل عليه قوله تعالى :﴿ حتى إذا حضر أحدهم الموت ﴾ قوله عليه الصلاة والسلام :" إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " ١ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عمر والحديث صحيح، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الشيطان قال : وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بن آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال له ربه فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني " رواه أحمد وأبو يعلى، وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " ٢ رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه " ٣ رواه مسلم، سمى الله تعالى مدة العمر قريبا نظرا إلى ما بعده قال الله تعالى :﴿ قل متاع الدنيا قليل ﴾٤ ﴿ فأولئك يتوب الله عليهم ﴾ لاستحالة الخلف فيما وعد الله سبحانه وجعل على نفسه كالمتحتم، فهذه الجملة كالنتيجة لما سبق ﴿ وكان الله عليما ﴾ يعلم المخلص في التوبة ﴿ حكيما ﴾ لا يعاقب بعد التوبة.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة (٤٢٥٣)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة (٢٧٥٩)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه (٢٧٠٣)..
٤ سورة النساء، الآية: ٧٧..
﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت ﴾ وقع في النزع ورأى ملائكة العذاب ﴿ قال إني تبت الآن ﴾ يعني حين يساق روحه فحينئذ لا يقبل من كافر إيمان ولا من عاص توبة ﴿ ولا الذين يموتون ﴾ في موضع الجر بالعطف على الذين يعملون السيئات يعني ليست التوبة للذين يموتون ﴿ وهم كفار ﴾ حال من فاعل يموتون يعني لا يغفرهم الله ولا يرجع عن تعذيبهم أو لا يقبل توبتهم في الآخرة حين يقولون ﴿ ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ﴾١ أو لا يقبل توبتهم في الدنيا عن بعض المعاصي إذا ماتوا على الكفر بل يعذبون على الكفر وجميع المعاصي ﴿ أولئك اعتدنا ﴾ أي هيأنا من العتيد بمعنى الحاضر ﴿ لهم عذابا أليما ﴾ تأكيد لعدم قبول توبتهم.
١ سورة السجدة، الآية: ١٢..
روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : كان إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجوها وإن شاءوا زوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ﴾١ أي تأخذوهن كما يؤخذ الميراث وتزوجوهن كارهات أو مكروهات عليه. قرأ حمزة والكسائي كرها بضم الكاف هاهنا وفي التوبة والباقون بفتحها، قال الكسائي : هما لغتان، وقال الفراء : بالضم ما أكره وبالفتح ما كان من نفسه بالمشقة. قال البغوي : كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت كذا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : فنهوا عن ذلك، وزاد البغوي : فإن ماتت المرأة ورثها من ألقى عليها الثوب وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقى عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها، فكانوا على هذا حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية فقام ابن له من غيرها يقال : له حصن، وقال مقاتل ابن حبان : اسمه قيس بن أبي قيس فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفتدي منه، فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي، فقال :" اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله " فأنزل الله تعالى ﴿ لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ﴾ ﴿ ولا تعضلوهن ﴾ عطف على أن ترثوا منصوب بأن ولا لتأكيد النفي، وأصل العضل التضييق والمعنى ولا تمنعوهن من التزويج ﴿ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ﴾ من المهور، الخطاب للمؤمنين عامة وضمير لتذهبوا راجع إلى المخاطبين باعتبار بعض أفرادهم يعني أولياء الميت وضمير آتيتموهن باعتبار بعض آخر يعني الأزواج الأموات، والمعنى ولا تعضلوهن أيها الأولياء لتفتدين فتذهبوا ببعض ما آتاهن أزواجهن المتوفين من المهور، وقيل : الخطاب بالنهي عن توارث النساء والعضل مع الأزواج كانوا يحسبون النساء من غير حاجة ورغبة حتى يرثوا منهن أو يختلعن بمهورهن، والظاهر عندي أن الخطاب في ﴿ لا يحل لكم ﴾ مع الأولياء وتم الكلام بقوله كرها وهذا كلام مستأنف خطاب مع الأزواج خطاب مع الأزواج ولا تعضلوهن صيغة نهي مجزوم، قال البغوي : قال ابن عباس : هذا في الرجل يكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وترد إليه ما ساق إليها من المهر فنهى الله عن ذلك وعلى هذا فقوله تعالى :﴿ ولا تعضلوهن ﴾ معطوف على ﴿ لا يحل لكم ﴾ عطف الجملة على الجملة لا عطف المفرد. فإن قيل : يلزم عطف الإنشاء على الأخبار ؟ قلنا : قوله تعالى ﴿ لا يحل لكم ﴾ وإن كان إخبارا لفظا فهو إنشاء معنى ومعناه النهي عن ميراثهن وأيضا عطف الجملة على الجملة فيما لا محل لها من الإعراب مع اختلافهما خبرا وإنشاء جائز ﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ قرأ ابن كثير وأبو بكر مبينة هنا وفي الأحزاب والطلاق بفتح الياء والباقون بكسرها فيهن، والاستثناء في محل النصب على الظرفية أو على أنه مفعول له وعلى حال من مفعول ألا تعضلوهن تقديره لا تعضلوهن للافتداء في وقت إلا وقت أن يأتين بفاحشة، أو لا تعضلوهن لغرض الافتداء بسبب إلا لأن يأتين فاحشة. أو لا تعضلوهن للافتداء ولا لغير ذلك من علة إلا لأن يأتين أو في حال من الأحوال إلا حال أن يأتين بفاحشة والفاحشة قال ابن مسعود وقتادة : هي النشوز، وقال الحسن : هو الزنا يعني أن المرأة إذا نشزت أو زنت حل للزوج أن يسألها الخلع وقد ذكرنا مسائل الخلع في سورة البقرة. وقال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحدود ﴿ وعاشروهن بالمعروف ﴾ بالإنصاف في الفعل وأداء الحقوق والإحسان في القول، عطف لا تعضلوا أو على لا يحل لكم، وقال الحسن : رجع إلى أول الكلام يعني ﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ﴾٢ و﴿ وعاشروهن بالمعروف ﴾٣ ﴿ فإن كرهتموهن ﴾ لسوء المنظر أو سوء الأخلاق فاصبروا عليهن ولا تفارقوهن ولا تضاروهن ﴿ فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه ﴾ في ذلك الشيء ﴿ خيرا كثيرا ﴾ يعني ثوابا جزيلا وولدا صالحا، جملة عسى مع فاعله في الأصل علة لجزاء الشرط أقيم مقام الجزاء وفاعل عسى مجموع المعطوف والمعطوف عليه ومناط الرجاء هو المعطوف فقط، والمعنى الخير مرجو عند الكراهية.
١ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: ﴿لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها﴾ (٤٥٧٩). وأخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في قوله تعالى: ﴿لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن﴾ (٢٠٩٠)..
٢ سورة النساء، الآية: ٤..
٣ سورة النساء، الآية: ١٩..
﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ﴾ يعني تطليق امرأة من غير نشوز من قبلها ولا فاحشة وتزوج امرأة أخرى مكانها ﴿ وآتيتم إحداهن ﴾ الضمير راجع إلى زوج لأنه أراد به الجمع فإنه جنس يطلق على الواحد والجمع ولولا إرادة الجمع لما استقام المقابلة بجماعة الرجال وانقسام الآحاد على الآحاد، وفي آتيتم حذف مضاف تقديره وآتى أحدكم إحداهن يعني التي يريد أحدكم طلاقها ﴿ قنطارا ﴾ أي مالا كثيرا صداقا. أخرج ابن جرير عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آتيتم إحداهن قنطارا قال :" ألفا ومائتين " ومن هاهنا يظهر أنه لا تقدير لأكثر الصداق وعليه انعقد الإجماع، وبهذه الآية استدلت امرأة على جواز المغالاة في المهر حين منع عنها عمر فقال عمر : كل أفقه من عمر : حتى المخدرات. والمستجيب إجماعا أن لا يغالى فيه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولادكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ما عملت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثني عشر أوقية١ رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والد ارمي وروى ابن حبان في صحيحه والخطابي عن ابن عباس قال : قال رسول لله صلى الله عليه وسلم :" خير النساء أيسرهم صداقا " وروى ابن حبان عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال :" من يمن المرأة سهل أمرها وقلة صداقها " وروى أحمد والبيهقي " أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا " وإسناده جيد. وعن أبي سلمة قال : سألت عائشة كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان صداقه لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونش، قالت : أتدري ما النش ؟ قلت : لا قالت : نصف أوقية٢ رواه مسلم. فتلك خمسمائة درهم هذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه لكن أم حبيبة أصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم٣ رواه أبو داود والنسائي، وقال ابن إسحاق عن أبي جعفر أصدقها أربعة مائة دينار، وفي خلاصة السير في نكاح خديجة أصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشر أوقية من ذهب والأوقية من الذهب سبعة مثاقيل، وروى أحمد وأبو داود عن عائشة أن جويرية وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له فتخلصها ثابت من ابن عمه بنخلات بالمدينة وكاتبها فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان من كتابتها وتزوجها وكان ذلك مهرا لها.
وفي سبيل الرشاد : أن ثابت بن قيس وابن عم له كاتبا جويرية على تسع أواق من ذهب ﴿ فلا تأخذوا منه ﴾ أي من القنطار ﴿ شيئا أتأخذونه ﴾ استفهام إنكار وتوبيخ ﴿ بهتانا وإثما مبينا ﴾ منصوبان على الحال أو على العلة يعني تأخذونه باهتين وإثمين أو بسبب بهتانكم وارتكابكم الإثم، والبهتان الباطل من القول : وقد يستعمل في الفعل الباطل وهو المراد هاهنا ولذا فسر هاهنا بالظلم، وقيل : كان الرجل إذا أراد نكاح جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجتها إلى الافتداء.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في مهور النساء (١١١٣)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير (١٤٢٦)..
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: الصداق (٢١٠٩)..
﴿ وكيف تأخذونه ﴾ استفهام الإنكار عن الاسترداد بعد التقرر ووجوب الأداء والحال أنه ﴿ وقد أفضى بعضكم إلى بعض ﴾ يعني أفضتم إليهن، قال الشافعي يعني دخلتم بهن فإن الإفضاء عنده كناية عن الجماع، ومن ثم قال الشافعي في أظهر قوليه : لا يتقرر المهر بالخلوة بدون الوطء فإن طلقها قبل الوطء بعد الخلوة الصحيحة التي لا مانع فيها من الوطء طبعا ولا شرعا يجب نصف المهر عنده، وقالوا أبو حنيفة وأحمد : يستقر المهر بالخلوة الصحيحة وإن لم يطأ. ومعنى الإفضاء الدخول في الفضاء والفضاء في اللغة الصحراء والمرء هاهنا المكان الخالي، وقال مالك : إن خلا بها أو طالت مدة الخلوة استقر المهر وإن لم يطأ، وحد ابن القاسم الخلوة بالعام. واحتج الشافعي على وجوب نصف المهر بعد الخلوة قبل الوطء بقوله تعالى :﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ﴾١ قلنا : المجاز في قوله :﴿ من قبل أن تمسوهن ﴾ متحتم لأن المس ليس حقيقة بمعنى الجماع فالقول بأنه في معنى الجماع تسمية الأخص باسم الأعم ليس أولى من القول بأنه مجاز عن الخلوة لأن الخلوة سبب للمس والمس غاية لها فهو من تسمية السبب باسم المسبب. ولنا : اتفاق الصدر الأول على وجوب كمال المهر بالخلوة سواء وطئ بها أو لا كذا نقل الشيخ أبو بكر الرازي في أحكامه، وحكى الطحاوي فيه إجماع الصحابة، وقال ابن المنذر هو قول عمر وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وجابر ومعاذ بن جبل وأبي هريرة، روى البيهقي عن الأحنف عن عمر وعلي أنهما قالا إذا أغلق بابا وأرخى سترا فلها الصداق كاملا وعليها العدة وفيه انقطاع، وفي الموطأ عن يحيى ابن سعيد عن سعيد بن المسيّب أن عمر قال : إذا أرخت الستور فقد وجب الصداق، وروى عبد الرزاق في مصنفه عن أبي هريرة قال : قال عمر نحوه، وروى الدراقطني عن علي : إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب عليه الصداق، وروى أبو عبيد في كتاب النكاح من رواية زرارة بن أبي أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون إذا أغلق الباب وأرخى الستر فقد وجب الصداق والعدة، وروى الدارقطني في الباب حديثا مرفوعا عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كشف خمار امرأة ونظر إليها فقد وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل " وفي إسناده ابن لهيعة ضعيف لكن قال ابن الجوزي ابن لهيعة قد روى عنه العلماء، وأخرجه أبو داود في المراسيل عن ابن ثوبان ورجاله ثقات والمرسل عندنا حجة وقد روي عن ابن مسعود وابن عباس كمذهب الشافعي لكن لم يصح، روى البيهقي عن الشعبي عن ابن مسعود فيمن خلا بامرأة ولم يحصل وطء لها نصف الصداق وهو منقطع، وروى الشافعي عن ابن عباس مثله وفي إسناده ضعف، وأخرجه ابن أبي شيبة عنه من وجه آخر وكذا البيهقي ﴿ وأخذن منكم ميثاقا غليظا ﴾ عهدا وثيقا، عطف على أفضى، قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة : هو قول الولي عند العقد زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقال الشعبي وعكرمة : هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى " ٢ رواه مسلم من حديث جابر، وروى ابن جرير من حديث ابن عمر نحوه، يعني أوثق الله عليكم لهن فكأنهن أخذن الميثاق.
١ سورة البقرة، الآية: ٢٣٧..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (١٢١٨)..
أخرج ابن أبي سعد عن محمد بن كعب القرظي قال : كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه أو ينكحها من شاء، فلما مات أبو قيس بن سلمة قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم يورثها من المال شيئا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال :" ارجعي لعل ينزل فيك شيء " ورواه ابن أبي حاتم والفريابي والطبراني عن عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار نحوه بلفظ توفي أبو قيس بن الأسلمة وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأته، فقالت : إنما أعدّك ولدا وأنت من صالحي قومك فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال :" ارجعي إلى بيتك " فنزلت ﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباءكم ﴾ ما موصولة يعني التي نكحها آباؤكم وإنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة، وقيل ما مصدرية بمعنى المفعول ﴿ من النساء ﴾ بيان ما نكح على الوجهين، وفائدة البيان مع ظهور أن منكوحات الآباء لا تكون إلا من النساء التعميم ﴿ إلا ما قد سلف ﴾ الظاهر أن الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف فإنه لا مؤاخذة عليه، وقيل استثناء من المعنى اللازم للنهي كأنه قيل تعذبون بنكاح ما نكح آباؤكم إلا بما قد سلف ﴿ إنه كان فاحشة ﴾ يعني أقبح المعاصي عند الله لم يرخص فيه لأمة من الأمم ﴿ ومقتا ﴾ ممقوتا لله وعند ذي المروت كان العرب يقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت وكان منهم الأشعت بن قيس وأبو معيط عمرو بن أمية، والمقت أشد البغض ﴿ وساء سبيلا ﴾ سبيل من يفعله. عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : مر بي خالي ومعه لواء فقلت : أين تذهب ؟ قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج بامرأة أبيه آتيه برأسه " ١ رواه الترمذي وأبو داود، وفي رواية له وللنسائي وابن ماجه والدرامي فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله، وفي هذه الرواية قال : مر بي عمي بدل خالي. ( فائدة ) : المراد بالآباء الأصول بعموم المجاز إجماعا حتى يحرم منكوحة الجد وإن علا سواء كان الجد من قبل الأب أو من قبل الأم. والنكاح قيل : معناه الوطء حقيقة كذا قال ابن الجوزي في التحقيق، وبناء على هذا احتج بهذه الآية على ثبوت حرمة المصاهرة في الزنا ومعنى الآية على هذا لا تطؤا موطوءات الآباء سواء كان الوطء بنكاح صحيح أو فاسد ملك يمين أو بشبهة أو بزنا، وفي القاموس النكاح الوطء والعقد وهذه العبارة تفيد الاشتراك، وفي الصحاح أصل النكاح العقد ثم استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباحهم تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستقبحونه بما يستحسنوه قال الله تعالى :﴿ وانكحوا الأيامى منك ﴾٢ إلى غير ذلك من الآيات، والصحيح عندي أن المراد بالنكاح في هذه الآية العقد دون الجماع للإجماع، على أن منكوحة الأب التي وقع عليها عقد النكاح ولم يطأها يحرم على الابن لا خلاف في ذلك وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا مختلف فيه، فحمل الآية على معنى يوجب حكما مجمعا عليه أولى من خلاف ذلك. فإن قيل : إذا أريد بالنكاح في الآية العقد فما وجه القول بتحريم موطوءة الأب بملك اليمين مع أن حرمتها أيضا مجمع عليه ؟ قلنا : وجه ذلك دلالة النص فإن المقصود من النكاح إنما هو الوطء وهو سبب للجزئية فإذا كان النكاح الذي هو سبب للوطء الحلال موجبا لحرمة المصاهرة كان الوطء الحلال موجبا لها بالطريق الأولى.
مسألة : الزنا لا يوجب حرمته المصاهرة عند الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة وأحمد لوجب وهي رواية عن مالك، وزاد أحمد عليه فقال : إذا أتى رجل امرأة في دبرها أو أتى رجلا في دبره حرمت على الوطء أم المفعول به وبنته رجلا كان أو امرأة، وقد ذكرنا أن الاستدلال على حرمة المصاهرة بهذه الآية ضعيف فالأولى الاستدلال عليه بالقياس على الوطء الحلال لأن علة التحريم كون الوطء سببا للولد ووصف الحل ملغاة شرعا بأن وطء الأمة المشتركة وجارية الابن والمكاتبة والمظاهر منها وأمة المجوسية والحائض والنفساء ووطء المحرم والصائم فإن كله حرام ويثبت به حرمة المصاهرة إجماعا فعلم أن المعتبر في الأصل هو ذات الوطء من غير نظر لكونه حلالا أو حراما، قال ابن همام : قد روى أصحابنا فيه أحاديث منها قال رجل : يا رسول الله إني زنيت بامرأة في الجاهلية أفأنكح ابنتها. قال :" لا أدري ذلك ولا يصلح أن تنكح امرأة تطلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها " وهو مرسل منقطع، وفيه أبو بكر بن عبد الرحمن بن ابنة حكيم، ومن طريق ابن وهب عن أبي أيوب عن ابن جريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يتزوج المرأة فيغمز لا يزيد على ذلك :" لا يتزوج ابنتها " وهو مرسل منقطع إلا أن هذا لا يقدح عندنا إذا كانت الرجال ثقات انتهى كلامه. احتج الشافعي بحديثين : أحدهما حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الحرام لا يفسد الحلال " رواه الدارقطني وفيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، قال يحيى بن معين ليس بشيء كان يكذب ضعفه ابن المديني جدا، وقال البخاري والنسائي والرازي وأبو داود ليس بشيء وقال الدارقطني متروك، وقال ابن حبان : كان يروي عن الثقات الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به، ثانيهما حديث ابن عمر نحو حديث عائشة رواه الدارقطني وابن ماجه وفيه عبد الله ابن عمر أخو عبيد الله، قال ابن حبان : فحش خطؤه فاستحق الترك وفيه إسحاق بن محمد العروي، قال يحيى : ليس بشيء كذاب وقال البخاري تركوه.
مسألة : ابن المزينة يحرم عليه منكوحة أبيه الزاني كما يحرم بنت المزنية على أبيها الزاني لأنهما ابنه وابنته حقيقة لغة والخطاب إنما هو باللغة العربية ما لم يثبت نقل كلفظ الصلاة ونحوه فيصير منقولا شرعيا، وكذا إذا لاعن رجل آمراته بنفي نسب ابنه وابنته فنفى القاضي نسبهما من الأب وألحقهما بالأم لا يجوز لابن الملاعنة أن ينكح منكوحة الملاعن ولا للملاعن أن ينكح ابنة الملاعنة لأنه يحتمل أن يكذب الملاعن نفسه ويدعيها فيثبت نسبهما منه.
مسألة : مس الرجل امرأة والمرأة رجلا بشهوة له حكم الوطء عند أبي حنيفة في وجوب حرمة المصاهرة وكذا نظره إلى فرجها الداخل ونظرها إلى ذكره بشهوة يوجب حرمة وجوب المصاهرة عنده، ولو مس فأنزل أو نظر إلى فرجها فأنزل أو أولج امرأة في دبرها فأنزل قيل يوجب حرمة المصاهرة عنده والصحيح أنه لا يوجب الحرمة عنده أيضا وعند الأئمة الثلاثة المس والنظر لا يوجبان الحرمة، وجه قول أبي حنيفة أن المس والنظر سببان داعيان إلى الوطء فيقامان مقامه في موضع الاحتياط وإذا أنزل لم يبق داعيا إلى الوطء والمس بشهوة إن ينتشر الآلة أو يزداد انتشار هو الصحيح.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الأحكام، باب: فيمن تزوج امرأة أبيه (١٣٦٢)..
٢ سورة النور، الآية: ٣٢..
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ يعني أصولكم على عموم المجاز، وقيل الأم يطلق على الأصل لغة حقيقة في القاموس أم كل شيء أصله ومنه أم القرى مكة، وأم الكتاب الفاتحة أو اللوح المحفوظ فيشتمل الجدات من قبل الأب أو الأم وإن علوان إجماعا ﴿ وبناتكم ﴾ يعيي فروعكم كذلك على عموم المجاز فيشتمل بنات الابن وبنات البنت وإن سفلن إجماعا ﴿ وأخواتكم ﴾ تعم ما كانت منها لأب أو لأم أولهما ﴿ وعماتكم وخالاتكم ﴾ تعم أخوات الأب لأحد الأبوين أولهما وأخوات الأم لأحد الأبوين أولهما وتلحق بهن إجماعا عمات الأب وعمات الأم وخالاتهما والعمات والخالات للجد والجدة وغن علون سواء كن من قبل الأب أو من قبل الأم، وسواء كن أخت أبيه أو أمه أو جده أو جدته لأحد الأبوين أولهما كأن المراد بهما على عموم المجاز الفرع القريب للأصل البعيد، ويحل الفرع البعيد للأصل البعيد إجماعا كبنت العم أو العمة أو الخال أو الخالة ﴿ وبنات الأخ وبنات الأخت ﴾ يعني فروع الخ والأخت بناتهما وبنات أبنائهما وبنات بناتهما وإن سفلن سواء كان الأخ والأخت لأبوين أو لأحدهما، ذكر الله سبحانه المحرمات من النسب سبعا ويؤل أمرهن إلى أربعة أصناف أصله وفرعه وفرع أصله القريب وإن بعد والفرع القريب للأصل البعيد وأخضر من ذلك أن يقال يحرم النكاح بين الشخصين أن يكون بينهما ولأداء يكون أحدهما فرعا لأحد أبوي الآخر ﴿ وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ﴾ وكذا العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت من الرضاعة إجماعا على حسب ما فصلناه في النسب لقوله صلى الله عليه وسلم :" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ١ ويروي " ما يحرم من الولادة " متفق عليه من حديث عائشة، وعن علي أنه قال : يا رسول الله هل لك في بنت عمك حمزة فإنها أجمل فتاة في قريش ؟ فقال له :" أما علمت أن حمزة أخي من الرضاعة وإن الله حرم من الرضاعة مال حرم من النسب٢ رواه مسلم، وعن عائشة قالت : جاء عمي من الرضاعة فاستأذن علي، فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال :" إنه عمك فأذني له " قالت : فقلت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنه عمك فيلج عليك " وذلك بعدما ضرب علينا الحجاب " ٣ متفق عليه، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، فقالت عائشة : قلت يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أراه فلانا " لعم حفصة من الرضاع، فقلت : يا رسول الله لو كان فلان حيا لعمها من الرضاعة أدخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نعم إن الرضاعة يحرم ما يحرم من الولادة " رواه البغوي.
فائدة : احتج أبو حنيفة ومالك بهذه الآية وبقوله عليه السلام مطلقا :" يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " على أن الرضاعة قل أو أكثر يحرم ما يحرم من النسب وهو أحد أقوال أحمد، وقال الشافعي : لا يحرم إلا خمس رضعات مشبعات في خمس أوقات جائعات متفاصلات عرفا وهو القول الثاني لأحمد، وعن أحمد ثلاث رضعات وبه قال أبو ثور وابن المنذر وداود وأبو عبيد. وجه التقدير بثلاث حديث ابن الزبير عن عائشة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا تحرم المصة والمصتان " ٤ وعن أم الفضل مرفوعا بلفظ " لا يحرم الرضعة أو الرضعتان " وفي رواية أخرى عنها " لا يحرم الإملاجة والإملاجتان " ٥ وفيه قصة، وهذه الروايات رواها مسلم وكذا روى أحمد والنسائي وابن حبان والترمذي من حديث ابن الزبير عن أبيه عائشة وأعله الطبري بالاضطراب لما روي عن ابن الزبير عن أبيه وعنه عن عائشة وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وجمع ابن حبان بإمكان أن ابن الزبير سمع من كل منهم، وقال البخاري الصحيح عن ابن الزبير عن عائشة وذكر الزبير تفرد به محمد بن دينار وفيه ضعف واختلاف وإسقاط عائشة في بعض الروايات إرسال ولا بأس، ورواه النسائي من حديث أبي هريرة وقال ابن عبد البر : لا يصح مرفوعا، قالوا : ثبت بهذا الحديث أن الرضعة والرضعتان لا تحرمان فبقي التحريم في ثلاث رضعات. ووجه القول بالخمس حديث عائشة قالت : كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخ بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن " ٦ رواه مسلم، ورواه الترمذي بلفظ أنزل في القرآن عشر رضعات فنسخ من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، قلنا : حديث الآحاد لا يعارض نص الكتاب المتواتر وعند التعارض يقدم التحريم احتياطا، وأيضا حديث عائشة كان فيما أنزل من القرآن الحديث وإن كان صحيحا سندا لكنه متروك لانقطاعه باطنا فإنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهي فيما يقرأ مع أنه ليس كذلك قطعا وإلا ثبت قول الروافض ذهب كثير من القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول كفر لاستلزامه إنكار قوله تعالى :﴿ وإنا له لحافظون ﴾٧ والتأويل بأن معنى قولها توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني قارب الوفاة، يقتضي نسخ الخمس قبيل الوفاة كما نسخ العشر قبل ذلك وهو الصحيح، قال ابن عباس حين قيل له إن الناس يقولون الرضعة لا يحرم قال كان ذلك ثم نسخ، وعن ابن مسعود : آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيره يحرم، وروي عن ابن عمر أن القليل يحرم، وعنه قيل له ابن الزبير يقول : لا بأس بالرضعة والرضعتين فقال قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير قال الله تعالى :﴿ وأمهاتكم التي أرضعناكم ﴾٨ والتأويل بأن معناه توفي صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ تعني حكمها فيما يقرأ غير مرضى لأن القراءة إنما يتعلق باللفظ دون الحكم.
مسألة : أجمعوا على أن الرضاع بعد مدة الرضاع لا يوجب التحريم لأنه لا يحصل التوليد والنمو بالرضاع إلا في المدة فلا يطلق بعد تلك المدة على المرضعة أما، وقال داود يوجب التحريم أبدا لحديث عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال صلى الله عليه وسلم :" أرضعي سالما خمسا تحرمي عليه " ٩ رواه الشافعي ورواه مسلم وغيره بغير ذكر العدد، والجواب : أن الإجماع يدل على كون الحديث منسوخا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام " ١٠ رواه الترمذي من حديث أبو سلمة وقال : حديث صحيح، وعنه عليه السلام :" لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت للحم وأنشز العظم " ١١ رواه أبو داود من حديث ابن مسعود، وفي الصحيحين عن عائشة قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال : يا عائشة من هذا ؟ قالت : أخي من الرضاعة، قال :" يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة " ١٢.
مسألة : مدة الرضاع التي يوجب فيها التحريم سنتان وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد ومالك وسعيد بن المسيب وعروة والشعبي وهو المروي عن عمر وابن عباس رواهما الدارقطني، وعن علي وابن مسعود أخرجهما ابن أبي شيبة وفي رواية عن مالك سنتان، وشهر وفي أخرى عنه سنتان وشهران وفي أخرى عنه ما دام محتاجا إلى اللبن، وقال أبو حنيفة سنتان وستة أشهر، وقال زفر ثلاث سنين. لنا : قوله تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾١٣ جعل الله تعالى التمام بهما ولا مزيد على التمام وقوله تعالى :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾١٤ وأدنى مدة الحمل ستة أشهر فبقي للفصال سنتان وقوله تعالى :﴿ وفصاله في عامين ﴾١٥ وقوله صلى الله عليه وسلم :" لا رضاع إلا ما كان في الحولين " رواه الدارقطني من حديث ابن عباس وقال : تفرد برفعة الهيثم بن جميل وكان ثقة حافظا وكذا وثقه أحمد والعجلي، وقال ابن عدي : كان يغلط، ورواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة فوقفه. وجه قول أبي حنيفة أنه تعالى قال :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكان لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين على شخصين إلا أنه قام المنقص في مدة الحمل قول عائشة الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكه مغزل، وفي رواية ولو بقدر ظل مغزل وشله. لا يقال إلا سماعا لأن المقدرات لا تدرك بالرأي فبقي مدة الفصال على الظاهر وهذا ليس بشيء بوجوه : أحدها إن جعل قول عائشة منقصا لمدة الحمل ليس أولى من جعل قوله عليه السلام :" لا رضاع بعد حولين " وقوله تعالى :﴿ يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ منقصا لمدة الرضاع، ثانيهما : أنه يلزم حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ ثلاثين شهرا حيث أيد به باعتبار الحمل أربعة وعشرون شهرا وباعتبار الفصال ثلاثون، ثالثها : أنه يلزم من هذا التأويل استعمال ثلاثين في أربعة وعشرين وباعتبار الحمل مع أنه لا يتجوز بشيء من أسماء العدد في الآخر نص عليه كثير من المحققين لأنها بمنزلة الأعلام في مسمياتها، وذكر لقول أبي حنيفة وغيره وجه آخر أنه لا بد من تغيير الغذاء لينقطع الإثبات باللبن وذلك بزيادة مدة يتعود الصبي فيها بغيره ولم يجد ذلك الزيادة مالك، وحده زفر بحول لأنه يشتمل على فصول أربعة وقدره أبو حنيفة بستة أشهر لأنه أدنى مدة الحمل نظر ا إلى غذاء الجنين يغاير غذاء الرضيع، قلنا : إن الشرع لم يحرم إطعام الرضيع غير اللبن قبل الحولين ليلزم اعتباة زيادة مدة التعود على الحولين فجاز أن يتعود بالطعام مع اللبن قبل الحولين وهو مختار ابن همام والطحاوي.
﴿ وأمهات نسائكم ﴾ اشتملت كلمة الأمهات الجدات سواء كن من قبل الأب أو الأم قريبة كانت أو بعيدة، والتحقت بهن بالحديث أمهاتهن وجداتهن من الرضاع، والتحقت بالنساء الموطوات بملك اليمين أو بشبهة إجماعا والموطوات بالزنا عند أبي حنيفة رحمه الله وكذا الأجنبية الملموسة بشهوة عنده ﴿ وربائبكم ﴾ جمع ربيبة، والربيب ولد المرأة من غيره سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر فعيل بمعنى المفعول وإنما لحقته التاء أنه صار اسما، ويشتمل الربائب بعموم المجاز أو بالقياس بنات أبناء الزوجات وبنات بناتهن وإن سفلن وبنات الموطوءات بملك يمين أو بشبهة ولو بواسطة أو وسائط إجماعا وبنات المزينات وإن سفلن عند أبي حنيفة ﴿ التي في حجوركم ﴾ هذه الصفة خارجة مخرج العادة لا مفهوم لها إجماعا، وقال داود : لا يحرم من الربائب إلا اللاتي في حجورهم كذا روى عبد الرزاق وابن أبي حاتم بسند صحيح عن علي رضي الله عنه فالمراد بالإجماع الإجماع بعد القرن الأول. ﴿ من نسائكم التي دخلتم بهن ﴾ الموصول مع الصلة صفة لنسائكم مقيدة لها إجماعا، ولا يجوز أن يكون صفة للنساءين لأن عامليهما مختلفان ولا يجتمع عاملان على معمول واحد إلا في رواية عن الفراء وقوله :﴿ من نسائكم ﴾ ظرف مستقر جاز كونها صلة للموصول الأول ويكون قوله :﴿ في حجوركم ﴾ متعلقا به، وجاز كونها منصوبا على الحالية من الضمير في حجوركم، والأظهر انه حال من ربائبكم وعلى تقدير كونه حالا من ربائبكم لا يجوز تعليقها بالأمهات أيضا لأن كلمة من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية و
١ أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم (٢٦٤٥).
وأخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة (١٤٤٧)..

٢ أخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: تحريم ابنة الابن من الرضاعة (١٤٤٧)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح: باب: ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع (٥٠٩٩). وأخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل (١٤٤٥)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: في المصة والمصتان (١٤٥٠) وأخرجه النسائي في كتاب: النكاح، باب: القدر الذي يحرم في الرضاعة (٣٣٠٠) وأخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: هل يحرم ما دون خمس رضعات (٢٠٦٥). وأخرجه الترمذي في كتاب: الرضاع، باب: ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان (١١٥٠)..
٥ أخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: في المصة والمصتان (١٤٥١)..
٦ أخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات (١٤٥٢)..
٧ سورة الحجر، الآية: ٩..
٨ سورة النساء، الآية: ٢٣..
٩ أخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: رضاع الكبير (١٤٥٣).
أخرجه الشافعي في الباب الرابع فيما جاء في الرضاع (٧٠)..

١٠ أخرجه الترمذي في كتاب: الرضاع، باب: ما جاء أن ذكر الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين (١١٥٢)..
١١ أخرجه أبو داود في كتاب: الرضاع، باب: في رضاعة الكبير (٢٠٦٣)..
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم (٢٦٤٧). وأخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: إنما الرضاعة من المجاعة (١٤٥٥)..
١٣ سورة البقرة، الآية: ٢٣٣..
١٤ سورة الأحقاف، الآية: ١٥..
١٥ سورة لقمان، الآية: ١٤..
﴿ والمحصنات من النساء ﴾ عطف على أمهاتكم يعني حرمت عليكم المحصنات من النساء أي ذوات الأزواج لا يحل للغير نكاحهن ما لم يمت زوجها أو يطلقها وتنقضي عدتها من الوفاة أو الطلاق سميت المتزوجات محصنات لأنه أحصنهن التزويج أو الأزواج، قال البغوي : قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : نزلت في نسائكن يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فنهى الله المسلمين عن نكاحهن، قلت : لعل المراد من الحديث أن المرأة المهاجرة إذا كان زوجها مسلما لا يحل نكاحها وإن كان في دار الحرب لعدم اختلاف الدين حقيقة والدار حكما وأما إذا أسلمت وهاجرت وزوجها كافة في دار الحرب فنكاحها حلال لقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ﴾ ﴿ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ ولا جناح عليكم أن تنكحوهن ﴾١ لكن عند أبي حنيفة وصاحبيه تقع الفرقة بينها وبين زوجها بمجرد الخروج من دار الحرب لاختلاف الدارين حقيقة وحكما ولا عدة عليها بعد الفرقة عنده وعندها عليها العدة، وعند مالك والشافعي وأحمد يقع الفرقة بعد ثلاث حيض من وقت إسلامها إن دخل بها وإن لم يدخل بها فمن وقت إسلامها ولا أثر عندهم لاختلاف الدارين ﴿ إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ قال عطاء : أراد بهذه الاستثناء أن تكون أمته في نكاح عبده فيجوز له أن ينزعها منه وهذا القول مردود بالإجماع، والصحيح ما روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا سبايا من سبي أوطاس لهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن، ولهن أزواج فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ يقول : إلا ما أفاء الله عليكم فاستحللتم بها فروجهن " ٢.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : نزلت يوم حنين لما فتح الله حنينا أصاب المسلمون نساء من نساء أهل الكتاب لهن أزواج وكان الرجل إذا أراد أن يأتي المرأة قالت : إن لي زوجا، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزلت هذه الآية. فهذه الآية تدل على أن المرأة إذا سبيت مع زوجها أو بدونه وقعت الفرقة بينها وبين زوجها ويحل لمن ملكها وطيها بعد الاستبراء لما روي أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى يوم أوطاس :" ألا لا تنكح الحبالي حتى يضعن حملهن ولا الحيالي حتى يحضن " ٣ رواه ( ). وكذا يحل المالك تزويجها لغيره وظهر أن السبي يوجب الصفا للسابي في كل البضع كما يوجب الصفا في ملك الرقبة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، قالوا : إن سبايا أوطاس سبين مع أزواجهن، وقال أبو حنيفة : لا يقع الفرقة بالسبي إلا إذا سبى أحد الزوجين بدون الآخر، فإن الموجب المفرقة عنده اختلاف الدارين حقيقة وحكما دون السبي. قالت الحنفية : إن اختلاف الدارين لا ينتظم مصالح النكاح فشابه المحرمية، والسبي يوجب الصفا فير ملك الرقبة دون ملك البضع لعدم الاستلزام بينهما، وهذا استدلال في مقابلة النص.
قال ابن همام : روي في سبايا أوطاس أن النساء سبين وحدهن، ورواية الترمذي تفيد ذلك، روي عن أبي سعيد قال :" أصبنا سبايا أوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " ٤
قلت : وليس في لفظ الترمذي ما يدل قطعا أنهن كلهن سبين بغير أزواج، والظاهر فيه قول الشافعي، ولو صح أنهن سبين كلهن بغير أزواج فالعبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب، وقد ذكر الله سبحانه الاستثناء من ذوات الأزواج بعنوان ملك اليمين لا بعنوان اختلاف الدارين. وقالت الحنفية : الآية ليست على عمومها إجماعا، فإن مقتضى اللفظ حل المملوكة مطلقا سواء ملكت بالسبي أو الشراء أو الإرث أو نحو ذلك، ولا شك أن المشتراة المتزوجة خارجة عن هذا الحكم إجماعا، فخصصنا عنها المسبية مع زوجها أيضا.
قلت : لابد لتخصيص العلم وإن كان ظنيا من دليل شرعي نص أو إجماع أو قياس، ولا يجوز التخصيص بالرأي، على أن الإجماع على كون الأمة المشتراة المتزوجة خارجة عن هذا الحكم ممنوع.
قال البغوي : قال ابن مسعود : أراد الله تعالى بهذه الآية أن الجارية المتزوجة إذا بيعت يقع الفرقة بينها وبين زوجها ويكون بيعها طلاقا، رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وعبد بن حميد عنه.
قلت : يمكن أن يقال المراد بالمحصنات الحرائر ذوات الأزواج، والتحق بهن بالقياس الإماء ذوات الأزواج، فمعنى الآية ﴿ حرمت عليكم ﴾ الحرائر ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي والاستيلاء عليهن، فحينئذ لا يحتاج إلى تخصيص المملوكة بالشراء أو الإرث من حكم الحل، لأن قبل الشراء ليست من المحصنات بل من المملوكات بخلاف المسبية، فإنها كانت قبل السبي حرة.
﴿ كتاب الله عليكم ﴾ مصدر مؤكد أي كتب الله عليكم كتابا تحريم من ذكرن أخرج ابن جرير من طريق عبيدة عن عمر بن الخطاب في قوله تعالى :﴿ كتاب الله عليكم ﴾ قال : الأربع، وابن المنذر من طريق ابن جريح عن ابن عباس قال : واحدة إلى أربع في النكاح.
﴿ وأحل لكم ﴾ قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص على البناء للمفعول، والباقون على البناء للفاعل، وضمير الفاعل راجع إلى الله تعالى في كتاب الله، معطوف على حرمت أو على فعل مضمر الذي نصب كتاب الله.
فإن قيل : العطف يقتضي المشاركة وجملة كتاب الله مؤكد لما سبق من التحريم، فما وجه مشاركة هذه الجملة معها في التوكيد ؟ قلنا : تحليل ما وراء ذلك يؤكد تحريم ذلك. فإن قيل : على تقدير العطف على حرمت، أي نكتة في إيراد حرمت مجهولا وأحل معروفا على قراءة الجمهور ؟ قلنا : التحليل إنعام بخلاف التحريم، فصرح بإسناد الإنعام إلى ذاته دون إسناد التحريم.
﴿ ما وراء ذلكم ﴾ يعني ما سوى المحرمات المذكورات في الآيات السابقة، وخص عنه بالسنة والإجماع والقياس ما ذكرنا من المحرمات في الشرح، وما فوق الأربع من النساء.
﴿ أن تبتغوا ﴾ أي : تبتغوهن، يعني ما وراء ذلكم من النساء، ﴿ بأموالكم ﴾ بنكاح أو باشتراء، ﴿ محصنين ﴾ حال من فاعل تبتغوا، أي : حال كونكم متعففين فإن العفة تحصين الفرج عن الفاحشة، والنفس عن اللوم والعقاب، ﴿ غير مسافحين ﴾ حال بعد حال، والسفاح الزنا من السفح وهو صب المني، فإنه الغرض منه دون بقاء النسل.
وقوله :﴿ أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ﴾ بدل اشتمال من قوله :﴿ ما وراء ذلكم ﴾، كان المقصود بإسناد الحل إلى ما وراء ذلكم ليس إلا ابتغاءهن بالأموال حلالا، فإن النساء ما وراء المحرمات المذكورات لا تحل لأحد مطلقا، بل مقيدا بنكاح صحيح أو بملك يمين، وهو المراد بالابتغاء بالأموال، كما أن في قولك : أعجبني زيد علمه، ليس المقصود بالإسناد ذات زيد بل علمه، وجاز أن يكون قوله :﴿ أن تبتغوا ﴾ متعلقا بقوله :﴿ أحل لكم ﴾ بتقدير الباء، يعني ﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم ﴾ بنكاح أو باشتراء، فعلى هذا يظهر أن المهر من لوازم النكاح لتقييد الإحلال به، ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ﴾٥ لدلالته على أن النكاح بلا مهر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وكان القياس عدم صحة النكاح عند انعدام التسمية، لكنا تركنا القياس لقوله تعالى :﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ﴾٦ فإنها تدل على صحة النكاح بغير التسمية، فقلنا : إن المهر من لوازم النكاح وأحكامه، وليس من شرائطه ذكره، وعليه انعقد الإجماع، لكن عند الشافعي إن تزوج ولم يسم لها مهرا، أو تزوج على أن لا مهر لها ومات عنها قبل أن يدخل بها لا يجب لها المهر، وعند الجمهور يجب لها مهر المثل كما يجب بالدخول إجماعا. لنا : عن المهر وجب حقا للشرع لما ذكرنا من تقييد الحل بالابتغاء بالأموال، ولأن الباء للإلصاق، فالله سبحانه أحل الابتغاء ملصقا بالمال، فالقول بتراخيه إلى وجود الوطء كما قاله الشافعي في المفوضة ترك العمل بمضمون الباء، ولحديث علقمة أنه سئل ابن مسعود عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها شيئا ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود : لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط، عليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت ففرح بها ابن مسعود " ٧ رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارمي، قال البيهقي جميع روايات هذا الحديث وأسانيدها صحاح.
فإن قيل : لو كان المهر من لوازم النكاح لزم ثبوته في المفوضة إن طلقت قبل الدخول أيضا، ولم يقل به أحد غير أحمد في بعض الروايات عنه، حيث قال : يجب نصف مهر المثل، والأصح عنه كقول الجمهور أنه لا يجب، قلنا : المتعة لها عوض عن نصف المهر، ولذا قلنا بوجوب المتعة لها.
مسألة : اختلفوا فيما إذا تزوج بشرط أن لا مهرا لها ؟ فقال مالك : لا يصح هذا النكاح لأنه عقد معاوضة كالبيع، والبيع بشرط أن لا ثمن لا يصح إجماعا فكذا النكاح، قلنا : ليس النكاح عقد معاوضة وإنما وجب المهر حكما شرعا إظهارا لشرف المحل، ولو كان عقد معاوضة كالبيع لما صح النكاح عند ترك التسمية كما لا يصح البيع عند ترك ذكر الثمن، فالشرط بأن لا مهر شرط فاسد وبه لا يفسد النكاح ويلغو الشرط، والثمن ركن في البيع لا يصح البيع بدونه فافترقا.
( فائدة ) : هذه الآية تقتضي أن المهر لا بد أن يكون مالا لأن الحل مقيد بالابتغاء بالأموال، والمنافع المعلومة ملحق بالأموال شرعا، ولذا جازت الإجارة بالنصوص والإجماع مع أنها بيع المنافع، وكان القياس يأبى عن جوازها لأن المعقود عليه وهي المنفعة ليست بمال، وأيضا هي معدومة، وإضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح، لكن الشرع اعتبرها مالا وجوز الإجارة لكان الحاجة، وأقام ما ينتفع به أعني الدار مثلا في إجارة الدار مقام المنفعة، في حق إضافة العقد واعتبار وجوده، ولما ظهر كون المنافع ملحقا بالأموال، جاز أن ينكح على سكن داره وخدمة عبده وركوب دابته والحمل عليها وزراعة أرضه ونحوها من منافع الأعيان مدة معلومة، لأن الحاجة إلى النكاح متحقق كالحاجة إلى الاستئجار، وإمكان الدفع ثابت بتسليم محالها، فصار هو ابتغاء بالمال.
مسألة : ولو نكح أن يخدمها بنفسه سنة ؟ قال محمد : يجب قيمة الخدمة لأن المسمى يلحق بالأموال، إلا أن خدمة الزوج للزوجة تناقض مقتضى عقد النكاح، لأن مقتضاه المالكية، والخدمة من مقتضيات المملوكية، فإذا عجز عن تسليم المسمى وجب قيمته، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجب مهر المثل لأن اعتبار المنافع مالا إنما كان عند إمكان التسليم، فإذا امتنع للمناقضة لم يعتبر مالا فلم يصح فوجب مهر المثل.
مسألة : ولو نكح على خدمة حر آخر يصح، ويجب على الزوج قيمة الخدمة اتفاقا إن لم يرض ذلك الرجل أو كانت الخدمة تستدعي مخالطتها مع رجل أجنبي.
مسألة : ولو نكح أن يرعى الزوج غنمها أو يزرع أرضها لم يجز في رواية لأنه من باب الخدمة، والصحيح أنه جاز ذلك لأنه لم يتمحض لها خدمة إذ العادة اشتراك الزوجين في القيام على مصالح مالهما، ويدل على صحته قصة موسى وشعيب عليهما السلام من
١ سورة الممتحنة، الآية: ١٠..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسبي الأمة ولها زوج هل يحل له أن يطأها (١١٣٢).
= وأخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في وطء السبايا (٢١٥٦) وأخرجه النسائي في كتاب: النكاح، باب: في تأويل قول الله عز وجل (٣٣٢٤) وأخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: جواز وطء المسبية بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج انفسخ نكاحها بالسبي (١٤٥٦)..

٣ قال في نصب الراية: أخرج بمعناه أبو داود، والحاكم في المستدرك. انظر نصب الراية الجزء الرابع / كتاب الكراهية / فصل في الاستبراء..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسبي الأمة ولها زوج هل يحل له أن يطأها (١١٣٢)..
٥ سورة الأحزاب، الآية: ٥٠..
٦ سورة البقرة، الآية: ٢٣٦..
٧ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها (١١٤٥).
وأخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات (٢١١٥). وأخرجه النسائي في كتاب، النكاح، باب: إباحة التزويج بغير صداق (٣٣٤٥)..

﴿ ومن لم يستطع منكم طولا ﴾ الطوْل والطائل والطائلة الفضل والقدرة والغناء والسعة كذا في القاموس، ومعناه هاهنا الاستطاعة وهي القدرة، فهو منصوب على المصدرية ﴿ أن ينكح ﴾ منصوب على أنه مفعول به، يعني من لم يستطع منكم استطاعة أن ينكح وجاز أن يكون طولا مفعولا به ومعناه الاعتلاء وهو يلازم الفضل والغناء وأن ينكح منصوبا بنزع الخافض متعلق بطولا يعني من لم يستطع منكم أن يعتلى ويرتفع إلى أن ينكح، وجاز أن يكون طولا على علة للاستطاعة المنفية وأن ينكح مفعولا به للمنفي يعني ومن لم يستطع منكم بسبب الغناء أن ينكح، وجاز أن يكون طولا بمعنى الغناء وأن ينكح متعلقا بفعل مقدر صفة لطولا يعني من لم يستطع منكم غنى يبلغ به أن ينكح ﴿ المحصنات ﴾ أي الحرائر، سميت محصنات لكونهن ممنوعات عن ذل الرق ﴿ المؤمنات فمن ما ملكت ﴾ تقديره فلينكح امرأة كائنة مما ملكته ﴿ أيمانكم ﴾ يعني إيمان بعض منكم، يعني من إماء غيركم فإن النكاح بمملوكة نفسه لا يجوز لعدم الحاجة إلى نكاحها كائنة ﴿ من فتياتكم المؤمنات ﴾ احتج الشافعي مالك وأحمد بهذه الآية على تحريم نكاح الأمة عند طول الحرة وتحريم نكاح الأمة الكتابية مطلقا لأن الأمر المقدر أعني فلينكح للإباحة فإباحة نكاح الأمة مشروطة بشرط عدم طول الحرة وبشرط إيمانها، لأن الوصف ملحق بالشرط وعدم الشرط يوجب نفي الحكم وإذا انتفى الإباحة ثبت التحريم، وهذا القول مروي عن جابر وابن مسعود. روى البيهقي من طريق أبي الزبير أنه سمع جابرا يقول : لا ينكح الأمة، على الحرة وينكح الحرة على الأمة، ومن وجد صداق حرة فلا ينكح أمة أبدا " وإسناده صحيح، وروى ابن المننذر عن ابن مسعود قال : إنما أحل الله نكاح الإماء لمن لم يستطع طولا وخشى العنت على نفسه، قالت الحنفية. أولا : بأن الاستدلال بمفهوم المخالفة غير صحيح عندنا وعدم الشرط لا يوجب نفي الحكم لأن أقصى مراتب الشرط أن يكون علة وعدم العلة لا يوجب عدم المعلول لجواز وجوده بعلة أخرى، فالتعليق بالشرط والتقيد بالوصف إنما يوجب وجود الحكم على تقدير الشرط والوصف وتقدير عدم الشرط والوصف مسكوت عنه فإن ثبت الحكم على ذلك التقدير بعلة أخرى فذاك وإلا فيعدم الحكم عدما أصليا لا حكما شرعيا، وفيما نحن فيه إباحة نكاح الإماء مطلقا مؤمنة كانت أو كتابية سواء كان الزوج قادرا على نكاح الحرة أو لم يكن ثابت بعموم قوله تعالى :﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾١ وقوله تعالى :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾٢. وثانيا : بأن الاستدلال بالمفهوم عند القائلين به مشروط بأن لا يكون التقييد خارجا مخرج العادة ولا يتصور من التقييد فائدة غير الاحتراز، وهاهنا جاز أن يكون الكلام خارجا مخرج العادة، فإن العادة أن الرجل الحر لا يرغب إلى نكاح الأمة إلا عند عدم طول الحرة والمسلم لا يرضى بالمعاشرة مع الكافرة ولأجل ذلك قيد المحصنات بالمؤمنات وليس ذلك القيد للاحتراز إجماعا، ومن ثم قال الشافعي : لا يجوز نكاح الأمة مع طول الحرة الكتابية أيضا وجاز أن يكون التقييد لبيان الأفضل، وثالثا : بأنا لو سلمنا إفادة المفهوم نفي الإباحة فنفي الإباحة لا يستلزم ثبوت الحرمة بل قد يكون في ضمن الكراهة ونحن نقول بالكراهة كما صرح في البدائع ووجه كراهة نكاح الأمة الكتابية بل الحرة الكتابية أيضا استلزامه موالاة الكفار وقد نهينا عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لم نر المتحابين مثل النكاح " ٣ رواه ابن ماجه عن ابن عباس، وقال الله تعالى :﴿ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ﴾٤ وقال :﴿ لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ﴾٥ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنكح المرأة لأربع : لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " ٦ متفق عليه من حديث أبي هريرة، ولمسلم عن جابر " إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك " ورواه الحاكم وابن حبان من حديث أبي سعيد وابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث عبد الله بن عمر ونحوه، ووجه كراهة نكاح الإماء أنها توجب إرقاق الولد والرق موت حكما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم " ٧ رواه أبو داود والحاكم وصححه البيهقي عن عائشة.
﴿ والله أعلم بإيمانكم ﴾ والتفاضل إنما هو بالإيمان والأعمال ﴿ بعضكم من بعض ﴾ يعني بعضكم من جنس بعض الأحرار والأرقاء كلهم من نفس واحدة آدم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم وآدم منم تراب " ٨ رواه الترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة، روى أحمد والبيهقي عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد، كلكم بنو آدم، وطف الصاع بالصاع لم تملؤه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى، كفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا " فهذان الجملتان لتأنيس الناس لنكاح الإماء ومنعهم عن الاستكناف منهن " ﴿ فانكحوهن ﴾ أي الفتيات المؤمنات ﴿ بإذن أهلهن ﴾ يعني أربابهن الضمير راجع إلى الفتيات والمراد بها الإماء وهي تعم القنة والمكاتبة والمدبرة وأم الولد والأمر هاهنا للوجوب والإيجابه راجع إلى القيد يعني لا يجوز نكاح الإماء إلا بإذن سيدها وكذا العبد ولذلك ذكر صيغة فانكحوهن ولم يكتف بأن يقول ﴿ فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ ﴿ بإذن أهلهن ﴾ أن الأمر هناك للإباحة وهاهنا للوجوب، ولا يجوز الجمع بين معنى الإيجاب والإباحة في صيغة واحدة، وعدم جواز نكاح الرقيق بلا إذن السيد أمر مجمع عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " ٩ رواه أبو داود والترمذي من حديث جابر وقال : حديث حسن، في السنن أيضا عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم :" إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل ".
مسألة : اختلفوا فيما أن نكاح الرقيق بغير إذن السيد هل ينعقد ويتوقف نفاده على إذن المولى أم لا ينعقد أصلا ؟ فقال أبو حنيفة ومالك وهي رواية عن أحمد : أنه ينعقد موقوفا، وقال الشافعي : لا ينعقد أصلا. للجمهور : أن العبد يتصرف بأهليته وإنما يشترط إذن المولى لفوات حقه في الوطء في الأمة وشغل الذمة بالمهر في العبد وفي الآية إنما اعتبر إذن المولى دون عقده وللشافعي قوله صلى الله عليه وسلم :" فنكاحه باطل " وأن الباء في الآية للإلصاق فلا بد أن يكون الإذن ملاصقا بالنكاح فلا يتوقف على إذن متأخر ﴿ وآتوهن أجورهن ﴾ قال مالك بظاهر هذه الآية، أن المهر للأمة وعند الجمهور مهرها ملك لسيدها لأنها مملوكة ملحقة بالجمادات لا يتصور كونها مالكة، وقالوا في تأويل الآية آتوهن مهورهن بإذن أهلهن فحذف ذلك لتقدم ذكره أو المعنى آتو مواليهن فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد ضرورة دينية، وفي هذين التأويلين ضعف لأن العطف لا يقتضي مشاركة المعطوف والمعطوف عليه في القيد المتأخر وإنما الاشتراك فيما تقدم ولا بد لحذف المضاف من دليل ولا بد من نكتة لاختيار آتوهن على آتوهم مع سبق ذكر الأهل، قال المحقق التفتازاني : النكتة تأكيد إيجاب المهور والإشعار بأنها أجور الأبضاع ومن هذه الجهة يسلم المهر إليهن وإنما يأخذ الموالي من جهة ملك اليمين، والأقرب أن يقال أن الأمة مالكة للمهر يدا كالعبد المأذون والإذن في النكاح كالإذن في التجارة فيجب التسليم إليهن، ولك أن تحمل أجورهن على نفقاتهن فتستغني عن اعتبار الإذن ﴿ بالمعروف ﴾ يعني بلا مطل ونقصان، ويمكن أن يقال المراد بالمعروف إتياءهن بإذن أهلهن فإن الإيتاء بغير إذن أهلهن منكر شرعا ﴿ محصنات ﴾ عفيفات ﴿ غير مسافحات ﴾ زانيات جهارا ﴿ ولا متخذات أخدان ﴾ أحباب يزنون بهن سرا، قال الحسن : المسافحة هي أن كل من دعاها تبعته وذات خدن أن تختص بواحد لا تزني إلا معه والعرب كانوا يحرمون الأولى ويجوزون الثانية قوله :﴿ غير مسافحات ولا متخذان أخذان ﴾ بيان لمحصنات وقوله محصنات حال من مفعول فانكحوهن وآتوهن على سبيل التنازع، وقيل : نكاحهن بالإحصان لبيان الأفضل عند أبي حنيفة والشافعي، وقال أحمد : لا يجوز النكاح مع الزانية حرة كانت أو أمة حتى تتوب حيث قال الله تعالى :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ﴾١٠ وسنذكر تفسيرها في سورة النور إن شاء الله تعالى، وقال مالك : يكره التزويج بالزانية مطلقا وقيد إيتاء المهر بالإحصان إنما جاء بناء على تقييد النكاح به لأن النكاح إذا كان في حالة الإحصان كان الأداء أيضا في تلك الحالة غالبا نظرا على استصحاب الحال فلا يرد أن وجوب أداء المهر غير مقيد بالعفة إجماعا.
﴿ فإذا أحصن ﴾ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بفتح الألف والصاد على البناء للفاعل أي حفظن فروجهن بالتزويج، وقرأ الآخرون بضم الألف وكسر الصاد على البناء للمفعول أي حفظهن أزواجهن. والإحصان في اللغة المنع، وجاء في القرآن بمعنى الحرية والعفة والزواج والإسلام يعتبر في كل مقام ما يناسبه وفي كل منها نوع من المنع، والمراد هاهنا التزويج لأن الكلام في الأمة المسلمة والعفة تنافي قوله تعالى :﴿ فإن أتين بفاحشة ﴾ يعني الزنا ﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات ﴾ يعني الحرائر أي الأبكار منهم، ولا يجوز أن يراد بها المتزوجات من الحرائر لأن حدهن الرجم وذا لا يتصور التنصيف فيه ﴿ من العذاب ﴾ يعني الحد.
مسألة : وحد الزنا في الحر رجلا كان أو امرأة مائة جلدة إن كان غير محصين عند أبي حنيفة رحمه الله لقوله تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾١١ وعند الشافعي وأحمد مائة جلدة وتغريب عام، وقال مالك إنما التغريب في الرجال دون النساء والدليل على إثبات التغريب في الجلد ما ذكرنا من حديث عبادة بن الصامت :" البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " ١٢ رواه مسلم، وقد مر. وعن زيد بن خالد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة، وتغريب عام " ١٣ رواه البخاري، قال مالك والبكر لا يشتمل المرأة فلا يثبت التغريب في النساء وهذا ليس بشيء فإن سياق الحديث بالبكر " ١٤ الحديث، وعدم شمول البكر المرأة ممنوع كيف وقد قال عليه السلام :" البكر تستأذن " ١٥ وكلمة من زنى في حديث زيد عام في الذكر والأنثى، وقال أبو حنيفة هذه زيادة على الكتاب لا يجوز بخبر الآحاد وسنذكر زيادة البحث في هذا الباب في سورة النور إن شاء الله تعالى
مسألة : وحد الرقيق رجلا كان أو امرأة متزوجا كان أو غير متزوج خمسون سوطا عند الأئمة والأربعة، أما الأمة فبعبارة هذا النص، وأما العبد فبدلالة النص بطريق المساواة ولا تغريب على الرقيق عند الأئمة الثلاثة وأحد قولي الشافعي إنه يغرب نصف عام، وقال أبو ثور : يرجم الحصن يعني المتزوج من الأرقاء، وهذه الآية حجة للجمهور عليه لأنها تدل على نصف حد الأحرار وذا لا يتصور إلا في الجلد وأما الرجم فلا يقبل التصنيف، وذهب ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أنه لا حد على غير المتزوجة من الأرقاء عملا بمفهوم الشرط من هذه الآية ومفهوم الشرط غير معتبر عند أبي حنيفة، وعند
١ سورة النساء، الآية: ٣..
٢ سورة النساء، الآية: ٢٤..
٣ أخرجه ابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل النكاح (١٨٤٧) وفي الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات..
٤ سورة المائدة، الآية: ٥١..
٥ سورة الممتحنة، الآية: ١٣..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين (٥٠٩٠) وأخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين (١٤٦٦)..
٧ أخرجه ابن ماجه في كتاب: النكاح، باب: الأكفاء (١٩٦٨) في الزوائد: في إسناده الحارث بن عمران المديني، قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي والحديث الذي رواه لا أصل له بمعنى هذا الحديث عن الثقات، وقال الدارقطني: متروك..
٨ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الحجرات (٣٢٧٠)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح، باب: ما جاء في نكاح العبد بغير إذن سيده (١١١١) وأخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في نكاح العبد بغير إذن مواليه (٢٠٧٩)..
١٠ سورة النور، الآية: ٣..
١١ سورة النور، الآية: ٢..
١٢ أخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: حد الزنا (١٦٩٠)..
١٣ أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات، باب: شهادة القاذف والسارق والزاني (٢٦٤٩)..
١٤ أخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: حد الزنا (١٦٩٠)..
١٥ أخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (١٤٢١)..
﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ أي لأن يبين لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم، واللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال أو يقال للتعليل ﴿ ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾ وهذه الآية دليل على أن شرائع من قبلنا ما لم يظهر كونها منسوخة في شريعتنا واجب علينا إتيانها إذا أثبت عندنا بالكتاب والسنة، ولا عبرة لرواية اليهود فإنهم كفار متهمون إلا إذا روى منهم مثل عبد الرحمن بن سلام وكعب الأحبار بعد إيمانه ﴿ ويتوب عليكم ﴾ ويغفر لكم ذنوبكم التي ارتكبتموها قبل بيانها، وقيل يوفقكم للتوبة أو الإتيان ما يكفر سيئاتكم ﴿ والله عليم ﴾ بالمصالح ﴿ حكيم ﴾ في وضعها.
﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ كرره للتأكيد والمبالغة ﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات ﴾ يعني الفجار فأما من وضع شهوته فيما أمر به الشرع فهو متبع للشرع دون الشهوة، وقيل المراد بهم الزناة، وقيل المجوس حيث يحلون المحارم، وقيل اليهود فإنهم يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ والأخت ﴿ أن تميلوا ميلا عظيما ﴾ عن الحق، يعني مستحلين الحرام فإنه أعظم ميلا إلى الباطل من اقتراف الذنب مع الاعتقاد بحرمته.
﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾ ولذلك شرع لكم الشريعة الحنيفة السمحة السهلة وأحل بعض ما كان محرما على من قبلكم. أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر في التفسير عن مجاهد قال : مما وسع الله به على هذه الأمة نكاح الأمة والنصرانية واليهودية، وذكر في المدارك هذا القول لابن عباس ﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ لا يصبر عن الشهوات ولا يتحمل مشاق الطاعات، وكلما كان الزمان أقرب إلى الساعة ازداد فيهم الضعف ولهذا خفف الله عن هذه الأمة.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم ﴾ يعني لا يأكل أحد منكم مال غيره من المسلمين ومن تبعهم من أهل الذمة ولا بأس بأكل مال الحربي الغير المعاهد من غير عذر ﴿ بالباطل ﴾ أي بوجه ممنوع شرعا كالغضب والسرقة والخيانة والقمار والربا والعقود الفاسدة ﴿ إلا أن تكون تجارة ﴾ قرأ الكوفيون بالنصب على أنه خبر لتكون واسمه مضمر تقديره إلا أن تكون جهة الأكل تجارة، والباقون بالرفع بالفاعلية وتكون تامة والاستثناء منقطع يعني لكن كلوا وقت كون وجه الأكل تجارة، أو وقت كون التجارة الصادرة ﴿ عن تراض منكم ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنما البيع عن تراض " ١ رواه ابن ماجه وابن المنذر عن أبي سعيد أي من المعطي والعاطي أو المعنى لكن اقصدوا كون وجه الأكل تجارة أو كون تجارة، والتجارة البيع بالتكلم أو بالتعاطي وهو مبادلة المال بالمال، والإجارة يعني مبادلة المال بالمنافع المعلومة خص التجارة بالذكر من الوجوه التي بها يحل أخذ المال من الغير كأنها أغلب وأطيب. عن رافع ابن خديج قال : قيل يا رسول الله أي الكسب أطيب ؟ قال :" عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور " ٢ رواه أحمد، وعن المقدام بن كعب بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يديه وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يديه " ٣ رواه البخاري، وعن عائشة " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم " ٤ رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه. وهذه الآية لا تدل على نفي غير التجارة من الوجوه كالمهر والهبة والصدقة والعارية وغير ذلك، لأنها ليست من الباطل بل هي ثابتة بالنصوص الشرعية. احتج الحنفية بهذه الآية على أنه لا خيار في المجلس لأحد المتبايعين بعد الإيجاب والقبول وبه قال زمالك لأنها تدل على جواز الأكل بالتجارة عن تراض وإن كان قبل افتراقهما عن المجلس وجواز الأكل مبني على تمام البيع وتمام البيع يقتضي عدم بقاء الخيار لأحدهما، وقال الشافعي وأحمد : لكل واحد منهما الخيار معا لم يتفرقا عن المجلس لحديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المتبايعان كل واحد بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار " ٥ متفق عليه، عن حكيم بن حزام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " ٦ متفق عليه. قالت الحنفية : هذه أحاديث لا يجوز العمل بها على خلاف مقتضى الكتاب ومقتضى الكتاب عدم بقاء الخيار كما ذكرنا، وهذه الأحاديث محمولة على خيار القبول وفيه إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه والمراد بالتفرق تفرق الأقوال كذا في الهداية، قال ابن همام كون تفرق الأقوال مرادا بالتفرق كثير في الشرع والعرف قال الله تعال :﴿ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ٤ ﴾٧ قلت : والصحيح عندي أن الآية تدل على جواز الأكل ونمام البيع قبل الافتراق من المجلس لكن لا يدل على نفي ولاية الفسخ عنهما، فالأولى أن يقال بثبوت خيار المجلس للمتعاقدين كما أثبت أبو حنيفة خيار الرؤية وخيار العيب بعد تمام البيع كيلا يلزم ترك العمل بالحديث الصحيح، وما قالوا إنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها ممنوع بل قبل قبول الآخر إنما هو بائع واحد لا متبايعان وبعد الإيجاب والقبول ما دام المجلس باقيا حالة المباشرة قائم عرفا وشرعا لأن ساعات المجلس كلها تعتبر ساعة واحدة فهما متبايعان ما دام المجلس باقيا حقيقة، والقول بأن المراد بالتفرق والتفرق في الأقوال قول بالمجاز مع إمكان الحقيقة، على أن بعض ألفاظ الحديث يأبي عن هذا التأويل فإنه روى مسلم حديث ابن عمر بلفظ :" إذا تبايع المتبايعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا " ٨ فإن كلمة الفاء في قوله فكل واحد منهما بالخيار تدل على تعقيب الخيار عن التبايع، وعن عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله " ٩ رواه الترمذي و أبو داود والنسائي، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يتفرقن اثنان إلا عن تراض " ١٠ رواه أبو داود، عن جابر أن رسول الله صلى الله عنه وسلم :" خيّر أعربيا بعد البيع " ١١ رواه الترمذي وقال : هذا حديث صحيح غريب، فإن هذه الأحاديث صريحة في جواز الإقالة بعد البيع قبل الافتراق عن المجلس والله أعلم.
﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ قيل : معناه لا يقتل أحدكم نفسه. عن ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة " رواه البغوي من طريق الشافعي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " ١٢ رواه البخاري ومسلم والترمذي بتقديم وتأخير والنسائي ولأبي داود " ومن جشأ سما فسمه بيده يتجشأه في نار جهنم " وعن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" جرح من رجل فيمن كان قبلكم أراب فجزع منه فأخرج سكينا فجر بها يده فمارقأ الدم حتى مات فقال الله عز وجل : بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة " ١٣ رواه البغوي، وروى أبو داود وابن حبان والحاكم في صحيحه عن عمرو بن العاص أنه تأوّل هذه الآية في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : احتلمت في ليلة باردة وأنا في غزوة ذات السلاسل فأشفقت لي إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب " فقلت : فإني سمعت الله عز وجل يقول :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقول شيئا " ١٤ وقال الحسن وعكرمة وعطاء وبن أبي رباح والسدي : معناه. لا تقتلوا إخوانكم كما قوله تعالى :﴿ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ﴾١٥ يعني إخوانكم في الدين وقتل المسلم من أعظم الكبائر بعد الشرك، عن جربر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " استنصت الناس " ثم قال :" لا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ١٦ رواه البخاري، وقيل : معناه لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل وهذا يحتمل المعنيين أحدهما : إن أكل مال الغير بالباطل قتل وهلاك لنفس الأكل لكونه موجبا لتصليته نار جهنم وثانيهما إن أكل مال الغير إهلاك لذلك الغير ﴿ إن الله كان بكم رحيما ﴾ يعني أمركم بالحسنات ونهاكم عن السيئات لفرط رحمته عليكم، وقيل : إن معناه أنه أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون لهم توبة وكان بكم رحيما حيث لم يكلفكم به بل جعل توبتكم الندم والاستغفار.
١ أخرجه ابن ماجه في كتاب: التجارات، باب: بيع الخيار (٢١٨٥) في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله موثقون، ورواه ابن حبان في صحيحه..
٢ أخرجه أحمد في المجلد الثالث/ مسند جابر بن عبد الله/ حديث أبي بردة بن نيار..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: كسب الرجل وعمله بيده (٢٠٧٢)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الأحكام، باب: ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده (١٣٥٦) وأخرجه النسائي في كتاب: البيوع، باب: الحث على الكسب (٤٤٤٥) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده (٢٢٩٠)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (٢١١١) وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: خيار المجلس للمتبايعين (١٥٣١)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف (٢٠٧٦) وأخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان (١٥٣٢)..
٧ سورة البينة، الآية: ٤..
٨ أخرجه مسلم في كتاب: البيوع، باب: ثبوت خيار المجلس للمتبايعين (١٥٣١)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا (١٢٤٧) وأخرجه أبو داود في كتاب: الإجارة، باب: في خيار المتبايعين (٣٤٥٣).
وأخرجه النسائي في كتاب: البيوع، باب: وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما (٤٤٧٨)..

١٠ أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع (١٢٤٨) وقال عنه: غريب..
١١ أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع (١٢٤٩)..
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث (٥٧٧٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه (١٠٩)..
١٣ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: كما ذكر عن بني إسرائيل (٣٤٦٣)..
١٤ أخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم (٣٣٣)..
١٥ سورة البقرة، الآية: ٨٥..
١٦ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: الإنصات للعلماء (١٢١) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ترجعوا بعدي كفارا" (٦٥)..
﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ أي أكل مال غيره أو قتل نفسا معصومة ﴿ عدوانا ﴾ أي تعديا على الغير عمدا ﴿ وظلما ﴾ على نفسه بتعريضها للعقاب، مصدران في موضع الحال أو مفعول لهما ﴿ فسوف نصليه ﴾ ندخله في الآخر نارا يعني نار جهنم ﴿ وكان ذلك ﴾ أي إصلاء النار﴿ على الله يسيرا ﴾ سهلا، هذا الوعيد في حق المستحل للتخليد وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار منع جواز المغفرة من الله تعالى إن شاء.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾ قال علي رضي الله عنه : الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وكذا قال الضحاك إنه ما أوعد الله عليه حدا في الدنيا أو عذابا في الآخرة. قلت : الكبائر على ثلاثة مراتب : المرتبة الأولى : وهي أكبر الكبائر الإشراك بالله ويلتحق به كل ما فيه تكذيب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وثبت بدليل قطعي إما تكذيبا صريحا بلا تأويل ويسمى كفرا أو بتأويل ويسمى هوى وبدعة كأقوال الروافض والخوارج والقدرية والمجسمة وأمثالهم، ومن هاهنا قال علي وابن مسعود : أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله، قلت : قال الله تعالى :﴿ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾١ ﴿ ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ﴾٢ ﴿ إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾٣ والمرتبة الثانية : ما فيه إتلاف حقوق العباد من المظلم في الدماء والأموال والأعراض، قال سفيان الثوري الكبائر ما كان فيه المظالم بينك وبين العباد فإنها أكبر مما بينك وبين الله تعالى لأن الله كبير يغفر الذنوب جميعا كل شيء بالنسبة إليه صغير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي " ٤ وقال الله تعالى :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾٥ عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدواوين عند الله ثلاثة : فديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله. أما الديوان الذي لا يغفره الله فهو الشرك، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم تركه أو صلاة تركها فإن الله تعالى يغفر ذلك ويتجاوز لمن يشاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة " ٦ رواه أحمد والحاكم وروى الطبراني مثله من حديث سلمان وأبي هريرة والبزار مثله من حديث أنس، وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة : يا أمه محمد إن الله عز وجل قد عفا عنكم جميعا المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وادخلوا الجنة برحمتي " ٧ رواه البغوي، وعن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر في حجة يوم الوداع :" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " ٨ متفق عليه ورواه الترمذي وصححه عن عمر بن الأحوص، وعن أسامة بن شريك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا حرج إلا على رجل اقترض عرض مسلم وهو ظالم فذلك الذي حرج وأهلك " ٩ رواه أبو داود، وقوله تعالى :﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذبا مهينا ٥٧ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ﴾١٠ بيان للمرتبتين المذكورتين الكفر والظلم على العباد، وفي إيراد هذه الآية بعد قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ إشارة إلى أن الظلم على أموال العباد وأنفسهم من أعظم الكبائر والأحاديث الصحاح التي وردت في عد الكبائر إنما ورد فيها غالبا المظالم من حقوق العباد والإشراك، منها : حديث أنس وعبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس " ١١ في رواية عبد الله عند البخاري وفي رواية أنس " وشهادة الزور " بدل اليمين الغموس متفق عليه، وروى ابن مردويه عن أنس أنها سبع وزاد وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم وأكل الربا والفرار عن الزحف، ومنها حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال :" الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " ١٢ متفق عليه، وفي رواية زاد ابن راهويه وغيره " عقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرام " ومنها حديث ابن مسعود قال : قال رجل : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال :" أن تدعو لله ندا وهو خلقك " قال : ثم أي ؟ قال :" أن تقتل ولدك خشية أن بطعم معك " قال : ثم أي ؟ قال :" أن تزاني حليلة جارك " فأنزل الله تصديقها ﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ٦٧ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ﴾١٣ الآية متفق عليه، قيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الزنا بحليلة الجار لأن فيه إتلاف حق الجار وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره " ١٤ رواه أحمد عن المقداد بن أسود ورواته ثقات ورواه الطبراني عنه في الكبير والأوسط، ومنها حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه، قال : وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه " ١٥ رواه البغوي وغيره، ومنها حديث أبي بكرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بالكبر الكبائر ؟ ثلاثا، قالوا : بلى يا رسول الله، قال : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ( وجلس وكان متكئا ) ألا وقول الزور ألا وقول الزور ألا وقول الزور " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " ١٦ رواه البخاري.
فائدة : مبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في التهدير في قول الزور لشمولها كثيرا من الكبائر
الإشراك بالله وشهادة الزور واليمين الغموس والقذف والدعوى الباطل والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم قال :" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ١٧ متفق عليه، والغيبة التي هي أشد من الزنا رواه البيهقي عن أبي سعيد وجابر مرفوعا والنميمة، عن عبد الرحمن ابن غنم وأسماء مرفوعا " شرار عباد الله مشاؤن بالنميمة " ١٨ رواه أحمد، ومدح الفاسق عن أنس مرفوعا " إذا مدح الفاسق غضب الرب واهتز له العرش " رواه البيهقي ولعن من لا يستحقه " فإنه من لعن شيئا ليس له أهل رجعت اللعنة عليه " ١٩ رواه الترمذي عن ابن عباس وأبو داود عنه، وعن أبي الدرداء مرفوعا. والطعن والفحش عن ابن مسعود مرفوعا " ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء " ٢٠ رواه الترمذي، وغير ذلك من المعاصي، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة " ٢١ رواه البخاري عن سهل بن عبد سعد، وروى مالك والبيهقي عن صفوان بن سليم مرسلا أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيكون المؤمن جبانا ؟ قال : نعم، قيل : أيكون بخيلا ؟ قال نعم : قيل : أيكون كذابا ؟ قال لا " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد وأخلف وإذا أؤتمن خان " ٢٢ رواه مسلم والبخاري نحوه، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو مرفوعا " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر " ٢٣ والله أعلم.
والمرتبة الثالثة من الكبائر : ما يتعلق منها بحقوق الله تعالى كالزنا والشرب، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو أنه سئل عن الخمر فقال : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" هي أكبر الكبائر وأم الفواحش، من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وعمته وخالته " كذا روى عبد ابن حميد عن ابن عباس، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليها فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم " ٢٤ متفق عليه، وفي رواية عن ابن عباس " ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن " رواه البخاري. قلت : واللواطة في معنى الزنا وقد قال الله تعالى :﴿ أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾٢٥ وأشد من السرقة قطع الطريق فإن فيه قوله تعالى :﴿ إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ﴾ " ٢٦ الآية ويلحق بالسرقة التطفيف قال الله تعالى :﴿ ويل للمطففين ﴾٢٧ والخيانة فبئست البطانة وهي من علامات النفاق، وأعظم الذنوب من هذا الباب ما يستحقره الفاعل ويزعمه سهلا فإن استحقار الذنب وإن كان صغيرا يبعده عن المغفرة ويدل على التمرد وربما يفضي إلى الكفر وما استعظمه وخاف عنه فهو يستحق المغفرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن يرى ذنبه كأن جبلا على رأسه والمنافق يرى ذنبه كذباب على أنفه قال به هكذا فطارت " ٢٨ وعن أنس قال :" إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا نعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات " رواه البخاري، وأحمد مثله عن أبي سعيد بسند صحيح. وبهذا التحقيق يظهر أنه من قال بحصر الكبائر في سبع ونحو ذلك فقد أخطأ وأن الصغيرة بالإصرار وكذا بالاستحقار يصير كبيرة، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي ؟ قال : هي إلى سبعمائة أقرب إلا أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، وقال : كل شيء عصى الله به فهو كبير فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن إسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بقدر، قلت : ومعنى قول ابن عباس لا كبيرة مع استغفار المراد بالكبيرة ما تعلق منها بحقوق الله تعالى، وأما ما تعلق بحقوق العباد فلا بد فيه من رد المظالم واسترضاء المظلوم.
وفائدة : أساس المعاصي كلها قساوة القلب الموجب للغفلة عن الله سبحانه ورذائل النفس الداعية إلى الشهوات السبعية والبهيمية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن في جسد بني آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ٢٩ وقال الله تعالى :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾٣٠ ولا يتصور التنزه عن المعاصي إلا بدوام الحضور وصفاء القلوب والنفوس وذا لا يتصور إلا بجذب من الله تعالى بتوسط المشايخ فعليك التشبث بأذيالهم فهم قوم لا يشقى جليسهم ولا يخاب أنيهم.
فائدة : ما قيل : إن العبد يبلغ درجة لا يضره ذنب عمله ليس معناه إن بعض الناس يسقط عنهم التكاليف الشرعية ويباح لهم المحرمات فإنه كفر وزندقة، بل معناه إن العبد بعد تصفية القلب وتزكية النفس إذا دام حضوره لا يصدر عنه ذنب إلا نادرا وكلما صدر عنه ذنب صغير أو كبير يستعظم ذلك ويندم ويغتم كأنما هلك نفسه وأهله وماله وولده بحيث يصير ذلك الندم والتوبة والاغتمام موجبا لمزيد درجته ونزول الرحمة عليه أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، ذكر العارف الرومي قصة إيقاظ الشيطان معاوية رضي الله عنه لصلاة الصبح وتلك القصة وإن لم أطلع على صحة سندها
١ سورة الأعراف، الآية: ٩٩..
٢ سورة الحجر، الآية: ٥٦.
٣ سورة يوسف، الآية: ٧٨..
٤ رواه الحاكم عن جابر بن عبد الله. انظر كشف الخفاء (٥٨٣)..
٥ سورة الأعراف، الآية: ١٥٦..
٦ رواه أحمد وفيه صدقة بن موسى وقد ضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات. انظر مجمع الزوائد في كتاب: البعث، باب: ما جاء في الحساب (١٨٣٨٢)..
٧ أخرجه أبو سعيد أحمد بن إبراهيم المقرئ في كتاب التبصرة والتذكرة وإسناده ضعيف، ورواه بمعناه الطبراني. انظر تخريج أحاديث الإحياء المجلد الثالث / فصيلة العفو..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع (٤٤٠٦) وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (١٦٧٩)..
٩ أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: في من قدم شيئا قبل شيء في حجه (٢٠١٥)..
١٠ سورة الأحزاب، الآية: ٥٧-٥٨..
١١ أخرجه البخاري في كتاب: الأيمان والنذور، باب: اليمين الغموس (٦٦٧٥)..
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: المحاربين، باب: رمي المحصنات (٦٨٥٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (٨٩)..
١٣ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: ﴿فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون﴾ (٤٤٧٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (٨٦)..
١٤ رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات.
انظر مجمع الزوائد في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في أذى الجار (١٣٥٦١)..

١٥ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه (٥٩٧٣) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (٩٠)..
١٦ أخرجه البخاري في كتاب: استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة (٦٥٢١) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (٨٧)..
١٧ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (١٠٧) وأخرجه مسلم في كتاب: حال بعض الرواة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (٢)..
١٨ رواه أحمد من حديث أسماء بنت يزيد بسند ضعيف. انظر تخريج أحاديث الإحياء المجلد الثاني / الباب الثاني في حقوق الأخوة والصحبة..
١٩ أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة (١٩٧٨)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في اللعن (٤٩٠٠)..
٢٠ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة (١٩٧٧)..
٢١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان (٦٤٧٤)..
٢٢ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق (٣٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق (٥٩)..
٢٣ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق (٣٤)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق (٥٨)..
٢٤ أخرجه البخاري في كتاب: المظالم، باب: النهبى بغير إذن صاحبه (٢٤٧٥) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان نقص الإيمان بالمعاصي (٥٧)..
٢٥ سورة الأعراف، الآية: ٨٠..
٢٦ سورة المائدة، الآية: ٣٣..
٢٧ سورة المطففين، الآية: ١..
٢٨ أخرجه البخاري موقوفا على عبد الله بن مسعود. وعند الترمذي "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه" في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٩٧)..
٢٩ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه (٥٢).
٣٠ سورة إبراهيم، الآية: ٢٢.
قال مجاهد : قالت أم سلمة : يا رسول الله إن الرجال يغزون ولا نغزوا ولهم ضعف مالنا من الميراث ولو كنا رجالا غزونا كما غزوا وأخذنا من الميراث ما أخذوا فنزلت ﴿ ولا تتمنّوا ﴾ الآية، كذا روى الترمذي والحاكم عن أم سلمة وصصحه، وقيل : لما جعل الله عز وجل ﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ في الميراث قالت النساء : نحن أحق وأحوج إلى الزيادة من الرجال لأنا ضعيفات وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال قتادة والسدي : لما نزل قوله تعالى :﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ قال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كما فضلنا عليهن بالميراث فأنزل الله تعالى ﴿ ولا تتمنوا ﴾ ﴿ ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير والتمني يفضي إلى الحسد ولا يفيد شيئا، بل ينبغي لكل واحد بذل جهده في كسب ما يمكنه من الحسنات فإن ذلك يوجب القرب عند الله والفضل في الدار الآخرة ﴿ للرجال نصيب ﴾ مكتوب لهم عند الله من الأموال والثواب والفضل ﴿ مما اكتسبوا ﴾ أي بسبب ما كسبوا من الجهاد وغير ذلك من العبادات المختصة بهم وغير المختصة بهم ومن الغنيمة والإرث والتجارة على ما قدر لهم ﴿ وللنساء نصيب ﴾ من المال والثواب ﴿ مما اكتسبن ﴾ من إطاعة الأزواج وحضانة الأولاد وحفظ الفروج وغير ذلك مما يختص بهن وما لا يختص بهن من العبادات ومن المهور والنفقات والإرث وغير ذلك على ما قدر لهن ﴿ وسئلوا الله ﴾ كثرة ثواب الدنيا والآخرة ﴿ من فضله ﴾ أي من خزائنه إلي لا تنفذ، فإنه تعالى يعطي ثواب حسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله وكذا يعطي بركة الإكساب في الدنيا ويفضل بعضهم على بعض في الرزق ولا يفيد التمني شيئا ولا يجوز الحسد. قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا وسل فسل يعني الأمر الحاضر منه إذا كان قبله واو أو فاء بنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف تلك الهمزة، وقرأ حمزة في الوقف على أصله والباقون بسكون السين مهموزا ﴿ إن الله كان بكل شيء عليما ﴾ فهو عليم بما يستحقه كل إنسان من الفضائل وهذا يقتضي سبق استعداد لكل امرئ بما فضله الله به، والاستعداد متفرع على استناد الأشياء إلى الأعيان الثابتة كما قرره الصوفية العلية رضي الله عنهم.
﴿ ولكل ﴾ المضاف إليه محذوف والظرف متعلق بقوله :﴿ جعلنا ﴾ أي جعلنا لكل مال أو لكل أحد من الأموات ﴿ موالي ﴾ أي ورثة يحرزون الأموال ويرثون الأموات ﴿ مما ترك ﴾ أي تركه ظرف مستقر صفة لمال مقدر على التقدير الأول ولا بأس بالفصل بالعامل لأن حقه التقديم وظرف لغو متعلق بفعل مقدر دل عليه الموالي على التقدير الثاني أي يرثون مما تركه وذلك الفعل المقدر صفة لموالي وقوله :﴿ الوالدان والأقربون ﴾ على التقدير الأول فاعل لترك، وعلى التقدير الثاني استئناف مفسر للموالي وفاعل ترك ضمير راجع إلى كل تقديره هم الوالدان والأقربون، وجاز أن يقال لكل خبر وجعلنا موالي صفة والعائد محذوف وقوله :﴿ مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ صفة لمبتدأ محذوف تقديره لكل جماعة من ورثة جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون ﴿ والذين عقدت أيمانكم ﴾ معطوف على الوالدان والأقربون ﴿ فآتوهم نصيبهم ﴾ جملة مبنية عن الجملة المتقدمة، وجاز أن يكون الموصول مبتدأ متضمنا بمعنى الشرط وقوله تعالى :﴿ فآتوهم ﴾ خبره، وجاز أن يكون الموصول منصوبا بمضمر يفسره ما بعده على طريقة زيدا فأضربه، لكن على التأويل الثاني يلزم وقوع الخبر جملة طلبية وتركيب الإضمار على شريطة التفسير يفيد الاختصاص ولا اختصاص هاهنا فالأولى هو التأويل الأول، ولا عبرة بالوقف على الأقربون فإنه غير منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وذاك التأويل مناسب لمذهب أبي حنيفة فإن عنده يرث مولى المولاة يعني الأعلى دون الأسفل جميع التركة أو ما بقي بعد فرض أحد الزوجين إن لم تكن للميت عصبة ولا ذو فرض نسبي ولا ذو رحم عند أبي حنيفة رحمه الله وعند وجود أحد منهم لا ميراث له إجماعا، وعند الجمهور كان ذلك الحكم في الجاهلية وفي ابتداء الإسلام وكان نصيب الحليف السدس من مال الحليف ثم نسخ ذلك الحكم بقوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾١ فلا يرث مولى الموالاة عندهم بحال بل تكون التركة لبيت المال عند عدم الورثة، وأورد على ذلك بأن النسخ يتفرع على التعارض ولا تعارض هاهنا إذ لا دلالة في قوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ﴾ على نفي إرث الحليف، والصحيح أنه يدل على نفي إرث الحليف لأن تمام الآية ﴿ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ﴾ صريح في أن الموالي لابد لهم من الوصية وبدون الوصية ليس لهم شيء، غير أن أبا حنيفة يقول إن إرث موالي الموالاة منسوخ عند وجود أحد من أولي الأرحام ونحن نقول به وبقي إرثهم ثابتا عند أولي الأرحام كيف لا وماله حقه فيصرفه إلى حيث شاء، والصرف إلى بيت المال ضرورة عدم المستحق أنه مستحق كما يقول به الشافعي لأن ورثة بيت المال مجهولون والمجهول لا يصلح مستحقا.
مسألة : وللمولى الأسفل أن يسقط ولاءه عن الأعلى ما لم يعقل عنه لأنه عقد غير لازم بمنزلة الوصية وكذا للأعلى أن يتبرأ عن ولائه لعدم اللزوم، إلا أنه يشترط في هذا أن يكون بمحضر من الآخر كما في عزل الوكيل قصدا بخلاف ما إذا عقد الأسفل مع غيره بغير محضر من الأول فحينئذ يسقط ولاؤه عن الأول، وإذا عقل الأعلى عن الأسفل فحينئد لم يكن له أن يتحول بولائه إلى غيره ﴿ إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾ تهديد على منع نصيبهم.
١ سورة الأحزاب، الآية: ٦.
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعدي على زوجها أنه لطمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" القصاص " فأنزل الله تعالى ﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾ الآية فرجعت بغير قصاص، وأخرجه ابن شيبة وأبو داود في المراسيل، وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وروى الثعلبي والواحدي وكذا ذكر البغوي أنها نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير قاله مقاتل، وقال الكلبي : امرأته بنت محمد بن مسلمة وذلك أنها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لتقتص منه " فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ارجعوا، هذا جبرائيل أتاني " فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير " ورفع القصاص. وأخرج ابن مردويه عن علي قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له، فقالت : يا رسول الله إنه ضربني فأثر في وجهي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس له ذلك " فأنزل الله تعالى :﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾ يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية مسلطون على تأديبهن وسموا الرجال قواما لذلك، والقوّام والقيّم بمعنى واحد والقوّام أبلغ وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب، وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي فقال :﴿ ما فضل الله ﴾ أي بسبب تفضيل الله ﴿ بعضهم ﴾ يعني الرجال ﴿ على بعض ﴾ يعني على النساء في أصل الحلقة بكمال العقل وحسن التدبير وبسطة في العلم والجسم ومزيدا لقوة في الأعمال وعلو الاستعداد ولذلك خصّوا بالبنوة والإمامة والولاية والقضاء والشهادة في الحدود والقصاص وغيرهما ووجوب الجهاد والجمعة والعيدين والأذان والخطبة والجماعة وزيادة السهم في الإرث ومالكية النكاح وتعدد المنكوحات والاستبداد بالطلاق، وكمال الصوم والصلاة من غير فتور وغير ذلك وهذا أمر وهبي، ولذلك الفضل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " ١ رواه أحمد عن معاذ وعن عائشة نحوه والترمذي عن أبي هريرة وأبو داود عن قيس بن سعد ﴿ وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ في نكاحهن من المهور والنفقات الراتبة وهذا أمر كسبي ثم قسمهن على نوعين أما النوع الأول ﴿ فالصالحات قانتات ﴾ مطيعات لله تعالى في أداء حقوق أزواجهن ﴿ حافظات ﴾ لما يجب عليهن حفظه من الفروج وأموال الأزواج وأسرارهم ﴿ للغيب ﴾ أي في غيبة الأزواج أو المراد بالغيب ما غاب عن الناس من أسرار الأزواج وأموالهم الخفية واللام صلة ﴿ بما حفظ الله ﴾ أخرج ابن جرير عن طلحة ابن مطرف قال في قراءة ابن مسعود :" فالصالحات حفيظات للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن " وأخرج عن السدي " فأحسنوا إليهن " قرأ أبو جعفر بنصب الجلالة وما حينئذ موصولة وضمير الفاعل راجع إليه والمعنى بالأمر الذي حفظ حق الله أو طاعة الله وهو التعفف والشفقة على الأزواج، وقرأ العامة بالرفع وما حينئذ أما مصدرية يعني بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والتوفيق أو يقال إسناد الحفظ إليهن باعتبار الكسب وإلى الله تعالى باعتبار الخلق والخلق سبب للكسب، وإما موصولة يعني بالذي حفظ الله لهن على الأزواج من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذبّ عنهن. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ثم تلا ﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾ الآية رواه البغوي، ورواه ابن جرير بلفظ " مالك ونفسها " وروى النسائي والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي النساء خير ؟ قال :" التي تسره إذا نظر تعطيه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره " ٢ وفي رواية " تحفظ في نفسها وماله " قال السيوطي في أكثر طرق الحديث في نفسها وماله، وكذا روى ابن ماجة من حديث أبي أمامة وفي بعض الطرق " في نفسها ومالها " قال الطيبي أراد بمالها مال الزوج أضاف إليها لأدنى ملابسة لأنها هي المتصرفة فيه، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المرأة إذا صلت خمسها وصامت شهرها وأحصنت فرجها وأطاعت بعلها فلتدخل من أي أبواب الجنة شاءت " رواه أبو نعيم في الحلية، وعن أم سلمة مرفوعا " أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة " ٣ رواه الترمذي. وأما النوع الثاني فقال :﴿ والتي تخافون نشوزهن ﴾ أي عصيانهن وتكبرهن، وأصل النشوز الارتفاع ومنه النشز للموضع المرتفع، قيل : معنى تخافون تعلمون، وفي القاموس جعل من معاني الخوف العلم ومنه ﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا ﴾٤ وقيل : المراد وبخوف النشوز خوف دوام النشوز الإصرار عليه ولا يجوز العقوبة قبل ظهور النشوز، قلت : خوف النشوز يكفي للوعظ ﴿ فعظوهن ﴾ بالقول، ويعني خوفهن عقوبة الله والضرب والهجران ﴿ واهجرهن ﴾ حال كونكم ﴿ في المضاجع ﴾ إذا لم ينفعهن الوعظ، يعني لا تدخلهن في اللحف أو هو كناية عن الجماع أو أن يوليها ظهره في المضجع وهو الأظهر حيث قال في المضاجع ولم يقل عن المضاجع ﴿ واضربوهن ﴾إن لم ينفع الهجران، قال أكثر المفسرين : يعني ضربا غير مبرحا أي غير شاق، وإنما قيدوا بهذا لما روى مسلم عن جابر في قصة حج الوداع في خطبته صلى الله عليه وسلم :" فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة، الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فروشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ٥ قلت : وهذا حديث آحاد لا يجوز تقييد مطلق الكتاب بمثله وإطلاق الكتاب وسياقه يقتضي أن يكون السياسة على قدر الجريمة فإن خاف نشوزها بأن ظهرت أماراته منها من المخاشنة وسوء الخلق وعظها فإن أظهرت النشوز هجرها فإن أصرت عليه ضربها على قدر نشوزها، فإن أتت بفاحشة أو تركت الصلاة المكتوبة أو صيام رمضان أو غسل الجنابة أو الحيض يضربها أو يحبسها بقدر ما يرى أن تنزجر بها، وإن كان نشوزها أدنى من ذلك وأصرت ولم تنزجر بالوعظ والهجران ضربها ضربا غير مبرح ﴿ فإن أطعنكم ﴾ من أول الأمر أو بعد ما نشزت وتابت من النشوز ﴿ فلا تبغوا ﴾ أي لا تطلبوا، يقال بغوت الأمر إذا طلبته ﴿ عليهن سبيلا ﴾ أي سبيل الإيذاء، مفعول به لتبغوا يعني اجعلوا بعد التوبة ما كان منهن من النشوز كأن لم يكن لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ﴿ إن الله كان عليا كبيرا ﴾ فلا تظلموا من تحت أيديكم واتقوا الله العلي الكبير فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم أو إنه تعالى مع علو شأنه متجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم فأنتم أحق بعفو حقوقكم عن أزواجكم. عن عبد الله بن زمعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم " ٦ متفق عليه، وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله " ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن يطعمها إذا طعمت ويكسوها إذا اكتسيت ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يهجر إلا في البيت " ٧ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة، وعن إياس بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تضربوا إماء الله " فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : النساء على أزواجهن فرخص في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثيرة يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لقد طاف بآل محمد نساء كثيرة يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم " ٨ رواه أبو داود وابن ماجة والدرامي، وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " ٩ رواه الترمذي والدرامي ورواه ابن ماجة عن ابن عباس.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (١١٢١)...
٢ أخرجه النسائي في كتاب: النكاح، باب: أي النساء خير (٣٢٢٢)...
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الرضاع، باب: ما جاء حق الزوج على المرأة (١١٥٧)..
٤ سورة النساء، الآية: ١٢٨..
٥ أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (١٢١٨)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح، باب: ما يكره من ضرب النساء (٥٢٠٤) وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٢٨٥٥)..
٧ أخرجه ابن ماجة في كتاب النكاح، باب: حق المرأة على زوجها (١٨٥٠)..
٨ أخرجه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: في ضرب النساء (٢١٤٧)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (٣٩٠٤) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: النكاح، باب: حسن معاشرة النساء (١٩٧٧)..
﴿ وإن خفتم ﴾ أيها الحكام ﴿ شقاق ﴾ يعني العداوة والخلاف، لأن كلا من الأعداء يفعل ما يشق على صاحبه أو يميل إلى شق آخر غير شق مختار لصاحبه ﴿ بينهما ﴾ أي بين الزوجين، أورد ضميرهما من غير سبق المرجع لجريان ذكر ما يدل عليهما وهو النشوز لأنه عصيان المرأة عن مطاوعة الزوج، أو يقال ذكر المرأة وضمير الزوج في قوله تعالى :﴿ والتي تخافون نشوزهن ﴾ وأضيف الشقاق إلى الظرف مجازا كما في قوله تعالى :﴿ مكر الليل والنهار ﴾١ والخوف بمعنى الظن، يعني إذا ظهر من الزوجين ما ظننتم به تباغضهما واشتبه حالهما في الحق والباطل ﴿ فابعثوا ﴾ إلى الرجل ﴿ حكما ﴾ يعني رجلا عاقلا عادلا يصلح للحكومة ﴿ من أهله و ﴾ ابعثوا إلى المرأة رجلا آخر ﴿ حكما من أهلها ﴾ وإنما قيد بكون الحكمين من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح، وهذا القيد استحبابي ولو بعثوا أجنبيين جاز، فيبحث الحكمان عن أحوالهما ويعرفان الظالم منهما فإن كان الظلم من الزوج أمراه بإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وإن كان النشوز منها أمراها بإطاعة الزوج أو الافتداء. روى البغوي بسنده من طريق الشافعي عن عبيدة أنه قال في هذه الآية أنه جاء رجل وامرأة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع كل واحد منهما قيام من الناس، فأمرهم علي فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما ؟عليكما إن رأيتما أن تجمعا تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا تفرقا، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الرجل : أما الفرقة فلا، فقال علي : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به. فقال مالك : يجوز لحكم الزوج أن يطلق المرأة بدون رضاء الزوج ولحكم المرأة أن يختلع بدون رضاء المرأة ويجب عليها المال إذا رأى الصلاح في ذلك حيث ملك علي الحكمين الجمع والتفريق وكذب الزوج على نفي الفرقة، وعند جمهور العلماء ليس للحكمين ذلك بل إن كان الزوجان وكلهما بالتطليق والخلع فعلا ذلك وإلا أصلحا بينهما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما أمكن، وإلا شهدا عند الحاكم بظلم أحد الزوجين فيجبر الحاكم الظالم منهما إما الزوج على إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وإما الزوجة على ترك النشوز أو الافتداء، وقول علي للرجل حتى تقر دليل على أن رضاه شرط للفرقة فما لم يؤكله المطلاق ويفوض أمره إليه لا ينفذ طلاقه ﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ الضمير الأول للحكمين، والثاني للزوجين يعني إن قصد الحكمان إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة أوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفية، وجاز أن يكون المراد بالإصلاح ما هو أعم من الوفاق والفراق يعني إن أراد ما هو الأصلح من إبقاء النكاح أو إيقاع الطلاق يوفق الله بينهما ذلك الأصلح، أو الضميران للحكمين يعني أن قصد الإصلاح ونصر المظلوم ولم يكن إرادة أحدهما إعانة قريبه على الباطل يوفق الله بينهما فيتفقان على الكلمة الواحدة حتى يتم المراد، أو الضميران للزوجين يعني إن يريد الزوجان إصلاحا ما بينهما أو طلبا ما هو الأصلح، ألقى الله بينهما الألفة أو وفقهما الله بما هو الأصلح، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يفعل أصلح الله عاقبة أمره ﴿ إن الله كان عليما ﴾ بما في الضمائر وبعواقب الأمور ﴿ خبيرا ﴾ بالظالم من الزوجين فيجازيه.
١ سورة سبأ، الآية: ٣٣.
﴿ واعبدوا الله ﴾ في الصحاح العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذليل ولا يستحقها إلا من له غاية العظمة ونهاية الإفضال، قلت : ولهذا نهى عن الإشراك به تعالى في العبادة وقال :﴿ ولا تشركوا به شيئا ﴾ منصوب على المفعولية والتنوين للتحقير، وفيه توبيخ أي لا تشركوا به حقيرا مع عدم تناهي كبريائه، إذ كل ممكن بالنسبة إلى الواجب حقير جدا، أو على المصدرية يعني لا تشركوا به شيئا من الإشراك خفيا أو جليا. والعبادة ضربان : عبادة بالتسخير لا يمكن لشيء من الممكنات الاستنكاف عنها، وعبادة بالاختيار وهو المأمور في الآية والمراد به امتثال أوامراه والانتهاء عما نهى عنه، قال الصوفية العلية : العبادة عبارة عن جعل العبد نفسه عديم الإرادة والاختيار كالميت بين يدي الغسال في امتثال أوامره ونواهيه راضيا بما قضى فيه حتى يكون في أوامره التكليفية والتكوينية على نهج واحد قال تعالى :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾١ عن معاذ بن جبل قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا معا ذ هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم، قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم، قال :" فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم " قال : قلت يا رسول الله ألا أبشر الناس ؟ قال " دعهم يعملون " ٢ رواه البغوي، وفي الصحيحين نحوه، قلت : وعند الصوفية معنى لا يعذبهم أن لا يعذبهم بعذاب الهجر والفراق ﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ يعني أحسنوا بهما إحسانا، عن معاذ قال : أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات قال :" لا تشرك بالله وإن قتلت أو أحرقت ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك " ٣ الحديث رواه أحمد ﴿ وبذي القربى ﴾ مصدر بمعنى القرابة، يعني أحسنوا بذي القرابة، عن سلمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم صدقة وصلة " ٤ رواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم والترمذي وحسنه، وابن ماجة وابن خزيمة وصححه ولفظه " وعلى القريب صدقتان صدقة وصلة " وبهذه الآية يظهر وجوب نفقة الوالداين والأقارب لكن يشترط أن يكون غنيا لقوله تعالى :﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾٥ يعني الفاضل عن حاجته، وقال عليه السلام :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول " ٦ رواه البخاري عن أبي هريرة وحكيم ومسلم عن حكيم، ويشترط لوجوب نفقة الأقارب غير الوالدين كونه عاجزا عن الكسب بأن يكون صغيرا أو زمنا أو امرأة ولا يشترط ذلك في الوالدين، وجه الوجوب أنه ليس من الإحسان أن يكون هو غنيا ويموت قريبه جوعا ﴿ واليتامى والمساكين ﴾ والإحسان الواجب في هؤلاء أن يؤيتهم زكاة ماله وما زاد على دلك فمستحب، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا٧ رواه البخاري، وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعر تمر عليها يده عشرة حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وفرق بين أصبعيه " ٨ رواه البغوي ﴿ والجار ذي القربى ﴾ يعني الجار الذي قرب جواره، أو يكون جار أو ذا قرابة في النسب أو في الدين ﴿ والجار الجنب ﴾ يعني الجار الذي بعد جواره، أو يكون جارا بلا قرابة وبلا اشتراك في الدين، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام، وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق واحد حق الجوار وهو المشترك من أهل الكتاب " رواه الحسن بن سفيان والبزار في مسنديهما وأبو الشيخ في كتاب الثواب وأبو نعيم في الحلية، وروى ابن عدي في الكامل من حديث عبد الله بن عمرو نحوه والحديثان كلاهما ضعيفان، وعن عائشة قالت : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال :" إلى أقربهما منك بابا " ٩ رواه البخاري، وعن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك " ١٠ رواه مسلم، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتى ظنت أنه سيورثه " ١١ رواه البخاري ﴿ والصاحب بالجنب ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة : هو الرفيق في السفر، وقال ابن جريح وابن زيد : الذي يصحبك رجاء نفعك فيشتمل التلميذ أستاذه، وقال علي وعبد الله وإبراهيم النخعي : هو المرأة تكون مع جنبه ﴿ وابن السبيل ﴾ قيل : هو المسافر والأكثرون على أنه الضيف، عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من كان يؤمن بالله واليوم آخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " رواه البغوي، وفي الصحيحين عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه " ١٢ وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كان يؤمن بالله واليوم آخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " ١٣ متفق عليه ﴿ وما ملكت أيمانكم ﴾ أي العبيد والإماء، قلت : ويدخل فيه البهائم أيضا، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" للمملوك طعامه وكسوته وأن لا يكلف من العمل ما لا يطيق " ١٤ رواه مسلم، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا يكلف من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه " ١٥ متفق عليه، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه وقد ولى حره ودخانه فليقعده معه وليأكل فإن كان الطعام مشقوها قليلا فليضع به في يده منه أكلة أو أكلتين " ١٦ رواه مسلم، وعن أبي مسعود الأنصاري قال : كنت أضرب غلاما لي فسمعت من خلفي صوتا : اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى، فقال :" أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار " ١٧ رواه مسلم، وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرضه " الصلاة وما ملكت أيمانكم " رواه البيهقي في شعب الإيمان، وروى أحمد وأبو داود عن علي نحوه، وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ثلاث من كن فيه يسر الله حقه وأدخله الجنة : رفق بالضعيف، وشفقة على الوالدين، وإحسان إلى المملوك " ١٨ رواه الترمذي، وعن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كم نعفو من الخادم ؟ فسكت ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كانت الثالثة قال :" اعفوا عنه كل يوم سبعين مرة " ١٩ رواه الترمذي وروى أبو داود عن عبد الله ابن عمرو، وعن سهل بن حنظلة قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال :" اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة واتركوها صالحة " ٢٠ رواه أبو داود، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بشراركم ؟ الذي يأكل وحده ويجلد عبده ويمنع رفده " ٢١ رواه رزين، وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا ضرب أحدكم خادمه فذكر الله فارفعوا أيديكم " ٢٢ رواه الترمذي.
﴿ إن الله لا يحب ﴾ أي يبغض، ذكر عدم الحب وأراد به البغض ﴿ من كان مختالا ﴾ متكبرا يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه لا يلتف إليهم ﴿ فخورا ﴾ يتفاخر عليهم، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف به الأرض فهم يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " ٢٣ وعن ابن عمر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء " ٢٤ متفق عليه، وعن عياض بن حمار الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد " ٢٥ رواه مسلم، وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا معشر المسلمين اتقوا الله فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام، وإنه لا يجد عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا إزاره خيلاء وإنما الكبرياء لرب العالمين " الحديث رواه الطبراني في الأوسط.
١ سورة الأحزاب، الآية: ٣٦..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا (١٢٩) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا (٣٠)..
٣ رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجال أحمد ثقات إلا أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ، وإسناد الطبراني متصل وفيه عمرو بن واقد القرشي وهو كذاب.
انظر مجمع الزوائد في كتاب: الوصايا، باب: وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم (٧١١٠)..

٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في الصدقة على ذي القرابة (٦٥١) وأخرجه النسائي في كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على الأقارب (٢٥٧٢).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزكاة، باب: فضل الصدقة (١٨٤٤)..

٥ سورة البقرة، الآية ٢١٩..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى (١٤٢٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من
اليد السفلى (١٠٣٤)..

٧ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: فضل من يعول يتيما (٦٠٠٥)..
٨ رواه أحمد والطبراني وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف. انظر مجمع الزوائد في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الأيتام والأرامل والمساكين (١٢٥١٤)..
٩ أخرجه البخاري في كتاب: الشفعة، باب: أي الجوار أقرب (٢٢٥٩)..
١٠ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه (٢٦٢٥)...
١١ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: الوصاة بالجار (٦٠١٤) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه (٢٦٢٥)..
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (٦٠٤٨).
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: الحث على إكرام الجار والضيف (٤٧)..

١٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (٦٠٦٩).
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: الحث على إكرام الجار والضيف (٤٧)..

١٤ أخرجه مسلم في كتاب: الأيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه (١٢٢٦)..
١٥ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (٣٠) وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان والنذور، باب: إطعام المملوك مما يأكل (١٦٦١)..
١٦ أخرجه مسلم في كتاب: الأيمان والنذور، باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه (١٦٦٣)..
١٧ أخرجه مسلم في كتاب: الأيمان والنذور، باب: صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده (١٦٥٩)..
١٨ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في العفو عن الخادم (١٩٥٠)..
١٩ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في حق المملوك (٥١٤٢)..
٢٠ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم (٢٥٤٦)..
٢١ رواه الطبراني وفيه عنبس بن ميمون وهو متروك. انظر مجمع الزوائد في كتاب: البر والصلة، باب: فيمن يرجى خيره وخير الناس وشرارهم (١٣٦٥٢)..
٢٢ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في أدب الخادم (١٩٤٩)..
٢٣ أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: من جر ثوبه من الخيلاء (٥٧٨٩) وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب: التبخر في المشي مع إعجابه بثيابه (٢٠٨٨)..
٢٤ أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: من جر ثوبه من الخيلاء (٥٧٨٨) وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة، باب : تحريم جر الثوب خيلاء (٢٠٨٥)..
٢٥ أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (٢٨٦٥)..
﴿ الذين يبخلون ﴾ مما وجب عليه، بدل من من كان بدل الكل، لأن المختال الفخور يبخل عن إيفاء بني نوعه التواضع، أو لأنه أراد بالمختال هذا الفرد وجمع الموصول نظرا إلى معنى من، وجاز أن يكون منصوبا على الذم أو مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين ﴿ الدين يبخلون ﴾ ﴿ ويأمرون الناس بالبخل ﴾ أحقاء لكل ملامة أو أحقاء بالعذاب ويدل على التقدير الثاني التذليل بقوله :﴿ وأعتدنا للكافرين ﴾ الآية. قرأ حمزة والكسائي بالبخل هاهنا وفي الحديد بفتح الباء والخاء والباقون بضم الباء وسكون الخاء وهما لغتان، قال البغوي : قال ابن عباس وابن زيد نزلت الآية في كردم بن زيد : وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحرى بن عمرو من اليهود كانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخالطونهم فيقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون، كذا أخرج ابن إسحاق وابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس، فعلى هذا المراد بالبخل البخل بالمال، وقال سعيد بن جبير : المراد بالبخل كتمان العلم أخرج ابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي وهو ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ولا بخل فوق إمساك العلم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بعضهم بعضا بذلك ﴿ ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ﴾ يعني المال أو العلم ﴿ وأعتدنا للكافرين ﴾ وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله، ومن كان كافرا لنعمة الله هيّئنا له ﴿ عذابا مهينا ﴾ كما أهان النعمة بالبخل والكتمان ووضع ضمير المتكلم موضع الغائب لتفخيم العذاب ومزيد التهويل، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل " ١ رواه الترمذي، وعن أبي سعيد مرفوعا :" خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق " ٢ رواه الترمذي، وعن أبي بكر الصديق عنه صلى الله عليه وسلم :" لا يدخل الجنة خبّ ولا بخيل ولا منان " ٣ رواه الترمذي.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في السخاء (١٩٦١)...
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في البخل (١٩٦٢) وهو غريب من حديث صدقة بن موسى..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في البخل (١٩٦٣) وقال: حسن غريب..
﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ﴾ رياء مفعول له للإنفاق يعني ينفقون لأن يراه الناس ويقولوا ما أجودهم، والموصول معطوف على الموصول يعني الذين يبخلون، ووجه المشاركة بينهما في الذم أن الإنفاق رياء كعدم الإنفاق أو أن البخل والإسراف طرفا إنفاق على ما لا ينبغي بالإفراط والتفريط سيان في استجلاب الذم والعذاب، أو مبتدأ وخبره محذوف يعني فالشيطان قرين له يدل علي المحذوف قوله تعالي :﴿ ومن يكن الشيطان له قريبا ﴾ أومعطوف علي الكافرين فإن الإنفاق رياء كفر وإشراك خفي ولذلك عطف عليه ﴿ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " وفي رواية " فأنا منه بريء، هو للذي عمله " ١ رواه مسلم، وفي حديث عمر بن الخطاب عن معاذ مرفوعا " إن يسير الرياء شرك " ٢ هذه الآية نزلت في اليهود كما ذكرنا، وقال السدي : في المنافقين، وقيل، في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ ومن يكن الشيطان له قريبا ﴾ صاحبا وخليلا﴿ فساء قرينا ﴾ المخصوص بالذم محذوف يعني الشيطان، ففيه تحذير عن متابعة الشيطان ومصاحبته، أو المخصوص من يكن الشيطان له قريبا ففيه إشارة إلى ما فعلوه من الشرور من البخل والرياء وغير ذلك إنما هو بمقارنة الشيطان، وجاز أن يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله (٢٩٨٥)..
٢ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الفتن، باب: من ترجى له السلامة من الفتن (٣٩٨٩)...
﴿ وماذا عليهم ﴾ يعني ما الذي عليهم أو أي مضرة يلحقهم ﴿ لو آمنوا بالله واليوم الآخر ﴾ فإن شكر المنعم حسن لذاته لا يحتمل المضرة أصلا عقلا ولا نقلا ﴿ وأنفقوا ﴾ في سبيل الله لتحصيل مرضات الله وطمع ثوابه بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف وإلى ما شاء الله ﴿ مما رزقهم الله ﴾ أي شيئا قليلا من كثير رزقهم الله يعني ربع العشر في النقود أو أقل منه في السوائم بعد ما كان نصابا فاضلا عن الحوائج، فإن ذلك غير شاق على أحد ولا حرج فيه أصلا فالاستفهام للتوبيخ على جهلهم المركب حيث يزعمون ما فيه كمال المنفعة مضرة، وفيه تحريض على الفكر لطلب الجواب حتى يظهر لهم الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة فيما يدعو إليه الله ورسوله، وتنبيه على أن المدعو إلى أمر إذا علم أنه لا ضرر في ذلك الأمر ينبغي أن يجيب احتياطا فكيف عند ظهور منافعه وعوائده ﴿ وكان الله بهم عليما ﴾ وعيد لهم.
﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ المثقال مفعال من الثقل والذرة، هي النملة الصغيرة الحمراء، وقيل الذرة أجزاء الهباء المرئية في الكون ولا يكون لها ثقل، والمعنى أن الله لا يظلم شيئا وفيه إشارة إلى أن ما أعد الله تعالى للكافرين من العذاب المهين عدل ليس بظلم بل ترك تعذيبهم بعد إتلافهم حقوق الله تعالى من التوحيد والعبادة وحقوق الوالدين والأقربين وغيرهم كأنه ظلم بالنسبة إلى من ما منعوا عن الحقوق، ويمكن أن يقال إنهم استخفوا العذاب بحيث لو منعوا عن التعذيب كانوا كأنهم ظلموا. والظلم عبارة عن وضع الشيء في غير محله وفعل شيء لا يجوز فعله وذلك غير متصور من الله تعالى فإنه تعالى خالق الأشياء مالك الملك لو عذب العالمين من غير ذنب لا يكون ظلما، لكن المراد هاهنا أنه لا يفعل فعلا لو صدر ذلك الفعل من غيره عد ظلما يعني أنه تعالى : لا ينقص من أجور الطاعات ولا يزيد في عقاب المعاصي. روى البغوي بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا " ١ رواه أحمد ومسلم، وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا خلص المؤمنون من النار وآمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون في الدنيا بأشد مجادلة من المؤمنين بربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال : يقولون ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا، قال : فيقول : اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه فيخرجونهم فيقولون ربنا : قد أخرجنا من أمرتنا، قال : ثم يقول أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار حتى يقول من كان في قلبه مثقال ذرة، قال أبو سعيد : فمن لم يصدق هذا فليقرأ هذه الآية ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ٤٠ ﴾ قال : فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحد فيه خير، ثم يقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين، قال : فيقبض قبضته من النار، أو قال : قبضتين ناسا لم يعملوا لله خيرا قط قد احترقوا حتى صاروا حمما فيؤتى بهم إلى ماء يقال له ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما ينبت الحبة في حميل السيل، قال : فيخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم عتقاء الله فيقال لهم ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم شيئا فهو لكم، قال : فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، قال : فيقول فإن عندي لكم أفضل منه، فيقولون : ربنا. وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا " رواه البغوي بسنده. وفي الصحيحين نحوه في حديث طويل وليس فيهما قول أبي سعيد فمن لم يصدق هذا فليقرأ هذه الآية. وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر. ثم يقول الله : أتنكر هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب، فيقول : أفلك عذر أو حسنة ؟ فبهت الرجل قال : لا يا رب، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده ورسوله، فيقول : أحضر وزنك، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فقال : إنك لا تظلم، قال : فيوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وتقلت البطاقة، قال : فلا يثقل مع اسم الله شيء " ٢ رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه، وقال قوم : معنى هذه الآية ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ للخصم على الخصم بل يأخذ له منه ولا يظلم مثقال ذرة يبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له كما قال :﴿ وإن تك ﴾ حذف النون، من غير قياس تشبيها بنون الرفع ولم يعد الواو التي حذفت لالتقاء الساكنين بعد حذف النون وهذا خلاف قياس آخر وكأنهم لم يعيدوها تحرزا عن صورة إبقاء حرف العلة في آخر الكلمة مع الجازم ﴿ حسنة ﴾ واحدة. قرأ أهل الحجاز بالرفع على أن تكون تامة وحسنة فاعلها، والباقون بالنصب على أنها ناقصة وضمير الاسم راجع إلى مثقال ذرة وأنت الضمير لتأنيث الخبر أو لإضافة المثقال إلى مؤنث يعني إن يك مثقال ذرة حسنة ﴿ يضاعفها ﴾ أي يجعلها أضعافا كثيرة. عن أبي هريرة قال : والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " رواه ابن جرير وابن أبي شيبة ﴿ ويؤت ﴾ صاحبه ﴿ من لدنه ﴾ تفضلا زائدا على ما وعد في مقابلة العمل ﴿ أجرا عظيما ﴾ قال البغوي : قال أبو هريرة إذا قال الله ﴿ أجرا عظيما ﴾ فمن يقدر قدره، عن ابن مسعود قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد ألا من كان يطلب مظلمة فليجيء إلى حقه فليأخذ فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه وإن كان صغيرا ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل ﴿ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ﴾٣ الآية، ويؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين : هذا فلان فمن كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال له آت هؤلاء حقوقهم، فيقول : يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا في أعماله وأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة حسنة. قالت الملائكة : يا ربنا بقي له مثقال ذرة حسنة، فيقول الله ضعّفوه لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ﴾ وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة : إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون، فيقول الله عز وجل : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار " رواه البغوي : وكذا روى ابن المبارك وأبو نعيم وابن أبي حاتم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا (٢٨٠٨)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله (٢٦٣٨) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة (٤٣٠٠)..
٣ سورة المؤمنون، الآية: ١٠١.
﴿ فكيف ﴾ خبر مبتدأ محذوف، يعني كيف هؤلاء الكفار والاستفهام للتهويل والفاء للتفريع على مفهوم ما سبق، يعني إذا علمت أن الله لا يظلم على أحد بل يأخذ لكل صاحب حق حقه ممن ظلمه ولا يترك منه شيئا فكيف حال هؤلاء الذين لم يؤدّوا حقوق الله وحقوق العباد ﴿ إذا جئنا ﴾ متعلق بالتهويل المستفاد من الاستفهام ﴿ من كل أمة بشهيد ﴾ يعني ذلك الأمة يشهد عليهم بما عملوا من خير أو شر وما أجابوه وما كذبوه ﴿ وجئنا بك ﴾ يا محمد ﴿ على هؤلاء ﴾ يعني أمتك أمة الدعوة ﴿ شهيدا ﴾ يشهد النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الأمة من رآه ومن لم يره، أخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيب قال : ليس من يوم إلا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم، وروى البخاري عن ابن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ علي " قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال :" نعم " فقرأت سورة النساء حتى إذا أتيت هذه الآية ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ٤١ ﴾ قال :" حسبك الآن " فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان١. وقيل : المشار إليه بهؤلاء الأنبياء فإنهم يشهدون على الأمم والنبي صلى الله عليه وسلم يشهد على صدقهم، وقيل : المشار إليه مؤمنوا هذه الأمة يشهدون للأنبياء على الأمم والنبي صلى الله عليه وسلم يصدقهم ويزكيهم وقد ذكرنا شهادتهم على الأمم في البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾٢.
١ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل القرآن، باب: البكاء عند قراءة القرآن (٥٠٥٥) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظ للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر (٨٠٠)..
٢ سورة البقرة، الآية: ١٤٣..
﴿ يومئذ ﴾ يعني يوم إذا كان كذلك ﴿ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ﴾ لو للتمني، يعني يتمنى الذين أتوا بالكفر والعصيان جميعا أو بأحدهما. قرأ نافع وابن عامر تسوّى بفتح التاء وتشديد السين بإدغام تاء التفعل في السين، وحمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين على حذف تاء التفعل، وأصله على القراءتين تتسوى والباقون بضم التاء والتخفيف على البناء للمفعول من التفعيل، قال قتادة وأبو عبيدة : يعني لو تخرقت الأرض فصاروا فيها ثم سوى الأرض عليهم، وقيل : معناه ودوا أنهم لم يبعثوا، وقال الكلبي يقول الله للبهائم والوحوش والطيور والسباع كونوا ترابا فتسوى بهم الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر ﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ قال عطاء ودوا لو تسوى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا نعته، يعني جملة لا يكتمون معطوف على تسوى داخل في التمني وصيغة المضارع بمعنى الماضي، وقال الآخرون بل هو كلام مستأنف يعني لا يقدرون على كتمانه لأن ما عملوه لا يخفى على الله وجوارحهم تشهد عليهم فعلى هذا جملة لا يكتمون معطوف على يود، وقيل الواو للحال من فاعل يود يعني يودّون أن تسوى بهم الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثا ولا يكذبونه لقولهم ﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾١ قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس : إني لا أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال : هات ما اختلف عليك قال :﴿ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ﴾٢ ﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون٢٧ ﴾٣ وقال :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾٤ وقال :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾٥ فقد كتموا، وقال :﴿ أم السماء بناها ﴾ إلى قوله :﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ٣٠ ﴾٦ فذكر خلق السماء، قبل خلق الأرض، ثم قال :﴿ أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ﴾٧ إلى قوله :﴿ طائعين ﴾ فذكر في هذه الآيات خلق الأرض قبل خلق السماء، وقال ﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾٨ فكأنه كان ثم قضى فقال ابن عباس ﴿ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ﴾ هذا في النفخة الأولى إذا نفخ ﴿ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض ﴾ ثم في النفخة الأخرى ﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ٢٧ ﴾ وأما قوله تعالى :﴿ وما كنا مشركين ﴾ ﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام ذنوبهم ولا يغفر للمشركين جحد المشركون رجاء أن يغفر لهم فقالوا ﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ فيختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك ﴿ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ﴾، وخلق الله الأرض في يومين ﴿ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ﴾ في يومين آخرين ثم دحى الأرض في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ أي لم يزل كذلك فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله كذا أخرج البخاري وغيره. وقال الحسن : إنها مواطن ففي مواطن لا يتكلمون ﴿ ولا تسمع إلا همسا ﴾٩ وفي موضع يتكلمون ويكذبون ويقولون ما كنا مشركين وما كنا نعمل من سوء وفي موطن يعترفون على أنفسهم وهو قوله تعالى :﴿ فاعترفوا بذنبهم ﴾١٠ وفي موضع يتساءلون وفي موضع يسألون الرجعة، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم وهو قوله تعالى :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ والله أعلم.
١ سورة الأنعام، الآية: ٢٣..
٢ سورة المؤمنون، الآية: ١٠١..
٣ سورة الصافات، الآية: ٢٧..
٤ سورة النساء، الآية: ٤٢..
٥ سورة الأنعام، الآية: ٢٣..
٦ سورة النازعات، الآية: ٣٠...
٧ سورة فصلت، الآية: ١١- ٩..
٨ سورة النساء، الآية: ٩٦..
٩ سورة طه، الآية: ١٠٨..
١٠ سورة الملك، الآية: ١١..
روى أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم عن علي عليه السلام قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر وذلك قبل تحريم الخمر، فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف لا هكذا إلى آخر السورة فأنزل الله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾١ يعني لا تقربوها في حال سكركم ﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾ ذكر هذا القيد لتعيين حدّ السكر الذي يمنع قربان الصلاة. فإن قيل : السكر إذا بلغ حدا لا يعلم الرجل ما يقول فحينئذ لا يصح خطابه فكيف خوطب بالنهي عن اقتراب الصلاة ؟ قلنا : الخطاب توجه بعد الصحو والمراد به النهي عن اقتراب المسكر في أوقات الصلاة ؟ قال البغوي : فكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر في أوقات الصلاة حتى نزل تحريم الخمر يعني آية المائدة، أو يقال هذا نهي ومعناه النفي يعني لا صلاة لكم وأنتم سكارى ﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾غاية لنفي الصلاة على التقدير الثاني وعلى التقدير الأول حتى لتعليل النهي بمعنى كي، وقال الضحاك : بن مزاحم أراد به سكر النوم نهي عن الصلاة عند غلبة النوم، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه " ٢ متفق عليه ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وفي هذه الآية تنبيه على أنه يجب على المصلي أن يحضر قلبه حتى يعلم ما يقول ويتعلم معاني القرآن ويتدبر فيه ويتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه والله أعلم.
وأخرج الطبراني عن الأسلع قال : كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وأرحل له فقال لي ذات يوم " يا أسلع قم فارحل " فقلت : يا رسول الله أصابتني جنابة " وكذا روى ابن مردويه بلفظ أصابتني جنابة في ليلة باردة فخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض فأتاه جبرائيل بآية الصعيد فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت فتيممت ثم رحلت، وكذا أخرج الغريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي عليه السلام قال هذه الآية قوله :﴿ ولا جنبا ﴾ في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم انتهى، وسنذكر في سورة المائدة إن شاء الله تعالى أن أول آية نزلت لرخصة التيمم آية المائدة وهي أسبق من هذه ولعل نزول هذه الآية لرخصة التيمم لمن خشي المرض أو الموت باستعمال الماء البارد في ليلة باردة كما يدل عليه حديث الأسلع والله أعلم. والجنب الذي أصابته الجنابة ويستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع فصح عطفه على وأنتم سكارى، وفي القاموس الجنابة المني، وقالت الحنفية الجنابة في اللغة خروج المني على وجه الشهوة، يقال أجنب الرجل إذا قضى شهوته من المرأة بالإنزال، وقال بعض العلماء الجنابة يطلق على مجرد الجماع أنزل أو لم ينزل، نقل الحافظ ابن حجر عن الشافعي أن كلام العرب يقتضي أن الجنابة يطلق بالحقيقة على الجماع وإن لم يكن معه إنزال، قال : فإن كل من خوطب بأن فلانا أجنب من فلانة يفهم أنهم أصابهم وإن لم ينزل، وأصل الجنابة البعد سمى الجماع جنابة لمجانبته الناس وبعده منهم في تلك الحالة، فذهب داود إلى أنه لا يجب الغسل من الجماع ما لم ينزل زعما أن الجنابة هو خروج المني، واحتج على ذلك بحديث أبي بن كعب أنه قال : يا رسول الله إذا جامع الرجل والمرأة فلم ينزل ؟ قال :" يغتسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي " ٣ متفق عليه، وحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى رجل من الأنصار فجاء ورأسه يقطر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لعلنا أعجلناك ؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا عجلت أو قحطت فعليك الوضوء " ٤ متفق عليه، وفي لفظ مسلم قصة وفيه " إنما الماء من الماء ".
مسألة : وأجمع الأئمة الأربعة وجمهور المسلمين على وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل فإن كانت الجنابة بمعنى الجماع كما قاله الشافعي وهو المناسب للاشتقاق فالحكم ثابت بإطلاق هذه الآية، وإن كانت بمعنى خروج المني بشهوة فهذا المعنى ثابت في الجماع إما حقيقة وإما حكما لأن الجماع سبب لخروج المني غالبا والذكر عند الجماع يغيب عن النظر والمني قد يرق فلا يدرك خروجه فأقيم السبب مقام السبب كالنوم أقيم مقام الحدث لأنه مظنة خروج الريح غالبا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء " ٥ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني عن علي، وأيضا الحجة على وجوب الغسل بالجماع مطلقا الأحاديث و الإجماع. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهد بها وجب الغسل " ٦ متفق عليه، وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا قعد بين الشعب الأربع وألزق الختان الختان فقد وجب الغسل " ٧ رواه مسلم، وروى الترمذي وصححه بلفظ " إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا " ٨ والحديثان اللذان احتج بهما داود منسوخان. روى أحمد وأصحاب السنن عن سهل بن سعد حدثني أبي بن كعب أن الأنصار كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعد، صححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الإسماعيلي هو صحيح على شرط البخاري. فإن قيل : جزم ابن هارون والدارقطني أن الزهري لم يسمعه عن سهل، وقال الحافظ ابن حجر وقع عند أبي داود ما يقتضي انقطاعه فقال عن عمرو بن الحرب عن ابن شهاب حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره ؟ قلنا : إن سند أبي داود صحيح لأن الثقة إذا قال أخبرني ثقة أو من أرضى يكون الحديث صحيحا وهذا لا يستلزم أن يكون سند أحمد وابن ماجة وغيرهما منقطعا لأنه يمكن أن الزهري سمعه عن ثقة عن سهل ثم لقي سهلا فحدثه.
مسألة : ويجب الغسل بخروج المني أيضا إجماعا غير أن أبا حنيفة ومحمدا ومالكا وأحمد يشترطون أن يكون الخروج بدفق وشهوة عند الانفصال، وقال أبو يوسف بدفق وشهوة عند الانفصال والخروج جميعا، وقال الشافعي : خروج المني موجب للغسل وإن لم يقارن اللذة سواء كان بتدفق أو لا. احتج الشافعي بحديث علي أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المذي فقال :" فيه الوضوء وفي المني الغسل " رواه الطحاوي، وما مر من قوله صلى الله عليه وسلم " إنما الماء من الماء " وحديث أم سلمة أنها قالت : جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : هل على المرأة غسل إذا احتلمت ؟ قال :" نعم إذا رأت الماء " ٩ متفق عليه، قال الجمهور : اللام في قوله صلى الله عليه وسلم المني والماء للعهد والمعهود ما كان منه بدفق وشهوة، وقول الشافعي أحوط واللام عنده للجنس.
مسألة : رؤية المستيقظ المني أو المذي يوجب الغسل وإن لم يتذكر الاحتلام والشهوة لأن النوم أوان غفلة ومظنة الاحتلام، والمني قد يرق بطول الزمان أو فساد الغذاء فالشك يبلغ إلى درجة الظن في كونه منيا فيوجب الغسل، روى الترمذي عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما، قال : يغتسل، وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولم يجد بللا قال :" لا غسل عليه " ١٠ وفيه عبد الله بن عمر يروي عن عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عنها، قال الترمذي : ضعّفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه.
﴿ إلا عابري سبيل ﴾ حال متداخل من قوله جنبا استثناء من أعم أحواله أو صفة لقوله جنبا، وعلى التقديرين الاستثناء مفرغ أي لا تقربوا الصلاة جنبا، في حال من الأحوال إلا حال كون الجنب مسافرين أو جنبا موصوفا بصفة من الصفات إلا بصفة كونهم مسافرين وذلك إذا لم يجد الماء أو لم يقدر غلى استعماله ويتيمم، ويشهد له ما روينا في شأن نزوله، وتعقيبه بذكر التيمم كأنه عبر عن المتيمم بالمسافر لأن غالب حاله عدم الماء وفيه دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث بل يستره وبه قال جمهور العلماء، وقال داود : التيمم يرفع الحدث وكذا وقع في بعض كتب الحنيفة أن التيمم يرفع الحدث عنده وأن وجدان الماء ناقض للتيمم مثل سائر نواقص الوضوء، والصحيح عندي أنه لا يرفع الحدث ولو كان رافعا للحدث فوجد أن الماء لا يتصور كونه حدثا وكون وجد إن الماء غاية لطهورية الصعيد يقتضي ظهور الحدث السابق المستور لا ورود الحدث الجديد وجه قول داود أنه يرفع الحدث قوله صلى الله عليه وسلم :" الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن يجد الماء عشر سنين " ١١ الحديث رواه أصحاب السنن من حديث أبي ذر وقال الترمذي : حديث صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم :" جعلت لي الأرض كلها مسجدا وتربتها طهورا " ١٢ رواه مسلم وابن خزيمة وغيرهما، قلنا : هذان الحديثان وما في معناهما مبنيان على المجاز يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في آخر حديث أبي ذر المذكور " فإذا وجد الماء فليمس بشرته " فإنه إن كان طهورا على الحقيقة لم يجب عليه استعمال الماء بعد رفع الحدث، وفي الصحيحين عن عمران بن حصين ذكر قصته فيه أمر المجنب عند عدم الماء بالتيمم ثم إذا وجد الماء أمره بالغسل ولو كان التيمم رافعا للجنابة لم يأمره بالغسل.
فائدة : ما ذكرنا من التفسير قول علي وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وقال بعض المفسرين : معنى هذه الآية لا تقربوا مواضع الصلاة يعني المساجد بحذف المضاف جنبا إلا عابري سبيل يعني إلا مجتازين من المسجد بغير مكث، لما روى ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد كانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد فأنزل الله قوله :﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل ﴾ وهذا قول ابن مسعود وسعيد بن المسّيب والضحاك والحسن وعكرمة والنخعي والزهري، وبناء على هذا التفسير قال مالك والشافعي : جاز للجنب المرور من المسجد على الإطلاق وهو قول الحسن فإن اللفظ عام وإن كان سبب نزول الآية خاصا يعني ضرورة عدم وجدان الممر إلا في المسجد، وعندنا لا يجوز المرور في المسجد للجنب لأن تأويل الآية على هذا الوجه يتوقف على تقدير المضاف والأصل عدم التقدير، وأيضا لو كان معنى الآية لا تقربوا مواضع الصلاة لزم حرمة دخول مساجد البيوت للجنب ولم يقل به أحد، وأيضا لا معنى لقوله لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فإن صريح في النهي عن قربان الصلاة، ولا يمكن في المعطوف تقدير غير ما ذكر أو قدر في المعطوف عليه.
مسألة : لا يجوز المكث في المسجد عند مالك والشافعي أيضا، كما لا يجوز عند أبي حنيفة وقال أحمد يجوز. لنا قوله صلى الله عليه وسلم :" وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإن لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " ١٣ رواه أبو داود وابن ماجه والبخاري في التاريخ والطبراني عن أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة، وقال الحافظ : رواه أبو داود من حديث جسرة عن أم سلمة، وقال أبو زرعة الصحيح حديث جسرة عن عائشة. فإن قيل : ضعف الخطابي هذا الحديث فقال أفلت بن خليفة العامري الكوفي مجهول الحال وقال ابن الرفعة متروك، قلنا : قول ابن الرفعة مردود لم يقله أحد من أئمة الحديث بل قال أحمد ما أرى به بأسا وصححه ابن خزيمة وحسنه
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة النساء (٣٠٢٦)...
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: الوضوء من النوم، ومن لم ير من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءا (٢٠٩). وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك (٧٨٦)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الغسل، باب: غسل ما يصيب من فرج المرأة (٢٨٩) وأخرجه مسلم في كتاب: الحيض، باب: إنما الماء من الماء (٣٤٦).
.

٤ أخرجه البخاري في كتاب: الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين القبل والدبر (١٧٨).
وأخرجه مسلم في كتاب: الحيض، باب: إنما الماء من الماء (٣٤٥)..

٥ أخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: في الوضوء من النوم (٢٠٢) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب الوضوء من النوم (٤٧٧)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الغسل، باب: إذا التقى الختانان (٢٨٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الحيض، باب: نسخ الماء من الماء (٣٤٨)..
٧ أخرجه مسلم في كتاب: الحيض، باب: فسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين (٣٤٩)..
٨ أخرجه الترمذي في كتاب: الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل (١٠٨)...
٩ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: الحياء في العلم (١٣٠) وأخرجه مسلم في كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها (٣١٣)..
١٠ أخرجه الترمذي في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر احتلاما (١١٣)..
١١ أخرجه الترمذي في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء التيمم للجنب إذا لم يجد الماء (١٢٤) وأخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: الجنب يتمم (٣٣١) وأخرجه النسائي في كتاب: الطهارة، باب: الصلوات بتيمم واحد (٣١٧)..
١٢ أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة (٥٢١). .
١٣ أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب: في الكنب يدخل المسجد (٢٣١)..
﴿ ألم تر ﴾ خطاب لغير معين يدل عليه قوله تضلّوا وأعدائكم أو خطاب لسيد القوم في مقام خطابهم، والراوية مجاز عن النظر وإلا فالرؤية سواء كان من البصر، أو القلب لا يتعدى بإلى ويحتمل تضمين معنى النظر على أنها رؤية البصر، أوتضمين معنى الانتهاء سواء كانت الرؤية من البصر أو القلب ولذا عدى بإلى حيث قال :﴿ إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ يعني يهود المدينة، وتنكير نصيبا للتحقير يعني أوتوا حظا يسيرا من الكتاب أي التوراة وهو القراءة باللسان دون التفقه والإذعان بالجنان ﴿ يشترون الضلالة ﴾ أي الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم يستبدلونها بالهداية التي كانوا عليها قبل البعثة فإنهم كانوا يؤمنون بالنبي الأمي المبعوث في آخر الزمان وكانوا يستفتحون على الذين كفروا، أو المعنى يستبدلون الضلالة بالهداية التي تمكنوا على تحصيلها باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ ويريدون أن تضلوا ﴾ أيها المؤمنون ﴿ السبيل ﴾ إلى الحق والاستفهام للتقرير والتعجيب والتحذير، يعني قد رأيت وعملت عداوتهم بك وبالمؤمنين مع علمهم بكونك على الحق فاحذرهم فإن أعدى الأعداء من أراد بكم الضلالة الموجبة للهلاك الأبدي ولا تستنصحوهم في أموركم.
﴿ والله أعلم ﴾ منكم ﴿ بأعدائكم ﴾ هذه الجملة تأكيد للتحذير ﴿ وكفى بالله ﴾ الباء زائدة في المرفوع لتأكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي لإفادة زيادة حرف الإلصاق لزوم الكفاية للفاعل ﴿ وليّا ﴾ في النفع يلي أموركم وينفعكم ﴿ وكفى بالله نصيرا ﴾ في دفع أنصر يكفيكم مكرهم وينصركم عليهم فاكتفوا به غيره في الولاية والنصرة فإنه أعلم وأقدر فثقوا به ولا تتولوا ولا تستنصروا غيره، ووليا ونصيرا منصوبان إما على التمييز وإما على الحال.
﴿ من الذين هادوا ﴾ قيل متصل بما قبله بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب أو بيان لأعدائكم، أو متعلق بقوله نصيرا ينصركم من الذين هادوا فعلى هذا قوله :﴿ يحرفون ﴾ حال متدخل أو مترادف لما قبله وقيل ﴿ من الذين هادوا ﴾ كلام مستأنف ظرف مستقر مسند إلى مقدر بعده تقديره من الذين هادوا فريق يحرفون ﴿ الكلم ﴾ جمع كلمة وقيل اسم جنس وليس بجمع يدل عليه تذكير الضمير الراجع إليه في قوله تعالى :﴿ عن مواضعه ﴾ وأجيب بأن تقديره يحرفون بعض الكلم عن مواضعه، واختار التفتازاني كونه اسم جنس وقال من نفى كونه جمعا نفى كونه جمعا اصطلاحا ومن أثبت الجمعية أراد أنه جمع معنى ويؤيد كونه كلاما مستأنف قراءة ابن مسعود " ومن الذين هادوا " بزيادة الواو وما في مصحف حفصة من الذين هادوا من يحرفون الكلم، أي يغيرونها ويزيلونها عن مواضعها التي وضعها الله تعالى فيها من التوراة، والمراد بالكلم نعت محمد صلى الله عليه وسلم لما روى البيهقي عن ابن عباس قال : وصف الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة أكحل أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده أحبار يهود فغيروا صفته في كتابهم وقالوا لا نجد نعته عندنا وقالوا نجد النبي الأمي طويلا أزرق سبط الشعر، وقالوا للسفلة هذا ليس هذا فلبسوا بذلك على الناس، وإنما فعلوا ذلك لأن الأخبار كانت لهم مأكلة يطعمهم إياهم السفلة فخافوا أن تؤمن السفلة فتنقطع تلك المأكلة. وقال البغوي : قال ابن عباس : كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الأمر فيخبرهم فيرى أنهم يأخذون بقوله فإذا انصرفوا من عنده حرفوا كلامه فعلى هذا المراد بالكلم مطلق الكلم، وقيل : معنى تحريف الكلم من التوراة عن مواضعه تأويله على ما يشتهونه غير ما أراد الله تعالى منها كما يفعل أهل الأهواء من هذه الأمة في القرآن، وجاز أن يكون معنى تحريف الكلم أن يقولوا كلمة ذا جهتين يحتمل المدح والذم والتوقير والتحقير فيظهرون المدح ويضمرون به الذم ﴿ ويقولون سمعنا وعصينا ﴾ عطف على قوله يحرفون وليس هذا من جملة التحريفات إن كان المراد تحريف التوراة، والمعنى أنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم هذا فهو بيان لكفرهم حيث يقولون لا نطيعك بعد السماع، وجاز أن يكون المعنى يقولون عند أصحابهم سمعنا قول محمد وعصيناه أو يكون قولهم سمعنا عمد النبي صلى الله عليه وسلم وعصينا عند قومهم فهو بيان لنفاقهم، وجار أن يكون هذا بيانا لبعض تحريفاتهم حيث يقولون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا وهي كلمة ذات جهتين يعني سمعنا إجابة ويريدون به سماعا بلا إجابة، وجاز أن يكون قوله تعالى حكاية عنهم سمعنا وعصينا وكناية عن تحقق عصيانهم بعد السماع فإن المحقق نزل منزلة القول يعني أنهم يسمعونك ثم يعصونك ﴿ واسمع ﴾ منا ﴿ غير مسمع ﴾ قيل كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم اسمع ثم يقولون في أنفسهم لا سمعت دعاء عليه بالصمم أو الموت والظاهر أنهم كانوا يقولون ذلك جهارا، وهي كلمة ذات جهتين يحتمل التعظيم والدعاء أي اسمع غير مسمع مكروها من قولهم اسمع فلان فلانا أي سبه ويحتمل السب أي اسمع منا ندعو عليك بلا سمعت أو غير مسمع جوابا ترضاه أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنك تأبى عنه فيكون مفعولا به ﴿ وراعنا ﴾ هذه أيضا كلمة ذات الجهتين فإن معناه بالعربية ارقبنا وانتظرنا نكلمك، ومعناه بالعبرانية أو السريانية السب فإنهم كانوا يتسابون بما يشبه ذلك يقولون راعينا فكانوا يقولون ذلك سخرية بالدين وهزوا برسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم لعنهم الله أجمعين ﴿ ليا بألسنتهم ﴾ مفعول له لقوله تعالى يقولون يعني يقولون ذلك لأن يفتلوا بألسنتهم الحق بالباطل والتوقير في الظاهر بالشتم المضمر ﴿ وطعنا في الدين ﴾ أي لأجل الطعن في الدين حيث يقولون لو كان نبيا حقا لأخبر بما أضمرنا فيه، ﴿ ولو ﴾ ثبت ﴿ أنهم قالوا ﴾ سرا وعلانية ﴿ سمعنا وأطعنا ﴾ مكان قولهم سمعنا وعصينا ﴿ واسمع ﴾ بغير إلحاق غير مسمع ﴿ وانظرنا ﴾ مكان راعنا ﴿ لكان ﴾ قولهم ذلك ﴿ خير لهم وأقوم ﴾أي أعدل ﴿ ولكن لعنهم الله ﴾ أي خذلهم وأبعدهم عن الهدي ﴿ بكفرهم ﴾ أي بسبب كفرهم فذلك اللعنة موجب لعدل توفيقهم إلى ما هو خير لهم وأعدل ﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ منصوب على المصدرية أو على الظرفية يعني إلا إيمانا قليلا وتصديقا لا يعبأ به شرعا، ذلك الإيمان ببعض الكتب وبعض الرسل أو الإيمان في الظاهر بالنفاق ويجوز أن يراد بالقلة العدم، وقيل : معناه إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام، ويتجه عليه أن نصب المستثنى في الكلام المنفي غير مختار عنده النجاة، وإن جوزه ابن الحاجب مع أن القراء على النصب وأيضا لابد حينئذ حمل قوله تعالى لعنهم على لعن أكثرهم، وقال التفتازاني هو اسثناء من قوله تعالى :﴿ لعنهم الله ﴾ والله أعلم.
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسيد فقال لهم :" يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق " فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد، وأصروا على كفرهم فأنزل الله تعالى ﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب ﴾التوراة ﴿ آمنوا بما نزلنا ﴾ على محمد من القرآن ﴿ مصدقا لما معكم ﴾من التوراة ﴿ من قبل أن نطمس وجوها ﴾ التنوين عوض للمضاف إليه أي وجوهكم، أصل الطمس إزالة الأثر والمعنى نمحو آثار الوجوه من الأنف والعين والفم والحاجب ﴿ فنردّها على أدبارها ﴾ أي نجعلها كالأقفال، وقيل : نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة لأن منابت شعور الآدميين في أدبارها وجوههم، قال ابن عباس : نجعلها كخف البعير، وقال قتادة والضحّاك نعيمها والمراد بالوجه العين. فإن قيل : قد وعدهم الله بالطمس إن لم يؤمنوا يدل على ذلك ما روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما سمع الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تأتي أهله ويده على وجهه وأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفائي " ولذلك ما روي عن كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر فقال : يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية، لكنهم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك ؟ قلنا : قيل هذا الوعيد يأتي ويكون طمس ومسخ في اليهود قبل قيام الساعة، وقيل : كان وعيدا بشرط عدم إيمان كلهم فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع ذلك من الباقين، وقيل : أوعدهم الله بأحد الأمرين على سبيل منع الخلو بالطمس أو اللعن وقد لعنوا فثبت الوعيد، والصحيح عندي أنه يطمسهم يوم القيامة إن لن يؤمنوا، أخرج ابن عساكر والخطيب عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا ﴿ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ١٨ ﴾ قال :" يحشر أمتي عشرة أفواج صنف على صورة القردة وصنف على صورة الخنازير وصنف على صورة الكلاب وصنف على صورة الحمر " الحديث، وقد ذكرنا في تفسير تلك الآية، وقال مجاهد أراد بقوله :﴿ نطمس وجوها ﴾ أي نتركهم في الضلالة، فيكون المراد طمس وجه القلب والرد عن بصائر الهدى، لكن يرد عليه أن ذلك التأويل يقتضي كون قلوب اليهود نقية قبل ذلك، وقال ابن زيد : معناه نمحو آثارهم من المدينة فنردها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاءوا منه وهو الشام، وقد قضى تأويله بإجلاء بني نصير إلى أذرعات وأريحا بالشام ﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾ من اليهود على لسان داود وعيسى بن مريم ﴿ وكان أمر الله مفعولا ﴾ نافذا كائنا لا محالة لا يقدر أحد على دفعه.
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال : وما دينه ؟ فقال : يصلي ويوحّد، قال :" استوهب منه. دينه فإن أبى فابتعه منه " فطلب الرجل ذلك منه فأبى عليه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال وجدته شحيحا على دينه فنزلت ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ تعالى في وجوب الوجود أو العبادة إذا مات وهو مشرك وأما إذا تاب عن الشرك وآمن فيغفر له ما قد سلف من الشرك وغيره إجماعا لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، يعني كأنه لم يصدر عنه ذلك الذنب قط، قال الله تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " ١ { ويغفر ما دون ذلك ﴾ يعني ما سوى الشرك من الذنوب صغيرة كانت أو كبيرة صدرت عنه خطأ أو عمدا وإن مات مذنبا لم يتب ﴿ لمن يشاء ﴾ تعميم المغفرة لما دون الشرك، وتقييدها بالمشيئة مبطل لمذهب المرجئة حيث قالوا بوجوب المغفرة لكل ذنب وقالوا لا يضر مع الإيمان كما لا ينفع عمل مع الشرك، ومذهب المعتزلة حيث قيّدوا مغفرة الذنوب بالتوبة فإن الآية تدل على نفي التقييد بالتوبة لأن سوق الكلام للتفرقة بين حال المشرك والمذنب، والتقييد بالمشيئة يبطل القول بوجوب المغفرة للتائب ووجوب التعذيب لغيره. فإن قيل : التقييد بالمشيئة لا ينافي الوجوب بل يستلزم وجوب المشيئة بعد ثبوت المغفرة ؟ قلنا : فحينئذ لا فائدة في التقييد ومذهب الخوارج حيث قالوا : كل ذنب شرك صاحبه مخلد في النار، أخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ قال : إني ادخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا بعد ورجونا " قال البغوي ناقلا عن الكلبي إن الآية نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه وذلك أنه لما قتل حمزة كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك فلما قدم مكة ندم ما صنع هو وأصحابه فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا قد ندمنا على صنعنا وأنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ﴾٢ الآيات قد دعونا مع الله آلهة وقتلنا النفس التي حرم الله تعالى وزنينا فلولا هذه الآيات لا تبعناك فنزلت ﴿ إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ﴾٣ الآيتين فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما قرؤوا كتبوا إليه أن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فنزلت هذه الآية ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ الآية، فبعث بها إليهم فبعثوا إليه : إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾٤ الآية، فبعث بها إليهم فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتقبل منهم، ثم قال للوحشي : أخبرني كيف قتلت حمزة ؟ فلما أخبره فقال : ويحك غيب وجهك عني، فلحق الوحشي بالشام وكان بها إلى أن مات. فإن قيل : هذه القصة يدل على نسخ تقييد المغفرة بالمشية فيثبت مذهب المرجئة ؟ قلنا : هذا التقييد لا يحتمل النسخ إذا لا يجوز وجود شيء من الأشياء مغفرة كانت أو غيرها بدون مشيئة الله لكن نزول قوله تعالى :﴿ يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ في شأن الوحشي دل على كونه من أهل المشيئة والله أعلم. وقال البغوي ناقلا عن أبي مجلز عن ابن عمر أنه لما نزل ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ الآية قام رجل فقال والشرك يا رسول الله فسكت ؟ ثم قال إليه مرتين أو ثلاثا فنزلت ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ الآية، وقال ناقلا عن مطرف بن عبد الله ابن الشخير عن ابن عمر قال : كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادات، وقال : حكي عن علي أن هذه الآية أرجى آية في القرآن ﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى ﴾ معنى الإفراء الإفساد و الافتراء استعمل في الكذب والشرك والظلم كذا في الصحاح، فالمعنى فقد أفسد وكذب ﴿ إثما ﴾ منصوب على المصدرية يعني ارتكب الكذب والفساد كذبا وفسادا عظيما، وجاز أن يكون منصوبا على المفعولية والمعنى على التجريد اختلق إثما ﴿ عظيما ﴾ يستحقر دونه الآثام، وهذا وجه الفرق بينه وبين سائر الآثام، عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اثنتان موجبتان " فقال رجل : يا رسول الله ما الموجبتان ؟ قال :" من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار " ٥ رواه مسلم، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم و عليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال :" ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال : وإن رغم أنف أبي ذر " ٦ متفق عليه، وفي الباب أحاديث كثيرة والله أعلم.
١ سورة الأنفال، الآية: ٣٨.
٢ سورة الفرقان، الآية: ٦٨.
٣ سورة الفرقان، الآية: ٧٠.
٤ سورة الزمر، الآية: ٥٣.
٥ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار (٩٣)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: اللباس، باب: الثياب البيض (٥٨٢٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار (٩٤)..
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة وأبي مالك ومجاهد وغيرهم أنه كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب فأنزل الله تعالى ﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾ الاستفهام للتعجب من حال من يزكي نفسه لأن غرضه من تزكية نفسه اعتلاؤه بين الناس ولا يحصل ذلك بتزكيته نفسه بل يوجب ذلك دناءة في أعين الناس وإنما يحصل الاعتلاء والزكاء بتزكية الله تعالى وجعله عاليا ناميا فيما بين عباده، ذكر البغوي والثعلبي عن الكلبي أنها نزلت في رجال من اليهود منهم بحري بن عمرو والنعمان بن أوفى ومرحب بن زيدا أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء ذنب ؟ فقال : لا، قالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ما علمنا بالنهار يكفّر عنا بالليل، وما علمنا بالليل يكفّر عنا بالنهار فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الحسن والضحاك وقتادة نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا :﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾١ وقالوا :﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾٢ قلت : وإن كان سبب نزول الآية خاصا لكن الحكم عام وقال ابن مسعود هو تزكية بعضهم لبعض، روى عن طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال : إن الرجل ليغدوا من بيته ومعه دينه فيأتي الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا فيقول والله أنت لذيت وذيت فيرجع إلى بيته وما معه من دينه شيء ثم قرأ ﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾.
مسألة : لا يجوز لأحد أن يزكي نفسه ويثني عليها وينسبها إلى الطهارة من الذنوب، وأيضا لا يجوز أن يحكم لغيره بالطهارة إلا على سبيل حسن الظن المأمور به فإن الحكم بغير العلم لا يجوز قال الله تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ﴾٣ وتزكية نفسه يفضي إلى العجب والكبر المنهيين أيضا، وفي نفس الأمر ما لكل أحد عند الله تعالى من القرب والثواب لا يعلمه إلا الله تعالى ولذلك قال :﴿ بل الله يزكي ﴾أي يحكم بالطهارة أو يطهر من الذنوب بالمغفرة ويصلح ﴿ من يشاء ﴾ فإنه القادر على التطهير وبما ينطوي عليه الإنسان هو العليم الخبير، وفيه إشعار بأنه يجوز تزكية نفسه أو غيره بإعلام من الله تعالى بتوسط الوحي أو الإلهام بشرط أن لا يكون ذلك على وجه البطر والتكبر فإنها من رذائل النفس وهذا هو محمل ما ورد في الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم :" أنا سيد ولد آدم ولا فخر " ٤ وقد مر في البقرة، وقوله صلى الله عليه وسلم :" والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض " ٥ لما عرض المنافقون بأنه جار في القسمة وقوله صلى الله عليه وسلم :" والله لا تجدون من بعدي أعدل عليكم مني " ٦ رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة وأحمد عن أبي سعيد، وقوله صلى الله عليه وسلم :" أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة " " والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " " وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة " ٧ وكدا ما ورد في كلام الأولياء بناء على الإلهام من الله تعالى كقول غوث الثقلين قدمي هذه على رقبة كل ولي الله ﴿ ولا يظلمون ﴾ الضمير راجع إلى من يشاء الله تزكيته فإنهم يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم وإلى الناس أجمعين المفهوم في ضمن ما سبق، يعني أن الله لا يظلم الناس في التزكية فتيلا بل لا يزكي إلا من يستأهله ولا يترك إلا من لا يستأهله أو إلى الذين يزكون أنفسهم فإنهم يعاقبون على قدر جريمتهم ولا يظلمون ﴿ فتيلا ﴾ في الصحاح هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب بها المثل في الشيء الحقير، وقيل : هو الخيط الذي في شق النواة منصوب على المصدر أي لا يظلمون ظلما فتيلا أي أدنى ظلم بقدر الفتيل.
١ سورة المائدة، الآية: ١٨.
٢ سورة البقرة، الآية: ١١١.
٣ سورة الإسراء، الآية: ٣٦.
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب. وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: ذكر الشفاعة (٤٣٠٨)..
٥ رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف. انظر مجمع الزوائد في كتاب: البيوع، باب البيع إلى أجل (٦٦١٩)..
٦ قال الهيثمي: فيه الأزرق بن قيس وثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح. انظر فيض القدير (٩٦٠٩)..
٧ هذه المقاطع من ثلاثة أحاديث رواها الترمذي في كتاب: المناقب (٣٦٧٣) و (٣٧٧٧) و (٣٨٨٢)..
﴿ انظر ﴾ يا محمد ﴿ كيف يفترون ﴾ أي اليهود يكذبون ﴿ على الله الكذب ﴾ أنهم أبناؤه وأحباؤه أو يغفرهم بالليل ما يعملون بالنهار وبالنهار ما يعملون بالليل ﴿ وكفى به ﴾ أي بافترائهم هذا ﴿ إثما مبينا ﴾ ظاهر البطلان لأن بطلان كونهم أبناء الله وأحباؤه بديهي لا يحتاج إلى دليل، وقولهم هذا ظاهر في المأثم من بين سائر آثامهم وجملة كفى به حال بتقدير قد من فاعل يفترون والله أعلم.
قال المفسرون : خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد واقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل ذلك، ثم قال كعب لأهل مكة : ليجئ منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا فنزلت ﴿ ألم تر الذين أتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ أخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس نحوه. واختلفوا في تفسير الجبت والطاغوت ؟ فقال عكرمة : هما ضمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله ويؤيده ما روينا من القصة، وروي عنه أن الجبت بلسان الحبشة الشيطان، قلت : لعل ذلك الصنم سمي باسمه، وقال أبو عبيد هما كل معبود يعبد من دون الله لكن العطف يقتضي المغايرة، والتحقيق أن الجبت أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلت سينه تاء، والطاغوت فعلوت من الطغيان والتجاوز عن الحد في الكفر والعصيان أصله طغووت قلبت اللام بالعين ثم قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار طاغوت كذا في الصحاح والقاموس، فعلى هذا جاز إطلاق الجبت على كل ما لا خير فيه والطاغوت على كل ما تجاوز الحد في العصيان ولذا سمي بالجبت حيي بن أخطب وبالطاغوت كعب ابن الأشرف، كذا قال الضحاك، وقال عمرو الشعبي ومجاهد : الجبت السحر والطاغوت الشيطان، وقال محمد بن سيرين الجبت الكاهن والطاغوت الساحر، وقال سعيد بن جبير وأبو العالية بعكس ذلك، وروى البغوي بسنده عن قصبية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" العيافة والطرق والطيرة منه الجبت " ١ يعني لا خير في شيء منها، قلت : فالظاهر أن المراد بالجبت هاهنا الأوثان إذ لا خير فيها أصلا وبالطاغوت شياطين الأوثان وكان لكل صنم شيطان يعبر عنه فيغتربه الناس. روى البيهقي عن أبي الطفيل رضي الله عنه أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لهدم العزى يوم فتح مكة، قال أبو الطفيل : فقطع خالد السمرات ثم رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال : هل رأيت شيئا " قال : لا، قال : فإنك لم تهدمها فرجع خالد فلما رأت السدنة خالدا انبعثوا في الجبل وهم يقولون يا عزى خبلتيه يا عزى عوّرته وإلا فموتي برغم، فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ناشزة الرأس تحثوا التراب على رأسها ووجهها فجرد خالد سيفه وهو يقول يا عزى كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد هانك، فضربها بالسيف فجزلها باثنتين ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : نعم تلك العزى قد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا " كذا في سبيل الرشاد والله أعلم.
أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه يزعم أنه منا ونحن أهل الحجج وأهل السدانة وأهل السقاية، قال أنتم خير منه فنزلت فيهم ﴿ إن شانئك هو الأبتر ٣ ﴾ ونزلت هذه الآية ﴿ ويقولون ﴾ يعني كعب الأشرف وأصحابه ﴿ للذين كفروا ﴾ من أهل مكة أبي سفيان وغيره ﴿ هؤلاء ﴾ يعني كفار مكة ﴿ أهدى ﴾ أقوم وأرشد ﴿ من الذين آمنوا ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ سبيلا ﴾ دينا وطريقا : وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس : قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو رافع والربيع بن أبي الحقيق وأبو عمارة وهودة بن قيس وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار اليهود وأهل العلم بالكتب الأولى فسألوهم أديننا خير أم دين محمد ؟ فقالوا : دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن تبعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله :﴿ ملكا عظيما ﴾ وذكر البغوي أنه لما سأل أبو سفيان كعبا عن ذلك، قال كعب أعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان نحن ننحر للحجيج الكرماء ونسقيهم الماء ونقر الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرام ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب والله أنتم أهدى سبيلا مما عليه محمد.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الكهانة والتطير، باب: في الخط وزجر الطير (٣٩٠٢)..
﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾ أبعدهم من رحمته ﴿ ومن يلعن الله ﴾ إياه ﴿ فلن تجد ﴾ أيها المخاطب ﴿ له نصيرا ﴾ في الدنيا في الحروب وفي الآخرة بدفع العذاب بالشفاعة أو غيرها وفيه رد للاستنصار بهم ومحالفتهم مع قريش على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم وصف الله تعالى اليهود بالبخل والحسد وهما من شر الخصال حيث يمنعون ما لهم ويتمنون زوال مال غيرهم فقال :﴿ أم لهم ﴾ أي لليهود ﴿ نصيب من الملك ﴾ أم منقطعة ومعنى الهمزة التي في ضمنها إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ونفي ما زعمت اليهود أن الملك سيصير إليهم أو المراد بنصب من الملك الرياسة التي أنكر اليهود النبوة لخوف فواتها فأنكر الله تعالى رياستهم لفقد لوازمها وهو السخاء بأبلغ الوجوه، وذلك بإثبات كمال الشح فيهم، وجاز أن يقال فيه تعريض بأن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لو نفع إنما ينفع لمن خاف فوت ملكه بظهور نبوته فإنكار من لا نصيب له من الملك في غاية السف ﴿ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ﴾ يعني أن كان لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون أحدا ما يوازي نقيرا لغاية بخلهم وكمال شحهم فكيف يؤتيهم الله تعالى الملك، وجاز أن يكون المعنى أنهم لو كانوا ملوكا بخلوا بالنقير فما ظنكم بهم إذا كانوا أذلاء متفاقرين فهو بيان لغاية بخلهم والنقير هو النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة كالفتيل.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال :" أهل الكتاب يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في التواضع وله تسع نسوة وليس همه إلا النكاح فأي ملك أفضل من هذا " فأنزل الله تعالى ﴿ أم ﴾ بل ﴿ يحسدون ﴾ الآية أي اليهود، وأخرج ابن سعد عن عمر مولى عفرة أبسط منه ﴿ الناس ﴾ قال ابن عباس والحسن ومجاهد وجماعة المراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده حسدوه على ما أحل الله له من النساء كما مر، وقيل المراد به محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال قتادة : المراد بالناس العرس حسدهم اليهود على النبوة وما أكرمهم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل : المراد بالناس الناس أجمعون لأن من حسد النبوة فكأنما حسد الناس كلهم كمالهم ورشدهم ﴿ على ما آتاهم الله من فضله ﴾ يعني النبوة والكتاب ورضوان الله تعالى والنصر على الأعداء والإعزاز في الدنيا والنساء وغير ذلك مما يشتهونه في الدنيا من الحلال وجعل النبي الموعد منهم ﴿ فقد آتينا آل إبراهيم ﴾ الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم وأبناء جده يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب وسائر أنبياء بني يعقوب عليهم السلام ﴿ الكتاب ﴾ التوراة والإنجيل والزبور واللام للجنس ﴿ والحكمة ﴾ العلم اللدني أو العلوم التي أعطوا مما سوى الكتاب ﴿ وآتيناهم ملكا عظيما ﴾ ملّك يوسف وطالوت وداود وسليمان عليهم السلام وغيرهم فلا يبعد أن يعطي محمد صلى الله عليه سلم وأتباعه مثل ما أعطوا أو أفضل من ذلك وقد كان لسليمان عليه السلام ألف امرأة ثلاثمائة مهرية وسبعمائة سرية وكان لداود مائة امرأة ولم يكن لرسول الله صلى اله عليه وسلم يومئذ إلا تسع نسوة، قال البغوي : فلما قال الله تعالى لهم ذلك سكتوا يعني عن ذكر كثرة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من النعماء، وجاز أن يراد بقوله :﴿ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ﴾ مع كثرة حسادهم وقوتهم كنمرود وفرعون وغيرهما فلم ينفع الحسد للحساد ولم يضر بالمحسودين.
﴿ فمنهم ﴾ أي من اليهود ﴿ من آمن به ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه أو بما ذكر من حديث آل إبراهيم ﴿ ومنهم من صد عنه ﴾ أي أعرف منه ولم يؤمن، وقال السدي : الضمير المجرور في آمن به وصدّ عنه راجع إلى إبراهيم، وذلك أن إبراهيم زرع ذات سنة وزرع الناس فهلك زرع الناس وزكا زرع إبراهيم عليه السلام فاحتاج إليه الناس فكان يقول من آمن بي أعطيته فمن آمن به أعطاه ومن لم يؤمن به منعه، والمعنى على هذا إن لم يوهن عدم إيمان بعض الناس بإبراهيم أمر إبراهيم فكذا لا يوهن كفر هؤلاء الأشقياء أمرك ﴿ وكفى بجهنم سعيرا ﴾ أي نارا مسعورة موقدة يعذبون بها من أن يعجلوا بالعقوبة بالدنيا.
﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ﴾ كالبيان والتقرير لما سبق ﴿ كلما نضجت جلودهم ﴾ أي احترقت ﴿ بدلناهم جلودا غيرها ﴾ بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى كقولك بدلت الخاتم قرطا، أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه بالعذاب وهو المعنى من قول ابن عباس يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس ذكر عنه البغوي، وكذا أخرج ابن أبي حاتم في الآية عن ابن عمر وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال : قرئ عند عمر هذه الآية فقال معاذ : عندي تفسيرها يبدل في ساعة مائة مرة فقال : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية أبيّ مكان معاذ، وأخرج ابن مروديه وأبو نعيم في الحلية من وجه آخر بلفظ تبدل في الساعة الواحدة عشرون ومائة مرة، وأخرجه البيهقي من وجه ثالث بلفظ تحرق وتجدد في مقدار ساعة ستة آلاف مرة، وأخرج البيهقي عن الحسن في الآية قال : تأكل النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودوا كما كانوا، وأخرج ابن أبي الدنيا عن حذيفة " أن في جهنم سباعا من نار وكلابا من نار وكلاليب من نار، وسيوفا من نار وأنه يبعث ملائكة يعلقون أهل النار بتلك الكلاليب بأحقابهم ويقطعونهم بتلك السيوف عضوا عضوا ويلقونهم إلى تلك السباع والكلاب كلما قطعوا عضوا أعاد مكانه عضو جديد ". قلت : يعني عضوا جديدا من أجزاء العضو السابق جلدا جديدا من أجزاء الجلد السابق، وقيل : يخلق مكانه جلدا آخر والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها فلا محذور، قال عبد العزيز بن يحيى : إن الله عز وجل يلبس أهل النار جلودا لا تألم فيكون زيادة عذاب عليهم كلما احترق جلد بدلهم جلدا غيره كما قال :﴿ سرابيلهم من قطران ﴾١ فالسرابيل تؤلمهم وهي لا تألم ﴿ ليذوقوا ﴾ أي ليدوم لهم ذوق ﴿ العذاب ﴾ إسناد الذوق إلى الكفار دون الجلود يؤيد قول عبد العزيز، ومن قال أن العذاب للنفس العاصية والله اعلم. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع " ٢ رواه البخاري ومسلم، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ضرس الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث " ٣ رواه مسلم. وأخرج ابن المبارك عنه بلفظ " ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد يعلمون لتمتلئ جهنم منهم وليذوقوا العذاب " وعند الترمذي والبيهقي " فخذه مثل البيضاء ومقعده من جهنم ما بين مكة والمدينة وغلظ جلده اثنان وأربعون ذراعا " ٤ وعند أحمد والترمذي والحاكم وصححه والبيهقي " عرض جلده سبعون ذراعا وعضده مثل البيضاء وفخده مثل ورقان "، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يعظم أهل النار في النار حتى أن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وأن غلظ جلده سبعون ذراعا وإن ضرسه مثل أحد " ٥ وأخرج الترمذي والبيهقي وهناد عنه مرفوعا " إن الكافر ليجر لسانه الفرسخين " ٦ وعند الترمذي الفرسخ الفرسخين، وأخرج أحمد والحاكم عن ابن عباس بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة أربعين خريفا يجري فيه أودية من القيح والدم، قيل أنهار ؟ قال : لا بل أودية ﴿ إن الله كان عزيزا ﴾ لا يمتنع عليه ما يريده ﴿ حكيما ﴾ يعاقب على وفق حكمته.
١ سورة إبراهيم، الآية: ٥٠.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار (٦٥٥١) وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٢٨٥٢)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفه نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٢٨٥١)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة جهنم، باب: ما جاء في عظم أهل النار (٢٥٧٨)..
٥ رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وفي أسانيدهم أبو يحيى القتات وهو ضعيف وفيه خلاف وبقية رجاله أوثق منه.
انظر مجمع الزوائد في كتاب: صفة أهل النار، باب: عظم خلق الكافر في النار(١٨٦٠٥)..

٦ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة جهنم، باب: ما جاء في عظم أهل النار (٢٥٨٠) وفيه من لم يعرف..
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة ﴾ أخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مطهرة من الحيض والغائط والنخامة والبزاق " وأخرج هناد عن مجاهد قال : مطهرة عن الحيض والغائط والبول والمخاط والبصاق والنخام والولد والمني وعن عطاء مثله ﴿ وندخلهم ظلا ظليلا ﴾ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها اقرؤوا إن شئتم ﴿ وظل ممدود ٣٠ ﴾١ " متفق عليه، وزاد أحمد في آخره " وإن ورقها ليخمر الجنة " وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله تعالى :﴿ وندخلهم ظلا ظليلا ﴾ قال : هو ظل العرش الذي لا يزول، والظليل صفة مشتقة من الظل للتأكيد كقولهم شمس شامس وليل لئيل ويوم أيوم، فيه إشارة إلى دوام نعماء الجنة والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (٣٢٥٢) وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفه نعيمها وأهلها، باب: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها (٢٨٢٦).
.

أخرج ابن مروديه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان ابن طلحة فلما أتاه قال : أدّني المفتاح فأتاه به، فلما بسط يده قام العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أجمعه لك مع السقاية وخلف عثمان يده فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " هات المفتاح يا عثمان " فقال : هات بأمانة الله فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه بردّ المفتاح فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح " ثم قال :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ حتى فرغ من الآية وأخرج سنيد في تفسيره عن حجاج بن والأزرقي عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مفتاح الكعبة فدخل به البيت يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الآية فدعا عثمان فناوله المفتاح، قال وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية فداه أبي وأمي وما سمعته يتلو قبل ذلك، فالظاهر أنها نزلت في جوف الكعبة، وروي أيضا نحوه عن سعيد بن المسيّب وفيه " خذوها يا بني طلحة خالدة لا يظلمكموها إلا كافر " وروى ابن سعد عن إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه ومحمد بن عمرو عن شيوخه قالوا قال عثمان بن طلحة لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فدعاني إلى الإسلام، فقلت : يا محمد أتعجب لك حيث تطمع إن أتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية الاثنين والخميس، فأقبل يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظت عليه ونلت منه فحلم عني، ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت، فقلت : لقد هلكت قريش وذلّت، قال : بل عمرت وعزت ودخل الكعبة فوقعت كلمة مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال فأردت الإسلام فإذا قومي يزبرونني زبرا شديدا، فلما كان يوم الفتح قال لي يا عثمان ائت بالمفتاح فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إليّ وقال :" خذها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما وصل إليكم من هذا البيت بالمعروف " فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال :" ألم يكن الذي قلت لك " فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة فقلت : بلى أشهد أنك رسول الله. وروى الفاكهاني عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له غيّبه، قال الزهري فلذلك يغيب المفتاح، فقلت : ولعل الوجه في الأمة بتغييب المفتاح أن الناس كانوا يطمعون في أن يكون المفتاح عندهم كما ذكرنا من رواية ابن مردويه طمع عباس فيه، وروى ابن عابد والأزرقي أن عليا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : اجمع لنا الحجابة والسقاية فنزلت هذه الآية، فدعا عثمان فقال :" خذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلا ظالم " وروى عبد الرزاق والطبراني عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من البيت قال علي رضي الله عنه إنا أعطينا النبوة والسقاية والحجابة ما من قوم بأعظم نصيبا منا فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة فدفع إليه وقال :" غيبوه ". وذكر البغوي أنه لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيل له : إنه مع عثمان، فأبى وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح، فلوى علي رضي الله عنه عنقه فأخذ منه المفتاح وفتح الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس المفتاح أن يعطيه ويجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ففعل ذلك علي، فقال له عثمان : أكرهت وأذيت ثم جئت ترفق، فقال : لقد أنزل الله في شأنك وقرأ عليه الآية، فقال عثمان : أشهد أن محمدا رسول الله وكان المفتاح معه فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة.
فائدة : نزول الآية وإن كان في إعطاء المفتاح لبني طلحة لكن الآية بعموم لفظها يفيد وجوب أداء كل أمانة إلى أهلها، عن أنس قال قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال :" لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له " رواه البيهقي في شعب الإيمان، وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم ذكر من علامات النفاق " إذا اؤتمن خان ". ١
فائدة : ليس أداء الأمانة منحصرا في مال الوديعة ونحو ذلك بل كل حق لأحد على أحد أمانة يجب أداؤه لأهله كما يدل عليه سبب نزول هذه الآية فلهذا قال الصوفية العلية : إن الوجود وتوابعه وكل كمال في الممكن فهو ليس لذاته بل مقتبس من مرتبة الوجوب جلت عظمته وأمانة مودعة مستعارة منه تعالى، ومقتضى هذه الآية وجوب رد تلك الأمانات إلى أهلها بحيث يرى نفسه عاريا منها كما أن السلطان إذا لبس كناسا لباس الأمارة فالواجب على الكناس أن يرى نفسه في كل حين عاريا كما كان منتسبا لباسه إلى مالكه، وإذا غلب على الصوفي هذه الملاحظة وجد نفسه في نفسه معدوما خاليا عن الوجود وعن سائر الكمالات مبدأ للشرور والمناقص وذلك هو مرتبة الفناء، ثم قد ينتفي عنه هذه الرؤية المستعارة أيضا وذلك فناء الفناء ثم يرى نفسه موجودا بوجود مستعار من الله تعالى متصفا بصفات مضافة إليه سبحانه باقيا ببقائه وذلك مرتبة البقاء، ومن هاهنا قال الله تعالى في الحديث القدسي :" كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " ٢ الحديث، فإذا وصل الصوفي إلى تلك المرتبة المعبر عنها بالفناء و البقاء المكنى عنها بأداء الأمانة لا يتصور حينئذ أ ن يصدر من الصوفي تزكية لنفسه حيث يرى نفسه معدوما خاليا عن الكمالات وجاز له حينئذ التكلم بما أعطاه الله من الكمالات والتحديث بما أنعم الله عليه من الفضائل والمقامات والمعاملات، لأن الكمالات حينئذ مضافة إلى الله تعالى وكل ثناء واقع على تلك الكمالات راجعة إلى الله سبحانه ويظهر استغراق المحامد لله وانحصار المدائح في الله تعالى :﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ٤٥ ﴾٣ فكأن هذه الآية متصلة بقوله تعالى : لا تزكوا أنفسكم بل الله يزكي من يشاء٤. وما بينهما اعتراض ومعنى الآيتين لا تزكوا أنفسكم فإن كمالاتكم ليست ناشئة من أنفسكم بل الله يزكي من يشاء بإعطاء نور من أنواره ورشحة من بحار كماله والله يأمركم أن تؤدوا الأمانات التي عندكم من الكمالات إلى أهلها حتى يتصور منكم تزكية نفوسكم ويتأتى منكم أداء بعض محامد ربكم، ومن هاهنا يظهر لك جواب ما اعتراض بعض الجهال على كلمات المشايخ المشعرة بالتفاخر فإنها بعد أداء الأمانات إلى أهلها ناشئة على سبيل التحديث بالنعمة بإذن ربهم على مقتضى الحكمة والله أعلم.
﴿ وإذا حكمتم ﴾ الظرف متعلق بمحذوف دل عليه ما بعده تقديره ويأمركم أن تحكموا بالعدل إذا حكمتم أي قضيتم ﴿ بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ تفسير للمحذوف لا محل له من الإعراب والحكم بالعدل أيضا من باب أداء الأمانة والإخلال به خيانة، عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله استعملني قال : يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذ بحقها وأدى الذي عليه فيها " وفي رواية قال :" يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وأني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم " ٥ رواه مسلم، وكذا ما يذكر بعد ذلك من إطاعة الله والرسول وأولي الأمر أيضا أمانة ﴿ إن الله نعما ﴾ ما نكرة منصوبة على التمييز موصوفة بيظلم أو موصولة مرفوعة على الفاعلية أي نعم شيئا أو نعم الشيء الذي ﴿ يعظكم به ﴾ والمخصوص محذوف أي أداء الأمانة والعدل في الحكم ﴿ إن الله كان سميعا ﴾ بأقوالكم وأحكامكم ﴿ بصيرا ﴾ بما تفعلون في الأمانات عن عبد الله بن عمرو بن العاص يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال :" المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، هم الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا " ٦ رواه مسلم، وعن أبي سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا وفي رواية أبعدهم منه مجلسا إمام جائر " ٧ رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب، وعن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أتدون من السابقون إلى ظل الله عز وجل يوم القيامة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :" الذين إذا أعطوا الحق قبلوا وإذا سألوه بذلوا وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " ٨ رواه أحمد : وروى البيهقي في شعب الإيمان نحوه عن عمر بن الخطاب مرفوعا.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق (٣٣)...
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: التواضع (٦٥٠٢)...
٣ سورة الأنعام، الآية: ٤٥..
٤ الآية هي: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم). سورة النساء، الآية: ٤٩..
٥ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: كراهة الإمارة يغير ضرورة (١٨٢٦) وأخرجه النسائي في كتاب: الوصايا باب: النهي عن الولاية على مال اليتيم (٣٦٦٠)..
٦ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (١٨٢٧)..
٧ أخرجه الترمذي في كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الإمام العادل (١٣٢٩)...
٨ رواه أحمد في المسند المجلد السادس/حديث السيدة عائشة رضي الله عنها...
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ روى الشيخان وأصحاب السنن عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله ابن حذافة إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في سرية وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم الذين يريدون، فأصبحوا وقد هرب القوم غير رجل أتى عمارا وقال : قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله قال عمار ينفعك إسلامك فأقم، فلما أصبحوا أغار خالد فقال : خل عن الرجل فإنه قد أسلم وهو في أمان مني فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير، فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :: يا خالد لا تسب عمارا فإنه من سب عمارا سبه الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله ومن لعن عمارا لعنه الله " فاعتذر إليه خالد فرضي فأنزل الله هذه الآية أخرج أبو شيبة وغيره عن أبي هريرة قال : هم الأمراء، وفي لفظ هم أمراء السرايا هذا لفظ عام يشتمل الملوك وأمراء الأمصار والقضاة وأمراء السرايا والجيوش، قال علي رضي الله عنه : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا، عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " ١ رواه الترمذي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير قد عصاني " ٢ متفق ليه، وعن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا وأن لا نخاف في الله لومة لائم »٣ متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كأن رأسه زبيبة " ٤ رواه البخاري، وعن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال :" اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم " ٥ رواه الترمذي، ويشتمل هذه الآية أيضا الزوج يأمر امرأته والسيد يأمر عبده والوالد يأمر ولده، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع في مال سيده وهو مسؤول عنه، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " ٦ متفق عليه، وكذا يشتمل الفقهاء والعلماء والمشايخ بل أولى لأنهم ورثة الأنبياء وخازنوا أحكام الله وأحكام رسوله. أخرج ابن جرير والحاكم وغيرهما عن ابن عباس هم أهل الفقه والدين، وفي لفظ هم أهل العلم وابن أبي شيبة والحاكم وصححه وغيرهما عن جابر بن عبد الله نحوه، وعن أبي العالية ومجاهد كذلك. وقال الله تعالى :﴿ ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾٧ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" العلماء ورثة الأنبياء " ٨ رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث كثير بن قيس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله عليهم :" الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين " ٩ رواه الترمذي عن أبي سعيد والخدري والله أعلم.
مسألة : وهذا الحكم يعني وجوب إطاعة الأمير مختص بما لم يخالف أمره الشرع يدل عليه سياق الآية فإن الله تعالى أمر الناس بطاعة أولي الأمر بعدما أمرهم بالعدل في الحكم تنبيها على أن طاعتهم واجبة ما داموا على العدل ونص على ذلك فيما بعد ﴿ فإن تنازعتم على شيء فردوه ﴾ الآية، قال بعض الأفاضل : صيغة أولي الأمر يفيد أن متابعتهم واجبة فيما ولو من الأمر وجعلهم الله تعالى واليا فيه وإنما هو العدل في الحكم، ولو جعلت الأمر على الإيجاب لكان أشد دلالة على ذلك فإن وجوب طاعتهم فما كان لهم على الناس إيجابه فإن قال الأمير أعط فلانا من مالك ألفا لا يجب عليك إطاعته.
مسألة : إذا قال القاضي قضيت على هذا بالرجم فارجمه أو بالقطع فاقطعه أو بالضرب فاضربه وسعك أن تفعل، وعن محمد أنه رجع عن هذا وقال لا يأخذ بقوله حتى يعاين الحجة واستحسن المشايخ هذه الرواية لفساد الحال في أكثر القضاء، وقال الإمام أبو منصور : إن كان عدلا عالما يقبل قوله لانعدام تهمة الخطأ والخيانة وإن كان عدلا جاهلا يستفسر فإن أحسن التفسير وجب تصديقه وإلا فلا، وإن كان فاسقا لا يقبل إلا أن يعاين سبب الحكم لتهمة الخطاء والخيانة كذا في الهداية. روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله ابن حذافة بن قيس إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية " كذا أخرجه مختصرا، قال الداودي إن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب فأوقد نارا وقال اقتحموا فامتنع بعضهم وهم بعضهم أن يفعل، قال الحافظ ابن حجر : فالمقصود بنزول هذه الآية في تلك القصة قوله تعالى :﴿ فإن تنازعتم ﴾ اختلفتم. روى سعيد بن منصور وغيره عن مجاهد يعني إن تنازع العلماء فردوه إلى الله وإلى الرسول ﴿ في شيء ﴾مما أمركم به أميركم يعني قال بعضكم لا يجوز لنا إطاعة الأمير في هذا الأمر وقال بعض يجب إطاعة الأمير ﴿ فردوه ﴾ يعني ذلك الأمة ﴿ إلى الله ﴾ أي إلى كتابه ﴿ والرسول ﴾ صلى الله عليه وسلم ما دام حيا وإلى سنته بعد وفاته والإجماع والقياس فيما لا نص فيه راجعان إلى الكتاب والسنة، فإن أباح الشرع ذلك الأمر أطيعوا أميركم فيه وإلا فلا، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " ١٠ متفق عليه، وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا طاعة لأحد في معصية إنما الطاعة في المعروف " ١١ متفق عليه، وعن عمران بن حصين والحكيم ابن عمر والغفاري قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " ١٢ رواه أحمد والحاكم وصححه، قال في المدارك : حكي أن مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال لأبي حازم : ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله تعالى :﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ فقال أبو حازم : أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله تعالى :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾.
مسألة :. إذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب كما إذا قضى بشاهد واحد مع يمين المدعي حيث يخالف قوله تعالى :﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾١٣ الآية، أو السنة المشهورة كما إذا حكم بثبوت الحل الزوج الأول بعد الطلقات الثلاث بنكاح الزوج الثاني بدون الوطء وهو يخالف حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ١٤ وقد ذكرناه في سورة البقرة أو الإجماع كما إذا حكم بجواز بيع متروك التسمية عامدا فإنه مخالف لما اتفقوا عليه في الصدر الأول فحينئذ لا يجوز إمضاؤه كذا في الهداية.
مسألة : إذا أفتى المجتهد وظهر أن فتواه مخالف للكتاب أو السنة وجب علينا اتباع الكتاب والسنة، روى البيهقي في المدخل بإسناد صحيح إلى عبد الله بن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وذكر عن روضة العلماء عن أبي حنيفة قال : اتركوا قولي بخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة رضي الله عنهم، ونقل عنه أنه قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي، وجاز أن يكون قوله تعالى فإن تنازعتم خطابا للأئمة على سبيل الالتفات ﴿ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ شرط مستغن عن الجزاء بما سبق ﴿ ذلك ﴾ الرد إلى الله والرسول ﴿ خير ﴾ لكم من جمودكم على ما تقرر في أذهانكم ﴿ وأحسن تأويلا ﴾ مآلا من تأويلكم بلا رد والله أعلم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (٣٦٧١)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به (٢٩٥٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (١٨٣٥)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (١٧٠٩) وأخرجه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام الناس (٧٢٠٠).
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (٧١٤٢)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: الجمعة (٦١٠)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي وأمتي (٢٥٥٤) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (١٨٢٩).
٧ سورة النساء، الآية: ٨٣.
٨ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٨٢).
وأخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: في فضل العلم (٣٦٣٧) وأخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم (٢٢٣)..

٩ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في الإستيصاء بمن يطلب العلم (٢٦٥٠) وفيه من ضعّف..
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: السمع والطاعة للإمام (٢٩٥٥) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (١٨٣٦)..
١١ أخرجه البخاري في كتاب: الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (٧١٤٥) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (١٨٤٠)..
١٢ رواه أحمد والحاكم، ورواه أبو داود والنسائي بلفظ قريب منه. انظر كشف الخفاء (٣٠٧٦)..
١٣ سورة البقرة، الآية: ٢٨٢.
١٤ أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات، باب: شهادة المختبي (٢٦٣٩)..
أخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهود أحاكمك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم، وقال المنافق : نتحاكم إلى اليهود لعله أنهم يأخذون الرشوة ويميلون في الحكم، فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس وابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسد مرسلا، وكذا ذكر البغوي قول الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن منافقا وسماه الكلبي بشرا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وابن اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق، وقال : انطلق بنا إلى عمر فأتيا عمر رضي الله عنه، فقال اليهودي اختصمت أنا وهذا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه مخاصم إليك، فقال عمر رضي الله عنه للمنافق : أكذلك ؟ قال : نعم، قال لهما : رويدكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر رضي الله عنه البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزلت ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ يعني المنافقين ﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾ الآية، وقال جبرائيل : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي بالفاروق، وسمي بالطاغوت كعب بن الأشرف أو كاهن من جهينة لفرط طغيانه أو لتشبيهه بالشيطان أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان أبو بذرة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال : كان الحلاس ابن الصامت ومتعب بن قشير ورافع بن زيد وبشر يدعون الإسلام فدعاهم من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية فأنزل الله تعالى هذه الآية، قال البغوي : قال السدي : كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به أو أخذ مائة وسق تمر وإذا قتل رجل من نضير رجلا من قريظة لم يقتل وأعطى ديته ستين وسقا وكانت نضيروهم حلفاء الأوس أشرف وأكثر من قريظة وهم حلفاء الخزرج، فلما جاء الإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا في ذلك فقالت بنوا النضير : كنا وأنتم اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلون منا وديتكم ستون وسقا وديتنا مائة وسق فنحن نعطيكم ذلك، فقال الخزرج هذا شيء فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقلتنا فقهرتمونا ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد فلا فضل لكم علينا، فقال المنافقون منهم : انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي وقال المسلمون من الفريقين لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي المنافقون وانطلقوا إلى أبي برزة ليحكم فأنزل الله تعالى آية القصاص وهذه الآية ﴿ وقد أمروا أن يكفروا به ﴾ يعني أمروا أن يخالفوا الطاغوت ويتبرؤوا عنه كما في قوله تعالى :﴿ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ﴾١ والمؤمنون، أمروا بمخلفة اليهود والكهان والشياطين والتبرؤ عنهم قال الله تعالى :﴿ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ﴾٢ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أتى كاهنا فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضا أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما نزل على محمد " ٣ رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة بسند صحيح عن أبي هريرة، وروى الطبراني بسند ضعيف من حديث واثلة :" من أتى كاهنا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فإن صدقه بما قال كفر " ٤ ﴿ ويريد الشيطان ﴾ شيطان الإنس والجن ﴿ أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ عن الحق.
١ الآية هي ﴿ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض﴾ سورة الأحقاف، الآية: ٢٥...
٢ سورة المائدة، الآية: ٥١...
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: الكهانة والتطير، باب: في الكهان (٣٨٩٩) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: النهي عن إتيان الحائض (٦٣٩)..
٤ رواه الطبراني في الأوسط وفيه رشدين بن سعد وهو ضعيف وفيه توثيق في أحاديث الرقاق وبقية رجاله ثقات.
انظر مجمع الزوائد في كتاب: الطب، باب: فيمن أتى كاهنا أو عرافا (٨٤٨٥)..

﴿ وإذا قيل لهم ﴾ أي للمنافقين الذي يزعمون أنهم آمنوا، مقولة القول ﴿ تعالوا إلى ما أنزل الله ﴾ يعني القرآن ﴿ وإلى الرسول ﴾ عطف قوله إلى الرسول على قوله ما أنزل الله يدل على أن الرسول كان قد يحكم بعلمه سوى القرآن من الوحي الغير المتلو وبالاجتهاد، والظرف أعني إذا قيل لهم متعلق بقوله :﴿ رأيت المنافقين ﴾ وضع المظهر موضع المضمر للتقبيح والتفضيح وبيان سبب الصد ﴿ يصدون ﴾ يعرضون ﴿ عنك ﴾ إلى غيرك لطمعهم بالحكم بالباطل بالرشوة ونحوها والجملة واقع موقع الحال من المنافقين ﴿ صدودا ﴾ مصدر أو اسم للمصدر الذي هو الصدر في الصحاح الصدود يكون انصرافا عن الشيء وامتناعا وقد يكون بمعنى الصرف والمنع نحو ﴿ فصدهم عن السبيل ﴾١.
١ سورة النمل، الآية: ٢٤..
قيل لما قتل عمر رضي الله عنه المنافق جاء أولياؤه طالبين بدمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله إن أردنا بالتحكم إلى عمر إلا إحسانا يحسن عمر إلى صاحبنا وتوفيقا أي إصلاحا يصلح بين الخصمين فأنزل الله تعالى ﴿ فكيف ﴾ استفهام للتعجب، من حلفهم بعد صدهم صدا ظاهرا ومن إنهم كيف يقدرون عليه ولا يستحيون وتقدير الكلام فكيف لا يستحيون ﴿ إذا أصابتهم مصيبة ﴾ يعني قتل عمر واحدا منهم وإذا لمجرد الظرف دون الاستقبال ﴿ بما قدمت أيديهم ﴾ من الإعراض عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحاكم إلى غيره ﴿ ثم جاءوك ﴾ للاعتذار وطلب الندم عطف على إصابتهم فكيف ﴿ يحلفون ﴾ مع ظهور كذبهم حال من فاعل جاءوك ﴿ بالله ﴾ الباء إما صلة ليحلفون أو للقسم وجواب القسم على الوجهين ﴿ إن أردنا ﴾ بتحكيمنا غيرك ﴿ إلا إحسانا وتوفيقا ﴾ يعني إلا الفصل بالوجه الحسن والتوفيق بين الخصمين ولم نرد مخالفتك ولم نسخط لحكمك يعني خفنا أن يحدث عداوة بالحكم المر وهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول يصلح بيننا فجئنا عمر ليصلح بيننا ويبقى الألفة، وجاز أن يكون إذا بمعنى الاستقبال للشرط والمراد بالمصيبة العذاب من الله تعالى أو الانتقام من النبي صلى الله عليه وسلم ويدل على الجزاء قوله فكيف يحلفون بالله إن أردنا الخ. فوقع الشرط بين أجزاء الدال على الجزاء، والمراد التعجب من حلفهم في الاستقبال وجاز أن يكون تقدير الكلام فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة عذاب من الله أو انتقام منك أو من أصحابك بما قدمت أيديهم وقوله :﴿ ثم جاءوك ﴾ إما معطوف على إصابتهم أو على يصدون وما بينهما اعتراض، وكيف سؤال عن حالهم عند العذاب في الآخرة أو في الدنيا، وجاز أن يكون إذا للشرط ويحلفون جزاء للشرط والشرط والجزاء بيانا من كيفية حالهم.
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ من النفاق فلا يفيدهم اليمن الغموس إلا غموسا في النار ﴿ فأعرض عنهم ﴾ أي عن قبول اعتذارهم أو عن إجابتهم في مطالبة دم المقتول فإن دمه هدد ﴿ وعظهم ﴾ أن ينتهوا من النفاق ويؤمنوا بالإخلاص ﴿ وقل ﴾ لهم في أنفسهم أي في حق أنفسهم قولا بليغا يبلغ صميم قلوبهم بالتأثير، قال الحسن : القول البليغ أن يقول لهم إنكم تقتلون على نفاقكم فإنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ، وقيل هو التخويف بالله تعالى، وذكر في الكشاف احتمال تعلق في أنفسهم ببليغا يعني بليغا في أنفسهم وضعّفه البيضاوي بأن معمول الصفة لا يتقرم على الموصوف، وأجيب بالحمل على الحذف والتفسير، وجاز أن يكون معنى الآية
﴿ فأعرض عنهم ﴾ أي عن عقابهم لمصلحة استبقائهم وعظهم باللسان وقل لهم في أنفسهم يعني في الخلوة فإن النصح في السر أنفع قولا بليغا.
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع ﴾ أي لإلزام طاعته على الناس فإنه المقصود من الرسالة ﴿ بإذن الله ﴾ أي بسبب إذنه وأمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه فمن لم يرض بحكمه ولم يطعه استوجب القتل لأنه كأنه لم يقبل رسالته ﴿ ولو ﴾ ثبت ﴿ أنهم ﴾ أي المنافقون ﴿ إذ ظلموا أنفسهم ﴾ بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت ﴿ جاءوك ﴾ تائبين بالإخلاص وهو خبر أن والظرف متعلق به ﴿ فاستغفروا الله ﴾ بالتوبة عن النفاق واعتذروا إلى رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص ﴿ واستغفر لهم الرسول ﴾ عدل عن الخطاب إلى الغيبة تعظيما لشأنه وتنبيها على أن شأن الرسول يقتضي قبول العذر وإن عظم الجرم لوجدوا الله لعلموه توابا قابلا للتوبة ﴿ رحيما ﴾ عليهم، وجاز أن يكون وجد بمعنى صادف فحينئذ توابا منصوب على الحال ورحيما بدل منه أو حال من الضمير فيه أو حال مرادف له والله أعلم.
أخرج الأئمة الستة عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه خاصم رجلا من الأنصار إلى رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم " اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصار فقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :" اسق ثم احبس حتى يبلغ الجدر " ١ فاستوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ حقه للزبير وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير يأمر فيه سعة له وللأنصاري، فلما الأنصاري*** رسول الله صلى الله عليه وسلم استوفى للزبير حقه في صريح الحكم قال للزبير والله أحسب قوله تعالى :﴿ فلا وربك لا يؤمنون ﴾الآية، نزلت في ذلك وكذا أخرج الطبراني في الكبير والحميدي في مسنده عن أم سلمة قالت : خاصم الزبير رجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير فقال الرجل : إنما قضى له لأنه ابن عمته فنزلت، قال البغوي : روي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة، قلت : أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب ابن أبي بلتعة اختصما في ماء فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقى الأعلى ثم الأسفل، قلت : وتسمية حاطب بن أبي بلتعة في هذه القصة وهم لأن حاطبا لم يكن من الأنصار بل من المهاجرين شهد بدرا ولعل ذلك رجل منافق من الأوس أو الخزرج سمي أنصاريا لكونه منهم نسبا. قال البغوي : لما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مرا على المقداد فقال : لمن كان القضاء ؟ فقال الأنصاري لابن عمته ولوّى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد فقال : قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم الله لقد أذنبنا مرة في حياة موسى فدعانا موسى إلى التوبة منه فقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا، فقال ثابت بن شماس بن قيس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلى الله عليه وسلم أن أقتل نفسي لفعلت. وقال البغوي : قال مجاهد والشعبي نزلت هذه الآية في بشر المنافق واليهودي الذي اختصما إلى عمر الذي مر ذكره كما يقتضيه السياق، ومعنى الآية فلا أي ليس الأمر كما فعل الذين يزعمون أنهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ثم ليستأنف القسم فقال :﴿ وربك لا يؤمنون ﴾ وجاز أن يكون لا زائدة كما في ﴿ لا أقسم ﴾ والمعنى وربك لا يؤمنون ﴿ حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ أي اختلف بينهم واختلط عليهم الأمر ومنه الشجر لالتفاف أغصانه ﴿ ثم لا يجدوا ﴾ عطف على يحكموك ﴿ في أنفسهم حرجا مما قضيت ﴾ ضيقا مما حكمت، به وقال مجاهد : شكا فإن الشاك في ضيق أمره ﴿ ويسلموا ﴾ أي ينقادوا لك ﴿ تسليما ﴾ انقيادا طوعا بلا كره منهم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء (١٣٦١) وأخرجه النسائي في كتاب: آداب القضاة، باب: إشارة الحاكم بالرفق (٥٤١٤). وأخرجه البخاري في كتاب: المساقاة، باب: سكر الأنهار (٢٣٦٠) وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم (٢٣٥٧)..
﴿ ولو ﴾ ثبت ﴿ أنا كتبنا ﴾ أي فرضنا ﴿ عليهم ﴾ أي على الذين يزعمون أنهم آمنوا ولم يرضوا بحكمك وهم المنافقون، ولا جائز أن يكون الضمير راجعا إلى جميع المؤمنين الموجودين في ذلك الزمان وهم الصحابة رضي الله عنهم لأن سوق الكلام في المنافقين وكيف يتصور الحكم في حق الصحابة بأنه لو كتب عليهم ما فعلوه وقد مدح الله تعالى عليهم بقوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾١ وبقوله :﴿ يسارعون في الخيرات ﴾٢ ونحو ذلك وأنثى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :" خير القرون قرني " ٣ وبقوله :" إن الله اختارني واختار لي أصحابا " ٤ ولو كان الضمير عائدا إلى الصحابة لزم فضل أصحاب موسى عليه السلام عليهم فإنهم قتلوا أنفسهم حين أمروا به للتوبة، ﴿ أن اقتلوا أنفسكم ﴾ للتوبة عن إعراضهم عن حكمك إلى غيرك، وأن مفسرة لأن في كتبنا معنى القول أو مصدرية يعني أمرنا بقتل أنفسهم كما أمرنا بني إسرائيل حين عبدوا العجل ﴿ أو اخرجوا من دياركم ﴾ كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر، وجاز أن يكون المعنى أمرناهم بالخروج من ديارهم للجهاد وتعريض أنفسهم على القتل فيه. قرأ أبو عمرو ويعقوب بكسر النون في أن اقتلوا وضم الواو في أو أخرجوا للاتباع أو التشبيه بواو الجمع وقرأ عاصم وحمزة بكسرهما على الأصل، والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى همزة الوصل ﴿ ما فعلوه ﴾ أي القتل أو الخروج أو المكتوب علهم ﴿ إلا قليل منهم ﴾ قرأ ابن عامر إلا قليلا بالنصب على الاستثناء والباقون بالرفع على أن المختار في كلام غير موجب هو البدل وإنما يفعل ذلك القليل بتوفيق الله تعالى إياهم الإخلاص بعد النفاق والله أعلم. أخرج ابن جرير عن السدي قال لما نزلت ﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾ افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود فقال اليهود والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت : والله لو كنت الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا فأنزل الله تعالى ﴿ ولو ﴾ ثبت ﴿ أنهم فعلوا ما يوعظون به ﴾ من متابعة الرسول ومطاوعته طوعا ورغبة ﴿ لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ﴾ تحقيقا لإيمانهم أو تثبيتا لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز، قال الحسن ومقاتل : لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار ابن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" إن من أمتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي ".
١ سورة آل عمران، الآية: ١١٠..
٢ سورة الأنبياء، الآية: ٩٠..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (٢٥٣٣)..
٤ رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه. انظر مجمع الزوائد في كتاب: المناقب، باب: ما جاء في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصهاره (١٦٣٩١)..
﴿ وإذا ﴾ أي إذا فعلوا ذلك عطف على قوله :﴿ لكان خيرا لهم ﴾ أو استئناف كأنه قيل ما لهم بعد التثبت فقال :﴿ وإذا لأتيناهم ﴾ والواو للاستئناف وأورد عليه أنه لا يليق إيراد الشرط في جواب ما يكون لهم بعد التثبت بل يكفي آتيناهم، وأجيب بأن تقدير الشرط للإشارة إلى بعدهم عن التثبت لما في لو معنى الدلالة على الامتناع، وجاز أن يكون الواو للقسم تقديره والله إذا ﴿ لأتيناهم ﴾ وجاز أن يكون الواو للعطف على المقدر أي إذا لهم أجر التثبت وإذا لآتيناهم ﴿ من لدنا ﴾ تفضلا زائد على ثواب أعمالهم وثواب التثبت ﴿ أجرا عظيما ﴾.
﴿ ولهديناهم صراطا ﴾ مفعول ثان ﴿ مستقيما ﴾ يصلون بسلوكه إلى جناب القدس والله أعلم.
أخرج الطبراني بسند لا بأس به وأبو نعيم والضياء وحسنه عن عائشة قالت جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وأني إن دخلت خشيت أن لا أراك، فلم يرد النبي صلى الله عيه وسلم شيئا حتى نزل جبرائيل بقوله تعالى :﴿ ومن يطع الله ﴾ في أداء الفرائض ﴿ والرسول ﴾ في اتباع سننه ﴿ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ﴾ الآية. وأخرج الطبراني عن ابن عباس نحوه، وابن أبي حاتم عن مسروق قال : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنك لو مت لرفعت فوقنا فلم نرك، أخرج ابن جرير عن الربيع أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة فمن اتبعه وصدقه كيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم فيجمعون في رياضها فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه " وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال : كنت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي سلني ؟ فقلت : يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة، قال : أو غير ذلك ؟ قلت : هو ذلك، قال :" فأعني على نفسك بكثرة السجود " ١ وأخرج عن عكرمة قال : أتى فتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة لا نراك فإنك في الدرجات العلى فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنت معي في الجنة إن شاء الله تعالى " وأخرج ابن جرير نحوه من مرسل سعيد بن جبير ومسروق والربيع وقتادة والسدي، وذكر البغوي أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم قد تغيّر لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما غير لونك ؟ فقال : يا رسول الله مالي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك كأنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا فنزلت ﴿ والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ ذكر الله سبحانه للذين أنعم عليهم أربعة أصناف على ترتيب منازلهم في القرب وحث كافة الناس أن لا يتأخروا عنهم : أول الأصناف الأنبياء عليهم السلام الذين مبادي تعيناتهم صفات الله تعالى وهم المستغرقون في التجليات الذاتية الصرفة الدائمية بلا حجاب الصفات المعبر عنها بكمالات النبوة الفائزون الراسخون في هذا المقام بالأصالة المبعثون لتكميل الخلائق وجذبهم إلى مراتب القرب على حسب استعداد أفراد الأمة وكسبهم وحسب مشيئة الله تعالى المبلغون من الله تعالى أحكامه إلى الناس ما يصلح دنياهم وآخرتهم، وثانيهم الصدّيقون وهم المبالغون في الصدق المتصفون بكمال متابعة الأنبياء ظاهرا وباطنا المستغرقون في كمالات النبوة والتجليات الذاتية الصرفة الدائمية بلا حجاب بالوراثة والتبعية، وثالثهم الشهداء الباذلون أنفسهم في سبيل الله ليفاض عليهم نوعا من التجليات الذاتية بسبب بذلهم ذواتهم في سبيل الله، ورابعهم الصالحون الذين أصلحوا أنفسهم بإزالة الرذائل وقلوبهم بشرب بحار الحب ودوام الذكر المانع عن الاشتغال بغير الله سبحانه وأبدانهم عن المعاصي فصلحوا لتجليات الظلال والأفعال بعد حصول الفناء والبقاء على الكمال وتحصلوا من التجليات الذاتية إن شاء الله تعالى ولو من وراء حجب الصفات، وهم الذين سموا بلسان القوم بالأولياء ووعد الله سبحانه سائر المؤمنين بعد دخول الجنة معيتهم وزيادتهم على قدر ما أطاعوا الله ورسوله والمراد بالصديقين هاهنا غير الأنبياء وكذا بالصالحين غير الأنبياء والصديقين ولذلك فسرنا بما ذكرنا، وإلا فالصديق أعم من النبي والصالح أعم من الجميع ولذا يطلق الصديق والصالح على الأنبياء قال الله تعالى في إبراهيم :﴿ إنه كان صديقا نبيا ﴾٢ وقال في يحيى ﴿ وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ﴾٣ وفي عيسى ﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ﴾٤.
فائدة : لما استشهد شيخي وإمامي قدسنا الله بسره السامي توجه قلبي إلى تاريخ وفاته فوقع في قلبي بغتة هذه الآية فإذا قوله تعالى :﴿ فأولئك مع الذين أنعم الله ﴾ تاريخ لوفاته أعني ألفا ومائة وخمسا وتسعين سنة سبحان من جعل للإنسان بطاعته إلى نفسه سبيلا ﴿ وحسن أولئك ﴾ الأصناف الأربعة المذكورون ﴿ رفيقا ﴾ نصب على التمييز أو الحال ولم يجمع لإطلاقه على الواحد والجمع.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: فضل السجود والحث عليه (٤٨٩) وأخرجه النسائي في كتاب: التطبيق، باب: فضل السجود (١١٣٢).
وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل (١٣١٨)..

٢ سورة مريم، الآية: ٤١..
٣ سورة آل عمران، الآية: ٣٩.
٤ سورة آل عمران، الآية: ٤٦.
﴿ ذلك ﴾ يعني مرافقتهم مع المنعم عليهم من غير عمل كأعمالهم ﴿ الفضل ﴾ صفة لاسم الإشارة أو خبره ﴿ من الله ﴾ خبر أو محال ﴿ وكفى بالله عليما ﴾ بسبب ذلك اللحوق والمرافقة وإنما هي المحبة يعني أن المحبة التي هي سبب للحوق المحب بالمحبوب من غير عمل كعمله أمره لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يظهر ذلك على الكرام الكاتبين أيضا، عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله الرجل يحب قوما ولم يلحق بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" المرء مع من أحب " ١ رواه أحمد والشيخان وكذا في الصحيحين عن ابن مسعود، وعن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال :" ويلك ما أعددت لها ؟ قال : ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال :" أنت مع من أحببت " قال أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بها " ٢ متفق عليه، وجاز أن يكون المشار إليه بدلك مرتبة ﴿ الذين أنعم الله عليهم ﴾ يعني أنهم لم ينالوا تلك الدرجة إلا بفضل من الله دون عملهم فإن سبب وصولهم إلى الله تعالى الاجتباء غالبا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " ٣ متفق عليه.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: علامة حب الله عز وجل (٦١٦٨) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: المرء مع من أحب (٢٦٤٠)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: علامة حب الله عز وجل (٦١٧١) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: المرء مع من أحب (٢٦٣٩)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: المرضى، باب: تمني المريض الموت (٥٦٧٣) وأخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (٢٨١٦).
.

﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ﴾ الحذر والحذر كالأثر والمثل والمثل ما يحذر به من العدو من السلاح وغيره ﴿ فانفروا ﴾ اخرجوا إلى الجهاد ﴿ ثبات ﴾ جماعات متفرقات جمع ثبة، ويجمع أيضا على ثبين جبرا لما حذف من عجزه ﴿ أو انفروا جميعا ﴾ مجتمعين على حسب المصالح.
﴿ وإن منكم ﴾ عطف على خذوا حذركم عطف قصة على قصة أو معترضة إلى قوله فليقاتل ﴿ لمن ﴾ اللام للابتداء دخلت على اسم أن للفصل بالخبر ﴿ ليبطئن ﴾ جواب قسم محذوف تقديره إن منكم والله ليبطئن يعني يتخلفون عن الجهاد ويتثاقلون وهم المنافقون من بطأ بمعنى أبطأ وهو لازم أو المعنى يبطئون غيرهم عن الجهاد كما ثبّط ابن أبيّ ناسا يوم أحد من بطّي منقولا من بطء كثقل من ثقل ﴿ فإن أصابتكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ مصيبة ﴾ من قتل أو هزيمة ﴿ قال ﴾ ذلك المنافق المبطئ ﴿ قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم ﴾ مع المؤمنين ﴿ شهيدا ﴾ حاضرا فلم يصبني ما أصاب المؤمنين.
﴿ ولئن أصابكم فضل من الله ﴾ من فتح وغنيمة ﴿ ليقولن ﴾ أكد الفعل تنبيها على فرط تحسرهم ﴿ كان ﴾ مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشأن محذوف ﴿ لم تكن ﴾ قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب بالتاء على التأنيث والباقون بالباء على التذكير ﴿ بينكم وبينه مودة ﴾ جملة معترضة بين ليقولن، والمقولة وهو التمني للتنبيه على ضعف عقيدتهم وأن قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم وبينه وإنما يريد المال بمرافقتكم ويحسدون على أن تفوزوا أوحال عن الضمير في ليقولن أو داخل في المقول أي يقول المبطئ فيما بينهم ومع ضعفة المسلمين كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة حيث لم يستعن بكم فتفوزوا كما فازوا ﴿ يا ﴾ قوم ﴿ يا ليتني كنت معهم ﴾ أي مع المؤمنين في الواقعة، وقيل يا أطلق للتنبيه مجازا ﴿ فأفوز ﴾ منصوب على جواب التمني ﴿ فوزا عظيما ﴾ فآخذ من الغنيمة حظا وافرا قال البغوي : جملة كأن ﴿ لم تكن بينكم وبينه مودة ﴾ متصلة بالجملة الأولى تقديره ﴿ فإن أصابتكم مصيبة ﴾ قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا كأن لم تكن بينكم وبينه مودة، قال البيضاوي : وهو ضعيف إذ لا يفصل بين أبعاض الجملة بما لا يتعلق بها لفظا ومعنى.
﴿ فليقاتل ﴾ عطف على خذوا حذركم وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، وجاز أن يكون الفاء جزائية والتقدير إن بطأ هؤلاء المنافقون فليقاتل ﴿ في سبيل الله الذين يشرون ﴾ أي يبيعون ﴿ الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ وهم المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة فالموصول مرفوع على الفاعلية، وقيل : يشرون هاهنا بمعنى يشترون أي يختارون الدنيا على الآخرة وهم المنافقون يعني ينبغي لهم أن يؤمنوا بالإخلاص ويتركوا ما يصنعون من النفاق ويقاتلوا في سبيل الله كيلا يكون عليهم حسرة في الدنيا و الآخرة، وجاز أن يكون الموصول في محل النصب على المفعولية والمراد به الكفار والمنافقون الذين يختارون الدنيا على الآخرة والضمير المرفوع في فليقاتل راجع إلى الذين آمنوا الذين خوطبوا بقوله خذوا حذركم ﴿ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾ في الآخرة، وعد المقاتل بالأجر العظيم على اجتهاده في إعلاء كلمة الله سواء قتل فلم يتيسر له الإعلاء لما بذل ما في وسعه من الجهد أو غلب وحصل له الملك والغنيمة فإن إحرازه الغنائم لا ينقص من أجره شيئا إذا لم يكن همته المال بل إعزاز الدين فحسب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر وغنيمة أو أدخله الجنة " ١ متفق عليه، والترديد لمنع الخلو، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله " وفي رواية " حتى يرجعه الله إلى أهله بما يرجعه من غنيمة وأجر أو يتوفاه فيدخله الجنة " ٢.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان (٣٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله (١٨٧٦)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله (٢٧٨٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى (١٨٧٨)..
﴿ وما لكم ﴾ مبتدأ وخبر ﴿ لا تقاتلون ﴾ حال والعامل فيه الظرف المستقر والمعنى أي شيء ثبت لكم تاركين القتال، والاستفهام للإنكار على الترك والاستبطاء ﴿ في سبيل الله والمستضعفين ﴾ عطف على اسم الله أو على سبيل الله يعني في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين بحذف المضاف أو في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن أيدي المشركين بمكة ويجوز نصه على الاختصاص فإن سبيل الله يعم أبواب الخير وتخليص ضعفاء المسلمين من أيدي الكفار أعظمها ﴿ من الرجال ﴾ الضعفاء ﴿ والنساء والولدان ﴾ الذين كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيرا ﴿ الذين ﴾ يدعون الله ﴿ ربنا أخرجنا من هذه القرية ﴾ يعني مكة ﴿ الظالم ﴾ صفة لقرية من حيث اللفظ، وذكر لإسناده إلى ظاهر مذكر مذكور بعده أعني ﴿ أهلها واجعل لنا من لدنك وليا ﴾ يلي أمرنا ﴿ واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾ يمنع المشركين عنا فاستجاب الله دعاءهم وفتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وولى عليهم عتاب بن أسيد جعله الله لهم نصيرا ينصف المظلون من الظالم.
﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل ﴾ موصل إلى ﴿ الله ﴾ يعني طاعته ﴿ والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾ في طاعة الشيطان وسبيل يلحقهم بالشيطان في دركات جهنم ﴿ فقاتلوا ﴾ أيها المؤمنون ﴿ أولياء الشيطان ﴾ أي جنوده وهم الكفار ثم شجعهم بقوله :﴿ إن كيد ﴾ أي مكر ﴿ الشيطان كان ضعيفا ﴾ فإنه لا يقدر إلا على الوسوسة قال يوم بدر للكفار ﴿ لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ﴾١ لما رأى الملائكة هرب وخذلهم ونكص على عقبيه ﴿ وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ﴾٢ والله أعلم.
١ سورة الأنفال، الآية: ٤٨.
٢ سورة الأنفال، الآية: ٤٨.
أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة فقالوا : يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة، قال :" إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فحينئذ جبن بعض الناس فكفوا أيديهم فأنزل الله تعالى ﴿ ألم تر ﴾ استفهام للتعجب ومناط التعجب تقاعد فريق منهم عن القتال وخشيتهم عن الناس عند الأمر بالقتال بعد تصديقهم كلهم للقتال عند الأمر بالكف، والتصدي يفهم من الأمر بالكف لأن الكف إنما يتحقق فيما يتصدى له المكفوف ﴿ إلى الذين قيل لهم ﴾ قال البغوي : عن الكلبي أن المراد بهم عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص وجماعة كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيرا قبل أن يهاجروا ويقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد أذونا فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ كفوا أيديكم ﴾ عن القتال فإني لم أمر بقتالهم ﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ واشتغلوا بما أمرتم به، وفيه تنبيه على أن الجهاد مع النفس لإصلاح قلبه ونفسه مقدم على الجهاد مع الكفار فإن الأول لإصلاح نفسه وهو أهم من الثاني الذي هو الإصلاح لغيره وإخلاء العالم الكبير عن الفساد ولذلك جعل الله تعالى الأول من الفروض على الأعيان والثاني من الفروض على الكفاية ﴿ فلما ﴾ هاجروا إلى المدينة ﴿ كتب ﴾ فرض ﴿ عليهم القتال ﴾ مع المشركين شق ذلك على بعضهم وجبنوا مما يقول الله تعالى ﴿ إذ ﴾ للمفاجأة جواب لما ﴿ فريق ﴾ مبتدأ ﴿ منهم ﴾ صفة ﴿ يخشون الناس ﴾ خبره ﴿ كخشية الله ﴾ إضافة المصدر إلى المفعول في محل النصب على المصدرية يعني يخشون من الناس خشية كخشيتهم من الله أو على حال من فاعل يخشون، يعني يخشون الناس حال كونهم مثل أهل خشية الله منه ﴿ أو أشد خشية ﴾ عطف عليه إن جعلته حالا أي حال كونهم أشد خشية من أهل خشية الله منه لا إن جعلته مصدرا لأن أفعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه بل حينئذ معطوف على اسم الله تعالى أي كخشية الله أو كخشية أشد خشية من خشية الله، وأو للتخيير لا للشك، أي إن قلت إن خشيتهم الناس كخشية الله فأنت مصيب، وإن قلت أنها أشد فأنت مصيب لأنه حصل مثلها وزيادة، وهذا الكلام مبني على التجوز فإنهم لما تقاعدوا عن الحرب باستيلاء النفس جبنا ولم يسارعوا إلى امتثال أمر الله تعالى في قتالهم قيل فيهم يخشون الناس أكثر من خشية الله إطلاقا للسبب أعني شدة الخشية على المسبب أعني التقاعد وعدم الامتثال بالأمر، وهذا لا يستلزم أن يكون في الواقع خشيتهم من الناس أكثر من خشيتهم من الله فإنه كفر بل قد يكون ارتكاب معصية من سؤلة النفس والغفلة عن عذاب الله والطمع في غفرانه لا من الاعتقاد بأن الناس أشد عذابا من الله وأقدر. وبناء على ظاهر هذه الآية قالت الخوارج مرتكب الكبيرة كافر فإن الآية تدل على أن القاعدين عن الجهاد يخشون من الناس أشد من خشية الله واستدلوا على ذلك من العقليات أن العاقل إذا تيقن أن الحية في هذا الحجر لا يدخل يده في ذلك الحجر قطعا وإذا أدخل يده فيه يعلم منه قطعا أنه لم يتيقن يكون الحية فيه فكذا من ارتكب كبيرة يعلم أنه لم يؤمن بآيات الوعيد ولو تيقن بوقوع العذاب على الكبيرة لم يرتكبها وبما ذكرنا اندفع هذا الاستدلال وظهر أن الآية مبنية على المجاز ﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ﴾ فنقتل ﴿ لولا أخرتنا ﴾ هلا أمهلتنا في الدنيا ﴿ إلى أجل قريب ﴾ إلى زمان الموت فنموت على الفرش ذكر الجملتين بلا عطف ليدل على أن قولهم تارة كذا وتارة كذا وليسا بكلام واحد وليس هذا سؤالا عن وجه الحكمة في إيجاب القتال فإنها معلومة بل وتمني واستزادة في مدة الكف عن القتال حذرا عن الموت، ويحتمل أنهم ما تفوهوه ولكن قالوه في أنفسهم فحكى الله تعالى عنهم ﴿ قل متاع الدنيا ﴾ أي منفعتها والاستمتاع بها ﴿ قليل ﴾ من منافع الآخرة ومع ذلك سريع التقضي وإن طال فلا يفيدكم استزادة العمر وإن زاد فرضا ﴿ و ﴾ ثواب ﴿ الآخرة خير ﴾ من ثواب الدنيا وأبقى ﴿ لمن اتقى ﴾ من الشرك والعصيان فاستزادوا ثواب الآخرة بالتقوى عن التقاعد وامتثال أمر الله تعالى في الجهاد وكأنه جواب عن قولهم :﴿ لم كتبت علينا القتال ﴾ يعني كتبنا لتكثير تمتيعكم هذا على تقدير كون قولهم لم كتبت سؤالا عن وجه الحكمة ﴿ ولا تظلمون فتيلا ﴾ يعني لا تنقصون أدنى شيء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه أو المعنى لا تنقصون من آجالكم المقدرة بالقتال، قرأ ابن كثير وأبو جعفر وحمزة والكسائي بالياء لتقدم الغيبة والباقون بالتاء للخطاب ونزلت ردا لقول المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد ﴿ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ﴾١.
١ سورة آل عمران، الآية: ١٥٦.
﴿ أين ما تكونوا ﴾ ما زائدة لتأكيد معنى الشرط في أين ﴿ يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾ في قصور أو حصون مرتفعة، وقال قتادة : معناه في قصور محصنة، وقال عكرمة : مجصّصة والشيد الجص، وفي إيراد هذه الآية في هذا المقام أشعار إلى جواب قولهم :﴿ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ﴾ يعني بالقتال لا يستعجل الأجل والحذر لا يبعد الأجل ولا يرد القدر.
ولما قالت اليهود والمنافقون بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مازلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مند قدم علينا هذا الرجل وأصحابه نزلت ﴿ وإن تصبهم ﴾ أي المنافقين واليهود ﴿ حسنة ﴾ أي خصب ورخص في السعر وزيادة في الأموال والأولاد ﴿ يقولوا هذه من عند الله ﴾ لنا ﴿ وإن تصبهم سيئة ﴾ قحط وبلبة ﴿ يقولوا هذه من عندك ﴾ أي من شؤمك و إن كان الفاعل هو الله تعالى ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ كل ﴾ أي كل واحد من الحسنة والسيئة ﴿ من عند الله ﴾ بخلقه على حسب إرادته تفضلا أو انتقاما على مقتضى حكمته، ولا يجوز من الله تعالى الانتقام من أحد بشؤم غيره فنسبتهم السيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسبب شؤمه مع انغماسهم في الكفر والمعاصي ظاهر البطلان ﴿ فمال هؤلاء القوم ﴾ الكافرين ﴿ لا يكادون يفقهون ﴾ يعني لا يقربون الفهم والنفقة فضلا من أن يفقهوا ﴿ حديثا ﴾ يعني القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أن الخير والشر كل من عند الله وأن الله لا يعذب أحدا بعمل غيره أو لا يفهمون حديثا ما كالأنعام أو شيئا حادثا فيتفكروا فيما صدر عنهم من الأعمال هل هو حسنة يوجب الإنعام أو سيئة يقتضي النقمة.
﴿ ما أصابك ﴾ أيها الإنسان ﴿ من حسنة ﴾ نعمة ﴿ فمن الله ﴾ أنعم عليكم تفضلا منه من غير استحقاق عليه سبحانه واستيجاب فإن كل ما فعله إنسان من الطاعة لو سلم صدروه عنه مشوب بالمعصية قابلا للقبول وإن كان عامرا لجميع أوقاته، فهو مخلوقة لله تعالى نعمة منه تعالى حيث حماه عما لا يرضى عنه ووفقه لمرضاته مستوجب على العبد الشكر على توفيقه فكيف يقتضي عليه استحقاق شيء من ثواب الدنيا أو الآخرة، مع أن الوجود وتوابعه مما يتوقف عليه صدور الطاعة وما لا يتوقف عليه نعماء من الله تعالى لا تعد ولا تحصى لا يمكن أن يكون ذلك الطاعة بإزائه شكرا لها ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله، قيل ولا أنت، قال ولا أنا " ١ متفق عليه من حديث أبي هريرة ﴿ وما أصابك ﴾ أيها الإنسان ﴿ من سيئة ﴾ بلاء ﴿ فمن نفسك ﴾ روى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود " ما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك " أي من شآمة نفسك استجلابا لا من شآمة غيرك يعني خلق الله تعالى تلك المصيبة والبلاء انتقاما لبعض معاصيك وجزاء لسيئاتك فإن كان الإنسان كافرا كان نموذجا لبعض ما يعد له من العقاب وإن كان الإنسان مؤمنا كان كفارة لذنوبه وباعثا لرفع درجاته، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها " ٢ متفق عليه، وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من نصب أو وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه " متفق عليه، وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا تصيب عبدا نكبة فما فوقها وما دونها إلا بذنب وما يعفو أكثر " ٣ رواه الترمذي، ففي هذه الآية جواب عن نسبتهم السوء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وأرسلناك للناس رسولا ﴾ منصوب على المصدرية أو الحالية وقصد به التأكيد إن علق الجار بالفعل وإن علق برسولا قصد به التعميم كما في قوله تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس ﴾٤ وفي هذه الجملة أيضا رد على قولهم هذه من عندك حيث نسبوا الشؤم إليه عليه السلام وما هو إلا رسول من الله تعالى أرسل رحمة عامة للناس أجمعين، وإنما حرم الكفار من الرحمة وأصابهم ما أصابهم من النقمة في الدنيا والآخرة بشؤم أنفسهم حيث لم يطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ يشهد على رسالته في الدنيا بنصب المعجزات وعند اختصامهم عند الله يوم القيامة ﴿ كفى بالله شهيدا ﴾ لإلزام الكفار وتعذيبهم فإن الملك يومئذ لله الواحد القهار يحكم بعمله لا حاجة حينئذ إلى شهادة غيره والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: المرضى، باب: تمني المريض الموت (٥٦٧٣) وأخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (٢٨١٦)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: المرضى، باب: ما جاء في كفارة المرض (٥٦٤٠) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (٢٥٧٢)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الشورى (٣٢٥٢)..
٤ سورة سبأ، الآية: ٢٨.
قال البغوي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله، فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم فأنزل الله تعالى ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ لأنه في الحقيقة مبلغ والأمر هو الله تعالى ﴿ ومن تولى ﴾عن طاعتك فلا تهتم ﴿ فما أرسلناك ﴾ يا محمد عليهم ﴿ حفيظا ﴾ حال من الكاف يعني إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، ما أرسلناك لحفظ أعمالهم ومحاسبتهم.
﴿ ويقولون ﴾ أي المنافقون إذا أمرتهم بشيء ﴿ طاعة ﴾ يعني أمرنا طاعة كان حقها النصب على المصدرية يعني نطيعك طاعة لكن رفع للدلالة على الدوام والثبات﴿ فإذا برزوا ﴾ خرجوا ﴿ من عندك بيت طائفة ﴾ قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الطاء والباقون بالإظهار، ومعنى بيّت غيّر وبدّل والتّثبت بمعنى التبديل كذا قال قتادة والكلبي، وقال الأخفش : معنى بيّت قدر تقول العرب للشيء إذا قدر بيت يشبهونه ببيت الشعراء أو ببيت مبني، وقال أبو عبيدة والقتيبي : معناه قدروا ليلا غير ما أعطوك العهد نهارا من البيتوتة ﴿ منهم غير الذي تقول ﴾ الضمير في تقول راجع إلى طائفة يعني زورت طائفة منهم خلاف الذي قالت عندك من الطاعة، وجاز أن يكون للخطاب يعني زورت طائفة منهم خلاف الذي قلت أيها النبي وعهدت إليهم ﴿ والله يكتب ﴾ يعني كتبة الله من الملائكة تكتب بإذنه ﴿ ما يبيّتون ﴾ ليوفي عليهم جزاء تزويرهم أو المعنى يكتب الله في جملة ما يوحى إليك حتى تطلع على أسرارهم ﴿ فأعرض عنهم ﴾ يعني لا تلتفت إليهم فالإعراض بمعنى قلة المبالاة والتجافي عنهم أو المعنى لا تعاتبهم ولا تخبر بأسمائهم ﴿ وتوكل على الله ﴾ في الأمور كلها وفي شأنهم ﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ إذا فوضت إليه أمرهم ينتقم لك منهم ولا يضرونك بشيء.
﴿ أفلا يتدبرون ﴾ أي المنافقون ويتأملون في ﴿ القرآن ﴾ نظمه ومعانيه وينظرون ما فيه من الغرائب حتى يظهر لهم أنه ليس من أنس كلام البشر فيحصل لهم الإيمان ويذرون النفاق، وأصل التدبير النظر في إدبار الشيء فيه دليل على صحة القياس ﴿ ولو كان ﴾ هذا القرآن مختلفا كائنا ﴿ من عند غير الله ﴾ كما زعم الكفار ﴿ لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ من تناقض المعنى وتفاوت النظم بحيث يكون بعضه فصيحا وبعضه ركيكا وبعضه صعب المعارضة وبعضه دون ذلك ومطابقة بعض أخباره المستقبلة دون بعض لنقصان القوة البشرية، وأما الناسخ والمنسوخ فليس من باب الاختلاف بل النسخ بيان لمدة الحكم الذي اختلف بناء على اختلاف الأحوال في الحكم والمصالح بحسب اختلاف الزمان والله أعلم.
قال البغوي : كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم فيحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعّفون به قلوب المؤمنين، وقيل كان ضعفة الرأي من المسلمين إذا بلغهم خبر السرايا أو أخبرهم الرسول بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو وتخويف أشاعوا ذلك الخبر وتكون فيه مفسدة فإنه إذا سمع الخصم إلا من يسعى في حفظ نفسه وإذا سمع الخوف يسعى في القتال والفساد فأنزل الله تعالى ﴿ وإذا جاءهم ﴾ أي المنافقين أو ضعفة الرأي من المسلمين ﴿ أمر من الأمن ﴾ أي الفتح والسلامة ﴿ أو الخوف ﴾ أي الهزيمة والاختلال ﴿ أذاعوا به ﴾ أشاعوه ﴿ ولو ردوه ﴾ أي دلك الخبر ﴿ إلى الرسول ﴾ صلى الله عليه وسلم ﴿ وإلى أولي الأمر منهم ﴾ أي ذوي الرأي من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي سموا بأولي الأمر لأنهم بصراء بالأمور ولأنهم يؤمرون منهم غالبا، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم يستشار منهم قبل أن يأمر الناس بشيء أو يأمر الناس بالاقتداء بهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر " ١ رواه الترمذي عن أبي سعيد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " ٢ رواه الترمذي ﴿ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ الاستنباط الاستخراج يقال استنبط الماء إذا استخرجه، يعني يستخرجون بأنظارهم ما يليق بذلك الأمر من الإشاعة أو الإخفاء، والمراد بالذين يستنبطون هم النبي صلى الله عليه وسلم وأولوا الأمر من أصحابه، فها هنا وضع المظهر موضع المضمر وكان المقام تعلموه والعلم هاهنا بمعنى المعرفة يقتضي مفعولا واحدا، ومنهم حال من الذين والمعنى لعلم المستنبطون من النبي وأولي الأمر ما يليق بذلك الخبر أو المراد بالمستنبطين هم المذيعون ومنهم على هذا صلة للفعل والمعنى لعلم المذيعون الذين يستخرجون العلم من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما يليق بذلك الأمر ﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ﴾ الإضافة للعهد، يعني لولا فضل الله ورحمته بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ﴿ لاتبعتم الشيطان ﴾ بالكفر والضلال ﴿ إلا قليلا ﴾ استثناء من ضمير المخاطب أو استثناء مفرغ يعني اتباعا قليلا، يعني لاتبعتم الشيطان إلا بعضا منكم بحسن الرأي والعصمة من الله كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وهذا نوع آخر من فضل الله أو لاتبعتم الشيطان إلا اتباعا قليلا في بعض الأمور، والحاصل أن عصمتكم عن اتباع الشيطان غالبا مستفاد من الرسول والقرآن حيث لا يكفي عقولكم في معرفة حسن كثير من الأشياء وقبحه فلا تستعجلوا في إشاعة الأخبار أيضا من غير إذن منه صلى الله عليه وسلم. روى مسلم عن عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصا ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت هذه الآية ﴿ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ﴾٣ الآية فكنت أنا أستنبط ذلك الأمر والله أعلم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب (٣٦٨٩)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (٣٦٧١)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء واعتزل النساء وتخييرهن (١٤٧٩)..
ولما ذكر الله سبحانه ما فعل المبطؤن وما قالوا إذا جبنوا أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالقتال ولو كان وحده وعده بالنصر، ونبه أن تقاعد غيره لا يضره ولا مؤاخذة عليه بفعل غيره فقال :﴿ فقاتل في سبيل الله ﴾ وإن قعدوا عن الجهاد وتركوك وحدك ﴿ لا تكلف ﴾ أنت ﴿ إلا نفسك ﴾ إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم، قال البغوي : إن النبي صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل الله تعالى هذه الآية كذا أخرج ابن جرير عن ابن عباس ﴿ وحرّض المؤمنين ﴾ على القتال إذ ما عليك إلا البلاغ والتحريض ﴿ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ﴾ أي قتالهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر الصغرى في سبعين راكبا وأنجز الله وعده ﴿ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ﴾١ وقد مر القصة في آل عمران ﴿ والله أشد بأسا ﴾ صولة وأعظم سلطانا ﴿ وأشد تنكيلا ﴾ تعذيبا من قريش ومن غيرهم، فيه تهديد لمن لم يتبع الرسول خوفا من الكفار، قال البغوي : الفاء في قوله فقاتل جواب عن قوله :﴿ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾ فقاتل في سبيل الله وحرض المؤمنين والله أعلم.
١ سورة آل عمران، الآية: ١٧٤.
﴿ من يشفع شفاعة حسنة ﴾ راعى بها حق مسلم ودفع بها عنه ضررا أو جلب نفعا لوجه الله تعالى ﴿ يكن له ﴾ أي للشافع ﴿ نصيب منها ﴾ وهو ثواب الشفاعة، قال مجاهد : هي شفاعة بعضهم لبعض ويؤجر الشفيع على شفاعته وإن لم يشفع، كذا روى ابن أبي حاتم وغيره عن الحسن، وعن أبي موسى قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل يسأل أو طلب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال :" اشفعوا توجرءوا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء " ١ متفق عليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدال على الخير كفاعله " ٢ رواه البزار عن ابن مسعود والطبراني عنه وعن سهل بن سعد.
فائدة : ومن الشفاعة الحسنة الدعاء لمسلم، عن أبي الدراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : آمين ولك بمثل ذلك " ٣ وقال ابن عباس الشفاعة الحسنة الإصلاح بين الناس، وقيل : هو حسن القول في الناس ينال به الثواب والخير ﴿ ومن يشفع شفاعة سيئة ﴾ الموجبة للحرمان، وقال ابن عباس : هي المشي بالنميمة، وقيل : هي الغيبة وإساءة القول في الناس ينال به الشر ﴿ يكن له كفل ﴾ أي حظ ﴿ منها ﴾ أي من وزرها، عن أبي هريرة قال : قال رسوا الله صلى الله عليه وسلم :" من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله " ٤ رواه ابن ماجه ﴿ وكان الله على كل شيء مقيتا ﴾ قال ابن عباس : أي مقتدرا أمن أقات على الشيء إذا قدر واشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن، وقال مجاهد : شاهدا، وقال قتادة : حافظا، وقيل : مقيتا لكل حيوان أي معطيا له قوته.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: التحريض على الصدقة والشفاعة فيها وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام (٢٦٢٧)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء الدال على الخير كفاعله (٢٦٧٠)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب (٢٧٣٢)..
٤ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الديات، باب: التغليظ في قتل مسلم ظلما (٢٦٢٠) في الزوائد: في إسناده يزيد بن أبي زياد، بالغوا في تضعيفه حتى قيل كأنه حديث موضوع..
﴿ وإذا حييتم بتحية ﴾ التحية : مصدر حياك الله على الإخبار ثم استعمل للدعاء بذلك، وكانت العرب تقول حياك الله أي أطال حياتك أو نحو ذلك ثم أبدل ذلك بعد الإسلام بالسلام وجعل الله تحية بيننا بالسلام، عن : عمران بن حصين قال : كنا في الجاهلية نقول أنعم الله بك عينا وأنعم صباحا فلما كان الإسلام نهينا عن ذلك " ١ رواه أبو داود، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذرعا، فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاسمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال : السلام عليكم، فقالوا : السلام عليك ورحمة الله، قال : فزادوه ورحمة الله " ٢ متفق عليه ﴿ فحيوا بأحسن منها أوردّوها ﴾ أي ردوا مثلها على حذف المضاف، الأمر للوجوب وكلمة أو للتخيير فالواجب في جواب السلام رد مثلها لأنه أدنى الأمرين، ويستحب الرد بأحسن منها بزيادة الرحمة والبركة، وكلما زاد في السلام أو في الجواب كان أكتر ثوابا وأفضل، عن عمران بن حصين أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فقال : السلام عليكم فرد عليه فجلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عشر، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فقال : عشرون، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال : ثلاثون " ٣ رواه الترمذي وأبو داود، وعن معاذ بن أنس " عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وزاد ثم أتى آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال :" أربعون هكذا تكون الفضائل " ٤ رواه أبو داود. وقيل : كمال الزيادة السلام عليكم ورحمة الله و بركاته، روي أن رجلا سلم على ابن عباس فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئا آخر فقال ابن عباس : إن السلام انتهى إلى البركة ذكره البغوي، وروى أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه من حديث سلمان الفارسي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السلام عليك، فقال :" وعليك السلام ورحمة الله وبركاته " وقال آخر السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال : وعليك السلام، قال الرجل : نقصتني فأين ما قال الله وتلا الآية فقال :" إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله " قلت : وهذا الحديث يدل على أن قوله وعليك السلام يكفي في جواب من قال السلام عليك ورحمة الله وبركاته، إما لأن المماثلة في النفس السلام يكفي وإما لأن اللام في وعليك السلام للعهد فتضمن في الجواب ما كان مذكورا في كلام البادي بالسلام من الرحمة والبركة.
مسألة : وإذا سلم على جماعة ورد واحد منهم يسقط عن الباقين لأنه فرض كفاية كذا في السراجية، عن بن أبي طالب رضي الله عنه قال يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم ذكره البغوي في المصابيح موقوفا، ورواه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعا، وروى أبو داود وقال : ورفعه الحسن بن علي وهو شيخ أبي داود، وأما إذا سلم على واحد من الجماعة بعينه فيقول يا فلان السلام عليك أو عليكم فحينئذ يجب على ذلك الرجل الجواب ولا يسقط برد غيره من الجماعة وكذا لا يسقط عن الجماعة برد واحد من غيرهم، وكذا في بيان الأحكام.
مسألة : البداية بالسلام مسنون وهو أحسن وأفضل، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتم تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " ٥ رواه مسلم، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم :" البادئ بالسلام بريء من الكبر " رواه البيهقي في شعب الإيمان، وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام " ٦ رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن الرجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير ؟ يعني أي خصال الإسلام خير- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " ٧ متفق عليه. مسألة : يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير، روى الشيخان في الصحيحين هذا اللفظ من حديث أبي هريرة مرفوعا وزاد البخاري في رواية " ويسلم الصغير على الكبير ". مسألة : ويسلم على الغلمان والنساء لحديث أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان فسلم عليهم " ٨ متفق عليه، وحديث جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " مر على نسوة فسلم عليهن " رواه أحمد، وفي فتاوى الغرائب أن السلام يكره على المرأة الشابة والأمرد وإن سلما لا يجب الجواب، قلت : وهذا عند خوف الفتنة. مسألة : ويسلم على أهل بيته حين يدخل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك " ٩ رواه الترمذي. مسألة : وإن دخل بيتا ليس فيها أحد فليقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإن الملائكة يردون عليه كذا في الشرعة قال الله تعالى :﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ﴾١٠ مسألة : يسن السلام قبل الكلام لحديث جابر مرفوعا :" السلام قبل الكلام " ١١ رواه الترمذي. مسألة : وسن أن يسلم على الأخ المسلم كلما لقيه وإن حالت بينهما شجرة أو جدار جدد السلام عليه لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه " ١٢ رواه أبو داود. مسألة : ويسن السلام أيضا عند الوداع عن قتادة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا دخلتم بيتا فسلموا على أهله فإذا خرجتم أهله بالسلام " رواه البيهقي في الشعب مرسلا، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة »١٣ رواه الترمذي وأبو داود. مسألة : إذا بلغ رجل بتسليم من الغائب فليقل للمبلغ عليك وعليه السلام، روى غالب عن أبيه عن جده قال : بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أئته فأقرأه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عليك وعلى أبيك السلام " ١٤ رواه أبو داود. مسألة : لا يجوز البداية بالسلام على الكفار لقوله صلى الله عليه وسلم :" لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدكم في طريق فاضطروه إلى أضيقه " ١٥ رواه مسلم عن أبي هريرة، " وإن كان في القوم اختلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود يسلم عليهم " رواه الشيخان من حديث أسامة بن زيد مرفوعا لكن ينوي بالسلام المسلمين منهم كيلا يلزم بداية السلام على الكافر، مسألة : لا بأس برد السلام على أهل الذمة لكن لا يزيد على قوله وعليك لقوله صلى الله عليه وسلم :" إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم " ١٦ متفق عليه عن أنس. مسألة : لا يجب رد السلام في الصلاة والخطبة بل لا يجوز ويبطل صلاته ولا يجب في قراءة القرآن جهرا ورواية الحديث ومذاكرة العلم والأذان والإقامة وجاز جوابه في تلك المواضع ﴿ إن الله كان على شيء حسيبا ﴾ أي محاسبا مجازيا، وقال مجاهد : حفيظا يعني يحاسب الله تعالى على كل شيء من حقوق العباد كالسلام وتشميت العاطس وغير ذلك، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" للمؤمن على المؤمن ست خصال : يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات ويجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشمّته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد " ١٧ رواه النسائي، وروى الترمذي والدرامي عن علي عليه السلام نحو ذلك وذكر السادس " ويحب له ما يحب لنفسه " ولم يذكر وينصح له والمال واحد. وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" وإياكم والجلوس بالطرقات، فقالوا : ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، قال : فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال :" غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ١٨ متفق عليه، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال :" وإرشاد السبيل " ١٩ رواه أبو داود، وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال :" وتعينوا الملهوف وتهدوا الضال " رواه أبو داود. مسألة : ومن تمام التحية المصافحة والمعانقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تمام تحياتكم بينكم المصافحة " ٢٠ رواه أحمد والترمذي عن أبي أمامة، وعن أبي ذر قال :" ما لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فلما جئت أخبرت فأتيته وهو على سرير فالتزمني وكانت تلك أجود وأجود " ٢١ رواه أبو داود، وعن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم " تلقى جعفر بن أبي طالب فالتزمه وقبل ما بين عينيه " ٢٢ رواه أبو داود والبيهقي في الشعب مرسلا، وفي شرح السنة عن البياضي متصلا وكذا روى في شرح السنة عن جعفر بن أبي طالب قال : تلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقني، وعن عطاء الخراساني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء " رواه مالك مرسلا، وعن البراء بن عازب :" المسلمان إذا تصافحا لم يبق بينهما ذنب إلا سقط " رواه البيهقي في شعب الإيمان.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الرجل يقول أنعم الله بك عينا (٥٢١٨)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم عليه السلام (٣٣٢٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيما وأهلها، باب: يدخل الجنة أقوم أفئدتهم مثل أفئدة الطير (٢٨٤١)..
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: كيف السلام (٥١٨٦) وأخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما ذكر في فضل السلام (٢٧٥٩)..
٤ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: كيف السلام (٥١٨٧)..
٥ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (٥٤)..
٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في فضل من بدأ بالسلام (٥١٨٨) وأخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في فضل الذي يبدأ بالسلام (٢٦٩٤)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: السلام للمعرفة وغير المعرفة (٦٢٣٦)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: التسليم على الصبيان (٦٢٤٧) وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: استحباب السلام على الصبيان (٢١٦٨)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في التسليم إذا دخل بيته (٢٦٩٨)..
١٠ سورة النور، الآية: ٦١.
١١ أخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في الإسلام قبل الكلام (٢٦٩٩)..
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: المظالم، باب: أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصعدات (٢٣٣٣) وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: من حق الجلوس على الطريق رد (٢١٢١)..
١٣ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: الجلوس في الطرقات (٤٨١٦).
١٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في المصافحة (٢٧٢٨) وقال: ليس إسناده بالقوي..
١٥ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في المعانقة (٥٢٠٥).
١٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الآداب، في الرجل يفارق الرجل ثم يلقاه أيسلم عليه (١٥٩١)..
١٧ أخرجه أبو داود في كتاب: باب: في السلام إذا قام من المجلس (٥١٩٩) وأخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في التسليم عند القيام وعند القعود (٢٧٠٦)..
١٨ أخرجه أبو داود في كتاب: الآداب، باب: في الرجل يقول فلان يقرئك السلام (٥٢٢٢)..
١٩ أخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: النبي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (٢١٦٧)..
٢٠ أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب: كيف يرد على أهل الذمة السلام (٦٢٥٨) وأخرجه مسلم في كتاب السلام، باب: البخاري عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (٢١٦٣)..
٢١ ؟؟؟؟؟.
٢٢ ؟؟؟؟؟.
﴿ الله ﴾ مبتدأ ﴿ لا إله إلا هو ﴾ إما خبر مبتدأ والجملة معترضة مؤكدة لتهديد قصد بما قبلها وما بعدها وقوله تعالى :﴿ ليجمعنكم ﴾ خبر بعد خبر عديل لقوله تعالى :﴿ حسيبا ﴾ أو يقال الله مبتدأ والتهليل جملة معترضة وخبر المبتدأ ليجمعنكم أي والله ليحشرنهم من القبور ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ أي مفضين إليه أو في يوم القيامة، والقيام والقيامة كالطلاب والطلابة وهي قيامهم للحساب ﴿ لا ريب فيه ﴾ أي في اليوم أو في الجمع حال من اليوم أو صفة للمصدر أي جمعا ﴿ ومن أصدق ﴾ يعني لا أحد أصدق ﴿ من الله حديثا ﴾ قولا هذه الجملة بمنزلة التعليل لقوله لا ريب فيه فإن إخباره تعالى لا يحتمل تطرق الكذب إليه بوجه من الوجوه لأنه نقص مستحيل على الله تعالى فما ثبت بقوله تعالى فهو حق لا ريب فيه، قرأ حمزة والكسائي أصدق وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الزاي.
أخرج البخاري وغيره عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول نقاتلهم، وفرقة تقول لا نقاتلهم فنزلت ﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ قوله فئتين حال عاملها الظرف المستقر يعني لكم أو معنى الفعل أي ما تصنعون حال كونكم فئتين وفي المنافقين حال من فئتين، أي متفرقين فيهم أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم ومعنى الافتراق يستفاد من فئتين، والفاء للتفريع على كونه تعالى أصدق حديثا يعني فما لكم تختلفون فيه لم لا تفوضون الأمر إلى من هو أصدق حديثا فاعتقدوا بما أخبركم وامتثلوا بما يأمركم.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني ؟ فقال سعد بن معاذ : إن كان من الأوس قتلناه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة فقال : ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال : إنك يا ابن عبادة منافق وتحب المنافقين، فقام محمد بن مسلمة فقال : اسكتوا أيها الناس فإن بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرنا فننفذ أمره فأنزل الله تعالى هذه الآية ". وأخرج أحمد عن عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه : أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأصابهم وباء المدينة وحماها فأركسوا وخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا : مالكم رجعتم ؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة، فقالوا : ما لكم في رسول الله أسوة حسنة بعضهم : نافقوا، وقال بعضهم : لم ينافقوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية " وفي إسناده تدليس وانقطاع. قال البغوي : قال مجاهد : هم قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم ارتدوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة فاختلف المسلمون فيهم فقيل هم منافقون وقيل هم مؤمنون، وقال بعضهم هم ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين حتى تباعدوا من المدينة فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنا اجترينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا، ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم نخرج إلهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا عن ديننا، وقالت طائفة كيف تقتلون قوما على دينكم بأن لا يذروا ديارهم فنزلت، وقال بعضهم هم قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين فنزلت ﴿ والله أركسهم ﴾ أي ردهم إلى الكفر أصل الركس رد الشيء مقلوبا ﴿ بما كسبوا ﴾ أي عملوا الردة واللحوق بدار الحرب ﴿ أتريدون أن تهدوا من أضل الله ﴾ أي تجعلوه من المهتدين أو تقولوا هؤلاء مهتدون وقد أضلهم الله، وفي الآية دليل على أن خالق أفعال العباد وهو الله تعالى والكسب من العبد ﴿ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾ طريقا إلى الحق.
﴿ ودوا ﴾ تمنوا أولئك الذين رجعوا إلى الكفر ﴿ لو ﴾ يعني ليتكم ﴿ تكفرون ﴾ بيان للوداد ﴿ كما كفروا ﴾ أي كفرا ككفرهم ﴿ فتكونون سواء ﴾ مستوين معهم في الضلال، عطف على تكفرون ولو نصب على جواب التمني لجاز من جهة النحو لكنه لا يجوز لأنه لم يرد.
﴿ فلا تتخذوا منهم أولياء ﴾ منع عن موالاتهم ﴿ حتى يهاجروا في سبيل الله ﴾ معكم بعد إيمانهم صابرين محتسبين لا لغرض من أغراض الدنيا.
قال عكرمة : الهجرة على ثلاثة أوجه ؛ هجرة المؤمنين في أول الإسلام، وهجرة المنافقين وهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا واحتسابا، وهجرة سائر المؤمنين عما نهى الله عنه ﴿ فإن تولوا ﴾ عن الإيمان أو عن الهجرة بعد الإيمان فإن الهجرة يومئذ كانت فريضة ﴿ فخذوهم ﴾ أسارى ﴿ واقتلوهم حيث وجدتموهم ﴾ كسائر الكفر ﴿ ولا تتخذوا منهم وليا ﴾ كرر النهي عن الولاية للتأكيد، أو يقال السابق نهي عن اتخاذهم أولياء قبل الأخذ، وهذا عن موالاتهم بعد الأخذ ﴿ ولا نصيرا ﴾ وهذا دليل على عدم جواز الاستنصار بالكفار.
ذكر الزهري أن الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع ابن أبيّ عن أحد في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الخبيث لا حاجة لنا بهم ".
﴿ إلا الذين يصلون ﴾ استثناء من قوله :﴿ فخذوهم واقتلوهم ﴾ فإن قيل : ما وجه صحة الاعتراض بين المستثنى والمستثنى منه مع أنه لا مدخل له في الاستثناء ؟ قلنا : قوله تعالى ( لا تتخذوا ) ذُكر تأكيدا للقتل كأنه قيل : فاقتلوهم ولا تتركوا قتلهم بطمع الولاية والنصرة،
والمعنى إلا الذين يتصلون وينتهون ﴿ إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ قال البغوي : وهم الأسلميون وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي قبل خروجه إلى مكة أن لا يعنيه ولا يعين عليه، ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم، ولجأ إليه، فلهم من الجوار مثل ما لهلال، كذا روى ابن أبي حاتم عن مجاهد.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن : أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج فأتيته فقلت : أنشدك النعمة، بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم يخشن مغلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد فقال : اذهب معه فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله :
﴿ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ فكان من وصل إليهم كان منهم على عهدهم. ( ولأسهرتم له ليلتكم ولأنصبتم فيه أقدامكم وأبدانكم ولأنفذتم بالصدقة أموالكم ) ؟
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت ﴿ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني خزيمة بن عامر بن عبد مناف، وقال الضحاك عن ابن عباس : هم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح والهدنة، وقال مقاتل : هم خزاعة.
﴿ أو جاءوكم ﴾ عطف على الصلة أي إلا الذين وصلوا إلى قوم أو جاءوكم، أو إلا الذين يصلون إلى قوم أو يجيئونكم، أو عطف على صفة قوم يعني إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو قوم كافين عن القتال، والأول أظهر لقوله :﴿ فإن اعتزلوكم ﴾ فإن ترك التعرض للاعتزال عن القتال لا للاتصال بالمعتزلين
﴿ حصرت صدورهم ﴾ حال بإضمار قد أو بيان لجاءوكم، وقيل صفة لمحذوف أي جاءوكم قوما حصرت أي ضاقت صدورهم ﴿ أن يقاتلوكم ﴾ أي عن أن، أو لأن، أو كراهة أن يقاتلوكم ﴿ أو يقاتلوا قومهم ﴾ يعني ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم وعن قتال قومهم قريشا معكم وهم بنوا مدلج كانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم، نهى الله تعالى عن قتال المرتدين إذا لحقوا بالمعاهدين لأن من انضم إلى قوم معاهدين فلهم حكمهم في حقن الدماء لأن قتالهم يستلزم قتال المعاهدين ولا يجوز ذلك.
﴿ ولو شاء الله لسلطهم عليكم ﴾ بإزالة الرعب عنهم ﴿ فلقاتلوكم ﴾ ولم يكفوا عنكم، أعاد اللام تنبيها على أنه جواب مستقل وليس المجموع جوابا واحدا فإن التسليط لا يستلزم المقاتلة بل بعد التسليط يتوقف المقاتلة على مشيئة الله تعالى، وفي هذه الآية إشارة إلى منة الله تعالى على المؤمنين حيث ألقي الرعب في قلوب أعدائهم ﴿ فإن اعتزلوكم ﴾ أي اعتزلوا قتالكم ﴿ فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم ﴾ الصلح والانقياد ﴿ فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾ طريقا إلى الأخذ والقتل وذلك الطريق هو إباحة دمائهم.
﴿ ستجدون ﴾ قوما ﴿ آخرين يريدون أن يأمنوكم ﴾ فلا تتعرضوا لهم ﴿ ويآمنوا قومهم ﴾ فلا يتعرضوا لهم، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : هم أسد وغطفان كانوا حاضري المدينة تكلموا بالإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل يقول له قومه بماذا أسلمت فيقول آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء، وإذا لقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إنا على دينكم يريدون بذلك الأمن من الفريقين ﴿ كل ما ردوا إلى الفتنة ﴾ أي دعوا إلى الكفر أو إلى قتال المسلمين ﴿ أركسوا فيها ﴾ أي قلبوا وأعيدوا في الفتنة أقبح قلب وإعادة.
﴿ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ﴾ عطف على يعتزلوا ﴿ و ﴾ كذا قوله ﴿ ويكفوا أيديهم ﴾ أي إن لم يعتزلوا قتالكم ولم ينقادوا لكم بطلب الصلح ولم يكفوا أيديهم عن الشر ﴿ فخذوهم ﴾ أسارى ﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ أي حيث مكنتم منهم وظفرتم بهم.
﴿ وأولئكم ﴾ أي أهل هذه الصفة ﴿ جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ﴾ أي حجة ظاهرة إذنا بالقتل والقتال لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر والإضرار بالمسلمين والله أعلم.
قال البغوي : إن عياش بن ربيعة المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله فخرج هاربا إلى المدينة وتحصن في أطم من أطامها فجزعت أمه لذلك جزعا شديدا، وقالت لابنيها الحارث وأبي جهل ابني هشام وهما أخواه لأمه والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتوني به فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة فأتوا عياشا وهو في الأطم، وقالا له : انزل فإن أمك لم يؤويها سقف بيت بعدك وفد حلفت أن لا تأكل طعاما ولا شرابا حتى ترجع إليها، ولك والله علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوا بالله نزل إليهم، وأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه بنسعة فجلده كل واحد منهم مائة جلدة ثم قدموا به على أمه، فلما أتاها قالت : والله لا أخليك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، ثم تركوه موثقا مطروحا في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش أهذا الذي كنت عليه فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها، فغضب عياش من مقالته فقال : والله لا ألقاك خاليا أبدا إلا قتلتك، ثم إن عياش أسلم بعد ذلك وهاجر ثم أسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عياش حاضرا يومئذ ولم يشعر بإسلامه، فبينما عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث فقتله فقال الناس : ويحك أي شيء صنعت ؟ إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته ". وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : كان الحارث بن زيد بن عامر بن لوئ يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة فقتلته بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت.
﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ﴾ الآية وأخرج نحوه عن مجاهد والسدي، وأخرج ابن إسحاق وأبو يعلى والحارث بن أبي أسامة وأبو مسلم الكحي عن القاسم بن محمد نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن عباس نحوه، ومعنى الآية : ما كان لمؤمن من حيث أنه مؤمن أي ما وقع له ولا يقع عنه، ولا يوجد، ولا يحصل على يديه أن يقتل مؤمنا بغير حق، فإن ذلك من أعظم محظورات دينه، وإيمانه مانع عنه، فهو إخبار بعدم صدور قتل المؤمن من المؤمن، والمقصود منه المبالغة كأنه نزل إيمان من قتل مؤمنا متعمدا لكمال نقصانه منزلة العدم وهو المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم :" لا يقتل حين يقتل وهو مؤمن " ١ رواه البخاري عن ابن عباس مرفوعا، .
وفي الصحاح أن الشيء إذا كان وصفا لازما لشيء قليل الانفكاك عنه يستعمل هناك كان، كما في قوله تعالى :﴿ وكان الإنسان كفورا ﴾٢ ﴿ وكان الإنسان قتورا ﴾٣ قلت : فعلى هذا إذا كان الشيء منفكا عنه غالبا، نادر الحصول، أو عديم الحصول، يستعمل هناك ما كان، كما في قوله تعالى :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾٤ مع أن الله تعالى عذبهم يوم أحد بالقتل والهزيمة حين ﴿ استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ﴾ من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو نفي، ومعناه النهي، كما في قوله تعالى :﴿ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ﴾٥
﴿ إلا خطأ ﴾ منصوب على الحالية أو العلية أو المصدرية، يعني كائنا على أي حال إلا خاطئا أو لأجل شيء إلا للخطأ أو قتلا إلا قتلا خطأ فالاستثناء مفرغ وجاز أن يكون استثناء من قوله لمؤمن، لا يقال المختار حينئذ الجر مع أن القراء اتفقوا على النصب لأن المختار مع الفصل الكثير بين المستثنى والمستثنى منه النصب على الاستثناء صرح به الشهيد ووافقه الرضى، وجاز أن يكون الاستثناء منقطعا لأن قوله أن يقتل يدل على العمد كما هو شأن الأفعال الاختيارية فقتل الخطأ غير داخل فيما سبق والمعنى لكن إن قتله خطأ فجزاؤه كذلك.
﴿ ومن قتل مؤمنا خطأ ﴾ اعلم أن القتل نوعان : قتل عمد وقتل خطأ، وقد ذكرنا تفسير العمد على اختلاف الأقوال وحكمه من القصاص ووجوب المال وكيفية القصاص في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص ﴾٦، بقي الكلام هنا في أنه هل تجب الكفارة في قتل العمد أم لا ؟ فقال أبو حنيفة ومالك : لا تجب، وقال الشافعي : تجب وعن أحمد روايتان كالمذهبين، قال الشافعي : وجبت الكفارة في القتل خطأ بهذه الآية فتجب بالقتل عمدا بالطريق الأولى، وعن واثلة بن الأسقع قال أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل فقال :" اعتقوا عنه رقبة يعتق لكل عضو منه عضوا منه من النار " ٧ كذا ذكره الرافعي، قلنا : الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم ولفظهم قد استوجب فقط ولم يقولوا النار بالقتل فلا حجة فيه ودلالة النص ممنوع لأن القتل عمدا كبيرة محضة لا يمكن الطهارة عنه بالكفارة ولو كان كذلك لانفتح باب القتل عمدا بخلاف الخطأ فإنه دائر بين العصيان بترك الحزم وإتيان المباح فيمكن الطهارة بأمر دائر بين العبادة والعقوبة وهذا هو الفرق بين اليمين الغموس والمنعقدة في وجوب الكفارة في الثاني دون الأول عندنا. وأما القتل خطأ فعلى أقسام : أحدها شبه العمد واختلفوا في تفسيره ؟ فقال أبو حنيفة : هو القتل عمدا بما ليس موضوعا للقتل، وقال أبو يوسف ومحمد : هو القتل عمدا بما يلبث غالبا، وقال الشافعي : هو ضربه عمدا ضربا لا يموت به غالبا فمات فمن ضرب سوطا أو سوطين عمدا فمات فهو شبيه العمد بالاتفاق، ومن ضرب بسوط صغير ووالى حتى مات فهو عمد عند الشافعي وشبيه بالعمد عند أبي حنيفة وصاحبيه، ومن ضرب بحجر عظيم أو خشبة عظيمة لا تلبث غالبا فهو عمد عند الكل وشبيه بالعمد عند أبي حنيفة، قال أبو حنيفة : لا قصاص ولو رماه بأبي قبيس وما هو شبيه بالعمد في النفس فهو عمد فيما دون النفس إجماعا. احتج أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم :" ألا إن قتل الخطأ شبه العمد قتل السوط والعصا " وسيأتي وجه الاحتجاج أن السوط والعصا يعم الصغير والكبير، قال الجمهور : العصا لا يطلق إلا على الصغير عرفا والله أعلم. وثاني أنواع الخطأ : ما أخطأ في القصد وهو أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي وحربيا فإذا هو مسلم، وثالثها : ما أخطأ في الفعل وهو أن يرمي غرضا فأصاب مؤمنا، رابعها : ما أجري مجرى الخطأ مثل النائم ينقلب على رجل مؤمن فقتله، خامسها : القتل بالتسبيب كحافر بئر وواضع حجر في غير ملكه وحكم جميع الأقسام المذكورة وجوب الدية على العاقلة إجماعا لأنه قتل لم يجب فيه القصاص فوجب الدية تحرزا عن إهدار دم معصوم وأيضا حكم جميعها وجوب الكفارة على القاتل وحرمانه عن الإرث إجماعا إلا عند أبي حنيفة في القتل بالتسبيب لأنه ليس بقتل حقيقة لأنه تصرف في الجثة ولم يوجد وإنما وجد التصرف في محل آخر، ووجه قول الجمهور أن الشرع أنزله قاتلا حتى وجبت الدية إجماعا فعموم قوله تعالى :﴿ ومن قتل مؤمنا خطأ ﴾ ﴿ فتحرير رقبة ﴾ يقتضي وجوب الكفارة أيضا، كيف ومقتضى الآية أن الدية قد يجب في القتل وقد لا يجب بخلاف الكفارة فإنه يجب لا محالة، وأيضا الكفارة لدفع الإثم فالقول بوجوب الكفارة على النائم إذا انقلب على رجل فقتله مع أنه صلى الله عليه وسلم قال :" رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى استيقظ " ٨ الحديث، وعدم وجوبها على من حفر بئرا في غير ملكه ظلما حتى مات بالوقوع فيه مؤمن غير مرضى. مسألة : وفي رواية عن أبي حنيفة لا يجب الكفارة في الشبيه بالعمد، ذكر في الكفاية شرح الهداية أنه قال الجرجاني وجدت رواية عن أصحابنا أن الكفارة لا يجب في شبه العمد، قلت : وهذا هو الأظهر لأن القصاص إنما سقط هناك بشبهة من جهة الآلة وأما المعصية فكمالها إنما يبتني على القصد في قتل المؤمن فإذا كان بالقصد فهو كبيرة محضة بل أقبح من القتل بالسيف، ألا ترى أنه لا يجوز قتل من وجب قتله بالقصاص إلا بالسيف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد شفرته وليرح ذبيحته " ٩ رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث شداد بن أوس. وقوله تحرير رقبة خبر مبتدأ محذوف تقديره فجزاؤه تحرير رقبة واجب على القاتل والتحرير الإعتاق والحر العتيق الكريم من الشيء. قال في القاموس : الحر خيار كل شيء سمى به لأن الكرم والخير في الأحرار والرقبة عبر بها عن النسمة كما عبر عنها بالرأس وتحرير الرقبة يقتضي أن يكون كاملا في الرقبة، فلا يجوز إعتاق أم الولد حيث استحقت العتق ولا يجوز بيعها، قال عليه السلام :" أعتقها ولدها " وكذا لا يجوز إعتاق المدبر عند أبي حنيفة ويجوز عند الشافعي حيث لا يجوز بيعه عند أبي حنيفة ويجوز عند الشافعي، ويجوز إعتاق المكاتب ما لم يؤد شيئا عند أبي حنيفة لأن الكتابة يحتمل الفسخ برضائهما ولا يجوز عند الشافعي، كما لا يجوز عتق من أدى بعض مكاتبته اتفاقا، ولا يجوز إعتاق المجنون والأعمى والأخرس والأصم الذي لا يسمع أحدا ومقطوع اليدين أو الرجلين أو يد ورجل من جانب واحد لأن فائت جنس المنفعة كالهالكة معنى، ويجوز إعتاق مقطوع أحد اليدين وأحد الرجلين من خلاف والأعور والأعمش والأبرص والأرمد لأنه ناقص المنفعة لا فاقدها، ويجوز إعتاق العنين والخصي والمحبوب لأن منفعة النسل زائد على ما يطلب من المماليك وكذا يجوز إعتاق الأمة الرتقاء والقرناء لبقاء منفعة الاستخدام. مسألة : يشترط لوجوب الكفارة أن يكون القاتل عاقلا بالغا مسلما لأنها عبادة فيشترط لها ما يشترط لسائر العبادات، وقال الشافعي : لا يشترط شيئا من ذلك قياسا علي ضمان الأموال كالدية، قلنا : هذا قياس مع الفارق.
مسألة : يشترط للكفارة عند الشافعي رحمه الله الإعتاق باختياره فلو اشترى أباه بنية الكفارة لا يجوز عنده، وعند أبي حنيفة يشترط اقتران النية بسبب اختياري موجب للعتق فيجوز عنده، إذا نوى الكفارة عند شراء قريبه وكذا إذا وهب له أوصى له ونوى ولو ورث أباه أو ابنه ونوى الكفارة عند ذلك لا يجوز إجماعا ﴿ مؤمنة ﴾ أجمعوا على اشترط الإيمان في الكفارة القتل بناء على هذا النص دون كفارة اليمين والظهار والصوم لكن يكفي أن يكون محكوما بإسلامها، فلو أعتق صغيرا أحدا أبويه مسلم جاز، وروى ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان وصام وصلى وكل رقبة في القرآن لم تسم مؤمنة فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس له أمانة، كذا أخرج عبد الرزاق عن قتادة وقال في حرف أبي ﴿ فتحرير رقبة مؤمنة ﴾ لا يجزي فيها صبي.
﴿ ودية ﴾ عطف على تحرير رقبة يعني جزاؤه دية، قال في القاموس : الدية بالكسر حق القتيل وهي مجملة في المقدار ومن يجب عليه بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم. مسألة : يجب الدية على العاقلة والقاتل كأحدهم عند أبي حنيفة، وعند الشافعي : لا يجب على القاتل شيء منها وهذا يعني وجوب الدية على العقلة وإن كان غير ظاهر الاستنباط من القرآن لكنه ثبت بالسنة المشهورة والإجما
١ أخرجه البخاري في كتاب: المحاربين، باب: إثم الزناة (٦٨٠٩)..
٢ سورة الإسراء، الآية: ٦٧.
٣ سورة الإسراء، الآية: ١٠٠.
٤ سورة الأنفال، الآية: ٣٣.
٥ سورة الأحزاب، الآية: ٥٢.
٦ سورة البقرة، الآية: ١٧٨.
٧ أخرجه أبو داود في كتاب: العتق، باب: في ثواب العتق (٣٩٤٥)..
٨ أخرجه أبو داود في كتاب: الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدا (٤٣٨٨) وأخرجه النسائي في كتاب: الطلاق، باب: من لا يقع طلاقه من الأزواج (٣٤٢٣)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: الديات، باب: ما جاء في النهي عن المثلة وأخرجه أبو داود في كتاب: الضحايا، باب: في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة (٢٨١١) وأخرجه النسائي في كتاب: الضحايا، باب: الأمر بإحداد الشفرة (٤٤٠٠) وأخرجه مسلم في كتاب: الصيد والذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة (١٩٥٥)..
قال البغوي : إن مقيس بن ضبابة الكندي أسلم هو وأخوه هشام فوجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام ابن ضبابة أن تدفعوا إلى مقيس فيقتص منه وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديته فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا سمعا وطاعة لله ولرسوله ما نعلم له قاتلا لكنا نؤدي ديته، فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين نحو المدينة، فأتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة أقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية، فتغفل الفهري فرماه بصخر فشدخه ثم ركب بعيرا وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا فنزل ﴿ ومن يقتل مؤمنا ﴾ من حيث أنه مؤمن يعني سخطا لإيمانه أو مستحلا لقتله كما قتل مقيس فهريا ﴿ متعمدا ﴾ وما ذكر البغوي من قصة مقيس يمكن الاستدلال به على أبي حنيفة في أن القتل بالمثقل أيضا من قبيل العمد وقد قال أبو حنيفة هو شبه العمد، ويمكن الجواب عنه على رواية الجرجاني أن شبه العمد من حيث الإثم حكمه حكم العمد ولذا قلنا لا كفارة له وإنما خالف العمد في سقوط القصاص لتمكن الشبهة من جهة الآلة، ومقتضى هذه الآية الإثم دون القصاص.
فائدة : قال البغوي : مقيس ابن ضبابة هو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عمن أمّنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة، وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريح عن عكرمة أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس ابن ضبابة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها ثم وثب على قاتل أخيه فقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا أؤمنه في حل ولا حرم " فقتل يوم الفتح فقال ابن جريح فيه نزلت هذه الآية وهذه الرواية مرسلة ظاهرا، لكن روى أبو داود عن عكرمة أنه قال : كل شيء أقول لكم في التفسير فهو عن ابن عباس فعلى هذا يكون متصلا وهذه الرواية تدل على أن قاتل هشام كان معروفا ولعل ذلك القتل كان خطأ حيث حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية، ورواية البغوي تدل على أن القاتل لم يعلم والحكم في مثل ذلك القسامة والدية ومسائل القسامة وشرائطها والاختلاف فيها يقتضي بسطا لا حاجة إلى ذكره هاهنا ﴿ فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾ لأجل كفره لازما لسخطه من الإيمان أو لاستباحة القتل، أو المراد بالخلود المكث الطويل أخرج الطبراني بسند ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن جازاه " ﴿ وغضب الله عليه ولعنه ﴾ طرده من الرحمة ﴿ وأعد له عذابا عظيما ﴾ روى الشيخان عن ابن عباس أنه لا يقبل توبة قاتل المؤمن عمدا، وقال البغوي حكى عن ابن عباس أن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له فقيل له : أليس قد قال الله تعالى :﴿ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾ إلى أن قال :﴿ ومن يفعل ذلك يلق آثاما ٦٨ يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ٦٩ إلا من تاب ﴾١ فقال : كانت هذه في الجاهلية، وذلك أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخرا ﴾٢ إلى قوله :﴿ إلا من تاب وآمن ﴾٣ فهذه أولئك وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام بشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم، وروي عن ابن عباس خلافه ذكر في التفسير أنه قال ابن عباس فجزاؤه جهنم خالدا فيها لو جازاه الله لكنه يتفضل عليه ولا يخلده لإيمانه، وأخرج سعيد ابن منصور والبيهقي في السنن عن ابن عباس أن رجلا أتاه فقال : ملأت حوضي انتظرت بهيمتي ترد عليه فقال لم أستيقظ إلا برجل قد أسرع ناقته وثلم الحرض وسال الماء فقمت فزعا فضربته بالسيف فأمره بالتوبة، قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة قال كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له فإذا ابتلى رجل قالوا تب. قلت : وجه الجمع بين القولين لابن عباس وغيره من أهل العلم إن قتل العمد جناية على حق العبد وجناية على حق الله تعالى فقولهم لا توبة له معنا لا توبة له في حق العبد وفيه القصاص لا محالة إما في الدنيا أو في الآخرة كما ينطق به النصوص وهو المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم :" كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو من يقتل مؤمنا متعمدا " ٤ رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء ورواه النسائي وصححه الحاكم عن معاوية، وأما قول العلماء بقبول التوبة فمعناه تفيد التوبة لاستدراك حق الله تعالى، وقال زيد بن ثابت : لما نزلت التي في الفرقان ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخرا ﴾٥ عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة وأراد بالتغليظ هذه الآية، والقول بأن هذه الآية ناسخة لما في الفرقان زعم من زيد بن ثابت رضي الله عنه إذ لا تدل هذه الآية على أنه لا توبة له بل المذكور في هذه الآية جزاء القتل عمدا وذا لا يتصور إلا إذا لم يتب ومات فإن تاب فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، أعني في حق الله تعالى وأما في حق العبد فلا بد فيه رد المظالم واسترضاؤه.
فائدة : احتجت المعتزلة بهذه الآية على خلود مرتكب الكبيرة في النار والخوارج على أن مرتكب الكبيرة كافر، وأما أهل السنة والجماعة فيأوّلون هذه الآية كما ذكرنا للإجماع على أن المؤمن لا يخلد في النار وإن مات بلا توبة وإن الكبيرة لا يخرج المؤمن من إيمانه مستندا ذلك الإجماع على ما تواتر من الكتاب والسنة من قوله تعالى :﴿ ومن يفعل ذلك يلق آثاما ٦٨ يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ٦٩ إلا من تاب ﴾٦ وقد ذكرنا الكلام في تفسيره في موضعه قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾٧ حيث ذكر عنوان القاتل بقوله :﴿ الذين آمنوا ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم :" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق " ٨ متفق عليه عن أبي ذر، وقوله صلى الله عليه وسلم :" من مات لا يشرك بالله دخل الجنة " ٩ رواه مسلم عن جابر وقوله صلى الله عليه وسلم :" بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك " ١٠ متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت.
فصل : فيما ورد في القاتل عمدا. عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " ١١ متفق عليه، وعنه قال رجل : يا رسول الله أي الذنب أكبر ؟ قال :" أن تدعو لله ندا وهو خلقك، قال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " ١٢ متفق عليه، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اجتنبوا السبع موبقات " وعد منها " قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق " ١٣ متفق عليه، وفي حديث عن ابن عباس مرفوعا " لا يقتل حين يقتل وهو مؤمن " ١٤ رواه البخاري، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " ١٥ رواه الترمذي والنسائي ورواه ابن ماجه عن البراء بن عازب، وروى النسائي من حديث بريدة " قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " وعن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " ١٦ رواه الترمذي وعن عبد الله بن عمرو قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول :" ما أطيبك وما أطيب ريحك وما أعظمك وما أعظم حرمتك، والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم من حرمتك ماله ودمه " ١٧ رواه ابن ماجه، وعن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا يزال المؤمن معتقا صالحا ما لم يصب دما حراما فإذا أصاب دما حراما بلح " ١٨ رواه أبو داود، وعن أبي هريرة :" من أعان على قتل مسلم ولو بشرط كلمة لقي الله وهو مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله " ١٩ رواه ابن ماجه وروى الطبراني من حديث ابن عباس نحوه، وابن الجوزي عن أبي سعيد الخدري نحوه، وأبو نعيم في الحلية عن عمر بن الخطاب موقوفا نحوه والله أعلم.
١ سورة الفرقان، الآية: ٧٠-٦٨.
٢ سورة الفرقان، الآية: ٦٨.
٣ سورة الفرقان، الآية: ٧٠.
٤ أخرجه أبو داود في كتاب: الفتن والملاحم، باب: في تعظيم قتل المؤمن (٤٢٦٣) وأخرجه النسائي في كتاب: تحريم الدم (٣٩٨٤)..
٥ سورة الفرقان، الآية: ٦٨.
٦ سورة البقرة، الآية: ١٧٨.
٧ سورة الفرقان، الآية: ٧٠-٦٨.
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله (١٢٣٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة (٩٤)..
٩ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار (٩٣)..
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار (١٨) وأخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها (١٧٠٩)..
١١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: القصاص يوم القيامة (٦٥٣٣) وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة، باب: المجازاة بالدماء في الآخرة وأنها أول ما يقضي فيه بين الناس يوم القيامة (٦١٧٨)..
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: ﴿فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون﴾ (٤٤٧٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (٨٦)..
١٣ أخرجه البخاري في كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا﴾ (٢٧٦٦). وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (٨٩)..
١٤ أخرجه البخاري في كتاب: المحاربين، باب: إثم الزناة (٦٨٠٩)..
١٥ أخرج الترمذي في كتاب: الديات، باب: ما جاء في تشديد قتل المؤمن (١٣٩٥) وأخرجه النسائي في كتاب: تحريم الدم، باب: تعظيم الدم (٣٩٨٧) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الديات، باب: التغليظ في قتل مسلم ظلما (٢٦١٩)..
١٦ أخرجه الترمذي في كتاب: الديات، باب: الحكم في الدماء..
١٧ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الفتن، باب: حرمة دم المؤمن وماله (٣٩٣٢) في الزوائد: في إسناده مقال..
١٨ أخرجه أبو داود في كتاب: الفتن والملاحم، باب: في تعظيم قتل المؤمن (٤٢٦٣)...
١٩ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الديات، باب: التغليظ في قتل مسلم ظلما (٢٦٢٠) في الزوائد: في إسناده يزيد بن أبي زياد بالغوا في تضعيفه حتى قيل كأنه حديث موضوع..
روى البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن عكرمة عن ابن عباس قال : مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم، فقالوا : ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم ﴾ يعني سافرتم وذهبتم ﴿ في سبيل الله ﴾ للجهاد ﴿ فتبينوا ﴾ قرأ حمزة والكسائي في الموضعين هاهنا وفي الحجرات بالتاء المثناة الفوقانية والثاء المثلثة من التثبت أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر، وقرأ الباقون بالتاء المثناة الفوقانية والباء الموحدة والياء المثناة التحتانية والنون من التبين يقال تبينت الأمر إذا تأملته وطلبت بيانه يعني لا تعجلوا قبل وضوح الأمر.
ذكر البغوي من طريق الكلبي عن ابن عباس إن اسم المقتول مرداس بن نهيك من أهل فدك وكان مسلما ولم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من جبل وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم، فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا، وقد كان قد سبقهم قبل ذلك الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قتلتموه إرادة ما معه ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد فقال : يا رسول الله استغفر لي، فقال : فكيف بلا إله إلا الله ؟ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال أسامة رضي الله عنه : فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات وقال : أعتق رقبة، كذا روى الثعلبي من طريق الكلبي.
وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إنما قال خوفا من السلاح قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال : بعث رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل ما له كثير فقال : أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كيف لك بلا إله إلا الله غدا ؟ وأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدود الأسلمي.
وروى ابن جرير نحوه من حديث أبي عمرة قال عبد الله بن أبي حدود : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن حثامة بن قيس الليثي فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا فحمل عليه محلم فقتله، فلما قدمنا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن " يعني هذه الآية، وأخرج ابن مندة عن جزء بن الحدرجان قال : وفد أخي فداد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم : أنا مؤمن، فلم يقبلوا منه فقتلوه، فبلغني ذلك فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فأعطاني النبي صلى الله عليه وسلم دية أخي، وأخرج ابن جرير من طريق السدي وعبد من طريق قتادة وابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير أن قوله تعالى :
﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم ﴾ كذا قرأ نافع وابن عامر وحمزة ومعناه الاستسلام والانقياد، وقرأ الباقون السلام يعني السلام عليكم، وقيل المراد بكلا القراءتين هو القول بالسلام عليكم نزلت في مرداس وهذا شاهد حسن لما رواه الثعلبي وغيره عن ابن عباس ﴿ لست مؤمنا ﴾ وإنما فعلت ذلك متعوذا ﴿ تبتغون ﴾ حال عن الضمير في تقولوا مشعر بما هو سبب لتردد التثبت وطلب البيان ﴿ عرض الحياة الدنيا ﴾ أي منافعها من المال والغنيمة، سمي به لفنائه والعرض اسم لما لا دوام له ﴿ فعند الله مغانم كثيرة ﴾ في الدنيا والآخرة يغنيكم في الدنيا عن مثل هذه الأفعال لأجل المال وأعد في الآخرة أجورا كثيرة لمن آمن واتقى ﴿ كذلك كنتم ﴾ الكاف في كذلك خبر كان قدم عليها ﴿ من قبل ﴾ أي قبل هذا حين دخلتم في الإسلام وقلتم كلمة التوحيد فعصمت بها دماؤكم وأموالكم من غير أن يعلم مواطأة قلوبكم بألسنتكم ﴿ فمنّ الله عليكم ﴾ بالإسلام بالإيمان والاستقامة في الدين، أو المعنى كذلك كنتم قبل الهجرة تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا إله إلا الله فمن الله عليكم بالهجرة، وقال قتادة : كذلك كنتم ضلالا من قبل فمنّ الله عليكم بالإسلام ووفقتم بقول لا إله إلا الله، وقال سعيد بن جبير : كذلك كنتم تكتمون إيمانكم من المشركين فمن الله عليكم بإظهار الإسلام ﴿ فتبينوا ﴾ كرر الأمر بالتثبت والتبيّن إما لتأكيد أمر التثبت وتعظيمه وتأكيد ترتب الحكم على حالهم حيث علل الحكم بالمذكور من حالهم ثم قرع عليه فتأكد الترتيب، ويقال هذا متفرع على قوله :﴿ فعند الله مغانم كثيرة ﴾ يعني فتثبتوا في أخذ الغنيمة وتبينوا حتى يظهر لكم أن هذه الغنيمة هل هي مسوقة إليكم من عند الله تعالى حلالا أم هو محرم من أعراض الحياة الدنيا، أو يقال الأمر بالتبيين والتثبت أولا لنفي العجلة في القتل حتى يظهر منه أمارة الإسلام، وثانيا لنفي العجلة في القتل بعد ظهور أمارات الإسلام حتى يظهر كفره ونفاقه ﴿ إن الله كان بما تفعلون خبيرا ﴾ عالما بأعمالكم وأغراضكم فيجازيكم على أعمالكم على حسب أغراضكم ونياتكم. فائدة : في هذه الآية دليل على صحة إيمان المكره لإجراء أحكام الدنيا عليه، وإن المجتهد قد يخطئ وإن خطأه مغفور إن كان بلا تقصير منه في طلب الحق وإن المجتهد يجب عليه التثبت والتبيين وكمال الجهد ولا يلتفت إلى ما لاح له في أول نظره، وأنه إذا أتى بما وجب عليه من التثبت والتبين فهو مأجور وإن أخطأ في اجتهاده وأنه لا يجوز الحكم بكفر من قال لا إله إلا الله مع أنه مشترك بين الكتابي والمسلم ولا يعجل في قتله حتى يتبين أمره والله أعلم.
إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية شعار الإسلام فالواجب أن يكفوا عنهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزى قوما فإن سمع أذانا كف عنهم وإن لم يسمع أفاد عليهم، وروى البغوي من طريق الشافعي عن ابن عصام عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال :" إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلن أحدا " ١ والله أعلم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: السير (١٥٤٩) وقال: غريب. وأخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في دعاء المشركين (٢٦٣٣)..
روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن زيد بن ثابت والبخاري عن البراء بن عازب والطبراني عن زيد بن أرقم وابن حبان من حديث ابن عاصم والترمذي عن ابن عباس نحوه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى على زيد بن ثابت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله، قال زيد فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلا أعمى، وفي حديث ابن عباس قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم : إنا عميان فأنزل الله تعالى عليه وفخذه على فخذي يعني على فخذ زيد بن ثابت فثقلت علي حتى خفت، أن ترض بفخذي، ثم سر عنه فأنزل الله تعالى مكانه ﴿ لا يستوي القاعدون ﴾ عن الجهاد ﴿ من المؤمنين ﴾ في موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه ﴿ غير ﴾ بالرفع صفة للقاعدين أو بدل منه، وغير هاهنا اكتسب التعريف لأن غير أولي الضرر هو من لا ضرر له فلا يرد أن إبدال النكرة من المعرفة يقتضي نعتها، والتوجيه بأن القاعدين معرفة في حكم النكرة لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم ضعيف لأن المعرفة وإن كان في الحكم النكرة لكن لا يوصف بشيء مما يوصف به النكرة إلا بجملة فعلية فعلها مضارع كما في قوله ولقد أمر على اللئيم يسبني، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على الاستثناء ونصبه على الحال مشكل لكونه معرفة ﴿ أولي الضرر ﴾ في الصحاح الضر سوء الحال إما في نفسه لقلة العلم والفضل والعفة وإما في بدنه لعدم جارحة أو نقص فيها وإما في حالة الظاهر من قلة مال أو جاه، وفي القاموس : الضرر سوء الحال كالضر ومنه الضرير في ذاهب البصر، قلت : والمراد هاهنا غير أولي الزمانة أو المرض أو الضعف في البدن أو البصر أو المال بقرينة قوله تعالى :﴿ والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴾ يعني لا مساواة بينهم وبين غير المجاهدين بأنفسهم وأموالهم من غير عذر، وأما غير المجاهدين بعذر الزمانة أو العمى أو نحو ذلك من الأمراض وغيرها أو عدم وجدان ما ينفقون في سبيل الله من الأموال فهم قد يساوون المجاهدين في سبيل الله إذا كان نيتهم المجاهدة لو قدروا عليها، روى البخاري عن أنس وابن سعد عنه وعن جابر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال :" إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم " قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة ؟ قال نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر " ١ وروى مقسم عن ابن عباس قال : لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر ﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ﴾ المؤمنين غير أولي الضرر لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة فالثانية عين الأولى ﴿ درجة ﴾ منصوب بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل كأنه قيل فضلهم تفصيلة كقولهم ضربته سوطا، أو على الحال بمعنى ذوي درجة والجملة موضحة للجملة السابقة من نفي الاستواء، وإنما لم يقتصر على هذه الجملة مع كونه مغنية عن نفي المساواة لأن نفي المساواة يتضمن التفضيل إجمالا ودلالة وفي التفضيل بعد الإجمال والتصريح بعد الدلالة مزيد التأكيد والتمكن. فإن قيل : عدم مساواة من عمل بطاعة أي طاعة كان ومن لم يعملها بديهي غير مخفي فأي فائدة في بيانه ؟ قلنا : فائدته التنبيه على ذلك والترغيب في الجهاد، والأولى أن يقال أنه قد يتأتى في حالة القعود عن الجهاد، من الطاعات بفراغ القلب وأداء حقوق الله تعالى الناس ما لا يتأتى في حالة الجهاد فيوهم ذلك فضل القاعد على المجاهد ففائدة هذه الآية دفع ذلك التوهم، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله " ٢ متفق عليه ﴿ وكلا ﴾ أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين بلا عذر ﴿ وعد الله ﴾ المثوبة ﴿ الحسنى ﴾ يعني الجنة بإيمانهم فيه دليل على أن الجهاد فرض على الكفاية ولو كان فرضا على الأعيان لاستحق القاعد العقاب دون الثواب.
فصل : أجمعوا على أنه إذا كان الكفار قارين في بلادهم فعلى الإمام أن لا يخلو سنة من السنين عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون لم يهملوا الجهاد، فإذا قام على الجهاد فئة من المسلمين بحيث حصل بهم دفع شر الكفار وإعلاء كلمة الله تعالى سقط عن الباقين، وحينئذ لا يجوز للعبد أن يخرج إلى الجهاد بغير إذن المولى ولا للمرأة بغير إذن الزوج ولا للمديون بغير إذن الدائن ولا للولد إذا منعه أحد أبويه لأن بغيرهم مقنعا فلا ضرورة إلى إبطال حقوق العباد وإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس إلا أولي الضرر منهم، وأجمعوا على أنه يجب على أهل كل قطر من الأرض أن يقاتلوا من يلونهم من الكفار فإن عجزوا ساعدهم الأقرب فالأقرب وكذا إذا تهاونوا مع القدرة يجب القيام به على الأقرب فالأقرب إلى منتهى الأرض. مسألة : وأجمعوا على أنه إذا التقى الصفان وجب على المسلمين الحاضرين الثبات وحرم عليهم الفرار إلا أن يكونوا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة أو يكون الكفار أكثر من ضعف عدد المسلمين فيباح لهم الفرار لكمن الثبات حينئذ أفضل. مسألة : يشترط للجهاد الزاد والراحلة مع سلامة الأسباب والآلات عند الأئمة الثلاثة إذا تعين الجهاد على أهل بلد وكان بينهم وبين موضع الجهاد مسافة سفر، وقال مالك لا يشترط ذلك. لنا : قوله تعالى :﴿ غير أولي الضرر ﴾ ومن لا زاد له ولا راحلة فهو من أهل الضرر وقوله تعالى :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ﴾٣ الآية. مسألة : وأجمعوا على أنه إذا هجم العدو دار قوم من المؤمنين يجب على كل مكلف من الرجال حرا كان أو عبدا غنيا كان أو فقيرا ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروج إلى الجهاد وحينئذ يكون من فروض الأعيان فلا يظهر فيه حق العبد كالمولى والدائن والأبوين كما في الصلاة والصوم، وقال أبو حنيفة : تخرج المرأة أيضا بغير إذن زوجها فإن وقع بهم الكفاية سقط عمن ورائهم وإن لم يقع بهم الكفاية يجب على من يليهم إعانتهم وإن قعد من يليهم يجب على من ورائهم الأقرب فالأقرب والله أعلم.
﴿ وفضّل الله المجاهدين ﴾ في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴿ على القاعدين ﴾ المؤمنين غير أولي الضرر ﴿ أجرا عظيما ﴾ منصوب على المصدرية لأن فضل بمعنى أجر أو على أنه المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قيل وأعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: من حبسه العذر عن الغزو (٢٨٣٩)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله (٢٧٨٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى (١٨٧٨)..
٣ سورة التوبة، الآية: ٩٢..
﴿ درجات ﴾ في القرب والجنة كائنة ﴿ منه ﴾ تعالى ﴿ ومغفرة ورحمة ﴾ كل واحد من الثلاثة بدل من أجرا الدرجات لغير المذنب والمغفرة للمذنب والرحمة يعمهما، وجاز أن ينصب درجات على المصدر كقولهم ضربتهم أسواطا وأجرا على الحال منها تقدمت عليها لكونها نكرة ومغفرة ورحمة على المصدرية بإضمار فعليهما، كرر تفضيل المجاهدين وبالغ فيها إجمالا وتفصيلا حيث أومأ إلى التفضيل أولا بنفي المساواة ثم صرح بالتفضيل مجملا بقوله درجة ثم فضل تفضيلا بقوله :﴿ أجرا عظيما ٩٥ درجات منه ومغفرة ورحمة ﴾ ترغيبا في الجهاد وتعظيما لأمره، ولا تنافي في توحيد الدرجة أولا وتكثيرها ثانيا لأن المراد تفضيل كل مجاهد على كل قاعد أولا وفيما بعد تفضيل الجميع على الجميع ومقتضاه انقسام الآحاد على الآحاد، أو لأن المراد اختلاف حال المجاهدين فمنهم من فضل بدرجة ومنهم من فضل بدرجات،
وقيل : أراد بقوله :﴿ وفضل الله المجاهدين على القاعدين ﴾ درجة في الدنيا من الغنيمة والظفر والسلطنة وجميل الذكر وأفراد الدرجة تحقيرا لما في الدنيا، وأراد بقوله فضل الله الثاني ما أعد الله لهم في الآخرة. وقيل : المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند الله تعالى وبالدرجات منازلهم في الجنة، وقيل : المجاهدون الأولون من جاهد الكفار لهم درجة والآخرون من جاهد نفسه أعد الله لهم أجرا عظيما درجات القرب منه تعالى ومغفرة ورحمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المجاهد - يعني المجاهد الكامل - من جاهد نفسه في طاعة الله والمجاهد من هجر الخطايا والذنوب " رواه البيهقي في شعب الإيمان عن فضالة،
وقيل : القاعدون في الآية الأولى أولي الضرر منهم فضل الله المجاهدين عليهم درجة لأن المجاهدين باشروا الجهاد مع النية وأولي الضرر+ من القاعدين كانت لهم نية ولم يتيسر لهم الجهاد، وكلا من المجاهدين والقاعدين المعذورين وعد هم الله الحسنى على نياتهم كذا قال مقاتل، والقاعدون الثاني غير معذورين فضل الله المجاهدين عليهم أجرا عظيما درجات منه مغفرة ورحمة، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة " قال فعجب لها أبو سعيد، فقال : أعدها علي يا رسول الله ففعل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وأخرى يرفع الله بها للعبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال :" الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله " ١ رواه مسلم،
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة جاهد في سبيله أو جلس في أرضه التي ولد فيها " قالوا يا رسول الله : أفلا نبشر الناس بذلك ؟ قال :" إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوا الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " ٢ رواه البخاري ﴿ وكان الله غفورا ﴾ لذنوبهم ﴿ رحيما ﴾ بهم يعطيهم درجات عظام والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: بيان ما أعده الله تعالى: للمجاهد في الجنة من الدرجات (١٨٨٤)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال هذه سبيلي وهذا سبيلي (٢٧٩٠).
أخرجه البخاري في كتاب: الفتن، باب: من كره أن يكثر سواد الفتن والظلم (٧٠٨٥)..

ذكر البغوي : أن ناسا من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا منهم قيس بن الفاكة بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما، فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار. وروى البخاري عن ابن عباس " أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم أو يضرب فيقت. قلت : قوله يكثر سواد المشركين يدل على أنهم لم يكونوا يقاتلون،
وأخرج ابن مندة وسمى منهم في روايته قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكة بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو ابن أمية سفيان وعلي بن أمية بن خلف، وذكر شأنهم أنهم خرجوا غلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا غر هؤلاء دينهم فقتلوا ببدر. قلت : وهذه الرواية يعني قوله دخلهم شك يدل على ارتدادهم، ونظم القرآن لا يدل على كفرهم، وأخرجه ابن أبي حاتم وزاد فيهم الحارث ابن ربيعة بن الأسود والعاص بن عتبة بن حجاج.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون : هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت ﴿ إن الذين توفاهم ﴾ يحتمل الماضي والمضارع بحذف أحد التائين، والتوفي قبض الروح ﴿ الملائكة ﴾ قيل : أراد به ملك الموت وحده لما ورد في قوله تعالى :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ﴾١ والعرب قد يخاطب الواحد بلفظ الجمع، والصحيح أنه أراد ملك الموت وأعوانه، لما روى أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة بطوله وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا احتضر المؤمن أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : اخرجي راضية مرضية عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان " الحديث، وأما الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون : اخرجي ساخطة مسخوطة عليك إلى عذاب الله عز وجل " ٢ الحديث،
وروى أحمد عن البراء بن عازب حديثا طويلا وفيه " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، ثم جلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط " الحديث. " وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله، قال : فتفرق في جسده فينزعها كما ينزل السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح " ٣ الحديث،
وفي رواية ابن جرير وابن المنذر وابن عباس : أنه لما نزلت هذه الآية كتب المسلمون إلى من بقي منهم بمكة وأنه لا غنى لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم :﴿ فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ﴾٤ فكتب إليهم المسلمون بذلك فقالوا : نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فلحقوهم فنجا منهم من نجا وقتل من قتل فنزلت ﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾٥ الآية ﴿ ظالمي أنفسهم ﴾ بترك فريضة الهجرة والمقام بدار الشرك وارتكاب معصية موافقة الكفار، حال من الضمير المفعول، قال البغوي : قيل لم يكن يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهجرة ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا هجرة بعد فتح مكة " ٦ رواه أبو داود وأحمد بسند صحيح عن مجاشع بن مسعود وابن جرير عن الضحاك والصحيح أن الهجرة من دار الكفر على من قدر عليها فريضة محكمة بالإجماع غير منسوخة، وهذه الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن فيه إقامة شرائع الإسلام، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" لا هجرة بعد فتح مكة " أن مكة بعد الفتح صارت دار السلام ولم تبق الهجرة من مكة بعد الفتح واجبة ومن هاجر من مكة بعد الفتح لا يعد من المهاجرين ولا يدرك ثوابهم وكون الهجرة فريضة لا يستلزم عدم قبول إسلامهم والحكم بأنهم ليسوا بمؤمنين بل يقتضي عصيانهم وترك موالاتهم، قال الله تعالى :﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾٧ ﴿ قالوا ﴾ أي الملائكة توبيخا، جملة قالوا خبر إن والعائد محذوف أي قالوا لهم وجاز أن يكون حالا، من الملائكة بتقدير قد أو من الضمير المنصوب في توفاهم الملائكة بتقدير قد والضمير أي قد قالوا لهم، ﴿ فيم كنتم ﴾ مقولة قالوا أي في شيء كنتم أفي الإسلام كما يدل عليه إقراركم به أم في الكفر كما يدل عليه مقامكم مع الكفار وموافقتكم بهم بلا عذر ﴿ قالوا ﴾ يعني المتوفين الذين تركوا فريضة الهجرة هذا خبر إن على تقدير كون ما قبله حالا، وجملة مستأنفة على تقدير كونه خبر أن كأنه في جواب السائل ما قالت المتوفون إذا قالت الملائكة ما ذكر فأجيب بأنهم قالوا ﴿ كنا مستضعفين في الأرض ﴾ أي أرض مكة لم نقدر على مقاومة الكفار ومخالفتهم، أو كنا عاجزين عن إظهار الدين وإعلاء كلمته ﴿ قالوا ﴾ أي الملائكة تكذيبا لهم وتبكيّتا، جملة مستأنفة في جواب ما قالت الملائكة حين اعتذر المتوفون ﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ يعني كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى أرض لا تمنعون فيها من إظهار الإسلام ومخالفة الكفار وإعلاء كلمة الله كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة، ونصب فتهاجروا على جواب الاستفهام ﴿ فأولئك ﴾ أي المتوفون ظالمي أنفسهم ﴿ مأواهم جهنم ﴾ الفاء للتعقيب والسببية بعني لأجل تركهم الهجرة مأواهم جهنم، وذا لا يستلزم الكفر ولا الخلود في جهنم، والجملة معطوفة على جملة قبلها مستنتجة منها، وجاز أن يكون جملة فأولئك خبر إن والفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط وما قبله حال أو استئناف ﴿ وساءت مصيرا ﴾ مصيرهم أو جهنم، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيقه أبوه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليهما وسلم " أخرجه الثعلبي من حديث الحسين مرسلا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خير مال المسلم الغنم يتبع بها شغف الجبال يفر بدينه من الفتن " ٨ رواه البخاري غيره، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يدهم ما كان قبله " ٩ رواه مسلم عن عمرو بن العاص.
١ سورة السجدة، الآية: ١١..
٢ أخرجه النسائي في كتاب: الجنائز، باب: ما يلقى به المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه (١٨٢٤)..
٣ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد في كتاب: الجنائز، باب: السؤال في القبر (٤٢٦٦)..
٤ سورة العنكبوت، الآية: ١٠..
٥ سورة النحل، الآية: ١١٠..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: لا هجرة بعد الفتح (٣٠٧٨) وأخرجه النسائي في كتاب: البيعة، باب: ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة (٤١٦٧)..
٧ سورة الأنفال، الآية: ٧٢.
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: من الدين الفرار من الفتن (١٩)..
٩ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (١٢١)..
﴿ إلا المستضعفين ﴾ استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضميره والإشارة إليه فإنهم ليسوا بظالمي أنفسهم إذ لا وجوب إلا بعد القدرة ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾١ ﴿ من الرجال ﴾ كالشيخ الفاني والمريض والضعيف والزمن الذي لا يستطيع السفر راجلا ولا يقدر على الراحلة وذي عيال لا يستطيع نقلهم ويخاف عليهم الضياع إن هاجر بدونهم ﴿ والنساء ﴾ فإنهم مستضعفات غالبا ﴿ والولدان ﴾ يعني الصبيان، ذكرهم في الاستثناء مبالغة في الأمر والإشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة إذا بلغوا وقدروا على الهجرة، أو المراد بالولدان أولياؤهم فإن أولياءهم إذا قدروا على نقلهم من دار الشرك وجب عليهم ذلك وإلا فهم من المستضعفين ولم يذكر العبيد فإن العبد إذا كان قادرا على الهجرة يجب عليه ذلك ولا يمنعه حق المولى لأن حقوق العباد لا تظهر في الفروض على الأعيان، قال محمد بن إسحاق في رواية يونس بن بكير : حدثني عبد الله بن المكرم ومحمد بن يحيى عن شيوخه قال : نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لما حاصر الطائف " أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر " فخرج من الحصن بضعة عشرة رجلا سماهم الحافظ محمد بن يوسف الصالحي الشافعي في سبيلالهدى و الرشاد، وروى أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من خرج إلينا من العبيد فهو حر " فخرج العبيد فيهم أبو بكرة فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين عن أبي عثمان الهندي قال سعد وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وأبو بكرة كان بسور حصن الطائف نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة واغتاطوا على غلمانهم فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ويحمله وأمرهم أن يقرءوهم القرآن وأعلموهم السنن، فلما أسلمت ثقيف تكلمت أشرافهم في هؤلاء المعتقين منهم الحارث بن كلدة يردونهم في الرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أولئك عتقاء الله لا سبيل إليهم " ﴿ لا يستطيعون حيلة ﴾ الحيلة الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف يعني لا يقدرون على الهجرة ولا يجدون أسبابها ﴿ ولا يهتدون سبيلا ﴾ أي لا يعرفون السبيل بنفسه ولا يجدون الدليل.
١ سورة البقرة، الآية: ٢٨٦.
﴿ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ﴾ ذكر الله سبحانه صيغة الإطماع ولفظ العفو إيذانا بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المعذور أيضا ينبغي أن لا يأمن ويترصد الفرصة ويتعلق بها قلبه ﴿ وكان الله عفوا غفورا ﴾ قال ابن عباس : كنت أنا وأمي ممن عذر الله يعني من المستضعفين مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة، روى البخاري وغيره عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء قنت " اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف " ١.
١ أخرجه البخاري في كتاب: صفة الصلاة، باب: يهوي بالتكبير حين يسجد (٧٧١) وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة (٦٧٥)..
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا ﴾ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : مراغما أي متحولا لا يتحول إليه مشتق من الرغام وهو التراب، وقيل : طريقا يراغم قومه أي يفارقهم على رغم أنوفهم، وهو أيضا من الرغام بمعنى التراب، وقال مجاهد متزحزحا عما يكره، وقال أبو عبيد : المراغم المهاجر، يقال راغمت قومي أي هاجرتهم وهو المضطرب والمذهب، في القاموس : المراغمة الهجران والتباعد والمراغم بالضم وفتح الغين المذهب والمهرب والحصن والمضطرب ﴿ وسعة ﴾ في الرزق والمعاش وسعة في الصدر بالأمن وزوال الخوف وإظهار الدّين، قال البغوي : روي أنه لما نزلت هذه الآية سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير ومريض يقال له جندع بن ضمرة فقال : والله ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة أخرجوني، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله، ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات، فبلغ خبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجرا وضحك المشركون فقالوا ما أدرك هذا ما طلب.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال : خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لأهله احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ ومن يخرج من بيته مهاجرا ﴾ حال من الضمير في يخرج ﴿ إلى الله ورسوله ﴾ أي إلى حيث أمر الله ورسوله ﴿ ثم يدركه الموت ﴾ قبل بلوغه مهاجره، عطف على يخرج ﴿ فقد وقع ﴾ أي ثبت والوقوع بمعنى الوجوب وهو مجاز عن تأكيد حصول الأجر بوعد الله تعالى إذ لا يجب على الله شيء ﴿ أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة فلما نزلت ﴿ إلا المستضعفين ﴾ الآية، فقال : إني بلغني وإني لذو حيلة، فتجهز مريدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير نحو ذلك عن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم سمى في بعضها ضمرة بن العيص وفي بعضها العيص بن ضمرة، وفي بعضها جندب بن ضمرة الجندعي وفي بعضها الضمري وفي بعضها رجل من بني ضمرة وفي بعضها رجل من خزاعة وفي بعضها من بني ليث وفي بعضها من بني كنانة وفي بعضها من بني بكر. وأخرج ابن سعد في الطبقات عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أن جندع بن ضمرة الضمري الجندعي كان بمكة فقال لبنيه أخرجوني من مكة فقد قتلني غمّها، فقالوا : إلى أين ؟ فأومأ بيده نحو المدينة يريد الهجرة فخرجوا به، فلما بلغوا إضاءة بني عمارة مات فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية،
وأخرج ابن حاتم وابن مندة والباوردي في الصحابة عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن عوام قال : هاجر خالد بن حرام إلى أرض الحبشة فنهشه حية في الطريق فنزلت فيه هذه الآية، وأخرج الأموي في مغازيه عن عبد الملك بن عمير قال : لما بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه قال : فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه فاندب له رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك من أنت وما أنت وبما جئت ؟ فقال : أنا محمد بن عبد الله وأنا عبد الله ورسوله ثم تلا ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾١ الآية، فأتيا أكثم فقالا له ذلك فقال : أي قوم إنه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا أذنابا، فركب بعيره متوجها إلى المدينة فمات في الطريق فنزلت فيه هذه الآية، وهذا مرسل وإسناده ضعيف.
وأخرج أبو حاتم في كتاب المعمرين من طريقين عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال : نزلت في أكثم بن صيفي قيل : فأين الليثي ؟ قال : كان هذا قبل الليثي بزمانة هي خاصة عامة. فائدة : قالوا : كل هجرة لطلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة أو زهدا أو ابتغاء رزق طيب فهي هجرة إلى الله ورسوله، ومن أدركه الموت في طريقه فقد وقع أجره على الله والله أعلم.
١ سورة النحل، الآية: ٩٠.
أخرج ابن جرير عن علي قال : سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي فأنزل الله تعالى ﴿ وإذا ضربتم في الأرض ﴾ أي سافرتم ﴿ فليس عليكم جناح ﴾ أي إثم كذا في القاموس ﴿ أن تقصروا ﴾ أي في أن تقصروا ﴿ من الصلاة ﴾ الرباعية دون الثنائية والثلاثية إجماعا إلى ركعتين، والجار والمجرور صفة لمحذوف أي شيئا من الصلاة عند سيبويه ومفعول لتقصروا بزيادة من عند الأخفش وهاهنا أبحاث البحث الأول في مقدار مسافة السفر المرخص للقصر وقد مر هذا البحث في سورة البقرة في رخصة إفطار الصوم البحث الثاني : في أنه هل يجوز الإتمام في السفر أم لا ؟ فقال أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك لا يجوز، قال البغوي : وهو المروي عن عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة ومالك، وقال الشافعي وأحمد وهو المشهور من مذهب مالك أنه يجوز، قال البغوي وهو المروي عن عثمان وسعد بن أبي وقاص. والحجة للشافعي ظاهر هذه الآية فإن نفي الجناح يقال في الرخص لا فيما يكون حتما وحديث عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم " رواه الشافعي وابن أبي شيبة والبزار والدارقطني وقال الدارقطني إسناده صحيح، واعترض عليه بأنه من رواية مغيرة بن زياد عن عطاء بن براح وقد ضعفه أحمد وقال أبو زرعة لا يحتج بحديثه لكن ابن الجوزي أخرجه من طريق عمر بن سعيد عن عطاء والمغيرة بن زياد قد وثقه وكيع ويحيى بن معين،  وحديث عبد الرحمن بن أسود عن عائشة قالت : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت، فقلت : بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت، قال :" أحسنت يا عائشة " ١ رواه النسائي والدارقطني وحسنه والبيهقي وصححه، واعترض عليه بأن عبد الرحمن بن أسود دخل على عائشة وهو صغير لم يسمع منها، وقال الدارقطني دخل عليها وهو مراهق وفي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك، وروى الدارقطني هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أسود عن أبيه عن عائشة، واختلف قول الدارقطني فيه فقال في السير إسناده حسن، وقال في العلل المرسل أشبه، واعترض عليه أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان باتفاق أصحاب السير لكن قوله في عمرة رمضان في رواية الدارقطني وليس في رواية غيره والله أعلم. احتج أبو حنيفة بحديث يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس، فقال لي عمر : عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال :" صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " ٢ رواه مسلم، وحديث أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب ليس له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث قال : أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغذى فقال : ادن فكل، فقلت : إني صائم، فقال :" ادن أحدثك عن الصوم، إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم فيا لهف نفسي أن لا أكون طعمت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم " ٣ رواه ابن الجوزي من طريق الترمذي. والشافعي احتج بهذا الحديث لمذهبه حيث قرن الصوم بالصلاة ورخصه المسافر في فطر الصوم رخصته التخيير إجماعا. وجه احتجاج أبي حنيفة أن الوضع هو الإسقاط لكن استعماله في رخصته الصوم يدل على أن المراد به هاهنا التخيير ولو مجازا، والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز حتى يقال أنه في حق الصوم للتخيير وفي حق الصلاة للإسقاط، ووجه احتجاج أبي حنيفة بحديث يعلى بن أمية عن عمر إن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض وإن كان المتصدق ممن لا يلزم طاعته كولي القصاص إذا عفا فممّن يلزم طاعته أولى وإن الأمر بقبول الصدقة للوجوب، واحتج أبو حنيفة أيضا بأثر عمر بن الخطاب قال : صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم " ٤ أخرجه النسائي وابن ماجه، وأثر ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة " ٥ رواه مسلم، وأثر عائشة قالت :" فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر " ٦ متفق عليه، وفي لفظ قال الزهري قلت لعروة فما بال عائشة تتم في السفر ؟ قال : إنها تأولت كما تأول عثمان، وفي لفظ للبخاري " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فرضت أربعا فتركت صلاة السفر على الأول، وبحديث ابن عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وقد قال الله تعالى :﴿ لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾٧ رواه البخاري وفي الصحيحين بلفظ : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك، وأيضا فيهما عنه صلى الله عليه وسلم صلى بمنى ركعتين وأبو بكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدرا من خلافته ثم إن عثمان صلى بعده أربعا، وبما روى أحمد إن عثمان صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه، فقال : أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تأهل في بلد فليتم صلاة المقيم، وجه الاحتجاج أن إنكار الناس على عثمان في إتمامه وبيانه العذر بالتأهل بمكة دليل واضح على أنه لا يجوز الإتمام ولو جاز لما أنكروا عليه ولما اعتذر بالتأهل بل ببيان التخيير. وأجيب عن الآثار بأن أثر عمر بن الخطاب أن صلاة السفر ركعتان تمام في الأجر غير قصر يعني لا نقصان في صلاته وكيف يقول عمر غير قصر مع أنه تعالى يقول :﴿ فليس عليكم جناح أن تقصروا ﴾ فإنه صريح في كونه قصرا وحديث الآحاد وإن كان مرفوعا ساقط في مقابلة نص الكتاب فكيف الموقوف، وأثر ابن عباس متروك بالإجماع حيث لم يذهب أحد إلى أن الصلاة في الخوف ركعة، وأثر عائشة لا يجوز العمل به لأن عمل الراوي على خلاف ما يرويه جرح في الحديث ولا شك أن عائشة كانت تتم في السفر، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم رخصة التخيير فيجب أن يحمل قولها تركت صلاة السفر على الأول على من أن من اختار الركعتين فكأن الصلاة تركت في حقه على الحالة الأولى، وأما حديث ابن عمر فشهادة على النفي وحديث عائشة شهادة على الإثبات فهو أولى أو يقال معناه لم يزد على ركعتين غالبا وأيضا ذكر ابن عمر عثمان صلى صدرا من خلافته ركعتين ثم صلى أربعا ولم يذكر إنكار الناس عليه وهذا دليل التخيير وأيضا قوله :﴿ لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ تدل على الأولوية دون الوجوب وإنكار الناس على عثمان واعتذاره جاز أن يكون لترك الأولى. واحتج الحنفية بالمعقول بأن الشفع الثاني لا يقضى ولا يأثم بتركه، وهذا آية النافلة بخلاف الصوم فإنه يقضى وبخلاف الحج على الفقير فإنه يصير فريضة إذا دخل الميقات، وأن التخيير بين الواجبات لا يكون إلا لنوع يسر في كلا الأمرين كما في صوم رمضان للمسافر فإن فيه أيضا نوع يسر بسهولة في الصوم مع الناس ما ليس في انفراده ولا كذلك في الاثنين والأربع فإن اليسر في الاثنين متيقن وأما جمعة المسافر وظهره فكل واحد منهما جنس آخر من الصلاة وفي كل منهما نوع يسر حيث يشترط في الجمعة ما لا يشترط في الظهر والتخيير بلا مراعاة يسر للمكلف مناف لشأن العبودية، وأجيب بأن التخيير بين القليل والكثير مفيد فاختيار القليل لليسر واختيار الكثير لزيادة الأجر وزيادة الأجر في الأربع لا يوجب نقصانا في الاثنتين، نظيره القراءة في الصلاة فإن المصلي مخير بين أن يقرأ أدنى ما يجوز به الصلاة وحينئذ لا نقصان في صلاته وبين أن يقرأ القرآن كله في ركعة وكلما قرأ في الصلاة وإن كان جميع القرآن وقع من الفريضة لأنه فرد من أفراد المأمور به حيث قال الله تعالى :﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾٨ ويرد عليه أن تقريركم هذا يدل على أن الإتمام للمسافر أفضل وأكثر ثوابا من القصر كما أن زيادة القراءة في الصلاة أفضل إجماعا وإنما يكره الزيادة على القدر المسنون في حق الإمام رعاية للقوم، وأما في المنفرد وكذا في حق الإمام إذا كان القوم راغبين فلا كراهة إجماعا لكن القصر في السفر أفضل من الإتمام إجماعا، وما روي عن الشافعي من أحد قوليه أن الإتمام أفضل فقد رجع عنه، وأجاب الحنفية عن استدلال الشافعي بهذه الآية أن الناس لما كانوا ألفوا بالإتمام كان مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمأنوا إليه، نظيره قوله تعالى :﴿ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾٩ ورد بأن هذا ترك لظاهر الآية من غير موجب فلا يجوز والله أعلم.
البحث الثالث : إن سفر المعصية يبيح القصر عند أبي حنيفة لعموم هذه الآية، وقالت الأئمة الثلاثة يبيح وليس لهم ما يمكن التعويل عليه من الحجة. البحث الرابع : إذا فارق المسافر بيوت المصر صلى ركعتين عند الأئمة الأربعة، وفي رواية عن مالك إذا كان من المصر على ثلاثة أميال، وحكي عن الحارث بن ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود وغير واحد من أصحاب عبد الله، وعن مجاهد أنه كان إذا خرج نهارا لم يقصر حتى يدخل الليل وإن خرج ليلا لم يقصر حتى يدخل النهار. لنا : أن الإقامة يتعلق بدخول المصر فالسفر يتعلق بخروجها، وروى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه أنه خرج من البصرة فصلى الظهر أربعا يعني قبل التجاوز عن بيوت المصر ثم قال لو جاوزنا هذا الحصن لصلينا ركعتين، وكذا إذا رجع من السفر وأراد دخول بلده صلى ركعتين ما لم يدخل بيوت مصره فإذا دخل البيوت صلى أربعا إجماعا، ذكر البخاري تعليقا قال : خرج علي فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال لا حتى ندخلها يريد أنه صلى ركعتين والكوفة بمراء منهم، وروى عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري عن وفا بن إياس الأسدي قال خرجنا مع علي ونحن ننظر الكوفة فصلى ركعتين ثم رجعنا فصلى ركعتين وهو ينظر إلى القرية فقلنا له ألا نصلي أربعا قال لا حتى ندخلها. البحث الخامس : في أنه في أثناء السفر إذا نوى في بلد أو قرية إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج صلى أربعا عند مالك والشافعي، وعن أحمد إن نوى إقامة مدة يفعل فيها أكثر من عشرين صلاة أتم، وقال أبو حنيفة : لا يتم حتى ينوي إقامة خمسة عشر يوما في مصر أو قرية ولا عبرة بنية الإقامة في الصحراء والأخبية. لنا : ما صح أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في حجة الوداع صبيحة رابعة ذي الحجة يوم الأحد فلما كان يوم التروية ثامن ذي الحجة يوم الخميس توجه إلى منى طلوع الشمس من يوم عرفة توجه إلى عرفة، فإذا فرغ من الحج بات بالمحصّب ليلة الأربعاء ثم طاف عليه السلام طواف الوداع سحرا قبل الصبح وخرج صبيحة وهو اليوم الرابع عشر فتمت عشر ليال وأقام بمكة إلى يوم التروية أربعة أيام ولياليها كوامل، فظهر بذلك بطلان قول مالك والشافعي دون قول أحمد حيث صلى النبي صلى الله علي
١ أخرجه النسائي في كتاب: تقصير الصلاة، باب: المقام الذي يقصر بمثله الصلاة (١٤٥٢)..
٢ أخرجه مسلم في أوائل كتاب: صلاة المسافرين وقصرها (٦٨٦)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (٧١٥)..
٤ أخرجه النسائي في كتاب: الجمعة، باب: عدد صلاة الجمعة (١٤١٦)..
٥ أخرجه مسلم في أوائل كتاب: صلاة المسافرين وقصرها (٦٨٧)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء (٣٤٣) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها (٦٨٥)..
٧ سورة الأحزاب، الآية: ٢١..
٨ سورة المزمل، الآية: ٢٠..
٩ سورة البقرة، الآية: ١٥٨..
وأخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن وليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا : قد كانوا على حالة لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا : يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال : فنزل جبرائيل بهذه الآية بين الظهر والعصر ﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ﴾ الآية، قال : فحضرت فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا بسلاح، قال : فصففنا خلفه صفين، قال : ثم ركع فركعنا جميعا ثم رفع فرفعنا جميعا ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، قال : ثم ركع فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم، وروى مسلم صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا من حديث جابر. قوله تعالى :﴿ وإذا كنت ﴾ يا محمد حاضرا ﴿ فيهم ﴾ وأنتم تخافون العدو قيدنا بهذا القيد للإجماع على كون الحكم مقيدا به وإن كان قوله تعالى ﴿ إن خفتم ﴾ الآية متصلا بما بعده كما قيل فهو قرينة على هذا التقييد، وعلى هذا جاز أن تكون هذه الآية معطوفة على قوله ﴿ إن خفتم ﴾ والشرط مجموع الأمرين الخوف وكونه صلى الله عليه وسلم فيهم وبناء على اشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم كما ينطق به ظاهر النص، قال أبو يوسف رحمه الله : إن صلاة الخوف كانت مختصة به صلى الله عليه وسلم غير مشروع بعده وعامة العلماء على أنها ثابت الحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عصر فكان الخطاب متناولا لكل إمام وهذا جرى على عادة القرآن في الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان المقصود جميع الأمة كما في قوله تعالى :﴿ فلا تك في مرية منه ﴾١ والحجة على جواز صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين صلوا صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير بعضهم على بعض فصار إجماعا، روى أبو داود أنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة كابل فصلى بنا صلاة الخوف، ٢ وروى عن علي عليه السلام أنه صلاها يوم الصفين، وذكر الرافعي أنه صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير بالطائفة الأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، وقال البيهقي يذكر عن جعفر ابن محمد عن أبيه أن عليا صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير، وقال الشافعي : وحفظ عن علي أنه صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير، كما روى صالح بن خوات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى البيهقي من طريق قتادة عن أبي العالية عن أبي موسى الأشعري أنه صلى صلاة الخوف بأصبهان، وروى البيهقي عن سعد بن أبي وقاص أنه صلى صلاة الخوف بحرب مجوس بطبرستان ومعه الحسن ابن علي وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عمرو بن العاص، وروى أبو داود والنسائي من طريق ثعلبة بن زهرم قال : كنا مع سعيد بن العاص فقال : أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا فصلى مع هؤلاء ركعة ومع هؤلاء ركعة٣ ﴿ فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ﴾ يعني فاجعلهم طائفتين فليقم أحدهما معك فصل بهم ﴿ وليأخذوا أسلحتهم ﴾ قال مالك : يجب حمل السلاح في صلاة الخوف وهو أحد قولي الشافعي، وقال أكثر العلماء : الأمر للاستحباب ﴿ فإذا سجدوا ﴾ يعني إذا أتم المصلون ركعة مع الإمام، وجاز أن يكون معناه فإذا صلوا أطلق السجود وأريد به الصلاة بتمامها تسمية الكل باسم الجزء ﴿ فليكونوا ﴾ أي المصلون ﴿ من ورائكم ﴾ أيها الأئمة إلى تجاه العدو ﴿ ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا ﴾ في محل الرفع صفة لطائفة ﴿ فليصلوا ﴾ أي تلك الطائفة الأخرى ﴿ معك ﴾يحتمل أن يراد بالصلاة الصلاة بتمامها وأن يراد بالصلاة الركعة الثانية ﴿ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ﴾ المراد بالحذر ما يتحذر به من العدو كالدرع والجنة وبالسلاح ما يقاتل به.
اعلم أنه روي صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجوه : أحدها ما ذكرنا من حديث أبي عياش الزرقي وحديث جابر قصة صلاته صلى الله عليه وسلم بعسفان إذا كان العدو بيننا وبين القبلة، ثانيها : ما رواه الشيخان في الصحيحين عن جابر قال :" أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، وفيه : فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال : فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان " متفق عليه، وهذا الحديث يحتمل الوجهين، أحدهما : أنه صلى الله عليه وسلم أربعا بتسليمة واحدة وكل طائفة صلى معه ركعتين ركعتين، وثانيهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين وسلم على كل ركعتين كذا وقع صريحا في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ثم جاء طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين " رواه البغوي من طريق الشافعي وشيخ الشافعي مجهول لكن وثقه الشافعي فقال أخبرني الثقة أبو علية أو غيره عن يونس عن الحسن عن جابر، ورواه ابن الجوزي من طريق الدارقطني عن عنبسة عن الحسن عن جابر، قال ابن الجوزي : لا يصح، قال يحيى بن معين : عنبسة ليس بشيء وقال النسائي متروك، وقال أبو حاتم : كان يضع الحديث. وروى هذا الحديث أبو داود وابن حبان والحاكم والدار قطني من حديث أبي بكرة ففي رواية أبي داود وابن حبان أنها الظهر وفي رواية الدار قطني أنها المغرب، وأعلها ابن القطان بأن أبا بكرة أسلم بعد وقوع صلاة الخوف، قال الحافظ : هذا ليس بعلة فإنه يكون مرسل الصحابي. ثالثها : ما رواه الشيخان عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع، وأخرج البخاري بطريق آخر عن صالح بن خوات عن سهيل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم ". رابعها : ما رواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نزل بين ضحنان وعسفان فقال المشركون : لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي العصر فأجمعوا أمركم فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقسم أصحابه شطرين فيصلي بهم ويقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فيكون لهم ركعة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان " ٤ رواه الترمذي والنسائي، وهكذا قال البغوي : أنه روي عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف " صلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا " قال البغوي : ورواه زيد بن ثابت وقال : كانت للقوم ركعة ركعة وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، وتأوله قوم على صلاة شدة الخوف وقالوا : الفرض في هذه الحالة ركعة واحدة. خامسها : ما رواه البخاري في الصحيح عن سالم بن عمر عن أبيه قال :" غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فوازينا العدو فصاففنا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم يصل فجاءوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين " ٥ وروى نافع نحوه وزاد فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، قال نافع : لا أرى قال ابن عمر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في رواية ابن عمر هذه أي الطائفتين يتم صلاته أولا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختار أبو حنيفة من وجوه صلاة الخوف هذا الوجه الأخير ولم يجوز سواه، وقال يذهب الطائفة الثانية بعد سلام الإمام وجاه العدو ويجيء الطائفة الأولى فيتم صلاته أولا ثم يجيء الطائفة الثانية فيتم صلاته ويسلم لما ذكر محمد في كتاب الآثار هكذا من رواية أبي حنيفة قول ابن عباس والموقوف فيه كالمرفوع ولم يجوّز سواه. أما الوجه الثاني صلاته عليه السلام ببطن نخل فهو يستلزم اقتداء المفترض بالمتنفل، قال الطحاوي : إنه كان في وقت كانت الفريضة تصلي مرتين ثم نسخ ذلك ولو كانت الفريضة مشروعة تكرارها لما احتيج إلى شرع صلاة الخوف مع المنافي. وأما الوجه الثالث : صلاته صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فهو يستلزم أن يركع المؤتم ويسجد قبل الإمام وذلك لم يعهد وإن انتظار الإمام المأموم على خلاف مقتضى الإمامة. وأما الوجه الرابع صلاته صلى الله عليه وسلم بين ضحنان وعسفان يكون للقوم ركعة واحدة فمتروك العمل بالإجماع لأنهم اتفقوا على أن الخوف لا ينقص عدد الركعات، وأما الوجه الأول صلاته صلى الله عليه وسلم بعسفان حين كان العدو بينه وبين القبلة فهو مخالف لكتاب الله تعالى حيث قال الله تعالى :﴿ فلتقم طائفة منهم معك ﴾ وفي هذا الوجه تقوم الطائفتان جميعا، وقال الله تعالى :﴿ ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا ﴾ وفي هذا الوجه أنهم قد صلوا، وقال الشافعي وأحمد ومالك : جميع الصفات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف معتد بها وإنما الخلاف في الترجيح، وقال أحمد بن حنبل ما أعلم في هذا الباب إلا حديثا صحيحا. واختار الشافعي من الوجوه المذكورة أربعة أوجه وأحمد ثلاثة إن كان العدو بينه وبين القبلة فالمختار عندهما الوجه الأول صلاته بعسفان وإن كان في جهة غير جهة القبلة فالمختار عند الشافعي إما الوجه الثاني صلاته عليه السلام ببطن نخل وإقتداء المفترض بالمتنفل صحيح عنده خلافا لأحمد، وإما الوجه الثالث صلاته عليه السلام بذات الرقاع وعند أحمد هو المختار فحسب، قالوا : هذا الوجه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ للحراسة عن العدو وذلك لأن الله تعالى قال :﴿ فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ﴾ أي إذا صلوا ثم قال :﴿ ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا ﴾ وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلوا وقال :﴿ فليصلوا معك ﴾ ومقتضاه أن يصلوا تمام الصلاة، وظاهره يدل على أن كل طائفة تفارق الإمام بعد تمام الصلاة وفيه الاحتياط الأمر الصلاة من حيث أنه لا يكثر فيها العمل والذهاب والمجيء والاحتياط الأمر الحرب من حيث أنهم إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحرب والهرب إن احتاجوا إليه. والوجه الرابع للشافعي وهو الثالث لأحمد حين يلتحم القتال ويشتد الخوف فيصلي كيف أمكن راكبا وماشيا ويعذر في ترك القبلة وفي الأعمال الكثيرة لحاجة وإن عجز عن ركوع وسجود أومأ والسجود أخفض، وقال أبو حنيفة : لا يجوز الصلاة في حالة القتال ماشيا والقتال والعمل الكثير يفسد الصلاة عنده، ويجوز الصلاة راكبا يومي إيماء أو قائما على قدميه وقد مر هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :{ فإن خفتم فرجا
١ سورة هود، الآية: ١٧..
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من قال يصلي بكل طائفة ركعة ثم يسلم (١٢٤٣)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع (٤١٣٦) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف (٨٤٣)..
٤ أخرجه النسائي في كتاب: صلاة الخوف (١٥٣٧)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الخوف، باب: صلاة الخوف (٩٤٢) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف (٨٣٩)..
﴿ فإذا قضيتم الصلاة ﴾ أي فرغتم منها يعني من صلاة الخوف ﴿ فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾ يعني فدوموا على الذكر بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وغير ذلك في جميع الأحوال، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه " ١ رواه أبو داود، والظاهر أن المراد بالآية والحديث دوام الحضور بالقلب إذ لا يتصور دوام الذكر باللسان، وقيل : المراد إذا فرغتم من صلاة الخوف فاذكروا الله يعني صلوا قياما في حالة الصحة وقعودا أو على جنوبكم بحسب الطاقة في حالة المرض أو الزمانة أو الجرح أو الضعف، أو المراد إذا أردتم الصلاة في حالة الخوف فصلوا قياما إن قدرتم عليه وقعودا إن عجزتم عن القيام وعلى جنوبكم إن عجزتم عن القعود ﴿ فإذا اطمأننتم ﴾ أي سكنت قلوبكم بزوال الخوف ﴿ فأقيموا الصلاة ﴾ فعدلوا واحفظوا أركانها وشرائطها ولا يجوز حينئذ في الصلاة ما يجوز في حالة الخوف ﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا ﴾ أي مكتوبا مفروضا ﴿ موقوتا ﴾ محدودا بالأوقات لا يجوز إخراجها عنها ما أمكن كأنه تعليل لتشريع صلاة الخوف والصلاة قاعدا أو راقدا عند العذر، ولا دليل في هذه الآية على جواز الصلاة في حالة الحرب والمسابقة كما قال به الشافعي، واستدل عليه البيضاوي بهذه الآية لأنه لو كانت الصلاة جائزة في حالة المسابقة لذكرها كنا ذكرها قاعدا أو على الجنوب، فإذا لم يذكر فالأصل عدم الجواز والآية مجملة في الأوقات ورد بيانها بالسنة.
مسألة : أجمعوا على أن وقت الظهر بعد الزوال إلى وقت العصر والعصر إلى غروب الشمس إلا أنه يكره تحريما بالإجماع بعد اصفرار الشمس والوقت المختار عند الشافعي أن لا يؤخر العصر عن مصير الظل مثلين، ووقت المغرب بعد غروب الشمس والعشاء بعد غروب الشفق إلى طلوع الفجر لكن المختار بالإجماع أن لا يؤخر العشاء بعد نصف الليل والفجر بعد طلوع الصبح المعترض إلى طلوع الشمس. واختلفوا في آخر وقت الظهر والمغرب ؟ فالجمهور على أن وقت الظهر إلى بلوغ ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال والمغرب إلى غروب الشفق خلافا لأبي حنيفة في آخر الظهر حيث قال : إلى المثلين وخلافا لمالك والشافعي في أحد قوليه في آخر المغرب حيث قالا : لا يؤخر المغرب في الاختيار عن غروب الشمس. والأصل في الباب حديث أمامة جبرائيل عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أمّني جبرائيل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين صار ظل كل شيء مثله كوقت العصر بالأمس وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم المغرب بوقته الأول والعشاء الآخر حين ذهب ثلث الليل ثم صلى الصبح اصفرت الأرض ثم التفت إلي جبرائيل فقال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين " ٢ رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال : صحيح الإسناد، لكن فيه عبد الرحمن بن الحرث ضعفه أحمد والنسائي وابن معين وأبو حاتم ووثقه ابن سعد وابن حبان، وقد توبع عليه، أخرج عبد الرزاق عن العمري عن عمرو بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه، قال ابن دقيق العيد : هي متابعة حسنة وصححه أبو بكر بن العربي وابن عبد البر، وقد روي حديث إمامة جبرائيل عن عدة من الصحابة منهم جابر بمعناه وفيه فصلى العشاء في اليوم الثاني حين ذهب نصف الليل، أو ثلث الليل، قال البخاري : أصح حديث في المواقيت حديث جابر. وعن بريدة قال : إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال له :" صل معنا هذين " يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الظهر ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر فأبردها فأنعم أن يبردها وصلى العصر والشمس مرتفعة آخرها فوق الذي كان وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل وصلى الفجر فأسفرها ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة ؟ فقال الرجل : أنا يا رسول الله، قال :" وقت صلاتكم بين ما رأيتم " ٣ رواه مسلم، وعن أبي موسى نحو حديث بريدة " وفيه أخر النبي صلى الله عليه وسلم المغرب يعني في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق " ٤ رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل كل شيء كطوله ما لم يحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت الفجر من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس " ٥ رواه مسلم، وفي حديث أبي هريرة :" أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخر وقتها حين تغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين تغيب الأفق وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع وآخر وقتها حين تطلع الشمس " ٦ رواه الترمذي من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وخطأ البخاري رفعه، وهذه الأحاديث حجة للجمهور على مالك والشافعي في أن آخر وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق، وأما آخر وقت العصر إلى غروب الشمس فمستفاد من قوله تعالى :﴿ إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ٣١ فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ﴾٧ وقوله صلى الله عليه وسلم :" من أدرك ركعة من الصبح، قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " ٨ متفق عليه من حديث أبي هريرة، وأما آخر وقت العشاء ما لم تطلع الفجر فلم يوجد في شيء من الأحاديث صحيح ولا ضعيف لكن اختلف الأحاديث الصحاح فيه روي عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم " أخرها إلى ثلث الليل " وروى عن أبي هريرة وأنس أنه صلى الله عليه وسلم " أخرها حتى انتصف الليل " وروى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم " أخرها حتى ذهب ثلثا الليل " وروت عائشة " أنه اعتم بها حتى ذهب عامة الليل " وكل هذه الأحاديث في الصحيح، قال الطحاوي يفيد مجموع هذه الأحاديث أن الليل كله وقت لها لكن على ثلاث مراتب إلى الثلث أفضل وإلى النصف دونه وما بعده دونه، ثم ساق بسنده إلى نافع بن جبير قال كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري : وصل العشاء أي الليل شئت ولا تغفلها، وعند مسلم في قصة ليلة التعريس عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ليس في النوم تفريط إنما التفريط أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى " ٩ وهذا يدل على أن وقتها إلى طلوع الفجر، وقد أجمعوا على أنه إذا أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو بلغ الصبي وقد بقي من الليل شيء يجب عليه العشاء. وأما أحاديث إمامة جبرائيل وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم للسائل عن وقت الصلاة فمحمولة على المختار من الوقت ما لا كراهة فيه، ولذا قال أبو حنيفة رحمه الله : تأخير المغرب عن أول الوقت مكروه تنزيها لا تحريما لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق وتأخير العشاء عما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم والعصر إلى اصفرار الشمس مكروه تحريما وأشد كراهة تأخير العصر إلى الاصفرار لورود النهي عن الصلاة في ذلك الوقت وكونه منسوبا إلى الشيطان، وأما ما ورد في حديث إمامة جبرائيل أخر وقت العصر حين صار ظل كل شيء مثليه فمنسوخ من قوله صلى الله عليه وسلم :" وقت العصر ما لم تصفر الشمس " وأما آخر وقت الظهر فلم يوجد حديث صحيح ولا ضعيف أنه يبقى بعد مصير ظل كل شيء مثله، ولذا خالف أبا حنيفة في هذه المسألة صاحباه ووافقا الجمهور واحتج أبو حنيفة بما مر من حديث بريدة " فلما كان اليوم الثاني أمره فأمره فأبرد بالظهر فأبردها فأنعم أن يبردها " ولقوله صلى الله عليه وسلم :" إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " ١٠ رواه الستة، قال أبو حنيفة : واشتد الحر في ديارهم في هذا الوقت حين صار ظل كل شيء مثله فكان حديث الإبراد ناسخا لحديث إمامة جبرائيل فإنه أول أحاديث الباب، وإذا ثبت بقاء وقت الظهر بعد صيرورة الظل مثل الشيء نسخا لإمامة جبرائيل بحديث الإبراد ثبت نسخ حديث إمامة جبرائيل في حق أول وقت العصر أيضا لأن قوله تعالى :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾ يقتضي كون الوقت لكل صلاة وقتا على حدة ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنما التفريط أن يؤخر صلاة حتى تدخل وقت الأخرى " ١١ لكن إمامة جبرائيل في اليوم الثاني العصر عند صيرورة ظل كل شيء مثليه يفيد أنه وقته ولم ينسخ فيستمر ما علم ثبوته من بقاء وقت الظهر إلى أن يدخل هذا الوقت المعلوم كونه وقتا للعصر وهذا الاستدلال ضعيف جدا، ودلالة حديث الإبراد على بقاء وقت الظهر بعد المثل ممنوع بل الإبراد أمر إضافي وشدة الحر إنما يكون عند الزوال وبعض الإبراد يحصل قبيل بلوغ الظل مثل الشيء ولو كان الحر في ديارهم حين بلوغ ظل الشيء مثله أشد مما قبله لكان مقتضي الأمر بالإبراد تعجيل الصلاة في أول الوقت والله أعلم. مسألة : الشفق الحمرة عند الجمهور وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، والمشهور من مذهبه أنه البياض الذي بعد الحمرة لأن اللفظ مشترك بينهما ولا يزول وقت المغرب ولا يدخل وقت العشاء بالشك ولأن الأحوط ذلك فإنه لا يجوز الصلاة قبل الوقت ويجوز بعده، احتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم :" الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة " رواه ابن عساكر في غرائب مالك من حديث عتيق بن يعقوب عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا، ورواه ابن عساكر من حديث أبي حذافة عن مالك وقال : حديث عتيق أمثل إسنادا وصحح البيهقي وقفه، وذكر الحاكم في المدخل حديث أبي حذافة وجعله مثالا لما رفعه المخرجون من الموقوفات، ورواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث بن يزيد الواسطي عن شعبة عن قتادة عن أبي أيوب عن ابن عمر ورفعة وقت المغرب إلى أن يذهب حمرة الشفق، قال ابن خزيمة : إن صحت هذه الرواية بهذا اللفظ أغنت عن جميع الروايات لكن تفرد بها محمد بن يزيد، وإنما قال فيه أصحاب شعبة نور الشفق مكان حمرة الشفق قال الحافظ ابن حجر محمد بن يزيد صدوق، وقال البيهقي : روى هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس وأبي هريرة ولا يصح فيه شيء والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها (٣٧٣) وأخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يذكر الله تعالى على غير طهر (١٨)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم (١٤٩) وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في المواقيت (٣٩٢)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس (٦١٣)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس (٦١٤).
وأخرجه النسائي في كتاب: المواقيت، باب: آخر وقت المغرب (٥١٨).

٥ أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس (٦١٢)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة (١٥١)..
٧ سورة ص، الآية: ٣١-٣٢..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب (٥٣١) وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة (٦٠٨)..
٩ أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضاءها (٦٨١)..
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر (٥١٠) وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر (٦١٦)..
١١ أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها (٦٨١)..
ذكر البغوي : أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة في آثارهم فشكوا ألم الجراحات فأنزل الله تعالى ﴿ ولا تهنوا ﴾ أي لا تضعفوا أيها المؤمنون ﴿ في ابتغاء القوم ﴾ في طلب الكفار بالقتال ﴿ إن تكونوا تألمون ﴾ ألم الجراحات ﴿ فإنهم ﴾ أي الكفار ﴿ يألمون ﴾ من الجراحات ﴿ كما تألمون ﴾ يعني ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختص بكم ﴿ وترجون ﴾ من الأجر والثواب ﴿ من الله ما لا يرجون ﴾ أي الكفار فينبغي أن تكونوا أرغب في القتال منهم وأصبر ﴿ وكان الله عليما ﴾ بأعمالكم وضمائركم ﴿ حكيما ﴾ فيما يأمر وينهى والله أعلم، ما ذكر البغوي يدل على أن الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إن تكونوا تألمون ﴾ وقال البيضاوي : نزلت في بدر الصغرى ولا دليل عليه ولم يذكر أصحاب السير نزول هذه الآية في أحد الغزوتين ولا يدل عليه سياق الكلام بل ذكروا فيه نزول ﴿ الذين استجابوا لله والرسول ﴾١ الآية آية آل عمران والله أعلم.
١ سورة آل عمران، الآية: ١٧٢..
روى الترمذي والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال : كان أهل بيت يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له فيها سلاح ودرع وسيف فعدى عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا : رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، فقال بنو أبيرق : ونحن نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهيل رجل منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال : أنا أسرق فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيننّ هذه السرقة، قالوا : إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأتيته، فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سأنظر في ذلك، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيتنا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا يثبت، قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : عمدت إلى أهل بيت ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب ﴾ ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة فلم نلبث أن نزل القرآن الآيات إلى قوله عظيما، فلما نزل القرآن أتى رسول الله بالسلاح فرده إلى رفاعة ولحق بشير المشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ﴾ إلى قوله ﴿ ضلال بعيدا ﴾ قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم. وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال : عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهورها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما، فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهيل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب ﴾ الآيات، فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه هرب إلى مكة مرتدا فنزل على سلافة بنت سعد فجعل يقع في النبي صلى الله عليه وسلم وفي المسلمين فنزل القرآن فيه وهجاه بن ثابت حتى رجع وكان ذلك في شهر الربيع الثاني سنة أربع من الهجرة. وقال البغوي : روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وأخرجه ابن جرير عنه قال : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جار يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد السمين، فالتمست الدرع من عند طعمة فحلف والله ما أخذها وما له بها علم، فقال أصحاب الدرع : لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره فلما خلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي، فأخذوه فقال اليهودي : دفعها إلي طعمة بن أبيرق، فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، وقال له : إنك إن لم تفعل افتضح صاحبنا، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي. وقال البغوي : ويروى عن ابن عباس رواية أخرى أن طعمة سرق الدرع في جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان يتناثر منه النخالة طول الطريق فجاء به إلى دار زيد السمين وتركه على بابه وحمل الدرع إلى بيته، فلما أصبح صاحب الدرع جاء على إثر النخالة إلى دار زيد السمين فأخذه وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد زيد اليهودي، وقال البغوي : قال مقاتل : إن زيد السمين أودع درعا عند طعمة فجحدها طعمة فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب ﴾ متلبسا ﴿ بالحق ﴾ أي بالأمر والنهي والعلوم الحقة ﴿ لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾ قال البيضاوي : الرؤية ليست بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل والرؤية بمعنى الإبصار ظاهر الانتفاء فالمعنى بما عرفك الله وأوحى إليك، وقال بعض الأفاضل : يمكن حمله على معنى العلم بحذف مفعوله الثاني والثالث أي بما علمك الله حقا وهو وإن كان محتاجا إلى زيادة الحذف لكنه غني عن التجوز، قلت : والظاهر عندي أن الرؤية بمعنى العلم وما الموصولة عبارة عن مضمون جملة يتعلق بها العلم والضمير العائد إلى الموصول محذوف في حكم المذكور مغنى عن المفعولين لقيام مضمون الجملة مقامهما كأنه قيل لتحكم بين الناس بكون طعمة سارقا ولبيد أو زيد بريئا، وهذه الآية دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعمل بالمظنون لكنه لا ينفى الاجتهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إذا حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ظن بالاجتهاد وقرر الله سبحانه ولم يطلعه على الخطأ ظهر عنده بيقين أنه الحق بخلاف المجتهد، ويؤيده ما روي عن عمرو بن دينار أن رجلا قال لعمر : أحكم بما أراك الله، قال : مه إنما هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وجاز أن يكون هذا الحكم عاما ويقال إن المجتهد إذا ظهر عنده الحكم بدليل ظني من خبر الآحاد أو القياس فالعمل به واجب بدلائل قطعية من الكتاب والسنة والإجماع ما لم يظهر دليل راجح يخالفه فالحكم المظنون عند المجتهد بعد بذل جهده وإن كان غير معلوم عنده أنه في نفس الأمر لكنه معلوم عنده أنه واجب العمل، وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله : معنى الآية بما ألهمك الله بالنظر في الأصول المنزلة وقال فيه دليل على جواز الاجتهاد في حقه ﴿ ولا تكن ﴾ عطف على أنزلنا بتقدير القول، يعني وقلنا لا تكن أو عطف على الكتاب لكونه منزلا يعني أنزلنا إليك الكتاب وأنزلنا إليك لا تكن ﴿ للخائنين ﴾ يعني لأجلهم وللذب عنهم والمواد بهم بنو أبيرق ﴿ خصيما ﴾ للبراء وهم لبيد بن سهيل أو زيد السمين اليهودي.
﴿ واستغفر الله ﴾ مما قلت لقتادة بن النعمان كذا في رواية الترمذي والحاكم عن قتادة، وقال البغوي : استغفر الله مما هممت به من معاقبة اليهودي، وقال مقاتل استغفر الله من جدالك عن طعمة ﴿ إن الله كان غفورا رحيما ﴾ لمن استغفره.
﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾ أي يخونونها فإن وبال خيانتهم يعود عليهم أو جعل المعصية خيانة لأنفسهم لما جعلت ظلما عليها، والضمير لابن أبيرق وأمثاله أو له ولقومهم حيث شاركوه في الإثم وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنه ﴿ إن الله لا يحب ﴾ أي يبغض ﴿ من كان خوّانا ﴾ أي مبالغا في الخيانة مصرا عليها ﴿ أثيما ﴾ بإنكار الحق والكذب ورميه بالسرقة البريء منه، قيل : إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره كقوله : و ﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ﴾١ قال البغوي : الاستغفار في حق الأنبياء على أحد الوجوه الثلاثة إما لذنب تقدم على النبوة أو لذنوب أمته وقرابته أو لمباح جاء في الشرع تحريمه فتركه، والاستغفار معناه السمع والطاعة لحكم الشرع.
١ سورة يونس، الآية: ٩٤..
﴿ يستخفون ﴾ أي يستترون حياء وخوفا من الفضيحة يعني قوم بني أبيرق ﴿ من الناس ولا يستخفون من الله ﴾ أي لا يستحيون من الله وهو أحق أن يستحيى منه وأحق لأن يخاف الفضيحة لديه أو لا يمكنهم الاستخفاء من الله تعالى ﴿ وهو معهم ﴾ لا يخفى عليه سرهم ولا طريق معه إلا ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه ﴿ إذ يبيّتون ﴾ أي يزورون ليلا ويتقولون وقد مر معنى التبييت في قوله تعالى :﴿ بيّت طائفة ﴾١ ﴿ ما لا يرضى ﴾ الله ﴿ من القول ﴾ قال البغوي : ذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم نرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسمع قول طعمة ويمينه لأنه مسلم ولا يسمع قول اليهودي لأنه كافر فلم يرض الله بذلك القول ﴿ وكان الله بما يعملون محيطا ﴾ لا يفوت منه شيء.
١ سورة النساء، الآية: ٨١..
﴿ ها أنتم هؤلاء ﴾ أنتم مبتدأ وهؤلاء منادى بحذف حرف النداء وما بعده خبر المبتدأ، أو يقال هؤلاء خبر مبتدأ أو قوله :﴿ جادلتم ﴾ إلى آخره جملة مبينة بوقوع أو لاء خبر أو صلة عند من يجعله موصولا ﴿ عنهم ﴾ يعني عن ابن أبيرق وأمثاله وقومه، والجدال شدة المخاصمة من الجدل وهو شدة الفتل وهو يريد قتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج، وقيل : الجدال من الجدالة بمعنى الأرض فكأن كل واحد من الخصمين يريد إلقاء صاحبه على الأرض ﴿ في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم ﴾ يعني لا أحد يجادل الله عن أمثال ابن أبيرق إذا أراد تعذيبهم ﴿ يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ﴾ محاميا يحميهم ويدفع عنهم عذاب الله لأن من وكل إليه الأمر يحافظ عليه، وأم في مثل هذا الموضع حيث وقع بعده حرف استفهام مثل أم ماذا كنتم وأم كيف ينفع ليست بمتصلة ولا منقطعة بل هي بمعنى بل ويجوز الحمل على أحد معنييه بتأويل.
﴿ ومن يعمل سوءا ﴾ قبيحا يسوء به غيره ﴿ أو يظلم نفسه ﴾ بما يختص به، وقيل : المراد بالسوء ما دون الشرك وبالظلم الشرك وقيل الصغيرة والكبيرة ﴿ ثم يستغفر الله ﴾ بالتوبة ورد المظالم ﴿ يجد الله غفورا ﴾ لذنوبه ﴿ رحيما ﴾ متفضلا عليه، فيه حث لابن أبيرق وقومه على التوبة والاستغفار.
﴿ ومن يكسب إثما ﴾ صغيرا أو كبيرا ﴿ فإنما يكسبه على نفسه ﴾ حيث يتضرر به نفسه لا يتعدى وباله إلى غيره ﴿ وكان الله عليما ﴾ بما كسب عبده ﴿ حكيما ﴾ في مجازاته.
﴿ ومن يكسب خطيئة ﴾ صغيرة أو ما لا عمد فيه ﴿ أو إثما ﴾ كبيرة أو ما كان عن عمد ﴿ ثم يرم به بريئا ﴾ كما رمى ابن أبيرق لبيدا أو زيد السمين، ووحد الضمير لمكان أو ﴿ فقد احتمل بهتانا ﴾ أي كذبا يبهت ويتحير به العقول ﴿ وإثما ﴾ ذنبا ﴿ مبينا ﴾ ظاهرا بسبب رمي البريء وتبرئة النفس الخاطئة.
﴿ ولولا فضل الله عليك ﴾ أيها النبي ﴿ ورحمته ﴾ أي عصمته ولطفه من الاطلاع على أسرهم ﴿ لهمت طائفة منهم ﴾ أي بنو ظفر ﴿ أن يضلوك ﴾ في القضاء بالتزوير ويلبسوا عليك الأمر حتى تدافع عن ابن أبيرق، والجملة جواب لولا وليس القصد فيه إلى نفي همهم بل نفي تأثيره فيه كأنه نزل وجود الهم منزلة العدم لعدم تأثيره ﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾ فإن ضرر أضلالهم إنما يعود إليهم ﴿ وما يضرونك ﴾ بعصمة الله ﴿ من شيء ﴾ منصوب المحل على المصدرية أي شيئا من الضرر، كان مقتضى الظاهر وما أضلوا إلا أنفسهم وما أضروك من شيء عدل إلى المضارع لحكاية الحال ﴿ وأنزل الله عليك الكتاب ﴾ أي القرآن ﴿ والحكمة ﴾ أي العلوم الحقة بالوحي الغير المتلوّ ﴿ وعلمك ﴾ العلوم بالأسرار والمغيبات، قال قتادة : علمه الله بيان الدنيا والآخرة من حلاله وحرامه ليحتج بذلك على صحة ﴿ ما لم تكن تعلم ﴾ جملة وأنزل الله وعلمك جملة حالية بتقدير قد متعلق بنفي الإضلال ونفي الضرر على سبيل التنازع ﴿ وكان فضل الله عليك عظيما ﴾ إذ لا فضل أعظم من النبوة والله أعلم.
﴿ لا خير في كثير من نجواهم ﴾ النجوى السر كذا في القاموس وناجيته ساررته، قال في الصحاح : أصله أن تخلو به في نجوة من الأرض يعني ما ارتفع منها، وقيل أصله من النجاة وهو أن يعاونه على ما فيه خلاصه، قال البغوي : النجوى هو الإسرار في التدبير وقيل : النجوى ما يتفرد بتدبيره قوم سرا كان أو جهارا ويؤيده قوله تعالى :﴿ وأسروا النجوى ﴾١ ومعنى الآية لا خير في كثير مما به بينهم، وجاز أن يكون المصدر بمعنى الفاعل والمراد به الرجال المتناجون كما في قوله تعالى :﴿ وإذ هم نجوى ﴾٢ والضمير المجرور عائد إلى قوم ابن أبيرق الذين يستخفون من الناس إذ هم يبيتون ما لا يرضى الله من القول، وقال مجاهد : الآية عامة في حق جميع الناس فعلى تقدير عوده إلى قوم ابن أبيرق قوله تعالى :﴿ إلا من أمر بصدقة ﴾ الاستثناء منقطع لأن من أمر بصدقة غير داخلين فيهم وعلى تقدير عود الضمير إلى جميع الناس استثناء متصل من الضمير المذكور، وقيل هذا استثناء من قوله :﴿ كثير من نجواهم ﴾ فإن كان النجوى بمعنى الفاعل فلا خفاء فيه وإن كان بمعنى المصدر يقدر المضاف يقدر المضاف في المستثنى يعني لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة. ويرد أن هذا الاستثناء لا يجوز لأنه مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيد لعدم الجزم بدخول زيد في كثير ولا في خروجه فلا يصح المتصل ولا المنقطع، وأجيب بأن المراد لا خير في كثير من نجوى وأحد منهم إلا نجوى من أمر وهذا الجواب لا يتأتى إذا كان النجوى بمعنى المتناجي إذ لا معنى لأن يقال لا خير في كثير من متناجى كل واحد منهم والظاهر إن إلا هاهنا بمعنى غير صفة كما في قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾٣ ﴿ أو معروف ﴾ أي ما يعرف حسنها شرعا من أعمال البر، قيل : المراد القرض وإعانة الملهوف وصدقة التطوع، وبالصدقة الزكاة المفروضة ﴿ أو إصلاح بين الناس ﴾ عطف على معروف تخصيص بعد تعميم لمزيد الاهتمام، أو يقال قد يباح لأجل الإصلاح بين الناس ما ليس بمعروف في غيره كالكذب. عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا " ٤ متفق عليه، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ؟ قال : قلنا بلى، قال : إصلاح ذات البين وإفساد ذات البين هي الحالقة " ٥ رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث صحيح، وعن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يحل الكذب إلا في ثلاث : كذب الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس " ٦ رواه أحمد والترمذي ﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ أي الأمر بأحد هذه الأشياء أو أحد هذه الأشياء المذكورة يعني الصدقة وأختيه، والظاهر هو الأول واختار البيضاوي الثاني وقال بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعال ليدل على أنه لما دخل الأمر في زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم وأن العمدة والغرض هو الفعل والأمر وصلة إليه ﴿ ابتغاء مرضات الله ﴾ قيد الفعل به لأن من فعل رياء أو سمعة لم يستحق الأجر " إنما الأعمال بالنيات " ٧ متفق عليه من حديث عمر مرفوعا ﴿ فسوف نؤتيه ﴾ قرأ حمزة وأبو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ﴿ أجرا عظيما ﴾ يستحقر في جنبه أغراض الدنيا، روى الشيخان في الصحيحين وأحمد عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " ٨ وروى البيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رحم الله امرئ تكلم فغنم أو سكت فسلم ".
١ سورة الأنبياء، الآية: ٣..
٢ ؟؟؟؟؟.
٣ سورة الأنبياء، الآية: ٢٢..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في إصلاح ذات البين (١٩٣٨)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في إصلاح ذات البين (٤٩١١)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في إصلاح ذات البين (١٩٣٩)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (١) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" (١٩٠٧)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (٦٠١٨) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير (٤٧)..
ولما ذكر الله سبحانه جزاء المستثنين الخيار عقبه جزاء من بقوا بعد الاستثناء من الشرار فقال :﴿ ومن يشاقق ﴾ أي يخالف : مشتق من الشق كأن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر ﴿ الرسول من بعد ما تبين له الهدى ﴾ أي بعدما ثبت عنده بدليل قطعي وظهر ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم قيد بهذا احترازا عمن خالف الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه الخبر بما حكم به الرسول أو بلغه بطريق اتهم بعض رواته أو أخطأ المجتهد في فهم مراده بعد بذل الجهد، وقيل : معنى خالف الرسول أنه ارتد عن الدين بعد ظهور التوحيد وصدق الرسول بالمعجزات كما حكى عن طعمة ﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين ﴾ أي غير ما هم عليه أجمعون من اعتقاد أو عمل ولا بأس بمخالفة البعض إذا وافق البعض لقوله عليه السلام :" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ١ ﴿ نولّه ما تولى ﴾ أي نجعله في الدنيا وليا لما تولى من الضلال ونخلى بينه وبين ما اختاره من الكفر، وقيل : معناه نكله في الآخرة إلى ما اتكل عليه في الدنيا كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وعن عبد الله بن عمرو بن العاص في حديث طويل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وإذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار " ٢ ﴿ ونصله ﴾ أي ندخله ﴿ جهنم وساءت مصيرا ﴾ جهنم أو التولية عن الحق، قال البغوي : نزلت هذه الآية في طعمة ابن أبيرق وذلك أنه لما ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليد والفضيحة هرب إلى مكة وارتد عن الدين فقال الله تعالى :﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية وهذه الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع، لأنه تعالى رتب الوعيد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ولا وجه لكون أحدهما سببا له دون الآخر وإلا للغا ذكر الآخر ولا لكون مجموعهما سببا لأن المشاقة محرمة بانفرادها بالنصوص القطعية فظهر أن كل واحد منهما سبب للوعيد، فثبت أن اتباع غير سبيلهم محرم فثبت أن اتباع سبيلهم واجب لأن الإنسان لا محالة سالك سبيلا، روى البيهقي والترمذي عن ابن عمر وابن عباس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدا ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار " ٣ والله أعلم، قال البغوي : روي أن طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن علاظ فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع أن يدخله ولا أن يخرج حتى أصبح فأخذ ليقتل، فقال بعضهم دعوه فإنه قد لجأ إليكم فتركوه فأخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فنزلوا منزلا فسرق بعض مطاعهم فهرب فطلبوه فأخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه، فصار قبره تلك الحجارة. وقيل : إنه ركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ فألقي في البحر، وقيل : إنه نزل في حرة بني سليم فكان يعبد صنما إلى أن مات فأنزل الله تعالى فيه.
١ رواه البيهقي، وأسنده الديلمي عن ابن عباس بلفظ "أصحابي بمنزلة النجوم في السماء بأيهم اقتديتم اهتديتم". انظر كشف الخفاء (٣٨١)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة﴾ (٤٥٨١) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية (١٨٣)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب: ما جاء في لزوم الجماعة (٢١٦٧)..
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك ﴾ من الصغائر والكبائر بالتوبة وبلا توبة ﴿ لمن يشاء ﴾ مغفرته ﴿ ومن يشرك بالله ﴾ في وجوب الوجود وتأصله أو العبادة شيئا ﴿ فقد ضل ﴾ عن سبيل الحق ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ لا يمكن وصوله إلى النجاة والمغفرة، وقال البغوي : قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن هذه الآية السابقة نزلت في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جرأة على الله وما توهمت أني أعجز الله هربا وإني لنادم تائب مستغفر فماذا حالي، وكذا أخرج الثعلبي عنه والله أعلم.
قال البغوي : ونزل في أهل مكة قوله تعالى :﴿ إن يدعون ﴾ أي ما يعبدون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدعاء هو العبادة " ثم قال ﴿ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي ﴾١ الآية رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، ولأن من عبد شيئا دعاه لحوائجه ومصالحه ﴿ من دونه ﴾ تعالى ﴿ إلا إناثا ﴾ قال أكثر المفسرين معناه إلا أوثانا، ووجه تسميتها بالإناث إما لأن العرب كانوا يزعمونها إناثا ويسمونها بأسماء الإناث اللات والعزى ومناة ونحوها ويقولون ربة بني فلان وأنثى بني فلان، لما روى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال إلا إناثا قال مع صنم جنية وإما لأنه لا حقيقة لها إلا أسماءها قال الله تعالى :﴿ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ﴾٢ فاعتبرت إناثا باعتبار تأنيث أسمائها وإما لأنها كانت جمادات والإناث يطلق على الجمادات لغة، في القاموس الإناث جمع الأنثى كالأناثى والموات كالشجر والحجر وصغار النجوم، فهذا إطلاق لغوي أصلي من غير تجوّز كما قيل في كتب النحو الضمير بالألف والتاء ونون الجماعة لغير العقلاء في الأصل يقال سفن جاريات ونخل باسقات وصرن الأيام ليالي، وإنما جعل ضمير جماعة النساء بها لتنزيلهن منزلة غير العقلاء لنقصان عقلهن، وقال الحسن وقتادة : إلا إناثا أي مواتا لا روح فيه سماها إناثا لأنها تخبر عن الموات كما تخبر عن الإناث أو لأن الإناث أدون الجنسين كما أن الموات أرذل من الحيوان وعلى هذين الوجهين الإطلاق مجازي وقرأ ابن عباس " إلاثنا " جمع الأوثان جمع وثن قلبت الواو همزة، وقال الضحاك أراد بالإناث الملائكة فإنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله قال الله تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ﴾٣ ﴿ وإن يدعون إلا شيطانا ﴾ وذلك أنه كان في كل وثن شيطانا يتراءى أي للسدنة والكهنة ويكلمهم كما ذكرنا فيما سبق، وقيل : المراد به إبليس فإنه هو الذي أمرهم بعبادتها فعبادتها طاعته وعبادته ﴿ مريدا ﴾ المارد والمريد الذي لا يعلق بخير، وأصل التركيب للملاسة ومنه صرح بمرد وغلام أمرد والمراد هاهنا العاتي الخارج عن طاعة الله.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة (٢٩٦٩) وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء (١٤٧٨) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الدعاء، باب: فضل الدعاء (٣٨٢٨)..
٢ سورة يوسف، الآية: ٤٠..
٣ سورة الزخرف، الآية: ١٩..
﴿ لعنه الله ﴾ صفة ثانية للشيطان ﴿ وقال ﴾ عطف على لعن أي الشيطان مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الدال على فرط عداوته للناس، والتوصيف بهذا القول يدل على أن المراد بالشيطان إبليس فإنه إذا أبى عن سجود آدم ولعنه الله قال وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم كذا في الصحيح من الحديث وهو المعنى من قوله تعالى :﴿ لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ﴾ أي مقدرا قدر لي، قال الحسن : من كل ألف تسعمائة تسعا وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة، قلت : كذا ورد في حديث بعث النار، أو المعنى نصيبا مقطوعا عمن عداه يعني جماعة أشقاء ممتازة من السعداء.
﴿ ولأضلّنهم ﴾ عن الحق بإلقاء الوسوسة في قلوبهم وتزيين الشهوات عندهم فنسبه الإضلال إليه إنما هو بالمجاز، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته " ١ متفق عليه ﴿ ولأمنينّهم ﴾ الأماني الباطلة أن لا بعث ولا عذاب وطول الحياة وإدراك الآخرة مع ارتكاب المعاصي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم " ٢ متفق عليه، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن للشيطان لمّة، بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان ﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾٣ رواه الترمذي وقال : حديث غريب ﴿ ولأمرنّهم فليبتّكن ﴾ البتك القطع والشق والتبتيك للتكثير والتكرير أي ليقطعن ويشققن ﴿ آذان الأنعام ﴾ وهي عبارة عما كانت تفعل بالبحائر، قال قتادة والسدي : كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم، قال في القاموس البحر الشق وشق الأذن ومنه البحيرة كانوا إذا أنتجت الناقة عشرة أبطن بحروها أي شقوا أذنها وتركوها ترعى وحرموا لحمها إذا ماتت على نسائهم وأكلها الرجال، وفيه إشارة إلى تحريم كلما أحل الله وتنقيص كل ما خلق كاملا بالفعل أو بالقوة ﴿ ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ﴾ عن وجهه صورة أو صفة ويندرج فيه فقؤعين الحامي وخصاء العبيد والوشيم والوشير والمثلة واللواطة والسحاق وعبادة الشمس والقمر والحجارة لأنها ما وضعت لها واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول ﴿ فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ﴾٤ متفق عليه، يعني لا تبدلوا خلق الله، وجاز أن تكون هذه الجمل الخمس حكاية عما يأتيه الشيطان فعلا فحينئذ لا يختص هذا القول بإبليس، برهن الله سبحانه على أن الشرك ضلال غاية الضلال بأن ما تشركون به تعالى جمادات لا تضر ولا تنفع بل هي أسماء سميتموها بأسماء الإناث لا حقيقة لها، وبأن الإشراك طاعة للشيطان المريد المنهمك في الشر والضلال لا يعلق بشيء من الخير والهدى وبأنه ملعون لضلالته فلا يستجلب مطاوعته إلا اللعن والضلال، وبأنه غاية العداوة للإنسان والسعي في إهلاكهم فموالاة من هذا شأنه بعيد عن العقل ضلال غايته فضلا عن عبادته ثم حكم بما هو كالنتيجة لما سبق من البرهان فقال :﴿ ومن يتخذ الشيطان وليا ﴾ ربا يطيعه ﴿ من دون الله ﴾ بإيثاره ما يدعوه إليه على ما أمر الله تعالى فيه إشارة إلى أن عبادة الله بالإشراك غير مقبول عند الله تعالى بل هو عبادة لغير الله فقط ولا يجتمع عبادة الله مع عبادة غيره، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معني غيره تركته وشركه " وفي رواية " فأنا منه بريء وهو للذي عمله " ٥ رواه مسلم ﴿ فقد خسر خسرانا مبينا ﴾ حيث ضيع رأس ماله واشترى النار بالجنة.
١ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده (٣٢٧٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها (١٣٤)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده (٣٢٨١) وأخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة وكانت زوجية أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به (٢١٧٤)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة (٢٩٨٨)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله (٢٩٨٥)..
٥ سورة الأنفال، الآية: ٤٨..
﴿ يعدهم ﴾ بالخواطر الفاسدة أو بلسان أولياءه ما لا ينجزه ويحتمل أن يتصور بصورة إنسان ويعدهم كما فعل يوم بدر ﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ﴾١ الآية ﴿ ويمنّيهم ﴾ الأماني الباطلة التي لا ينالونها من طول العمر ونيل الدنيا ونحو ذلك ﴿ وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ﴾ باطلا وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر وإظهار الضرر فيما فيه النفع قال الله تعالى :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ﴾٢ يعني بالإنفاق في سبيل الله وصلة الرحم ﴿ ويأمركم بالفحشاء ﴾.
١ سورة البقرة، الآية: ٢٦٨..
٢ سورة البقرة، الآية: ٢٦٨..
﴿ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ١٢١ ﴾ أي هربا أو مهربا في القاموس حاص عنه يحيص حيصا وحيصة ومحيصا عدل وحاد، وكلمة عنها حال منه وليس صلة لأنه اسم مكان أو مصدر فلا يعمل فيما قبله.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها } أي تحت قصورها وغرفها ﴿ الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ﴾ أي وعد الله وعدا وحق ذلك حقا فالمصدر الأول مؤكد لنفسه لأن مضمون الجملة الإسمية وعد التي قبلها، والثاني مؤكد لغيره ويجوز نصب الموصول بفعل يفسره ما بعده ووعد الله بقوله سندخلهم لأنه بمعنى نعدهم إدخالهم الجنة وعدا حقا على أنه حال من المصدر ﴿ ومن أصدق من الله قيلا ﴾ أي لا أحد، جملة مؤكدة بليغة في التأكيد والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه وجاز أن يكون جملة معترضة بالواو، وفائدتها التأكيد أو معطوفة على محذوف أي صدق الله ومن أصدق من الله، وجاز أن يكون عطفا على خالدين بتقدير القول أي وقائلين من أصدق والله أعلم.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قالت اليهود والنصارى لا يدخل الجنة غيرنا وقالت قريش إنا لا نبعث فأنزل الله تعالى ﴿ ليس ﴾ الأمر منوطا ﴿ بأمانيكم ﴾ يا أهل مكة حيث تقولون لا بعث ولا نشور وتقولون هؤلاء الأصناف ﴿ شفعاؤنا عند الله ﴾١ وتقولون إن كان الأمر كما يزعم أصحاب محمد لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا ويدل على كون الخطاب لأهل مكة سياق الآية وبه قال مجاهد ﴿ ولا ﴾ الأمر منوطا ﴿ أماني أهل الكتاب ﴾ اليهود والنصارى حيث يقولون ﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾٢ ويقولون ﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾٣ ﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾٤ بل أمر النجاة والثواب وضدها منوط بالإيمان والأعمال الصالحة وضدها ثم فصل الجملة فقال :﴿ من يعمل سوءا ﴾ من الكفر والمعاصي ﴿ يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ﴾ يوصل إليه خيرا ﴿ ولا نصيرا ﴾ يدفع عنه شرا، كلمة من عامة شاملة للمؤمن والكافر وإن كان سبب النزول خاصا أعني أماني الكفار من أهل مكة وأهل الكتاب فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، كذا ذكر البغوي قول ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهم أن الآية عامة في حق كل عامل، وقوله تعالى يجز به مقيد بعدم المغفرة كغيره من آيات الوعيد والجزاء يعم ما يصيبه في الدنيا وما يصيبه في الآخرة إن لم يغفر الله تعالى عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه :" بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب على ذلك في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك " ٥ متفق عليه، وقوله تعالى :﴿ ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ﴾ لا يدل على أن هذا الحكم خاص بالكفار ولا يضر ذلك بالمؤمنين فإن مولاهم الله تعالى كفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا فيغفر لهم الله تعالى إن شاء ويشفع لهم الملائكة والأنبياء والصالحون بإذن الله تعالى ولا يطلبون من دون الله وليا ولا نصيرا، وأما الكفار فيطلبون الولاية والنصرة مما عبدوها دون الله تعالى فلا يجدونها لهم أولياء ولا أنصارا ويدل على عموم هذه الآية المؤمنين والكفار حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال :" كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت هذه الآية ﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي ؟ قال : قلت بلى، قال : فأقرأنيها قال ولا أعلم أني وجدت انفصاما في ظهر حتى تمطيت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك مالك يا أبا بكر ؟ فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أينا لم يعمل سوءا وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أما أنت وأصحابك المؤمنون فيجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليست لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة " ٦ رواه البغوي بسنده والترمذي وعبد ابن حميد وابن المنذر، وأخرجه أحمد وابن حبان والحاكم بلفظ قال أبو بكر :" فمن ينجو مع هذا ؟ فقال : عليه السلام : إما تحزن وإما تمرض إما يصيبك البلاء، قال : بلى يا رسول الله، قال : هو ذلك " وروى أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والبيهقي نحوه عن عائشة، وقال البغوي : قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا غيرك فكيف الجزاء ؟ قال : منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره، وأما ما كان جزاء في الآخرة فيقابل من حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة فيؤتي كل ذي فضل فضله والله أعلم. قلت : ما ذكرنا تخريج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في سبب نزوله تعالى ﴿ ليس بأمانيكم ﴾ هو الظاهر من حيث الرواية والدراية، ولكن روي له سبب آخر أيضا أخرج ابن جرير عن مسروق مرسلا ونحوه عن قتادة والضحاك والسدي وعن ابن عباس من طريق العوفي أن قوله تعالى :﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ﴾ نزلت في تفاخر النصارى وأهل الإسلام، وفي لفظ تفاخر أهل الأديان جلس ناس من اليهود وناس من النصارى وناس من المسلمين فقال هؤلاء نحن أفضل وقال هؤلاء نحن أفضل، قال البغوي : قال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى وعلى هذا الخطاب في ليس بأمانيكم مع المؤمنين ولا خفاء حينئذ في عموم قوله تعالى :﴿ من يعمل سوءا ﴾.
وأخرج ابن جرير أيضا عن مسروق وكذا ذكر البغوي عن الأعمش عن ابن الضحى عنه أنه قال لما نزلت ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ﴾ قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية ﴿ ومن يعمل من الصالحات ﴾ يعني بعضها وشيئا منها بدليل قوله تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ٧ ﴾٧ ﴿ من ذكر أو أنثى ﴾ في موضع الحال من المستكن في يعمل، ومن لتبيين الإبهام أو في موضع الحال من الصالحات أي كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء وأو على التأويلين فيه تأكيد بشمول الحكم في من يعمل، قال بعض الأفاضل : في تبيين العامل بالذكر والأنثى توبيخ للمشركين في إهلاكهم إناثهم ﴿ وهو مؤمن ﴾ حال من المستكن في يعمل قيد جزاء الحسنات بشرط الإيمان ولم يقيد جزاء السيئات بشرط الكفر لأن كل سيئة صغيرة كانت كبيرة غير مرضية لله منهية فإتيانها يقتضي العقاب إن لم يتداركه المغفرة ولذلك عم الوعيد على السيئات للفريقين المؤمنين والكفار، وأما الحسنات فلا يعتد بشيء منها ما لم يقترن بالإيمان كان أعمال الكفار ليست خالصة لله تعالى وما ليس بخالص له تعالى فهو شرك ومعصية وليست بحسنة. فإن قيل : فعلى هذا لا حاجة إلى هذا القيد لأن عنوانها بالصالحات يغنى عنه فإن أعمال الكفار ليست من الصالحات في شيء ؟ قلنا : نعم لكن قيد بذلك للتصريح ودفع توهم الكفار إن من أعمالهم ما هو حسنة كالنفقات وصلة الأرحام ونحو ذلك ﴿ فأولئك يدخلون الجنة ﴾ وإن كانوا فساقا ماتوا بلا توبة إما بمغفرة ذنوبهم أو بعد جزاء سيئاتهم، قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأبو عمرو أبو بكة يدخلون بضم الياء وفتح الخاء على البناء للمفعول هاهنا وفي سورة مريم وحم المؤمن وزاد أبو عمرو يدخلونها في سورة فاطر والباقون على البناء للفاعل، ﴿ ولا يظلمون نقيرا ﴾ أي مقدار النقير وهو النقرة التي تكون في ظهر النواة، وهذه الآية بعبارته، تدل على عدم تنقيص ثواب المطيع وبالدلالة بالطريق الأولى على عدم الزيادة في عذاب العاصي لأن الأذى في زيادة العذاب أشد منه في تنقيص الثواب فإذا لم يرض أرحم الراحمين بهذا فكيف يرضى بأشد منه، وقال بعض الأفاضل : لترك هذا القيد في قوله تعالى :﴿ من يعمل سوءا ﴾ وجه آخر وهو أن مقام تهديد الكافر لتنفيره عن الشرك يقتضي تركه هناك ومقام ترغيب المؤمن بالعمل الصالح والمواظبة على الانقياد يقتضي ذكره هاهنا، قلت : وعندي أن معنى قوله تعالى :﴿ ولا يظلمون نقيرا ﴾ إنه لا ينقص أحد من ثواب طاعاته ولا يزداد أحد على عقاب سيئاته.
١ سورة يونس، الآية: ١٨..
٢ سورة المائدة، الآية: ١٨..
٣ سورة البقرة، الآية: ١١١..
٤ سورة آل عمران، الآية: ٢٤..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار (١٨) وأخرجه مسلم في كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها (١٧٠٩)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة النساء (٣٠٣٩) قال: غريب وفي إسناده مقال..
٧ سورة الزلزلة، الآية: ٧..
ولما كان قوله تعالى :﴿ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ﴾ شاملا لجميع المؤمنين الصلحاء والفساد لأن الفاسق أيضا لا يخلو عن إتيان عمل صالح أدناه شهادة أن لا إله إلا الله وهو أعلى شعاب الإيمان، ففي هذه الآية بشارة للفريقين من المؤمنين المطيعين والعصاة بالأمرين جميعا عدم تنقيص الثواب وعدم زيادة العذاب وأما قوله تعالى :﴿ من يعمل سوءا ﴾ وإن كان شاملا للفريقين المؤمنين والكفار وكان الفساق من المؤمنين داخلين في كلا الآيتين لكن لما كان جزاء سيئات الكفار غير متناه لعدم تناهي قبح الكفر بالله فكان زيادة العذاب على سيئات الكفار غير متصور لاستحالة الزيادة على ما لا تناهي له، أو يقال يجوز الزيادة في عذاب الكفار على سيئاتهم قال الله تعالى :﴿ زدناهم عذابا فوق العذاب ﴾١ فلذلك لم يذكر هذه الجملة هناك كيلا يكون بشارة للكفار. فإن قيل : الظلم قبيح وإن كان في حق الكفار والله سبحانه منزه عن القبائح فكيف يجوز الزيادة على عذاب الكافر ؟ قلنا : الظلم عبارة عن التصرف في غير ملكه والله سبحانه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء فلو عذب العالمين بغير جرم لا يكون منه تعالى ظلما وقوله تعالى :﴿ ولا يظلمون نقيرا ﴾ ﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾٢ مبني على التجوز معناه أن الله سبحانه لا يفعل بالمؤمنين ما لو فعله بهم غيره تعالى يعد ظلما والله أعلم.
ذكر البغوي عن مسروق أنه قال : لما نزلت ﴿ ليس بأمانيكم ﴾ الآية قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت ﴿ ومن يعمل من الصالحات ﴾ كما ذكر سابقا ونزلت أيضا ﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ﴾.
١ سورة النحل، الآية: ٨٨..
٢ سورة آل عمران، الآية: ١٨٢..
﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ﴾ يعني أخلص نفسه لله بحيث لا يكون لقلبه تعلقا عليما ولا حبيا بغيره تعالى ويكون نفسه وقلبه وقالبه منقادا لأوامره تعالى منتهيا عن مناهيه لا يثبت لنفسه ولا لغيره في دائرة الإمكان لشيء من الأشياء وجودا متأصلا فضلا عن اتخاذه معبودا أو محبوبا أو موجودا بوجود مستقل بنفسه، وفي هذا الاستفهام إشارة إلى أن ذلك غاية مبلغ الكمال ﴿ وهو محسن ﴾ آت بالحسنات تارك للسيئات متصف بدوام الحضور والإخلاص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال :" جبرائيل ما الإحسان ؟ أن تعبد ربك كأنك تراه فإن لن تكن تراه فإنه يراك " ١ متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه ﴿ واتبع ملة إبراهيم ﴾ خص إبراهيم عليه السلام بالذكر، مع أن دين الأنبياء كلهم واحد وهو صرف نفسه وأعضائه وقواه ظاهرا أو باطنا في مرضاة الله تعالى مشتغلا به تعالى معرضا عن غيره تعالى لاتفاق جميع الأمم على كونه نبيا حقا حميدا في كل دين، ولكون دين الإسلام موافقا لشريعة إبراهيم عليه السلام في كثير من فروع الأعمال كالصلاة إلى الكعبة والطواف بها ومناسك الحج والختان وحسن الضيافة وغير ذلك من كلمات ابتلاه الله تعالى بها فأتمهن ﴿ حنيفا ﴾ حال من إبراهيم أو من الملة أو من المستكن في واتبع يعني مستقيما على الطريق الحق مائلا عن الطرق الباطلة، وصف إبراهيم به لأنه استقام على الإسلام واعتزل عن عبادة الأصنام مع ما كان أبوه وقومه عاكفين على عبادتهن ﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾ صديقا صافي المحبة والخلة مشتق من الخلال فإنه ود يخلل النفس ويخالطها، وقيل من الخلل فإن كل واحد من الخليلين يسد خلل الآخر، وقال الزجاج الخليل الذي ليس في محبته خلل أو من الخل وهو الطريق في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريق أو من الخلة بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال، وقيل : هو من الخلة بمعنى الحاجة فإن كل واحد من الخليلين يحتاج إليه صاحبه، قيل : سمي إبراهيم خليلا أي فقيرا إلى الله لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إلى الله تعالى. روي عنه عليه السلام أنه لما ألقي إلى النار جاءه جبرائيل فقال : هل لك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا، فقال : سل ربك، قال حسبي عن سوالي عمله بحالي. فإن قيل : لا يستقيم هذا المعنى فإنه قوله تعالى ﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾ يقتضي الخلة من الجانبين ولا يتصور الحاجة من الجانبين ؟ قلنا : قد عرفت في هذا الكتاب أن أسماء الله تعالى وصفاته يؤخذ باعتبار الغايات دون المبادئ فإنه تعالى رحمان رحيم وهما مشتقان من الرحمة بمعنى رقة القلب المقتضي للتفضل والإحسان، فإطلاقهما عليه سبحانه باعتبار التفضل والإحسان لا باعتبار رقة القلب إذ هو منزه عن القلب ورقته فكذا إطلاق الخلة عليه سبحانه باعتبار صفاء المحبة المبني على الحاجة في غيره تعالى لا باعتبار الحاجة تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقوله تعالى :﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾ جملة معترضة لا محل لها من الإعراب وفائدتها التأكد في وجوب اتباع ملته لأن من بلغ من الله منزلة اتخذ الله خليلا كان جديرا بالاتباع، قال المجدد رضي الله عنه : الخليل هو النديم الذي يعرض المرء عليه أسرار محبه ومجوبه.
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفاسيرهم عن زيد بن أسلم قال : إن أول جبار كان في الأرض نمرود وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام فخرج إبراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال : من ربكم، قالوا أنت، حتى مر إبراهيم فقال : من ربك ؟ قال :﴿ ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ﴾٢ فرده بغير طعام فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب من رمل أعفر فقال : ألا آخذ من هذا فآتى به أهلي تطيب نفوسهم حين أدخل عليهم، فأخذ منه فأتى أهله فوضع أشياءه ثم نام فقامت امرأته ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه أحد، فصنعت له منه فقربته إليه وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به، فعرف أن الله رزقه فحمد الله. وأخرج ابن شيبة في المصنف عن أبي صالح قال : انطلق إبراهيم عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام فمر بسهلة حمراء وأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا : ما هذا ؟ قال : حنطة حمراء ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها شيء خرج سنبلة من أصلها إلى فرعها متراكما، وذكر البغوي أنه قال الكلبي عن صالح عن ابن عباس كان إبراهيم عليه السلام أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس سنة، فحشروا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعام وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر فقال خليله لغلمانه لو كان إبراهيم إنما يريده لنفسه لاحتملنا ذلك له فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رسل إبراهيم عليه السلام فمروا ببطحاء فقالوا : لو أنا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فإنا نستحيي أن نمر بهم وإبلنا فارغة، فملؤا تلك الغرائر سهلة ثم أتوا إبراهيم فأعلموه وسارة نائمة، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت : سبحانه الله ما جاء الغلمان، قالوا بلى، قالت : فما جاءوا بشيء قالوا : بلى فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود تكون فأمرت الخابزين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم عليه السلام فوجد ريح الطعام، فقال : يا سارة من أين هذا ؟ قالت : من عند خليلك المصري، فقال : هذا من عند خليلي الله، قال : فيومئذ اتخذ الله إبراهيم.
فائدة : ولما كان نبينا سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم أرفع درجة من مقام الخلة حيث كان مستقرا في مقام المحبوبية الصرفة وكان مروره صلى الله عليه وسلم على مقام الخلة كعابر سبيل سمى نفسه لذلك العبور والمرور خليلا حيث قال :" لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكته أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا " ٣ رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وقال :" لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا " ٤ متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، قال :" ألا وصاحبكم خليل الله " ٥ رواه الترمذي عن أبي هريرة، وأخرج الحاكم وصححه عن جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى :" إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا " وأخرجه الطبراني عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم خليل الله وإن محمدا سيد بني آدم يوم القيامة ثم قرأ ﴿ عسى أن يبعك ربك مقاما محمودا ﴾ " لكن لأجل عدم استقراره في هذا المقام لعلو شأنه وعدم اقتضاء المحبوبية بعدما ارتفع عن هذا المقام غير أنه كان طالبا لحصول ذلك المقام بالتفصيل لبعض أتباعه حتى يكون ذلك التفصيل معدودا في كما له بناء على أن كمالات الاتباع نبد من كمال المتبوع، قال العلماء من أهل السنة بالإجماع في كتب أصول الدين كرامات الأولياء معجزات لنبيه، وقال عليه السلام :" من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء " ٦ وقال عليه الصلاة والسلام :" الدال على الخير كفاعله " ٧ ويرشدك ما روينا أن أعمال الأمة وكما لا تهم داخله في أعمال النبي صلى الله عليه وسلم وكما له ولطلب ذلك التفصيل له ولأتباعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة المأثورة :" اللهم صلي على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم " ٨ فاستجاب الله تعالى هذا الدعاء وأعطى بعد ألف سنة ذلك للمجدد رضي الله عنه فاستقر في مقام الخلة واتصف بتفصيله ولم يتيسر ذلك قبله رضي الله عنه، لأحد إما لرفعة شأن بعض الساّبقين من أكابر الصحابة وأئمة أهل البيت الذين رسخوا في مقام المحبوبية الصرفة بتبعية النبي صلى الله عليه وسلم وإما لعدم وصولهم إلى تلك المقام ﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ٤ ﴾٩ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره كحديقة أطعم فوجا منها عاما وفوجا منها عاما لعل آخرها فوجا هي أعرضها عرضا وأعمقها عمقا وأحسنها حسنا " ١٠ رواه رزين من حديث جعفر بن محمد، وهذا أمر ثبت بالكشف الصحيح ولا علينا لو أنكره أحد وإنما كلامنا مع من :﴿ يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ﴾١١ وإنما ذكرت هذا الكلام لأن بعض قاصري الإفهام كانوا يعترضون على كلام المجدد رضي الله عنه في هذا المقال ويزعمه مستحيلا وكفرا والإنسان عدو لما جهل، وبما ذكرنا لك اتضح أن هذا القول دعوى أمر ممكن يقتضي الحسن الظن بالأكابر قبوله أو السكوت عنه، وكان من الناس من يقول :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾١٢ فقال الله تعالى :﴿ أهم يقسمون رحمت ربك ﴾١٣ وكان من الناس من يقول ﴿ أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك ﴾١٤ قال الله تعالى :﴿ سيعلمون غدا من الكذاب الأشر ٢٦ ﴾١٥ ولا يلزم من رسوخ بعض أكابر الصحابة وأئمة أهل البيت في مقام المحبوبية الصرفة فضلهم على إبراهيم عليه السلام لأن وصول الصحابة والأئمة إلى مقام المحبوبية كان بالتبعية والوراثة وما كان لإبراهيم عليه السلام كان بالأصالة وشتان لما بينهما، وما ذكرنا من استقرار المجدد رضي الله عنه في مقام الخلة لا ينافي ترقياته من ذلك المقام وسيره وعبوره بالتبعية والوراثة إلى مقام المحبوبية الصرفة فإن السير والعبور غير الاستقرار والمقام والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: سؤال جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (٥٠) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان (٩) و (١٠)..
٢ سورة البقرة، الآية: ٢٥٨..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٢٣٨٣)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" (٣٦٥٦) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٢٣٨٣)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب (٣٦٦٨)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء الدال على الخير كفاعله (٢٦٧٠)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعالى: ﴿بزفون﴾ (٣٣٦٩) وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (٤٠٦)..
٨ سورة الحديد، الآية: ٢١..
٩ ورد عند الترمذي "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره" في كتاب الأمثال (٢٨٦٩)..
١٠ سورة الزمر، الآية: ١٨..
١١ سورة الزخرف، الآية: ٣١..
١٢ سورة الزخرف، الآية: ٣٢..
١٣ سورة القمر، الآية: ٢٥..
١٤ سورة القمر، الآية: ٢٦..
١٥ ؟؟؟؟؟.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ خلقا وملكا تقديم الظرف لقصد الحصر يعني ليس لأحد غيره تعالى دخل في خلق شيء من الممكنات وملكه، وإنما خص ذكر ما في السماوات وما في الأرض لظهورهما وهذه الجملة متصلة بقوله تعالى :﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ﴾ تعليل له يعني إذا كان جميع الأشياء خالصا لله تعالى فالواجب على كل أحد تخليص وجهه لله تعالى أو هي متصلة بقوله تعالى :﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾ يعني أنه له تعالى ما في السماوات وما في الأرض يختار منها ما يشاء، ومن يشاء، أو هي متصلة بذكر الأعمال مقرر بوجوب طاعته على أهل السماوات والأرض وكمال قدرته على مجازاتهم على الأعمال ﴿ وكان الله بكل شيء محيطا ﴾ إحاطة لا كيف لها يعني ليس شيء من الأشياء مستقلا بنفسه بل كل شيء موجود بوجود محتاج إليه في ذاته وصفاته وأفعاله مشمول بعواطفه وأفضاله فلا يجوز لأحد إلا أن يسلم وجهه خالصا له، وقيل : محيط إحاطة علم وقدرة فيجازيهم على حسب أعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر والله أعلم.
أخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال. كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ولا يورثون المرأة، فلما كان الإسلام قال الله تعالى ﴿ و يستفتونك ﴾ أي يستخبرونك، في الصحاح الفتوى : الجواب عما يشكل من الأحكام ﴿ في النساء ﴾ أخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : كان الرجل الذي قد بلغ لا يورث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا : يرث الصغير والمرأة كما يرث الرجل فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكذا أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد، وقال البغوي : قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في بنات أم كحة وميراثهن عن أبيهن وقد مضت القصة في أول السورة، وروى البخاري عن عائشة في هذه الآية قال : هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في ماله فيعضلها، قال البغوي : فيرغب عنها أن يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوج غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها فنهاهم الله عن ذلك، وفي رواية عنها قالت : اليتيمة في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنة صداقها وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال تركها ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ الله يفتيكم ﴾ يبين لكم حكمه ﴿ فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ﴾ الموصول معطوف على اسم الله أو ضميره المستكن في يفتيكم وجاز للفصل يعني يفتيكم الله فيهم ويفتيكم فيهن كتابه يعني آية الميراث أو قوله تعالى ﴿ وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة ﴾ ونحو ذلك، وجاز أن يكون الجملة معترضة لتعظيم المتلو عليهم، على أن الموصول مبتدأ في الكتاب خبره، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ، ويجوز أن ينصب الموصول بفعل محذوف على معنى ويبين لكم ما يتلى عليكم أو يخفض على القسم كأنه قيل وأقسم بما يتلى عليكم ﴿ في يتامى النساء ﴾ متعلق بيتلى إن عطف الموصول على ما قبله أو كان الموصول منصوبا أو مجرورا أي يتلى عليكم في شأنهن وإلا فبدل من فيهن أوصلة أخرى ليفتيكم على معنى يفتيكم فيهن بسبب يتامى النساء كما في قوله عليه السلام " دخلت امرأة النار في هرة " وبالإضافة بيانية لأن المضاف إليه جنس المضاف ﴿ التي لا تؤتونهن ما كتب لهن ﴾ أي ما فرض من الميراث والصداق وغير ذلك من الحقوق ﴿ وترغبون أن تنكحوهن ﴾ أي يعني في أن تنكحوهن إذا كن جميلات أو عن أن تنكحوهن إذا كن دميمات، روى ابن المنذر عن الحسن وابن سيرين في هذه الآية قال أحدهما أن ترغبوا فيهن وقال الآخر أن ترغبوا عنهن، وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن : أن ترغبوا عنهن، والواو إما للعطف أو للحال ﴿ والمستضعفين من الولدان ﴾ عطف على يتامى النساء فإنهم كانوا لا يورثونهم كما ذكرنا ويأكلون أموالهم أي ما يتلى عليهم في اليتامى وذلك قوله تعالى ﴿ واءتوا اليتامى أموالهم ﴾ ﴿ وأن تقوموا لليتامى بالقسط ﴾ بالعدل في ميراثهم وأموالهم أيضا عطف على يتامى النساء، يعني يتلى عليكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط هذا إذا جعل في يتامى النساء متعلقا بيتلى وإن جعلته بدلا فالوجه نصبها عطفا على موضع فيهن، ويجوز نصب أن تقوموا بإضمار فعل أي ويأمركم أيها الأئمة أو أيها الأولياء أن تقوموا الليتامى بالعدل والإنصاف﴿ وما تفعلوا من خير ﴾ في حق النساء واليتامى وغير ذلك [ فإن الله كان به عليما } فيثيبكم عليه.
روى البخاري وأبو داود والحاكم عن عائشة والترمذي مثله عن ابن عباس أنه توقعت سودة أن يفارقها النبي صلى الله عليه وسلم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسنت فقالت : يومي لعائشة فأنزل الله تعالى ﴿ و إن امرأة ﴾ مرفوع بفعل مضمر يفسر ما بعده أي ﴿ خافت ﴾ وجاز أن يكون خافت صفة، والمقدر كانت تقديره وإن كانت امرأة خافت يعني توقعت ﴿ من بعلها ﴾ مكروها يعني ﴿ نشوزا ﴾ أي ترفعا عن صحبتها كراهة لها، يعني خافت أن يطلقها لما ظهر لها ذلك بالإمارات ﴿ أو إعراضا ﴾ بوجهه عنها بأن يقل مجالستها ومحادثتها ويمنعها عن حقوقها وهي تريد أن لا يطلقها ﴿ فلا جناح عليهما أن يصلحا ﴾ أصله أن يتصالحا أبدلت التاء صادا أو أدغمت كذا قرأ أكثرهم، وقرأ الكوفيون يصلحا بضم الياء وسكون الصاد من أصلح ﴿ بينهما ﴾ بأن تحط المرأة بعض المهر أو كله أو النفقة أو نصيبها من القسم أو تهب له شيئا تستميله به إليها، قال البغوي : يقول الزوج إنك قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسم ليلا ونهارا فإن رضيت بهذا فأقيمي وإن كرهت خليت سبيلك فإن رضيت كانت هي المحسنة ولا تجبر على ذلك وإن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان فإن أمسكها ووفاها حقها مع كراهة فهو المحسن، وقال مقاتل بن حبان : هو أن الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة فيقول للكبيرة أعطيتك من مالي نصيبا على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك فترضى بما اصطلحا عليه فإن أبت أن ترضى فعليه إن أقسم أن يعدل بينهما في القسم، وعن علي رضي الله عنه في هذه الآية قال تكون المرأة عند الرجل فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر فتكره المرأة فرقته فإن أعطته من مالها فهو له حل وإن أعطته من أيامها فهو حل له، وفي كلمة بينهما إشارة إلى أن الأحب أن يتصالحا من غير مدخلية ثالث لئلا يطلع غيرهما على ما بينهما مما يعاب ﴿ صلحا ﴾ منصوب على المصدرية والمفعول به بينهما أو هو محذوف، قيل : إنما يتم نصبه على المصدرية لو جاء الصلح بمعنى الإصلاح والتصالح، قلنا : كون الصلح فردا للإصلاح يكفي في جعله مصدرا على أنه جاز أن يكون المصدر من غير بابه كما قوله تعالى : أنبته الله نباتا وعلى القراءة الثانية جاز أن ينتصب صلحا على المفعول به على إرادة أن يوقعا بينهما صلحا خاليا عن الفساد، ويستفاد من هذه الآية بالدلالة أنه لو خاف الرجل نشوز المرأة لا جناح عليها في الإصلاح أيضا ويحتمل أن يجعل هذا الحكم تحت قوله تعالى ﴿ و الصلح خير ﴾ من الفرقة أو من الخصومة أو من سوء المعاشرة، أو المعنى الصلح خير من الخيرات يعني من جملتها كما أن الخصومة شر من جملة الشرور، وهذه الجملة معترضة لدفع توهم الكراهة التي تستفاد من قوله لا جناح فإنه لنفي الإثم ولأن إعطاء المرأة شيئا من حقها تشابه الرشوة، وهذه الآية وإن كانت واردة في المصالحة بين الزوجين لدفع الخصومة الواقعة لحقوق النكاح لكن اللفظ علم يشتمل كل صلح واقع بعد دعوى صحيح وذلك ثلاثة أضرب : صلح مع إقرار وصلح مع سكوت وصلح مع إنكار وكل ذلك جائز عند الأئمة الثلاثة للإطلاق هذه الآية، وقال الشافعي : لا يجوز الصلح مع إنكار وسكوت لقوله صلى الله عليه وسلم :" كل صلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حرام أو حرم حلالا والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا " رواه الحاكم عن كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده، وجه الاستدلال أن البدل كان حلالا على الدافع حراما على الأخذ فينقلب الأمر ولأن المدعى عليه يدفع المال لقطع الخصومة وهذا رشوة، قال الأئمة الثلاثة : هذا الحديث حجة لنا لا علينا لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم " كل صلح جائز " ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " إلا صلحا أحل حراما " بعينه كالخمر أو حرم حلالا بعينه كما أن يصالح امرأته على أن لا يطأ ضرتها ألا ترى أن الرجل إذا أراد أن يطلقا ا وامرأة والمرأة صالحته على أن لا يطلقها وتترك قسمها لضرتها جاز إجماعا حيث أسقطت حقها مع أن ترجيح بعض النساء في القسم كان حراما ثم صار حلالا بعد رضائها، والصلح بعد السكوت أو الإنكار صلح بعد دعوى صحيح فيقتضي بجوازه لأن المدعي يأخذ عوضا عن حقه في زعمه وهذا مشروع والمدعى عليه يدفع لدفع الخصومة عن نفسه وهذا مشروع أيضا إذ المال وقاية للأنفس ودفع الرشوة لدفع الظلم أمر جائز، غير أن من علم أن عليه حقا للمدعي عليه ولم يقر له فعجز المدعي عن إثبات حقه فصالح على بعض حقه لا يحل للمدعى عليه ذلك عند الله تعالى إجماعا لأنه هضم الحق، وأما إذا لم يعلم ذلك وادعى عليه فالصلح جائز عند الثلاثة، ومنعه الشافعي.
مسألة : فإن وقع الصلح عن إقرار اعتبر فيه ما يعتبر في البياعات إن وقع عن مال بمال فيجري فيه الشفعة ويرد بالعيب ويثبت فيه خيار الرؤية والشرط ويفسده جهالة البدل لا جهالة المصالح عنه لأنه يسقط فلا يفضي إلى المنازعة، ويشترط القدر على تسليم البدل وإن وقع عن مال بمنافع يعتبر بالأجارة فيشترط التوقيت فيها ويبطل الصلح بموت أحدهما في المدة. مسألة : والصلح عن السكوت والإنكار في حق المدعى عليه لافتداء اليمين وفي حق المدعي بمعنى المعاوضة، فإن صالح على دار لا يجب فيه الشفعة بخلاف ما إذا صالح على دار. مسألة : ولو دعى دارا فصالح على قطعة منها لم يصح الصلح لأن ما قبضه من عين حقه وهو على دعواه في الباقي إلا أن يزيد درهما في بدل الصلح أو يلحق به ذكر البراءة عن دعوى الباقي. مسألة : ويصلح الصلح عن جناية العمد والخطأ لأنه حق من الحقوق وقد قال الله تعالى :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ﴾ وعن دعوى النكاح من الرجل فكان دفع المال من جانبها بمنزلة الخلع وعن دعوى الرق وكان بمنزلة الإعتاق على مال. مسألة : وإذا وقع الصلح عن دين يحل على أنه استوفى بعض حقه قدرا وأسقط باقيه، فمن صالح عن ألف جياد حال على خمسمائة زيوف مؤجل جاز لأنه أسقط بعض حقه قدرا ووصفا وأجل الباقي، وعن ألف زيوف على خمسمائة جياد لم يجز لأن الجياد غير مستحق له وهي زائد وصفا فصار معاوضة ألف بخمسمائة وزيادة وصف وهو ربا، ولو صالح عن الدراهم بالدنانير يشترط قبض الدنانير قبل الافتراق لأنه صرف والله أعلم.
وأخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب : أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني وأقسم لي ما بدا لك فأنزل الله تعالى ﴿ و إن امرأة خافت ﴾ الآية، وله شواهد موصول أخرجه الحاكم من طريق سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال البغوي : نزلت في غمرة، ويقال خويلة ابنة محمد بن مسلمة وفي زوجها أسعد بن الربيع، ويقال : رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلما علا الكبر تزوج عليها امرأة شابة وآثر عليها وجفا ابنة محمد بن مسلمة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزلت هذه الآية. وأخرج الحاكم عن عائشة قالت : نزلت هذه الآية والصلح خير في رجل كانت تحته امرأة قد ولدت أولادا فأراد أن يستبدلها فراضته على أن تقر عنده ولا يقسم لها، وقال البغوي : قال سعيد بن جبير : كان رجل له امرأة قد كبرت وله أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج غيرها فقالت : لا تطلقني ودعني على ولدي واقسم لي في كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي، فقال : إن كان تصلح على ذلك فهو أحب إلي فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله تعالى ﴿ وإن امرأة خافت ﴾ وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : جاءت المرأة حين أنزلت هذه الآية ﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ﴾ فقالت : إني أريد أن تقسم لي من نفقتك وقد كانت رضيت أن تدعها فلا يطلقها ولا يأتيها فأنزل الله تعالى [ وأحضرت الأنفس الشح ] أي جعل الشح حاضرا لها مطبوعة عليها لا يغيب عنها أبدا، والشح البخل مع الحرص كذا في الصحاح والقاموس، يعني الشح لا يذهب عن أحد غالبا فلا تكاد المرأة أن تسمح بالإعراض عنها والتقصير في حقها ولا الرجل يسمح بأن يمسكها ويقوم بحقها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحب غيرها، وهذه الجملة أيضا معترضة كانت الجملة الأولى للترغيب في المصالحة وهذه الجملة لتمهيد العذر في المماسكة ولكونهما معترضين اغتفر عدم مجانستها فإن الأولى اسمية والثانية فعلية ﴿ و إن تحسنوا ﴾ في المعاشرة أي يحسن الأزواج بأداء حقوق الزوجات والإقامة معهن بالعدل وإن مع الكراهة وتحسن الزوجات بأداء حقوق الأزواج ولو على خلاف ما تشتهي أنفسهن ﴿ وتتقوا ﴾ النشوز والإعراض وتنقيص الحق ﴿ فإن الله كان بما تعملون ﴾ من الإحسان والإضرار ﴿ خبيرا ﴾ فيجازيكم عليه، أقام كونه عالما بأعمالهم مقام إئابته إياهم عليها الذي هو جواب الشرط حقيقة إقامة السبب مقام المسبب.
﴿ ولن تستطيعوا ﴾ أيها الناس ﴿ أن تعدلوا بين النساء ﴾ يعني العدل بين النساء وعدم الميل إلى واحدة منهن بوجه من الوجوه مع كونها محبوبة إليه متعذر جدا، وتمام العدل أن يسوى بينهن في القسم والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة وغيرها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقسم بين نسائه فيعدل ويقول :" اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك يعني المحبة " أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة ورواه أصحاب السنن الأربعة والدرامي عن عائشة ﴿ ولو حرصتم ﴾ أي في تحري ذلك ﴿ فلا تميلوا كل الميل ﴾ يعني فلا تجرؤا على المرغوب عنها كل الجور في القسم والنفقة، أي لا تتبعوا أهوائكم أفعالكم ﴿ فتذروها ﴾ أي المرغوبة عنها ﴿ كالمعلقة ﴾ وهي التي ليست بمطلقة ولا ذات بعل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " رواه أصحاب السنن الأربعة والدرامي﴿ وإن تصلحوا ﴾ ما كنتم تفسدون من أمورهن ﴿ وتتقوا ﴾ فيما يستقبل ﴿ فإن الله كان غفورا رحيما ﴾ يغفر لكم ما مضى من ميلكم
﴿ وإن يتفرقا ﴾ أي الزوج والزوجة بالطلاق ﴿ يغن الله كلا ﴾ أي كل واحد منهما عن الآخر ﴿ من سعته ﴾ من غناه وقدرته المرأة بزواج آخر والزوج بامرأة أخرى ﴿ و كان الله واسعا ﴾ مقتدرا على كل شيء أو واسع الفضل والرحمة أو واسعا وسعة لا كيف لها كل خير ووجود ظل لوسعة خيراته ووجوده ﴿ حكيما ﴾ متقنا في أفعاله وأحكامه.
مسألة : بمقتضى هذه الآية والسنة يجب على الزوج التسوية بين نسائه في القسم، فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم عصى الله تعالى وعليه قضاؤه للمظلومة والتسوية شرط في البيتوتة دون الجماع، لأنه يدور على النشاط وليس ذلك في وسعه ولو كانت في نكاحه حرة وأمة فللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث بذلك ورد الأثر، قال ابن همام : قضى به أبو بكر وعلي رضي الله عنهما بالقضاء عن علي احتج أحمد وتضعيف ابن حزم إياه بالمنهال ابن عمر وبابن أبي ليلى ليس بشيء لأنهما ثقتان حافظان، إذا تزوج جديدة على قديمات فالقديمة والجديدة في القسم سواء عند أبي حنيفة رحمه الله لإطلاق الحديث المذكور، وعند الأئمة الثلاثة يبيت عند الجديدة سبع ليال على التوالي إن كانت بكرا وإن كانت ثيبا فثلاث ليال ثم يسوي بعد ذلك بين الكل، ولا يجب قضاء هذه الليالي للقديمات لحديث أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال " من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم، قال أبو قلابة : لو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه، وإذا أراد الرجل السفر فعند أبي حنيفة رحمه الله لا حق لهن في القسم حالة السفر يسافر بمن شاء منهن والأولى أن يقرع بينهن فيسافر بمن خرجت قرعتها، وعند الشافعي وأحمد : لا يجوز له الخروج بإحداهن إلا برضائهن أو بالقرعة وعن مالك روايتان كالمذهبين، فإن سافر من غير قرعة ولا تراض وجب عليه القضاء لهن عند الشافعي وأحمد وعند أبي حنيفة ومالك لا يجب احتج الشافعي وأحمد بحديث عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها " متفق عليه، قال أبو حنيفة : كان هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لتطيب قلوبهن فكان مستحبا ولم يكن واجبا لأنه لاحق للمرأة عند مسافرة الزوج ألا ترى أن له أن لا *** يستصحب واحدة منهن إجماعا فكذا له أن يسافر بواحدة منهن، ويرد عليه إن تركهن كلهن لا يستوجب الغيرة والإيذاء بخلاف إيثار إحداهن على سائرهن، وإن رضيت إحدى الزوجات بترك قسمها لصاحبتها جاز لحديث عائشة ' أن سودة لما كبرت قالت : يا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة " متفق عليه، ولها أن ترجع في ذلك لأنها أسقطت حقا لم يجب بعد فلا يسقط، قال البغوي : قال سليمان بن يسارعن ابن عباس في قوله تعالى ﴿ فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما ﴾ أنه قال : فإن صالحته عن بعض حقها من القسم أو النفقة فذلك جائز ما رضيت وإن أنكرت بعد الصلح فذلك لها ولها حقها.
مسألة : لا يجوز ترك القسم لأجل المرض إلا برضائهن لحديث عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسئل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غدا يريد يوم عائشة، فأذن لها أزواجه يكون حيث شاء فكان في بيت عائشة حتى مات عندها " رواه البخاري
﴿ ولله ما في السماوات والأرض ﴾ خلقا وملكا، تنبيه على كماله وسعته وقدرته ﴿ ولقد وصينا الذين أتوا الكتاب ﴾ اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم، والكتاب للجنس ﴿ من قبلكم ﴾ متعلق بوصينا أو بأوتوا ﴿ و إياكم ﴾ عطف على الذين ﴿ أن اتقوا الله ﴾ إن مفسره لوصينا فإنه بمعنى القول، وجاز أن يكون مصدرية بحذف حرف الجر والمراد بالتقوى التقوى عن الشرك بدليل قوله تعالى ﴿ وإن تكفروا ﴾ وجاز أن يكون التقوى عبارة عن ترك المعاصي بالكفر الكفران بترك طاعته وعدم امتثال أوامره، أو التقوى عبارة عن وقاية قلبه عن الاشتغال بغير الله والكفر الاشتغال بغيره، وقوله وإن تكفروا عطف على وصينا بتقدير القول يعني وقلنا لهم أن تكفروا ﴿ فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ فهو قادر على عقوبتكم بما يشاء لا منجي عن عقوبته لكم، أو يقال فإن لله ملائكة السماوات والأرض وهم أطوع له منكم، أو يقال معناه أنه غني عنكم لا ينتفع بعبادتكم ولا يتضرر بكفركم والنفع والضرر إنما يعود إليكم بما يأمركم وينهاكم تفضلا عليكم وعلى هذا فقوله تعالى ﴿ و كان الله غنيا ﴾ يعني عن الخلق وطاعتهم، كأنه بيان وتأكيد لما سبق ﴿ حميدا ﴾ في ذاته حمده الخلق أو لم يحمد
﴿ و لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ كرره ثالثا للدلالة على كونه مستأهلا لأن يتوكل عليه فهو تمهيد لقوله تعالى ﴿ و كفى بالله وكيلا ﴾ جاز أن يكون هذا راجعا إلى قوله ﴿ يغن الله كلا من سعته ﴾ فإن ذلك القول يدل على أنه تعالى توكل بكفايتهما وكفى به وكيلا.
﴿ إن يشأ ﴾ إذهابهم ﴿ يذهبكم ﴾ أي يفنيكم يا﴿ أيها الناس ﴾ فإن مجرد مشيئته تعالى كافية في إعدامكم ﴿ و يأت بئاخرين ﴾ أي يوجد قوما آخرين أطوع منكم مكانكم أو خلقا آخر مكان الإنس ﴿ و كان الله على ذلك ﴾ الإعدام والإيجار ﴿ قديرا ﴾ كامل القدرة لا يعجزه شيء، هذه الآية أيضا تقرير لغنائه وقدرته وتهديد لمن كفر به وخالف أمره، أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة انه لما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على ظهر سلمان وقال :" إنهم قوم هذا " فهذه الآية حينئذ بمعنى قوله تعالى ﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ﴾ ( ١ )١الآية، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فلما نزلت ﴿ وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم ﴾ قيل من هؤلاء يا رسول الله ؟ وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال :" لو كان الإيمان عند ثريا لناله رجال من هؤلاء " ( ٢ )٢ وعنه عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم تلا ﴿ و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ قالوا : من هؤلاء يا رسول الله ؟ فضرب على فخذ سلمان ثم قال " هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " وعنه عند الترمذي قال ذكرت الأعاجم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لأنا بهم أو ببعضهم أو ثق مني بكم أو ببعضكم " قلت : لعل في هذه الأحاديث إشارة إلى مشايخ ما وراء النهر بهاء الدين النقشبند وأمثاله فإن هؤلاء الكرام من الأعاجم توطنا وإن كان أكثرهم من آل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نسبا قد أحيوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أميتت وما رضوا بالبدعة وإن كانت حسنة ولنلم ما قال الجامي :
سكة كدور شرب وبطحازوند *** *** نوبت آخر بنجارازوند
١ سورة محمد الآية ٣٨.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: قوله ﴿و آخرين منهم لما يلحقوا بهم﴾ (٤٨٩٧).
وأيضا إلى علماء ما وراء النهر مثل أبي عبد الله البخاري وأمثاله من المحدثين والفقهاء والله أعلم ﴿ من كان يريد ثوابا الدنيا ﴾ كالمرائي بالأعمال والمجاهد لأجل الملك أو الغنيمة ﴿ فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ﴾ تقديره فقد خسر وأخطأ في الطلب إذ عند الله ثواب الدارين فليطلبهما وليقل ﴿ ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ﴾ ( ١ )١ وليطلب الأشرف منهما فإن من جاهد خالصا لله لم يخطئه الغنيمة وله في الآخرة ما هي في جنبه كالعدم ﴿ و كان الله سميعا بصيرا ﴾ عارفا بالأغراض فيجازي كلا على حسب نيته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " ( ٢ )٢ متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه والله أعلم
١ سورة البقرة الآية: ٢٠١.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الحيل، باب: ترك الحيل و أن لكل امرئ ما نوى في الإيمان وغيرها (٦٥٥٣) و أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه سلام "إنما الأعمال بالنيات" (٢٩٥٢).
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان غني وفقير فكان ضلعه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأنزل الله تعالى ﴿ يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط ﴾ بالغين في بذل الجهد في إقامة العدل مواظبين على القيام به فالواجب على القاضي التسوية بين الخصمين في الجلوس والإقبال، عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليساو بينهم في المجلس والإشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الأخر ) رواه إسحاق ابن راهويه في مسنده والدارقطني نحوه ﴿ شهداء ﴾ خبر بعد خبر أو حال ﴿ لله ﴾ تقيمون شهادتكم خالصا لوجه الله ﴿ ولو على أنفسكم ﴾ أي ولو كانت الشهادة على نفسه وهو الإقرار على نفسه ﴿ أو الوالداين والأقربين ﴾ يعني ولو كانت الشهادة على والديكم وأقربيكم فلا تكتموها وقولوا الحق ولا تحابوا غنيا لغناه ولا ترحموا فقيرا لفقره كذا أخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس ﴿ إن يكن غنيا أو فقيرا ﴾ فلا تمتنعوا عن الشهادة ولا تجوروا فيها ميلا أو ترحما ﴿ فالله أولى بهما ﴾ منكم فلو لم يكن الشهادة عليهما أو لهما صلاحا لما شرعت أقيمت علة الجواب مقامه وكان حقه أولى به لأن المذكور أحد الأمرين من الغني والفقير بكلمة أو لكن ثنى الضمير نظرا إلى أن المرجع ما دل عليه المذكور وهو جنس الغني والفقير، والوجه للعدول عن الظاهر تعميم الأولوية ودفع توهم الاختصاص بأحدهما كذا ذكر التفتازاني، ويرد عليه أن الواحد غير متعين فلا توهم، قال الرضي : الضمير الراجع إلى المذكور الذي عطف بعضه على بعض يجوز فيه أن يوحد الضمير وأن يطابق المتعدد وذلك يدور على القصد، قلت : جاز أن يكون مرجع الضمير المشهود له والمشهود عليه الذين دل عليهما الكلام يعني مشروعية الشهادة مصلحة لكليهما للمشهود له مصلحة عاجلة وللمشهود عليه مصلحة آجلة كي تفرغ ذمته عن حقوق الناس، وجاز أن يكون معنى الآية كونوا شهداء لله تشهدون بوحدانيته وصفات كماله وحقية كتبه ورسله وأحكامه، ولو كانت الشهادة مضرة على أنفسكم أو والديكم وأقاربكم بأن تقتلوا ويسلب أموالكم أن يسكن الشاهد غنيا ويضر تلك الشهادة غناه أو فقيرا يسد شهادته دفع حاجته ﴿ فالله أولى بهما ﴾ من أنفسهما فينبغي أن يرجحا الله على أنفسهما ﴿ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ﴾ أي لأن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا عن العدل أو المعنى لا تتبعوا الهوى لتكونوا عادلين ﴿ و إن تلوا ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة وإن تلوا بضم اللام وإسكان الواو، يعني تلوا القيام بأداء الشهادة من الولاية، وقيل : أصله تلووا كما قرأ الجمهور حذفت أحد الواوين تخفيفا وألقيت حركتها على اللام يعني أن تحرفوا الشهادة وتلووا ألسنتكم عن شهادة الحق، وقيل معناه تدافعوا في أداء الشهادة إلى غيركم، وقيل هذا خطاب مع الحكام من لهم الأشداق أي أن تميلوا إلى أحد الخصمين ﴿ أو تعرضوا ﴾ عن شهادة الحق وحكومة العدل ﴿ فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ فيجازيكم عليه
﴿ يأيها الذين أمنوا أمنوا بالله ورسوله ﴾ حقيقة الإيمان وكمال الإيمان أن يعرف ببصيرته أنه تعالى هو المتأصل في الوجود خالقا لكل شيء من الأعراض والجواهر نافعا ضارا، وليس شيء مما سواه موصوفا بحسن وكمال إلا مستعارا منه تعالى فلا يبقى لقلبه علاقة علمي ولا حبي إلا به تعالى ويكون نفسه بعلاقة الحب به تعالى مجبولا على إتيان ما أمره الله وانتهاء ما نهى عنه حتى يكره صدور المعصية منه أشد مما يكره أن يقع في النار قال البغوي قال أبو العالية وجماعة : هذا خطاب للمؤمنين فقال ﴿ يأيها الذين أمنوا أمنوا ﴾ أي أقيموا واثبتوا على الايمان ومرجع هذا التفسير إلى ما قلت إن شاء الله تعالى، وقال الضحاك : أراد بالخطاب اليهود والنصارى يقول : يأيها الذين أمنوا بموسى وعيسى أمنوا بمحمد والقرآن، وقال مجاهد : أراد به المنافقين يقول يأيها الذين أمنوا باللسان أمنوا بالقلب، وقيل : المراد به أهل الشرك يعني يأيها الذين أمنوا باللات والعزى أمنوا بالله ورسوله وهذه الأقوال واهية إذ الكفار اليهود والنصارى والمشركون لا يخاطبون بعنوان الذين أمنوا وكذا المنافقون فإن الإيمان ليس من صفات اللسان إلا مجازا والحمل على الحقيقة ما أمكن أولى، وقال البغوي : قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وكذا أخرج الثعلبي عنه أنه قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد بني كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة بن أخيه ويامين بن يامين، فهؤلاء مؤمنوا أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بمن سواه من الكتب والرسل فقال : الله تعالى أمنوا بالله ورسوله يعني محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ والكتاب الذي نزل على رسوله ﴾ يعني القرآن ﴿ و الكتاب الذي أنزل من قبل ﴾ أي قبل القرآن من التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب والصحف، قال ابن عباس : أمنوا بكلهم، قرأ الكوفيون ونافع الفعلين بفتح النون والهمزة والزاء على البناء للفاعل والباقون الفعلين بضم النون والهمزة وكسر الزاء على البناء للمفعول ﴿ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر ﴾ يعني بشيء من ذلك﴿ فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾ من المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقة الصواب، فإن الإيمان بكل واحد منها ملازم للآخرة فالكفر بواحد منها ملازم للآخرة فالكفر بواحد منها بعد من الله وضل عن سواء السبيل بالكفر بجميع ذلك بالطريق الأولى، قلت بل بالكفر بشيء من صفاته كما أن المعتزلة كفروا بكونه تعالى متكلما أو خالقا لأفعال العباد وبقولهم أنه تعالى يريد شيئا ولا يوجد ذلك الشيء يلزم عجزه تعالى عن إيتان مراده فيلزمهم الكفر بالله تعالى يريد بما هو عليه، قال بعض الأكابر : المعتزلة يقولون بأن العباد خالقون لأفعالهم والله تعالى خالق للعباد فينسبون خلق أفعال العباد إلى الله تعالى بالواسطة وأما العوام فهم أسوء حالا من المعتزلة لغفلتهم عن نسبة الأفعال إلى الله تعالى مطلقا لا يزعمون النفع والضرر إلا عن السلاطين أو اللصوص أو السموم أو الترياقات فلا بد لقطع مادة الغفلة من التشبث بأذيال الصوفية حتى يسقط عن البصائر كل ما عدا الله تعالى.
﴿ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم أمنوا ثم كفروا ثم ازدادو كفرا ﴾ قال قتادة : هم اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ثم آمنوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم عليه وعلى جميع الأنبياء، وقيل : هم جميع أهل الكتاب أمنوا بنبيهم ثم كفروا به وآمنوا بالكتاب الذي نزل عليه ثم كفروا به وكفرهم تركهم العمل عليه ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل : هذا في قوم مرتدين آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا، حكي عن علي رضي الله عنه أنه لا يقبل توبة مثل هذا لقوله تعالى ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾ لكن الإجماع انعقد على قبول توبته، قال مجاهد : معنى قوله تعالى ثم ازدادوا كفرا أي ماتوا عليه، وقيل معنى تعالى ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾ ﴿ و لا ليهديهم سبيلا ﴾ إنه يستعبد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الإيمان فإنه ران على قلوبهم بكفرهم وعميت أبصارهم عن الحق، واللازم في ليغفر لهم وليهديهم للجحود أي لتأكيد النفي، والفعل بتأويل المصدر بأن المصدرية المقدرة بمعنى الفاعل يعني لم يكن الله غافرا لهم ولا هاديهم سبيلا، وقيل : خبر كان محذوف تعلق به اللام يعني لم يكن الله مريدا ليغفر لهم والله أعلم،
ويؤيد قول من قال الآية السابقة في المرتدين تعقيب تلك الآية بقوله تعالى ﴿ بشر المنافقين ﴾ الذين يؤمنون في الظاهر كلما لقوك أو لقوا أحدا من المخلصين وكفروا في السر كلما خلوا إلى شياطينهم ثم ازدادوا كفرا بالإصرار على النفاق والعزم على الإفساد ووضع بشر مكان أنذر تهكما بهم كذا قال الزجاج، وقيل : البشارة كل خبر يتغير بشرة الوجه سارا كان أو غير سار ﴿ بأن لهم عذابا أليما ﴾
﴿ الذين ﴾ منصوب أو مرفوع على الذم بمعنى أريد الذين أو هم الذين أو بدل أو نعت للمنافقين ﴿ يتخذون الكافرين ﴾ يعني اليهود ﴿ الكافرين ﴾ أنصارا وبطانة لما يتوهمون فيهم القوة ﴿ من دون المؤمنين أيبتغون ﴾ يطلبون ﴿ عندهم ﴾ عند الكفار ﴿ العزة ﴾ القوة والغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم بمعونتهم وموالاتهم، والإستفهام للإنكار أو التهكم أو التعجب ووجه الإنكار وأخوية قوله تعالى ﴿ فإن العزة لله جميعا ﴾ لا يتعزز إلا من أعزه وقد كتب العزة لأوليائه فقال :﴿ لله العزة ولرسوله والمؤمنين ﴾١
١ سورة المنافقون، الآية: ٨.
﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب ﴾ أي في القرآن – قرأ عاصم بفتح النون والزاء على البناء للفاعل يعني قد نزل الله عليكم والباقون بضم النون وكسر الزاء على البناء للفاعل يعني قد نزل الله عليكم والباقون بضم النون وكسر الزاء على البناء للمفعول والقائم مقام الفاعل ﴿ أن ﴾ مخففة من المثقلة يعني أنه ﴿ إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ﴾ حالان من الآيات جئ بهما لتقييد النهي عن المجالسة ﴿ فلا تقعدوا معهم ﴾ أي مع الذين يكفرون ويستهزؤن ﴿ حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ أي غير الاستهزاء فحينئذ لا بأس بمجالستهم لضرورة دعت ومن غير ضرورة يكره مجالستهم مطلقا، وقال الحسن : لا يجوز مجالستهم وإن خاضوا في حديث غيره، وفي الآية إشارة إلى ما نزل سابقا بمكة في سورة الأنعام وإذا رأيت الذين يخوضون في آيتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } ١ قال الضحالك عن ابن عباس : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة ﴿ إنكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ إذا ﴾ يعني إذا قعدتم عند من يكفرون ويستهزئون بالآيات ورضيتم به كفار ﴿ مثلهم ﴾ غير أن الرضاء بالكفر من غير تفوه نفاق أفرد كلمة مثل لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع ﴿ إن الله جامع المنافقين ﴾ القاعدين عند الكفار الراضين بالكفر والاستهزاء ﴿ و الكافرين ﴾ المستهزئين الخائضين في القرآن ﴿ في جهنم جميعا ﴾ كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر والمجالسة
١ سورة الأنعام، الآية: ٢٨.
﴿ الذين يتربصون بكم ﴾ الدوائر والأحداث بدل من الذين يتخذون أو ذم منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبره [ فإن كان لكم ] أيها المؤمنون ﴿ فتح من الله ﴾ يعني ظفرا وغنيمة [ قالوا ] لكم [ ألم نكن معكم ] على دينكم وفي الجهاد فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة ﴿ و إن كان للكافرين نصيب ﴾ من الحرب وظهور على المسلمين ﴿ قالوا ﴾ للكافرين ﴿ ألم نستحوذ عليكم ﴾ الاستحواذ الاستيلاء يعني ألم نغلبكم مع المؤمنين قبل ذلك فأبقياكم ﴿ ونمنعكم من المؤمنين ﴾ أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم مراسلتنا إياكم أخبارهم وأمورهم، وقال المبرد : معناه ألم نغلبكم على رأيكم ونمنعكم من المؤمنين أي عن الدخول في جملتهم ﴿ فالله يحكم بينكم ﴾ وبين المنافقين ﴿ يوم القيامة ﴾ فيدخل المؤمنين الجنة والمنافقين النار، روى الشيخان في الصحيحين والحاكم في حديث طويل عن أبي سعيد الخدري ( إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ) الحديث ( فيقول الله تعالى أيها الناس لحقت كل أمة بما يعبد وبقيتم، فيقولون : نحن ننتظر ربنا يكشف عن ساق فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد له رياء وسمعة فيذهب كما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ) ١ زاد الحاكم ( كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ) الحديث بطوله ﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ﴾ قال علي في الأخرة رواه ابن جرير وكدا روي عن ابن عباس وهو الظاهر، وقال : عكرمة عن ابن عباس أي حجة كدا روى ابن جرير وعبد بن حميد عن السدي، وقيل : ظهورا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأما ظهور الكافرين على المؤمنين في هذا الزمان فلضعف إيمانهم وكثرة عصيانهم، وقيل : يعني سبيلا إلى استئصالهم. احتج الشافعي بهذه الآية على فساد اشتراء الكافر العبد المسلم، وقال أبوا حنيفة : الشراء صحيح لصدور العقد من أهله مضافا إلى محله لكن يجبر الكافر أن يبيع العبد بحكم هذه الآية نظرا للجانبين، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية على حصول البينونة بنفس الارتداد إذا كانت تحته مسلمة والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية: (١٨٣) و أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب ﴿إن الله لا يظلم ذرة﴾ (٤٥٨١).
﴿ إن المنافقين يخدعون الله وهو خادعهم ﴾ سبق الكلام فيه في أول سورة البقرة ﴿ وإذا قاموا إلى الصلاة ﴾ مع المؤمنين ﴿ قاموا كسالى ﴾ متثاقلين كالمكره كراهة على الفعل لا يرجون بها ثوابا ولا يخافون على تركها عذابا بل ﴿ يراءون الناس ﴾ صلاتهم يخالوهم مؤمنين ﴿ و لا يذكرون الله إلا قليلا ﴾ يعني ذكرا قليلا أو في زمان قليل والمراد بالذكر الصلاة، ووجه التقليل أن المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يراه، وهو أقل أحواله وجملة يراءون حال من فاعل قاموا كقوله كسالى، ولا يذكرون الله معطوف على يراءون أو حال من فاعل يراءون
[ مذبذبين بين ذلك ] حال من فاعل لا يذكرون أو من فاعل يراءون أي يراءونهم غير ذاكرين أو منهما على سبيل التنازع، أو منصوبا على الذم والمعنى مترددين بين الإيمان والكفر مشتق من الذبذبة بمعنى جعل الشيء مضطربا وأصله الذب بمعنى الطرد والدفع والمذبذب الذي من كلا الجانبين فلا يتقرر في جانب واحد ﴿ الكتاب ﴾ مستقرين مطمئنين ﴿ إلى هؤلاء ﴾ المؤمنين ظاهرا وباطنا حتى يؤفي معهم أجورهم في الآخرة ﴿ و لا إلى هؤلاء ﴾ الكفار بالكلية حتى يعامل بهم في الدنيا ما يعامل بالكافرين ﴿ ومن يضلل الله ﴾ إياه عن طريق الحق ﴿ فلن تجد ﴾ أيها المخاطب ﴿ له سبيلا ] إلى الحق والصواب نظيره قوله تعالى { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾ ١ عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه المرة وإلى هذه أخرى ) ٢ رواه مسلم
١ سورة النور، الإية ٤٠.
٢ أخرجه مسلم في أول كتاب: صفة المنافقين و أحكامهم(٢٧٨٤) و أخرجه النسائي في كتاب: الإيمان و شرائعه، باب: مثل المنافق(٥٠٣٥)
.

﴿ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ فإن موالاتهم أهلك المنافقين وصيرهم إلى النفاق فاحذروهم ﴿ أتريدون أن تجعلوا ﴾ بموالاتهم ﴿ لله عليكم سلطانا مبينا ﴾ حجة بنية في تعذيبكم.
﴿ إن المنافقين في الدرك ﴾ قرأ أهل الكوفة الدرك بسكون الراء والباقون بفتحها وهما لغتان، قال السيوطي : الدركات الطبقات والمنازل ويختص بما يستافل ويقال فيما علا درجات ﴿ الأسفل من النار ﴾ أخرج ابن المبارك عن ابن مسعود في هذه الآية قال : توابيت من حديد تضمت عليهم أسفل النار، وذكر البغوي بلفظ في توابيت من حديد مقفلة في النار، وقال البغوي : قال أبو هريرة : توابيت يقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم، وأخرج ابن وهب عن كعب الأحبار قال : إن في النار لبئرا لما فتحت أبوابها بعد مغلقها ما جاء على جهنم يوم منذ خلقها الله تعالى إلا يستعيذ بالله من حرها وهي الدرك الأسفل من النار، وإنما استحق المنافقون الدرك الأسفل من النار لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالله والرسول والإسلام والخداع للمسلمين ولأنهم آمنوا من السيف والجزية في الدنيا فاستحقوا الدرك الأسفل تعديلا ﴿ ولن تجد ﴾ أيها المخاطب ﴿ لهم نصيرا ﴾ يخرجهم من النار ويمنعهم من عذاب الله
﴿ إلا الذين تابوا ﴾ من النفاق وآمنوا ﴿ و أصلحوا ﴾ أعمالهم ﴿ و اعتصموا ﴾ وثقوا ﴿ بالله ﴾ وتمسكوا بدينه ﴿ و أخلصوا دينهم لله ﴾ من الرياء، لا يريدون بالإيمان والأعمال إلا وجه الله تعالى خالصا، أخرج ابن عساكر عن أبي إدريس قال : ما يبلغ عند حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمده أحد شيء على من عمل عمل لله عز وجل. وروى ابن أبي شبية أحمد عن أبي ثمامة قال : قال الحواريون لعيسى عليه السلام يا روح الله من المخلص لله ؟ قال : الذي يعمل لله لا يحب أن يجده الناس عليه، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل : يا رسول الله ما إخلاصها ؟ قال : أن تحجزه عن المحارم ) وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن معاذ بن جبل أنه قال لرسوله الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن أوصني قال ( أخلص دينك يكفيك القليل من العمل ) واخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص والبيهقي في الشعب عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى ينجلي عنهم كل فتنة ظلماء )﴿ فأولئك مع المؤمنين ﴾ المخلصين الذين سبقوهم بالإيمان والإخلاص في الجنة قال الفراء أي من المؤمنين ﴿ وسوف يؤت ﴾ حذفت الياء في الخط تبعا للفظ ﴿ الله المؤمنين ﴾ المخلصين في الآخرة﴿ أجرا عظيما ﴾ الجنة ورضوان الله ومراتب القرب
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم ﴾ نعمته الله ﴿ وآمنتم ﴾ به، استفهام للإنكار والتقرير معناه تعالى لا يعذب المؤمن الشاكر لأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه وتركه عقابهم لا ينقص من سلطانه، وليس تعذيبه تعالى لاستجلاب نفع أو دفع ضرر عنه وهو الغني المتعالي عن النفع والضرر وإنما يعذب العباد جريا على عادته في ترتيب المسبب العادي على السبب العادي، كسوء مزاج يِؤدي إلى المرض فإذا أزال مرضه القلبي من الكفر والنفاق في الدنيا بالإيمان والشكر ونقى نفسه عنه يخلص من تبعته، قال البغوي : في الآية تقديم وتأخير تقديره إن آمنتم وشكرتم، قلت : لا حاجة إلى هذا القول فإن الواو للجمع المطلق دون الترتيب وقيل : إنما قدم الشكر لأن الناظر يدرك النعمة أولا فيشكر شكرا مبهما ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به، قلت لعل المراد بالشكر ضد الكفر أغني الإيمان المجازي العامي وبالإيمان الإيمان الحقيقي ﴿ وكان الله شاكرا ﴾ مثيبا على الشكر يقبل اليسير ويعطي الجزيل ﴿ عليما ﴾ بحقيقة إيمانكم.
﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ﴾ يعني يبغض الجهر بالسوء وغير الجهر أيضا لكن الجهر أفحش، إنما حص الجهر بالذكر لمطابقة الحادثة ﴿ إلا من ظلم ﴾ إلا جهر من ظلم بالدعاء على الظالم والتظلم منه، وقيل : الجهر بالسوء من القول هو الشتم إلا من ظلم فإنه إن رد عليه مثله فلا حرج عليه لقوله تعالى :﴿ و لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ٤١ ﴾١ الآية عن أنس وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم ) ٢ رواه مسلم، وقال البغوي : قال مجاهد : هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكوا ويذكر ما صنع به، أخرج هناد في كتاب الزهد عن مجاهد أن رجلا أضاف بالمدينة فأساءه قراه فتحول عنه فجعل يثني عليه بما أولا فرخص له يثني عليه بما أولاه ونزلت هذه الآية، وكذا أخرج عبد الرزق وعبد بن حميد وابن جرير عنه رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوقب عليه فنزلت هذه الآية، وعن عقبة بن عامر أنه قال قلنا يا رسول الله : إنك تبعثنا فنزل بقوم فلا يقرونا فما ترى ؟ فقال : لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يأمروا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ٣ ) متفق عليه﴿ و كان الله سميعا ﴾ لشكوى المظلوم ودعائه ﴿ عليما ﴾ بما فعل الظالم
١ سورة الشورى، الآية ٤١.
٢ أخرجه مسلم في كتاب: البر و الصلة و الآدب، باب: النهي عن السباب (٢٥٨٧)
.

٣ أخرجه البخاري في كتاب: المظالم، باب: قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه (٢٤٢١) و أخرجه مسلم في كتاب: اللقطة باب: الضيافة و نحوها (١٧٢٧)..
﴿ إن تبدوا خيرا ﴾ يعني طاعة وبرا، وقيل معناه تبدوا خيرا بالظالم مكان الجهر بالسوء فتمحوا السيئة بالحسنة ﴿ أو تخفوه ﴾ أي تفعلوا ذلك الخير سرا، وقيل : المراد بالخير المال يعني إن تبدوا صدقة أو تخفوها[ أو تعفوا عن سوء ] يعني عن مظلمة وتمحوه عن قلوبكم، وإن لم تفعلوا بالظالم خيرا، قال البيضاوي وغيره : والعفو عن المظلوم هو المقصود وذكر إبداء الخير وإخفاء ه توطئة وتمهيدا بدليل قوله تعالى ﴿ فإن الله كان عفوا قديرا ﴾ أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك لأنه تجارة في حقكم فهذه الآية حث المظلوم على العفو بعد ما رخص له في الانتصار حملا على مكارم الأخلاق، عن ابن عمر أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أعفوا عن الخادم ؟ قال ( كل يوم سبعين مرة ) ١ رواه أبو داود والترمذي وأبو يعلي والله أعلم
١ أخرجه الترمذي في كتاب: البر و الصلة، باب: ماجاء في العفو عن الخادم (١٩٥٢) و أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في حق المملوك (٥١٥٥).
﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ﴾ قال البغوي : نزلت في اليهود فإنهم لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبعيسى والإنجيل فكأنهم كفروا بجميع الأنبياء لأن بعضهم مصدق لبعض وكفروا بالله حيث جحدوا بآياته﴿ و يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ﴾ بأن يؤمنوا بالله دون الرسل كأهل الشرك وكاليهود حيث آمنوا بالله وبموسى على زعمهم وكفروا بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم وغيرهما من الرسل والقرآن والإنجيل ﴿ و يقولون نؤِمن ببعض ﴾ من الأنبياء ﴿ و نكفر ببعض ﴾ منهم ﴿ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك ﴾ أي بين الإيمان والكفر ﴿ سبيلا ﴾ دينا وطريقا
﴿ أولئك هم الكافرون ﴾ الكاملون في الكفر إذ لا واسطة بين الإيمان والكفر فإن الإيمان بالله إنما يتم بالإيمان برسله أجمعين وتصديقهم فيما بلغوا عنه إجمالا وتفصيلا، والحق واحد مشترك بين أديان الأنبياء كلهم ﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾ ﴿ حقا ﴾ مصدر ملاكر بغيره أي حق ذلك الأمر حقا، أو صفة لمصدر الكافرين بمعنى هم الذين كفروا حقا أي يقينا محققا ﴿ و أعتدنا للكافرين ﴾ أجمعين ومنهم اليهود ﴿ عذابا مهينا ﴾
﴿ والذين آمنوا بالله ورسوله ﴾ كلهم أجمعين ﴿ ولم يفرقوا بين أحد منهم ﴾ الموصول مبتدأ والظاهر أن خبره ﴿ أولئك سوف يؤتيهم ﴾ وقيل خبره محذوف تقديره أولئك هم المؤمنون حقا، أو تقديره أضدادهم ومقابلوهم، ووجه هذا القول أن يكون هذه الآية على وثيرة ما سبق وإنما دخل بين على أحد مع اقتضائه المتعدد لعمومه من حيث أنه وقع في سياق النفي ﴿ أولئك سوف يؤتيهم ﴾ قرأ حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم أجورهم الموعود لهم وتصديرهم بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر ﴿ الله غفورا رحيما ﴾ لما فرط منهم ﴿ رحيما ﴾ عليهم يضاعف حسناتهم.
أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : إن موسى جاءنا بالألواح من عند الله فاتنا بالألواح حتى نصدقك، وسمى البغوي ذلك اليهود كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء فقالا ذلك فأنزل الله تعالى ﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ﴾ وكان هذا السؤال منهم سؤال تهكم واقتراح لا سؤال الانقياد، والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد. أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أنه لما نزل قول تعالى ( يسألك أهل الكتاب إلى قوله :﴿ بهتانا عظيما ﴾ جثا رجل من اليهود فقال : ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا فأنزل الله تعالى ﴿ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ ١ ﴿ فقد سألوا ﴾ الضمير عائد إلى أهل الكتاب، أضاف الحكم إليهم باعتبار أن السؤال صدر عن بعضهم وهم السبعون الذين خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل، والفاء للسببية، والتقدير لا تستكبر منهم هذا السؤال لأنهم قد سألوا الآية، وقيل : الفاء جواب شرط مقدر أي إن استكبرت ما سأل هؤلاء عنك فقد سأل أسلافهم ﴿ موسى أكبر من ذلك ﴾ يعني ما اقترحوا عليكم ليس لأول جهالتهم ﴿ فقالوا ﴾ تفسير للسؤال ﴿ أرنا الله جهرة ﴾ أي إراءة جهرة أو رؤية جهرة على أنه مصدر من غير لفظه يعني عيانا أو مجاهرين يعني معاينين له، وقال أبو عبيدة : معناه قالوا جهرة أرنا الله ﴿ فأخذتهم الصاعقة ﴾ أي أهلكتهم نار جاءت من السماء ﴿ بظلمهم ﴾ بسبب ظلمهم على أنفسهم وهو تعنتهم وسؤالهم بما كان خلاف العادة والحكمة وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقا ﴿ ثم اتخذوا العجل ﴾ إلها هذه جناية أخرى ارتكبها أوائلهم ﴿ من بعد ما جاءتهم البينات ﴾ يعني المعجزات الواضحات ﴿ فعفونا عن ذلك ﴾ ولم نستأصلهم هذا الاستدعاء إلى التوبة يعني عفونا عن أوائلكم حين تابوا فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم ﴿ وآتينا موسى سلطانا مبينا ﴾ أي تسلطا ظاهرا حتى أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم أو حجة ظاهرة وهي الآيات التسع على من خالفه
١ سورة النعام الآية: ٩١.
﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ﴾ أي بسبب ميثاقهم حتى يقبلوه ﴿ وقلنا لهم ﴾ على لسان موسى والطور مظل عليهم ﴿ ادخلوا الباب ﴾ يعني باب إيليا ﴿ سجدا ﴾ مطاطئين رؤوسكم ﴿ وقلنا لهم ﴾ على لسان داود، ويحتمل أن يكون هذا القول أيضا على لسان موسى حين ظلل عليهم الجبل فإنه شرع السبت لكن الاعتداء والمسخ كان في زمن داود عليه السلام ﴿ لا تعدوا ﴾ قرأ ورش بفتح العين وتشديد الدال وقالون بإخفاء حركة العين وتشديد الدال أصله تعتدوا أدغمت التاء في الدال والنص عن قالون بالإسكان والباقون بإسكان العين وتخفيف الدال يعني لا تظلموا أنفسكم بقتل الحيتان ﴿ في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ﴾ على قبول حكم التوراة وعدم الاعتداء في السبت حتى قالوا سمعنا وأطعنا.
﴿ فبما نقضهم ﴾ ما زائدة لتأكيد مضمون الكلام والباء متعلق بمحذوف تقديره فخالفوا حكم التوراة ونقضوا الميثاق ففعلنا بهم ما فعلنا ولعناهم بسبب نقضهم، ويجوز أن يكون متعلقا ب ﴿ حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ وقوله :﴿ فبظلم من الذين هادوا ﴾ بدل من قوله ﴿ فبما نقضهم ﴾ لكم يلزم حينئذ تكرار الفاء، وجاز أن يكون الفاء العطف فحينئذ لم يحتج إلى جعله بدلا ويمكن أن يقال قوله فبما نقضيهم ظرف مستقر خبر للمبتدأ المحذوف والباء بمعنى في تقديره فهم في نقضهم ﴿ ميثاقهم ﴾ الذي واثقوا بموسى عليه السلام ﴿ وكفرهم بآيات الله ﴾ الواردة في التوراة في نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن والإنجيل وغيرهما ﴿ وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم ﴾ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ قلوبنا غلف ﴾ أوعية للعلوم أو في أكنة مما تدعونا إليه وليس الأمر كذلك ﴿ بل طبع الله عليها ﴾ أي ختم على قلوبهم ﴿ بكفرهم ﴾ فجعلها محجوبة عن العلم أو خذلها ومنعها والتوفيق للتدبير في الآيات ﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ أي إيمانا قليلا لا يعتد به وهو الإيمان ببعض الكتب وبعض الرسل أو إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل : معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا
﴿ وبكفرهم ﴾ ثانيا بعيسى وهو معطوف على بكفرهم، وكرر الباء للفصل بينه وبين ما عطف عليه والكفر المطلق من أسباب الطبع كالكفر بعيسى، وليس هذا من قبيل عطف الشيء على نفسه للعموم والخصوص أويقال عطف مجموع الكفر وما عطف عليه على الكفر كما يقال قال الإمام وسائر الناس، أو هو معطوف على قوله فبما نقضهم ويكون تكرير ذكر الكفر إيذانا لتكرر كفرهم، فإنهم كفروا بموسى ثم بعيسى وداود وسليمان ثم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين، أويقال مجموع هذا
مع ما عطف عليه معطوف على مجموع قبله فلا تكرار ﴿ وقولهم على مريم بهتانا عظيما ﴾ يعني نسبتها إلى الزنا
﴿ وقولهم مفتخرين { إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ﴾ أي بزعمه يحتمل أنهم قالوا ذلك استهزاء، وجاز أن يكون رسول الله منصوبا على المدح استينافا من الله تعالى أو وضع الله سبحانه الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح حتى يستحق القائلون الذم ﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾ روي أن رهطا من اليهود سبوه وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء كما مر القصة في آل عمران، ووقع في بعض الروايات أنه قال عيسى لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبيهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقام رجل منهم فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب، وكذا أخرج النسائي عن ابن عباس، وفي رواية ذكره البغوي أن الله تعالى ألقى شبه عيسى عليه السلام على الذي دل اليهود عليه وذكرنا في سورة آل عمران من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه أمر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطانوس أن يدخل بيتا كان عيسى فيه ليقتله فرفعه الله إلى السماء وألقى الله شبهه على طيطانوس فلما خرج ظنوا أنه عيسى فأخذ وصلب وقيل إنهم حبسوا عيسى عليه السلام في بيت وجعلوا عليه رقيبا فألقى الله شبهه على الرقيب فقتلوه والله أعلم.
﴿ وإن الذين اختلفوا فيه ﴾ أي في قتله ﴿ لا في شك منه ﴾ أي تردد من قتله قال الكلبي : اختلافهم فيه هو أن اليهود قالت نحن قتلناه وقالت طائفة من النصارى نحن قتلناه وقالت طائفة منهم ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه وقيل كان الله ألقي شبه عيسى عليه السلام على وجه طيطانوس ولم يلقه على جسده فاختلفوا فيه فقال بعضهم قتلنا عيسى فإن الوجه وجه عيسى وقال بعضهم لم نقتله لأن جسده ليس بجسد عيسى، وقال السدي اختلافهم من حيث أنهم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى، وقيل الضمير في قوله ﴿ الذين اختلفوا فيه ﴾ راجع إلى عيسى اختلفوا في شأن عيسى فقال بعضهم أنه كان كاذبا فقتلناه حقا وتردد آخرون، وقال من سمع منه إن الله يرفعني من السماء أنه رفع إلى السماء ﴿ ما لهم به ﴾ أي بقتله ﴿ به علم ﴾ أنه قتل أو لم يقتل إلا اتباع الظن استثناء منقطع ولكنهم يتبعون الظن في قولهم أنا قتلنا ﴿ وما قتلوه يقينا ﴾ يعني ما قتلوا عيسى متيقنا هذا الأمر يقينا، وقيل : معناه ما قتلوا عيسى قتلا يقينا عندهم كما زعموه أنا قتلنا المسيح أو ما قتلوه متيقنين أنه عيسى كذلك قال الفراء
﴿ بل رفعه الله إليه ﴾ رد وإنكار لقتله وإثبات لرفعه ﴿ وكان الله عزيزا ﴾ منيعا بالنقمة على اليهود ولا يغلبه أحد على ما يريده ﴿ حكيما ﴾ حكم باللعنة والغضب على اليهود فسلط عليهم صطينوس بن استسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة أوحكيما فيما دبر بعيسى عليه السلام.
﴿ وإن من أهل الكتاب ﴾ أحد ﴿ إلا ليؤمنن ﴾ يعني إلا من ليؤمنن، جملة خبرية مؤكدة جملة إنشائية قسمية صفة لمستثنى مفرغ مقدر ( به ) أي بعيسى عليه السلام، كذا قال أكثر المفسرين وعامة أهل العلم، وروى عن عكرمة أن الهاء كنية عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل هي راجعة إلى الله عز وجل والمآل واحد فإن الإيمان بالله لا يعتد ما لم يؤمن بجميع رسله والإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم يستلزم الإيمان بعيسى عليه السلام وبالعكس ﴿ قبل موته ﴾ أي قبل موت ذلك الأحد من الكتاب عند معاينة ملائكة العذاب عند الموت حين لا ينفعه إيمانه – هذا رواية علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وقيل لابن عباس أأريت إن خر من فوق البيت ؟ قال : يتكلم به في الهواء، فقيل : أرأيت إن ضرب عنقه ؟ قال : تلجلج لسانه. والحاصل أنه لا يموت كتابي حتى يؤمن بالله عز وجل وحده لا شريك له وأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله وإن عيسى عبد الله ورسوله، قيل : يؤمن الكتابي في حين من الأحيان ولو عند معاينة العذاب، قلت : لعل ذلك لأن الكتابي يعرف نبوة موسى والتوراة وكلاهما ناطق بحقية عيسى والإنجيل وداود والزبور ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وإنما يكفر عنادا وتعصبا فقد ينصف فيعتقد في نفسه أن محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق شهد به موسى والتوراة من قبل ولو لم يخطرة ذلك الخطر في باله، فلا شك أنه حين يرى ملائكة العذاب يزعم حينئذ أن ما كان يقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان حقا فهذه الآية كالوعيد والتحريض على معاجلة الإيمان به قبل أن يضطروا إليه ولا ينفعهم إيمانهم، وقيل : الضميران لعيسى والمعنى انه إذا نزل عيسى من السماء آمن به أهل الملل أجمعون ولا يبقى أحد من أهل الأديان إلا يؤمن به حتى يكون الملة واحدة ملة الإسلام، وهذا التأويل مروي عن هريرة رضي الله عنه روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها، قال أبو هريرة : فاقرءوا إن شئتم ﴿ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ﴾ أي قبل موت عيسى بن مريم ( ١ )١و في بعض الروايات كان أبو هريرة يعيدها ثلاث مرات، وعنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نزول عيسى( قال : ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ) الحديث، روى ابن جرير والحاكم وصححه عن عباس موقوفا ( فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به ) قلت نزول عيسى قبل يوم القيامة حق وأن يهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام حق ثابت بالصحاح من الأحاديث المرفوعة، لكن كونه مستفادا من هذه الآية هذا تأويل الآية بإرجاع الضمير الثاني إلى عيسى ممنوع إنما هو زعم من أبي هريرة ليس ذلك في شيء من الأحاديث المرفوعة، وكيف يصح التأويل مع أن كلمة ﴿ و إن من أهل الكتاب ﴾ شامل للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم البتة سواء كان هذا الحكم خاصا بهم أو لا فإن حقيقة الكلام للحال، ولا وجه لأن يراد به فريق من أهل الكتاب يوجدون حين نزول عيسى عليه السلام فالتأويل الصحيح هو الأول ويِؤيده قراءة أبي بن كعب أخرج ابن المنذر عن أبي هاشم وعروة قالا في مصحف أبي بن كعب ( و إن من أهل الكتاب إلا ليِؤمنن به قبل موته ) ﴿ و يوم القيامة يكون ﴾ عيسى أو محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الله عز وجل على حسب إرجاع الضمير في ليِؤمنن به ﴿ عليهم شهيدا ﴾ فإن الله سبحانه يشهد على عباده ﴿ و كفى بالله شهيدا ﴾ والأنبياء يشهدون على أممهم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم يكون عليهم شهيدا.
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: نزول عيسى بن مريم عليه السلام (٣٤٤٨).
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: نزول عيسى: عيسى بن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (١٥٥).
سورة الأنعام الآية ١٤٦.
.

﴿ فبظلم ﴾ عظيم ﴿ من الذين هادوا ﴾ وهو ما تقدم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء وبهتانهم على مريم وقولهم تفاخرا قتلنا المسيح ﴿ حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ قبل ذلك وهي ما ذكر في سورة الأنعام ﴿ و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ﴾ ١ ويحتمل أن يراد طيبات الجنة ويلائم هذا قوله تعالى ﴿ و أعتدنا للكافرين ﴾ الآية، ويحتمل أن يراد الأرزاق الطيبة في الدنيا، المراد بالتحريم جعلهم محرومين مصروفين عنها بالأمر التكويني يعني أنهم مع كثرة الرزق الحلال الطيب في الدنيا جعلهم الله تعالى محرومين عنها فلا يأكلون إلا رزقا حراما خبيثا حتى تكون النار أولى بهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كل لحم نبت الحرام فالنار أولى به ) ٢ ﴿ و يصدهم عن سبيل الله ﴾ يعني عن الإيمان والإتباع لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ كثيرا ﴾ أي كثيرا من الناس أو صدا كثيرا
١ سورة الأنعام، الآية ١٤٦.
٢ رواه البيهقي أبو نعيم عن أبي بكر، قال المناوي: سنده ضعيف. انظر كشف الخفاء (١٩٧٣).
﴿ و أخدهم الربا وقد نهو عنه ﴾ في التوراة فيه دليل على أن النهي يوجب التحريم ﴿ و أكلهم أموال الناس بالباطل ﴾ بالرشوة والخداع والغصب وغير ذلك من الوجوه المحرمة، قوله بصدهم مع ما عطف عليه معطوف على بظلمهم متعلق بقوله حرمنا ومعطوف على قوله تعالى ﴿ و أعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ﴾ في نار جهنم،
ثم لما كان الكلام السابق منشأ لتوهم شمول الحكم لجميع أهل الكتاب استدرك وقال ﴿ لكن الراسخون في العلم منهم ﴾ أي من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه مِؤمني أهل الكتاب الثابتون على ما هو مقتضى العلم بالكتاب ﴿ و المؤمنون ﴾ يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار، أو المعنى والمؤمنون منهم والمراد بهم وبالراسخون واحد، والراسخون، مبتدأ خبره ﴿ يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ أي القرآن ﴿ و ما أنزل من قبلك ﴾ يعني سائر الكتب المنزلة على الرسل ﴿ و المقيمين الصلاة ﴾ قال البغوي حكي عن عائشة وأبان بن عثمان أنه غلط في الكاتب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة وكذلك قوله تعالى في سورة المائدة :﴿ إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئون ﴾ ١و قوله تعالى ﴿ أن هذان لسحران ﴾٢ قالوا ذلك خطأ من الكاتب، وقال عثمان : إن في المصحف لحنا سيقيمه العرب بألسنتها فقيل له ألا تغيره ؟ فقال : دعوه فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، والصحيح أن هذا القول سهو من القائلين عفا الله تعالى عنهم وانعقد الإجماع على أنه هو الحق الصحيح. فاختلفوا في توجيهه ؟ فقيل : هو نصب على المدح لبيان فضل الصلاة تقديره أمداح المقيمين، وقيل منصوب بتقدير أعني المقيمين الصلاة، وهم المؤتون الزكاة، وقيل : إنه منصوب على التوهم لأن السابق كان مقام لكن المثلة وضع موضعه المخففة، وقيل موضعه خفض معطوف على ما أنزل إليك معناه يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة يعني الأنبياء ﴿ المؤتون الزكاة ﴾ عطف على الراسخون أو مبتدأ خبره أولئك ﴿ و المؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ عطف على المؤتون، قدم عليه الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من الصلاة والزكاة لأنه المقصود بسوق الآية فإن أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر في زعمهم وإنما المقصود هاهنا تحريضهم على ما ليس لهم من الإيمان وهو الإيمان بالأنبياء والكتب كلهم، وجاز أن يكون المراد بالأول الإيمان المجازي بالثاني الإيمان الحقيقي المترتب عليه وعلى إتيان الشرائع ﴿ أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ﴾ قرأ حمزة سيِؤتيهم يعني الله تعالى بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم.
١ سورة المائدة الآية: ٦٩.
٢ سولرة طه الآية: ٦٣.
روى ابن اسحاق عن ابن عباس قال : عدي بن زيد : ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى فأنزل الله تعالى ﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ﴾ بدا بذكره عليه السلام لأنه كان أبا البشر مثل آدم قال الله تعالى ﴿ و جعلنا ذريته هم الباقين ٧٧ ) ﴾١ ولأنه أول نبي من أنبياء الشريعة وأول نذير على الشرك وأول من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض بدعائه وكان أطول الأنبياء عمرا وجعل معجزته في نفسه ﴿ لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ﴾٢ ولم يسقط له سن ولم يشب له شعر ولم ينقص له قوة ولا صبر على أذى قومه على طول عمره ﴿ و النبيين من بعده ] إدريس وهود وصالح وشعيب وغيرهم { و كما أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾ وهم أولاد يعقوب إما أبناؤه اثنا عشر، أو أنبياء بني إسرائيل من ذريتهم ﴿ و عيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان ﴾ خص هؤلاء من الأسباط لمزيد الفضل ﴿ وأتينا داود زبورا ﴾ عطف على أوحينا، قرأ الأعمش وحمزة زبورا بضم الزاء وهو اسم للكتاب الذي أنزل فيه، قال البغوي : كان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجل وكان داود يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ويقوم معه علماء بن إسرائيل فيقومون خلفه ويقوم خلفه الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الإنس الأعظم فالأعظم ويجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجبا لما يسمعن منه والطير ترفرف على رءوسهم. عن أبي موسى الأشعري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لو رأيتني البارحة وأنا أسمع لقراءتك لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود ) قال : أما والله يا رسول الله لو علمت أنك تسمع لحبرته تحبيرا ٣، وكان عمر رضي الله عنه إذا رآه يقول : ذكرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده
١ سورة الصافات الآية: ٧٧.
٢ سورة عنكبوت، الآية: ١٤.
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (٣٨٦٤).
﴿ ورسلا ﴾ منصوب بمضمر دل عليه أوحينا تقريره وأرسلنا رسلا ﴿ قد قصصناهم عليك من قبل ﴾ هذا اليوم مثل آدم عليه السلام وشيث وإدريس وزكريا ويحيي وذا الكفل وغيرهم ﴿ ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾ عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول ؟ قال : آدم قلت ونبي كان ؟ قال :﴿ نبي مكلم ) قلت :( يا رسول الله كم المرسلون ؟ ) قال ( ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا ) ١ وعن أبي أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء ؟ فقال :( مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة وعشرون جما غفيرا ) رواه أحمد وابن أبي حاتم، وروى الحاكم بسند ضعيف وأبو يعلى وأبو نعيم في الحيلة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( انه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس ) وهذه الآية تدل على أن معرفة الأنبياء بأعيانهم لا يشترط لصحة الإيمان بل من شرطه أن يؤِمن بهم جميعا ولو كان معرفة كل شرطا لقص الله علينا جميعهم { و كلم الله موسى تكليما ﴾ وهو منتهى مراتب الوحي خص به موسى عليه السلام من بينهم وقد فضل الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ورفعه درجات ﴿ ثم دنا فتدلى ( ٨ ) فكان قاب قوسين أو أدنى ( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ ﴿ و لقد رءاه نزلة أخرى ( ١٣ ) عند سدرة المنتهى ﴾ ٢ وأعطاه مثل ما أعطى كل واحد من الأنبياء مع مزيد فضل، قال الفراء : العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ولكن لا يحققه بالمصدر فإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، يقال على سبيل المجاز أراد الجدار أن ينقض ولا يقال أراد الجدار إرادة
١ رواه أحمد و البزر و الطبراني في الأوسط بنحوه، و عند النسائي طرف منه و فيه المسعودي و هو ثقة لكنه اختلط..
٢ سورة نجم، الآية: ١٤٨.
﴿ رسلا ﴾ منصوب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال ويكون رسلا هذا تمهيدا لقوله ﴿ مبشرين ومنذرين لئلا ﴾ اللام متعلق بأرسلنا أو بقوله مبشرين ومنذرين، ﴿ يكون للناس على الله حجة بعد ﴾ إرسال ﴿ الرسل ﴾ إليهم حجة اسم كان وخبره للناس أو على الله والآخر حال ولا يجوز تعلقه بحجة لأنه مصدر وبعد ظرف لها أو صفة حجة يعني لئلا يقول الناس ﴿ ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا ﴾ ١ فنتبعه، عن المغيرة قال : قال سعد ابن عبادة : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال( تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله غير الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله تعالى ومن أجل ذلك وعد الله الجنة ) ٢ رواه البخاري وغيره قال البغوي : في هذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل كما قال الله تعالى ﴿ و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ وقالت الحنفية : لا يعذب الله على الشرائع من المأمورات والمنهيات إلا بعد بعثة الرسل وأما وجود نفس التوحيد فغير متوقف عليه لدلالة الآفاقية والأنفسية عليه وكفاية إدراك العقل فيه والله أعلم ﴿ و كان الله عزيزا ﴾ لا يغلب فيما يريد ﴿ حكيما ﴾ فيما دبر من أمر النبوة وخص كل نبي بنوع منا لوحي والإعجاز والفضل وأعطى خاتم النبيين لأجل بعثته إلى الخلق الموجودين إلى يوم القيامة ما أعطى كل نبي.
١ سورة طه، الآية: ١٣٤.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا شخص أغير من الله (٧٤٩٩).
روى ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال : دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لهم والله إنكم تعلمون أني رسول الله ) فقالوا : ما نعلم ذلك. وقال البغوي : إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك فأنزل الله تعالى ﴿ لكن الله يشهد ﴾ على نبوتك ﴿ بما أنزل إليك ﴾ من القرآن المعجز بالنظم والمعنى الدال على نبوتك ﴿ أنزله ﴾ متلبسا ﴿ بعلمه ﴾ الخاص به تعالى وهو العلم بالمغيبات الماضية والمستقبلة والعلم بتأليفه بحيث يعجز عن إتيان مثل أقصر سورة منه غيره أو العلم بمن هو أهل للنبوة ونزول الكتاب عليه وبعلمه الذي يحتاج إليه الناس في إصلاح معاشهم ومعادهم، فالجار والمجرور على الأولين حال عن الفاعل وعلى الثالث عن المفعول، وجاز أن يكون مفعولا مطلقا أي إنزالا متلبسا بعلمه والجملة كالتفسير لما قبلها ﴿ و الملائكة ﴾ أيضا ﴿ يشهدون ﴾ على نبوتك حيث يأتونك لإعانتك في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ يعني كفى بما أقام من الحجج على نبوتك عن الاستشهاد بغيره أو يقال جزاء المؤمنين والكافرين في الآخرة بيد الله تعالى فكفى به شهيدا إذ الحاكم بالعدل إذا كان عالما شهيدا لا يحتاج إلى شهادة غيره
﴿ إن الذين كفروا وصدوا ﴾ غيرهم ﴿ عن سبيل الله ﴾ يعني عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتمان ما ورد نعته في التوراة وتحريفه منع الناس عن إتباعه وهم اليهود ﴿ قد ضلوا ﴾ عن الحق ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال
﴿ إن الذين كفروا ﴾ بالله ورسله ﴿ و ظلموا ﴾ محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بإنكار نبوته بعد العلم بها أو ظلموا الناس بصدهم عما فيه صلاحهم يعني اليهود ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم ﴾ في الآخرة ﴿ طريقا ﴾
﴿ إلا طريق جهنم ﴾ أي طريق المؤدي إليها ﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ أي مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها حال مقدرة ﴿ و كان ذلك ﴾ أي إدخالهم النار ﴿ على الله يسيرا ﴾ لا يصعب عليه شيء هذه الآية في حق من سبق حكمه فيهم أنهم يموتون على الكفر والله أعلم.
و لما قرر الله سبحانه أمر النبوة وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها خاطب الناس بالدعوة عامة فقال :﴿ يأيها الناس قد جاءكم الرسول ﴾ محمد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ بالحق ﴾ بالقرآن والدين الحق ﴿ من ربكم فأمنوا ﴾ به ﴿ خير لكم ﴾ أي إيمانا خير لكم أو وائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم عليه، وقال البغوي : تقديره يكن الإيمان خيرا لكم، ومنع البصريون وقالوا : كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لا بد منه ولأنه يؤدي إلى حذف الشرط وجوابه، ويرد على عدم تجويز حذف كان مع اسمه قولهم الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخيرا ﴿ و إن تكفروا ﴾ فالله غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم وإنما يعود نفع إيمانكم وضرر كفركم إليكم، ونبه على غنائه تعالى بقوله ﴿ فإن لله ما في السماوات والأرض ﴾ خلقا وملكا ﴿ و كان الله عليما ﴾ بمن يؤمن ومن لا يؤمن ﴿ حكيما ﴾ لا يسوي بينهما في الجزاء.
﴿ يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ﴾ قيل الخطاب للفرقين اليهود والنصارى فاليهود غلت في تنقيص عيسى حتى كذبوا وسبوا أمه والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلها، وأصل الغلو مجاوزة الحد، وقال البغوي : نزلت في النصارى وهم أصناف الأربعة اليعقوبية والملكائية والنسطورية والمرقوسية فقالت اليعقوبية والملكائية إن عيسى هو الله وقالت النسطورية عيسى ابن الله وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة. ويقال الملكائية يقولون عيسى هو الله واليعقوبية يقولون ابن الله والنسطورية يقولون ثالث الثلاثة علمهم رجل من اليهود يقال له بولس سيأتي في سورة التوبة إنشاء الله تعالى ﴿ و لا تقولوا على الله إلا الحق ﴾ يعني نزهوه عن الشريك والصحابة والولد وكونه جسما محتاجا الأكل وغير ذلك ﴿ إنما المسيح ﴾ مبتدأ ﴿ عيسى ابن مريم ﴾ عطف بيان من المسيح ﴿ رسول الله ﴾ خبر مبتدأ يعني ليس كما قالت النصارى أنه ابن الله ولا كما قالت اليهود أنه كذاب بل هو رسول الله ﴿ و كلمته ﴾ يعني إثر قوله كن فكان بشرا من غير أب ( ألقاها ) حال بتقدير قد يعني أوصلها ﴿ إلى مريم روح منه ﴾ عطف على الخبر أي ذو روح صادر منه تعالى بخلقه كسائر الحيوانات، لا يمكن أن يكون إلها وأسند إلى نفسه تشريفا، وقيل : سمى روحا لأنه كان يحيي الموتى أو القلوب الميتة، وقيل الروح هو النفخ الذي نفخه جبرئيل في درع مريم فحملت بإذن الله سمي النفخ روحا لأنه ريح تخرج من الروح وإضافته إليه تعالى لأنه كان بأمره من غير مادة وقيل روح منه يعني رحمة منه وقد كان رحمة لمن أتبعه وآمن به وقيل : الروح الوحي إلى مريم بالبشارة وإلى جبريل بالنفخ وإلى عيسى أن كن فكان، وقيل : أراد بالروح جبرئيل وهو معطوف على الضمير المستتر في ألقاها، ويجوز العطف للفصل يعني ألقاها الله سبحانه إلى مريم وألقاه جبرئيل بأمره، أسند الإلقاء إلى الله سبحانه لكونه أمره وإلى جبريل لكونه فاعلا أو إلى خالقا وإلى جبريل لكونه أمرا وإلى جبرئيل لكونه فاعلا أو إلى الله لكونه خالقا وإلى جبرئيل لكونه كاسبا، عن عبادة رضي الله عنه وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( من شهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا عبده رسوله أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الجنة على ما كان من عمل )١ متفق عليه ﴿ فأمنوا بالله ﴾ كما يليق بتنزيهاته ﴿ ورسله ﴾ ومنهم عيسى ﴿ و لا تقولوا الآلهة { ثلاثة ﴾ الله والمسيح ومريم كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾ ٢ وقيل كانوا يقولون بالأقانيم الثلاثة الله وعيسى وجبرائيل ويسمونهم بالأب والابن وروح القدس، قالوا : كانت ذات لها العلم والحياة فانتقلت صفة العلم واستعلت وصارت جسما وسميت بعيسى وصفة الحياة فسميت جبرئيل ﴿ انتهوا ﴾ عن التثليث وائتوا أمرا ﴿ خيرا لكم ﴾ مما أنتم عليه أو انتهاء خيرا لكم أو يكن الانتهاء خيرا لكم ﴿ إنما الله ﴾ مبتدأ ﴿ إله ﴾ خبره ﴿ واحد ﴾ صفة للتأكيد يعني لا تعدد فيه بوجه ما ﴿ سبحانه ﴾ أي أسبحه سبحانا من ﴿ أن يكون له ولد ﴾ فإنه إنما يكون لمن يتصور له مثل ويتطرق إليه فناء ولذلك سمى الله سبحانه ذلك القول شتما في حقه، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ( قال لله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، وأما تكذبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شمته إياه فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ) وفي رواية ابن عباس ( فقوله لي ولد وسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا )٣رواه البخاري ﴿ له ما في السماوات و ما في الأرض ﴾ يعني جميع من عداه ملكا وخلقا فمن يماثله حتى يتصور كونه ولدا له، فهذه الجملة كأنها تعليل لما سبق ﴿ و كفى بالله وكيلا ﴾ حافظا ومدبرا لكل من سواه، فهو تعالى غني عن الولد فإن الحاجة إلى الولد ليكون وكيلا لأبيه قائما مقامه والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعالى: ﴿يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم﴾ (٣٤٣٥) و أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا (٦٨).
٢ سورة المائدة، الآية: ١١٦.
٣ أخرجه البخاري في تفسير القرآن، باب: قوله ﴿و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه﴾ (٤٤٨٢) و أخرجه النسائي في كتاب: الجنائز، باب: أرواح المؤمنين (٢٠٦٩).
قال البغوي ( و عزاه الواحدي في أسباب النزول إلى الكلبي ) أنه قال وفد نجران : يا محمد إنك تعيب صاحبنا، قال : وأي شيء أقول ؟ قال تقول : إنه عبد الله ورسوله، قال : إنه ليس بعار لعيسى أن يكون عبد الله فنزلت ﴿ لن يستنكف ﴾ أي لن يأنف ولن يتعظم الاستنكاف التكبر مع الأنفة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك كيلا يرى أثره عليك ﴿ المسيح ﴾ من ﴿ أن يكون عبدا لله ﴾ فإن عبوديته تعالى شرف وكمال يباهي به فإنه أصل كل كمال فإن الممكن لا يوجد ولا يتصف بشيء من الكمالات ما لم ينتسب إلى الله تعالى، ولا نسبة له إليه تعالى إلا بالعبودية وإنما المذلة والاستنكاف من عبودية غيره تعالى فإنه ممكن مثله ﴿ ولا الملائكة المقربين ﴾ عطف على المسيح يعني ولا يستنكف الملائكة المقربون من أن يكونوا عبيدا الله تعالى. احتج بالآية من زعم بتفضيل الملائكة على البشر لأن الترقي يكون من الأدنى إلى الأعلى يقال فلان لا يستنكف من هذا ولا من هو أعلى منه ولا يقال لا يستنكف منه زيد ولا عبده وأجيب بأنه تعالى لم يقل ذلك للترقي من الأدنى إلى الأعلى رفعا لمنزلتهم بل ردا على عبدة الملائكة كما هو رد على عبدة المسيح، أو يقال لعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون اعتبار التكبير كقولك أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس، قال البيضاوي : وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش أو من هو أعلى منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا والنزاع فيه، وقال بعض الأفاضل : إن الأظهر في الدفع أن الترقي بنفي استنكاف الملائكة لأنهم أولى بالاستنكاف لا لفضلهم بمعنى كثرة الثواب بل لأنهم لا يرون فيما بينهم عبادا بخلاف البشر فإن في بني نوعهم كثرة العبودية وشيوع الرقية، قلت : والأولى عندي أن يقال إن الترقي ليس لفضل الملائكة على الأنبياء فضلا كليا بل لشرفهم من وجه وفضلهم فضلا جزئيا ولا نزاع فيه والمعنى أن البشر مع احتياجه لبقاء شخصه ونوعه إلى الأكل والشرب والجماع وغير ذلك وقرب زمان حدوثه وقصر عمره وقرب فنائه كيف يستنكف عن عبودية الله ومخلوقيته وكيف يدعي الألوهية لنفسه مع أن الملائكة مع تجردهم وعدم احتياجهم وطول أعمارهم وشدة بطشهم وعدم ابتلائهم بالأمراض والمصائب والشدائد لا يدعون الألوهية ولا يستنكفون عن عبادة الله والله أعلم. وأيضا إن النصارى أفرطوا في شأن عيسى عليه السلام وبرءوه من العبودية لما رأوا أنه ولد بغير أب وأنه كان يبرئ الأكمة والأبرص ويحيى الموتى، وكان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم فيقال لهم هذه الأوصاف في الملائكة أتم منها في عيسى وهم لا يستكبرون عن العبودية، وأيضا الإشارة إلى أفضلية الملائكة على عيسى ولو من وجه خرج مخرج جواب النصارى حين أفرطوا في شأن عيسى حتى أنزلوه منزلة لم تكن له، كما أن الله تعالى اعتبر فضل خضر على موسى حين سئل هل أحد أعلم منك ؟ فقال : لا، الله تعالى : بلى عبدنا الخضر حتى قال موسى ﴿ لا أبرح حتى أبلغ البحرين أو مضى حقبا ﴾ ١ وقال له ﴿ هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ﴾٢ ﴿ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ﴾ الاستكبار دون الاستنكاف ولذلك عطف عليه، وإنما يستعمل الاستكبار حيث لا استحقاق بخلاف التكبر فإنه قد يكون باستحقاق ﴿ فسيحشرهم إليه جميعا ﴾ فيجازيهم.
١ سورة الكهف، الآية: ٦٠.
٢ سورة الكهف، الآية. ٦٦.
﴿ فأما الذين أمنوا وعملوا الصالحات ﴾ كالمسيح والملائكة والمؤمنين ﴿ فيوفيهم أجورهم ﴾ على حسب وعده إياهم ﴿ و يزيدهم من فضله ﴾ ما شاء من التضعيفات والمعاملات في مقام القرب والرؤية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر ببال أحد وأخرج الطبراني وغيره بسند ضعيف عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا ) ﴿ و أما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبوهم عذاب أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ﴾ فإن قلت : التفصيل غير مطابق للإجمال فإن الضمير المنصوب في قوله تعالى ﴿ فسيحشرهم ﴾ عائد إلى من يستنكف فالمجمل كان ذكر المستنكفين وفي التفصيل ذكر الفريقين، وأجيب بأنه ليس هذا تفصيلا للمنطوق بل لما دل عليه فحوى الكلام كأنه قال فسيحشر المستنكفين إليه جميعا يوم يحشر العباد كلهم للجزاء ﴿ فأما الذين أمنوا ﴾ الخ، أو يقال جزاء مقابليهم بالإحسان تعذيب لهم بالغم والحسرة فكأنه فصل تعذيبهم بوجهين، قال التفتازاني : هذا الجواب ليس بمستقيم لدخوله أما على الفريقين لا على الجزاء للمستنكفين، وقدر صاحب الكشاف في المجمل فسيحشرهم والمؤمنين لاقتضاء التفصيل ذلك، أو لأن أحد المتقابلين يدل على ذكر الآخر، قلت : بل ذكر الفريقين فيما سبق غير المستنكفين في ضمن قوله تعالى﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ﴾، والمستنكفون في ضمن قوله تعالى ﴿ من يستنكف عن عبادته ويستكبر ﴾ فبين الله جزاء الفريقين.
﴿ يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ﴾ يعني المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو المعنى قد جاءكم حجة عليكم من ربكم وهو النبي صلى الله عليه وسلم ( وأنزلنا إليكم نورا مبينا )يعني القرآن فإنه ينكشف به الحق كما ينكشف الأشياء بالنور
﴿ فأما الذين أمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه ﴾ يعني جنة وثوابا قدر له بإزاء إيمانا وعمله رحمة من تعالى لا قضاء لحق وجب عليه خلافا للمعتزلة ﴿ و فضل ﴾ إحسان زائد على ما وعد له في الرؤية ودرجات القرب ﴿ و يهديهم إليه ﴾ أي إلى صراط الله سبحانه الموصل إلى الذات البحث المتعالي عن الشيون والاعتبارات ﴿ صراط مستقيما ﴾ وهو الإسلام والطاعة وسلوك طريق الصوفية في الدنيا وطريق الجنة ومقام الرؤية والقرب في الآخرة، وصراطا حال من المضاف المحذوف في إليه أو يقال تقديره يهديهم مقربين إليه، أو مقربا إياهم إليه فهو حال من الفاعل أو المفعول وصراطا مفعول ثان أو يقال صراطا مستقيما بدل من إليه والله أعلم.
أخرج ابن مردوية عن عمر أنه سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف يورث الكلالة فأنزل الله تعالى ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ ومر معنى الكلالة في أول السورة وروى النسائي من طريق أبي الزبير عن جابر قال : اشتكيت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أوصي لإخوتي بالثلث ؟ قال : أحسن، قلت بالشطر ؟ قال أحسن، ثم أخرج ثم دخل علي فقال ( لا أراك تموت في وجعك هذا، إن الله أنزل وبين ما لأخواتك وهو الثلثان ) فكان جابر يقول نزلت هذه الآية في ١ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : هذه القصة أخرى لجابر غير التي تقدمت في أول السورة. فائدة : أجمع العلماء على أن هذه الآية في بيان ميراث الأخوة والأخوات لأب وأم، كما ذكرنا في أول السورة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقيس عليهم بالإجماع الأخوة والأخوات لأب عند فقد بني الأعيان ﴿ إن امرؤ ﴾ مرفوع بفعل مضمر يفسره ما بعده ﴿ هلك ليس له ولد ﴾ صفة لامرئ أو حال من المستكن في هلك، والولد يعم الذكر والأنثى يعني ليس له ولد ذكر ولا أنثى ( وله أخت ) واحدة لأب وأم يحتمل العطف والحال ﴿ فلها نصف ما ترك وهو ﴾ أي المرء ﴿ يرثها ﴾ أي يرث جميع مال أخته إن هلكت عن أخ لها لأب وأم ﴿ إن لم يكن لها ﴾ أي للمتوفاة ﴿ و لد ﴾ ذكر ولا أنثى وعدم كون الأب والجد للميت مفهوم من الكلالة ﴿ فإن كانتا ﴾ أي من ترث بالأختية ﴿ اثنتين ﴾ فصاعدا بدون الذكر، أجمعوا على أن حكم الزائد على اثنتين حكم الثنتين ﴿ فلهما الثلثان مما ترك ﴾ الأخ ﴿ و إن كانوا ﴾ أي من يرث بالأخوة ﴿ إخوة ﴾ أي جماعة وحكم الاثنين في الباب حكم الجماعة بالإجماع ﴿ رجالا ونساء ﴾ مختلطين كان حق الكلام وإن كانوا إخوة وأخوات رجالا ونساء لكن غلب المذكر ﴿ فللذكر ﴾ أي فالواجب للذكر منهم ﴿ مثل حظ الأنثيين ﴾ يعني إن كان مع الأنثيين أو أكثر ذكر واحد أو أكثر يعطي لكل واحد منهم مثل ما يعطى للأنثيين، ويعلم بدلالة النص أنه إن كان ذكر واحد وأكثر مع أنثى واحدة يعطي للإنثى نصف ما يعطي لذكر واحد منهم والحاصل أنه يجعل سهمان ولكل أنثى سهم.
مسألة : أجمعوا على أنه كما يشترط عدم الولد لكون نصيب الأخت النصف ونصيب الأختين فصاعا الثلثين، كذلك يشترط لذلك الحكم عدم ولد الابن وإن سفل، وعلى أنه لا نصيب للأخوة والأخوات أصلا مع ذكر من الأولاد أو أولاد الابن وإن كان واحدا ومع أنثى واحدة أو أكثر منهم للإخوة والأخوات ذكر كان أو أنثى واحد كان أو أكثر الباقي بعد فرض الإناث من الأولاد وأولاد الابن، أعني بعد النصف للواحدة والثلثين للأكثر منهن، أما للأخوة فلقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( ألحقوا الفرائض بأهلها وما أبقيت فلأولى رجل ذكر ) ٢ متفق عليه من حديث ابن عباس، وكذا للأخت واحدة كانت أو أكثر مع البنت واحدة كانت أو أكثر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة ) ولحديث الهذيل عن شرحبيل قال : جاء رجل إلى أبي موسى وسليمان بن ربيعة فسألهما عن رجل مات عن أبنة وابنة ابن وأخت لأب وأم ؟ فقالا : للبنت النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا، فأتى ابن مسعود فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين سأقضي بما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة للثلثين وما بقي فللأخت٣ رواه البخاري.
مسألة : وأجمعوا على أنه لا يرث الإخوة والأخوات لأب مع أخ واحد ذكر لأب وأم لحديث علي رضي الله عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات يرث الرجل أخوه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه )٤ رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث الحرث عن علي والحرث ضعيف، وقد قال الترمذي : لا يعرف إلا من حديثه لكن العمل عليه وكان عالما بالفرائض، وقد قال النسائي : لا بأس به، وقول الترمذي : العمل عليه حكاية عن الإجماع. مسألة. وأجمعوا على أن للأخت لأب واحدة كانت أو أكثر مع أخت واحدة لأب وأم السدس تكملة للثلثين، قياسا على بنت الابن واحدة كانت أو أكثر مع بنت واحدة صلبية ولا يرثن مع الثنتين من الأخوات للأب وأم لإحرازهما تمام الثلثين إلا أن يكون معهن ذكر فيعصبهن فيقسم الثلث الباقي بعد حظ الأختين ولأب وأم أو النصف الباقي بعد حظ أخت واحدة من الأعيان بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. مسألة : وأجمعوا على أن بني العلات لهم حكم بني الأعيان عند عدم واحد منهم، إما لهذه الآية إن قيل أن لفظ الأخ والأخت يشملهم وترجيح بني الأعيان على بني العلات بالسنة لكن يلزم على هذا الجمع بين معنيي المشترك، وإما بالنقل المستفيض فلأخت واحدة منهم النصف وللثنتين فصاعدا الثلثان ويجوز الذكر منفردا جميع المال، وعند الاختلاط للذكر مثل الأنثيين ويحجبهم الابن وابن الابن والأب والجد ولهم مع الإناث من الأولاد مثل ما لبني الأعيان معهن والله وأعلم ﴿ و يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ أي يبين الله لكم ضلالكم الذي من شانكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتخيروا خلافه، أو يبين لكم الحق والصواب كراهة أن تضلوا، وقال الكوفيون لئلا تضلوا فحذف لا ﴿ و الله بكل شيء عليم ﴾ فهو يعلم مصالح العباد في المحيا والممات والله أعلم.
عن البراء بن عازب قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة وآخر أية نزلت خاتمة سورة النساء ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ ٥ متفق عليه، قال البغوي عن ابن عباس : آخر آية نزلت آية الربا وآخر سورة نزلت ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ( ١ ) و ﴾ وروي عنه أن آخر آية نزلت قوله تعالى ﴿ و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ ٦ ويروي أنه بعد ما نزلت سورة النصر عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاما ونزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش بعدها ستة أشهر، ، ثم نزلت في طريق حجة الوداع ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ فسميت آية الصيف، ثم نزلت بعدها وهو واقف بعرفة ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾٧، فعاش بعدها أحد وثمانين يوما ثم نزلت أية الربا، ثم نزلت ﴿ واتقوا يوم ترجعون فيه إلى الله ﴾ فعاش بعدها احد وعشرون يوما والله أعلم. وفي قوله وعاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد سورة براءة ستة أشهر نظر، لأنها نزلت حين بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر رضي الله عنه أميرا للحج سنة تسع من الهجرة بعد خروج أبي بكر فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا رضي الله عنه بأربعين آية من أول سورة براءة يقرأ على الناس فعاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزوله خمسة عشر شهرا وأياما، فلعل الراوي قال ستة عشر تكميلا للأيام شهرا فسقط لفظ عشر، وكذا في قوله بعد ما نزلت النصر عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاما نظر، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل مكة عام الفتح كان يقرأ سورة النصر كما ذكر في تفسير سورة النصر، وكان الفتح قبل موته صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثين شهرا والله أعلم. تم تفسير سورة النساء من تفسير المظهري حادي عشر شهر رجب سنة ألف ومائة وثمان وتسعين من الهجرة على صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الفرائض، باب ك من كان ليس له و لد و له أخوات (٢٨٨٤).
٢ أخرجه البخاري في كتابه: الفرائض، باب: ميراث الولد من أبيه و أمه (٦٧٣٢) و أخرجه مسلم في كتاب: الفرائض، باب: الحقوا الفرائض بأهلها (١٦٣٦).
٣ أ خرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: ميراث ابنة ابن مع ابنة (٦٧٣٦).
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في الميراث الإخوة من الأب و الأم (٢٠٩٤).
٥ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: حج أبي بالناس في سنة تسع (٤٢٦٤).
٦ سورة البقرة، الآية: ٢٨١.
٧ سورة المائدة، الآية: ٣.
Icon