عدد آياتها : ١٧٦
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح هي قوله تعالى :[ إن الله يأمركم أن تؤدوا الآمانات إلى أهلها ].
ولا جرم أن تكون هذه السورة عظيمة بكونها من أكبر وأشمل السور التي وردت في القرآن الكريم خصوصا وأنها مدنية. فهي بطبيعتها قد جاءت لتشتمل على ضروب شتى من الأحكام والتفصيلات في مختلف أمور الدين و الدنيا من خلال أسلوب قرآني متميز، غاية في الروعة والسموق بما يحقق للقرآن معجزته الخالدة وحجته التي تنطق بإلهية هذا الكلام الرائع الخلاب.
ولدى استعراض السورة نجد حقيقة الشمول الذي يتناول مسائل وجوانب عديدة كان أولها الخطاب الموجه لبني الإنسان كيما يتقوا الله الذي خلق البشرية من نفس واحدة هي آدم أبو الشر ومن زوجه حواء التي خلقها من نفسها ( آدام ) على نحو وكيفية لا نعلمها نحن على اليقين إلا ما ورد في ذلك من أقوال لا تستند إلى حجج قواطع.
وفي السورة تحضيض على ملاطفة اليتامى وألا تؤكل أموالهم بغير حق وبالطرق غير المشروعة فإن ذلك من كبائر الآثام والمعاصي.
وفي السورة كذلك حض على النكاح فإنه من الأمور التعبدية التي تتراوح بين الندب والوجوب بحسب الحال من الرغبة واليسر وامتلاك المهر والنفقة. ثم تعرض الآية في هذا الصدد إلى إباحة تعدد الزوجات في صراحة لا تقبل التأويل أو التمحل الفاسدين. فإن حقيقة التعدد حتى الزوجة الرابعة لا يداور فيها أو يكابر إلا جاهل أو مضطرب يحس بضاغط الهزة تزلزل شخصه وكيانه تحت وابل كثيف من افتراءات الأعداء والخصوم اللّد وهم ينشرون أسباب الشبهة والريبة والظنون حول دين الإسلام ونبيّه الكريم ( عليه الصلاة والسلام ) وفي هذه المسألة بالذات مزيد من البيان المفصل نشرح من خلاله تعدد الزوجات وما يدور حول ذلك من ترّهات ظالمة ساقطة، تبثها أقلام الحاقدين أو المارقين الذين ينعقون نعيق الغربان في جهل مطبق وتقليد فاسد أعمى. وكذلك توجب السورة إيتاء النساء مهورهن على وجه الفريضة وعن طيب خاطر إلا أن تجود أنفسهن أنفسهن بشيء من ذلك لمن يشأن من غير قسر أو إكراه.
وتوصي الآية باختبار اليتامى حتى إذا علم الأوصياء أنهم على درجة مقبولة من التعقل والتمييز وجب أن تدفع إليهم أموالهم وألا تؤكل مبادرة قبل أن يكبروا إلا أن يكون ذلك على وجه الأجرة المشروعة يأخذها الوصي الفقير، أما إن كان غنيّا فإن عليه أن يستعفف.
وفي السورة بيان مجمل سريع لمسألة هي من أجل وأروع ما في الفقه من مسائل. وتلك هي مسألة المواريث.
ومما لا ريب فيه أن مسألة التوريث في شريعة الإسلام قد جاءت على غاية من الإحكام المضبوط الذي لا نظير له في مختلف شرائع الأرض عل مد الأحقاب والأزمان. وهي مسألة هامة وعظيمة باعتبارها بالغة اللصوق بحياة الأفراد والأسر من حيث حقوقهم المشروعة في أموال المورثين، ومن حيث التوزيع الرائع لهذه الحقوق. وسوف نعرض لهذه المسألة لدى تفسير آيات المواريث إن شاء الله.
وفي السورة بيان بالنساء المحرمات من حيث النكاح. وتحريم النكاح يقع تحت أسباب ثلاثة وهي النسب والصهرية والرضاع. وقد ورد ذلك في السورة على نحو وجيز مجمل يتطلب مزيدا من الشروع والتفصيلات التي نقف عليها من خلال السنة النبوية وأقوال الفقهاء المسلمين.
وفي السورة نهي عن أكل الحرام وقتل الإنسان نفسه فإن ذلك عدوان عل الأموال والأنفس، وظلم يحيق بمن تؤكل أمواله بغير حق وبمن هريق دمه ظلما وجورا.
وتأتي بعد ذلك مسألة القوامة وهي المسؤولية وقد نيطت بالرجل باعتباره القيّم والمسؤول عن الأسرة ؛ لما في ذلك من مسايرة لبديهيات الأمور ومراعاة حقيقة لجانب الفطرة التي تنطق بصلاحية الرجل لاحتمال المسؤولية عن البيت ومن فيه من زوجة وأطفال. ولا يعني ذلك شيئا من التحكم والمحاباة أو الاعتساف والاستبداد من غير تشاور مع الزوجة وتقدير لرأيها في البيت. بل المقصود أن يكون الرجل هو المسؤول الأول لكونه مهيئا بعامل الخلقة والفطرة لقيادة الأسرة نحو الخير والسعادة وفي هذا يحرص الإسلام أعظم الحرص على أن يكون عنصر التكامل والتوافق والتآزر مستديما داخل البيت لكي يتبدد من سماء الأسرة والبيت كل شبح يشي بالقطيعة أو التمزق أو يلوح من بعيد ليحمل شيئا من بواعث الفراق أو الطلاق. وفي السورة نهي عن قربان الصلاة ساعة السكر ؛ كيلا يقع للمصلي حال الصلاة شيء من الخلط أو الخطأ. وكذلك فإنه ليس للجنب أن يصلّي إلا بعد اغتسال كامل سابغ. وإن تعسر ذلك لانعدام الماء أو كان في مسه ما يسبب أذى أو ضررا جاز للمصلي أن يتيمم لاستباحة الصلاة وغيرها من تلاوة القرن ودخول المسجد.
ثم تعرض السورة للذين هادوا وهم اليهود الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه عل نحو خبيث من التحريف واللّيّ في العبارة بما يوهم السامع خلاف ما تحويه الصدور المريضة والتي تحتبس في جوفها ركاما من الضغن والكراهية للإسلام والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء الذين هادوا قد أوتوا نصيبا من الكتاب ( التوراة ) يؤمنون بالشرك والطاغوت ويطلقون الفتوى الكاذبة بأن العرب المشركين الجاهلين هم أصوب طريقا وأصدق دينا من المسلمين. وذلك قول ظالم كاذب يستحق قائله اللعنة من الله سبحانه لتصم القائل المفتري بوصمة الزيغ والضلال إلى نهاية الزمان.
ويأمر الله سبحانه وتعالى أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فإن في أدائها وفاء بالعهد الملزم وإبراء للذمة التي تثقل الكاهل وخلوصا بالنفس إل حيث التطهر والاستقامة والبراءة من حقوق الناس.
وبعد ذلك يأتي دور المنافقين وهم فئة ضالة خبيثة مفسدة في الأرض لما تطهره من صلاح خادع مصطنع وما تخفيه من خبايا السوء الذي تنثني عليه النفوس الملتوية المريضة. هذه الفئة الخبيثة المتدسسة تصد عن الإسلام ونبيه صدودا، فتعمل في الظلام لتبث الأكاذيب والإشاعات والشبهات بما ينشر في المجتمع أسباب الريبة والتخاذل والهزيمة. كل ذلك من طرف خفي والناس في غفلة إلا أن ينتبه فريق من المؤمنين الحذرين ليكشفوا عن هؤلاء المنافقين أغشية الدجل والخداع.
ثم يأتي القسم المجلجل الحاسم الذي يتضمن حَلْفا إلهيا مؤثرا بأن أحداً لا يكون على الإيمان الصحيح أو جادّة الإسلام الحق إلا إذا جعل من كلمات الله وسنّه نبيه حكما تنفض به المشكلات والقضايا من غير أن يجد المرء في ذلك شيئا من حرج أو مضايقة. وتلك مسألة هامة وخطيرة ترتسم عندها صورة حية للمفاصلة التامة التي يفترق عندها الحق عن الباطل ويميز الله بها الخبيث من الطيّب أو الشرك بكل صوره وأشكاله عن الإخلاص الذي يستلزم المضيء في خط الله وفي ظلاله من غير انحراف أو ازورار.
وفي معرض التحريض عل الجهاد ومحاربة الأعداء يأمر الله المسلمين في هذه السورة بأن يأخذوا حذرهم ثم ليكن نفيرهم بعد ذلك على الحالة التي يرون لد اندفاعهم في ملاحقة العدو أو مقابلته سواء كان ذلك عل نحو من الكتائب والسرايا أو أن ينفروا جميعا. وفي هذا الصدد تحتوي السورة عل نصيب كبير من الدعوة للحرب لمجاهدة اللئام المتربصين الذين يرفضون شرع الله والذين يبتغون الفساد والخراب في الأرض. ولا ريب أن هؤلاء يقاتلون من أجل الباطل وفي سبيل الشيطان فيجب قتالهم دون تريّث أو هوادة ويجب أن لا يأخذ المسلمين في ذلك شيء من هلع أو خشيه فالله سبحانه هو أحق أن يخشى وأن يطاع.
وفي السورة تبيين لحال القتل سواء كان خطأ أو عمدا. وثمة مرتبة أخرى وسط وهي شبه العمد وهي أقرب للخطأ منها للعمد لانعدام القصد المبيّت بالقتل.
وفي السورة كذلك تجويز لقصر الصلاة عند السفر وذلك أن تتحول الصلوات ذوات الركعات الأربع إلى ركعتين اثنتين. ثم تلي ذلك صلاة من نوع اخر وهي صلاة الخوف وذلك عند حمي الوطيس واشتداد لهيب المعركة.
وفي السورة ما يعرف في الفقه بالخلع، بضم الخاء، وهو المخالعة بين الرجل والمرأة ( الزوجان ) إذا استحكم بينهما الشر من غير اقتدار بعد ذلك عل الاحتمال والعيش. فلا يبق بعد ذلك مناص من المفارقة لكي يذهب كل منهما في سبيله مقابل شيء من المال تدفعه المرأة لبعلها.
ثم تحذّر السورة من مغبة الحيف يوقعه الرجل على المرأة في حال التعدد. وهو حيف ظالم ومحرّم إذا كان ذلك يتم في مجال الواقع والحسّ كالنفقة والمبيت وكل صور الإكرام. أما إن كان التفضيل وجدانيا محشورا في خبايا القلوب فإن ذلك ما لا بأس فيه ولا إثم عليه ؛ لأنه احساس وجداني لا طاقة للرجل عل التحكم فيه.
ثم يأمر الله المؤمنين بتصريف أمورهم وقضاياهم بالقسط مجانبين الميل والمحاباة مهما تكن الظروف وأن تكون شهاداتهم قائمة على الحق والقسطاس المستقيم حتى ولو كان ذلك على أنفسهم بالذات أو أقرب الأقربين إليهم من أبناء وآباء وغيرهم دون أن يأخذهم في ذلك إحساس عاطفي مؤثر تحت وطأة الشعور بالميل صوب الأرحام وأولي القربى أو الشعور بالحدب والإشفاق نحو الفقراء، أو أن يكون ذلك تزلفا للأغنياء ومخاطبة لودّهم ورضاهم.
ثم تعود الآيات الحكيمة لتكشف عن خبايا المنافقين وسوء مقاصدهم وهي تعرض في وضوح مكشوف لكذب المنافقين وخداعهم وسلوكم المتثاقل المصطنع وهم يقومون إلى الصلاة كسالى يراءون الناس. والمنافقون هم مجموعة من البشر الفاسد الذي يسير في الحياة خاوي الضمير، بليد الحس، لا يحفزه للخير أي حافز ولا يستشعر في نفسه إلا كل معاني الخسة والضعة والانحطاط. وهم بذلك أجدر أن يكونوا في الأذلين وأن يكونوا في الدرك الأسفل من النار.
وكذلك تعود الآيات الحكيمة لتكشف عن طبيعة بني إسرائيل فيما فطروا عليه من الشح والضن بالخير وتطاولهم على أنبيائهم بكثرة الطلب والسؤال ثم بالأذى والقتل، وافترائهم عل مريم العذراء البتول ليتقولوا عليها بالزور والبهتان. وفي هذا الصدد تركز الآيات الحكيمة عل نبذ الدعوى المفتراة بقل المسيح وصلبه، وأن ذلك لم يكن إلا من قبيل التشبيه فقط.
ومما يجدر ذكره بعد ذلك كله أن نبين سبب تسمية هذه السورة بهذا الاسم ( النساء ) فنقول إن سورة النساء تحمل في اسمها مدلولا عظيما يشير إل الشأن الواضح الكبير الذي يرسيه الإسلام للمرأة باعتبارها شطر الإنسانية ونصفها المعتبر.
ومن خلال الآيات في هذه السورة يعطينا الإسلام حشدا كبيرا من الاهتمام والعناية بالمرأة في إحقاق حقوقها كاملة والتنذير بالعذاب الشديد لمن يعتدي من الأولياء أو الأزواج عل شيء من هذه الحقوق، وليس في هذا التعدي إلا التجاوز لحدود الله والانتهاك لمحارمه فيما يورد المتجاوز المنتهك موارد الهاوية والسخط من الله.
والقران وهو يعرض لشأن المرأة في إفراز حقوقها وتفصيل واجباتها والتوصية بها والتخويف من النيل منها فإنه يحقق في أذهان الأفراد والأجيال وفي تصورهم فكرة سليمة كريمة عن المرأة كيما تكون عل مر الأجيال موضع إجلال وإكرام. وهي فكرة حقيقية تتأكد على الطبيعة وبالفعل عبر مراحل الحياة التي تمر بها المرأة بدءا بكونها وليدة صغيرة يوصي الإسلام بحسن استقبالها والاغتباط لمجيئها وعدم الامتعاض لدى التبشير بمقدمها، ثم وهي زوجة يوجب الإسلام أن تتكرم وألا تمس بأذى أو مهانة أو اعتداء إلى درجة يوصم معها المعتدي المهين باللؤم، وكذلك وهي أم ف
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ).
الناس من النوس ومعناه الحركة والتذبذب١. وكأنما تتحقق الحركة بوجود البشر حيث التصرف والتعامل والتلاقي وفي أمور تتمثل في حركة دائمة الفعالية والنشاط. والتقوى من الفعل وقى. والاسم وقاية وهي الحماية٢. وهي تعني أن يتخذ الناس من طاعة الله والامتثال لأمره سبيلا يكسبون بها مرضاة الله وستارا يحجب عنهم سخطه وعذابه، وربكم من الرب ويعني المالك٣. والله سبحانه يملك الحياة والأشياء والوجود كله.
وفي هذه الآية يخاطب الله الناس كافة ليتقوه فيأتمروا بأمره ويتجنبوا معاصيه ويقفوا عند حدوده، فهو سبحانه صاحب الفضل والمنّة الذي خلقهم جميعا من أصل واحد وهو أبو البشر ادم عليه السلام ومن زوجة حوّاء التي خلقها الله من ادم نفسه على الطريقة التي لا يعلمها إلا هو سبحانه. فإنه ليس في القران ما يكشف عن كيفية الخلق لحواء. وفي مسألة كهذه نؤثر أن نقف عند مفهوم النص القرآني دون استقصاء إلى ما قد يحمل عل التكلف أو يوقه في الزلل.
ولذلك فإن ادم وحواء هما أبوا البشر كافة وقد خلق الله عن طريقهما تفرعا وتسلسلا هذه الجموع البشرية المنبثة في بقاع الأرض والتي توجد عل هيئات شتى من الشعوب والقبائل والأجناس والأعراق، سواء كان ذلك في الأمصار أو الأرياف أو البوادي أوفي البراري والصحاري وعبر البحار. كل أولئك رجالا ونساء هم من نسل دم ومعه زوجه حواء. وفي ذلك ما يكشف عن شان الله العظيم الذي يتجلى في مقدرته المطلقة بما يجعله سبحانه أهلا للمعبودية دون أحد من خلقه، وليس ذلك إلا بتقدير الله وإرادته وحكمته، فهو سبحانه القادر عل كل شيء والذي لا يعز عليه أن يخلق أو يصنع أي شيء.
وقوله :( واتقوا الله الذين تساءلون به والأرحام ). يأمر الله عباده في تأكيد مكرور بأن يتقوه فهو الذي يتساءلون به. أي الذي يحلّف به بعضهم لبعض وذلك أن يقول أحدهما للآخر سألتك بالله.
( والأرحام ) يحتمل إعرابها وجهين : أولهما : أنها منصوبة عل المفعولية لكونها معطوفة على لفظ الجلالة قبلها. وثانيهما : أنها مجرورة لكونها معطوفة عل الضمير المتصل في الكلمة " به " قبلها.
والراجح القول الأول وهو النصب. فيكون المعنى عل نحو السياق التالي : فاتقوا الله الذي تساءلون به واتقوا الأرحام ؛ لأن ذلك أبعد عن المحظور الذي يقع في الحلف أو التساؤل حلفا بغير الله. فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر أن النبي ( ص ) قال : " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ".
وكذلك روى الشيخان عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا تحلفوا بآبائكم ".
قوله :( إن الله كان عليكم رقيبا ).
ذلك تعقيب مناسب مؤثر يرد في هذا المجال ليؤثر في نفوس المؤمنين فيزدادوا إيمانا ومن ثم يكونون دائمي الصلة بالله ومستشعرين لمخافته التي تمس قلوبهم بغير مبارحة.
وقوله :( رقيبا ) بمعنى حافظ أي مراقب لسائر الأحوال والأعمال، وعالم بالمقاصد والنوايا، فهو سبحانه لا تخفى عليه الأسرار والخفايا.
٢ - مختار الصحاح ص ٧٣٣..
٣ - مختار الصحاح ص ٢٢٨..
يأمر الله الأولياء والأوصياء أن يعطوا اليتامى أموالهم. والمقصود باليتامى هنا الذين كانوا أيتاما فيما مضى ثم بلغوا الرشد، إذ لا يجوز أن تدفع الأموال لليتامى حال يتمهم فإن في ذلك تبديدا وتضييعا لها. وعلى ذلك فإن المقصود في الآية الذين كانوا أيتاما، وذلك كقوله تعالى :( فألقي لسحرة ساجدين ) إذ لا يسجد السحرة ماداموا على حالهم من الضلالة والشرك، ولكنهم سحرة باعتبار ما كانوا عليه من السحر والشرك قبل الإيمان. وكذلك كان يقال للنبي ( ص ) حال كبره ونبوته : " يتيم أبى طالب " وذلك بالنظر ليتمه ؛ إذ كان صغيرا.
قوله :( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) الخبيث والطيب هما صفتان للمال. والمقصود بالخبيث المال الزيف الهزيل أو الرديء الذي تعزف عنه النفس. أما الطيب فهو المال الجيّد المرغوب.
والله سبحانه ينهى الأولياء والأوصياء الذين يرعون اليتامى أن يأكلوا أموالهم الجيدة رغبة منهم فيها ليبذلوا مكانها أموالا رديئة ويقولوا : أموال بأموال. فإن ذلك لا يعدو أن يكون ضربا من التحايل الذي يدفع إليه الطمع والشهوة الجامحة في جمع المال. وذلك حرام بغير شك.
وقيل : الخبيث هو مال اليتيم إذا أكلتموه بغير حق. والطيب هو مالكم الحلال المشروع. أي لا تتبدلوا أموال اليتامى لتأكلوها خبيثة بدلا من أموالكم وهي حلال.
قوله :( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ). أي لا تخلطوا أموالهم بأموالكم فتنفقوا من الخليط بغير تمييز واضح لتضيع أموال اليتامى. فإن خلط أموالهم بأموال الأوصياء طريق التفريط والتبديد بغير داع أو حاجة. وقد كانوا يخلطون أموالهم بأموال اليتامى دون تحرج حتى نزلت هذه الآية فانتهوا عن الخلط خشية الوقوع في الحرام.
وقد قيل : إن النهي عن الخلط قد نسخ بقوله :( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) مما جعل الأوصياء لا يتحرجون من خلط أموالهم بأموال اليتامى عندهم. ولعل الصواب أن نعتبر الآية في النهي موضحة على نحو أكبر بالآية الأخرى في جواز الخلط وليست منسوخة. فإن النسخ عملية إبدال حكم بحكم آخر يقوم مقامة تماما. لكن الوارد هنا أن النهي قد وقع على الخلط الذي تضيع فيه أموال اليتامى فيأكلها من ضم اليتيم إليه. وذلك فيه من سوء النية وفساد القصد ما هو مبين. أما إذا وقع الخلط بغير النية في التعدي على مال اليتيم فإن ذلك ما لا بأس فيه ولا حرج عندئذ في خلط المالين معا.
قوله :( إنه كان حوبا كبيرا ) والحوب الكبير متعلق بخلط المال بنية سيئة. يقال : حاب الرجل حوبّا أي أثم. ويقال في الدعاء : اللهم اغفر لي حوبتي أي إثمي. وتأتي الحوبة بمعنى الحاجة أيضا١.
سبب نزول هذه الآية أن عروة بن الزبير وهو ابن أسماء بنت أبي بكر الصديق قد سأل عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليّها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليّها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن١.
وعلى العموم فإن الآية من حيث سببها متعلقة بالخشية من الحيف يوقعه الوليّ على اليتيمة التي تكون في حجره فيما إذا رغب أن يتزوجها. فعليه إذ ذاك أن يعدل إلى من سواها من النساء تجنبا للظلم أن يقع على اليتيمة.
وقبل الحديث عن هذه الآية بالتفصيل فإنه ينبغي أن نعرض لحملة الحقد والتشويه المضلل التي يثيرها أعداء الإسلام في كل زمان ومكان حول تعدد الزوجات. وهي حملة عارمة خبيثة يثيرها خصوم الإسلام من المنافقين والكافرين، يستوي في ذلك أن الحافز إلى مثل هذه الحملة هو الحقد المركوز في تلك الصدور أو الجهل المطبق الذي يركب رؤوس كثير من المضللين والواهمين والمخدوعين.
على أن الحكم من الناحية الشرعية هنا أن نصم بالكفر أو الردّة كل من يتطاول على الإسلام بما يلصق به شيئا من عيب أو نقيصة. فإن الإسلام هو دين الله وهو فوق كل العيوب والشبهات، وأكمل من أن تناله نقائص أو قوادح.
أما تعدد الزوجات فهو حقيقة صريحة لا تقبل المواربة أو التأويل المتكلف. وهو كذلك إجراء إسلامي ممتاز يحسب للأمور والأحداث والظروف كل حساب. وليس الإسلام قاصرا عل أمة معينة ولا هو رهن بفترة من الزمان تمر كأي زمان. ولكن الإسلام دين البشرية مهما ازدادت أو انتشرت وهو كذلك دين الزمان كله إلى أن ينتهي الزمان كله. وعلى ذلك فإنه قمين بالإسلام أن تتحقق فيه كل عناصر الحيطة والتحسب لكافة الأحوال والملابسات فردية كانت أم جماعية كيلا يقف عاجزا عن مراعاة الظروف مهما امتدت أو الفطرة كيفما تباينت أو تفاوتت.
والإسلام بطبيعته دين وسط يقوم على الاعتدال والتوازن ويجانب التفريط أو المغالاة. فهو لا يفرض الزواج من واحدة فقط مهما تكن الظروف، وهو لا يدع أمر النكاح بغير ضبط أو تحفظ، فلا تفريط يحمل بواعث الضيق والتنطع والإحراج، ولا إفراط أو مغالاة تسوق إلى الإسراف في تلفت وتسيب. بل إن الإسلام يقف من هذه المسألة الخطيرة خير موقف وينتهج أسلم أسلوب. فهو يدعو إلى الزواج أولا ويحذر من التبتّل والعزوبة. فإن كانت الحال عل السلامة والوئام بحيث يغمرها الرضى والطمأنينة والقناعة فبها ونعمت. أما إن كان ثمة ظروف ملحة تفرض شيئا من التعدد تحت اعتبارات شتى فلا مناص إذ ذاك من اللجوء إلى التعدد. وتلكم هي الاعتبارات أو بعضها :
أولها : المرض العضال يصيب الزوجة فيقعدها عن الالتزام بمهام الزوجية وفي مقدمتها المسيس. ولا يستطيع الزوج في حالة كهذه أن يطل مضطلعا بمشقة الاصطبار إلى زمن طويل حتى إنه يخشى عليه من التورط في أسباب العنت والانزلاق إذا ما سدت في وجهه سبل الزواج من أخرى.
ثانيها : العقم فقد تكون المرأة عقيما لا تلد. وفي ذلك من المضايقة والحرج ما لا يخفى إلا إذا أبيح للزوج أن ينكح أخرى عسى أن يرزق النسل. والإنسان مفطور على حب النسل، وهو تظل تخالطه نسائم الشوق والحنين لأبناء وأحفاد تقرّ بهم عينه وتطمئن لهم نفسه. وعلى ذلك فإن من أشد ألوان المرارة التي تحيق بالنفس البشرية أن تسأم التشريع الذي يحرم عليها سببا يقود إلى النسل.
ثالثها : الحرب. وتلك حقيقة لا شك في وقوعها بين الحين والآخر. ذلك أن البشرية دائمة التطاحن والاقتتال المدمر. والشعوب والدول إذا ما اختلفت فإنها لا تتردد في اللجوء إلى أقسى السبل لفض المشكلات والخلافات، وهي الحرب. وهي سبيل معلومة في العود على البشرية والمجتمعات بالقتل. ولا ريب أن يكون القتل في الرجال من أبرز مظاهر الحرب. الحرب التي تذهب بالرجال وتستبقي النساء لأنهن لطبيعتهن أقل اضطلاعا بواجب القتال. وفي ذلك بيان واضح في اختلال النسبة بين الرجال والنساء من حيث العدد، فلا مناص عندئذ من معالجة الموقف بغير التعدد في الزواج، وإلا وقعت مشكلات اجتماعية ونفسية خطيرة لسوف تفضي في الغالب إلى مفاسد وانحرافات.
رابعها : التباين بين الأفراد من حيث المطلب الغريزي. بمعنى أن ثمة تفاوتا متحققا بين الرجال في الرغبة. والناس في أمور الحياة كلها متفاوتون، فهم متفاوتون من حيث أخلاقهم وأمزجتهم، و من حيث طاقاتهم ومهاراتهم و من حيث قدراتهم العقلية والنفسية والروحية والبدنية ’ ومن حيث رغائبهم في المال أو البنين أو الطعام. وهم كذلك متفاوتون من حيث رغائبهم في شهوة الجنس. إذ يفترقون في هذا المجال لتتراوح النفوس والرغبات بين الفتور أو الاعتدال أو الشدة. وتلك هي سنة الله في الناس والخلائق أجمعين.
ومن جهة أخر فإن الإسلام دين صريح ومستبين، يخاطب الإنسان عل نحو مكشوف وواضح وبغير مواربة أو ازورار. ذلك أن الإسلام يعترف للإنسان بما ركّب فيه من شهوات مركوزة فهو ( الإسلام ) يدعوه للأخذ بحظه من هذه الشهوات بعيد عن التحيل أو التدسس في الظلام. إن الإسلام بذلك يدعو بكل صراحة لا تعرف المجاملة أو التكلف إلى أن يمارس الإنسان الشهوة بالطريقة المشروعة الحلال من خلال التعاقد المشهود عل ملأ من الناس. أما أن تكون ممارسة الشهوة في غياهب الظلام وفي بطون المواخير حيث التلصص والخيانة وموات الضمير فذلك ما يأباه الإسلام ويعلن عليه الحرب والنكير. نقول ذلك ونحن نقف على حقائق مذهلة من أفاعيل الأفاكين دعاة التحرر الذين يعيبون على الإسلام صراحته النظيفة في التعدد مع أنهم مرتكسون في حمأة الأوساخ والقاذورات التي تتلطخ بها بيوت الدعارة والخنا ومواخير الفاحشة والرذيلة. وهذه هي الصورة التي يرتضيها المفسدون دعاة التحرر ويدعون لتطبيقها خيانة في الظلام وممارسة الرذيلة في خسة مخبوءة في أوكار الوحل والدنس. أما أن يتم ذلك بالتعاقد المشروع المشهود من خلال نكاح شرعي حلال فإن ذلك أمر مشين ومقبوح يعيبه المفسدون دعاة التحرر المبتذل ! ! إن هؤلاء لا يعارضون أن يقارف الرجل الشهوة مع عشرات النساء في المواخير وبيوت الدعارة، أم أن يمارسها في زواج ثان مشروع ومحسوب فذلك تأخر ورجعية كما يتصور الأفاكون المضللون ! !
ثم متى يقع الحيف على الزوجة الثانية الجائية من جراء التعدد في الزواج ؟ إنه لم يوقع أحد عليها حيفا ؛ لأنها ارتضت الزواج بنفسها من غير قسر أو إكراه. ولو أن شيئا من القسر أو الإكراه قد وقع عليها حين الزواج لجاز أن تعتبر محيفة لكنها هي التي ارتضت لنفسها ذلك بمحض رغبتها ومطلق إرادتها.
أما الزوجة الأولى التي قد جيء إليها بضرة فإنها ليس لها أن ترفض حقا لزوجها لتحرمه من التمتع به تحت مختلف الأحوال والظروف كما بينا آنفا. لكنها إن وقع عليها حيف بسبب هذا الزواج وكان الحيف حقيقيا وخطيرا ومتعمدا من الزوج نفسه بحيث يترتب عليها من ذلك ضرر كيفما كان، فإن لها أن ترفع الأمر إل القضاء. وشأن القاضي في ذلك أن يرفع عنها الضرر حتى ولو أد ذلك إلى التطليق.
بعد هذا الكلام لا نتصور أن حيفا أو ضررا حقيقيا يقع على إحدى الزوجتين. ولو أن شيئا من ذلك وقع فإنه لا يساوي حيفا أو ضررا يحيق بالرجل من جرّاء إكراه على الاكتفاء بواحدة مهما تكن الظروف. لا جرم أن إكراهه في ذلك مدعاة لكثير من احتمالات الجنوح وفساد النفس والأعصاب.
ولا نتصور كذلك أن مثل هذه الشبهة غير اجترار تلغط به حناجر الذين يكرهون الإسلام لدوافع شتى منها الحقد أو الحسد، ومنها التقليد في نعيق سفيه أعمى للأجانب من شرقيين ملاحدة أو غربيين صليبيين واستعماريين وجميعهم يلتقون على صعيد الحقد والكراهية للإسلام والمسلمين.
قوله :( فأنكحوا ما طاب لكم من النساء ) قد يرض سؤال هنا : كيف جاءت " ما " للادميين مع أنها تستعمل لغير العاقل. فقد قيل في ذلك عدة أقوال لعل خيرها أن " من " و " ما " قد يتعاقبان. ومثل ذلك قول الله سبحانه :( والسماء وما بناها ) أي ومن بناها. وقوله أيضا :( فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي عل رجلين ومنهم من يمشي على أربع ). وعلى ذلك فإن هذين الاسمين يتعاقبان وقيل :( ما ) هنا للصفة أي انكحوا الطيب من النساء أي الحلال والأمر في قوله :( فأنكحوا ) للإباحة لا للوجوب على الأرجح. أي أن الله جلت قدرته قد أباح للمؤمنين الزواج ممن يحل من النساء. فقد اكتفى بذكر من يجوز نكاحها ؛ لأن المحرمات من النساء كثير.
قوله :( مثنى وثلاث ورباع ) إعراب كل من هذه الأعداد النصب على البدل من الاسم الموصول " ما " وكل من هذه الأعداد نكرة لا تنصرف ؛ لأنها معدولة من لفظها. بمعنى أم مثنى معدولة عن اثنين، وثلاث معدولة عن ثلاثة، ورباع معدولة عن أربعة. ٢ وتعني الآية إباحة التعدد بالخيار من الواحدة حتى الرابعة دون زيادة. وأي زواج من خامسة مع وجود أربع زوجات فهو باطل غير معتبر ولا مشروع. ولا يدل هذا العدد الوارد في الآية وهو المثنى والثلاث والرباع على إباحة تسع زوجات بزعم أن الواو تفيد الجمع. فإن هذا الفهم فاسد ؛ لمجانبته للظاهر المحكم من الكتاب والسنة ولمخالفته لما أجمع عليه سلف الأمة وخلفها مثلما هو مخالف للسان العرب. فالعرب لا تقول اثنين وثلاث وأربعة بدلا من قولها تسعة. وثمة فهم خر أشد قبحا ونكرا تمسك به بعض الروافض فقالوا بإباحة الجمع بين ثماني عشرة زوجة قائلين : إن العدد في هذه الألفاظ يفيد التكرار وأن الواو للجمع. فمثن تعني اثنين اثنين. وثلاث تعني ثلاثة ثلاثة. فأفاد ذلك إباحة الزواج من ثماني عشرة زوجة معا. وذلك مناف للشريعة واللغة في آن واحد.
وعلى ذلك فإن التحديد بأربع زوجات للإباحة أمر لا يقبل الجدال. وفي ذلك قد أخرج الإمام مالك في الموطأ وكذلك النسائي والدارقطني في سننهما أن النبي ( ص ) قال لغيلان بن أمية الثقفي بعد أن أسلم وله من الزوجات عشر نسوة : " اختر منهن أربعا وفارق سائرهن ".
وأخرج أبو داود في سننه عن الحارث بن قيس قال : أسلمت وعندي ثماني نسوة فذكرت ذلك للنبي ( ص ) فقال : " اختر منهن أربعا ".
أما ما أبيح للنبي ( ص ) فوق أربع فإن ذلك من خصوصياته وذلك أمر مبني على بواعث وأسباب فرضتها اعتبارات شتى من التشريع الذي يتعلق بهدم لمفاهيم وتصورات جاهلية، أو التحبب لمختلف بطون العرب ورجالاتهم ذوي الصولة والمكانة، أو الحدب على المضيعات من النساء المسلمات اللواتي انقطعت بهن الأسباب بعد ممات أزواجهن فتعرضن للفتنة والضياع وغير ذلك من الاعتبارات التي تحركها المصلحة العليا للدعوة الإسلامية.
وبذلك فإن الاحتجاج بزواج النبي من تسع لا يصلح دليلا في هذا المجال. أما قولهم بأن الواو جامعة فإن ذلك مخالف لقواعد اللسان العربي السليم. فالله سبحانه قد خاطب العرب بأفصح اللغات ولا يعقل أن تقول العرب اثنين وثلاثة وأربعة ولا تقول تسعة. وا
٢ ـ البيان ج ١ ص ٢٤١..
الصدقات مفردها صدُقة بضم الدال، وهي المهر يعطي للمرأة حال الزواج، ١ ونحلة بمعنى عطية أي أن الله هو الذي أعطى النساء مهورهن. وقيل : نحلة معناها عن طيب نفس وبغير نزاع. وقيل : نحلة تعني : فريضة واجبة. ٢
والمخاطب في هذه الآية موضع خلاف المفسرين. فثمة قول بأنهم الأزواج قد أمرهم الله بعطاء الزوجات مهورهن دون تردد أو شح. وفي قوله آخر : إنهم الأولياء وقد كلفهم الله ألا يأكلوا مهور البنات عند الزواج كالذي كان عليه الشأن في الجاهلية، وقد أورد أهل البيان معنى لطيفا مأخوذا من نوعية الحروف التي تتألف منها كلمة الصداق وهي الصاد والدال والقاف. وقالوا : إن هذه الحروف تنطوي على الشدة والحزم وهي إنما يليق استعمالها في مجال العزم والقوة. وفي ذلك دلالة على أن مهر المرأة قد شددت الشريعة عل دفعه للمرأة بحزم من غير وناء أو لين. وتدل الآية على وجوب الصداق للمرأة عند الزواج بغير خلاف. فقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن أقل المهر عشرة دراهم. وقال الإمام مالك : إن أقله ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وقال آخرون : إنه يصح أن يكون المهر عملا يؤديه الزوج لزوجته كأن يكون ذلك تعليما أو زراعة أرض. ويصح أن يكون المهر كذلك منفعة من المنافع التي تتقوم بالمال مثل سكنى الدار أو الانتفاع بالأرض.
وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا حد لأقل المهر، وقالوا : إن كل ما يصلح أن يسمى مالا جاز أن يكون مهرا لقول النبي ( ص ) لأحد الخاطبين :" التمس ولو خاتما من حديد " ٣.
ويحل للأزواج أو الأولياء أن يأكلوا شيئا من المهر إن طابت به أنفس الزوجات وقدمنه بغير قسر أو إكراه أو استحياء. وقوله ( نفسا )، منصوب على التمييز.
وقوله :( فكلوا هنيئا مريئا= ليس المقصود هنا صورة الأكل بالذات، بل المراد هو استباحة الاستفادة والاستغلال بأي وجه من وجوه الانتفاع. وقد ذكر الأكل لوقوعه في الغالب.
( هنيئا مريئا ) كلاهما منصوب على الحال. والتقدير هو : فكلوه أكلاه هنيئا مريئا. والهنيء معناه الطيب الذي لم يأت بتعب أو مشقة. والمرئي السهل الذي لا ضرر فيه ولا أذى.
٢ - المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٦٣ وتفسير الرازي جـ ٩ ص ١٨٦..
٣ - بداية المجتهد جـ ٢ ص ١٨ وتفسير القرطبي جـ ٥ ص ٢٤ وما بعدها والثمر الداني ص ٤٣٦..
وفي قوله :( أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) ما يشير بوضوح إلى أن المسلمين جميعا مستخلفون في المال وأنهم جميعا مدعوون بالحفاظ على المال وصونه ؛ كيلا يتبدد بسبب السفه والسفهاء. والمال وإن كان يملكه صاحبه لكنه مجرد أمانة في ذمة صاحبه يتوجب عليه أن يحافظ عليها فيرعاها وينميها لينتفع بها هو والمسلمون من حوله. وليس لأحد أن يزعم أنه حر في ماله بإطلاق ما دام يملكه. بل إنه حر بالقدر الذي لا يتضرر به المال فيتلاشى ويتبدد. أو أنه حر بقدر متوسط ومناسب بحيث يستطيع القيام بتنمية هذا المال الذي في حوزته فلا يتضرر هو والآخرون من جراء انعدام المال والافتقار. وقوله :( قياما ) أي تقوم بها معايشكم وتصلح بها أموركم في دوام من الحال وثبات. وقياما، مصدر بمعنى الثبات والدوام في صلاة الحال١.
وقوله :( وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ). بعد أن يقوم الحجر على السفهاء فلا يتصرفوا في المال بغير هدى أو تبصر سليم وجب ألا يقع عليهم حيف. فإنه على الأوصياء أو الأولياء الذين يتصرفون في أموال السفهاء بالحق أن ينفقوا على هؤلاء السفهاء ليبذلوا لهم كل ما يحتاجون إليه من وجوه الرزق والاكتساء والإيواء فيتمكنوا من العيش بخير وراحة. وكذلك يندب الله الأولياء والأوصياء أن يقولوا للسفهاء قولا معروفا مثل الدعاء لهم بالقول : بارك الله فيكم، أو مخاطبتهم باللين وكريم القول بما فيه ترضية لنفوسهم وتطييب لخواطرهم.
نزلت هذه الآية في ثابت بن رفاعة وفي عمه. فقد توفي رفاعة وترك ابنه صغيرا من بعده فأتى عم ثابت إلى النبي ( ص ) وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله ؟ فنزلت الآية١.
قوله :( وابتلوا اليتامى ) أي امتحنوهم واختبروهم لتعلموا نجابتهم ومعرفتهم بالسعي في مصالحهم وضبط أموالهم، ويكون ذلك عقب بلوغهم النكاح أي البلوغ أو الحلم.
قوله :( فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) الرشد معناه : الصلاح وإصابة الصواب، وهو خلاف الغي والضلال والمراد به هنا : الصلاح في العقل والدين وحفظ المال٢ أي إن أبصرتم وأحسستم منهم صلاحا في العقل والدين وحفظ المال ولم تخشوا منهم تفريطا في المال وتبديدا فأعطوهم أموالهم التي كانت لهم بحوزتكم وتحت رعايتكم.
ويؤخذ من هذه الآية أن دفع المال لليتيم إنما يكون بشرطين هما : إيناس الرشد ثم البلوغ. فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال إليه. وذلك الذي عليه جمهور الفقهاء. لكن أبا حنيفة قد أسقط إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. فإنه لو بلغ اليتيم خمسا وعشرين سنة وجب دفع المال إليه ولو لم يكن راشدا. وقد علّل أبو حنيفة ذلك بأنه ( الموصى عليه ) في مثل هذه السن يصبح جدا ولا يعقل أن يحجر على الجد. والراجح عندي ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من بقاء الحجر عليه مادام غير راشد بالغا من السن ما بلغ. وذلك ما يقتضيه ظاهر الآية ( رشدا ) فلا معنى لدفع المال إليه ما دام مفرطا في المال، وغير صالح في التصرف ؟
واختلف الفقهاء في لزوم الرفع إلى السلطان عند دفع المال إلى اليتيم أم أن ذلك موكول إلى اجتهاد الوصيّ فسه من غير حاجة إلى إبلاغ السلطان. فقد ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب الرفع إلى السلطان ليثبت عنده رشد اليتيم ثم يدفع إليه ماله. وقال آخرون : إنه يكفي في ذلك اجتهاد الوصي ومعرفته بحال اليتيم إن كان قد بلغ الرشد أو لم يبلغ.
ولو أن الوصيّ سلّم اليتيم ماله بعد الرشد ثم عاد إليه السفه لتبذير أو سوء تدبير أو غيره فعل يعود إليه الحجر في ماله ؟ قال مالك والشافعي في أحد قوليه بعودة الحجر. وقال أبو حنيفة : لا يعود إليه الحجر لمجرد بلوغه عاقلا وذلك بدليل صحة إقراراه في الحدود والقصاص. واستبدال مالك والشافعي على عودة الحجر بقوله تعالى :( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) وهذا هو الراجح والله أعلم٣.
وقد ورد في بيان كلمة ( بالمعروف ) أقوال عديدة نقتصر منها على اثنين. فقال قوم : المقصود بالمعروف هو القرض يأخذه الوصي من مال اليتيم إذا احتاج إليه حتى إذا أيسر قضه إياه. وهو قول كثير من أهل العلم منهم عمر بن الخطب وعبد الله بن عباس والأوزاعي وغيرهم. أما القول الثاني : فلا قضاء على الوصيّ الفقير فيما يأكل بالمعروف ؛ لأن ذلك في مقابل حرصه وانشغاله بالعناية والاهتمام بمال المحجور. وهي طعمة من الله له. وقدر المعروف هنا أن يأكل ما يسد جوعته ويكتسي بما يستر عورته ولا يلبس الرفيع الفاخر من الحلل وغير ذلك. وذلك هو قول جمهور الفقهاء. وهو الراجح، والدليل على صحة ذلك إجماع الأمة على أن الإمام الناظر لشؤون المسلمين لا يجب عليه دين عوضا عما أكل بالمعروف من أموال المسلمين.
قوله :( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ) إذا دفع الوصيّ مال اليتيم إليه بعد البلوغ والرشد فعليه الإشهاد على ذلك وهو من قبيل التثبت وإزالة الشبهة والتهمة. وهذا الإشهاد مستحب عند فريق من أهل العلم. وقال آخرون : بل انه فرض لظاهر الآية والله أعلم.
والتعقيب المناسب في الآية أن يخوف الله عباده الأوصياء فلا يميلوا أو يقصروا، فإنه سبحانه يجازيهم على أفعالهم أو ما تكنه صدورهم وكفى به محاسبا ومجازيا٤.
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ٢٤٣ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٥٣ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٢٠٨ وتفسير القرطبي جـ ٥ ص ٣٧-٤٠..
٣ - البدائع للكساني جـ ٧ ص ١٧١ والمجموع جـ ١٣ ص ٣٧٧ والمغني جـ ٤ ص ٥١٨ وبلغة السالك على شرح الدردير جـ ٢ ص ١٤٠..
٤ - الكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٥٠٢ وتفسير الرزي جـ ٩ ص ١٩٧ -١٩٩..
ولعل في تسمية السورة – أساسا- بهذا الاسم ما يحمل الدلالة على مدى الحرص الذي يحشده الإسلام وهو يحوط النساء بالاهتمام والرعاية ليدفع عنهن كل بوائق التعدي والظلم ويجلب لهن أسباب الخير والتقدير والإكرام. واهتمام السورة بأمر النساء إلى هذا الحد العظيم كان مدعاة تلفت النظر إلى الدرجة التي تتسمى فيها السورة كلها باسم " النساء ".
أما قوله :( فارزقوهم ) فإنه يفيد الندب والترغيب وذلك من باب الاستحباب لعمل الخير والشكر لله سبحانه وتعالى. وقيل : إن الآية تدل على الوجوب أخذا بالظاهر. وإن كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله للحجر عليه فهل يُعطي وليّه من ماله لمن بينّا آنفا ؟ فقد قال فريق من العلماء بأن له ذلك. وقيل : لا يعطي بل يعتذر لمن حضر القسمة بأنه ليس له من المال شيء إنما هو لليتيم.
قوله :( وقولوا لهم قولا معروفا ). مع تقديم الرزق لمن حضر القسمة من الأقارب واليتامى والمساكين يقول لهم الورثة : خذوا بورك لكم، أو : وددت أن لو كان أكثر من هذا. أو من هذا القبيل وكله من القول المعروف.
وليخش : اللام للأمر. والمقصود في الآية موضع خلاف العلماء. فقد قيل : هم الأوصياء، فإن الله يعظهم أن افعلوا باليتامى من الخير والنصح والرعاية ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم. وقيل في رأي ثان : المراد جميع الناس فقد أمروا بأن يتقوا الله في اليتامى فيحسنوا معهم المعاملة ويسددوا لهم القول مثلما يريدون أن يُفعل بأولادهم من بعدهم.
وفي قول ثالث لجمع كبير من المفسّرين وهو الراجح، أن الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره عند وصيته : إن الله سيرزق ولدك فانظر لنفسك وأوص بمالك كله أو معظمه في سبيل الله، فيأتي على ماله أو غالبه مما يوقع ضررا فادحا بورثته فنهاهم الله عن ذلك. وعلى ذلك فالنهي والتحذير هنا متعلقان بمن يحضر الوصية إذا حضرت الوفاة المورث. فكأن الآية تقول لهم : مثلما تخشون على ورثتكم وأهليكم وذريتكم من بعدكم فكذلك خافوا على ورثة غيركم وذريتهم ولا تحملوا الموصي الموروث على التبذير في العطاء والوصية ليدع من بعده أهله عالة فقراء يتكففون الناس.
قال ابن عباس في ذلك : إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول : أوص بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك ولكن يقول قدّم لنفسك واترك لولدك، فذلك قوله تعالى :( فليتقوا الله ).
قوله :( وليقولوا قولا سديدا ) القول السديد هو الكلام العدل أو الصواب من القول والفعل١، والمعنى أن الله سبحانه يدعو الحاضرين للوصية أن يأمروا المريض وهو المورث الموصي بأن يوصي من ماله بالقدر المناسب الذي لا يلحق ضررا بورثته.
ولا ينحصر الاعتداء في الأكل، بل إنه يشمل كل وجوه الأخذ والإتلاف. لكنه قد ذكر الأكل لكونه الغالب في كيفية الاستفادة من المال. وفي الجملة فإن الاعتداء على مال اليتيم بأكله أو استلابه وأخذه بغير حق لا جرم أن يكون ظلما، والظلم معناه وضع الشيء في غير موضعه، وهو انحراف وميل عن القسطاس المستقيم وعن شرع الله الحكيم. والآكلون لأموال اليتامى هم من الظلمة الفسّاق الذين ستكتوي جلودهم وأبدانهم بلظى النار الحارقة فضلا عن أكل النار إذ تلج بطونهم فتتأجج فيها تأججا.
ومن لطيف المعنى المنبثق من التعبير بالبطون أن يكون في ذلك بيان لنقص الآكلين وخستهم وما هم عليه من ضعة وابتذال وفساد للطبع. ولا جرم أن يكون ذلك من التشنيع عليهم وإركاسهم في الهوان والحضيض.
وفي ذلك روي عن أبي سعيد الخذري قال : حدّثنا رسول الله ( ص ) عن ليلة أسري به قال : " رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكّل بهم من يأخذ بمشارفهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت : يا جبريل من هؤلاء. قال : هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " وعلى ذلك فإن أكل مال اليتيم لهو من كبائر الإثم والفواحش التي تودي بالآكلين الظالمين في العذاب الشديد.
قوله :( وسيصلون سعيرا ) من الصلي أو الصلاء وهو حر النار أو الوقود، أو هو التسخين أو التحمية بالنار سواء كان ذلك بالاقتراب منها أو مباشرتها١.
هذه الآية، وما بعدها في المواريث تبيين وتفصيل لما أجمله قوله تعالى :( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون... ) ولا جرم أن هذه الآية التفصيلية وما بعدها مما تعلق بالمواريث لهي من أركان الشريعة الإسلامية ومن أمهاتها. فهي آيات عظيمة القدر والمعنى ؛ لاحتوائها على أخص الحقوق للبشر وهي الفرائض ( المواريث ) التي روي أنها ثلث العلم أو نصفه وهو أول علم ينزع من الناس وينسى. وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( ص ) قال : " تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو أول شيء ينسى وهو أول علم ينتزع من أمتي ". وروى البيهقي عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله ( ص ) : " تعلموا القرآن وعلّموه الناس، وتعلموا الفرائض وعلّموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما ".
والسبب في نزول هذه الآية موضع خلاف العلماء، وقد ورد في ذلك جملة أقوال نجتزئ من بينها ما نجده صوابا. لما رواه في ذلك الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارقطني عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت : يا رسول الله إن سعدا هلك وترك بنتين وأخاه فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يجبها النبي في مجلسها ذلك. ثم جاءته فقالت : يا رسول الله ابنتا سعد ؟ فقال رسول الله ( ص ) : " ادع لي أخاه " فجاءه فقال له : " ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي ".
وقيل في سبب النزول : إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو فنزلت الآية لتبين أن لكل صغير وكبير حظه في التركة، يستوي في ذلك أن يكون ذكرا أو أنثى١.
قوله :( يوصيكم الله في أولادكم ) ذهبت الشافعية إلى أن المقصود على الحقيقة هم أولاد الصلب، أما أولاد الأبناء فهم أولاد على المجاز لا الحقيقة. وخالف في ذلك أبو حنيفة وقال بدخول أولاد الأبناء على الحقيقة إن لم يكن ثمة أولاد أصلاب٢.
ولا يؤخذ بظاهر الآية على إطلاقها ليدخل في الميراث جميع الأولاد ولو كانوا كفارا. فإن ذلك الإطلاق مقيّد بحديث النبي ( ص ) : " لا يرث المسلم الكافر " وبذلك لا يتوارث المسلمون وغير المسلمين إنما يتوارث أهل الملة الواحدة. وفي ذلك روى البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث عن أسامة أن النبي ( ص ) قال : " لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر ".
ولا يرث القاتل لمورّثه عمدا كان أو خطأ. فإن قتله عمدا فلا يرث بالإجماع. أما إن قتله خطأ فلا يرث أيضا عند جميع المذاهب باستثناء الإمام مالك إذ قال القتل الخطأ لا يمنع التوريث. ولعل ظاهر الدليل من السنّة يجعل رأي الجمهور الصواب فإن النبي ( ص ) يقول فيما رواه ابن ماجه : " ليس لقاتل ميراث " وهو نص صحيح لا نقف على ما يقيده فأجدر أن يؤخذ بإطلاقه.
والفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى ستة هي : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس. أما النصف فهو فريضة خمسة من الورثة هم : ابنة الصلب، وابنة الابن، والأخت الشقيقة والأخت لأب، والزوج. وذلك في حال انفرادهم عمّن يحجبهم من هذه الفرائض أما إن كان ثمة من يحجبهم انخفض فرض كل منهم بحسب حاله.
وأما الرابع فهو فرض الزوج مع الحاجب وهم الأولاد. وفرض الزوجات مع عدم الحاجب من الأولاد.
وأما الثمن فهو فرض الزوجة والزوجات مع وجود الحاجب من الأولاد.
وأما الثلثان فهو فرض أربعة من الورثة هم : اثنان فأكثر من بنات الصلب، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، أو الأخوات لأب. وذلك في حالة انفراد هؤلاء عمن يحجبهن عن هذه الفرائض.
أما الثلث فهو فرض صنفين وهما : الأم مع عدم الولد أو ولد الابن أو عدم الاثنين فأكثر من الإخوة والأخوات. ثم فرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم وهذا هو ثلث كل المال. أما ثلث ما يتبقى من المال فهو للأم وذلك في حالة الزوج والزوجة والأبوين فإن للأم فيها ثلث ما يبقى.
وأما السدس فهو فرض سبعة وهم : الأبوان والجد مع الولد وولد الابن، ثم الجد والجدات إذا اجتمعن، ثم بنات الابن مع بنت الصلب، ثم الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة ثم الواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى.
على أن الأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء : نسب ثابت، ونكاح منعقد، وولاء عتاقة. وقد تجتمع الثلاثة في آن واحد كأن يكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها فيرث بالنسب والزوجية وولاء العتاقة. وقد يجتمع منها شيئان فقط كأن يكون الرجل زوج المرأة ومولاها، أو زوجها وابن عمها فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد، فله بذلك نصف المال بالزوجية والنصف الآخر بالولاء أو النسب٣.
أما أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين فإن ذلك غاية في الاعتدال والنصفة، وغاية في التقسيم الذي يراعي حاجة الصنفين وهما الذكر والأنثى. وهذا التقسيم المتوازن السليم إنما ينبثق من تصور الإسلام للحياة والمجتمع ومن تشريعه المتميز الذي ينظّم حياة الأفراد والجماعة على غاية من الإحكام والترابط والعدل. والإسلام في هذه المسألة بالذات يوازن موازنة تامة بين الحقوق والواجبات أو بين حاجة كل من الرجل والمرأة للمال نظرا للتفاوت بينهما في مدى الحاجة للمال ؛ كيلا يكون شيء من حيف أو إرهاق أو مكابرة.
والمرأة في التوريث لها من النصيب نصف ما للرجل باستثناء بعض الأحوال في تقسيم التركة، وهي لها من الحظ بقدر ما تضطلع به من التزام، أو هي تتلقى من المغنم بما يكافئ ما عليها من مغرم جزاء وفاقا.
ومن المعلوم في شريعة الإسلام أن المرأة لا تضطلع بأعباء مالية في معظم مراحل حياتها. فهي يضطلع بالإنفاق عليها وليها الأب أو الجد أو غيرهما حال كونها غير متزوجة، وإذا لم يكن أحد من الأولياء فالوالي هو الولي. وهي كذلك في بيت الزوجية لا تضطلع بشيء من التزام مالي كيفما كان حتى ولو كانت موسرة وزوجها معسرا عند كثير من العلماء. وفوق براءتها من الاضطلاع بمهمة الإنفاق فقد كتبت لها الشريعة نصيبا مفروضا من التركة وهي نصف الذكر.
وليس لأحد بعد هذا التصور أن يتحذلق في سوء طوية وفساد قصد ليفتري على الإسلام الأباطيل من حيث يعلم أولا يعلم. إنه لا يجترئ على الطعن في الإسلام إلا كل جاحد كافر، أو مضلّل مخدوع، يهذي بما لا يدري إلا أن يردد كالببغاء ما تلعقه ألسنة الحاقدين والمتعصبين من أعداء الإسلام ممن أفرزتهم الحضارة الغربية الحديثة بكل مفاسدها وضلالاتها وشرورها وتمردها على رسالات السماء.
قوله تعالى :( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) فرض الله للبنت الواحدة نصف التركة. وإن كانت البنات ثلاثا فأكثر فلهن ثلثا التركة بدليل الآية المذكورة. أما البنتان الثنتان فليس فيهما نص واضح هنا فاختلف العلماء في الذي يعطي للبنتين. فثمة قول بأن لهما النصف كما ذهب ابن عباس. والراجح أن لهما الثلثين بالقياس على الأختين اللتين قال الله فيهما :( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ).
قوله :( وإن كانت واحدة فلها النصف ) أي إذا كانت المولودة واحدة فلها نصف التركة وإن كان مع بنات الصلب بنات ابن وكانت بنات الصلب اثنتين فصاعدا حجبن بنات الابن فلا يرثن بالفرض ؛ لأنه لا مجال لبنات الابن في التوريث بالفرض في غير الثلثين. وإن كانت بنت الصلب واحدة فإن ابنة الابن أو بنات الابن يرثن حينئذ مع بنات الصلب تكملة للثلثين ؛ لان " الثلثين " فرض تشترك فيه البنتان فصاعدا. وبنات الابن يقمن مقام البنات عند عدمهن، وكذلك أبناء البنين يقومون مقام البنين عند عدمهم٤.
فلو توفي عن زوجة وبنت وبنت ابن وأخت. كان للزوجة الثمن وللبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين وهو فرض البنات، وما بقي فهو للأخت. ولو توفي عن زوجة حبلى قسمت التركة بين الورثة الموجودين على أن تحتجز حصة الجنين ريثما يولد ؛ لأنه يرث ويورث إذا خرج حيا واستهل ( بكى عند الولادة ) أما إن خرج ميتا فلا يرث وأعيد توزيع حصته على الورثة كل بحسب نصيبه.
وحق الجنين في التوريث معتبر، فإذا قسمت التركة حسبت حصته على أنه ذكر، وقيل حسبت على أن الجنين توأمان وقيل ثلاث وقيل أكثر. وفي ذلك دلالة على الاهتمام بالمولود كي يتمكن من العيش في خير وعافية.
وترد هنا مسألة الخنثى فهل يورث باعتباره ذكرا أم أنثى وكيف يتحقق من نوعيته على إحدى الصورتين ؟ والمسألة موضع خلاف طويل نقتصر من ذلك كله على بيان واضح ومجمل، وهو أن العلماء اتفقوا على أن الخنثى يمكن توريثه على الكيفية التي بها يبول. فإن بال من حيث يبول الرجل ورث كما يرث الرجل، وإن بال من حيث تبول المرأة ورث كما ترث المرأة. فهو معتبر على الكيفية التي بها يبول ومن ثم يكون على إحدى الصورتين إما الذكورة أو الأنوثة. وهناك أقوال كثيرة في هذا الصدد لا مجال لذكرها هنا٥.
قوله :( ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك وإن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ).
المقصود بالضمير في أبويه هو المتوفى. والأبوان هما الأب والأم ولهما في الإرث أحوال :
أولها : أن يجتمعا مع أولاد الميت فيفرض لكل واحد منهما السدس. فإذا لم يكن للميت غير بنت واحدة كان لها الصنف ولكل واحد من الأبوين السدس. والسدس الآخر للأب بالتعصب فيرث في هذه الحالة بالفرض والتعصب.
ثانيها : أن ينفرد الأبوان بالميراث فيكون للأم الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب فقط.
ولو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع. ثم ماذا للأم بعد ذلك ؟ هناك ثلاثة أقوال للعلماء في هذه المسألة :
القول الأول : إن تأخذ الأم ثلث الباقي في المسألتين وليس ثلث المال كله ؛ لأن الباقي يعتبر كأنه جميع المال الموروث بالنسبة لها، مع أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لها نصف ما للأب فيكون لها بذلك الثلث وللأب الثلثان. وذلك الذي ذهب إليه جمهور العلماء.
القول الثاني : إن الأم تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله تعالى :( فلأمه الثلث ) وهو قول ابن عباس وعلي ومعاذ بن جبل.
القول الثالث : إنها تأخذ ثلث جميع المال في حال الزوجة لا الزوج. وتأخذ ثلث الباقي في حال الزوج ؛ وذلك لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال. فتكون المسألة هنا من ستة أسهم. للزوج النصف وهو ثلاثة أسهم. وللأم ثلث الباقي وهو سهم. وللأب الباقي وهو سهمان. ويبدو أن القول الأول هو الراجح وهو أن تأخذ الأم ثلث الباقي في الحالتين.
ثالثها : أن يجتمع الأبوان مع الأخوة سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم. فلا يرث الإخوة مع الأب شيئا ؛ لأنه يحجبهم. أما الأم فإنهم يحجبونها حجب نقصان إذ تأخذ السدس بدلا من الثلث فيفرض لها مع وجودهم السدس ولا يرثون. وه
٢ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٥٩ وفتح القدير ج ـ ١ ص ٤٣١..
٣ - تفسير القرطبي جـ ٥- ص ٦٠ والمجموع جـ ١٦ ص ٥٣ والأنوار للأردبيلي جـ ٢ ص ٣-٥..
٤ - المجموع جـ ١٦ ص ٧٩-٨١ والأنوار جـ ٢ ص ٥ وأسهل المدارك جـ ٣ ص ٩٤ وأحكام القرآن للجصاص جـ ٣ ص ١٤..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٦٥، ٦٦ وفتح القدير جـ ١ ص ٤٣١..
الخطاب في هذه الآية موجه للرجال. والمقصود بالولد هنا هم بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا كانوا ذكورا أو إناثا، واحدا أو أكثر، وذلك ما أجمع عليه العلماء بغير خلاف وأجمعوا أيضا على أن للزوج نصف ما تركته الزوجة من مال إذا لم يكن لها ولد وإن سفل. وللزوج مع الولد الربع. أما الزوجة فإن لها ربع ما تركه زوجها بعد وفاته إذا لم يكن له ولد وإن سفل. ولها الثمن إن كان لزوجها ولد وإن سفل ذكرا كان أو أنثى.
وأجمع العلماء كذلك على أن الزوجة الواحدة أو الزوجات يشتركن جميعا في الربع إذا لم يكن للزوج ولد منهن أو من غيرهن. فإن كان له ولد فإن الزوجة الواحدة أو الزوجات يشتركن في الثمن. وشرط ذلك كله أن يكون توزيع التركة على نحو ما سبق بعد أداء الدين وإنفاذ الوصية.
قوله تعالى :( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ) الكلالة مشتقة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه١. والمقصود به هنا ورثة الميت من حواشيه لا أصوله وفروعه. وقد سئل أبو بكر الصديق عن الكلالة فقال : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه، الكلالة من لا ولد له. وهو قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وأئمة السلف والخلف.
والذي يموت كلالة أي ليس له ولد ولا والد وله أخ أو أخت فإن لكل واحد منهما السدس، أما إن كانوا أكثر من واحد أو واحدة فإنهم يشتركون في ثلث التركة. وقد أجمع العلماء على أن المقصود بالأخوة في هذه الآية هم الأخوة للأم والعلماء متفقون على أن الأخوة للأب والأم أو للأب وحده ليس ميراثهم هكذا. وأخوة الأم يخلفون بقية الورثة من حيث التوريث من عدة وجوه :
أولها : أنهم يرثون من أدلوا به وهي الأم.
ثانيها : أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء.
ثالثها : لا يرثون إلا إن كان ميتهم يورث كلالة. وبذلك فهم لا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ابن.
رابعها : أنهم لا يزيد نصيبهم على الثلث وإن كثروا.
قوله :( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ) غير، منصوب على الحال. وصية منصوب على المصدر٢. ذلك التفصيل في أحكام المواريث والتقسيم إنما يكون بعد إنفاذ الوصية والدين. ولا يدل تقديم الوصية في الذكر على أسبقيتها على الدين ؛ ذلك أن الدين أولى أداؤه من إنفاذ الوصية وهو مقدم عليها بإجماع العلماء. لكن تقديم الوصية من حيث التلاوة هنا إنما يحمل إيحاء على التذكير بالوصية والحض عليها فلا يحول دونها حائل من بواعث الشح والضن بالخير. أما الدين فثمة في الناس من يطلبه ويلح في مطالبته دون تردد لكن الوصية قد تتثاقل دون إنفاذها النفوس التي يحضرها الشح وهو ما بيناه سابقا. يقول سبحانه في آية أخرى :( وأحضرت الأنفس الشح ). ولا يجوز أن يكون في الوصية ما يضر بالورثة بما يلحق بهم أو بعضهم جورا. ومن ذلك أني يتعمد المورث الوصية على نحو يُحرم فيه بعض الورثة أو ينقصه حقه أو يزيده، فوق ما كتب الله له من الفريضة. وليس في ذلك إلا المضارة التي يعصي بها العبد ربه ويضاده في شرعه وحكمه العادل المستقيم. وقد ورد عن النبي ( ص ) قوله : " الإضرار في الوصية من الكبائر ". وقوله ( ص ) : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ".
ومن شمول النهي في الآية كذلك تحريم الإسراف في الوصية بما يأتي على جزء عظيم من المال، بما يفضي إلى افتقار الورثة وسوء حالهم والله أعلم.
٢ - البيان للانباري جـ ١ ص ٢٤٦..
اللاتي مفردها التي واللاتي في محل رفع على الابتداء. والمقصود هنا. النساء اللواتي يقترفن الفاحشة وهي الزنا. وقد كان الحكم في بدء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة أو الإقرار حبست في بيتها فلا تخرج حتى تموت. وقوله :( أو يجعل الله لهن سبيلا ) أي يظللن هكذا في الحكم بالحبس أو يبدل ذلك الحكم بالسبيل وهو الناسخ. وقد جاء الناسخ في سورة النور حيث يقول سبحانه وتعالى :( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدة منهما مائة جلدة ). وقد روى أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي ( ص ) قال : " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد ذلك أن النبي ( ص ) قد رجم ماعزا والغامدية واليهوديين لمقارفتهم الزنا من غير أن يجلدهم قبل ذلك. وفي ذلك دلالة على أن الجلد غير حتم بل هو منسوخ.
وذهب آخرون إلى اجتماع الجلد مع الرجم وهو قول الحسن البصري وإسحاق وداود بن علي الظاهري. وهي إحدى الروايتين عن الحنابلة. فقد ذهب هؤلاء إلى أن الجلد ينبغي اجتماعه مع الرجم. واحتجوا بعموم قوله تعالى :( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) فهذا يعم جميع الزناة. لكن السنة جاءت بالرجم في حق الثيب والتغريب في حق البكر فوجب الجمع بينهما. وقد ذكر عن علي رضي الله عنه أنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك. وقال : " جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله ( ص ) " ١.
قوله :( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ) أي فإن أقلعا ورجعا عن السوء وصلحت حالهما واستقامت أخلاقهما فأقلعوا عن إيذائهما بقبيح الكلام والتعيير. ومن تاب فإن الله يتوب عليه فهو سبحانه شأنه التوبة عن المسيء إذا رجع عن مساءته وهو سبحانه رحيم بعباده يتجاوز عن ضعفهم وخطيئاتهم بعد أن يتوبوا. وعلى أية حال فإن الحكم في هذه الآية نظير الحكم في الآية السابقة من حيث النسخ، فإمساك الزواني في البيوت حتى الموت وإيذاء الزناة بالضرب والشتم والتعيير ثم الإقلاع عن ذلك بعد صلاح الحال، كل أولئك بات منسوخا بعد نزول الناسخ في سورة النور ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) وكذلك بعد ثبوت الرجم في السنة عند التحصين. وبعد ثبوت الناسخ فإن التوبة لا تدفع حدا عن الحدود إذا ما بلغ ذلك الحاكم.
والتوبة الصحيحة التي يقبلها الله ذات شروط لا تصح بدونها وهي أربعة : الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره. وقوله :( بجهالة ) جاء فيها جملة أقوال تتركز في معنى جامع وهو أن كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل. فمن الجهالة أن يعصي العبد ربه كيفما كانت معصيته. وإن من الحق أن نتبين أن العبد لا يتعدى حدود الله ولا يتجرأ بالمعصية إلا وهو جاهل بجلاله وعظيم شانه، قال قتادة في هذا الصدد : أجمع أصحاب النبي ( ص ) على أن كل معصية فهي بجهالة عمدا كانت أو جهلا.
ولو اجتمعت للمرء كامل المعرفة والتبصر بعظيم الهيمنة الإلهية والقدرة الربانية لأمسك عن المعاصي والآثام ولبادر بالطاعة والخضوع لأمر الله جلّت قدرته فلا يأخذه في ذلك عتو ولا استنكاف.
قوله :( ثم يتوبون من قريب ) ورد فيها جملة أقوال نكتفي منها بثلاثة لتحديد معنى القرب هنا. فقد قيل : ما كان دون الموت فهو قريب. وقيل : ما كان قبل الغرغرة فهو قريب وقيل : الدنيا كلها محسوبة من القريب. وكل هذه المعاني جيدة تجتمع على إرساء معنى أساسي واحد وهو أن كل شيء قريب وأن كل أمر وإن تصوّره الإنسان بعيدا فهو في ميزان الحقيقة قريب وكل ما هو آت آت١.
قد يوحي ظاهر الآية بعدم قبول التوبة قبل الموت. ولا يُتصور هذا الفهم على هذا النحو لما في ذلك من معارضة لصحة التوبة على أية حال حتى الغرغرة. والأحاديث في ذلك كثيرة ومتضافرة لتتفق على أن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر أن النبي ( ص ) قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ".
وبذلك فإن التوبة جائزة من العبد إلا إذا جاوزت الروح الحلقوم عند النزع وحصلت الغرغرة فإن التوبة حينئذ تكون مردودة.
ويمكن فهم الآية على أنها مشابهة من حيث المعنى لقوله تعالى :( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ). أو قوله تعالى :( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ). وذلك يعني أن الناس إذا قامت الساعة غشيتهم قوارع الخوف الشديد فيندمون أشد الندم ويسارعون في التوبة لكن توبتهم هذه لا تنفعهم إذ ذاك.
وكذلك فإن الذين يموتون على الشرك – كيفما كانت صورته- فإن توبتهم بغير قيمة. وإنما شرط التوبة من أجل القبول أن تكون مسبوقة بإسلام العبد. فالمشركون حينما يعاينون الساعة والعذاب يأخذون في التوبة وهي لا تغنيهم ولا تقبل منهم.
وأولئك جميعا لهم سوء العاقبة والمصير حيث العذاب الموجع الذي لا يطاق ولا يحتمل، وقد روى الإمام أحمد في ذلك عن أبي ذر الغفاري أن النبي ( ص ) قال : " إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع في الحجاب " قيل : وما وقوع الحجاب ؟ قال : " تخرج النفس وهي مشركة " وعلى هذا لا تجدي التوبة من حضره الموت وصار في حين اليأس. كشأن فرعون حين غشيه الغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان١.
تبين الآية الصورة البائسة التي كانت تعيشها المرأة قبل الإسلام. كانت تعيش بغير كرامة أو اعتبار، وكانت تلاقي من العنت والقهر ما يثير السخط والحزن. ولقد كان العرب الجاهليون إذا مات الرجل بات أولياؤه أحق بامرأته فإن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من نفسها وأهلها فنزلت هذه الآية. وقيل : كانت المرأة إذا مات زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبا كان أحق الناس بها فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها إياه الميت فنزلت الآية١. وفي قوله :( أن ترثوا النساء ) ما يوحي بفقدان المرأة لكرامتها في الجاهلية فقد كانت غير ذات اعتبار حتى لكأنها سلعة تقتنى وتورث فنهى الله سبحانه عن ذلك ليبدد عن الأذهان أنها سلعة أو مال فيورث، وإنما هي إنسان كالذكر لا تفضيل ولا تمييز بينهما إلا بالتقوى. قوله :( كرها ) بالفتح أي بالإكراه، منصوب على المصدر في موضع الحال. أي لا تأخذوا النساء على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات. وقوله :( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) العضل معناه المنع والحبس. وقيل : القهر والتضييق. وكلها معان متقاربة في دلالتها على المقصود من الآية. فالله سبحانه ينهى عن مضارة النساء في العشرة وقهرهن ليتركن ما لهن أو ما بحوزتهن من صداق أو حق فيقدمنه لأزواجهن ليفارقوهن. وذلك تصرف ينطوي على القسوة والفظاظة ويلحق بالمرأة ظلما قد حرمته الشريعة ونهت عنه أشد النهي. فإن من الظلم المحرم أن يقهر الرجل زوجته بالأذى وسوء العشرة مما يضطرها للمبادرة بافتداء نفسها بما عندها من صداق تؤديه لزوجها الكاره لها أو بما كان لها من الحقوق في ذمته. ليس للأزواج أن يقترفوا شيئا من ذلك إلا إذا اقترفت النساء فاحشة مبينة. وقيل المقصود بالفاحشة الزنا. فالزوجة إذا زنت فلا بأس أن يشق الزوج عليها حتى تفتدي منه. وعند الإمام مالك أن المقصود بالفاحشة المبينة هو النشوز وبذاءة اللسان وسوء العشر فعلا أو قولا.
وقوله :( وعاشروهن بالمعروف ) أي لتكن عشرة الأزواج لهن على نحو ما أمر الله من الحُسن وكريم الخطاب والمعاملة فلا تكونوا معهن أفظاظا غلاظا لغير ذنب. والمعاشرة هي المخالطة٢. وبهذا يوجب الإسلام ان تحاط الزوجة بالعناية والاهتمام والتكريم والنصفة ؛ كيلا يمسها بعد ذلك حيف أو إساءة يجنيهما في حقها الرجل.
قوله :( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) قد يكره الرجل زوجته فلا يستبقي لها في قلبه شيئا من مودة كأن يكون ذلك لدمامتها أو سوء خلق فيها من غير أن يكون ذلك فاحشة أو نشوزا، فإن كان كذلك فإنه يندب للرجل أن يحتمل ويصير فعسى أن يؤول ذلك إلى خير لا يعلمه هو حال نفوره وكراهيته. ومن يدري فلعل الله يرزقه منها الذرية الصالحة تقر بهم عينه ويطمئن لهم قلبه ومن خير ما يرد في هذا الصدد قول النبي ( ص ) : " لايفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر " يفرك بفتح الراء يعني يبغض. أي لا يبغض زوج زوجته بغضا يحمله على فراقها بل عليه أن يحتملها ويصبر عليها ويتغاضى عن سيئتها لحسنتها فإن كان فيها ما يكره فإن فيها ما يحب من خلق. قال مكحول : سمعت عمر يقول : إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. خير بكسر الخاء ومعناها : كان خيرا له.
وفي هذا القول نقف على دليل يبين كراهة الطلاق وإن كان مباحا. وقد قال النبي ( ص ) : " إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليكره المعي إذا امتلأ " ٣.
٢ - مختار الصحاح ص ٤٣٤..
٣ - الكشاف جـ ١ ص ٥١٣ والنسقي جـ ١ ص ٢١٥..
إذا أراد الرجل مفارقة زوجه من خلال طلاق لينكح غيرها من النساء فليس له أن يأخذ ما كان أصدق الزوجة الأولى شيئا وإن كان أصدقها بما يبلغ القنطار وفيه دلالة على جواز الإكثار من المهر بغير تحديد. مع أن الإقلال والتيسير في المهور أحب إلى الله ورسوله.
وعلى أية حال فإنه ليس للمهر من حد أعلى. وقصة عمر بن الخطاب في هذا الصدد مشهورة ومستفيضة فقد روى الإمام أحمد عن أبي العجفاء أن عمر – رضي الله عنه- قد ركب منبر رسول الله ( ص ) ثم قال : أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء ( بفتح الصاد وسكون الدال ) وقد كان رسول الله ( ص ) وأصحابه والصدقات ( بضم الدال ) فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فالأعرف ما زاد رجل في صدق امرأة على أربعمائة درهم. ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم. قال : نعم فقالت : أما سمعت ما أنزال الله في القرآن. قال : وأي ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول :( وآتيتهم إحداهن قنطارا ) فقال عمر : اللهم غفرا، كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهم على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. وقيل : لا ينبغي أن يفهم من الآية جواز المغالاة في المهور. لأن التمثيل بالقنطار جاء على سبيل المبالغة. بل يستفاد من الآية منع المغالاة في المهور. والقول بجواز المغالاة هو الراجح والصواب لحصول ذلك من كثير من الصحابة من غير إنكار.
قوله :( أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) بهتانا هنا حال منصوب. وإثما معطوف على ما قبله، والبهتان معناه افتراء الكذب١. والهمزة استفهام إنكار وتوبيخ. أي أتأخذون باهتين وآثمين وفي الآية ما يفيد بأن استرجاع الصداق أو جزء منه من المرأة بعد فراقها لهو أخذ للمال بغير حق وهو في منزلة الافتراء والكذب اللذين نهت عنهما الشريعة بشدة. وكذلك فإن أخذ الصداق على هذه الصورة لهو إثم واضح مكشوف لا يحتمل أي تبرير.
أما قوله :( ما نكح ) فقد قيل في إعراب ( ما ) بأنها مصدرية فيكون النهي واقعا على نكاح الآباء ؛ لأنه فاسد ومخالف للدين، وبذلك يكون التقدير : لا تنكحوا مثل نكاح آبائكم الفاسد. وقيل في إعراب ( ما ) بأنها في موضع " من " وهي اسم موصول بمعنى الذي. أي لا تنكحوا النساء اللواتي نكحهن آباؤكم. وهو الأرجح لأنه الذي عليه الصحابة ومنه استدلوا على منع نكاح حلائل الآباء. وهي عادة كانت متفشية ومباحة في الجاهلية حتى نزول هذه الآية فباتت هذه العادة حراما مستبشعا.
وقوله :( إلا ما قد سلف ) جاء في تأويل قوله :( إلا ) عدة وجوه، منها : أن قوله :( إلا ما قد سلف ) أي قبل نزول آية التحريم فإنه معفو عنه.
ومنها : أن هذا استثناء منقطع ؛ لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل. والمعنى : لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه.
ومنها : أن ( إلا ) هنا بمعنى بعد. أي بعد ما سلف.
ولقد شددت الآية في النكير على نكاح الأبناء لزوجات قد نكحهن آباؤهم بأن ذلك أمر منهي عنه بشدة وذلك بالنظر لفحشه وكونه مقتا، أي بغضا بمعنى أنه يبعث على بغض الله وغضبه وهو كذلك سبيل سيئة تفضي إلى وخيم العواقب. وقيل إن النهي هنا متعلق بنكاح الزوجات اللاتي نكحهن الآباء نكاحا مشروعا عن طريق العقد. أما إن كان الآباء قد وطئوهن بغير عقود مشروعة فذلك زنا لا تحرم به النساء الموطوءات على الأبناء في قول الشافعي ومالك وكثير من المفسرين ؛ لأن النكاح عندهم عبارة عن العقد الصحيح، خلافا لأبي حنيفة فإنه يحرم عنده أن يتزوج الرجل بمزنية أبيه ؛ لأن النكاح عنده عبارة عن الوطء١.
وتثبت المصاهرة والتحريم بغير الوطء من دواعيه كاللمس بشهوة ونحوه، فذلك بمنزلة الجماع. وهو قول الحنفية والمالكية أيضا والشافعية في رواية عنهم. وذهب الحنابلة وأهل الظاهر، والشافعية في الراجح من مذهبهم إلى أن المصاهرة لا تثبت بغير الوطء. فلا تثبت بدواعيه كاللمس ونحوه. ٢
٢ - أحكام القرآن للجصاص جـ ٣ ص ٦١ وبداية المجتهد جـ ٢ ص ٣٠ وكشاف القناع جـ ٥ ص ٧٢، ٧٣ والمحلى لابن حزن جـ ٩ ص ٥٢٧..
المحرمات للنسب وهن سبع فرق :
الأولى : الأم. فإنه تحرم على الرجل أمه وكذلك جداته سواء كن من قبل الأب أو الأم فالأم يشملها اللفظ على الحقيقة. أما الجدة فيشملها اللفظ على المجاز.
الثانية : البنت. وضابطها : كل من ولدتها فهي بنتك حقيقة. أو ولدت من ولدها ذكرا كان أم أنثى كأن تكون بنت ابن وإن نزل. أو بنت بنت وإن نزلت.
الثالثة : الأخت. يستوي في ذلك كل من الأخت لأب وأم وهي الشقيقة والأخت لأب. ثم الأخت لأم.
الرابعة : العمة. وهي تشمل أخت الأب لأب وأم، أو لأب، أو لأم.
الخامسة : الخالة. وهي تشمل أخت الأم لأب وأم. أو لأم.
السادسة : بنت الأخ. ويدخل في ذلك بنت الأخ لأب وأم، أو لأب، أو لأم. وبنات الأخ يحرمن وإن نزلن.
السابعة : بنت الأخت. ويدخل في ذلك بناء الأخت لأب وأم، أو لأب، أو لأم. وهن جميعا يحرمن وإن نزلن.
المحرمات للرضاع :
فقد وقفنا عليهن من قوله تعالى ( وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ). وكذلك من السنة. ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ( قال : " إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " وفي لفظ لمسلم أن النبي ( ( ) قال : " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ". وكذلك فقد انعقد الإجماع على التحريم بسبب الرضاع.
على أن سبب التحريم للرضاع يكون من جهتين :
الجهة الأولى : المرضعة : فإن التحريم ينتشر منها إلى فصولها نسبا أو رضاعا وإن نزلوا. وينتشر التحريم كذلك إلى حواشي المرضعة نسبا أو رضاعا. وهم اخوتها وأخواتها سواء كانوا أشقاء أو غير أشقاء. وكذلك أعمامها وعماتها وأخوالها وخالاتها حقيقة أو مجازا.
الجهة الثانية : الفحل، وهو الزوج ( صاحب اللبن ) فإذا أرضعت المرأة ذات الفحل ولدا صار الفحل أبا له ولفروعه. وحينئذ ينتشر تحريم الرضيع وفروعه من الفحل إلى كل من أصوله وفروعه وحواشيه.
التحريم للرضاع :
كل من حرم بسبب النسب من الأصناف السبعة السابقة فإنه يحرم كذلك بسبب الرضاعة. والأصل في هذه القاعدة هو الحديث الشريف القائل : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وتفصيل المحرمات بسبب الرضاع يأتي على النحو التالي : الأم من الرضاع. وضابطها هو : كل من أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من ولدك، أو ولدت مرضعتك فهي أم من الرضاع.
البنت من الرضاع، وضابطها هو : كل امرأة ارتضعت بلبنك أو لبن من ولدته، فهي تحرم عليك وكذلك بناتها من نسب أو رضاع وإن نزلن.
العمة من الرضاع. وضابطها هو : كل أخت لصاحب اللبن وهو الفحل أو لأبيه وإن علا سواء كان ذلك من نسب أو رضاع.
الأخت من الرضاع، وضابطها هو : كل من أرضعتها أمك أو ارتضعت بلبن أبيك كأن يكون صاحب لبن من امرأة أخرى، أو ولدتها من أرضعتك.
الخالة من الرضاع. وضابطها هو : كل أخت للمرضعة أو أخت للمرضعة أو أخت لمن ولدت المرضعة سواء كان ذلك من نسب أو رضاع.
بنات الأخوة والأخوات من الرضاع، وضابطهن هو : كل أنثى من بنات أولاد المرضعة أو الفحل سواء كان ذلك من رضاع أنسب، وكذلك كل أنثى ارتضعت بلبن أختك أو أخيك سواء كانت هي الرضيعة أو بناتها وبنات أولادها من نسب أو رضاع١.
المقدار المحرم من اللبن :
اختلف العلماء في مقدار الرضاع الذي يوجب التحريم، وقد اقترفوا إلى ثلاثة أقوال في هذه المسألة :
القول الأول : وهو مذهب الحنفية والمالكية : وهو مروي عن عمر وعلي وعبد الله بن عباس وغيرهم، فقد ذهب هؤلاء إلى عدم التحديد بمقدار معين وأن أي قدر كان من اللبن يوجب التحريم بالرضاع. وبذلك فإن قليل الرضاع وكثيره إذا حصل في مدة الرضاع تعلق به التحريم. وقد استدل هؤلاء بإطلاق قوله تعالى :( وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) فإن اسم الرضاع يتناول الكثير والقليل دون تحديد أو تقييد.
القول الثاني : وهو مذهب الشافعية وأحمد بن حنبل، فقد قالوا أنه لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات متفرقات. وذلك أن يرضع المولود ثم يقطع الرضاع ثم يرضع ثم يقطع. وفي كل مرة تحتسب له رضعة. وذلك مروي عن ابن مسعود وعائشة وعبد الله بن الزبير وغيرهم. وقد استدلوا على ذلك بما رواه مسلم في صحيحه عن النبي ( ص ) : " كان فيما أنزل تعالى في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات ". ثم توفي النبي ( ص ) وهن ما يقرأ من القرآن.
القول الثالث : وهو مذهب زيد بن ثابت وأبي ثور وداود الظاهري وأحمد في رواية. فقد ذهبوا إلى تحديد القرد المحرم بثلاث رضعات فما فوقها، وبذلك فلا تحرم الرضعة والرضعتان. واستدلوا على ذلك بقوله ( ص ) : " لا تحرم الرضعة والرضعتان أو المصة والمصتان " ٢.
المحرمات للمصاهرة : وهن على النحو التالي :
أم الزوجة : وهي حرام نكاحها لقوله تعالى :( وأمهات نسائكم ) فإذا عقد الرجل النكاح على امرأة ترتب على ذلك أن تحرم عليه كل أم لهذه المرأة سواء كانت أما مباشرة حقيقة أو مجازا ويستوي في ذلك أن تكون من جهة النسب أو من جهة الرضاع، دخل الرجل بالمرأة أو لم يدخل. والقاعدة في ذلك : أن العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرّم البنات. ومما جاء في ذلك من دليل قول النبي ( ص ) : " إذا نكح الرجل المرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها فله أن يتزوج ابنتها وليس له أن يتزوج أمها ".
بنت الزوجة : وهي الربيبة كما سماها القرآن. فإنها يحرم نكاحها بالنسبة للزوج ويشمل التحريم هنا بنات الزوجة وبنات بناتها وبنيها وإن نزلن. وشرط التحريم أن يقع الدخول وإذا لم يكن ثمة دخول فلا تحريم ؛ لقوله تعالى :( وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ).
حليلة الابن : هي زوجة الابن المحللة له. وهي حرام على الأب أن ينكحها بمجرد عقد الابن سواء دخل بها أو لم يدخل ؛ وذلك لقوله تعالى :( وحلائل أبنائكم ). وبذلك فإنه يحرم على الرجل نساء أبنائه وأبناء أبنائه وبناته وإن نزلوا سواء كان ذلك من نسب أو رضاع وذلك بمجرد العقد ولو لم يكن ثمة دخول.
حليلة الأب : يحرم على الرجل أن ينكح زوجة من ولده سواء كان أبا أو جدا من قبل الأب أو الأم وإن لم يدخل بها ؛ وذلك لقوله تعالى :( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ). والمقصود بالنكاح هنا العقد فمتى عقد أحد من أصول الخص على امرأة فإنه لا يحل تزوجها من قبل أبنائه وأبناء ابنائه وأبناء بناته. وبعبارة أخرى فإنه لا تحل للشخص امرأة أبيه أو امرأة جده لأبيه وجده لأمه قرب أو بعد٣.
وقوله تعالى :( و أن تجتمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ). نصت هذه الآية على تحريم الزواج من أخت الزوجة فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وأختها في النكاح سواء كانتا أختين شقيقتين أو لأب أو لأم. سواء كانتا أختين من النسب أو الرضاع. وكذلك فإنه يحرم الجمع بين المرأة وكل من عمتها وخالتها أو بنت أخيها أو بنت أختها ؛ للحديث الشريف : " لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها ". والقاعدة في هذا التحريم هي : تحريم الجمع بين امرأتين إذا كانتا بحيث لو قُدرت إحداهما ذكرا حرمت عليه الأخرى سواء كان ذلك من نسب أو رضاع٤.
٢ - أحكام القرآن للجصاص جـ ٢ ص ١٢٤ وشرح فتح القدير جـ ٣ ص ٤٣٨ والمدونة جـ ٥ ص ٤٠٥ ونيل الاوطار جـ ٦ ص ٣٤٨ والنهاية للطوسي ص ٤٦١..
٣ - كشاف القناع جـ ٥ ص ٧١ -٧٣ والمحلى جـ ٩ ص ٥٢٧ وحاشية القليوبي وعميرة على المنهاج جـ ٣ ص ٢٤٣..
٤ - البدائع جـ ٢ ص ٢٦٣ والمدونة جـ ٤ ص ٢٨٣ والمجموع جـ ١٥ ص ٣٨٣ وكشاف القناع جـ ٥ ص ٧٥..
المحصنات. مفردها محصنة : والتحصّن يعني التمنع. ومنه الحصن الذي يمتنع فيه من يلجه ليكون داخله مصونا ممتنعا من الشرور والعوادي. ومنه الحصان ؛ لأنه يمنع صاحبه من الهلاك. وكذلك الحصانة بمعنى الامتناع. والحصن ما يلجأ إليه الإنسان ليمتنع به مما يضر. والمرأة المحصنة أي المتزوجة وتأتي بمعنى الحرة والعفيفة١. وتفيد هذه المفردات في جملتها عن إحصان المرأة وهو امتناعها من الفسق. والواو في المحصنات تفيد العطف على النساء المحرمات اللواتي ذكرن من قبل. فالنساء ذوات الأزواج يحرمن على غير أزواجهن إلا إذا كن مسبيات فإن السبي يهدم النكاح السابق. وقد جاء في سبب نزول هذه الآية أن النبي ( ص ) كان قد بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس ( واد في هوزان ) فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكان ناس من أصحاب النبي ( ص ) قد تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجل :( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) أي فهؤلاء حلال لكم بعد انقضاء عدّتهن٢.
وقوله :( كتاب الله عليكم ) ( كتاب ) منصوب على المصدر بفعل تقديره كتب. أي، كتب ذلك كتابا الله. ثم أضيف المصدر إلى الفاعل.
وقيل : منصوب بمحذوف تقديره عليكم أو ألزموا، أي ألزموا كتاب الله، والقول الأول الراجح٣.
وقوله :( وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ) بعد تبيين المحرمات من النساء يأتي الحكم بتحليل من لم تحرم سواء ثبت التحريم بالكتاب أو السنة. وبذلك فإن ما عدا من ذكرن من المحارم هن حلال لمن يبتغي النكاح بالطريق الشرعي بعد دفع المهر. وقوله :( محصنين ) أي متعففين عن الزنا ( غير مسافحين ) أي غير زناة. والسفاح هو الزنا وهو مأخوذ من سفح الماء أي إراقته وتسبيله.
قوله :( فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) الاستمتاع معناه التلذذ. والمقصود بالأجور المهور. وعلى ذلك فإن المهر يسمى أجرا. والآية تعني أن ما انتفعتم به من الجماع من النساء بالنكاح المشروع الصحيح فآتوهن مهورهن، ولو جامعها مرة واحد وجب لها المهر كاملا إن كان مسمى، وإذا لم يكن مسمى وجب لها مهر المثل. وقوله :( فريضة ) منصوبة على المصدر ومعناه مفروضة. وقيل : حال من الأجور٤.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان مباحا في صدر الإسلام. ويؤيد ذلك قراءة أبي بن كعب وابن عباس وابن جبير ( فما استمعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن ) ثم نهى عنها النبي ( ص ). قال ابن المسيب : نسختها آية الميراث ؛ إذ كانت المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة – رضي الله عنها- : تحريمها ونسخها في القرآن. وذلك في قوله تعالى :( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ) وليست المتعة نكاحا ولا هي ملك يمين. وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال : " نهى رسول الله ( ص ) عن المتعة " قال : وإنما كانت لمن لم يجد. فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وعن ابن مسعود قال : المتعة منسوخة نسخها الطلاق والعدة والميراث. وروي عن ابن عباس قال : ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم بها عباده، ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي٥.
قال ابن المنذر في هذا الصدد : جاء عن الأوائل الرخصة فيها – أي المتعة- ولا أعلم اليوم أحدا يجيزها إلا بعض الرافضة. ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله.
وذهب فريق من العلماء إلى تفرد ابن عباس في إباحة المتعة٦. وذكر الصنعاني في سبل السلام أن المتعة نسخت بعد أن رُخص فيها في ستة مواطن :
الموطن الأول : في خيبر.
الموطن الثاني : في عمرة القضاء.
الموطن الثالث : في عام الفتح.
الموطن الرابع : في عام أوطاس.
الموطن الخامس : في غزوة تبوك.
الموطن السادس : في حجة الوداع٧.
وقال النووي : الصواب أن تحريمها وإباحتها وقع مرتين : كانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها، ثم أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس، ثم حرمت تحريما مؤبدا. وإلى هذا التحريم ذهب أكثر الأمة.
وقال الشافعي – رحمه الله- : وجماع نكاح المتعة المنهي عنه : كل نكاح كان إلى أجل من الآجال قرب أو بعد. وذلك أن يقول الرجل للمرأة : نكحتك يوما أو عشرا أو شهرا. أو نكحتك حتى أخرج من هذا البلد. أو نكحتك حتى أصيبك فتحلين لزوج فارقك ثلاثا، أو ما أشبه هذا مما لا يكون فيه النكاح مطلقا لازما على الأبد٨.
وقوله :( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعض الفريضة ) أي لا إثم عليكم فيما تتراضون عليه من زيادة في المهر أو نقصان وذلك بعد استقرار الفريضة ما دام عن تراض. وكيفية التراضي تتحقق في أحد أمرين : فإما أن تبرئ المرأة زوجها عن شيء من المهر. وإما أن يوفيها الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول مع أنها لها في هذه الحالة نصف المهر. وقيل : هذا في نكاح المتعة. وهو إشارة إلى ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة، فإنه كان يتزوج الرجل المرأة شهرا على دينار مثلا. فإذا انقضى الشهر قال لها : زيدني في الأجل أزدك في المهر. وكان ذلك جائزا عند التراضي.
هذه الأحكام المبينة يجب مراعاتها والالتزام بتنفيذها فإن الله مطلع على الأعمال جميعها، وهو عليم بالأفعال والنوايا وهو سبحانه له الحكمة البالغة في تشريعه لمثل هذه الأحكام وغيرها من أحكام. وهو مقتضى قوله :( إن الله كان عليما حكيما ).
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٩٩..
٣ - البيان للأنباري جـ ١ ص ٢٤٨..
٤ - النسفي جـ ١ ص ٢١٩ وفتح القدير جـ ١ ص ٤٥٠..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ١٣٠ وفتح القدير جـ ١ ص ٤٤٩ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٧٤..
٦ - نيل الأوطار جـ ٦ ص ١٥٤ والفقه على المذاهب الخمسة ص ٣٦٦..
٧ - سبل السلام جـ ٣ ص ١٢٦..
٨ - الأم الشافعي جـ ٥ ص ٧١ ومختصر المزني ص ١٧٥ ومغني المحتاج جـ ٣ ص ١٤٢ وحاشية الشرقاوي جـ ٢ ص ٢٣٤..
قوله :( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) استثناء منقطع أي ولكن تجارة عن تراض. فبعد أن حذّر من أكل الحرام استثنى التجارة المباحة، فالمستثنى لم يكن من جنس المستثنى منه. والتجارة معناها المعاوضة إذ يكون ثمة سلعة مبيعة وفي مقابلها ثمن مدفوع وتلكم معاوضة لما يجري بين المادتين من مبادلة. وتقوم التجارة على التعاقد بين اثنين من خلال ركن أساسي للعقد وهو الإيجاب والقبول ويكون ذلك بالتراضي لا بالإكراه أو الغبن الفاحش أو الغش والخداع. وذلك قوله :( عن تراض منكم ) أي عن رضى. فلا يخالط البيع ما ينافي الرضا من المتعاقدين كالغش والغبن الفاحش والعيب. ونحو ذلك ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ( ص ) قال : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وفي لفظ البخاري " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " وذهب إلى القول بمقتضى هذا الخبر جمهور السلف والخلف. وكذا الشافعية والحنفية. ومقتضى هذا الخبر أن العقد لا يلزم إلا بعد افتراق المتعاقدين بالأبدان. لكن صورة الافتراق عند الحنفية والمالكية أن يكون ذلك بالكلام، فإذا صدر القبول بعد الإيجاب في مجلس العقد لزم العقد٢.
وقوله :( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) قتل النفس يتناول إيرادها موارد الهلكة مثلما يتناول إزهاق الأنفس بغير حق عن طريق الاقتتال من أجل رغائب دنيوية أو دوافع شيطانية، ويتناول كذلك الانتحار وهو الاعتداء على النفس بعد غضب شديد غامر والانتحار من أعظم الكبائر التي يسقط فيها أولو النفوس الضعيفة والقلوب الخاوية التي تتهاوى أمام الشدائد والخطوب. والنبي ( ص ) ينذر المنتحرين بأشد العذاب وسوء المصير إذ يقول : " من قتل نفسه بشيء عذّب به يوم القيامة " وقال عليه الصلاة والسلام : " من قتل نفسه بشيء عذّب به يوم القيامة " وقال عليه الصلاة والسلام : " من قتل نفسه بحدية فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " ٣. كذلك ينهى الله عباده المؤمنين وهو يحذرهم من الاعتداء على النفس كيفما كان الاعتداء والله جلت قدرته إنما يرضى لعباده الهداية والسداد والتوفيق، ولا يرضى لهم العنت والمكابدة والشقاء فهو سبحانه رحيم بالخلق رحمة لا تعرف الحدود أو القيود.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٧٩ وفتح القدير جـ ١ ص ٤٥٧ وبداية المجتهد جـ ٢ ص ١٤٨..
٣ - رواه الصحيحان عن أبي هريرة..
قوله :( وندخلكم مدخلا كريما )، ( مدخلا ) بضم الميم وفي إعرابه وجهان : احدهما : أن يكون منصوبا على المصدر. أي إدخال. ويحتمل أن يكون المدخل هنا بمعنى المكان فيكون منصوبا على أنه مفعول به، والمدخل الكريم هو الجنة وذلك جزاء المتقين الذين يحبسون أنفسهم عن المعاصي الكبيرة ويقبلون على الطاعات والفرائض. يقول النبي ( ص ) : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " ١.
وأخرج الإمام احمد عن أبي أيوب قال : قال رسول الله ( ص ) : " من عبد الله لا يشرك به شيئا وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان واجتنب الكبائر، فله الجنة " فسأله رجل : ما الكبائر ؟ فقال : " الشرك بالله، وقتل نفس مسلمة، والفرار من الزحف ".
التمني كما عرفه الرازي على أنه عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون. وقال القرطبي : التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي. والتمني المتعلق بأمور الدنيا ومصالحها وحطامها مذموم لما في ذلك من إشغال للقلب وإرهاق للأعصاب، ولما في ذلك من دوام المراودة للنفس كيما تظل مشهودة ولاهية عن غايات سامية عليا يصبو إليها المؤمن. ولا جرم أن تكون اهتمامات المؤمن سامية رفيعة لتعلو على الدنايا والخسائس ولتسمو على الأغراض الهزيلة التي تتهافت حولها نفوس الضعفاء والمبتذلين. إن الآية الكريمة تنهى عن الانشغال في التمني لما فضل الله به بعض الناس على بعض في الرزق وعطايا الدنيا، فإن لكل حظه مما اكتسبه سواء كان ذكرا أم أنثى. وقد قيل إن هذه الآية نزلت في أم سلمة – رضي الله عنها- قالت : يغزوا الرجال ولا يغزوا النساء وإنما لنا نصف الميراث. وقيل غير ذلك. والآية تفيد بعمومها التحذير من مفسدة التلهي بتمني الخير والمال أو مختلف المكاسب. وليس من دافع لمثل هذا الشعور غير الحسد البغيض. ومن شأن المسلم في مثل هذا الأمر أن يكد ويسعى في الأرض بجد ونشاط مع دعوته لله بأن يهب له الرزق الحسن. والله سبحانه لهو أعلم حيث يقسم الرزق، إنما يقسمه بقدر وقسطاس مستقيم. على أننا نضيف إلى ذلك أن المحظور في الآية والمنهي عنه هو الذي يكون مصحوبا بالحسد والبغض مع ما يرافق ذلك من تمن لزوال النعمة لدى الآخرين. أما إن كان التمني مجردا عن لوثة الحسد مع تمني الخير ودوام النعمة عند الآخرين فليس في ذلك من بأس، وذلك ما ذهب إليه أكثر أهل العلم. ومن ناحية أخرى فإن التمني المتعلق بأمور الدين والآخرة مما لا علاقة له بشهوات النفس وزخارف الدنيا- فإنه حسن ومفضل، وليس أدل على ذلك من قول النبي ( ص ) : " وددت أن أحيا ثم أقتل " فقد تمنى عليه الصلاة والسلام الشهادة وقد أعطيها بالفعل وذلك لما أثرت فيه لعقة السم في الشاة المسمومة حيث قال : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني الآن أوان قطعت أبهري ". ومثل ذلك كثير.
قوله :( واسألوا الله من فضله ) أي لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض فإن التمني لا يجدي شيئا، لكن اسألوا الله من فضله أي ادعوه واطلبوا منه الخير في غير ملل ولا كلل فإن الله جلت قدرته أكرم الكرماء وهو الرحيم الوهاب. وفي هذا روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ( ص ) قال :" سلوا لله من فضله فإن الله يحب أن يسأل، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج ".
وقوله :( إن الله كان بكل شيء عليما ) أي أن الله عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، ومن لا يستحق من الدنيا إلا القليل فيعطيه مثل ذلك القليل.
وبعبارة أخرى فإن الله عالم بما يكون صالحا للسائلين، وعلى السائلين أن يجملوا في الطلب فإن كل شيء مقدور وعند الله مسطور١.
كان المسلمون يتوارثون في أول الإسلام بدافع من أخوة الدين حتى أنم لم يكونوا إذ ذاك ليعبأوا برابطة القربة فنزلت هذه الآية لتنسخ التوارث لأخوة الدين وتفرض أن يكون ذلك لأولي القربى. فالله يقول :( ولكل جعلنا موالى ) أي ورثة يرثون ما يتركه الآباء والأقارب من أموال. أما الذين تحالفتم معهم بإيمان مغلظة على أن تورثوهم فليس لهم بعد الآن حظ في التوريث بل آتوهم نصيبهم من الوصية. وقيل : نصيبهم من النصيحة والإرشاد والنصرة. والله سبحانه يشهد على كل ما تقومون به من فعل أو قول فاحذروا مخالفة أمره والزموا حدوده وشرعه١.
قوله :( والذين عقدت أيمانكم ) قرأها أكثرهم بالألف، أي ( والذين عاقدت أيمانكم ) مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء، وهو قوله :( فآتوهم نصيبهم ).
والمراد بالذين عاقدت أيمانكم موالي الموالاة. فقد كان الرجل يعاقد الرجل فيقول له : دمي دمك، وهدمي هِدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف فنسخ بقوله تعالى :( وأولوا الأرحام بعضكم أولى ببعض ) على أنهم أمروا بالوفاء بالعهود والعقود والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا عليه مثل ذلك. وقد روى الإمام أحمد في ذلك عن جبير بن مطعم أن النبي ( ص ) قال : " لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " أما بعد ذلك فلا مساغ للتوارة بالحلف كما هو مذهب الحنفية خلافا للجمهور وفيهم الشافعية والحنابلة والمالكية إذ قالوا بعدم التوارث على أساس الحلف.
قوله :( فآتوهم نصيبهم ) أي من النصرة والنصيحة والمعونة، وليس المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث٢.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٩٠ وتفسير الرازي جـ ١٠ ص ٨٨ والكشاف جـ ١ ص ٥٢٣..
قوله :( الرجال قوامون على النساء ) قوامون مفردها : قوّام وهو القيّم على الشيء أي المسؤول عنه والذي تناط به مهمة الحفاظ والحماية والنفقة. والقوام أو القيّم من القوامة وهي المسؤولية. وذلك تقدير رباني حكيم فيه تقرير لحقيقة تنطق بها الفطرة وتوجبها طبيعة التباين والاختلاف بين الذكورة والأنوثة.
وذلك في مختلف الجوانب العضوية والنفسية والدهنية. لا جرم أن ذلك تقدير رباني مركوز في أعماق الكينونة البشرية لتجيء الحياة على غاية الانجسام والتآلف والتكامل. والفوارق الذاتية بين الرجل والمرأة معتبرة ومقدورة لا ينكرها إلا جاهل مخدوع أو مضلل واهم. فالرجل يفوق المرأة – في الغالب- في قوة الجسد ومتانة الأعصاب ورباطة الجأش وسعة الأفق والمدارك، ومدى الاحتمال والصبر واشتداد العزم والشكيمة. لكن المرأة في ذلك كله أشد جنوحا للنعومة واللين. وهي أخصب ما تكون إدرارا لعواطفها الصادقة الحرى، وإحساساتها الرقيقة الجياشة. لا جرم أن هاتيك الفوارق العضوية والنفسية والذهنية تفرض نفسها على الواقع البشري وفي حياة الناس والمجتمع بما يقتضي أن تناط القوامة بالرجل دون المرأة. فهو قمين باحتمالها والتلبس بها أكثر من المرأة بكثير.
وليست القوامة في ذلك بالمنة المفضلة التي حباها الله الرجل، ولكنها الوجيبة الثقيلة والأمانة الأساسية التي نيطت بالرجل ليكون مسؤولا عنها أمام الله. ولسوف يناقش من أجلها الحساب ليجد جزاءه العسير ان كان من المقصرين المفرطين.
وفلسفة الإسلام في ذلك أصلا قائمة على التنفير من التلبس بالمسؤوليات أو المراكز التي لا ينبري للتشبث بها أو الحرص عليها إلا الخاسرون الهلكى. فلسفة الإسلام في هذه المسألة مبنية على الترغيب في التواضع وبذل العون والخدمات للناس بعيدا عن صخب الشهرة وحب الظهور وإطراء الجمهور.
وقاعدة الإسلام في التفضيل أصلا إنما تقوم على التقوى قبل كل شيء، من غير التفات في ذلك لأية اعتبارات أخرى كالذكورة أو الأنوثة أو غير ذلك من اعتبارات الدم أو العرق أو اللون أو الحسب والنسب. وإنما الاعتبار الأكبر في ذلك هو التقوى. وأصدق الكلام في هذه الحقيقة قوله تعالى :( إن أكرمكم عند اله أتقاكم ) وكذلك قوله عز وجل :( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ذلك هو الاعتبار الحقيقي والمقدور في تصور الإسلام والذي يقع على أساسه التفضيل بين العباد. على أن الاستفادة من خبرة المرأة في كثير من الأمور لهي ذات شأن. فإن الاستفادة منها عن طريق التشاور معها أمر لا مفر منه خصوصا وأنها لذات عاطفة صادقة تتندى إخلاصا وبرا وبذلك فإن مشاورة الزوجة والوقوف على رأيها النافع الجيد لا يتعارض بحال مع إحاطة القوامة بالرجل. وبعد ذلك فإنه ليس لمتفلسف زنديق أو لذي رأي جاحد فاجر أن يصطنع الكلام في حذلقة فارغة ليفتري على القرآن بالطعن الكاذب والاجتراء الفاسد المقبوح. فقد قال قائلهم : إن المرأة لا تقل عن الرجل في أية كفاءة من الكفاءات أو قدرة من القدرات أو موهبة من المواهب. وقال آخرون : لا نرضى أن تناط القوامة بالرجل، بل كلاهما ينبغي أن يكون قواما. ومثل هذه الحذلقات كثير مما يكشف عن طبائع جانفة يغمرها الحقد أو التعصب أو تحف بها غاشية الجهل بحقيقة الإنسان في طبعه وحقيقة تركيبه. ولا جرم أن يكون الرحمان – جلت قدرته- أعلم العالمين بهذا الإنسان في أصالة تركيبه وجوهر فطرته وهو سبحانه أعلم بحقيقة الحال التي يصلح عليها الإنسان ذكرا كان أم أنثى ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ).
قوله :( بما فضل الله بعضكم على بعض ) والتفضيل هنا للخصائص العضوية والذهنية والنفسية التي يتغاير فيها الصنفان وذلك في ضوء التركيب الفطري المختلف.
وتفضيل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة، فبعضها صفات حقيقية، وبعضها صفات شرعية، أما الصفات الحقيقية فيرجع حاصلها إلى أمرين، وهما العلم والقدرة فإنه من الحقيقة أن علوم الرجال أكثر وأن قدرتهم على الأعمال الشاقة أعظم. فمن أجل هذين السببين جعلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة. وان من الرجال الأنبياء والعلماء والشهداء والنوابغ والأفذاذ والمصلحين١.
قوله :( وبما أنفقوا من أموالهم ) وذلك أحد أسباب القوامة المنوطة بالرجال وهي التزامهم بالانفاق والبذل من أموالهم سواء كان ذلك على سبيل المهر يقدم للزوجة أو مؤونة الإطعام والإيواء والكساء. وهي أمور قد نيطت بالرجال ليقوم بأدائها كاملة نحو زوجته من غير تأخر. أما المرأة فإنها مبرأة من مثل هذا الالتزام حتى وإن لحقت بالزوج حالة من الإعسار، فلسوف يبقى هو المكلف في سائر الأحوال فإن لم يستطع القيام بهذا التكليف باتت المرأة مخيّرة بين البقاء أو التفريق.
قوله :( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ). الله جلت قدرته يثني على النساء الصالحات العابدات اللواتي يطعن أزواجهن في المنشط والمكره إلا في معصية الله واللواتي يقمن بحق أزواجهن في صون أموالهم وأنفسهن حال غياب أزواجهن. وفي الحديث الشريف : " خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك " وفي حديث آخر عن النبي ( ص ) مخاطبا عمر : " ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء ؟ ! المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، و إذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته ".
قوله :( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ) قيل في سبب نزول هذه الآية أن سعد بن الربيع نشزت امرأته حبيبة بنت زيد فلطمها فقال أبوها : يا رسول الله أفرشته كريمتي فلطمها. فقال عليه السلام : " لتقتصّ من زوجها " فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه فقال عليه السلام : " ارجعوا هذا جبريل أتاني " فأنزل الله هذه الآية. فقال عليه السلام : " أردنا أمرا وأراد الله غيره " وفي رواية أخرى : " أردت شيئا وما أراد الله خير " ٢. واللاتي جمع التي. تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون. والنشوز يقصد به العصيان من الزوجة لزوجها وتعاليها عليه. وأصل النشوز في اللغة الارتفاع. ونشزت المرأة على بعلها بمعنى ارتفعت عليه ويكنّى بذلك عن العصيان له والاستكبار عليه وعدم طاعته٣. يبين الله كيفية التعامل مع الزوجات النواشز اللاتي يستكبرن على أزواجهن ولا يطعنهم فيما يكون إصلاحا لطبعهن وردا لهن إلى الصواب. وذلك من خلال مراحل المعالجة والتأديب حتى إذا لم يتحقق الإصلاح في مرحلة جيء بأخرى عسى أن يكون فيها ما يعيد الزوجة إلى الهداية والسداد والرشد كيلا يقع التفريق وهو في شريعة الإسلام أقسى سبيل ومبغض لله سبحانه.
وبذلك فإن أسلوب الإسلام في الإصلاح والتوفيق بين الزوجين حال نشوز الزوجة يتم من خلال مراحل ثلاث :
أحدها : الوعظ الحسن والكلام المؤثر الرفيق.
ثانيها : الهجر في المضجع وهو طريقة نفسية لا جرم أن تؤثر في الغالب.
ثالثها : الضرب الهيّن الحاني المشروط بعدم التبريح.
فإذا نشزت المرأة في عصيان لبعلها ليس له أن يبادر ليوقع الطلاق فإن ذلك أسلوب عقيم ومشنوء وهو كذلك مبغض للرحمن. بل إن الزوج في هذه الحال يتذرع بالصبر وسعة الصدر وطول الاحتمال ليبادر زوجته بالكلام المؤثر الحاني فيما يستغدق منها فائض حنانها وزاخر عاطفتها. وفي ذلك من الأسلوب الكريم ما عساه يستعيد المرأة إلى حظيرة الزوجية في طاعة وافية، وعشرة هانئة راضية. ومما لا ريب فيه أن الكلمة المؤثرة الطيبة لهي أشد ما تكون نافعة ونافذة حتى تجد سبيلها إلى عميق القلب بما يحمل الإنسان على التغيير من مواقفه تغييرا كبيرا. وتلك هي حال الإنسان ذي العاطفة والوجدان فإنه يؤثر فيه الكلمة لتنقله من حال إلى حال. يستوي في ذلك أن تكون الكلمة طيبة أو سيئة قاسية. ولا نفترض أن الناس جميعا تأخذهم الكلمة الطيبة لتنفذ إلى قلوبهم نفاذا ثم لتقلب فيهم المزاج قلبا. ولو صح هذا الافتراض لصح معه التصور بأن الناس جميعا قد جاءوا على نمط واحد من التركيبة النفسية والروحية وأنهم لا توجد بينهم شذرة من افتراق في الطبع أو الفطرة. وعلى هذا فإنه لا مناص من أن يكون ثمة علاج ثان ليس من جنس الأول. فقرر القرآن أن يكون هذا العلاج مخاطبا للأنوثة في صميمها بما يقضها بهزة نفسية بالغة قد تكون أشد على المرأة من أسلوب الوعظ والكلام الحسن. والعلاج هنا هو الهجر في المضاجع. بمعنى الابتعاد عن التلاقي في الفراش وعدم المسيس ( الجماع ) فعسى أن يكون في ذلك من القسوة النفسية ما يحمل الزوجة على الإقلاع عن مناشزة زوجها والاستكبار عليه. لكن ثمة عناصر أخرى من النساء اللواتي يختلفن من حيث طبعهن ومزاجهن عن كثير من النساء بحيث لا يحقق الوعظ والهجران نجاعة أو عودا إلى الطاعة وحسن المعاشرة. وقرار الإسلام هنا أن يتحقق ذلك في الضرب المشروط بعدم التبريح. وهنا تقوم قائمة الحاقدين المبغضين أو المتعصبين والجهلة الذين يتصيدون المنافذ فيلجون منها إلى الإسلام ليشيروا من حوله الشبهات. وفي هذا الصدد يردون على المعالجة بالضرب لينفوا عنها نجاعة الأسلوب فضلا عن الأباطيل والأقاويل التي تقال في هذا المجال افتراء على الإسلام وتخريصا. أما بالنسبة للمعالجة بالضرب فما كان ذلك غريبا وما كان ليثير أدنى تساؤل أو امتعاض لو أن الأمر نوقش بإخلاص وتجرد وروية. لكن المتسائلين المستغربين لهذا الإجراء ( الضرب ) لا يفارقهم التعصب أو الجعل بحقيقة الإنسان. ذلك أن الضرب وسيلة للمعالجة تدخل في جملة الوسائل العلاجية المتعددة. وما الضرب إلا إحدى هذه الوسائل باعتباره الرادع المناسب والذي يستقيم به الطبع الناشز أو الخلق الذي سيم الميل والانحراف. على أن الضرب لا يقصد به الانتقام أو إشفاء الغليل ولا هو نتيجة لكراهية وحقد. ليس في وسيلة الضرب شيء من ذلك ولكنه مجرد وسيلة للعلاج باتت هي الاكثر ملاءمة للموقف الحاصل أو هو سبب يتحقق به التأديب و العود إلى الصواب والاستقامة. وقد يعرض لمتسائل هذا السؤال : أفلا يجوز للزوجة أن تعاقب زوجها بالضرب حال سفهه أو تجاوزه عليها، وللإجابة نقول : إذا ما تحقق ذلك فإنه سيكون قلبا للاعتبارات والموازين رأسا على عقب مثلما يضرب المرؤوس رئيسه أو الجندي ضابطه في الكتيبة أو الميدان، إن ذلك يعني التشويه الممجوج للصورة في حقيقتها ووجهها الناصع أو يعني المخالفة الصريحة لأبسط قواعد التربية والمنطق. فالمرؤوس لا يؤدب رئيسه بالضرب وليس للابن أن يعاقب أباه بحجة التأديب. ليس الأمر كذلك إلا أن يقع شيء من ظلم، فإن وقع ظلم كان للمظلوم أن يرفع ظلامته للقضاء ليباشر دوره في التحقيق وإحقاق الحق، كما لو كان قصاصا ينبغي أن يقاد فيه للمظلوم من الظالم.
وعلى أية حال فإن الضرب إن وقع فهو مشروط فلا يكون فيه خدش للجسم أو كسر للعظم ولا لطم للوجه فإن الوجه موضع احترام فلا يجوز ضربه. ي
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٠٠.
٣ - القاموس المحيط جـ ٢ ص ٢٠١..
والمخاطب في الآية هم الولاة والأمراء. وقيل : الخطاب موجه للأولياء. والقول الأول هو الراجح وهو قول الجمهور. أما المخاطب في قوله :( إن يريدا إصلاحا ) قيل : الحكمان. وقيل : الزوجان. ومعنى الآية : إنكم إذا علمتم بوقوع خلاف وتنافر بين الزوجين فابعثوا حكمين من أجل الإصلاح بينهما بحيث يكون الحكم الأول من أهل الزوج والحكم الثاني من أهل الزوجة على أن تتحروا عدالة هذين الحكمين وأنهما من ذوي السيرة الحسنة الحميدة. وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من تتوفر فيه هذه الأوصاف وجب اصطفاؤهم من غير أولي القربى على أن يكونا من أهل العدل والعلم والتقوى.
أما مهمة هذين الحكمين فإنها الإصلاح بين الزوجين المتناشزين المتنافرين. حتى إذا اجتمع كل حكم بمن يليه في القربى حدثه حديث العظة والتذكير، ورغّبه في موادّة زوجه، ونفّره من فداحة التفريق عسى أن يكون في هذا الحديث الحسن الرؤوف ما يؤلف بين القلبين المتباغضين وما يكون سببا في إذهاب النشوز والبغضاء وتحقيق التآلف والمودّة فيعودان زوجين مؤتلفين متحابين.
والحكمان وهما يراوضان الزوجين على التداني والتآلف يستطيعان الوقوف على مقصد كل من الزوجين فان كانا راغبين في العودة إلى حظيرة الزوجية كان به ونعمت. وإن كان غير ذلك من التدابر الذي لا رجعة بعده قدم الحكمان تقريرهما في ذلك إلى القاضي أو الوالي. والحكمان في ذلك كله مؤتمنان تماما بحيث يقع حكمهما موقع الإلزام الحاسم الذي يأخذ القاضي بموجبه ليقضي بما قضيا. وعلى ذلك فإن قضى الحكمان بالتفريق كان ذلك بمثابة طلاق بائن وهو قول الشافعية والمالكية وآخرين من أهل العلم، وذلك استنادا إلى قوله تعالى :( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) وهذا نص من الله تعالى أن الحكمين قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وقيل : إن الحكمين ليس لهما إيقاع الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك ويطلعا القاضي عليه. وهذا بناء على أن الحكمين رسولان شاهدان، والإمام يفرق إن أراد ويأمر الحكمين بالتفريق. وهو قول الحنفية، وأحد قولي الشافعي.
أما إذا اختلف الحكمان فقال أحدهما بما يخالف الآخر بات قولهما غير ذي اعتبار ولا هو بنافذ حتى يتفقا. فلو قضى أحدهما بالتفريق ولم يقض الآخر بذلك لم يؤخذ بقولهما معا. وكذلك لو حكم أحدهما بمال وأبى الآخر فليس ذلك بشيء حتى يتفقا١.
قوله :( وبالوالدين إحسانا ) إحسانا مصدر لفعل محذوف تقديره أحسنوا. والله يأمر بالإحسان لجملة من الناس يأتي في طليعتهم أحقهم بالفضل والإجلال والتكريم، وهما الوالدان. وقد قال العلماء : إن أحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة والإذعان ذلكما اللذان قرن الله الإحسان إليهما بعبادته سبحانه ألا وهما الوالدان. ويبدو ذلك في قوله تعالى :( أن اشكر لي ولوالديك ) وقد قال النبي ( ص ) : " رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين ". والإحسان للوالدين في هذه الآية لا يرد على سبيل الندب والاستحباب، بل هو وارد مورد الفرضية والإيجاب. فإن طاعة الوالدين في غير معصية والإحسان إليهما وبرهما أمور أوجبها الله إيجابا على كل مسلم عاقل بالغ له أبوان أو أحدهما على قيد الحياة. وليس في معصيتهما والنكول عن البر بهما والإحسان إليهما أو أحدهما إلا ضرب من ضروب الجريمة الكبرى التي يسقط فيها الخاسرون التعساء، وهي جريمة بشعة نكراء قد شدد الإسلام في الإغلاظ عليها بأنها إحدى السبل التي تؤدي بالعاقين العصاة إلى جهنم والعياذ بالله.
وتوجب الآية كذلك الإحسان لذوي القربى بعد أن عطفهم على الوالدين. وأولوا القربى هم الذين تربطهم بالمرء رابطة النسب على اختلاف درجاتهم، سواء كانوا من أولي الأرحام أو العصبات وسواء كانوا من الورثة أو غير وارثين.
وكذلك توصي الآية بالإحسان للمساكين وهم جمع تكسير مفردة مسكين. وفي بيان حقيقة المسكين قد وردت أقوال كثيرة مختلفة لعل أصوبها وأرجحها أن المسكين هو الذي يملك من المال والمؤونة ما لا يكفيه. فهو بذلك من ذوي الحاجة الذين ليس لديهم ما يكفي لسد حاجتهم فهؤلاء يجدر بالمسلمين أن يحدبوا عليهم وأن يحسنوا إليهم بمختلف وجوه الإحسان.
وقوله :( والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ) الجار من الجوار وهو الأمان والعهد وإعطاء الرجل ذمة فيكون بها جاره فيجيره. يقال " هو في جواري " أي في عهدي وأماني١. وفي كلمة الجار ما يوحي بوجوب صون الجار من الضرر وكف الأذى عنه ثم الإحسان إليه باعتباره داخلا في الجوار لجاره أي في أمانه وعهده. وهذه مرتبة عظيمة يحتلها الجار من حيث وجوب الإحسان إليه ودفع الشر والبوائق عنه. وإسداء النصح والبر وكل وجوه البر والخير له.
وفي الآية تقسيم للجار إلى صنفين. أولهما : الجار ( ذي القربى ) أي القريب، ثانيهما :( الجار الجنب ). وهو الغريب. وقيل المقصود بالجار ذي القربى المسلم. أما الجار الجنب فهو النصراني أو اليهودي وكل هؤلاء موصى بهم سواء كانوا أقرباء أم غرباء، أو كانوا مسلمين أو غير مسلمين. وقد أوصى النبي ( ص ) بالجار حق التوصية وعلى نحو ينتزع الاهتمام البالغ بالجار وحقه فقد روى أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ( ص ) قال : " وما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " وروى البخاري ومسلم عن أبي شريح أن النبي ( ص ) قال : " والله لا يؤمن والله لا يؤمن " قيل : يا رسول الله ومن ؟ قال : " الذي لا يأمن جاره بوائقه ". وروى البزار عن جابر بن عبد الله عن النبي ( ص ) أنه قال : " الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد، فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام. والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار. والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار ".
أما في حد الجوار فقد قيل إن حده أربعون دارا من كل ناحية استنادا إلى الحديث الذي يقول : " ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه " وفي إكرام الجار أخرج مسلم عن أبي ذر أن النبي ( ص ) قال : " يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ".
وذلكم حديث آخر قد جمع فيه النبي ( ص ) حقوق الجار وهو مروي عن معاذ بن جبل قال : " قلنا يا رسول الله، ما حق الجار ؟ قال : " إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرّك وهنيته، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزّيته، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها، وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله ".
وقوله :( والصاحب بالجنب ) قيل في تفسيره : هو الرفيق في السفر. وقيل : هي الزوجة، وقيل : الضيف والقول الأول أرجح والله أعلم.
قوله :( وابن السبيل ) قيل هو الضيف. وقيل هو الذي يمر بك مجتازا في السفر، وهذا الأرجح.
قوله :( وما ملكت أيمانكم ) هم المماليك أو الأرقاء يوصي الله سبحانه بالإحسان إليهم وألا يمسوا بأذى يكرهونه. وقد جعل النبي ( ص ) يوصي بهم في مرض موته ويقول : " الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم " جعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه. وفي البر بالمماليك وجوب الإحسان إليهم ورفع الأذى والظلم عنهم روى البخاري ومسلم عن أبي ذر أن النبي ( ص ) قال : " هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم " وقال عليه الصلاة والسلام : " لا يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا سيء الملكة " أي الذي يسيء معاملة من عنده من مماليك.
قوله :( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ). المختال هو ذو الخيلاء المستكبر الذي يجد نفسه عظيما ولا يقوم بحقوق أحد فهو يأنف من أقاربه وجيرانه إذا كانوا ضعفاء، بل يأنف من ضعاف الناس ومحاويجهم فلا يحسن عشرتهم. قال صاحب الكشاف في المختال : التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه فلا يتحفى بهم ولا يلتفت إليهم.
وأما الفخور فهو الذي يعدد مناقبه ويمتن على عباد الله بما أعطاه الله٢.
٢ - الكشاف جـ ١ ص ٥٢٦ وتفسير الرازي جـ ١٠ ص ٩٨- ١٠٠ وتفسير القرطبي جـ ٥ ص ١٨٢- ١٩٠..
قوله :( واعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) الكفر معناه الستر والتغطية. فالبخيل يستر نعمة الله ويجحدها. ولذلك قد ذم الله البخلاء الذين يجحدون نعمة اله فلا تظهر عليهم لا في مأكل ولا في ملبس ولا في مأوى ولا في سخاء أو بذل مع أن الله جلت قدرته يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. والأشد من ذلك عتوا وجحودا كتم العلم عن الناس كشأن يهود لما كتموا نبوة محمد ( ص ) مع أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة.
وقيل : إن الآية نزلت في اليهود فقد جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل والمال وكتمان ما أنزل الله في التوراة من ذكر النبي محمد ( ص ). وذلك غاية البخل الذي ينطمس فيه وجه الحق وتخان فيه الأمانة. وقد توّعد الله هؤلاء الأشحّة الذين يبخلون بالخير والبذل ثم يحرضون غيرهم على الشح كذلك ليكونوا أمثالهم- بعذاب الخزي والمهانة١.
والكلام هنا عن الباذلين أموالهم ( رياء ) منصوب على الحال وقيل مفعول لأجله٢ وهو الرياء الذي يبتغي المرائي به السمعة والثناء وحسن الحظ بين الناس ولم يقصد به وجه الله. وهؤلاء المراؤون صنف من أهل النفاق الذين لا يؤمنون باليوم الآخر فهم قرينهم الشيطان ومن كان الشيطان قرينه فبئس هذا القرين. والقرين هو الخليل أو الصاحب من الإقران.
قوله :( وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) المخاطب هو الرسول محمد ( ص ) فإنه سيجاء به يوم القيامة ليكون شاهدا على أمته التي بعث فيها. وقد أخرج البخاري بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله ( ص ) : " أقرأ عليّ " قلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : " إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت عليه سورة " النساء " حتى بلغت ( وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : " أمسك " فإذا عيناه تذرفان. أما المقصود بقوله " ( هؤلاء ) فقد قيل هم كفار قريش فهم وزرا من غيرهم من المشركين وذلك لمعاينتهم النبوة ولما رأوه من الأدلة والمعجزات التي تبرهن على صدق الرسول الكريم، لكنهم لصلفهم وعنادهم لجوا مستكبرين جاحدين. وقيل : المقصود جميع أمة النبي فهم الذين سوف يقف النبي عليهم شهيدا يوم القيامة ليشهد على أعمالهم لدى العرض والحساب. نسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة.
قوله :( ولا يكتمون الله حديثا ) في الواو هنا وجهان : أحدهما العطف على ( تسوى ) فتكون لا زائدة. والثاني : أنها واو الحال، والجملة في محل نصب حال٢.
٢ - البيان للأنباري جـ١ ص ٢٥٥..
قوله :( وأنتم سكارى ) مبتدأ وخبره. والواو تفيد الحال. وبذلك فان جملة المبتدأ والخبر في محل نصب حال. وسكارى جمع تكسير مفرده سكران على وزن فعلان. والسكر نقيض الصحو ومنه التسكير، كأن تقول : سكرت الشق أي سددته وجعلته مسدودا٣ وعلى هذا فإن السكران مسدود العقل بما أصابه من آفة السكر بفعل الخمرة وهي ما يخامر العقل، ومن ذلك الخمار أي الستار الذي يغطي الشيء فيحجبه عن الرؤية. وعلى ذلك فالخمرة ستار يخامر العقل فيغشاه بحجاب كثيف من الإسكار٤.
قوله :( حتى تعلموا ما تقولون ) أي حتى يمكن التيقن مما تقولونه تلاوة وغيرها في صلاتكم. والسكران لا يعلم ما يقول فلا يلزمه طلاقه ؛ لأنه كالمعتوه الذي لا يفهم ولا يعي. وهو مروي عن ابن عباس. وقال به عثمان. وهو قول الليث بن سعد وأبي ثور والمزني، ورواية عن الشافعي. وكذلك البنج من ذهب به عقله فلا يقع طلاقه. وأجاز طلاقه آخرون. فقد روي ذلك عن عمر وبعض التابعين وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ورواية أخرى عن الشافعي.
أما الإمام مالك فقد ألزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع٥.
قوله :( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) الجنب من الجنابة وهي مخالطة الرجل المرأة حتى يحصل الإنزال. والجنب لا يؤنث ولا يجمع. والأصل فيه من البعد كأن الجنب يكون بعيدا عن حال الصلاة ٦. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن الجنب هو غير الطاهر سواء كان بسبب الإنزال أو ملامسة الختان للختان ولو بغير إنزال وهو الصحيح.
قوله :( إلا عابري سبيل ) قيل : عابر السبيل هو المسافر فلا يصح لأحد بذلك أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإن له أن يتيمم ثم، يصلي وهو قول أبي حنيفة. وذكر آخرون في سبب نزول الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد فإذا أصاب أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد. فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء رسول الله ( ص ) ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال : " وجّهوا هذه البيوت عن المسجد ". ثم دخل النبي ( ص ) ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال : " وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ". وفي هذا دليل على صحة القول الثاني وهو سبب نزول الآية. وفيه الحكم بجواز عبور المسجد للجنب الذي لا يجد مندوحة عن دخول المسجد بقصد الوصول إلى بيته.
وثمة محظورات على الجنب إلا أن يغتسل، وهي قراءة القرآن قلّ ذلك أو أكثر. فقد أخرج ابن ماجه عن ابن عمر أن النبي ( ص ) قال : " لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن " وأخرج الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال : " كان رسول الله ( ص ) لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا ". وكذلك أخرج الدارقطني عن عبد الله بن رواحة أن رسول الله ( ص ) نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب.
ومع ذلك فإنه يحل للجنب أن يقرأ من القرآن على سبيل الأذكار أو المواعظ والأحكام، كقوله عند الركوب :( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ) وقوله عند المصيبة :( إنا لله وإنا إليه راجعون ).
ويذهب الإمام مالك وأصحابه إلى جواز التلاوة للآيات اليسيرة من الجنب بقصد التعوذ أو الاستدلال وذلك كما لو قرأ آية الكرسي أو الاثنين الأخيرتين من سورة البقرة٧.
أما أهل الظاهر فقد غالوا في ذلك إذ قالوا : يجوز للجنب أن يتلو القرآن ما قل منه أو كثر. ونحسب أن هذا القول مجانب للصواب٨.
قوله :( حتى تغتسلوا ) فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد حتى. وعلامة النصب حذف النون من آخره. والاغتسال هو إسباغ الماء على الجسد مع إمرار اليد على المغسول وهو التدليك. على أن التدليك ليس شرطا لصحة الغسل وهو قول جمهور العلماء. وذهب الإمام مالك إلى وجوب التدليك عند الاغتسال، وقول الجمهور أصوب لما روى عن عائشة وميمونة في صفة غسل النبي ( ص ) وأنه ليس فيه تدليك.
وبالنسبة للنية فقد اشترطها بعض الفقهاء منهم مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم مثلما اشترطوا النية في الوضوء والتيمم ؛ لأن مثل هذه الأمور عبادة وهذه لا تتحقق إلا بالنية لقول النبي ( ص ) :" إنما الأعمال بالنيات " وخالف في ذلك الأحناف وقالوا بصحة الغسل والوضوء بغير نية. لكن الطهارة عن طريق التيمم لا تتم إلا بالنية٩.
قوله :( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط... ) ثمة ظروف وأحوال يعز فيها الحصول على الماء أو استعماله فإنه حينئذ يتسنى للمرء أن يتيمم من أجل استباحة بعض العبادات التي يشترط لها الطهارة مثل الصلاة وتلاوة القرآن ودخول المسجد. وأول هذه الظروف والأحوال : المرض : فإن خشي المريض على نفسه الهلاك أو فوات جزء من أعضائه أو تأخير البرء إن اغتسل وذلك لبرودة الماء أو غير ذلك جاز له إذ ذاك أن يتيمم بالتراب الطاهر على نحو ما سوف نبيّن. فقد روى أبو داود والدارقطني عن عمرو بن العاص قال : احتملت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت باصحابي الصبح فذكروا ذلك لرسول الله ( ص ) فقال : " يا عمر صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله عز وجل يقول :( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) فضحك نبي الله ( ص ) ولم يقل شيئا. ويعزز ذلك أيضا قوله تعالى :( وما جعل عليكم في الدين من حرج ). وأخرج أبو داود والدارقطني عن جابر قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجّّه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي ( ص ) أخبر بذلك فقال : " قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده ".
السفر : يجوز التيمم للمسافر سواء كان السفر قصيرا أو طويلا إذا لم يتوفر الماء من غير اشتراط لما يجوز فيه قصر الصلاة. وذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم خلافا لما قيل بأنه لا يكون تيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة وهو ضعيف.
أما بالنسبة لجواز التيمم في الحضر ( الإقامة ) فثمة خلاف بين الفقهاء في ذلك فقد ذهب الإمام مالك وأصحابه وأبو حنيفة إلى أن التيمم في الحضر جائز مثلما هو جائز في السفر وذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز للحاضر المقيم أن يتيمم إلا إذا كان سقيما يخشى الهلاك أو التلف أو لغير ذلك من المعاذير الشرعية. وقال أيضا إنه إذا عدم الماء في الحضر جاز للصحيح والسقيم التيمم للصلاة على أن يعيدا بعد الحصول على الماء.
ويبدو أن الراجح ما ذهب إليه الشافعي وهو منع التيمم لغير المسافر وتوجيه هذا القول أن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمسافر والمريض وبذلك فإنه سبحانه لم يبح التيمم إلا بشرطين هما السفر والمرض ويخرج من ذلك المقيم والصحيح.
نفاد الماء : إذا عدم الماء ولو في الحضر جاز التيمم لقوله تعالى :( أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ).
فإذا نفد الماء في الحضر، أو بيع بثمن لا يطاق لغلائه، أو كانت الحاجة إليه من أجل الشرب ماسّة جاز التيمم، سواء احتيج إليه لسقاية الآدميين أو البهائم كالفرس أو الشاة أو الهرة أو كلب الحراسة أو غير ذلك.
والغائط أصله في اللغة ما انخفض من الأرض ويجمع على غيطان. وكان من عادة العرب إذا مشوا لقضاء الحاجة أن يذهبوا بعيدا عن أعين الناس ليغيبوا في الغائط من الأرض أي المنخفض، وبعد ذلك قد سمي قضاء الحاجة بالغائط١٠.
قوله :( أو لامستم النساء ) ورد في تفسير الملامسة وفي حكمها جملة أقوال :
أولها : أن الملامسة مختصة باليد فقط فإذا وقعت الملامسة فيما بين الرجل والمرأة الأجنبية باليد وجب الوضوء لنقض الطهارة باللمس. وهو قول طائفة من أهل العلم. وهو مروي عن عمر وابن مسعود، وقال به الأوزاعي.
ثانيا : أن الملامسة مختصة بالجماع وما كان دون ذلك فلا وضوء فيه ولا تيمم وهو قول أبي حينفة، إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها فيجب في حقه الوضوء ؛ وذلك لما رواه أبو داود وابن ماجه عن عائشة أن النبي ( ص ) قبل امرأة من نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ.
ثالثها : إذا كانت الملامسة بغير شهوة فلا وضوء. وعلى ذلك يجب الوضوء عند اللمس إذا اقترن بالشهوة سواء وقع اللمس بحائل أو بغير حائل. وذلك ما ذهب إليه الإمام مالك وأحمد. وبذلك إن لمسها من رواء حائل لم ينتقض وضوءه في قول أكثر العلماء. وقال مالك والليث : ينتقض إن كان الحائل ثوبا رقيقا.
رابعها : إذ أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة وجب الوضوء أو التيمم عند عدم الماء سواء كان ذلك مقترنا بالشهوة أو بغيرها. فالمهم هو اللمس يقع بين الأبدان في أي جزء منها من غير تقييد لذلك باليد. وهو قول الإمام الشافعي.
على أن اللمس الذي ينتقض به الوضوء، موضعه المرأة الأجنبية الكبيرة، وليس ذات المحرم ولا الصغيرة. أما إن كانت من المحرمات على التأبيد أو من الصغار فلا ينتقض الوضوء بلمسها. وهو قول أكثر أهل العلم. خلافا للحن
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٥٠٠..
٣ - مختار الصحاح ص ٣٠٦..
٤ - مختار الصحاح ص ١٨٩..
٥ - القرطبي جـ ٥ ص ٢٠٣ وفتح القدير جـ١ ص ٤٦٨ والطبري جـ ٤ ص ٦٢..
٦ - المصباح المنير جـ ١ ص ١٢٠...
٧ - مغني المحتاج للشربيني جـ ١ ص ٧٢ والمغني جـ ١ ص ١٤٤ وأسهل المدارك جـ ١ ص ١١٢..
٨ - المحلى لابن حزم جـ ١ ص ٧٧-٧٩..
٩ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٢١١ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٣٩..
١٠ - تفسير الطبري جـ ٤ ص ٦٥ وفتح القدير ج ١ ص ٤٦٩-، ٤٧٠ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٥٧..
والله سبحانه وتعالى عليم بحقيقة هؤلاء الضالين المنحرفين الذين يعادون المسلمين شديد العداوة، وهم رغم عداوتهم ومكرهم فإن الله سبحانه يكفي المسلمين ويدرأ عنهم كل عوادي الكيد والدسائس وهو سبحانه الولي والنصير.
وقوله :( هادوا ) أي اليهود. وهادوا تعني لغة تابوا ورجعوا إلى الحق فهو هائد، ومنه الهوادة أي اللين. والتهود بمعنى التوبة والعمل الصالح. ويقال أيضا هاد وتهود أي صار يهوديا والهود أي اليهود. وقيل : اليهودي نسبة إلى يهوذا وهو الابن الأكبر لإسرائيل ( يعقوب ) ولد إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام١ وقد وصف الله اليهود بهذا الوصف اللصيق بهم وهو تحريفهم للكلم أي الكلام إذ كانوا يتأولون كلام الله فيحملونه على غير محمله الصحيح جريا وراء أهواء شخصية ضالة. وكانوا كذلك يفسرون كلام الله تفسيرا مجانبا لحقيقة ما يقصده الدين السماوي من معاني الخير والبر والصلاح ومن مبادئ العدل والمساواة والرحمة التي أوجبتها شرائع السماء على جميع المؤمنين بالله. وأنكى من ذلك مجاهرتهم بالجحود الظالم لنبوة الرسول الكريم محمد ( ص ) وهم يجاهرونه بالمعصية والنكران ( ويقولون سمعنا وعصينا ).
قوله :( واسمع غير مسمع ) غير، منصوب على الحال أي اسمع ما نقول لا سمعت ! وهو دعاء خبيث واستهتار تكنه قلوبهم فلا تلبث أن تنطقه ألسنتهم وهو مرادهم. مع أنهم يتظاهرون بأن مقصودهم هو : اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى.
قوله :( وراعنا ) يظن السامع حال سماعه هذه الكلمة أن المقصود المراعاة أو راعنا سمعك، لكن اليهود عندما كانوا يقولون للنبي :( وراعنا ) قد قصدوا غير ذلك فقد كانوا يقصدون بذلك الرعونة وذلك على سبيل السب والاستهزاء بالنبي ( ص ). وهذا المقصود من قوله تعالى :( ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) لقد كان التلاعب بمثل هذه الألفاظ مع ما كان يختبئ وراءها في الصدور من خبيث المقاصد، لهو الليّ والتحريف. والأصل في اللي هو الفتل. وإعراب ( ليا ) النصب على المفعول لأجله. وقيل مفعول مطلق٢.
وكذلك قد كان تلاعبهم بمثل هذه الألفاظ وإخفاؤهم لخبيث المقاصد ( وطعنا في الدين ) والطعن هنا يتناول سب النبي والتشكيك في نبوته إذ كانوا يقولون : لو كان نبيا لعلم أننا نقصد سبّه والسخرية منه، مع أن الله جلت قدرته قد أطلع نبيّه على هذه المقاصد الخبيثة الخبيئة.
قوله :( ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) لقد كان خيرا لهؤلاء المحرّفين الملتوين ( وأقوم ) أي أعدل وأسد لو استقامت طبائعهم وخلصت نواياهم مقاصدهم فقالوا :( سمعنا وأطعنا... ) فإنه ليس في هذه المقالة شيء من تحريف أو مخاتلة أو فتل، ولكنه الكلام المتكشف المستبين الذي يكشف عن نفس مبرّأة من الحقد والضغينة والالتواء. لكن الله خذل هؤلاء الماكرين وأبعدهم عن الإيمان والخير بسبب كفرهم، وهو تأويل قوله تعالى :( ولكن لعنهم الله بكفرهم ).
قوله :( فلا يؤمنون إلا قليلا ) أي أنهم إيمانهم هيّن وغاية في البساطة والضعف حتى لكأنهم لم يوقنوا البتة٣.
٢ -البيان جـ ١ ص ٢٥٦..
٣ - الكشاف جـ ١ ص ٥٣٠-٥٣١ وتفسير الطبري جـ ٤ ص ٧٤ وتفسير القرطبي جـ ٥ ص ٢٤٢-٢٤٤..
والذي يفهم من الآية أن المخاطب بها هم اليهود فقد دعوا إلى الإيمان بالقرآن الذي جاء مصدقا لما معهم وهي التوراة١.
قوله :( من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ) ذلك تهديد مرعب لليهود ليحملهم على الإيمان بالنبي محمد ( ص ) وما تنزل عليه من كتاب وهو القرآن وإلا فإنهم معرّضون لطمس وجوههم. وقد ورد في معنى الطمس قولان. أحدهما على الحقيقة وهي أن تنقلب صورتهم قلبا تاما وبذلك ستتحول وجوههم بما فيها العيون والأنوف والأفواه إلى القفا وبعدها يرتد أحدهم على الدبر فيمشي القهقرى ليكون مشيه معكوسا أو تطمس وجوههم فلا يبقى لها سمع ولا بصر ولا أنف ومع ذلك ترد إلى ناحية الأدبار. وذلك معناه الطمس. والقول الآخر أنه على المجاز أي أن الطمس محمول على الضلالة في مسعاهم وحرمانهم من كل مظاهر التوفيق والسداد والصواب٢.
والطمس في اللغة معناه الاستئصال والإذهاب البتة. طمسته طمسا أي محوته. وطمست الشيء أي استأصلت أثره ومنه قوله سبحانه :( فإذا النجوم طمست ) أي امّحت وذهب ضوؤها٣.
قوله :( أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ) اللعن هو الطرد أو الإبعاد. فالملعون أو اللعين من كان مطرودا بعيدا من رحمة الله. وأصحاب السبت هم اليهود الذين اعتدوا على حرمة ذلك اليوم ( السبت ) إذ كان الاصطياد فيه حراما فاحتالوا بمكر وخسّة ليصطادوا في اليوم نفسه فكان جزاؤهم أن مسخهم الله قردة وخنازير. والسبت مصدر. نقول : سبتوا سبتا. وجمعه سبوت وأسبت. وسبت اليهود أي انقطاعهم عن المعيشة والاكتساب٤.
قوله :( وكان أمر الله مفعولا ) أي أن أمره واقع لا محالة فلا راد لما أراد ولا مانع لما قدّر.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٥٠٧ وتفسير القرطبي جـ ٥ ص ٢٤٤، ٢٤٥..
٣ - القاموس المحيط جـ ٢ ص ٢٣٥..
٤ - تفسير الطبري جـ ٤ ص ٧٨-٨٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٥٠٨..
وأخرج البزار عن أنس بن مالك عن النبي ( ص ) قال : " الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يترك الله منه شيئا : فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض. وعن عبد الله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله : أي الذنب أعظم قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك ".
والشرك بالله يأتي على ضروب وصور أشدها وأعتاها اتخاذ إله آخر مع الله كأن يكون الإله صنما من الأصنام التي يقدسها وينحني لها المشركون في خضوع. أو أن يكون حاكما جبارا من الجبابرة في الأرض الذين يستخفّون الناس فيفرضون عليهم طاعتهم وعبادتهم مثلما كان عليه ملوك مصر الفراعنة أو النمروذ خصيم إبراهيم في العراق.
أو أن يكون جزءا من الطبيعة والكون كمن يجسد للشمس أو القمر أو البحر أو النهر. أو كمن يذهل في إفراط وهو يغمره الشوق والحنين لبلده مسقط رأسه فيقدس أحجاره وترابه تقديسا يصل بالمشتاق المتلهف درجة التقديس والعبادة.
ومن ضروب الشرك كذلك أن تنطمس معالم التقوى والإيمان من الإنسان في زحمة الصراع مع الهوى والشهوات حتى يصير إلى كائن منغلق عن الخير ومشدود إلى الدنيا وحطامها وزخرفها كمن يؤثر المال على العقيدة والمبدأ. وتلك مرتبة من مراتب الشرك يرتكس فيها الإنسان ارتكاسا مقبوحا يودي به إلى التلبس بوصمة الشرك والكفران.
ومن ضروبه كذلك الرياء ولكنه ضرب من نوع أصغر. وهو أن تنثني نية الإنسان في عمله دون مرضاة الله لتتجه لإرضاء البشر وذلك هو الشرك الأصغر الذي كان النبي ( ص ) يحذر أمته منه وأنه أخوف ما كان يخاف منه على أمته. ومما هو جدير بالبيان هنا حقا ذلك الضرب من الشرك الذي غفل عنه معظم الناس في هذا الزمان وفي غالب الأزمان. وتلكم هي طاعة الحاكم الذي نبذ شرع الله واتخذه وراءه ظهريا والذي تعمد أن يقصي شرع الله عن ساحة البشر لكي يقيم مقامه شرعا وضعيا بعيدا عن منهج الله. وتلك جريمة بالغة كبرى تنطوي على التنكر لدين الله وإبعاده عن واقع التطبيق وإبداله بتشريع من صنع البشر وهو في تصوّر الإسلام جحود ونكران يصم صاحبه بالكفر الصريح لقوله سبحانه :( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) لكن الأفراد والرعية الذين يسارعون لطاعة الحكام في تشريعهم البديل هم منحرفون عن صراط الله ومنهجه فلا غرابة بذلك أن تلحقهم وصمة الإشراك بالله. ذلك أنهم عبدوا الساسة والحكام الذي يشرعون للبشر على غير ما أنزل الله. وفي تصوّر الإسلام أن من أحلّ ما حرّم الله أو حرّم ما أحلّ الله أو عمل على تعطيل شرع الله لإبداله بشرع آخر فقد شرّع وهو يعني أنه جاء بشرع من عنده بدلا من شرع الله. أما الرعية وعامة القوم الذين يلهثون في خسة وذلة وراء الساسة المارقين المعطلين لشرع الله الرافضين لمنهجه، فقد سقطوا في ظلام الشرك، قال الله سبحانه في النصارى الذين أطاعوا الأحبار والرهبان عندما أحلوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال :( اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ).
قوله :( ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) من اكتسب الشرك فقد تلطخ بأنكر الآثام وأشدها عتوا. وإثم الشرك- كما بينا- لهو من الفظاعة والنكر بما يصغر دونه أي ذنب أو جريرة مهما كانت. فقد أخرج أبو يعلى في مسنده عن جابر أن النبي ( ص ) قال : " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب " قيل : يا نبي الله وما الحجاب ؟ قال : " الإشراك بالله. ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى إن شاء أن يعذبها وإن شاء أن يغفر لها ".
والتزكية هي التطهير. ويتم ذلك بامتداح النفس أو الغير بما ينفي عنه النقائص والعيوب والذنوب٢.
ومع أن الآية نزلت في اليهود لتبرأتهم أنفسهم من العيوب ولتظاهرهم بالإخلاص والقرب من الله وأنهم متميزون عن غيرهم بمحبة الله لهم وأن ذنوبهم مغفورة- فإنه مع ذلك كله تفيد الآية النهي عن تزكية الإنسان نفسه. وقد جاء في ذلك قوله سبحانه :( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) ولا يزكي أحد نفسه إلا من كان من أهل الرعونة والخيلاء وذلك خلق ذميم يجلب سخط الله ويبطل الأعمال لتكون هباء منثورا.
ومن جهة أخرى فإن الآية توجب ألا يمدح أحد غيره. فإن كان ذلك حال غياب الممدوح محظورا فلا جرم أنه حال شهوده أشد سوءا ونكرا وفي صحيح مسلم عن المقداد قال ( ص ) : " أن أحثوا في وجوه المدّاحين التراب " وفي الصحيحين عن عبد الرحمان بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله ( ص ) سمع رجلا يثني على رجل فقال : " ويحك قطعت عنق صاحبك " ثم قال : " إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا ". وأخرج الإمام أحمد عن معاوية أن النبي ( ص ) كان يقول : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح ". ولعل من الأنسب أن يتكيف الحكم بحسب الممدوح على أن تكون التزكية قائمة على الحق والصدق. أما إن كانت التزكية لا أساس لها من الحق والصدق فذلك حرام ومحظور. وعلى هذا فإن امتداح المرء بما فيه من حميد الخصال جائز ان كان الممدوح متين العزيمة والإيمان لا يزيده الثناء والإطراء إلا حبا في الخير وفعله. فهو إذا أطري بما هو أهله ازداد بذلا وعطاء وكان في ذلك ما يشجّع الآخرين على فعل الخير ويحرّضهم على الأفعال النافعة السديدة والإكثار من بذل الخير. لا جرم أن ذلك مرده إلى النوايا. فإن قصد إطراءه بما هو أهله تحريضا له على الإكثار من البر جاز٣. ( والله يعلم المفسد من المصلح ).
قوله :( بل الله يزكي من يشاء ) الله جلّت قدرته أعلم بالمتقين المتزكّين ذوي النوايا السليمة والأخلاق الكريمة الحميدة. فإن المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل فهو أعلم بخفايا الأسرار وحقائق الأمور.
قوله :( ولا يظلمون فتيلا ) الفتيل هو الخيط الذي يكون في شق نواة التمرة.
وقيل : الفتيل هو ما يتكون من أوساخ مفتولة بين الكفين إذا تفاركا بشدّة٤.
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ٢٧٢ ومختار الصحاح ص ٢٧٣..
٣ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٢٤٧..
٤ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٢٤٦- ٢٤٨ وتفسير الطبري جـ ٤ ص ٨٠-٨٢..
الأول : لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه- قال : الجبت هو السحر، والطاغوت معناه الشيطان.
والثاني : أن الجبت معناه الشيطان. وهو قول طائفة.
والثالث : أن الجبت معناه الأصنام. وهو قول ابن عباس.
والرابع : أن الجبت معناه الكاهن. وهو رواية عن ابن عباس.
والخامس : أن الجبت هو حيي بن أخطب. وهو قول ابن عباس.
والسادس : أن الجبت كعب بن الأشرف. وهو قول مجاهد.
والجبت في اللغة هو الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه. وكل ما عبد من دون الله تعالى مما يطغي الإنسان١ وذلك هو تأويل الجامع الذي نرجه.
هؤلاء الكفرة الذين يؤمنون بالسحر والشيطان أو ما عبد من دون الله يقضون في حكم فاسد جائر بأن المشركين عبدة الأوثان يتبعون الحق، وأن المسلمين أتباع النبي ( ص ) يتبعون الباطل وعلى ذلك فالمشركون عبدة الأوثان خير من المسلمين. وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن كعب بن الأشرف وهو سيد يهود المدينة قد خرج في سبعين رجلا منهم إلى مكة بعد وقعة أحد فحالفوا قريش على حرب المسلمين. فقال أبو سفيان لكعب بن الأشرف : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميّون لا نعلم فأيّنا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد ؟ فقال كعب قولة البهتان والزور : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد٢.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري، ص ١٠٣.
ثم إن الله جلت قدرته يندد بهؤلاء الكفرة الأشرار ويتوعدهم عذاب جهنم وكفى بها نارا حارقة لاهبة مستعرة، فقال :( وكفى بجهنم سعيرا ).
قوله :( إن الله كان عزيزا حكيما ) إنه سبحانه وتعالى قوي يحكم بما يريد ولا راد لقضائه ولا يعجزه شيء. وهو كذلك حكيم في تقديره العذاب للكافرين و العصاة.
بعد الحديث عن الكافرين وما أعد الله لهم من شديد الويل والثبور يأتي الحديث عن أهل الإيمان الذين لا تقف بهم الحال عند الاعتقاد المحشور في النفس، بل إنهم يقرنون إيمانهم وعقيدتهم بالعمل السديد المشروع. فهم بذلك عاملون نشطون لفعل الصالحات وممارسة كل وجوه الخير من القول أو العمل. أولئك الذين قد أعدّ الله لهم خير الجزاء والعطاء في جنّات عامرة وارفة ممتدة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا طرأ على قلب بشر. ومن بين ذلك الأنهار الجارية المنسابة من الماء والعسل وغيرهما. ثم الأزواج الصالحات الطاهرات وهن المبرآت عن عيوب الأذى والرذيلة اللواتي تتحقق فيهن كل ظواهر الصلاح من خلق وبهاء وود.
قوله :( وندخلهم ظلا ظليلا ) هو الظل الكثيف الرخيّ الطيّب الذي لا يتخلله الحر أو البرد. وقيل : ذلك كناية عن الراحة التي ينعم خلالها المؤمنون المتقون في الجنة تغشاهم نسائم ندية من رحمات الله العاطرة الزكية. لا جرم أن ذلك غاية الراحة والسكينة والحبور والرضا.
هذه الآية جاءت خطابا للنبي ( ص ) في مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين عند فتح مكة، فدعا النبي ( ص ) عثمان وشيبة وقال : " خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ".
على أن خصوص هذا السبب في النزول لا يمنع العموم في دلالة الآية. فهي بذلك جاءت لتأمر بأداء الأمانة كيفما كانت. حتى يمكن القول في هذا الصدد إن هذه الآية من أمهات الأحكام التي تضمنت جميع الدين والشرع كما قال الإمام القرطبي- رحمه الله- فهي تتضمن وعي الأمانة وأداءها على التمام في مختلف جوانب الحياة الدينية والدنيوية. ويأتي من جملة ذلك الصلاة والصيام والزكاة والجهاد والشهادة بالقسط فتلكم أمانات يجب أن تؤدى على أحسن حال. وكذلك حفظ المال فلا يتبدد بسرف به، وحفظ الودائع سليمة بغير انتقاص إلى أن تدفع إلى أصحابها، والحفاظ على النسل من البنين والبنات لتندرئ عنهم كل أسباب الفساد والتلويث ولتتحقق فيهم كل معاني القوة الخلقية والروحية والفكرية ليكونوا أفرادا أخيارا صالحين، فإن ذلك من صور الأمانة التي أوجبت الآية حفظها وأداءها. وكذلك الوطن فإن أمانة عظيمة يُرمز من خلالها لمثوى الإنسان وكرامته. فهو بذلك واجب صونه والحفاظ عليه بكل ما في المستطاع من قدرة وإمكان. ولا جرم بعد ذلك أن يأتي التأكيد على أهمية دين الله وشرعه فإن ذلك لهو الأمانة الكبرى التي يجب الحفاظ عليها في حرص وعناية بالغين. والتفريط في دين الله وشرعه هو البداية في الهزيمة الفادحة الشاملة. الهزيمة التي تأتي على الإنسان كله لتنسفه من القواعد فتذره تائها ضالا خاسرا. وكذلك الحكام والساسة يضطلعون بأثقل أمانة، وهي أمانة الرعية، ليسوسوها بالقسط فلا يجوروا أو يفرطوا. فإن اقترفوا شيئا من ذلك فقد أساءوا وخانوا. وهكذا فإن الأمانة مفهوم كبير يتناول عامة الالتزامات والوجائب التي يضطلع بها الإنسان وتناط به تأديتها على أكمل وجه وإلا كتب في عداد المقصرين المفرطين أو الخائنين الذين خانوا الله ورسوله.
قوله :( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) يخاطب بذلك على وجه الخصوص الحكام والأمراء والولاة. وقيل إن الخطاب موجه في معناه لجميع الناس فهم مدعوّون للحكم بالعدل إذا ما حكموا. وبذلك فإن كل إنسان مسلم مكلف نيط به وجوب الحكم بالعدل مهما تكن منزلته بين الناس أو مرتبته التي يتخوّل بموجبها أن يسوس جزءا من أمر العباد. والعدل من الجوانب العظيمة التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام وهو جانب أساسي وركين يتجلى بسببه وجه الحق جليا مستبينا وإذا لم يكن الأمر كذلك فثمة وجه الباطل يسام العباد من خلاله ألوان الشقاء والبلاء. والله جلّت قدرته يحذّر من الظلم في عواقبه الوخيمة وبوائقه التي تبعث الشر والفتة وتغمر الأرض بالأزمات والويلات والمعاناة، فإنه سبحانه سميع بصير، فهو يسمع ويرى كل ما يجري على الأرض أو يدب على متنها بدءا بالنملة البسيطة الساربة أو ما دونها وانتهاء بالإنسان المفكر المدبر المريد، إنه سبحانه محيط علمه بما يدور بين الكائنات جميعا. فهو كما قال عن نفسه :( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) ١.
الطاعة هي الخضوع والامتثال للأمر، والمعصية تعني المخالفة للأمر. والله سبحانه يأمر المؤمنين بطاعته هو جلّت قدرته. وطاعته تتحقق في الالتزام بتعاليم القرآن بما فيه من أوامر وزواجر أو حدود وقصاص أو نهي وتحذير. وكذلك يأمرهم بطاعة رسوله الكريم بالالتزام بسنته حال حياته أو بعد مماته. وكذلك فإن أولي الأمر طاعتهم واجبة. وقد قيل : إن المقصود بأولي الأمر هم الحكام والأمراء والقادة الذين يتسلمون مقاليد الحكم والرئاسة ليسوسوا الناس بالحق والعدل. وقيل : بل المقصود معاشر العلماء والفقهاء الذين يبينون للناس ما نزل إليهم في الكتاب وما ورد في سنة النبي ( ص )، وهذان القولان خير ما جاء في بيان ( وأولي الأمر ) ولا نركن لما ورد من أقوال أخرى بعيدة عن الصواب.
وفي طاعة الحكام والأمراء المسلمين الذين يسوسون الناس بشريعة الله يقول النبي ( ص ) فيما رواه البخاري : " واسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن النبي ( ص ) قال : " أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدوع الأطراف ". وأمثال ذلك كثير من السنة النبوية بما يدل على وجوب الطاعة من الرعية للراعي في المنشط والمكره. على أنه يجب التنبيه إلى شرطين ينبغي توفرهما لتكون طاعة المسؤول مشروعة وملزمة.
أحد هذين الشرطين : أن تكون الطاعة في غير معصية الله فإن كان شيء من معصية فلا مساغ عند ذلك للطاعة. فقد أخرج أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر عن رسول الله ( ص ) قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
ثاني هذين الشرطين : أن يكون الحاكم أو المسؤول الذي تجب له الطاعة من المسلمين لا من غيرهم وذلك لقوله :( منكم ) وكاف المخاطبين هنا تشير إلى المسلمين أي أطيعوا الحكام والولاة الذين منكم وعلى دينكم وملتكم. فإن كان هناك من غير المسلمين من يحكمهم فلا طاعة له على المسلمين البتة. ونحن إذ نتصور عدم الطاعة من المسلمين إذا حكم الحاكم بمعصية وهو من المسلمين، فكيف إن كان الحاكم من غير المسلمين كأن يكون يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا مشركا أو شيوعيا ملحدا فإن هؤلاء جميعا لا طاعة لهم على المسلمين. بل ينبغي قتالهم والخروج عليهم مهما كلف الثمن.
ومن ناحية أخرى فإن كل مسلم ومسلمة قد نيطت بهما بيعة فلا مساغ لأحدهما أن يتغاضى عن هذه البيعة أو يتنصل منها. فلا تبرأ له ذمة بالنسبة لهذه المسألة إلا أن يعقد مبايعة مع الإمام، فالرجل يبايع مصافحة والمرأة تبايع بالخطاب، فقد أخرج مسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ( ص ) قال : " من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " قوله :( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) التنازع بمعنى التجاذب والمجادلة وهو من الانتزاع فكأن كل واحد من المتجادلين المتخاصمين يجهد في انتزاع حجة الآخر وطرحها. والآية تقضي برد جميع الخصومات والجهالات وما اختلف فيه المسلمون فيما بينهم من أمور الدين والدنيا إلى كتاب الله وسنة نبيه ( ص ) فإنهما بما فيهما قواعد وكليات ومبادئ وأصول أو ما انبثق عنهما من جزئيات وفروع واجتهادات. لحقيقان بفض كل ما يطرأ على البشرية من مشكلات وقضايا مهما امتد الزمن أو دارت عجلة الأيام أو تغيّرت صور الأعراف والبيئات والأوضاع أو تجددت حوائج الناس في شتى بقاع الأرض في مختلف الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك.
ورد الأمر إلى الكتاب والسنة حال الخلاف والتنازع أمر واجب لا محيد عنه وهو بالنسبة للمسلمين معتبر من الفرائض الخطيرة التي يحذّر الإسلام من التفريط فيها. ولا يحيد عن الاحتكام إلى شرع الله إلا من خلع ربقة الإسلام من عنقه وارتضى أن يكون من غير المؤمنين لقوله تعالى :( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ).
قوله :( ذلك خير وأحسن تأويلا ) الإشارة تعود إلى ردّ التنازع والخلاف إلى الكتاب والسنة. وهي في محل رفع مبتدأ. ( خير ) خبر مرفوع. ولا ريب في أن الرجوع إلى الله ورسوله خير للراجعين وهو كذلك ( وأحسن تأويلا ) أي عاقبة ومآلا. فإن الاحتكام إلى الله أبعد عن كل مواطن الضعف والزلل وأسلم من الوقوع في الضلالة والخطل وأنجى للبشرية لتعيش على الدوام سالمة آمنة مطمئنة بعيدة عن المفاسد والشرور وعن كيد الإنسان لأخيه الإنسان.
سبب نزول هذه الآية أن رجلا من الأنصار وآخر من اليهود قد تخاصما فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد، والآخر يقول : بيني وبينك كعب بن الأشرف وهو زعيم اليهود. وقيل كان بين أحد المنافقين ورجل من اليهود خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى أن يحتكما إلى النبي ( ص ) ؛ لأنه يعلم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي لكي يحتكما إلى كعب بن الأشرف زعيم اليهود في المدينة ؛ لأنه يعلم أنه يقبل الرشوة فأبى اليهودي أن يخاصمه لغير رسول الله ( ص ) فلما رأى المنافق ذلك فأتى معه إلى النبي والاحتكام إليه فقضى النبي ( ص ) لليهودي فلما خرجا كلاهما من عند النبي قال المنافق : لا أرضى انطلق بنا إلى أبي بكر ليقضي بيننا فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر فقال اليهودي : إنا صرنا إلى رسول الله ( ص ) ثم إلى أبي بكر فلم يرض ( يقصد المنافق ) فقال عمر للمنافق : أكذاك هو ؟ قال : نعم فقال عمر : رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل فأخذ السيف ثم ضرب به المنافق فقتله، وقال : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله وهرب اليهودي. فنزلت الآية فقال الرسول ( ص ) لعمر : " أنت الفاروق " ونزل جبريل وقال : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق١.
ومن المناسب أن يتسع مفهوم هذه الآية ليشمل كل من يزعم أنه يؤمن بالله وما أنزل على النبيين من قبله ثم يحتكم إلى غير ما أنزل الله من شريعة وتصوّر. وذلك هو الفصام المصطنع الفادح الذي يفصم عرى الدين عروة عروة. فصام يسوّل للخاطئين أن يقتصروا من الدين على بعض أجزائه ليذروا ما فيه من جوانب أساسية أخرى لا قوام للدين بغيرها. مع أن من أجلى ما في الإسلام من خصائص أنه كل لا يتجزأ وأنه يؤخذ جملة واحدة متماسكة متكاملة كيلا يتخذه الخاطئون عضين. والقرآن يندد بشدة بأولئك المارقين الخاطئين الذين يتخذون القرآن عضين من الذين يؤمنون من القرآن ببعض أجزائه ومعانيه ثم يتخذون ما بقي ظهريا. قال سبحانه :( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ). وعضين جمع ومفرده عضة وهي الفرقة أو القطعة من الشيء٢.
وعلى ذلك فإن من أفدح الفوادح المنكرة أن يقتصر من يظن نفسه مؤمنا على بعض الجوانب المفروضة في هذا الدين ثم يظن بعدها أنه على الصواب. لكنه في تصور الإسلام بعيد عن الصواب بعدا يزحزحه عن نطاق الإسلام كله، أو يقذفه في مهاوي الضلالة والشرك من حيث يعلم أو لا يعلم.
ومن هنا تستبين لنا خطورة الموقف الذي يقفه هذا الصنف من الناس الذين يربطهم بالإسلام بعض أجزائه أو قليل من المشاعر المتدينة لكنهم يحتكمون في أمور حياتهم ومعايشهم إلى البشر في شرائعهم وتصوراتهم. فثمة قدر يسير من العلاقة تربط هؤلاء بالإسلام بما يتجلى في أمور العبادة والأحوال الشخصية، لكن القدر الكبير الأعظم من التصور والتشريع عندهم بعيد عن طبيعة الإسلام لاستمداده من مبادئ وضعية قد صاغتها أدمغة البشر وأهواؤهم. وفي هذا الشرود الجامح عن حقيقة الإسلام والركون إلى مبادئ الشرك والضلالة يندد الله بهؤلاء الذين ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ). والطاغوت هو الشيطان مبعث الإطغاء والغواية والمنفذ إلى الشر كله فهو إذن يعني الباطل وهو يتمثل في كل ما سوى الإسلام من شرائع ومبادئ وتصورات. وعلى ذلك فإن الاحتكام إلى غير الإسلام في أية مسألة أو قضية إنما يعني بالضرورة التحاكم إلى الطاغوت وهو الشيطان. ولا يكون على هذه الشاكلة إلا منافق أو مضلل جاهل وليس له في جهله عذر إلا أن يفيء إلى منهج الله أو دينه الحق، وهو الإسلام. وبغير الاحتكام الكامل للإِسلام لا يعني غير العتو عن أمر الله أو التمرد على دينه وسلطانه.
أما المنافقون فإنهم كاذبون خادعون يخفون في أنفسهم الكفر ليندسوا في صف المسلمين ليشيعوا فيهم التخريب والفتن، وإذا ما دعوا إلى الإسلام الحق المبرّأ أخذوا يصدون عنه صدودا. أي يعرضون عن دعوة الله ويحرّضون غيرهم على الجحود والضلال.
٢ - المصباح المنير جـ ٢ ص ٦٥..
سبب نزول هذه الآية أن رجلا من الأنصار وآخر من اليهود قد تخاصما فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد، والآخر يقول : بيني وبينك كعب بن الأشرف وهو زعيم اليهود. وقيل كان بين أحد المنافقين ورجل من اليهود خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى أن يحتكما إلى النبي ( ص ) ؛ لأنه يعلم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي لكي يحتكما إلى كعب بن الأشرف زعيم اليهود في المدينة ؛ لأنه يعلم أنه يقبل الرشوة فأبى اليهودي أن يخاصمه لغير رسول الله ( ص ) فلما رأى المنافق ذلك فأتى معه إلى النبي والاحتكام إليه فقضى النبي ( ص ) لليهودي فلما خرجا كلاهما من عند النبي قال المنافق : لا أرضى انطلق بنا إلى أبي بكر ليقضي بيننا فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر فقال اليهودي : إنا صرنا إلى رسول الله ( ص ) ثم إلى أبي بكر فلم يرض ( يقصد المنافق ) فقال عمر للمنافق : أكذاك هو ؟ قال : نعم فقال عمر : رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل فأخذ السيف ثم ضرب به المنافق فقتله، وقال : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله وهرب اليهودي. فنزلت الآية فقال الرسول ( ص ) لعمر :" أنت الفاروق " ونزل جبريل وقال : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق١.
ومن المناسب أن يتسع مفهوم هذه الآية ليشمل كل من يزعم أنه يؤمن بالله وما أنزل على النبيين من قبله ثم يحتكم إلى غير ما أنزل الله من شريعة وتصوّر. وذلك هو الفصام المصطنع الفادح الذي يفصم عرى الدين عروة عروة. فصام يسوّل للخاطئين أن يقتصروا من الدين على بعض أجزائه ليذروا ما فيه من جوانب أساسية أخرى لا قوام للدين بغيرها. مع أن من أجلى ما في الإسلام من خصائص أنه كل لا يتجزأ وأنه يؤخذ جملة واحدة متماسكة متكاملة كيلا يتخذه الخاطئون عضين. والقرآن يندد بشدة بأولئك المارقين الخاطئين الذين يتخذون القرآن عضين من الذين يؤمنون من القرآن ببعض أجزائه ومعانيه ثم يتخذون ما بقي ظهريا. قال سبحانه :( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ). وعضين جمع ومفرده عضة وهي الفرقة أو القطعة من الشيء٢.
وعلى ذلك فإن من أفدح الفوادح المنكرة أن يقتصر من يظن نفسه مؤمنا على بعض الجوانب المفروضة في هذا الدين ثم يظن بعدها أنه على الصواب. لكنه في تصور الإسلام بعيد عن الصواب بعدا يزحزحه عن نطاق الإسلام كله، أو يقذفه في مهاوي الضلالة والشرك من حيث يعلم أو لا يعلم.
ومن هنا تستبين لنا خطورة الموقف الذي يقفه هذا الصنف من الناس الذين يربطهم بالإسلام بعض أجزائه أو قليل من المشاعر المتدينة لكنهم يحتكمون في أمور حياتهم ومعايشهم إلى البشر في شرائعهم وتصوراتهم. فثمة قدر يسير من العلاقة تربط هؤلاء بالإسلام بما يتجلى في أمور العبادة والأحوال الشخصية، لكن القدر الكبير الأعظم من التصور والتشريع عندهم بعيد عن طبيعة الإسلام لاستمداده من مبادئ وضعية قد صاغتها أدمغة البشر وأهواؤهم. وفي هذا الشرود الجامح عن حقيقة الإسلام والركون إلى مبادئ الشرك والضلالة يندد الله بهؤلاء الذين ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ). والطاغوت هو الشيطان مبعث الإطغاء والغواية والمنفذ إلى الشر كله فهو إذن يعني الباطل وهو يتمثل في كل ما سوى الإسلام من شرائع ومبادئ وتصورات. وعلى ذلك فإن الاحتكام إلى غير الإسلام في أية مسألة أو قضية إنما يعني بالضرورة التحاكم إلى الطاغوت وهو الشيطان. ولا يكون على هذه الشاكلة إلا منافق أو مضلل جاهل وليس له في جهله عذر إلا أن يفيء إلى منهج الله أو دينه الحق، وهو الإسلام. وبغير الاحتكام الكامل للإِسلام لا يعني غير العتو عن أمر الله أو التمرد على دينه وسلطانه.
أما المنافقون فإنهم كاذبون خادعون يخفون في أنفسهم الكفر ليندسوا في صف المسلمين ليشيعوا فيهم التخريب والفتن، وإذا ما دعوا إلى الإسلام الحق المبرّأ أخذوا يصدون عنه صدودا. أي يعرضون عن دعوة الله ويحرّضون غيرهم على الجحود والضلال.
٢ - المصباح المنير جـ ٢ ص ٦٥..
هؤلاء الذين يأمر الله نبيه بالإعراض عنهم وهما تكنّه صدورهم من نوايا السوء إذ ليس لأحد على المنافقين سبيل ما داموا يخفون كيدهم في صدورهم. أما إذا اظهروا ذلك جهارا فاستبان على جوارحهم بالقول أو الفعل فقد لزم حينئذ أن يحيق بهم العقاب المناسب المشروع. وكذلك قد أمر الله نبيّه أن يعظهم بالنصح والتخويف من الله على ما تكنّه نفوسهم من خبايا السوء والكيد. وأن يقول لهم في ذلك كلاما رادعا مؤثرا عسى أن يكون في ذلك ما يزجرهم أو يردهم عن الشر وعن جنوحهم للخداع.
وقوله :( بإذن الله ) أي بقدرته ومشيئته. ولا يستدل من ذلك على المخالفة فالله لا يقضي الظلم ليكره الناس على الغواية أو الكفر قسرا وإكراها وهو سبحانه يقول عن نفسه :( ولا يرضى لعباده الكفر ) والمعنى أن طاعة الإنسان لربه لهي من صميم قدرة الله المطلقة ومشيئته التي لا تضبطها القيود. وأية طاعة من الطاعات أو ممارسة من الممارسات أو مآل من المآلات ما كان ليقع خارجا عن قدرة الله وسلطانه وعلمه المطلق. والله سبحانه قادر أن يمنع أو أن يرسل فهو له الإرادة المطلقة مثلما يشاء.
قوله :( ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم... ) ذلك بيان للعصاة والمذنبين الذين يخالفون عن أمر الله ويقارفون المنكرات، فإن عليهم أن يسابقوا بالاستغفار أمام النبي ( ص ) حال حياته وليستغفر هو لهم بدوره. أما وقد لحق النبي الكريم بالرفيق الأعلى فعلى المسيء الذي تجاوز حدود ربه فغوى وظلم نفسه أن يتعجل الاستغفار والتوبة الصادقة ليعلم بعد ذلك أن الله تباركت أسماؤه سوف يشمله بفضله ورحمته.
قوله :( فلا وربك لا يؤمنون ) تقديره : فلا يؤمنون وربك لا يؤمنون. فأخبر أولا وكرره بالقسم ثانيا فاستغنى بذكر الفعل في الثاني عن ذكره في الأول أو أن قوله :( فلا ) رد على ما تقدم ذكره. والتقدير. فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك. ثم استأنف القسم بقوله :( وربك لا يؤمنون ).
وقال صاحب الكشاف :( فلا وربك ) معناه : فوربك. كقوله تعالى ( فوربك لنسألنهم ) ولا هنا زائدة لتأكيد معنى القسم. وقوله :( لا يؤمنون ) جواب القسم٢. وهذا الكلام الرباني يتضمن نفيا حاسما لما يتصوره الخاطئون والمنافقون من إيمان وهم يتحاكمون للطاغوت كيفما كان ضربه أو لونه. فليس من احتكام لغير الله وما ذلك إلا صورة مكشوفة من صور الشرك التي لا يتشبث بها إلا اللاهثون وراء الطواغيت. ثم يحلف الله بذاته الكريمة العظيمة ليقطع في تأكيد عام تنتفي معه حقيقة الإيمان عن أحد من الناس إلا إذا تحاكم إلى الله في كتابه وإلى النبي عليه السلام في سنته وذلك ( فيما شجر بينهم ) أي ما وقع بينهم من خصام وتنازع. وشجر بمعنى اختلف ومنه الشجر لاختلاف أغصانه وتداخل بعضها في بعض.
قوله :( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا... ) فإذا قضيت بينهم بشرع الله فليس لهم بعد ذلك أن يستشعروا في دخائل أنفسهم شيئا من ضيق أو سخط بل إن عليهم أن يأخذوا بحكمك وقضائك عن رضى وقناعة وطواعية دون أن يثير ذلك في نفوسهم شيئا من تبرّم أو امتعاض. وإنما عليهم أن ينقادوا لأمرك وقضائك انقيادا فيه الخضوع والاستسلام لأمر الله، وكلمته التي تسبق كل كلام والله يقول في ذلك :( من يطع الرسول فقد أطاع الله ).
وبذلك يمكن الوقوف على اعتبارات ثلاثة حين اشتراط تحقق الإيمان وتمامه في النفوس وهي على النحو التالي مستمدة من الآية المبينة :
الأول : أن الاحتكام لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون لأحد غير رسول الله ( ص ) وهو الذي لا ينطق عن الهوى ثم هو الذي نيط به أن يبلغ الناس دعوة الله وقد خوله الله أن يبين للناس ما نزل إليهم.
الثاني : أن لا يجد الناس في أنفسهم غضاضة أو تبرما أو ضيقا لدى الاحتكام لكتاب الله وسنة نبيه الكريم. بل عليهم أن يأخذوا بذلك عن نفس راضية مطمئنة، ورغبة حقيقية لحّاحة.
الثالث : أن يسلّموا لأمر الله تسليما فيه الانقياد الكامل وذلك بغير وناء أو تردد أو تلجلج أو استنكاف.
وعلى ذلك فإن من الأهمية بمكان أن نديم التنويه باستمرار عن خطورة الانثناء عن تطبيق شريعة الله والجنوح نحو الشرائع والعقائد التي اصطنعتها أدمغة البشر فإن ذلك ليس إلا تعديا صارخا على خصائص الألوهية، تلك الخصائص التي تتجلى في جملة حقائق يأتي في مقدمتها التشريع وهو شأن منوط بالألوهية وليس لأحد من البشر أن ينتحله أو يصطنعه بإطلاق. فإنه ليس في مثل هذا الانتحال أو الاصطناع إلا الخروج عن دائرة الإسلام في عقيدته وشرعه. إنه ليس في ذلك إلا التمرد المتوقح على الله والتطاول عليه سبحانه بانتزاع خصيصة أساسية كبرى من خصائص الألوهية وهي التشريع، ذلك أن الله وحده هو الخالق الموجد وأنه القادر المبدع وأنه المشرّع الديّان فلا شريك له في مثل هاتيك الخصائص العظيمة سواء في ذلك الخلق أو القدرة أو التشريع.
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ٢٥٨ وتفسير القرطبي جـ ٥ ص ٢٦٦ والكشاف جـ ١ ص ٥٣٨..
وبعد ذلك يحض الله عباده على العمل بما يوعظون به والمبادرة للعمل بأوامره سبحانه، ثم الوقوف عند حدوده من غير اعتداء أو تجاوز ولسوف يجزيهم الله خير الجزاء في الحياة وبعد الممات. في الحياة حيث الرخاء والأمن والطمأنينة والنعيم المقيم، وبعد الممات حيث النجاة من العذاب الأليم الواصب.
قوله :( وأشد تثبيتا ) أي على الإيمان والحق. وقيل : أشد تصديقا والتثبيت كلمة جامعة تتناول كل صور التمكين والاستقرار والقوة، سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة، فإن أولي العقيدة الصحيحة المكينة لا تثنيهم النوازل والأهوال والمحن عن منهج الله وعن دينه القويم، ولكنهم دائما ثابتون أقوياء يغمرهم برد اليقين ليكونوا في هذه الحياة آمنين ثابتين مطمئنين، وهم في الآخرة ( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وكذلك فإنهم حينئذ ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ).
وبعد ذلك يحض الله عباده على العمل بما يوعظون به والمبادرة للعمل بأوامره سبحانه، ثم الوقوف عند حدوده من غير اعتداء أو تجاوز ولسوف يجزيهم الله خير الجزاء في الحياة وبعد الممات. في الحياة حيث الرخاء والأمن والطمأنينة والنعيم المقيم، وبعد الممات حيث النجاة من العذاب الأليم الواصب.
قوله :( وأشد تثبيتا ) أي على الإيمان والحق. وقيل : أشد تصديقا والتثبيت كلمة جامعة تتناول كل صور التمكين والاستقرار والقوة، سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة، فإن أولي العقيدة الصحيحة المكينة لا تثنيهم النوازل والأهوال والمحن عن منهج الله وعن دينه القويم، ولكنهم دائما ثابتون أقوياء يغمرهم برد اليقين ليكونوا في هذه الحياة آمنين ثابتين مطمئنين، وهم في الآخرة ( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وكذلك فإنهم حينئذ ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ).
وبعد ذلك يحض الله عباده على العمل بما يوعظون به والمبادرة للعمل بأوامره سبحانه، ثم الوقوف عند حدوده من غير اعتداء أو تجاوز ولسوف يجزيهم الله خير الجزاء في الحياة وبعد الممات. في الحياة حيث الرخاء والأمن والطمأنينة والنعيم المقيم، وبعد الممات حيث النجاة من العذاب الأليم الواصب.
قوله :( وأشد تثبيتا ) أي على الإيمان والحق. وقيل : أشد تصديقا والتثبيت كلمة جامعة تتناول كل صور التمكين والاستقرار والقوة، سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة، فإن أولي العقيدة الصحيحة المكينة لا تثنيهم النوازل والأهوال والمحن عن منهج الله وعن دينه القويم، ولكنهم دائما ثابتون أقوياء يغمرهم برد اليقين ليكونوا في هذه الحياة آمنين ثابتين مطمئنين، وهم في الآخرة ( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وكذلك فإنهم حينئذ ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ).
جاء في سبب نزول هذه الآية عن عائشة قالت : جاء رجل إلى النبي ( ص ) فقال : يا رسول الله ! إنك لأحب إليّ من نفسي، وأحب إليّ من أهلي، وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد عليه النبي ( ص ) حتى نزلت هذه الآية.
وقيل : نزلت في ثوبان مولى رسول الله ( ص ) وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغيّر لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن فقال له : " يا ثوبان ما غيّر لونك ؟ " فقال : يا رسول الله ما بي ضرّ ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا فأنزل الله هذه الآية١. وهي مطمئنة للمؤمنين الذين يمضون في طاعة الله ورسوله الكريم، فأولئك قد منّ الله عليهم إذ جعلهم في الجنة مع النبيين والصدّيقين والشهداء لا في الدرجة أو المنزلة ولكنهم معهم في دار واحدة، وهي دار النعيم والخلود، يستمتعون برؤيتهم وزيارتهم، فأهل الجنة يتزاورون فيما بينهم بالرغم من تفاوت درجاتهم في الجنة. فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون أو ترون الكوكب الدري الغابر في الأفق الطالع في تفاضل الدرجات ".
والنبيّون مفردها نبي من النبوة وأصلها النبوءة ثم حذفت الهمزة للتخفيف وهي تعني الإخبار عن طريق الوحي، ولا يلزم أن يكون النبي رسولا بل يلزم أن يكون الرسول نبيا. فكل رسول نبي قد نيطت به وجيبة التبليغ، أما النبي غير المكلف بالتبليغ فما أوتي رسالة يبلغها الناس ولكنه متعبد متحنث.
أما الصدّيقون، فمفردها صدّيق على وزن فعّيل وهو يفيد المبالغة في الصدق والتصديق فضلا عن مزية التحقيق بالفعل لما يقال باللسان.
وأما الشهداء فمردها شهيد وهو من الشهادة بمعنى الحضور. وثمة أقوال في سبب التسمية بالشهيد. فقد قيل إن الملائكة تشهد مقتله ؛ إذ يصاب في المعركة أو غيرها. وقيل إن هذا القتيل لا يموت بل يظل حيا حاضرا على نحو لا نعلمه نحن. وفي قول آخر بأنه سمي بذلك لوقوعه على الشاهدة وهي الأرض وذلك حال إصابته ثم سقوطه عليها.
قوله :( وحسن أولئك رفيقا ) الرفيق من الرفق وهو اللين. واسم الإشارة ( أولئك ) يعود على النبيين والصدّيقين والشهداء. وقد حسن كل واحد من هؤلاء المذكورين رفيقا فنعمت الصحبة والرفقة مع هؤلاء الأطهار الأبرار. أنها الصحبة المثالية الفضلى يترافق من خلالها المؤمنون المحظوظون مع هذه الفئة المكرمة الممتازة. الفئة التي بلغت من علو الدرجة وعطاء الرحمن ما لم تبلغه بقية البشر. لا جرم أن هؤلاء هم خير البرية ويسعد برفقتهم من كتبت له السعادة في الجنة مع هؤلاء الميامين.
وقوله ( رفيقا ) منصوب على التمييز. وقيل : منصوب على الحال.
قوله :( وكفى بالله عليما ) الله جلّت قدرته أعلم حيث يجعل هدايته وتوفيقه وكفى به سبحانه أن يحيط بكل شيء في الكون والوجود جميعا فلا يند عن علمه وإحاطته شيء١.
ذلك توجيه من الله لعباده المؤمنين أن يأخذوا حذرهم عند لقاء العدوّ في المعركة حيث الصراع والتقحم الشديدان في حين يشتد فيه القتال المحتدم. وهو حين يستلزم مزيدا من الحرص والعناية الفائقين ومزيدا من التنبيه لمكائد العدوّ كيلا يأخذهم على غرّة فينال منهم نيلا فادحا.
إن الله سبحانه يأمر المؤمنين أن يكونوا على غاية اليقظة والحيطة وأن لا يلهيهم شيء عن المعركة والإعداد لها. وإذا لم يكن المسلمون على هذا النحو من الحذر والانتباه فلسوف يميل العدو عليهم ميلة واحدة ليقوّضهم تقويضا ويدمرهم تدميرا لا رحمة فيه، علما بأن العدو دائم التربص بالمسلمين ليحس منهم جانب ضعف أو ثغرة أو يدرك فيهم شيئا من غفلة أو لهو فيبادرهم الضرب الصارم القاصم. مع أن المؤمن الحقيقي لا يكون مغفلا أو لاهيا ولا هو بالمتطيش الأرعن أو المختال في خفة وغرور. فتلك حماقة هوجاء يستعلي عليها المؤمن استعلاء. لا ينبغي أن يأخذ المسلمين العجز والتثاقل أو يعميهم اللهو والغفلة وقد علموا أن أعداءهم كثيرون يريدون أن يصطلموهم اصطلاما وليستأصلوا الإسلام من الأرض استئصالا. وهذه حقيقة ماثلة للعيان ما كان ينبغي أن تغيب عن أذهان المسلمين ولو برهة من زمان.
قوله :( فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ) انفروا من النفور أو النفر أو النفار وهو الإسراع للقتال١. وثُبات مفردها ثبة وهي الجماعة أو العصابة من الناس. والثبات يعني الجماعات المتفرقة. وأصلها من : ثبت الشيء أي جمعته. وجميعا، أي مجتمعين٢.
يأمر الله المؤمنين أن ينفروا لقتال العدو على الهيئة التي يرونها مناسبة ومثلما تقتضيه حال المعركة. فإما أن يخرجوا جماعة بعد جماعة أو كتيبة بعد كتيبة، وإما أن يخرجوا مجتمعين بغير تخلف. وذلك أمر يقرره التخطيط للحرب من ذوي الاختصاص من العسكريين أولي الخبرة في القتال. فأولئك يضطلعون بمهام التخطيط للمعركة في حذر ودهاء وبراعة من أجل أن يتحقق لهم النصر وتقهقر قوى الشر والعدوان.
٢ - تفسير الرازي جـ ١٠.
وقوله :( فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ) يبين الله حال المنافقين ويكشف عما يختلج في صدورهم من سوء النوايا وخبيث المكنون فهم دائما في أرجحة كيلا يكونوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وكيلا يكونوا على طريق مستقيم مكشوف من غير تردد أو تذبذب تفرضه المصلحة الخاصة أو الهوى المتلجلج الفاسد.
والمنافقون تنطق ألسنتهم بما تخفيه قلوبهم من ارتياح وحبور إذا ما مُني المسلمون بمصيبة القتل أو التراجع في المعركة ويفرح أحدهم ( المنافقون ) إذ لم يكن مع المسلمين في الجهاد ؛ كيلا يكون نصيبه الموت. وقوله ( شهيدا ) لهو ذو إيحاء يؤتي مدلولا حول انسلاخ المنافقين من ربقة الإيمان وهم يغتبطون تمام الغبطة أنهم لم يكونوا مع الشهداء. مع أن الشهادة مطلب عظيم يتمناه المؤمن ويلح في دعائه إلى الله كلما ذكره من أجل أن يكتب له هذا الشرف ( الشهادة ) كيما يحتسب في سجل الأبرار والأخيار في عليين أو ينال عظيم الحظوة الرفيعة من الفردوس من الجنة. لكن المنافقين يعيشون في سرور مع أنفسهم ويتهامسون فيما بينهم بأنهم نجوا من خطر الشهادة وأخلدوا إلى الأرض في عيش مهين رخيص يحفه الكذب والخسّة والتدسس والخداع.
ومما يثير الانتباه في هذه الآية قوله :( كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ) ذلك أن المنافق وهو يتمنى أن لو كان مع المسلمين ليغنم نصيبه من الغنائم إنما يزجي بهذا التمني اللئيم رغبتهم اللحاحة في مجرد المال دون غيره. وهم في مثل هذا التمني يقطعون أية وشيجة من وشائج الإيمان والتقوى تربطهم بالمسلمين. وكأن شيئا من مودّة أو صلة لم يكن بينهم وبين المجتمع الذي يعيشون فيه فهم غرباء في أنفسهم وتصورهم وقناعاتهم عن الناس من حولهم ؛ إذ لم يكن ثمة رباط من المودة في العقيدة تشدّهم إلى هذا الدين وأتباعه.
وكذلك قوله سبحانه :( فأفوز فوزا عظيما ) أفوز منصوب بأن المضمرة بعد الفاء ( السببية ). يكشف عن طبيعة النفس للمنافقين فهم صنف من البشر الشهوان الذي يركن للشهوة والهوى تمام الارتكان ويغلو في حب المال غلوا يدنو دونه أي حب. فالمال لدى المنافقين هو المعبود المألوه الذي يتخذونه إلها من دون الله سبحانه. وهم إذا ما أدركوا غايتهم المنشودة في المال بلغوا أقصى ما يتمنون وهو عندهم الفوز العظيم. وذلك اهتمام خسيس هابط ينحدر فيه المنافقون ليكونوا في الأذلين.
ومعلوم أن المسلم لذو اهتمام رفيع أكرم يعلو على السفاسف والدنايا ويستعلي على القصود الوضعية التي تتلهف للمال وكفى ! فهو إنما يجد نفسه مشدودا بحبل الإيمان والمبدأ ليكون هواه ومبتغاه رضوان الله أو إعلاء كلمة الله. وفي ذلك يقول النبي الكريم ( ص ) :" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " وكذلك ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة عن أنس أن النبي ( ص ) قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " ولكن المنافقين لا يعبأون بغير المال ذلك المطلب الأساسي الأول أو الغاية التي يكد المنافقون من أجلها حتى إذا بلغوها فازوا فوزا عظيما كما يتصورون. فتلكم هي الغاية وذلكم هو المقصود لا أكثر ولا أقل ! !
بعد الكشف عن حقيقة المنافقين من حيث تكالبهم على المال وإيثارهم الحياة على الشهادة، فإن الله- جلت قدرته- يحرض على القتال في قوله :( فليقاتل ) واللام للأمر. ولا يكون القتال مقبولا أو مشروعا إلا إذا تحقق فيه الشرط الأساسي وهو أن يكون ذلك ( في سبيل الله ) والسبيل هي الطريق. فالمعنى هو وجوب القتال الذي تتحقق به طريق ممهدة سهلة يسلكها المجاهدون ليدخلوا الجنة. وغاية المجاهدين في ذلك هو رضوان الله وطاعته وإعلاء كلمة الإسلام دون غيره.
وقوله :( الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ) أي الذين يبيعون حياتهم بما فيها من طيبات ولذائذ ليحظوا بالآخرة حيث النعيم الأبدي الخالد. والخطاب هنا لأولئك المؤمنين الذين يؤثرون الموت على البقاء ما دام في ذلك سبيل إلى رضوان الله ثم إلى جنته الواسعة. وأولئك المخاطبون شأنهم أن يعقدوا صفقة بيع رابحة يكون الثمن فيها الحياة الدنيا بما تحويه من رغائب وأهواء وشهوات، وفي المقابل يكون الجزاء الأعظم الذي لا يساويه أي جزاء حيث الجنة الباقية التي لا تأتي عليها السنون ولا يؤثر فيها امتداد الزمن.
قوله تعالى :( ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب... )
( ومن ) اسم شرط. ( يقاتل ) جملة الشرط، وجوابه :( فسوف نؤتيه... ) وذلك وعد من الله للمجاهدين الذين يقاتلون لإعلاء كلمته وفي سبيله أنه سوف يعطيهم عظيم الأجر والمثوبة. والوعد بالعطاء للمجاهدين قائم سواء كتب لّهم الموت والشهادة أو كان لهم النصر والغلبة، فعادوا إلى مساكنهم سالمين. ويدل ظاهر الآية على التسوية بين الذي يقتل شهيدا أو الذي يعود إلى أهله سالما غانما ما دام الشرط الأساسي متحققا وهو إخلاص النية في القتال لله وحده من غير إشراك أو رياء. ويعزّز ذلك قول الرسول ( ص ) فيما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة : " تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة ".
والراجح عندي هنا عدم التسوية هنا بين الذي يموت شهيدا فيمضي إلى جوار ربه مع قوافل الشهداء والأبرار وبين المنقلب إلى أهله يحمل معه السلامة والغنيمة. والقول بالتسوية بينهما يوحي بأن الشهيد والعائد سالما، فيما بذلاه مستويان والحقيقة أنهما غير مستويين. فالشهيد قد بذل الروح ثم مضى إلى ربه مفارقا هذه الدنيا حيث الأهل والصحب والمال والولد والدار. لكن الآخر لم يفقد من ذلك شيئا. وبذلك فإني أحسب أنهما لا يستويان إلا في مجرد الخروج لقتال العدو.
أما الحديث المذكور آنفا فلا أرى فيه تعزيزا لمفهوم التسوية. وهو إنما يدل على عظيم الجزاء للشهيد والعائد كليهما وهو كذلك يتضمن تكفلا من الله لمن يجاهد في سبيله أن يدخله الجنة إن مات أو أن يعيده إلى مسكنه غانما مأجورا ؛ وذلك لتوفر الشرط الذي يعوّل عليه قبل كل شيء من أجل القبول وذلك هو الإخلاص. وإذا لم يتوفر الإخلاص في القول والعمل فلا يرتجى بعد ذلك جزاء أو ثواب ولا قبول أو رضى. والله تعالى أعلم١.
قوله :( وما لكم ) ما، في محل رفع مبتدأ. لكم خبره وجملة ( لا تقاتلون ) في محل نصب حال. وهذا استفهام إنكاري يتضمن تنديدا بالتخاذل عن الجهاد وقتال المشركين والأعداء. والأصل في العمل كله كيفما كان أن تتوجه فيه المقاصد والنوايا إلى الله، وتلك هي سبيل المؤمنين العاملين الذين يمضون في الحياة مخلصين من دون إشراك أو رياء. ذلك هو الأصل الذي يجب أن يظل مركوزا في الرؤوس بغير مبارحة. ولا تكون الأعمال بغير ذلك إلا التصرف الشخصي الممحض والذي لا يساوي في ميزان الله شيئا. وثمة أعمال وممارسات أخرى تنبثق عن الأصل الأكبر ( سبيل الله ) ويتضح ذلك في قوله سبحانه :( والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان ) وقيل في العطف بأنه على اسم الجلالة. وفي قول آخر بأنه على ( سبيل ) فالتقدير يكون : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين – أو في المستضعفين- من الرجال..
والخلاصة أن يكون القتال- أصلا في سبيل الله- ثم ينبثق عن هذا الأصل القتال من أجل إنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان أولئك الذين يعانون من الذل في ظل المشركين الأعداء ليسوموهم البلاء والفتنة والتعذيب.
والآية تعرض لحال المسلمين المستضعفين وهم يتضرعون إلى الله في ضعف ومسكنة ويشتكون إليه حالهم البائسة تحت نير الأعداء الذين لا يرعون في المسلمين أينما كانوا إلا ولا ذمة.
قوله :( أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها... ) يدعون الله أن يعجّل لهم الفرج وأن يزحزح عنهم كابوس الطغيان ليخرجوا من بين ظهراني الشرك في مكة التي مارس أهلها مع المسلمين المستضعفين أنواع القهر والإذلال. ويدعون الله كذلك أن يهيئ لهم من عنده من يكون لهم وليا ونصيرا يستنقذهم من ذل المهانة تحت وطأة المشركين الظالمين.
ولئن كانت هذه الآية قد جاءت لتبين حال المستضعفين من المسلمين في مكة فإن ذلك ينطوي على الحكم بفرضية المناصرة والإنقاذ لأية فئة من المسلمين باتت تعاني من الظلم والقهر تحت سطوة الكافرين الأعداء في أية بقعة من بقاع الأرض. إن على المسلمين الذين تجمعهم دولة الإسلام أن يبادروا فورا ومن غير وناء أو تردد لاستنقاذ المسلمين المستضعفين حيثما كانوا فيقدموا لهم أسباب النصرة والعون ليمكنهم من الثبات في وجه الأهوال والأعاصير السافية التي تعصف بالعقيدة عصفا، وليردوا عنهم كيد المعتدين الذين لا يألون في محاربة الإسلام ومطاردة أهله جهدا.
وتذكّرنا هذه الآية وأمثالها بحال المسلمين في العصور الأواخر وفي هذه الفترة بالذات. فهي فترة حافلة بالمآسي والأرزاء، كظيظة بالنكبات والويلات التي يعاني منها المسلمون في شتى بقاع الدنيا على أيدي الجلادين من الساسة الكفرة على اختلاف ميولهم ومشاربهم. يبدو ذلك ونحن نستجلي أحوال المسلمين قي كل مكان من العالم حيث الأهوال والآلام بدءا بالحروب الصليبية وما عقبها من مجازر وفظائع، وانتهاء بالزمن الراهن حيث الضياع والتمزق والضربات التي يكيلها المشركون والملحدون للمسلمين. مثلما حدث ويحدث للمسلمين في كل من القفقاس والفلبين وبخارى وسمرقند وكشمير والبوسنة والهرسك حيث الأهوال والبلايا التي حاقت بالمسلمين في تلك البلاد. لقد عاث الصليبيون الصربيون في المسلمين هنالك فسادا وخرابا وأثخنوا فيهم التقتيل والتشريد والاستئصال والإبادة على نحو من الترويع المذهل الذي لا يفعله غير الأشرار والظالمين من شياطين البشر يضاف إلى ذلك ما ارتكبه الصليبيون الصربيون في حق المسلمين من انتهاك للأعراض والحرمات وارتكاب الفظائع والمجازر بالجملة بما يقضّ الحس قضا، ويؤز القلب والمشاعر أزا. وما كان ذلك ليكون لولا الموات الذي أصاب المسلمين والحكام خاصة في ضمائرهم ومشاعرهم بعد أن أفلت عن قلوبهم شمس العقيدة الساطعة النابضة. ليس ذلك في البوسنة أو الهرسك وحدها بل في كل بلدان الإسلام المبتلاة بقوى العدوان في الغرب والشرق معا. ولقد عانت هذه البلدان صنوفا من البلاء والكوارث والتدمير إلى درجة الاستئصال والمحق تماما في بعض الأحوال كالذي حدث للمسلمين في الأندلس على أيدي الصليبيين. ناهيك عن صور الإبادة والقتل والإذلال التي لاقاها هؤلاء المسلمون على أيدي الجلادين المجرمين من التابعين لحضارة الغرب المتفسّخ الماجن أو حضارة اليهودي كارل هنريك مردخاي ماركس وتلميذه الصهيوني الماسوني المتعصب لينين.
وأخيرا وليس آخر هذه النكبة المريعة المزلزلة للذهن والحس والأعصاب والتي حلّت بفلسطين وشعبها المغلوب على أمره، هذا الشعب الذي لاقى من التآمر والجريمة والعدوان ما لا يخطر ببال وما ليس له نظير في تاريخ البشرية. وهي معضلة قد تألبت على حبكها وتنفيذها قوى العدوان في أوربا وأمريكا مسخرة للصهيونيين الماكرين الحاقدين. كان ذلك يوم أن تآمرت دولة الإنجليز المستعمرين في خسة ووقاحة مع الصهاينة في الظلام لتشريد المسلمين من فلسطين إلى أن تم ذلك بجهد كثيف من دولة الدنس والدولار-أمريكا- بالموافقة والإقرار من السوفييت دولة الشيوعية والإلحاد والقهر وخنق الحريات يوم أن بادرت بالاعتراف فورا بدولة بني صهيون في فلسطين.
كل هذه الويلات والمصائب تهتف بالمسلمين أن يتّحدوا جميعا كيما تجمعهم دولة واحدة هي دولة الإسلام ليمدوا بعدها يد العون والنصرة لإخوانهم في العقيدة من الذين يصطلون بنار التعذيب على أيدي الحاقدين الذين يكرهون أشد ما يكرهون عقيدة الإسلام والمسلمين.
يحدد الله في هذه الآية سبيلين اثنين متقابلين يفضي أحدهما إلى الشر والباطل بينما يفضي الآخر إلى الخير والحق. وذلك تحديد من الله للمسلمين من أجل أن تتضح أمامهم الرؤية فيمضوا على الطريق في وضوح وهداية من غير تعثر أو خبط. والخط الفاصل الذي يفرق بين المسلمين والمشركين، أن المسلمين يقاتلون في سبيل الله فهم بذلك على الحق في كفاحهم ومسعاهم وهم يسيرون على طريق السلامة والإسلام في ثقة ويقين وتثبّت إلى أن يكتب الله لهم النصر أو أن يبتليهم لحكمة يعلمها هو. أما المشركون فإنهم على الباطل والضلالة من أول يوم فهم إنما يقاتلون من أجل الطاغوت وهو الشيطان مصدر الإطغاء والغواية.
إن المشركين لا يحاربون إلا لمقاصد غاية في الفساد والتنكب عن الصواب أو هي من أجل الشر والباطل حرصا على الشهوة الرخيصة أو الهوى الجامح الذي لا يعبأ بالخير ولا يزن الأمور إلا بميزان الغريزة المتأججة العمياء.
بعد هذا التمييز الذي يفصل بين سبيلين لتتضح الرؤية أمام المسلمين فيقاتلوا عن قناعة وتثبت، يحرّض الله عباده المؤمنين على مقاتلة الكفرة أولياء الشيطان أي أعوانه وأتباعه. ولا جرم أن يتمثل الشيطان في جماع الرذيلة والفساد والشر، وتلك معان نكراء يقاتل من أجلها أولياء الشيطان.
ثم يأتي التعقيب المناسب ليجعل للمسلمين سبب الطمأنينة ترتكز في قلوبهم ليقاتلوا بشجاعة وثقة بالله في النصر وذلك بأن ( كيد الشيطان كان ضعيفا ). والكيد هو المكر والتحيّل والتدبير. وحقيقة الضعف في كيد الشيطان قائمة لا ريب فيها لو عرف المسلمون قدر عقيدتهم فوعوا حقيقة الإسلام ومعانيه في تزكية النفوس وترقيتها لتكون كبيرة مستعلية على الدون من سقط الاهتمامات وسفاسف الحضارات البائسة التعسة التي تتراءى للمخدوعين والمشدوهين فاتنة براقة وهي في حقيقة مضمونها ليست على كل شيء إلا التفكك والمرض والخلخلة. تلك حقيقة ينبغي أن يقف عليها المسلمون ليعاودوا الثقة بأنفسهم وهم يراجعون الحساب مع هذا الذين الذي يأخذ بهم إلى ذروة المجد والقوة والاستعلاء والخير.
ورد في سبب نزولها أن فريقا من المسلمين في مكة كانوا قد رجوا النبي ليأذن لهم بالجهاد فيردوا المشركين ويدفعوهم عن أنفسهم بعد ما لاقوا منهم أذى وعدوانا مع أن الجهاد حينئذ لم يكن مفروضا ؛ إذ كان المسلمون مأمورين بالصفح والصبر وفعل العبادات كالصلاة والزكاة وغيرها. فلما أن بات الجهاد فرضا على المسلمين من بعد الهجرة تخلف هؤلاء الذين كانوا يبدون في مكة حماسة ويطالبون بمحاربة مشركي مكة. لقد نكصوا على أعقابهم وانكشفوا عن خذلان وتخوّف حتى لجوا إلى النبي ( ص ) بالشكوى والاضطراب. على أن الذي يراود الذهن هنا أن هذه الفريق من الناس الذين كانوا يتمنون في مكة أن يؤذن لهم بالجهاد ورد المشركين لم يكونوا من المنافقين ولا المؤمنين حقا. أما أن يكونوا منافقين فلا يتصور ذلك ؛ إذ لا وجود للنفاق والمنافقين في تلك الفترة العصيبة التي لاقى فيها المسلمون العنت والعذاب ولا يكون النفاق إلا حيث الشوكة والمنعة للإسلام١.
وأما أن يكونوا من المؤمنين من أمثال عبد الرحمن بن عوف وأصحاب له كما قيل فذلك مالا يتصور أيضا ولا يلج حيّز المعقول. إن المؤمنين المخلصين في مرتبة عبد الرحمن بن عوف لا يعقل أن يتمنوا الجهاد حتى إذا بات ذلك مفروضا كفوا وامتنعوا وأبدوا تخاذلا وجبنا ثم خشوا الناس أشد من خشيتهم لله !
إن الذي يمكن تصوره أن هؤلاء كانوا من ضعاف الإيمان الذين كانوا يغمرهم الخوف والتلجلج والذعر. فهم ليسوا من المسلمين الثابتين الأقوياء، الذين لا تأخذهم في دين الله صيحة حرب ولا قتال للأعداء.
قوله :( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال.. ) المقصود بواو الجماعة في قوله :( وقالوا ) هم ضعاف الإيمان من المسلمين الذين خشوا لقاء العدوّ مثل خشيتهم لله أو أشد خشية فقد تمنّوا كذلك أن لو لم يكتب الله عليهم القتال. وقالوا :( لولا أخرتنا ) لولا بمعنى هلا وهي أداة تحضيض. فهم يتمنون على الله أشد التمني أن لو أخر عنهم فريضة الجهاد إلى حين آخر. وذلك هو شأن الضعاف المهزومين الذين يرغبون في التسويف في مثل هذه الأمور أو الإبطاء فيها ليمتد بها الزمن فيطويها النسيان. لكن المؤمن المتقي يتورع عن التسويف في ما افترض الله عليه فلا يلبث أن يخف لطاعة الله أو يسارع للاعتصام بحبله المتين من غير مداهنة أو مصانعة أو تسويف.
قوله :( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى... ) متاع مبتدأ، وقليل خبره. وهنا يأمر الله نبيه ( ص ) أن يبسط للناس هوان الدنيا وبساطتها، وأنها مجرد عرض زائل يستمتع به الناس إلى حين من الزمان يمر مرا سريعا لتنتهي بعدها السالفة إلى حيث المطاف الأخير الذي ينتظر كل كائن على وجه هذه الأرض.. الموت.
وما أعظم حديث النبي الكريم في هذا الصدد ؛ إذ يرسم صورة تكشف عن حقيقة الحياة الدنيا وأنها حطام مندثر يستمتع به البشر في غمرة اللهو والمرح إلى أجل محدود. يقول عليه الصلاة والسلام : " مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل بظل شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها " ٢.
وإذا ترسخ هذا الاعتبار في التصوّر أدركنا في يقين لا يخالطه شك أن الآخرة لهي خير وأفضل لما تتصف به من حسن وبقاء مستديم. وتلك حقيقة يؤمن بها المتّقون الذين يخشون الله ولا يخشون أحدا سواه والذين يزنون الأمور على الدوام بميزان الله، فلا يجنحون إلى الدنيا بحطامها ومتاعها تحت مطارق الشهوات العاتية الحامية.
وفي اليوم الآخر تنكشف السرائر والخبايا لتقف البشرية حاسرة أمام الخالق القاهر الديان لتناقش الحساب ( ولا تظلمون فتيلا ) أي لا يكون هناك ظلم ولو بمقدار الفتيل وهو الخيط على لفافة التمرة التي تحيط بالنواة. أو ما يتحصل من أوساخ مفتولة تظهر على الكفين إذا تفاركا.
٢ - أخرج مثله أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود..
قوله :( ولو كنتم في بروج مشيدة ) البروج المشيّدة هي القصور المنيعة المحصّنة وقيل هي الحصون والقلاع والآطام المبنية. وقيل غير ذلك وهي جميعها أقوال متقاربة يقصد منها الثواء إلى حصون مكينة منيعة ظنا أنها تدرأ عن الثاوين المخاطر والمقادير. لكن داهية الموت إذا دهمت وجاء الأجل المقّدر المحتوم باتت كل هذه الأسباب والمحاذير غير ذات قيمة أو اعتبار. فلا يغني حينئذ حذر من قدر ولا تجدي المحاذير أو الحسابات البشرية مما هو مسطور في علم الله وقدره ؛ لأن ( أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) ولا يتشبّث أحد بمثل هذه الأسباب إلا وهو يخالطه الحرص البالغ على الحياة أو المكث فيها طويلا، وهو لا تدنو منه قارعة الموت إلا ويجد نفسه شديد اللصوق بالحياة والإخلاد إلى الأرض في انشداد عجيب مؤمّلا أن يستزيد من البقاء ما هو أكثر. وتظل بوادر المنيّة وأعراضها تتكشف له عن النذير بالفراق المرعب الطويل، لكنه يظل يستمسك بحبائل الحياة في عناء وهو يعلل نفسه بطول الآمال والأماني. وما ذلك إلا العبث اللاهي الذي يتيه خلاله الإنسان ليبعد عن نفسه شبح الموت، وهو شبح مخوف مزلزل يتراءى للإنسان في كل لحظة فيراود فيه الحس والخيال مراودة غليظة تنذر بحلول الأجل الذي تلتفظ معه الأنفاس وتزهق فيه الروح زهوقا.
قوله :( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ) يرجع الضمير في قوله تصبهم على المنافقين. فهم الذين تهرف ألسنتهم بالسوء ليغمزوا النبي في وقاحة فاجرة بأن الحسنة تصيبهم سببها فضل الله عليهم اما اذا اصابتهم السيئة فسببها شؤم النبي ( ص ) وأصحابه. والمقصود بالحسنة هنا مجموعة السلامة والأمن والرزق والخير والخصب. ويقصد بالسيئة ما اشتمل على السوء والضراء وذلك كالفقر والمرض والجدب وانحباس المطر وغير ذلك من أنواع الشدة.
وفي قول آخر بأن الضمير في قوله :( تصبهم ) يعود على اليهود والمنافقين معا وذلك أنهم لما قدم عليهم النبي ( ص ) في المدينة مهاجرا قالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. لا جرم أن ما قالوه غاية الباطل والافتراء، بل إنه اجتراء خسيس وجهول ووقح تنحسر عنه قلوب هؤلاء الكاذبين المرضى. ومن بدهيات القضايا الكونية في هذا الوجود أن النبي الكريم محمدا ( ص ) كان وما زال بشخصه وطبعه وسيرته وذكراه مثار خير وبركة وراحة تنهمر في نفوس المؤمنين انهمارا. فما يتصور الإنسان روعة الشمائل والسجايا وكريم الطبع والخصال في شخصية النبي الكريم حتى يغمره الحبور والدهش وينشر في أغواره فيض الإعجاب البالغ بهذا الإنسان المتميز الفذ.
أما مقالة هؤلاء الظالمين الضالين عن الرسول ( ص ) فإنها غاية في التخريص الظالم والافتراء المهين. قالوا : إنهم إذا أصابهم خير مثل الرزق والرخاء العطاء فهو من عند الله ومن فضله وتقديره. وإذا أصابهم السوء مثل المرض والخوف والقحط قالوا : " هذه من عندك " أي بشؤمك الذي أصابنا بسببك وذلك على جهة التطيّر.
وقوله :( قل كل من عند الله ) وتلك قاعدة أساسية للتصوّر الإسلامي الصحيح في مثل هذه المسألة. كل شيء من عند الله بما في ذلك الحسنة والسيئة على نحو ما بينا، وفي ذلك المعنى شيء من الإجمال الذي يقتضي البيان والتفصيل وهو آت في الآية التي تلي هذه.
قوله :( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) أي كيف لا يعلم هؤلاء أن الله هو الباسط والقابض والرازق ؟ وكل ذلك إنما يصدر عن حكمة وتقدير. ذلك تنديد بهؤلاء الفسّاق الذين قالوا مقالة السوء ونسبوا الشؤم للنبي ( ص ) وأصحابه. إنه تنديد تتسفّه به أحلام هؤلاء الفسّاق ليوصموا بفرط الغباوة والجهل. ولا جرم أن يكون ذلك قرين المجرمين الفاسدين الذين يفترون على النبي وأصحابه بأفدح فرية.
وفي حديث آخر عنه ( ص ) : " والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا حزن ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله عنه بها من خطاياه ".
قوله :( وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ) رسولا، مصدر مؤكد بمعنى إرسال وشهيدا منصوب على البيان. ذلك تثبيت لفؤاد النبي ( ص ) لكي يمضي على الطريق فلا تهزّه الصعاب، أو تنال من عزمه واصطباره الرياح السوافي التي تعصف بالضعفة من الناس والتي يثيرها المنافقون واليهود من حين لآخر. وهو عليه الصلاة والسلم مبعوث من ربه للناس ليبلغهم دعوة الله، وهي دعوة الحق التي لا يقوى على الاضطلاع بأدائها إلا أولوا العزائم الكبيرة من الرجال. ويكفي أن يكون الله- جلّت قدرته- وهو الشاهد على نبوّة الرسول وصدق رسالته ( ص ) ١.
قوله :( ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) من أدبر معرضا عن دعوة الإسلام فما عليك منه يا محمد. وما عليك إلا التبليغ وكفى فمن لم يهتد فلست عليهم حفيظا. أي رقيبا على أعمالهم فدعهم وشانهم وحسابهم على الله.
قوله :( والله يكتب ما يبيتون ) يأمر الله ملائكته الحفظة أن يكتبوا ما استسرّه هؤلاء المنافقون في بهيمة الليل المعتم. وفي ذلك لفت للأذهان بأن الله مطّلع على ما يستسرّ في النوايا والمقاصد وأنه سبحانه يستوي أمامه المعلوم والمجهول أو الظاهر والمستور، وهو سبحانه يعلم كل ما يستكن في أرجاء الكون وأطرافه وجوانبه. وهو سبحانه عليم بكل مكنون ولو لم يكن ثمة ملائكة كتبة حفظة يسجلون ما يجري لكنه جل وعلا إنما يتعبد خلائقه من الملائكة إذ يضطلعون بوظيفة الكتابة والرقابة.
قوله :( فأعرض عنهم.. ) يخاطب الله نبيّه أن يعرض عن هؤلاء المبيتين المفسدين ويصفح عنهم ولا يعاقبهم ماداموا يستسرّون كيدهم ليظل حبيس نفوسهم وطواياهم من غير إظهار. وكذلك فإن على النبي ( ص ) أن يتوكل على الله بالاعتماد عليه والركون إليه سبحانه فإنه جلّت قدرته خير ملاذ للثاوين والحائرين والمستضعفين، وكفى به وليا ونصيرا للمنيبين إليه المتوكلين عليه.
وفي هذه الآية الكريمة يستنهض الله عزائم هؤلاء المتخاذلين وهممهم ليتدبروا القرآن. والتدبر هو التفكر والتبصّر لاستخلاص المعنى، والمقصود الذي لا يتكشف بغير إمعان وطول نظر.
قوله :( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) لو كان القرآن من وضع المخلوقات سواء كانوا بشرا أو ملائكة أو جنة لكان فيه اختلاف كثير. ولا جرم أن يكون قوله :( اختلافا ) قد احتوى جملة معان أو مضامين. فإنه يندرج تحت هذه الكلمة كل من التباين والتفاوت والتعارض والتناقض والتضاد. وبذلك فإن اختيار الكلمة ( اختلافا ) بالذات يوحي بشيء من إعجاز. إذ لو كان القائل واحدا من الخلق لما طرأ على باله أن يصطفي هذه الكلمة بالذات وهي قوله :( اختلافا ) ولكان على الغالب أن يختار كلمة من صنف محدد آخر.
وتلك ظاهرة من ظواهر الإعجاز في القرآن وهو أنه لا وجود للاختلاف فيه. فهو كلام متكامل ومتّسق لا مجال للتعارض فيه أو التناقض أو التباين بين آياته ومعانيه سواء في العبارة أو المعنى فإن ذلك كله قد جاء على مستوى رفيع واحد وعلى درجة سامقة رائعة واحدة بحيث تتشابه فيه الآيات والعبارات والمقاطع لتكون جميعها في نفس المرتبة من فصاحة البيان أو روعة الأداء أو حلاوة التعبير أو قوة التأثير أو براعة التصوير أو غير ذلك مما اشتملت عليه لغة العرب. وانتفاء الاختلاف من بين آيات القرآن لهو أعظم دليل على إعجازيته ؛ إذ لا يتأتى لبشر- كائنا من كان من البلاغة واللسن- أن يصوغ طويل الكلام ليأتي ذلك على وتيرة متسقة موحدة لا يتخللها شيء من معاني الاختلاف. والذي يتبدى للذهن مما هو معلوم من طريق المعاينة والحس أن كل كلام يحمل مضامين شتى وأخلاطا من المعاني والعقائد والأحكام لا بد وأن يخالطه اختلاف كثير بما تعنيه هذه الكلمة من مفاهيم في التباين والتعارض وغير ذلك من جوه الضعف التي تركب الأسلوب البشري مهما بلغ من القوة والعلوّ. لكن القرآن وحده ليس على شيء من " الاختلاف " ولا يعتريه شيء من ظواهر الضعف مهما امتد الزمن. ندرك ذلك في يقين ونحن نتصور كرّ الزمن الذي يمتد بالقرآن والذي نيّف على الأربعة عشر قرنا وهو ما فتئ على حاله من الاتساق والانسجام. بل إن امتداد الزمن يكسب القرآن مزيدا من الوضوح والجلاء لكثير من معانيه التي تتفجر للأذهان في سهولة ويسر والتي طالما كانت على قدر من الإجمال إلى أن اتضحت في ضوء الخبرات والتجارب والمعطيات العلمية الحديثة.
وفي هذا الصدد نستذكر إحدى خصائص القرآن المميزة وهي الجدة. بكسر الجيم. ومنه الجديد. فالقرآن لا تبدو عليه علامة واحدة من علائم البلى والقدم وهو في تناسق ألفاظه واتساق أسلوبه وسحر معانيه فإنه دائم الجدة كأنما تنزّل من أمد قريب. ولو كان هذا الكتاب من قول البشر أو أحد من خلق الله لتكشف عن مواطن الضعف والاختلاف حينا بعد حين ولظل يدفع بعضه بعضا أو يكذب بعضه بعضا كلما امتد بالناس الزمان وتجددت بهم الظروف والأحوال أو اختلفت القناعات والمقتضيات بفعل المعارف التي تتحصل وتتنمى بغير توقّف وبفعل التجارب العلمية التي تتمخض عن معطيات هائلة متجددة.
وعلى ذلك فإن الآية تدعو المسلمين إذا ما بلغ أحدهم خبر من الأمن أو الخوف- وذلك يعني النصر أو الهزيمة- فإن عليه أن يرد ذلك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وله أن يتصرّف بمثل ما يراه مناسبا، أو أن يرد ذلك لأولي الأمر وهم العلماء أو الولاة والأمراء كما قيل وهم بدورهم يستطيعون أن يقرروا الشأن الذي تقتضيه المصلحة وذلك بعد التشاور المستفيض والدراسة للأمر من كل جوانبه. وفي هذا من الأسلوب الصحيح ما تتجنّب به الأمة بواعث الفوضى والإرجاف لتسير على بصيرة واعية من أمرها.
قوله :( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) الاستنباط هو الاستخراج، ومنه النبط أي الماء عند أول خروجه من البئر عقب الحفر١. فالمعنى أن من جاءه خبر يتضمن خيرا أو شرا يتعلق بمصير المعركة، ثم رد الخبر إلى القائد الأول وهو الرسول ( ص )، أو الخلفاء والولاة والحاكمين من بعده لكان قد علم المستنبطون منهم ما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يخفى أو أنهم أجمعوا على أمر قد انقدح لأذهانهم فاعتمدوه دون غيره. والمستنبطون هنا هم أهل البصيرة والنظر الذين يبحثون عن الحقيقة يخرجونها بعد جهد إخراجا وذلك كيلا يتسبب الأمر ويعم الإرجاف والبلبلة والفوضى عن طريق التعجل بانفراد في بث الأخبار وإطلاق الأقاويل مع أن ذلك ليس من أخلاق المسلمين في شيء. وشأن المسلم في ذلك أن يتسم بالروّية والاتّزان فلا يطلب الخبر أو الإشاعة دون تثبّت أو تحفّظ، وإلا كان من المرجفين الطائشين الذين يعبدون الله على حرف أو الذين لا يعبأون بالكلمة تلوكها أفواههم فتقضي إلى وخيم العواقب وأفدحها. وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) أنه قال : " كفى بالمرء أن يحدّث بكل ما سمع ". وجاء في سنن أبي داود أن النبي ( ص ) قال : " بئس مطيّة الرجل زعموا ".
قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) لولا أداة امتناع لوجود، وفضل مرفوع للابتداء والخبر محذوف تقديره موجود. جاء في تأويل هذه جملة أقوال : أولها : أنهم أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع به.
ثانيها : أي لعلمه الذين يستنبطون منهم إلا قليلا منهم.
ثالثها : أي لولا فضل الله عليكم ورحمته ببعثه فيكم رسولا هاديا لكم ومنيرا لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم كان على فطرة التوحيد. وقوله :( قليلا ) منصوب ؛ لأنه صفة لمصدر محذوف وتقديره : إلا اتباعا قليلا. وقيل : مستثنى من قوله :( لتبعتم الشيطان ) وقيل غير ذلك٢. ولعل الصواب القول إن الله قد تفضّل على العباد بإحسانه ورحمته وغفرانه حتى نجوا من غواية الشيطان ووسوسته إلا بعضهم فقد ضل وسار في طريق الباطل والغواية.
٢ - البيان للأنباريجـ ١ ص ٢٦٢..
ويأمر الله نبيّه كذلك بتحريض المؤمنين على قتال المشركين والمتربصين. والتحريض هو الحض والتشجيع. فإن في تحريضه على القتال واشتداد المسلمين في التصدي للأعداء ومقارعتهم ما عساه أن يكون سببا في أن يكف الله عن المسلمين سلطان عدوّهم وسطوته فيرتد خاسرا مدحورا.
قوله :( والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) البأس هو الصولة والمنعة والشدّة. والتنكيل بمعنى العقوبة. وبذلك فإن قوة الله تفوق كل قوة وعقوبته موجعة أليمة تدنو دونها كل عقوبة، فهو سبحانه القادر على التنكيل بالفسّاق والمجرمين وعلى أن يذيقهم من شديد عذابه ما لم يكونوا يتصوّرون١.
الشفاعة في اللغة من الشفع وهو العدد الزوجي خلافا للفرد أو الوتر وفي الآية :( والشفع والوتر ) ومنه الشفيع سميّ بذلك ؛ لأنه في ضمه إلى صاحب الحاجة يصير شفعا أي زوجا. وبعبارة أخرى فإن الشفع معناه : ضم ذات إلى ذات أخرى. وعلى ذلك فإن الشفاعة تعني أن ينضم واحد بجاهه واعتباره إلى آخر لما في ذلك من إظهار لمنزلة الشفيع بقصد إيصال المنفعة إلى المشفوع له١.
واختلف أهل التأويل في حقيقة المقصود من هذه الآية على جملة أقوال. ويمكن استخلاص الصحيح منها لنعلم أنها تتعلق بشفاعات الناس في حوائجه فيما بينهم. فمن سعى سعيا ترتب عليه وصول خير أو منفعة للآخرين كأن يكون ذلك تحصيلا لمنفعة أو تحقيقا لمصلحة أو إظهارا لحق مضيّع أو دفعا لضرر، فإن في ذلك أجرا ومثوبة للساعي الشفيع. يقول النبي ( ص ) : " اشفعوا تؤجروا " رواه مسلم.
أما الذي يشفع في السيئة بأن يسخّر جاهه ومكانته في إلحاق الأذى والظلم بالآخرين فإنه له في ذلك كفل من الوزر أو الإثم. والكفل معناه النصيب ويستوي فيه أن يتضمّن الأجر أو يتضمّن الوزر. وفي هذه الآية تشجيع على فعل الخير وبث أسباب العون والمساعدة لكل محتاج أو ملهوف، وفيها كذلك تنديد بالشفاعة السيئة التي يعتمد بموجبها الآثمون إلى إخفاء الحق لكي يظهر الباطل بما في ذلك من وجوه الإضرار والشرور والموبقات التي تلحق بالناس ظلما وعدوانا. وذلك نتيجة للوساطات الفاسدة التي ينبري من خلالها الشفعاء لإخفاء الحق وإظهار الباطل فيحيق الظلم بالمستحقين ويتطاول المبطلون المعتسفون فيسلبون حقوق الآخرين ظلما وعدوانا.
قوله :( وكان الله على كل شيء مقيتا ) المقيت معناه الحفيظ الشهيد وقيل : المقتدر وهو مشتق من القوت ؛ لأنه يمسك النفس ويحفظها.
وإذا ابتدأ الواحد بالسلام على الجماعة فهل يجزئ رد أحدهم ؟ ثمة قولان في هذه المسألة. أحدهما : أن رد الواحد من الجماعة على المبتدئ بالسلام يجزئ عن الآخرين.
ثانيهما : أن رد السلام من فروض العين بمعنى أن الرد فرض متعين بالنسبة لكل واحد من الجماعة الحاضرة واستدلوا أيضا بما لو رد غير المسلم على من ابتدأ السلام لم يسقط ذلك فريضة الرد. وفي ذلك دلالة على لزوم الرد على كل واحد بعينه.
والراجح أن الابتداء بالسلام من واحد يكفي. وأن الرد من أحد الآخرين مجزئ لما رواه أبو داود في سننه عن عليّ بن أبي طالب أن النبي ( ص ) قال : " يجزئ من الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم ".
قوله :( فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) رد التحية على البادئ أن يقال : عليكم السلام. أما الأحسن فهو أن يقال : عليكم السلام ورحمة الله. وإذا أضاف البادئ قوله ورحمة الله. كان الرد : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وهذا هو النهاية بغير زيادة.
ويسنّ في التحية والردّ عليها الجهر وذلك عن طريق الكلام باللسان، أما الإشارة بالأصبع أو الكف فإن ذلك لا يكفي ولا يقوم مقام الرد للتحية إلا إذا كان الاثنان متباعدين.
وإذا كانت التحية من غير المسلم فحكم الرد أن يقال له : وعليكم، وقيل : رد السلام عليهم واجب، كما ذهب بعض أهل العلم استنادا إلى عموم الآية إذ لم يرد ما يجعلها خاصة بالمسلمين وهو قول ابن عباس والشعبي وقتادة. وقد ذكر عن ابن عباس قوله في هذا الصدد : من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا ذلك بأن الله يقول :( فحيوا بأحسن منها أو ردوها ). وقيل غير ذلك، والقول الأول أرجح. ولا يسلّم أيضا على من يقضي حاجته وإن سلّم فلا يرد عليه أثناء قضاء الحاجة. ولا يسلّم كذلك على من يقرأ القرآن وإن سلّم عليه فهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء أمسك حتى يفرغ من القراءة ثم يرد.
ومن جملة الأحكام في هذه المسألة أن السنة أن يسلم الراكب على الماشي والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر، والقائم على القاعد. وإذا استقبلك رجل واحد فقل : سلام عليكم، بقصد الرجل والملكين فإنك إذا سلمت عليهما ردا : السلام عليك.
وإذا دخلت بيتا خاليا فسلم. وذلك ؛ لأنك تسلم من الله على نفسك، وإنك تسلم على من في البيت من مؤمني الجن. ثم إنك تطلب السلامة ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات ببركة السلام.
قوله :( إن الله كان على كل شيء حسيبا ) أي حفيظا. وقيل : كافيا وذلك كقولنا : حسبنا الله. بمعنى أنه يكفينا. فالله جلّت قدرته كان وما يزال حافظا عالما بكل شيء٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٢٩٥ -٣٠٠ وتفسير الرازي جـ ١٠ ص ٢١٤- ٢٢٠ والكشاف جـ ١ ص ٥٤٩ وتفسير الطبري جـ ٤ ص ١١٩..
قوله :( ومن أصدق من الله حديثا ) ذلك استفهام يتضمن النفي الكامل لوجود من أصدق من الله. إنه تباركت أسماؤه وتقدّس في جلاله وعليائه لهو أصدق الصادقين حديثا فكيف إذا أقسم ؟ ! فإن في ذلك عين التأكيد على صدق حديثه سبحانه. وقوله :( حديثا ) منصوب على التمييز.
ثمة اختلاف في سبب نزول هذه الآيات. فقد ورد أنها نزلت في المنافقين الذين انشقّوا عن المسلمين في معركة أحد، مما جعل المسلمين في شديد من الحرج والخطر وكان على رأس المنافقين حينئذ كبيرهم عبد الله بن أبيّ بن سلول. ومن بعد ذلك اختلف المسلمون في حقيقة أمر هؤلاء المنشقّين الذين خانوا الله ورسوله في أخطر الأحوال، فقال بعضهم : ما لنا ولهؤلاء فهم مؤمنون مثلنا ولا يضر ما احتملوه من الخطأ. وقال آخرون من المسلمين : بل إنهم منشقّون ضالّون يجب محاربتهم وقتلهم حتى نزلت هذه الآيات.
وورد أيضا أنها نزلت في الذين أبدوا إيمانهم في مكة لكنهم رفضوا أن يهاجروا مع المسلمين والنبيّ إلى المدينة رغبة في بلدهم وقومهم وقالوا : إن ظهر محمد على خصومه فهو يعرف أننا مؤمنون فلا يضرّنا وإن وقعت الدائرة على المسلمين كنا مع قومنا هنا وبذلك ننجو على كلتا الحالين. فنزل قوله تعالى :( فما لكم في المنافقين فئتين... ) وعلى أية حال فإن هؤلاء الذين نزلت فيهم الآية هم فريق من أهل النفاق وقد وصمتهم الآية بذلك في وضوح مع الاعتبار بأن سياق الآيات يرجّح الرواية الثانية في سبب النزول لقوله تعالى :( فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله... ) ١.
وقوله :( فما لكم ) فيه استفهام يتضمن استنكارا لما يظنه بعض المسلمين بأن هذه الفرقة المتخاذلة المتخلفة على شيء من الإيمان، وفي الحقيقة هم ليسوا من أهل الإيمان في شيء، بل إنهم فرقة فاسدة قد انطوت على الغش والخداع وهم يتربصون بالمسلمين دائرة السوء. أما وقد اتضحت مقاصدهم الفاسدة فقد بات قتالهم مشروعا. وقد يرد في ذلك تساؤل عن قتال هؤلاء المنافقين مع أنهم لا يقاتلون أصلا، ولا ينبغي قتال أحد غير المشركين. والجواب عن ذلك أن هؤلاء – وإن كانوا منافقين- فقد ظهر كفرهم، واستبانت حقيقتهم، وهي أنهم منافقون أظهروا كفرا واضحا بدليل الآية فوجب قتالهم. ولا يدفع عنهم القتل إلا أن يهاجروا ؛ لما في ذلك من دفع لتهمة الكفر عنهم والله سبحانه أعلم.
وقوله :( فئتين ) منصوب على الحال. ثم قوله :( أركسهم ) من الركس أو الارتكاس وهو يعني الانتكاس أي قلب الشيء رأسا على عقب٢.
وفي الآية رفض لظن بعض المسلمين بأن هؤلاء المتخلفين المتخاذلين على شيء من الإيمان فهم فئة ضالة انكشف فسادها وسوؤها ( والله أركسهم بما كسبوا ) أي أن الله- جلّت قدرته- قد ردّهم منكوسين إلى الضلال والهاوية بسبب تخلّفهم عن ركب المسلمين وتخذيلهم لهم سواء بانصرافهم من أرض المعركة في أحد أو إيثارهم البقاء في مكة حيث الشرك والمشركون بعد أن رفضوا طلب النبي ( ص ) بالهجرة.
قوله :( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ). وذلك استنكار للظن بأن الهداية مقدور عليها من أحد من الناس وأن الناس يملكون هداية البشر وحملهم على الإيمان. ذلك إن كانت الهداية يقصد بها الرشاد والاستقامة أما إن كان يقصد بها الدلالة فذلك شأن آخر. وما يمكن تسجيله هنا في هذا الصدد هو أن الله- جلت قدرته- قادر على كلا الأمرين الهداية والإضلال، وأن من اهتدى أو ضلّ من الناس لم يكن بذلك متجاوزا لسلطان الله وقضائه، فالله جلّت قدرته لا يعز عليه إضلال أحد أو هدايته ولا يعجزه سوق أحد إلى حيث يكتب أو يريد. ولكن الله سبحانه قد بث في الإنسان أسباب الاهتداء وأسباب الضلال، وهو ( الإنسان ) ماض في الحياة على شيء من الاقتدار على التصرف الحر أو الإرادة المقدورة. فإن أساء وظلم ولم يتخيّر سبيل الهداية بات مستحقا لإضلال الله له بعد أن فرّط في الأسباب التي تقوده إلى السلامة. والإنسان إذا ما فرّط في أسباب الخير والاهتداء التي خوله الله إياها والتي بموجبها يمضي مهتديا مستقيما بات غير مستحق لرحمة الله وإرشاده، وهو إن كان كذلك فليس له إذن من يهديه ولن يكون له بعد ذلك طريق مؤدية إلى النجاة أو الفوز.
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ٢٥٤..
و ( لو ) مصدرية. وهي والجملة الفعلية بعدها في محل نصب مفعول به. أي ودوا كفرانكم. وفي الآية دلالة على أن هؤلاء المنافقين كفرة وهم بكفرهم وسوء مقاصدهم يودّون أن يكونوا مع المسلمين على الكفر ( سواء ) أي متساوين.
قوله :( فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ) لا ينبغي أن يتخذ المؤمنون من هؤلاء المنافقين الذين افتضح شأنهم ( أولياء ) مفردها ولي وهو النصير. لا ينبغي اتخاذ الأعوان والأنصار من هؤلاء المنافقين ما لم تصلح نواياهم وأعمالهم ثم يهاجروا من دار الحرب في مكة إلى دار الإسلام في المدينة حيث المسلمون والنبي ( ص ) وحيث السلطان والشوكة للمسلمين في ظل الإسلام وهم يعبدون الله أحرارا آمنين مطمئنين.
قوله :( فإن تولوا فخذوهم واقتلوه حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) أي إن أعرض هؤلاء عن الإيمان والهجرة وجب القبض عليهم وقتلهم حيث يوجدون فإنهم شرذمة فاسدة بات دمها هدرا. ومن كان على هذه الشاكلة فلا يصلح أن يكون وليا أو نصيرا للمسلمين. وتلك إشارة مكشوفة يدرك من خلالها المسلمون أن المنافقين لا يؤتمنون وأنهم فئة خسيسة مرتكسة تعيش بغير وازع من عقيدة أو تقوى.
قوله :( أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ) وذلك استثناء آخر فهو معطوف على المستثنى الآنف ذكره وهو متعلق بفريق من المشركين المسالمين الموادعين الذين ( حصرت صدورهم أن يقاتلوكم ) أي ضاقت صدورهم عن قتالكم وهم مبغضون لذلك، وهم كذلك يعز عليهم قتال قومهم المشركين. فهؤلاء ليسوا لكم أو عليكم.
وقوله :( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم... ) من شأن الله سبحانه أن يبلو عباده المؤمنين ويصيبهم بضروب من المصائب والمحن ؛ وذلك لمعاص قد ارتكبوها، ثم يريد الله أن يمحو بذلك من سيئاتهم إن احتملوا وصبروا، أو أن الله يبلوهم ليمحّص المؤمنين وليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. أو أنه – جلت قدرته- يتعبد المؤمنين بابتلائهم ليصبروا وليزدادوا إيمانا مع إيمانهم.
وعلى هذا فلو شاء الله لابتلى عباده المؤمنين بأن سلّط عليهم هؤلاء الذين غمروا في صفوف المشركين بعد ضعف، وتخلّفوا عن مركب الإيمان من غير حيلة فقاتلوهم قتالا لا يرعون فيهم إلا ولا ذمة. وذلك فضل من الله أن نجّى عباده من هذا الكيد المحتمل.
هذا الصنف من الناس إذا ما اعتزلوا المسلمين ثم لم يقاتلوهم وألقوا إليهم المسالمة والموادعة فليس للمسلمين بعد ذلك أن يقاتلوهم١.
وهذا فريق من الناس يشبهون الصنف السابق الذين حصرت قلوبهم عن قتال المسلمين. وهو شبه في الظاهر ولكن الباطن يختلف فيما بين الفريقين اختلافا كبيرا،
الفريق الأول ما كان يكنّ غيظا أو سوءا للمسلمين وهو باق على حاله من إيثار المسالمة والموادعة. لكن الفريق الآخر وهو الوارد هنا ينطوي على سوء في القصد وفساد في النيّة. وهؤلاء يتظاهرون أمام النبي بأنهم موادعون مصانعون وأنهم يوادّون المسلمين ولا ينوون لهم شرا حتى إذا خلوا إلى المشركين انحسرت نفوسهم عن أخبث قصد وأسوأ غاية ثم كاشفوا المشركين بأنهم معهم وأنهم وإياهم جميعا على الشرك.
وبهذا الأسلوب المتأرجح المتلجلج يمسك هؤلاء المنافقون بخيط الأمان والسلامة ليظلوا دائما في منجاة من صولة أحد مع العلم بأنهم يضمرون العداء للمسلمين والمودّة للمشركين. وفي ذلك تقول الآية :
( كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ) أي كل ما خلوا إلى المشركين حيث الشرك والغواية انقلبوا إلى الفتنة وانتكسوا فيها انتكاسا، وفي قول آخر هو أنهم إذا دعوا إلى الفتنة ( الشرك ) عادوا إليها وسقطوا فيها.
وقد نقل الإمام الطبري عن مجاهد أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي ( ص ) فيسلمون أمامه رياء فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا. ومن أجل ذلك قوله تعالى :( فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ) وهو المهادنة والمصالحة ( ويكفوا أيديهم ) الكف هو المنع والصرف، أي يمنعون أنفسهم من قتال المسلمين. فإذا لم يكونوا كذلك من اعتزال المسلمين والامتناع من محاربتهم والتآمر عليهم وجب أخذهم والتمكن منهم ثم قتلهم بغير رحمة أو هوادة وذلك حيث لقيهم المسلمون.
قوله :( وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ) أي برهانا واضحا بينا. ومعنى ذلك أن الله جلّت قدرته قد سوّغ للمسلمين بما خوّلهم من حجة وبرهان أن يقتلوا أولئك الفاسدين المذبذبين الذين يتظاهرون بالموادعة للمسلمين ومصالحتهم وهم يكنّون للمشركين الودّ١.
المعنى : لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، أو لا يصح ولا يستقيم ولا يليق به أن يقتل مؤمنا ابتداء. والاستثناء هنا منقطع. ومعنى " إلا " لكن. وتقدير الجملة كما ذهب سيبويه وغيره هو : ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا وكذا١.
وقال صاحب الكشاف : والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما أو يرمي شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم.
وقوله :( وما كان ) لا يفيد النفي، بل يفيد التحريم والنهي. ولو كان في ذلك نفي لانتفى بذلك حدوث القتل العمد مع أن ذلك حاصل وموجود. وضروب الخطأ كثيرة مردّها جميعا إلى عدم القصد. ومن جملة الخطأ أن يعمد المسلم إلى رمي المشركين ثم يصيب مسلما فيقتله، أو أن يقصد بالرمي غرضا من الأغراض فيصيب مسلما، أو أن يحمل على مستحق القتل فيرمي غيره وهو يظن أنه المستحق للقتل. ومثال ذلك كثير. والمعلوم أن المسلم مصون الدم إلا بإحدى ثلاث كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي ( ص ) قال : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة " حتى إنه ليس لأحد من الناس أن يحمل على واحد من هؤلاء الثلاثة ليقتله، بل إن ذلك من شأن الدولة المسلمة فهي التي قد نيط بها تنفيذ العقوبات سواء في ذلك القصاص أو الحدود أو التعزير. وإذا كان لكل فرد أن يتصرف مندفعا ليقتل من يستحق القتل آل الأمر إلى فوضى وتسيّب.
وقتل المؤمن خطأ يجب فيه تحرير رقبة مؤمنة ثم الدية التي يتسلمها أهله. أما الرقبة فهي العبد فإنه إذا تحرر فهو كأنما تنبعث فيه الحياة المتحركة بعد موات وركود ناشئين عن مهانة العبودية أو هو بمثابة انعتاق لإنسان مؤمن لينتشر في الأرض حرا نشطا بعد استرقاق. ولا جرم أن يتضمن هذا الإعتاق تلافيا لنكسة يمنى بها المجتمع نتيجة لموت امرئ مؤمن وافتقاده من على وجه الأرض وفي ذلك من الخسارة على الأمة الإسلامية ما يوجب سدا لهذه الثغرة بتشريع الإعتاق وهو على سبيل الجبر لما حل به من كسر. وشرط الرقبة أن تكون مؤمنة، إذ لا يجزئ الكافر وهو ظاهر الآية. أما أوصاف الرقبة وشروطها من أجل أن تجزئ وذلك من حيث الصغر والكبر أو من حيث السلامة والعيوب وغير ذلك فإن ذلك موضع خلاف العلماء.
والإعتاق فيه التطهير للقاتل عما اقترفه من تقصير قد أدّى إلى هلاك امرئ مسلم وكان عليه أن يحتاط ويأخذ زمام الحرص كيلا يقع في خطورة القتل لكنه قد ترك الحرص والحر وأهمل الاحتياط والتنبيه الذي ينبغي أن يسبق القتل فقتل فلزمه بذلك أن يضطلع بالعتق جزاء بما فرّط وجبرا لما أحدث من زوال لكائن مسلم يعبد الله ويدين له في خضوع واستسلام.
أما الدية بكسر الدال. ومنه الفعل : ودى يدي. نقول وداه أي أعطى ديته٢. فهي ما يعطي لولي القتيل عوضا عن دمه. وقوله :( مسلّمة ) أي مؤداه ومدفوعة. وإيجابها في الآية ينطوي على إجمال غير مبيّن وتبيين ذلك تفصيلا إنما يؤخذ من السنّة النبوية. وبذلك فلا مندوحة عن السنّة وأقوال الفقهاء من المجتهدين من أجل الوقوف على نوعية ما يعطي للوليّ ليكون دية ثم إيجابها على العاقلة بدلا من القاتل نفسه. وهي تجب على العاقلة لا على سبيل العقاب لهم وإنما على سبيل المؤازرة والمواساة فقط.
وتفصيل ذلك أن الدية مقدّرة بمائة من الإبل كما ثبت في أخبار الرسول ( ص ) فقد روي في الموطأ أن رسول الله ( ص ) كتب كتابا لعمرو بن حزم في العقول ( الديات ) فكتب " أن في النفس مائة من الإبل ". وإذا لم يكن هناك إبل قدّرت الدية بالذهب وهي ألف دينار، أو بالفضة إذا لم يتيسر الذهب وهي من الفضة اثنا عشر ألف درهم. وتلك خلاصة ما ذهب إليه الفقهاء في هذه المسألة استنادا إلى السنة الصحيحة والاستنباط السليم. وهو تقدير للدية في ضوء ما ثبت في الخبر الصحيح، فقد أخرج النسائي عن عمرو بن حزم أن رسول الله ( ص ) كتب إلى أهل اليمن " وأن في النفس مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار ".
وكذلك أخرج أبو داود عن ابن عباس " أن رجلا من بني عدي قُتل فجعل النبي ( ص ) ديته اثني عشر ألفا " يعني من الدراهم. أما التقدير بالنقد في العصر الحديث فهو شأن يناط بأهل الخبرة من ذوي الاختصاص حتى يمكن الكشف عن كمية الدية على نحو محدد ومضبوط.
والدية في القتل الخطأ تجب على العاقلة وذلك ما قضى به الرسول ( ص ) وهو إجماع العلماء. والعاقلة معناها عصبته أي أقرباؤه من طريق الذكورة. وهي في اللغة من العقل بمعنى المنع والحبس. فالعاقلة هم الأقربون الذين يمنعون قريبهم من الاعتداء عليه أو التمكن منه. والعقل على لسان الفقهاء معناه الدية. وسميت الدية عقلا ؛ لأنها تعقل الدماء من أن تسفك٣.
والمقدار من الدية الذي تلتزم بأدائه العاقلة ما جاوز الثلث، فالثلث يؤديه القاتل نفسه والثلثان الآخران يقوم بدفعهما الأقربون وهم ما يعرفون بالعاقلة. وذلك قول المالكية والحنابلة وآخرين. فالعاقلة تحمل من الدية ما يبلغ الثلث أو أكثر. وما كان دون ذلك فيتحمله الجاني في ماله.
واستدلوا لذلك بما روي عن ابن عباس مرفوعا أن النبي ( ص ) قال : " لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا اعترافا ولا صلحا ولا ما دون الثلث ".
أما الحنفية فقالوا : إنما تحمل العاقلة ما كان نصف عشر الدية فأكثر. واستدلوا بحديث ابن عباس مرفوعا أنه " لا تعقل العواقل عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة " وقالوا : أرش الموضحة ما بلغ نصف عشر بدل النفس. أما ما نقص عن نصف عشر الدية فهو في مال الجاني.
أما الشافعية فقالوا : تجب الدية على العاقلة مهما كان قدرها، سواء كانت قليلة أم كثيرة. وحجتهم في ذلك أن النبي ( ص ) " قضى على العاقلة بالدية " وإطلاق ذلك يوجب الدية كلها على العاقلة٤.
ولا تقدم الدية للولي دفعة واحدة فإن في ذلك مشقة وإرهاقا وإنما تقدم على دفعات من خلال ثلاث سنوات يقوم بأدائها من يعقل عن الجاني.
وإذا كان القتيل جنينا فثمّة تفصيل. فإن مات في بطن أمه وذلك أن تضرب أمه على بطنها فتلقيه حيا ثم يموت ففيه الدية كاملة كما لو كان كبيرا.
أما ما تعلم به حياته فقد اتفق العلماء على أنه يعتبر حيا فيما إذا ارتضع أو تنفّس بعد نزوله وكذلك إذا استهل صارخا أي جاء يبكي كعادة المولود لدى نزوله. فإن كانت الحالة كذلك فإن الدية تجب كاملة. لكن الشافعي وأبا حنيفة قد قالا بكفاية أدنى حركة لتدل على أنه حي. وخالف الإمام مالك في ذلك واشترط أن تقترن حياته لدى نزوله بطول الإقامة ليقضي فيه حينئذ بالدية كاملة. ذلك إذا ألقته أمه حيا ثم مات. أما إذا ألقته ميتا بسبب ضرب أو غيره فإن فيه غرة وهي عشر دية الأم. وذلك لما رواه المغيرة بن شعبة أن امرأتين لزوجين من الأنصار قد تغايرتا فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها فاختصم إلى النبي ( ص ) الرجلان فقالا : ندي من لا صاح ولا أكل ولا شرب ولا استهل فمثل ذلك يطلّ. أي كيف ندفع دية لمخلوق ليس كالأحياء من حيث الصياح أو الأكل أو الشرب ولم يستهل فإن من كان كذلك يطلّ أي يهدر دمه فقال النبي ( ص ) مستنكرا : " أسجع كسجع الأعراب " فقضى فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة. فإن كانت دية المرأة على العاقلة فإن غرة الجنين على العاقلة كذلك من باب القياس.
وإن ماتت الأم وبقي الجنين في بطنها فلا شيء فيه. وكذلك إذا خرج من بطنها ميتا بعد موتها فلا شيء فيه أيضا، وذلك موضع اتفاق العلماء وقيل إجماعهم. وخالف داود الظاهري في هذا وقال : إذا خرج الجنين ميتا بعد موت أمه فإن فيه الغرّة يستوي ذلك أن تلقيه الأم قبل موتها أو بعده ما دامت قد ضربت على بطنها وهي حية فالحكم هنا منوط بحياتها عند الضرب. وما أجمع عليه العلماء هو الصحيح ويعزز ذلك القياس وهو أنه لو ضربت الأم على بطنها وهي حية فماتت وهي حامل من غير أن ينزل الجنين فإنه لا شيء فيه. فالحكم نفسه إذا سقط الجنين بعد موتها.
وقد اتفق العلماء على أن الجنين إذا سقط حيا ثم مات فإنه تجب فيه الكفارة ( عتق رقبة ) والدية. أما إذا سقط الجنين ميتا فهل تجب فيه كفارة ؟ ذلك موضع خلاف. فقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن فيه الغرّة مع الكفارة. وخالفهما الإمام مالك إذ استحسن الكفارة استحسانا دون وجوب. وقال الحنفية : لا كفارة في الجنين ؛ لأن الشرع إنما أوجب الكفارة في النفس المطلقة.
وفي ميراث الغرّة عن الجنين خلاف. فقد قيل إنها ( الغرّة ) موروثة عن الجنين بمعنى أن الجنين قد توفي عن مال الغرة فأصبح هذا المال من نصيب ورثة الجنين على النحو المبين في كتاب الله وسنة نبيه ( ص ). وذلك قول المالكية والشافعية والحنابلة.
وفي قول آخر بأن الغرّة من نصيب الأم وحدها. وتوجيه ذلك أن الجنين بمثابة عضو من أعضاء أمه، وإسقاطه يعتبر من باب الجناية الواقعة عليها ( الأم ) فاستحقّت بذلك الغرّة بدلا عما أصابها وهو قول أبي حنيفة، وقيل غير ذلك٥.
قوله :( إلا أن يصدقوا ) أصلها يتصدقوا من التصدّق وهو الإعطاء. ومعنى ذلك أن يبرئ أولياء القتيل خصمهم القاتل مما لهم في ذمته من دية. والأصل في ذلك أن الدية حق للأولياء الورثة فلهم حق التنازل عن هذا الحق وإبراء من وجب في ذمته شيء من هذا الحق. لكن الكفارة لا حق لأحد في التنازل عنها ؛ لأنها حق الله وليست حقا للعباد. فالقاتل خطأ تظل ذمته مشغولة بحق من حقوق الله، وتلك هي الكفارة وهي تحرير رقبة مؤمنة، ولا تبرأ هذه الذمة بعفو من الأولياء أو إبرائهم وإنما بالتحرير. وهو إذا ما حرر رقبة مؤمنة فإنه يتدارك ليقيم مؤمنا عتيقا مقام مؤمن آخر قد تسبب في قتله وقطعه من جماعة المؤمنين الذين يعبدون الله.
قوله :( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) إذا كان القتيل خطأ من قوم كافرين يعادون المسلمين فإن فيه الإعتاق فقط ولا دية هنا ؛ وذلك لأن في الدية تقوية للأعداء على المسلمين. وأضاف بعضهم وجها آخر وهو ضعف حرمة هذا المؤمن الذي رضي البقاء في حومة الكافرين ولم يعمل على تخليص نفسه من إيذائهم وفتنتهم له. والله سبحانه يقول :( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من وليتهم من شيء حتى يهاجروا ).
قوله :( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين... ).
ثمة قولان في حقيقة القتيل : فهل المقصود به أنه مؤمن من أولي ميثاق مع المسلمين، أم أنه ذمي أو معاهد من قوم أولي ميثاق ؟ ويأخذ بكل من هذين القولين فريق من العلماء، لكن الذي يترجح للمحقق القول الأول وهو أن الذي يقتل خطأ وهو مؤمن إن كان من قوم أولي ميثاق أو معاهدين فقد وجب فيه شي
٢ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٤٠٣..
٣ - لسان العرب جـ ١٣ ص ٤٨٨ والمغني جـ ٧ ص ٨٨٤ والهداية جـ ٤ ص ٢٣٤..
٤ - المغني جـ ٧ ص ٧٧٧ وأسهل المدارك جـ ٣ ص ١٣٣ والكافي لابن قدامة جـ ٣ ص ١٢١ والهداية جـ ٤ ص ٢٢٩. والأم جـ ٨ ص ٣٢٦..
٥ - البناية على الهداية جـ ١٠ ص ١٩٢ والمجموع جـ ١٩ ص ٦١ والمغني جـ ٧ ص ٨٠٥ والكافي جـ ٣ ص ٨٤ وبلغه السالك على شرح الدردير جـ ٢ ص ٣٩٨..
إن الاعتداء على الإنسان بإزهاق روحه لهو من أنكر الفوادح والموبقات التي تودي بالفاعل المجرم إلى الدركات السحيقة من عذاب الله، وهو كذلك مجلبة لغضب الله ولعنته سبحانه، ليحيقا بالقاتل الأًثيم الذي يتجاسر في اجتراء كنود ظالم على قتل امرئ مؤمن، لا جرم أن ذلك غاية في النكر والفظاعة ولا غرو، فقد أعدّ الله لهؤلاء القتلة السفّاحين نارا تلظّى تصطلي بلهيبها جلودهم ليذوقوا وبال أمرهم. وهو عذاب شنيع لا يطاق يتكبكب فيه من تجرأ في صلف وظلم فأودى بحياة امرئ وادع مطمئن.
روى النسائي في سننه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ( ص ) : " قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " وروى أبو داود عن النبي ( ص ) قول : " لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل لأكبّهم الله في النار ".
وأخرج النسائي أيضا بإسناده عن ابن عباس أنه سأله سائل فقال : يا أبا العبّاس هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن عباس كالمتعجّب من مسألته : ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا. ثم قال ابن عباس : ويحك ! وأنّى له توبة ! سمعت نبيّكم ( ص ) يقول : " يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى : رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل : تعست ويذهب به إلى النار ".
والقاتل عمدا فيما إذا كانت له توبة أم لا، فثمة قولان في هذه المسألة. والقول الأول لجماعة منهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وآخرون وهو أن الذي يقتل عمدا ليست له توبة أبدا وأنه خالد في النار. فقد ذكر عن ابن عباس قوله : نزلت هذه الآية ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) وهي آخر ما نزل ( في حكم القتل ) وما نسخها شيء. وهو كذلك يذهب إلى أن عموم هذه الآية ينفي التوبة عن القاتل عمدا وهو مخصص لعموم قوله تعالى :( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) الذي استند إليه المحتجون بإمكانية وقوع التوبة للقاتل عمدا. وقال ابن عباس كذلك أنه يمكن الجمع بين هاتين الآيتين على النحو التالي : التقدير هو : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا. أما القول الثاني فهو لجمهور أهل العلم وهو أن القاتل عمدا له توبة بدليل قوله تعالى :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقوله سبحانه :( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) واستندوا أيضا لظاهر قوله تعالى :( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ومن أوضح الأدلة على ذلك قوله النبي ( ص ) : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " وفي مجموع هذه الأدلة ما يرجح القول الثاني وهو أن القاتل العمد إذا تاب وأناب، وإذا أخلص التوبة في ندم شديد فإن الله جل وعلا يقبل التوبة وذلك الذي نميل إليه.
أما الخلود الوارد في الآية فأفضل التأويل فيه أن يطلق على غير التأييد وأن المقصود به طول المكث.
قوله :( ومن يقتل ) اسم الشرط وفعله. وجواب الشرط في الجملة الاسمية من قوله تعالى :( فجزاؤه جهنم ) والفاء مقترنة بجواب الشرط.
وخلاصة القول في صفة القتل العمد أنه ما استعملت فيه آلة وكان مثلها يقتل غالبا على أن يقترن ذلك بقصد القتل. يستوي في ذلك أن يكون القتل بالحديد كالسيف أو الخنجر أو الرمح أو السكّين مادام ذلك يقتل غالبا، أو أن يكون بالمثقل كالضرب بالحجر الكبير أو إخماد سقف ونحوه وهو من شانه أن يقتل، أو أن يكون القتل تحريقا بالنار أو تغريقا في الماء فذلك كله ضروب في القتل ؛ لأن من شأنه أن يقتل في الغالب. وهذا هو القتل العمد الذي يستوجب القود إلا أن يعفو ولي القتيل مطلقا أو يعفوا على الدية فقط.
أما إذا وقع القتل بآلة لا تقتل في الغالب كالقذف بحجر صغير أو الضرب بعصا خفية أو العضة أو اللطمة ونحو ذلك فإن القتل في مثل هذه الأحوال يسمّى شبه عمد. وهو أن تجتمع النية لدى القاتل على ضرب القتيل ولكن بآلة لا تقتل غالبا كالمعلم يضرب تلميذه بعصا خفيفة ليؤدّبه ثم يموت فما كان المعلم يقصد بذلك القتل، وإن قصد أن يضرب تلميذه بالذات. وهذا النوع من القتل يأتي وسطا بين العمد والخطأ فلا هو بالعمد الذي يقع بآلة تقتل في الغالب مقترنا بالنية في قتل الشخص نفسه. وعلى هذا فشبه العمد هو ما كان القصد بضرب الشخص نفسه حاصلا إلا أن الآلة التي حصل بها القتل ليس من شأنها أن تقتل غالبا.
وهذا الصنف من القتل ( شبه العمد ) ذهب إليه كثير من أهل العلم منهم الشعبي والنخعي وقتادة والثوري والحنفية والشافعية وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وقد أنكر ذلك جماعة آخرون منهم الإمام مالك والليث بن سعد. وقيل : إن ذلك قد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين وقد نقل عن الإمام مالك قوله : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ وأما شبه العمد فلا نعرفه. وذكر عن مالك والليث أن من قتل بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود ( القصاص ).
والراجح ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم وهو أن شبه العمد نوع من القتل متميز فلا هو بالعمد الذي يحققه قصد القتل أو النية المسبقة لذلك، مع الضرب الذي يقع على شخص معيّن مقصود بآلة تقتل غالبا. ولا هو بالخطأ الذي تحقق فيه النية في القتل بآلة تقتل غالبا لكن القتيل ما كان مقصودا للقاتل بل غيره هو الذي كان مقصودا. وحقيقة شبه العمد ليست على أحد من هذين النوعين من القتل فهو بذلك أخرى أن يأخذ من التسمية ما يجعله مستقلا وذلك من حيث الصورة التي يجيء عليها ومن حيث الحكم الذي يجعله له الشرع.
فقد أخرج أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ( ص ) قال : " ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها ".
وروى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله ( ص ) قال : " العمد قود اليد، والخطأ عقل لا قود فيه، ومن قتل في عمّية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلّظة في أسنان الإبل " والعمية بكسر العين وتشديد الميم المكسورة والياء المفتوحة. ومعناه أن يقع القتل في حال يعمى فيه أمر المقتول فلا يعرف قاتله ولا كيف قتل.
وروى الدارقطني أيضا بإسناده عن عمرو بن شعب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله ( ص ) : " عقل شبه العمد مغلّظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه ".
تلك نصوص تحوي الدليل على صحة ما قاله الجمهور وهو قتل شبه العمد، وهو قتل يشبه كلا من الخطأ والعمد بعض الشبه ولكنه لا يستوي مع احدهما تمام الاستواء من حيث الصورة والحكم.
أما الذي يتلزم بدفع دية شبه العمد فموضع خلاف. فقد قيل إن الذي يلتزم بذلك هو القائل نفسه فتجب الدية عليه في ماله، وهو رأي بعض أهل العلم منهم ابن شبرمة وقتادة وأبو ثور. وثمة قول ثان وهو الراجح وهو مذهب الجمهور منهم الشعبي والنخعي والشافعي والثوري وأحمد بن حنبل والحنفية كلهم. فقد ذهب هؤلاء وغيرهم إلى أن دية القتل شبه العمد تجب على عاقلة القاتل وهم أولياؤه الورثة.
وفي تعزيز هذا الرأي وترجيحه ما رواه أبو هريرة عن النبي ( ص ) أنه جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة. وذلك حديث المرأتين اللتين اقتتلتا فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها ومن في بطنها فقضي النبي فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة وبذلك فإن الدية في قتل الخطأ والديه المغلظة في شبه العمد إنما تجب كل واحدة منهما في مال العاقلة. وذلك على سبيل العون وبذلك المساعدة للقاتل ما دامت فعلته لم تقترن بسوء النية أو القصد المبيت. وعلى هذا فإن النية من حيث وجودها وعدمه لهي الأساس الركين الذي تقوم عليه الأحكام والمقاييس الشرعية، وهي كذلك الأصل الذي تفترق به القضايا والمسائل لتأخذ أحكاما متفاوتة شتى.
والنية شأنها عظيم فإن ما يتميز الحرام من الحلال أو الخبيث من الطيّب مثلما يتميز الطيبون في مقارفات تساورها البراءة من قصد الأذى والبائقة، من الأشرار الذين تختلط قلوبهم بالشر المبيّت قبل الفعل أو القول. وليس للطيب عندئذ إلا أن تتحقق له المعاذير لينجو من عقاب الآخرة الشديد، لكن الخبيث الشرير هو الذي يوجب الشرع أن يحيق به عقاب ملائم في الآخرة جزاء ما قارفت يداه عن سوء في النية والمقصود. وأعظم ما يجيء في هذا الصدد من شواهد السنة الطاهرة هو حديث النبي ( ص ) : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " ١.
قوله :( وإذا ضربتم في الأرض ) الضرب في الأرض معناه السير فيها طلبا للرزق١ وإطلاق الضرب مقيّد هنا بقوله :( في سبيل الله ) أي الجهاد.
وقوله :( فتبينوا ) أي تأملوا وتثبّتوا. والله جل وعلا يأمر عباده المجاهدين أن يتثبتوا حال مواجهتهم غيرهم ؛ كيلا يبادروهم في استعجال بالقتل أو التكذيب. وعلى المسلمين في مثل هذا الموقف أن يتبينوا حقيقة من يبدأهم بالسلام فيسألوه إن كان مسلما فإن أقرّ بأنه مسلم طلبوا منه أن يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فإن قالها فهي له عاصمة يصان بموجبها دمه وماله، وإن أبى ضربت عنقه إلا أن يكون من أهل الكتاب فتكون له حقوق الذميين. وليس للمسلمين أن يعجلوا فيقولوا لمن يواجههم من غير :( لست مؤمنا ) فإن في ذلك افتئاتا يجر عدوانا وظلما وإهراقا لدم بغير حق.
قوله :( تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ). ليس لكم أن تتعجلوا قتل من يظهر الإسلام متذرعين بأنه أسلم مصانعة وخوفا منكم، وذلك رغبة منكم في الاستيلاء على المال وهو عرض زائل. وهو كذلك عارض غير ثابت يملكه الإنسان حال عمره القصير حتى إذا قضى نحبه بات كأن لم يكن شيئا وكأن لم يملك من المال شيئا. وخير لهؤلاء المتعجلين الراغبين في هذا العرض الزائل أن تنسلخ نفوسهم من متاع الدنيا وحطامها حيث الخطيئة والمعصية وقتل الأبرياء من الناس ليرغبوا في مغانم الله الكثيرة الحلال. ومغانم الله في فضله الواسع العميم ورزقه الغامر الميسور.
قوله :( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم... ) كنتم في مكة قبل الهجرة تخفون إيمانكم في صدوركم وتكنّون عقيدتكم في أنفسكم خشية أن يميل عليكم أعداؤكم المشركون فينالوا منكم شرا. كان شأنكم في الخوف من المشركين وأنتم تتخافتون لئلا يطّلعوا على إسلامكم كشأن هذا الذي جاءكم يبادركم السلام والإسلام بعد أن ظن أنه نجا من سطوة الكفرة واطمأن فقتلتموه. هكذا كنتم من قبل حتى منّ الله عليكم بأن كتب لكم الغلبة والنصر فاطمأنتم. وفي هذا المعنى يقول سبحانه :( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ).
وفي الآية كذلك تأكيد مكرر على ضرورة التثبيت والتحقق ممن يأتي قادما ثم يبادر بكلمة الإسلام. والله جل وعلا يحذّر من مغبّة التعجل فيما يسوق إلى الخطيئة والتّجني على الأبرياء والطيبين وذلك في قوله عز وجل :( إن الله كان بما تعملون خبيرا ).
وأخرج البخاري عن ابن عباس في معنى الآية أنه لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون منها وأيا ما يكون السبب فإن المقصود واضح وجليّ وهو نفي المساواة فيما بين القاعدين الممسكين عن الجهاد إلا أن يكونوا ذوي أعذار قاهرة وهم أولو الضرر، والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. إن هذين الصنفين من الناس لا يستويان في المرتبة ولا في الأجر ولا في الاعتبار باستثناء فريق خاص من ذوي الزمانة كالعمى والمرض والعرج ونحو ذلك فإن هؤلاء معذورون. لكن غيرهم من الأصحّاء الأسوياء ليس لهم في ميزان الله اعتبار ومرتبة إلا بقدر ما قدّموا من طيبات. وفي ضوء ذلك لا يتفاوت الناس من حيث أقدراهم على نحو ما تبتدعه المجتمعات في أعرافها وموازينها الضالة وهي أعراف وموازين مشدودة نحو الأرض بحبل ثقيل صفيق من الهوى والشهوات. وذلك مبعثه فساد في العقيدة والتصور بما يميل بالإنسان عن كل قيم المروءة والخير والفضيلة لتتجه العزائم والهمم بعد ذلك وجهة تقوم على الهدى وإيثار الذات من أول يوم وحتى النهاية.
قوله :( غير أولي الضرر ) وهم العاجزون من ذوي المعاذير كالعمى وغيره بما لا يقوى معه المتضرر من الاضطلاع بعبء الجهاد حيث العناء والشدّة والهول، والرفع في ( غير ) على النعتية للقاعيدن. وسياق العبارة على هذا هو : لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر. وقرأها بعض أهل اللسان مجرورة باعتبارها نعتا للمؤمنين فيكون سياق العبارة هو : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر. وفي قراءة أخرى على النصب وذلك من باب الاستثناء من القاعدين أو المؤمنين. فتكون العبارة بهذا التقدير على النحو التالي : لا يستوي القاعدون من المؤمنين إلا أولي الضرر٢.
وفي الآية برهان على استنباط يثير الاهتمام والنظر وهو الاستواء في المرتبة والأجر بين من يمضي للغزو والمعركة مجاهدا بنفسه وماله وهو معافى من المرض ومن يتخلف عن شرف الجهاد لا عن تقاعس أو خذلان ولكن حبسه العذر القاهر الذي يبيت معه المرء عاجزا عن التماسك والاحتمال في مثل هذا الموقف الصعب الذي يستلزم القوة والمعافاة في البدن.
إن هذين الصنفين متساويان في الأجر والرتبة وتلك منّة وفضل من الله حقا واحتواء متّسع كريم لذوي المعاذير ممن خلصت فيهم النوايا فكانوا مع الله في شرعه ودينه طائعين مخلصين أبرارا.
وقد جاء في الخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد عن أنس : " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا : وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله ؟ قال : " نعم حبسهم العذر ".
هؤلاء الأقوام المتخلّفون عن ركب المجاهدين قد حبسهم عن واجب الجهاد حابس العذر، فهم أولو نيّة صادقة تحمل في ثناياها الإخلاص وتلين لله بالمحبة والخشوع، فاستأهلوا بذلك أحسن الجزاء وهو أن يتساووا مع المجاهدين الذين يضربون في الأرض إعلاء لكلمة الله وترعيبا للكفرة والمشركين. والأصل في ذلك كله النيّة، وهي مناط الرضى والقبول من الله جل وعلا. أو هي الأساس- كما بينا سابقا الذي تنبني عليه الأعمال والأقوال كافة لتكون إما نافعة متقبلة وإما مدفوعة باطلة لا تغني عن صاحبها شيئا.
ومن جليل ما يقال عن فضل الله المنّان وعن مكانة النيّة وخطورتها أن الله جل شأنه يثيب على الفعل، والأصل في ذلك أن الفعل يظل بغير قيمة ولا يحتسب له من الأجر شيء إذا لم يقترن بالنيّة المخلصة. لكن النيّة وحدها غير مقترنة بعمل نتيجة عجز غالب لهي قمين صاحبها أن يستحق مثوبة وأجرا وذلك لمجرد النيّة الصادقة المخلصة وحدها. وفي هذا يقول النبي ( ص ) : " نية المرء خير من عمله ".
قوله :( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) المفضّل هم المجاهدون لكن من المفضول ؟ ثمة قولان في ذلك : الأول : أنهم القاعدون غير أولي الضرر. والثاني : أنهم القاعدون بإطلاق ومن بينهم أولي الضرر. لكن الراجح القول الأول وهو أن المفضول في الآية هنا هم القاعدون باستثناء أولي الضرر وفي ذلك استقامة للمعنى وهو ما يفرضه السياق وهو كذلك أبعد عن التناقض الذي يؤول إليه الأخذ بالقول الثاني. ذلك أن مطلع الآية قد نفى الاستواء بين المجاهدين والقاعدين باستثناء أولي الضرر وفي ذلك إشارة واضحة- كما بينا سابقا- إلى أن أولي الضرر مستثنون وأنهم في الأجر مساوون للمجاهدين. فإن قيل بعد ذلك إن المفضول هم القاعدون ودون استثناء جاء القول متضمنا لما ينفي مفهوم الاستثناء الذي تقرر معه الاستواء بين المجاهدين وأولي الضرر القاعدين.
وعلى هذا فإن الصواب لمعنى هذه الآية هو أن الله جل وعلا قد فضّل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر، أو القاعدين تخاذلا وتثاقلا مع أنهم جميعا من المؤمنين مع فارق الدرجة والتفضيل. والقاعدة المشتركة بين الصنفين هي ركيزة الإيمان التي يلتقي على صعيدها المؤمنون جميعا مهما تفاوتت هممهم وعطاءاتهم أو تباينت درجات إيمانهم. وهكذا الناس لا يكونون على مستوى واحد من حرارة العقيدة والإيمان أو رهافة الحس والتقوى، أو يقظة الوازع والضمير، أو شدّة البأس والشكيمة والعزيمة، أو مبلغ التحصيل والعطاء، ولكنهم على الدوام متفاوتون وإن كانوا مسلمين وأن لهم الحسنى. ولهذا يقول سبحانه :( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ).
ثم يأتي التأكيد على أفضلية المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر فيقول عز من قائل :( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ).
٢ - البيان للأنباري ص : ٢٦٤..
وأخرج البخاري عن ابن عباس في معنى الآية أنه لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون منها وأيا ما يكون السبب فإن المقصود واضح وجليّ وهو نفي المساواة فيما بين القاعدين الممسكين عن الجهاد إلا أن يكونوا ذوي أعذار قاهرة وهم أولو الضرر، والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. إن هذين الصنفين من الناس لا يستويان في المرتبة ولا في الأجر ولا في الاعتبار باستثناء فريق خاص من ذوي الزمانة كالعمى والمرض والعرج ونحو ذلك فإن هؤلاء معذورون. لكن غيرهم من الأصحّاء الأسوياء ليس لهم في ميزان الله اعتبار ومرتبة إلا بقدر ما قدّموا من طيبات. وفي ضوء ذلك لا يتفاوت الناس من حيث أقدراهم على نحو ما تبتدعه المجتمعات في أعرافها وموازينها الضالة وهي أعراف وموازين مشدودة نحو الأرض بحبل ثقيل صفيق من الهوى والشهوات. وذلك مبعثه فساد في العقيدة والتصور بما يميل بالإنسان عن كل قيم المروءة والخير والفضيلة لتتجه العزائم والهمم بعد ذلك وجهة تقوم على الهدى وإيثار الذات من أول يوم وحتى النهاية.
قوله :( غير أولي الضرر ) وهم العاجزون من ذوي المعاذير كالعمى وغيره بما لا يقوى معه المتضرر من الاضطلاع بعبء الجهاد حيث العناء والشدّة والهول، والرفع في ( غير ) على النعتية للقاعيدن. وسياق العبارة على هذا هو : لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر. وقرأها بعض أهل اللسان مجرورة باعتبارها نعتا للمؤمنين فيكون سياق العبارة هو : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر. وفي قراءة أخرى على النصب وذلك من باب الاستثناء من القاعدين أو المؤمنين. فتكون العبارة بهذا التقدير على النحو التالي : لا يستوي القاعدون من المؤمنين إلا أولي الضرر٢.
وفي الآية برهان على استنباط يثير الاهتمام والنظر وهو الاستواء في المرتبة والأجر بين من يمضي للغزو والمعركة مجاهدا بنفسه وماله وهو معافى من المرض ومن يتخلف عن شرف الجهاد لا عن تقاعس أو خذلان ولكن حبسه العذر القاهر الذي يبيت معه المرء عاجزا عن التماسك والاحتمال في مثل هذا الموقف الصعب الذي يستلزم القوة والمعافاة في البدن.
إن هذين الصنفين متساويان في الأجر والرتبة وتلك منّة وفضل من الله حقا واحتواء متّسع كريم لذوي المعاذير ممن خلصت فيهم النوايا فكانوا مع الله في شرعه ودينه طائعين مخلصين أبرارا.
وقد جاء في الخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد عن أنس :" لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا : وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله ؟ قال :" نعم حبسهم العذر ".
هؤلاء الأقوام المتخلّفون عن ركب المجاهدين قد حبسهم عن واجب الجهاد حابس العذر، فهم أولو نيّة صادقة تحمل في ثناياها الإخلاص وتلين لله بالمحبة والخشوع، فاستأهلوا بذلك أحسن الجزاء وهو أن يتساووا مع المجاهدين الذين يضربون في الأرض إعلاء لكلمة الله وترعيبا للكفرة والمشركين. والأصل في ذلك كله النيّة، وهي مناط الرضى والقبول من الله جل وعلا. أو هي الأساس- كما بينا سابقا الذي تنبني عليه الأعمال والأقوال كافة لتكون إما نافعة متقبلة وإما مدفوعة باطلة لا تغني عن صاحبها شيئا.
ومن جليل ما يقال عن فضل الله المنّان وعن مكانة النيّة وخطورتها أن الله جل شأنه يثيب على الفعل، والأصل في ذلك أن الفعل يظل بغير قيمة ولا يحتسب له من الأجر شيء إذا لم يقترن بالنيّة المخلصة. لكن النيّة وحدها غير مقترنة بعمل نتيجة عجز غالب لهي قمين صاحبها أن يستحق مثوبة وأجرا وذلك لمجرد النيّة الصادقة المخلصة وحدها. وفي هذا يقول النبي ( ص ) :" نية المرء خير من عمله ".
قوله :( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) المفضّل هم المجاهدون لكن من المفضول ؟ ثمة قولان في ذلك : الأول : أنهم القاعدون غير أولي الضرر. والثاني : أنهم القاعدون بإطلاق ومن بينهم أولي الضرر. لكن الراجح القول الأول وهو أن المفضول في الآية هنا هم القاعدون باستثناء أولي الضرر وفي ذلك استقامة للمعنى وهو ما يفرضه السياق وهو كذلك أبعد عن التناقض الذي يؤول إليه الأخذ بالقول الثاني. ذلك أن مطلع الآية قد نفى الاستواء بين المجاهدين والقاعدين باستثناء أولي الضرر وفي ذلك إشارة واضحة- كما بينا سابقا- إلى أن أولي الضرر مستثنون وأنهم في الأجر مساوون للمجاهدين. فإن قيل بعد ذلك إن المفضول هم القاعدون ودون استثناء جاء القول متضمنا لما ينفي مفهوم الاستثناء الذي تقرر معه الاستواء بين المجاهدين وأولي الضرر القاعدين.
وعلى هذا فإن الصواب لمعنى هذه الآية هو أن الله جل وعلا قد فضّل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر، أو القاعدين تخاذلا وتثاقلا مع أنهم جميعا من المؤمنين مع فارق الدرجة والتفضيل. والقاعدة المشتركة بين الصنفين هي ركيزة الإيمان التي يلتقي على صعيدها المؤمنون جميعا مهما تفاوتت هممهم وعطاءاتهم أو تباينت درجات إيمانهم. وهكذا الناس لا يكونون على مستوى واحد من حرارة العقيدة والإيمان أو رهافة الحس والتقوى، أو يقظة الوازع والضمير، أو شدّة البأس والشكيمة والعزيمة، أو مبلغ التحصيل والعطاء، ولكنهم على الدوام متفاوتون وإن كانوا مسلمين وأن لهم الحسنى. ولهذا يقول سبحانه :( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ).
ثم يأتي التأكيد على أفضلية المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر فيقول عز من قائل :( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ).
٢ - البيان للأنباري ص : ٢٦٤..
سبب نزول هذه الآية أن جماعة من المسلمين في مكة تخلّفوا عن الهجرة مع من هاجر من المسلمين وفيهم النبي ( ص ) مع أنهم مكلفون بالهجرة للخروج من محيط الشرك في مكة وللخلاص عن الفتنة التي كان يتعرض لها كل مسلم عندما تمالأ المشركون على المسلمين فساموهم سوء الفتنة والعذاب١.
لقد بقيت هذه الجماعة من المسلمين المتخلفين عن الهجرة في مكة حيث الفتنة والبلاء الذي لا يطاق إلى أن فتن بعضهم وكان أن خرج بعض منهم كذلك في صف المشركين يوم بدر لقتال المسلمين. وفي هذه القصة ما يذكر المسلم بضرورة الالتفاف حول قيادته المؤمنة الصالحة وألا يتنكب عما ترسمه هذه القيادة من خطط وبرامج، فكيف بالقيادة إذا كان متمثلة في خير الخلق رسول الله ( ص ) !
إن هؤلاء الذين تثاقلوا إلى البقاء في أرض الشرك وتخلّفوا عن الهجرة مع ركب المسلمين قد ظلموا أنفسهم ؛ إذ أوردوها موارد الفتنة والضلال فافتتن بعضهم بارتداده عن دينه إلى الشرك، وافتتن آخرون بخروجهم مع المشركين يكثّرون سوادهم ويشدّون أزرهم فكان السهم يُرمى صوب المشركين فيصيب أحد الذين أسلموا فيموت وهو مفتون قد ظلم نفسه. وحينئذ تتوفاهم الملائكة وهم على هذه الحال من ظلمهم أنفسهم ثم تُسائلهم الملائكة في تقريع غليظ وتأنيب مشدّد :( قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) أي أن الملائكة تقبض أرواح هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم فآثروا البقاء على الخروج إلى حيث الشوكة والاستعلاء، إنها تقرّعهم في توبيخ مرير وهي تنتزع أرواحهم انتزاعا أليما عسيرا ثم تُسائلهم مُساءلة لا تقبل اعتذارا :( فيم كنتم ) فيرد المتخلّفون على ذلك ردا ينطوي على الإفلاس والاستخذاء بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض. واعتذار كهذا غير مقبول من وجه الشرع حيث التكليف حينذاك بالهجرة ما دام المسلم غير عاجز عن الهجرة وهو صحيح معافى. عندئذ تردّ عليهم الملائكة تعذير لتصمهم بالتقصير والإخلاد إلى التفريط والفتنة :( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) ذلك استفهام تستنكر فيه الملائكة تعذير أولئك المستضعفين المفتونين، فقد كان عليهم أن يفروا إلى الله في أرضه الممتدة المترامية حيث الانفلات من إسار الشر والفتنة، وحيث التمكن في حرية من عبادة الله وحده في أمن وطمأنينة. ويمكن الاستدلال من هذه الآية على وجوب الهجرة من الأرض التي توجد فيها الفتنة بكثافة حتى لتوشك أن تلفّ من كان فيها من أفراد مسلمين قلّة. وإذا كانت الحال على هذا النحو من احتمال الارتكاس في الفتنة أو السقوط في مهاوي الشرك والمعاصي باتت الهجرة مفروضة على المسلم ليخرج إلى حيث السلامة والحفاظ على الدين والعقيدة.
على أن مثل هذا المعنى يتصوّر عندما يكون المسلمون في أرض الشرك والفتنة أفرادا قلائل لا يطيقون الصبر على الأذى أو لا يقوون على التماسك أمام تيار الفتنة العاتية الجارفة. يكونون كذلك إذا كانوا قلة مستضعفين يوشك أن ينقلبوا متقهقرين نحو الفساد والمعصية أو أن يبوؤوا بالردة عن دينهم كله إلى ملل الطواغيت على اختلاف ضروبها وألوانها.
أما أن يكون المسلمون مجتمعين على صعيد واحد وهم كثيرون فما ينبغي لهم أن يبرحوا الأرض مهاجرين ولا أن ينزحوا عن ديارهم ليغمرها طغيان الكفر والمعصية من بعدهم. وبذلك فليس لهم أن ينزحوا ما دموا على حالهم من الكثرة والتجميع إلى الدرجة التي يملكون فيها أن يتآلفوا جميعا ليقفوا في وجه الباطل والفتنة صفا واحدا مهما تكن الظروف في قسوتها واشتدادها ومهما تتقاطر من حولهم الأرزاء والفتن إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
قوله :( فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) اسم الإشارة يعود على المستضعفين الذين تثاقلوا إلى المكث في بلد المشركين حيث الفتنة. وهؤلاء قد عصوا أمر نبيهم بالهجرة ولم ينصاعوا له بالطاعة في المنشط والمكره، فاستحقوا بذلك عذابا أليما يأوون إليه وهي جهنم ( وساءت مصيرا ) وذلكم هو أسوأ مصير وأتعس عاقبة تؤول إليهما حال هؤلاء الأشقياء التعساء. وقوله :( مصيرا ) منصوب على التمييز.
ذلك تحريض من الله على الهجرة والخروج من أرض الفتنة إلى حيث الأمن وسلامة الدين والنفس وحيث العبادة والتحدّث في أمر الإسلام لتثبيته ونشره في الآفاق. وفي التحريض وعد من الله سبحانه بأن من يهاجر سوف يجد في الأرض مراغما كبيرا. وجاء في معنى المراغم بأنها التحوّل من أرض إلى أرض أو المتزحزح عما يؤدي أو الذهاب في الأرض. وقيل المبتغى للعيش وفي قول آخر مستنبط من الكلمة اشتقاقا وهو أن المراغم من الإرغام في غلبة وقهر. وكأن المؤمن المهاجر قد غمس أنوف المشركين في الرغام ( التراب ) حينما وجد مندوحة عن موطن قهرهم لحصوله بالهجرة على المنعة والتحصين١.
قوله :( وسعة ) بمعنى الزرق والغنى بعد القلّة والضيق. وفي ذلك طمأنة للمؤمن الذي تحيط به الفتنة وسوء العذاب فيخرج مهاجرا في سبيل الله إلى حيث الأمن والسلامة. إنها طمأنة له كيلا يضطرب أو يتزعزع فيتثاقل إلى البقاء والاستدامة في أرض الضلال والإغواء خشية منه على الرزق أو هربا من عواقب الضيق والفاقة تحيق به إذا ما هاجر. فمن خلال هاتيك الظنون والهواجس التي قد تساور المسلم ينشر الله وعده بأن من يهاجر في سبيله سوف يجد في الأرض من الفضل والسعة ما يمكنه من العيش في هناءة وارتياح، وأنه لن يكون في عداد الهائمين المضيعين. فالله ضمين لعباده الأتقياء الصابرين أن يدرأ عنهم كل أشكال العوادي والبوائق.
قوله :( ومن يخرج من بيته مهاجرا... ) جاء في سبب نزولها جملة أقوال لعلّ أقواها ما ورد في ضمرة بن جندب فقد خرج من مكة مهاجرا إلى رسول الله ( ص ) فمات في الطريق قبل أن يصل. وقيل غير ذلك٢.
وتدل الآية على أن من يخرج من بيته مهاجرا في سبيل الله لا في سبيل مغنم أو دنيا، ثم مات في الطريق ( فقد وقع أجره على الله ) أي حصل له عند الله من الثواب ما يساوي ثواب من هاجر. والحساب في ذلك أصلا يدور مع النية وهي أساس القبول والرضوان من الله جل وعلا، وهي المثابة التي توزن في ضوئها أفعال العباد وأقوالهم فينالون أجورهم كاملة غير منقوصة. وثمة حديث عظيم نظل نعرض له باستمرار لأهميته وخطورته وهو ما ثبت في كتب الصحاح والمسانيد والسنن جميعا بإسناد عن عمر بن الخطاب عن النبي ( ص ) أنه قال : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
ولذلك فإن من يحمل بين جوانحه قصدا للخير أو نية في التصرف الصالح فإن أجره محسوب ولو لم يتمكن من تحقيق ذلك بالفعل. وقد أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه بإسناده عن عبد الله بن عتيك قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : " من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله، ثم قال : وأين المجاهدون في سبيل الله، فخرّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ".
وفي حديث آخر أخرجه الحافظ أبو يعلى بإسناده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاجّ إلى يوم القيامة، ومن خرج متعمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة " ٣.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١١٩..
٣ - تفسير الطبري جـ ٥ ص ١٤٧-١٥٤ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٥٤١- ٥٤٣..
أما حكم القصر فهو سنّة عند جمهور السلف والخلف من الفقهاء فيكون القصر على هذا الأساس مستحبا لا مفروضا. ونقل عن الإمام مالك بأنه فرض، وذهب عامة أصحابه إلى أن المفروض هو التخفيف، فالمسافر مخيّر بين الإتمام والقصر، وذلك ( التخيير ) هو المفروض وهو الراجح في المذاهب.
ولدى التحقيق في أقوال الأئمة وأهل العلم يتبين أن قصر الصلاة أمر مسنون وخلاف ذلك يعتبر مخالفة للسنة. وقد روي عن الشافعي قوله : من صلّى أربعا فلا شيء عليه ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة.
وسئل أحمد بن حنبل عن الرجل يصلّي في السّفر أربعا قال : لا، ما يعجبني، السنّة ركعتان. وسأل رجل عبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر. فقال عبد الله بن عمر : إن الله بعث إلينا محمدا ( ص ) ولا نعلم شيئا فإنا نفعل كما رأيناه يفعل.
أما حد المسافة التي يقطعها المسافر ليتسنى له القصور فذلك موضع خلاف العلماء. فقد ذكر أصحاب المذهب الظاهري إلى جواز القصر في كل سفر سواء كان طويلا أو قصيرا استنادا إلى ظاهر النص القرآني هنا. وذهب مالك والشافعي وأحمد وآخرون إلى تحديده، بيوم واحد وعوّلوا في ذلك على حصول المشقة غالبا وهي تحصل من السفر يوما تاما والاستناد في ذلك إلى الحديث : " لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها ".
وذهب أبو حنيفة إلى تحديده بثلاثة أيام ولياليها سيرا على الأقدام، وهو قول عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وحذيفة، واستدلوا في ذلك بما أخرجه البخاري عن ابن عمر أن النبي ( ص ) قال : " لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ".
وثمة قول آخر في تحديد السفر لإباحة القصر وهو يومان وهو قول الحسن البصري والزهري استدلالا بما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي ( ص ) أنه قال : " لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي محرم " ١.
أما صفة السفر الذي يجوز فيه قصر الصلاة فذلك موضع خلاف العلماء أيضا على أن الإجماع حاصل فيما يتعلق بالسفر الذي تتحصل به الفرائض أو الواجبات أو السنن وذلك كالحج والجهاد والعمرة وصلة الأرحام وغير ذلك من وجوه السفر المأمور به، فقصر الصلاة في ذلك جائز.
أما السفر الذي يتحصّل فيه المباح كالتجارة والنزهة والصيد والنكاح ونحو ذلك فقد ذهب جمهور العلماء إلى جواز قصر الصلاة فيه. ومرتبة القول بذلك هي دون الإجماع إذ هي قول الجمهور وقد روي عن عبد الله بن مسعود قوله بعدم قصر الصلاة إلا في سفر يتحقق به واجب كالحج أو الجهاد.
وإن كان السفر في معصية كالباغي وقاطع الطريق ونظارهما من المفسدين في الأرض، فقد ذهب الجمهور إلى عدم القصر في مثل ذلك ؛ لأنه سفر معصية.
وخالف أبو حنيفة في ذلك وهو أن القصر في جميع ضروب السفر جائز يستوي في ذلك أن يكون السفر في طاعة أو معصية استنادا إلى عموم الآية.
على أن الراجح هو قول الجمهور بجواز القصر في السفر المباح فضلا عن جوازه حين أداء الفريضة. ومناط ذلك أن المقصود بشرعية القصر هو التخفيف عن المسافر إذا حصل له مشقة، وهي حاصلة في غالب الأسفار. ومن المعلوم في الدين نفي العسر والحرج في عامة الأحوال لقوله تعالى :( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقوله :( وما جعل عليكم في الدين من حرج ).
أما السفر في المعصية فالراجح أنه لا قصر فيه ؛ لأن القول بالقصر طريق إلى المحظور وعون للمسافر العاصي على المعصية وهو سبحانه يقول :( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ٢.
أما زمن القصر للمسافر ففيه خلاف كذلك. فثمّة قول بأنه ليس له أن يقصر حتى يخرج من بيوت البلدة التي ينوي السفر منها. وذلك مذهب جمهور العلماء.
وفي قول آخر لفريق من الصحابة وعطاء بن أبي رباح وهو جواز البدء في القصر عند العزم على السفر فله بذلك أن يقصر وهو في بيته يزمع على السير. وهذا المعنى مأخوذ من تأويل آخر للآية :( وإذا ضربتم في الأرض ) أي المقصود هو فيما إذا عزمتم على الضرب في الأرض. وقيل غير ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
وتلك مسألة أخرى في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر بات مقيما وعليه الإتمام. وقد جاء فيها عدة أقوال :
أحدها : إذا نوى المسافر أن يقيم أربعة أيام فعليه الإتمام. وهو قول مالك والشافعي والليث وهو مروي عن سعيد بن المسيّب.
ثانيها : إذا نوى المسافر أن يقيم خمس عشرة ليلة فعليه الإتمام وإن نوى الإقامة أقل من ذلك سمح له أن يقصر. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقد روي هذا القول عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس.
ثالثها : أن يعزم المسافر على الإقامة مدة إحدى وعشرين صلاة مكتوبة، فإن كان كذلك جاز له القصر، وإن عزم على أن يقيم أكثر من هذه المدة وجب عليه أن يتم. وهو قول أحمد وداود الظاهري.
رابعها : جواز القصر أبدا ما دام المسافر بعيدا عن وطنه ولم ينو الإقامة فلو كان مسافرا وطال به حال السفر ولم ينو أن يقيم فهو معتبر مسافرا وله حق القصر حتى يعود إلى وطنه أو ينوي الإقامة بعيدا عن موطنه السابق. فقد روي عن أنس ( رضي الله عنه ) أنه كان قد أقام بنيسابور مدة سنتين وهو يقصر الصلاة من غير أن ينوي الإقامة ؛ إذ كان يؤخر من رجوعه من حين لآخر لما يعرض له من أسباب تعيق. وروي كذلك عن عبد الله بن عمر أنه أقام بأذربيجان مدة طويلة لم يستطع فيها الرجوع بسبب الثلوج المتراكمة وكان خلال هذه المدة يقصر صلاته من غير نية في الإقامة طيلة هذه المدة. لكنه كان مؤملا في الرجوع من وقت لآخر لولا أسباب تعرض له فتحول دون الإياب. فالمسافر والحالة هذه لا يعتبر مقيما ؛ لأنه لم يقصد الإقامة فجاز له القصر وذلك عندي هو الراجح المختار٣.
قوله :( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) الفتنة هي الشرك، أو العذاب يحيق بالمؤمن فيردّه عن دينه إلى ملّة الكافرين.
يتبين من ظاهر هذه الآية أن قصر الصلاة حين الضرب في الأرض جائز بشرطين اثنين وهما : الضرب في الأرض والخوف معا. ذلك في الكتاب الكريم، لكن السنّة قد ورد فيها جوز القصر لحصول السفر وحده من غير إشراك للخوف. وقد سأل ابن عمر النبي ( ص ) عن ذلك فقال : " تلك صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ".
وثبت عنه ( ص ) أنه قصر الصلاة من أربع ركعات إلى اثنتين في أسفاره جميعها حالة كونه آمنا وليس من خوف. وذلك معتبر سنّة من سننه ( ص ) مما ليس في القرآن له بيان. وهو عليه الصلاة والسلام مخوّل من ربه ليضطلع بوجيبة التشريع فيما يكون بيانا أو توضيحا للكتاب الحكيم لقوله سبحانه :( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ).
ويقول عليه الصلاة والسلام في هذا الصدد عن مهمته في الإتيان بما ليس في الكتاب : " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " وهو يقصد بذلك السنة لما تنطوي عليه من معان وأحكام لا وجود لها في الكتاب.
والظاهر من قوله :( إن خفتم أن يفتنكم ) أن ذلك قد خرج مخرج الغالب فقد كان المسلمون في غالب أسفارهم تحيق بهم أسباب الخوف فلا يشترط أن يقترن الخوف بالسفر لجواز القصر بل إن مجرّد السفر وحده يكفي.
ومن جهة أخرى فلو حصل الخوف وحده من غير سفر جاز القصر وتلك صلاة الخوف وهي لا لزوم لوجود الشرطين معا من أجل جوازها، وذلك كما لو داهم العدوّ المسلمين في دارهم فيجوز القصر حينئذ من غير اشتراط لحصول السفر.
قوله :( إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) ذلك بتوجيه للمسلمين كي يحاذروا ويأخذوا بأسباب اليقظة والحيطة فإن الكافرين لهم بالمرصاد يودّون أن يميلوا عليهم فيجتثوا شأفتهم. وقد يغتنمون فرصة انشغال المسلمين بالصلاة إذا كانت فترتها الزمنية طويلة نسبيا مثل الصلاة الرباعية. وبذلك فقد شرع الله للمسلمين أن يقصروا الصلاة تخفيفا لهما وإعجالا لكي يبادروا العدو بدوام الترقب والذر فلا يأخذهم على غرّة أو يجتاحهم في فترة يذهلون خلالها من أسلحتهم وأنفسهم وهم يصطفّون للصلاة خشّعاً آمنين متفرغين٤.
٢ - الهداية جـ ١ ص ٨٢ والمحلى جـ ٤ ص ٢٦٤..
٣ - الأم جـ ١ ص ١٨٦ وبلغة السلك على حاشية الدردير جـ ١ ص ١٧٢ وتحفة الفقهاء جـ ١ ص ٢٥٨..
٤ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٣٦٠-٣٦٣..
وقد ورد في صلاة الخوف من حيث كيفيتها وصفتها روايات كثيرة نقتصر منها على ثلاث لتتضح من خلالها صورة وافية مستبينة عن هذه الصلاة.
الرواية الأولى : وهي عن الإمام أحمد فقد أخرج بإسناده، عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله ( ص ) بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد بيننا وبين القبلة فصلّى بنا رسول الله ( ص ) الظهر فقالوا : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم. ثم قالوا : يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم. فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) قال : فحضرت- يعني الصلاة- فأمرهم رسول الله ( ص ) فأخذوا السلاح قال : فصففنا خلفه صفين قال : ثم ركع فركعنا جميعا، ثم سجد النبي ( ص ) بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلمّا سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدّم هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، ثم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا ثم سجد النبي ( ص ) والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلس الآخرون فسجدوا ثم سلّم عليهم ثم انصرف ".
الرواية الثانية : وهي عن الإمام أحمد أيضا بإسناده عن جابر بن عبد الله قال : قاتل رسول الله ( ص ) محارب حفصة رجل منهم يقال غرس بن الحرث حتى قام على رسول الله ( ص ) بالسيف فقال : من يمنعك مني ؟ ! " قال : الله فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله ( ص ) فقال : من منعك مني ؟ قال : كن خير آخذ. قال " أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " قال : لا ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلّى سبيله، فقال : جئتكم من عند خير الناس. فلما حضرت الصلاة صلّى رسول الله ( ص ) صلاة الخوف فكان الناس طائفتين، طائفة بإزاء العدوّ وطائفة صلّوا مع رسول الله ( ص ) فصلّى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا، فكانوا مكان الطائفة الذين بإزاء العدو، ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو مع رسول الله ( ص ) ركعتين فكان لرسول الله ( ص ) أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين ".
الرواية الثالثة : وهي عن البخاري بإسناده عن عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : قام النبي ( ص ) وقام الناس معه فكبّروا وكبّروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في الصلاة ولكن يحرس بعضهم بعضا.
هذه روايات ثلاث من أخرى كثيرة تتعلق كلها بصلاة الخوف وهي بأسانيد صحيحة وقوية. وما يبدو من اختلاف أو تعارض بين تلك الروايات لا يقلل من أهميتها أو اعتماد واحدة منها. والاختلاف أو التعارض- كما يبدو- قد جاء تبعا لاختلاف الظروف والمناسبات العسكرية التي كانت تمر بالمسلمين والنبي وهم في ساحة المعركة يواجهون العدو. وذلك كان يجعل النبي ( ص ) يصلّي بالمسلمين في الحرب على أكثر من هيئة، فتارة صلّى بهم مجتمعين، وصلّى بهم متفرقين تارة أخرى، فضلا عن اختلاف الهيئة للصلاة نفسها حين الاجتماع أو حين التفريق. والمعلوم في ذلك أن النبي ( ص ) صلى بالمسلمين صلاة الخوف مرات عديدة تبعا لطبيعة المعركة ووجهة العدو. وبذلك فإن الاستناد إلى آية رواية لاعتمادها والركون إليها يعتبر صحيحا لما يعززها من دليل صحيح.
أما صلاة المغرب من حيث هيئتها وكيفيتها فإن الذي عليه الجمهور وهو أن يصلي الإمام بالفرقة الأولى من المسلمين ركعتين وبالثانية ركعة واحدة. وقيل غير ذلك.
وثمة مسألة تتعلق بصلاة الخوف حال الالتحام مع العدو في حرب طاحنة ضروس يصعب معها على المسلمين أن ينتظموا جميعا في صف واحد أو صفين. وفي هذه خلاف، فقد ذهب مالك والشافعي وعامة أهل العلم إلى أن لكل مسلم- والحالة هذه- أن يصلي مثلما يستطيع، سواء كان راكبا أو قائما أو قاعدا، وهيئته في ذلك أن يوميء إيماء، وسواء عليه كذلك أن يصلي مستقبل القبلة أو مستدبرها أو غير ذلك.
وإذا كان الخوف أشد من ذلك والمسلمون في ضراب شديد متلاحم لا مجال عنده للانثناء عن القتال ولو فترة تقام فيها الصلاة حتى ولا الإيماء إيماء، إذا كان الخوف كذلك جاز للمسلمين أن يؤخروا الصلاة ريثما تهدأ المعركة وينطفي لهيبها ثم تؤدى الصلاة في أمن وطمأنينة١.
ومن أعظم ما نقف عليه هنا ونحن نتلو هذه الآية، هذا الاعتبار العظيم للصلاة الذي لا يداننيه اعتبار وهذا التشديد البالغ على الالتزام بفريضة الصلاة لكي تؤدى في وقتها مهما تكن الظروف إلا أن يشتد التلاحم اشتدادا يستحيل معه الاصطياف للصلاة في جماعة أو حتى مجرد الصلاة انفرادا. وذلك تأكيد عظيم على أهمية الصلاة وخطورتها باعتبارها العماد الأساسي الذي ينبني عليه الدين كله.
ونقف كذلك على حقيقة أخرى تكشف عن طبيعة اليسر في هذا الدين. وهو دين يلائم الفطرة الإنسانية، أفضل وأمثل ما تكون عليه الملاءمة من هوادة ومراعاة. وفي هذا من التيسير ودفع الحرج ما يكتب للإسلام دوام الصلوح والبقاء وما يجعله مناسبا لحياة الإنسان في مختلف جوانبه ومركّباته البدنية والنفسية والروحية.
على أن المخاطب في الآية هو النبي ( ص ) أولا، ثم الولاة والأمراء من بعده إلى يوم القيامة وذلك الذي ذهب إليه أهل العلم جميعا إلا ما كان من شذوذ لا يعوّل عليه.
وقوله :( وليأخذوا أسلحتهم ) المقصود بواو الجماعة موضع خلاف على ثلاثة أقوال :
الأول : هي الطائفة التي تواجه العدوّ وتحرس المسلمين.
الثاني : هي الطائفة نفسها التي تصلي مع الإمام، فهي المطالبة بأخذ السلاح حال الصلاة وفي ذلك ترعيب للأعداء وتخويف.
الثالث : أن المقصود هم المحاربون جميعا سواء منهم المصلي أو القائم. فهم مقصودون بهذا النداء الرباني لكي يحملوا أسلحتهم وذلك أشد ترعيبا للعدو وتخويفا.
ذلك ما قيل عن المقصود بالواو في قوله :( وليأخذوا ) لكن الذي يترجّح لديّ هو القول الأول استنادا إلى أن حمل المصلّي للسلاح لا ينطوي على كبيرة فائدة مادام ساكنا خاشعا لا يحارب. فإنه ليس من شأن المصلي غير التفرغ الكامل لأعمال الصلاة وأدائها في وعي وطمأنينة. وأي انفتال عنها يبطلها. وكذلك فإن سياق الكلام الذي يعرض لهذه المسألة يعزّز أن يكون القول الأول هو الصحيح. يتبين ذلك في جلاء من قوله تعالى :( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ). ثم يأتي التأكيد لهذا المقصود في قوله تعالى :( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ).
قوله :( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) يتمنى الأعداء غفلة المؤمنين عن أسلحتهم وأمتعتهم التي يقوون بها على المرابطة والجلاد لينقضّوا عليهم في هجمة حاسمة قاصمة، تتبدد فيها شوكتهم وتذهب معها ريحهم. وذلك شأن المشركين الذين يشاقّون الله ورسوله ويودّون أن تحيق الهزيمة القاضية بالإسلام وأهله وأن يروا الدين وقد تحول إلى أثر بعد عين أو أنه استحال إلى ذكريات وخواطر تتضمنها الكتب والقراطيس. ولا جرم أن تذكرنا هذه الآية بما حل بالمسلمين من هزائم ونكسات ذاقوا بعدها البلاء والشدّة نتيجة للثقة الزائفة بقدرتهم الموهومة أو بقياداتهم الكاذبة المخادعة، وكذلك نتيجة لركونهم للإهمال واللامبالاة حتى إذا كانوا في غمرة عارمة من اللهو والغفلة مال عليهم العدو ميلة واحدة فأنزل فيهم ضربة باترة موجعة تدمّر عليهم قواهم ومنجزاتهم ثم تجتاحهم اجتياحا لتغزوهم في عقر ديارهم وهم داخرون مقهورون.
قوله :( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ).
أكثر أهل العلم على أن حمل المصلّي للسلاح في ساحة الجهاد مندوب. فإذا قام المؤمن للصلاة أخذ سلاحه وذلك أفضل من الوجهة الدينية وقد حمل العلماء قوله تعالى :( وليأخذوا أسلحتهم ) على الندب والاستحباب. وذهب أهل الظاهر والشافعي وغيرهم إلى وجوب حمل السلاح للمسلم حال الصلاة وذلك لظاهر الأمر في قوله تعالى :( وليأخذوا ) على أن يكون ذلك حين الخوف فإن وجوب أخذ السلاح في ظاهر الآية مشروط بحصول الخوف من العدوّ فعلا. والراجح ما قاله أكثر أهل العلم وفيهم أبو حنيفة وهو أن أخذ السلاح للمصلي مندوب لحمل الأمر في الآية على الندب ؛ ولأن في دوام الحمل مشقة كبيرة وتعريضا للسلاح للتلف.
وفي قوله سبحانه :( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر... ) نفي للبأس أو الحرج فيما وضعوا السلاح خشية التأذي من المطر أو كانوا مرضى فيشق عليهم حمله حين الصلاة على أن يكونوا على حذر دائم لا ينقطع ؛ كيلا يفجأهم العدو على غرّة. والآية تعاود التأكيد في تحضيض بالغ لكي يحذر المسلمون عدّوهم حذرا يمكنهم من دوام الحيطة والمراقبة وذلك في قوله تعالى :( وخذوا حذركم ).
ويأتي اختتام الآية في وعيد من الله لهؤلاء الخصوم الكفرة الذين قد أعد الله لهم سوء العذاب تكوى به جسومهم وهم يصارعون المرارة والهوان، بعد أن يذيقهم بأس التقهقر وذلك الهزيمة في هذه الدنيا على أيدي المسلمين الصادقين المخلصين٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٣٧٠-٣٧٣- وتفسير الطبري جـ ٥ ص ١٦٠-١٦٦..
قضاء الصلاة معناه إتمامها والفراغ منها كقوله :( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ). والمؤمنون مطالبون عقيب صلاة الخوف أن يذكروا الله في قلوبهم وعلى ألسنتهم وذلك حال كونهم قائمين أو قاعدين أو مضطجعين على الجنوب. تلك حالات تكون عليها هيئة الإنسان وهو مدعوّ من ربه لكي يديم ذكره والدعاء إليه في توسّل خاشع وضراعة تامّة. ولا يقتصر الذكر أو الدعاء على الفراغ من الصلاة حين الخوف من العدوّ، ولكن ذلك هنا آكد وأشد تنبيها مما لو كان المسلم في ظروف معتادة لا رهبة فيها ولا وجل. والأصل في ذلك كله أن المسلم لا مندوحة له عن الاعتصام والتشبث بحبل الله المتين أو عن المداومة في دأب لا ينقطع عن ذكر الله والدعاء إليه بالرحمة والإحسان والغفران، وكذلك بالسلامة والنجاة يكتبها للمرء في هذه العاجلة ويوم التناد. لكن المرء إذ تحيق به النوائب والمخاطر فإنه تزداد لديه أسباب الثواء إلى الله والاستعانة به في دعاء متذلّل لحّاح ليكتب له حسن الجزاء وليؤيده بالثبات والعزيمة والاصطبار.
قوله :( فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) الطمأنينة معناها الأمن وسكون النفس بعد ذهاب الخوف. فإذا اطمأنت النفوس المؤمنة وغمرتها السكينة بعد أن أراحها الله من الخوف وجب أن تقام الصلاة على أكمل هيئة وعلى أتم صفة وأداء من حيث الأركان والصفة والخشوع.
قوله :( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) الكتاب الموقوت أي الفرض المؤقت في حينه المتعيّن. وقد قال عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) في تفسيرها : إن للصلاة وقتا كوقت الحج، وذلك تبيين للمقصود على التمام، فالصلاة قد كتبها الله على المسلمين وجعلها فريضة يمارسونها في أوقاتها المعيّنة المحدودة فكلما مضى وقت فيه فريضة الصلاة جاء وقت آخر فيه فريضة أخرى.
وفي الآية مواساة للمسلمين وتثبيت لعزائمهم وقلوبهم من أجل أن يمضوا في طلب القوم المشركين والقعود لهم كل مرصد. إن ذلك مواساة لهم وتثبيت لئلا يقهرهم الألم مما لحق بهم من أذى فإن كانوا يألمون فإن أعداءهم المشركين يألمون ويعانون مما أصابهم من قتل وجراح. قوله :( وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ) لقد كان المسلمون والمشركون يألمون مما أصابهم من قتل وجراح إلا أن المسلمين قد امتازوا بصلتهم الوثقى بالله ليدعوه ويرتجوه يجأروا إليه بالطلب مستعينين به مستنصرين. وأصل ذلك الإيمان بالله سبحانه وهو ( الإيمان ) يسكب في النفس الأمن والسكينة ويثلج الصدر باليقين والطمأنينة ليظل العبد موصولا قلبه بالله فيعتمد عليه وحده من غير شريك. وايم الحق إن هذه المزية عظيمة فريدة قد امتاز بها المسلمون ؛ إذ أوتوها وغابت عن المشركين فلم تتيسر لهم لافتقادهم الأصل الذي تنبثق عنه هذه المسألة وهو الإيمان الصحيح بالله. والإيمان الذي لا يعتريه شيء من زيف أو خلل أو انحراف. والمشركون وهم يتيهون في الأرض متلجلجين بغير إيمان صحيح يهديهم فإنهم لا يرجون من الله مثلما يرجو المسلمون، وذلك فارق فاصل أكبر بين هذين الصنفين من البشر. ( وكان الله عليما حكيما ) قد كان الله وما زال يحيط علمه بكل مستور مثلما يعلم الظاهر المعلن فإن ذلك عنده سواء. والله سبحانه عليم حيث يوجب لعباده من الفرائض والأمور الشرعية ما يصلح عليه حالهم في الدين والدنيا، وحيث يقدّر لهم من ضروب المشقة المحتملة في الجهاد وغيرها ما يؤول بهم إلى اكتمال المصلحة أو دفع الشر والمفسدة وهو سبحانه له في ذلك كله الحكمة البالغة التي لا يجليها على حقيقتها إلا هو.
يخاطب الله نبيه محمدا ( ص ) في هذه الآيات بما تتضمن من تقويم وتأنيب وتحذير، وهي معان يتدفق من مجموعها الإعجاز لهذا الكتاب الحكيم الذي ما يكون له أن يصدر عن بشر بهذا الأسلوب في الخطاب.
وقد أنزل الله الكتاب على النبي بالحق. ويعني ذلك أنه هو نفسه الحق المبين الذي لا يعتريه باطل على الدوام ولا يأتيه كذلك باطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ لأنه حق بإطلاق. وهو كذلك قد جاء من طريق حق لا زيف فيه ولا تخويف، وهو طريق الوحي الذي يتنزّل على النبيّين والمرسلين ليبلغهم أمانة السماء للبشر. وهي أمانة كلها حق وتتناول في مضمونها ودخائلها صورة وافية شاملة للحق في أصالتها ومعناه وفي جوهره ومبناه. وأخيرا قد تنزل هذا الكتاب الكريم من أجل الحق كيما يتجلّى ويظهر ومن أجل أن يستقيم الناس في عامة أمورهم وأحوالهم ومعايشهم فتكون على الحق ومن أجل أن يتبدد الباطل فتغيب عن وجه الأرض سحائبه القاتمة العبوس ويستقر مكانه الحق على تعدد ضروبه من تشريع وقوّة وخلق ومودة وتعاون.
والسبب في نزول هذه الآيات كان غاية في الروعة التي يحققها الإسلام بعقيدته وتشريعه الذي يوجب العدل مهما تكن الظروف في غير ما ميل، ولو كان صاحب الحق صعلوكا أو عبدا أو يهوديا أو نصرانيا وكان الخصم عظيما أو حاكما أو ذا فضل أو قرابة.
وسبب النزول تحكيه لنا كتب السنة لنعلم أي قمة في العدل والاستقامة تبلغها كلمة الإسلام عندما يتحقق في الأرض تنفيذا وتطبيقا. وخلاصة ما رواه الترمذي في صحيحه وابن جرير الطبري في تفسيره بإسناد عن محمد بن مسلمة الحرّاني أنه قد رفع إلى النبي ( ص ) أمر بني أبيرق وكانوا ثلاثة أخوة : بشر وبشير ومبشّر، ومعهم أسير بن عروة وهو ابن عم لهم نقبوا مشربة ( غرفة ) لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما فعثر على ذلك. وقيل : السارق بشير وحده اخذ درعا قيل إنه كان في جراب فيه دقيق فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره فجاء ابن أبي رفاعة واسمه قتادة يشكوه إلى النبي ( ص ) فجاء أسير بن عروة إلى النبي ( ص ) فقال : يا رسول الله إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بيّنة وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله ( ص ) على قتادة ورفاعة فأنزل الله تعالى :( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ) وأنزل الله تعالى :( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا ) وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل وهو يهودي. وقيل عن بشير أنه كان رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي ( ص ) ويقول فيهم الشعر ثم ينحله لبعض العرب ثم يقول : قال فلان كذا وكذا. فإذا سمع أصحاب النبي ( ص ) ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث، وهم يعنون بذلك بشيرا. وفي رواية أخرى لابن عباس أن سارق الدرع هو طعمة بن أبيرق وأنه هو الذي ألقاها في بيت رجل بريء.
وهذه القصة تدل على رائعة من روائع الإسلام. وهي رائعة العدل المطلق في سائر الأحوال والمقتضيات ومهما تكن الظروف. وهو عدل حقيقي مطلق قد مارسه المسلمون إباّن سلطانهم الغابر وهم يحكمون البشرية بما أنزل الله. أو وهم يسوسون الناس بكلمة الله التي لا تعرف الميل أو المحاباة أو الحيف والجنوح.
إن العدل الذي يفرضه الإسلام ويوجب تحقيق في الأرض لهو القمّة في الاستقامة والنصفة بما لا قبل للبشرية والأجيال به ! ذلك أن العدل الذي ينبثق عن الإسلام إنما ينبثق عن العقدية الراسخة الضاربة في أغوار النفس من الإنسان، وهي عقيدة تقوم على الحق والعدل بإطلاق لا يعرف القيود فلا غرو بعد ذلك أن تبلغ العقيدة بالإنسان صورة سامقة فذة لا تعرف الحدود١.
وهذه آيات تسع قد قررت إرادة الله القدير تنزيلها تبرئة لإنسان متهم بعد أن حاق به ظلم افتراه منافق. وفوق ذلك قد ليم النبي الكريم ( ص ) على نحو من التأنيب الشديد. وتلك غاية في كمال العدول وروعة العقيدة والخلق نتخيلهما ونحن نتلو ذلك التأنيب الرباني المخوف يتنزل على قلب النبي الكريم وشخصه إنقاذا ليهودي مظلوم. بعدله وفضله ؛ إذ يفرض العدل والحق في واقع البشر، في كل الأحوال ومهما تكن الظروف. ويستوي أمام عدل الإسلام الناس كافة سواء كانوا مسلمين أو يهوديا أو نصارى لا جرم أن يكون في مثل هذا النموذج المذهل ما يزجي بقاطع من البرهان على أن هذا الكتاب منزل من عند الله سبحانه وإنه لمن العبث واللغط في هذيان أن يفتري على هذا الكتاب بأنه من وضع بشر.
آيات تسع نقرأها كلما مررنا بسورة النساء وكلما أردنا التلاوة في شوق وتحنّث لندرك روعة الإسلام وهو يزن الأمور بقسطاس العدل في غاية الموضوعية البحتة التي لا تميل مع الهوى ولا تجنح – تحت ضاغط العاطفة- لأي من اعتبارات القرابة أو الصحبة أو الصهرية ولا تخضع لأي لون من ألوان التعصب للوطن أو القومية أو الدين وقاعدة الإسلام في ذلك أن الحق أحق أن يُتّبع.
قوله :( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) قد خوطب النبي في تكليف من ربه أن يحكم بين الناس على نحو ما أراه الله، وذلك يحتمل أحد المعنيين التاليين أو كليهما معا. وهما النص المنزل الذي يقوم على الوحي، أو النظر المشدود للنص، فهو بذلك أساسه الوحي الذي لا يخطئ ولا يزل. وما يراه النبي عليه السلام في المعنيين يعتبر صحيحا يجب الأخذ به، والأصل في ذلك العصمة المقدورة للنبيين وهي تخويل لهم من الله أن يحكموا بين العباد بموجبها ليأتي حكمهم صائبا على الدوام تمشيا مع قوله تعالى :( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ).
قوله :( ولا تكن للخائنين خصيما ) ينهى الله نبيه محمدا ( ص ) أن يخاصم عن الخائنين وهم بنو أبيرق الذين قارفوا السرقة ثم افتروا على اليهودي ظلما وعدوانا. والخصام معناه الجدال. فالخصيم عن الخائنين هو الذي يجادل عنهم مدافعا وذلك ما ورد فيه النهي ؛ لأنه ظلم لا يرضى عنه الإسلام ولا يقرّه بأية حال لما فيه من ميل عن الحق والعدل وجنوح للهوى والخطأ.
وفي ذلك تذكير لنا بعدم الدفاع عن أهل الباطل أو النفاق فلا تأخذنا في ذلك لومة لائم وذلك ما يفرضه الإسلام وهو ألصق بالصواب والحق وأبعد عن الظلم والمحاباة والباطل.
وثمة إدراك جيّد للعلماء في حقيقة توجيه الخطاب للنبي ( ص )، فقد قيل : إن المراد من ذلك ليس النبي بالذات، ولكن المراد هم ضعاف الإيمان من المسلمين الذين انطلقوا يدافعون عن هؤلاء الخونة الذين خانوا الله ورسوله ؛ إذ اجترحوا السرقة ثم رموا بها اليهودي البريء. ويعزّز هذا الفهم قوله تعالى :( ها آنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ) ٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٣٧٦ والكشاف جـ ١ ص ٥٦١ والنسفي جـ ١ ص ٢٤٩ والرازي جـ ١١ ص ٣٤..
جاء في سبب الاستغفار جملة أقوال :
الأول : أن ذلك سبب الذنب في المجادلة والدفاع عن الخائنين. حتى أن النبي أوشك أن يقطع يد اليهودي بعد أن تحقق من إدانته بناء على توثّقه من دعوى بني أبيرق.
الثاني : لا يدل الاستغفار هنا على ذنب اقترفه النبي. ولكن المقصود هو دعاء النبي واستغفاره للمذنبين من أمته الذين يتخاصمون بالباطل.
الثالث : المقصود بالاستغفار هو ما كان على طريق التسبيح. والمسلم شأنه دائما أن يستغفر الله وذلك من قبيل التسبيح حتى لو لم يكن قد قارف ذنبا. ومن باب الخضوع والإقرار لله بالعبودية والامتثال يظل المسلم في تسبيح دائم لا ينقطع. وقيل غير ذلك.
إن الأصل الذي ينبغي أن يكون، هو أن يبادر هؤلاء في الكشف عن الحقيقة من غير مواربة وافتراء ومن غير كذل وتحيل وليكن بعدها ما يكون مادام التوجه في القلب والوجدان والمشاعر إلى الله وما دامت السميرة تمضي في خط الله وفي ظله. أما أن يستخفي هؤلاء من الناس استحياء منهم من غير أن يخشوا ربهم ويستحيون منه فذلك هو الضعف الغامر الذي يؤول في الغالب إلى شر مفسدة وهو النفاق.
وعلى المرء أن يعلم في كل آن أن الله معه يسمع ويرى ويعلم كل ما يصدر عنه من حركة أو سكنة ليشمل ذلك كل همسة أو نبسة وكل خلجة أو خفقة، كل ذلك يعلمه الله سبحانه وهو المطلع على الخفايا وما تكنه النوايا والقصود. إن الله مطلع على هؤلاء الذين لا يخجلون منه ويخجلون من عباده، وهو كذلك رقيب عليهم من حيث أعمالهم وأقوالهم جميعا وهو سبحانه شاهد عليهم حيثما كانوا أو وهم ( يبيتون ما لا يرضى من القول ) أي يقولون ويأتمرون فيما بينهم بياتا والناس تغطيهم هجعة الليل الساكن، فهم يأتمرون بالإسلام وأهله لينالوا منهم شرا.
هؤلاء المتأرجحون الذين اختانوا أنفسهم يتهددهم الله في وعيد مكشوف بقوله :( وكان الله بما يعملون محيطا ) فالله عز وجل محيط عمله وهيمنته وجبروته بهذا الصنف من البشر حتى لا تخفى منهم عليه خافية.
إن كان هؤلاء المختانون لأنفسهم قد خاصموا دفاعا عن السارق أمام النبي بالباطل وهم يعلمون أنهم مفترون مبطلون، إن كان خصامهم في هذه الدنيا يمر فأنى له أن يمر يوم القيامة ؟ ! بل ليس لهم أن يملكوا أية مخاصمة أو مجادلة عن السارق في ذلك اليوم الرعيب الحافل المشهود ليس لهم أن ينسبوا بشيء أمام جبروت الله إذ هم ناكسوا رؤوسهم، وأبصارهم شاخصة وأفئدتهم هواء وقد أحاطت بهم أسباب الخوف المزلزل. وفي تلك الحالة لا يقوون على الدفاع أو الخصام عن الخوّان ولا يقوون كذلك أن يقفوا وكلاء عنه. والوكيل هو الذي تناط به مهمة التصرف والتدبير في شأن من الشؤون أو في مجموعة الشؤون كلها. وقد سيق أمر الوكيل ليتبين للمخاصمين الذين ينافحون عن الخائنين أنهم إذ أمكنهم ذلك في هذه الدنيا فهم أعجز عن المنافحة والتوكيل في الآخرة.
في قوله :( ومن يعمل سوءا.. ) ما يتضمن التوبة لبني أبيرق هؤلاء الذين نافقوا وافتروا. فإذا ما تابوا إلى ربهم واستغفروه فإنه متجاوز لهم عمّا ارتكبوه من سيئة السرقة والافتراء، وكذلك عن تلطخهم بالشرك الذي ظلموا به أنفسهم. ومعلوم أن النفاق قرين الشرك، وكلاهما مما تنفتل به القلوب عن الله إلى ما سواه من غايات ومقاصد.
وقيل إنها نزلت في وحشي " قاتل حمزة لتتقرر توبة الله عليه إن هو آمن وأناب والصواب الذي يترجّح أن هذه الآية تفيد العموم لتزجي بحقيقة أساسية كبرى وهي أن من تاب فقد تاب الله عليه مهما اقترف من الخطايا والذنوب. والله تباركت أسماؤه وهو الغفّار المتفضّل المنّان يقبل التوبة عن عباده ويأتي على الذنوب ليمحوها جميعا بعد أن يؤوب العبد إلى ربه مستغفرا نادما.
وقد أخرج الإمام أحمد بإسناده عن علي ( رضي الله عنه ) قال : حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال : قال رسول الله ( ص ) : " ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له ".
وجملة القول في ذلك أن من يقترف الخطيئة أو يظلم نفسه بإيقاعها في المعاصي والذنوب ثم يطلب من الله المغفرة بعد ذلك لسوف يجد أن الله غفور لذنبه، رحيم به. وذلك هو شأن الله جلت قدرته في التجاوز عن الخطايا والرحمة بالعباد. لا جرم أن ذلك ترغيب من الله لمن قارف شيئا من الذنوب والمعاصي، لكي يبادر بالتوبة والاستغفار فيحظى من الله بالرحمة والغفران.
وعلى هذا فإن كسب الخطيئة أو الإثم والتنصل منه لرمي الغير به في ظلم لهو من كبائر الذنوب لما في ذلك من احتمال للبهتان وهو ما يحيق بالبريء من تهمة مصطنعة مفتراة يختلقها أهل السوء من المبطلين.
ومما يثير العُجب حقا هذا الزخم الهائل من معاني التحذير والتنديد أو الوعيد والتهديد أو الإخبار والبيان أو التنكر والإغلاظ أو التكريم والتأنيب أو التقويم والتوجيه كل أولئك من أجل أن يتبرأ يهودي مظلوم ! ! من أجل أن تبدد من واقع البشر كل سحابة عاتية تغشى الناس بظلم. والظلم من المفاسد البشعة التي شدد الإسلام في استنكارها والتنديد بها.
تسع آيات محكمات يتنزلن تحت العرش على قلب النبي ( ص ) ليتلوها هو والناس في زمانه ومن بعده حتى الأبد الأبيد، وهي حاشدة بالمعاني الدافقة المختلفة درءا لظلم قد أحاط بيهودي بعد أن افترى عليه فريق من الناس بغير حق. وهذا هو الإسلام في إحقاقه الحق، وفي دفعه للباطل، وفي رفضه للظلم أن يحيق بإنسان، يستوي في ذلك أن يكون المظلوم مسلما أو غير مسلم. ذلك هو شأن الإسلام في ترسيخ الحق والعدل بين الناس في كل الأحوال. إنه الحق أو العدل الذي ليس له في تاريخ الملل والشرائع نظير. عدل حقيقي مطلق تستظل بظله الخلائق من الناس على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم مما لم تعرف البشرية له مثيلا طيلة زمانها المستدير.
قوله :( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) الواو في قوله :( وأنزل ) تحتمل أحد معنيين وهما الحال والاستئناف. واعتبارها على الحال يجعل المعنى على النحو التالي : أن هؤلاء لا يضرونك حال إنزال الله عليك القرآن والحكمة وهي معناها السنّة، وفي قول آخر بأنها القضاء في موضع الوحي وهو نفس المعنى الذي يتضمن مفهوم السنة. ذلك أن السنة هي ما يصدر عن النبي من طريق الوحي، فما يتصرف النبي تصرفا من قول أو فعل أو تقرير إلا جاء صحيحا قائما لا يعتريه زيغ أو اعوجاجا ؛ لأنه عليه السلام الملهم المقوّم من ربه فلا يضل ولا يطغى. ذلك هو المعنى المطابق لاعتبار الواو مفيدة للحال، مع ترجيح القول الثاني وهو أنها تفيد الاستئناف.
ويمن الله على نبيه بما علّمه إياه من العلم والحكمة والتشريع مما لم يكن يعلم قبل هبوط الوحي عليه. وتلك نعمة هائلة جليلة لا تعدلها أنعم الأرض جميعا. فلا غرو بعد ذلك أن يمنّ الله على نبيه بما أتاه من عظيم الفضل وما طوّقه به من كبير النعمة والعطاء ممثلا في النبوّة الطاهرة المعصومة وما يستتبعه ذلك من زاخر المعرفة والحكمة١.
والاستثناء في الآية يدل على طلب الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس وهي فضائل كريمة يتزين بها الفرد والجماعة لتكون لهم خير مظهر يكشف عن صدق القصد والمضمون. وفي هذا يقول النبي ( ص ) فيما ترويه أم حبيبة قالت : قال رسول الله ( ص ) : " كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر " وقد روى مثله كل من الترمذي وابن ماجه.
وأخرج الإمام أحمد بإسناده عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله ( ص ) يقول : " ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا " وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ".
وأخرج الإمام أحمد أيضا عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( ص ) : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ ! " قالوا : بلى يا رسول الله قال : " إصلاح ذات البين ". قال : " وفساد ذات البين هي الحالقة "
وأخرج البزار عن أنس أن النبي ( ص ) قال لأبي أيوب : " ألا أدلك على تجارة ؟ ! " قال : بلى يا رسول الله قال : " تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا ".
أما المعروف فهو ضد المنكر وهو من المعرفة والتعارف حيث التلاقي وانعقاد الألفة والمودة. وهو في معناه لذو شمول يتضمن وجوه الخير والبر جميعا، وذلك كالصدق وإسداء النصيحة وإكرام الضيف والجار وحسن التقاضي والتعامل في تسامح وهوادة وغير ذلك من ضروب الرفق والإحسان وطيب العشرة.
وأما الصدقة فهي عنوان العطاء والبذل في همّة وسخاء وهي كسر لإسار الشحّ البغيض الذي يستحوذ على النفس في الغالب ولا يلفت من غلّة إلا من جاهد نفسه فملك زمامها. يقول سبحانه :( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) والصدقة نوعان : أحدهما للتطوع والآخر فريضة. وهما كلاهما مجلبة للأجر والمثوبة من الله ومطردة الخطايا والسيئات بما يزحزح العبد عن فيح جهنم حيث العذاب البئيس.
وقد تطلق الصدقة من حيث المعنى فتتضمن وجوها في الخير تتجاوز حصول البذل والجود بالمال تطوعا أو فريضة. وإطلاق الصدقة يشمل معاني شتى في الخير وذلك مثل إماطة الأذى عن الطريق، أو الأخذ بيد أعمى لهدايته إلى الطريق، أو في عون ذي الحاجة الملهوف في قضاء شأن من شؤونه، أو الملاطفة يبذلها المرء نحو أخيه أو تبسمه في وجهه، وهي معان في الأخلاق الكريمة تندرج في المفهوم المطلق للصدقة مثلما ورد في السنّة المطهرة.
وأما الإصلاح بين الناس فهو في طليعة المحاسن من الأخلاق التي تتجلى في المؤمن التقي العامل. ذلك أنه وسيلة التوفيق بين المتدابرين والمتخاصمين وأنه السبيل التي تسعف في التئام المسلمين كيما يتآزروا وتتحد كلمتهم وكيما يكونوا دائما يدا واحدة على من سواهم. وانعدام الإصلاح دليل التمزق والشتات وذهاب ريح الأمة.
ومنوط بالمسلم أن يندفع في نشاط وحماسة ليصلح بين الناس إذا ما تخالفوا أو دبّ بينهم دبيب الفرقة والبغضاء. ولمن يبادر في الإصلاح كبير الأجر والثواب بما لا يعلم مداه إلا الله سبحانه. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : " من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد " ١.
ورد في سبب نزول هاتين الآيتين أكثر من قول. فقد قيل أنهما نزلتا في السارق ابن أبيرق فإنه لما تبين له أنه قد افتضح تسلل إلى مكة هربا من القطع مرتدا. وفي مكة سطا ببيت من البيوت بعد أن نقبه فأدركه المشركون فقتلوه، وقيل إن الحائط الذي نقبه سقط فبقي في النقب حتى أخرجوه منه، ثم خرج بعدها إلى الشام في قافلة فقبض متلبسا بسرقة أموال فرجموه وقتلوه.
وقيل إنهما نزلتا في نفر قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتكسين في الردة١.
وأنسب الكلام في ذلك أن يقال إنهما تتناولان كل من يخالف عن أمر الله في شرعه ودينه أو من يخالف المسلمين في طريقهم الذي ارتأوه وسلكوه، والعبرة بعموم المعنى لا بخصوص السبب رغم ما يحتويه السبب من وسيلة تسعف في الوقوف على حقيقة المعنى.
وقوله :( يشاقق ) فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جملة الشرط وهو من المشاققة أو الشقاق ومعناه الخلاف والعداوة. وأصل ذلك الشق ومعناه نصف الشيء، أو الناحية من الجبل، وتلك حال الذين يخالفون عن أمر الله في شرعه ودينه أو الذين يعادون النبي ( ص ) فلا يؤمنون ببعثه ورسالته ويناصبونه الكيد والخصام، فأولئك جميعا مثلهم كالذي يصير في شق ( ناحية ) وشرع الله ورسوله في شق آخر. وهما شقان مختلفان قد بعدت بينهما الشقة واختلفت الحال. وفي ذلك تصور كريم يجعل للذهن حقيقة وافية مستبينة تتجلى فيها حال أهل الباطل من مشركين وملحدين ومنافقين وهم جميعا ليسوا على منهج الله ويرفضون السير في ظله حيث يغشاهم التوفيق والهناءة والرحمة ولكنهم أبوا إلا المضيّ في طريق زائغ متعرّج مقابل للطريق السوي المستقيم الذي كتبه الله للناس.
هؤلاء الذين يشاققون الرسول على نحو ما بينا، بعد أن تجلت لهم طريق الحق والإيمان، والذين يستنكفون عن الانضواء في حومة الإسلام والمسلمين فيرتضون لأنفسهم سبيلا غير سبيلهم- هؤلاء قد أعد الله لهم عذاب جهنم تصطلي بها أبدانهم ولحومهم. وقوله :( ويتبع غير سبيل المؤمنين ) الفعل ( ويتبع ) معطوف على قوله :( يشاقق ) واتباع غير سبيل المؤمنين يحتمل أحد معنيين :
أحدهما : المخالفة عن أمر الله في شرعه ودينه وذلك هو التنكب عن سبيل المؤمنين الذين يحيون على ما جاء به الكتاب الكريم والسنة المطهرة أو الذين يحكمون بما أنزل الله لتكون أوضاعهم وتصوّراتهم وأحوالهم ومعايشهم على هدى من الإسلام.
ثانيهما : الإجماع، وهو في اللغة يعني الاتفاق. وفي الاصطلاح ثمة أقوال في حده. فقد حده الغزالي بأنه اتفاق أمة محمد ( ص ) خاصة على أمر من الأمور الدينية.
وحده القرافي بأنه اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في أمر من الأمور.
وحده الرازي بأنه اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد ( ص ) على أمر من الأمور. والمراد بالاتفاق : الاشتراك إما في الاعتقاد أو القول أو الفعل. وبأهل الحل والعقد : المجتهدون في الأحكام الشرعية.
ويمكن القول في تعريف الإجماع على نحو جامع مانع على أنه اتفاق كلمة العلماء المسلمين في زمن من الأزمان على مسألة من المسائل أو قضية من القضايا الشرعية المستنبطة في ضوء الكتاب والسنة. ٢ والمعلوم أن إجماع أمة محمد ( ص ) لا يحتمل الخطأ لتحقق العصمة لهم لدى اتفاقهم جميعا وذلك تعظيم لهذه الأمة الرائدة التي نيط بها أن تبادر دائما لتأخذ الزمام فتقود البشرية كابرا بعد كابر إلى حيث الخير والأمن والسلام وإلى حيث التعاون والودّ والاستقرار ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ).
وقد أدرك الشافعي رضي الله عنه حقيقة الإجماع وفرضيته في هذه الآية وأنه ( الإجماع ) لحجيته يلتزم المسلمون بالعمل به فلا مساغ لأحد بعد ذلك أن يخالفه. ويعزز ذلك ما ورد من أحاديث في هذا الصدد كقوله عليه الصلاة والسلام : " لا تجتمع أمتي على الخطأ ".
والآية تحمل استنكارا غليظا لمن يندّ عن خط المسلمين ويتخذ لنفسه سبيلا غير سبيلهم التي لا تحتمل ميلا أو اعوجاجا. ولا يتنكب عن هذه السبيل إلا ضال وجزاؤه أن الله سيوليه ما تولّى، أي يكله إلى ما ارتضاه لنفسه من منهج وسبيل، أو يتركه وما يعبد كما قيل. ثم مرده من بعد ذلك إلى ( جهنم وساءت مصيرا ) ساءت عاقبة ومردا ولبئس المثوى والملتحد والعياذ بالله. وجاء قوله :( مصيرا ) منصوبا على التمييز.
٢ - المحصول للرازي جـ ٢ ص ٣ وإرشاد الفحول ص ٧١ والإبهاج في شرح المنهاج للسبكي جـ ٢ ص ٣٤٩ والمستصفى للغزالي جـ ١ ص ١٠١ ولسان العرب جـ ٨ ص ٥٧..
والشرك هو أعتى ضروب الخطيئات والمنكرات وأفدح ما يقارفه العبد من فوادح الذنوب، وهو لفداحته واشتداد غضب الله من أجله فإنه لا أمل في محوه برحمة الله أو غفرانه. ويفهم من هذا النص أن المشركين خالدون في النار وأنهم لا محيد لهم من عذاب الله الواصب.
لكن مغفرة الله تصيب كل المعاصي دون الشرك. فأيما ذنب مهما كان كبيرا فإنه يظل دون فظاعة الشرك وأنه يمكن تجاوزه إذا ما خلصت النية وأقلع المسيء وأناب.
قوله :( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ). ذلك بيان مريع ومؤثر عن فداحة الشرك الذي يبغضه الله أشد البغض، ويشدد على استبشاعه أبلغ تشديد فهو أعظم الكبائر وأفظع السقطات التي يرتكس فيها العبد ليكون في الأذلين ولينحدر بنفسه إلى أسفل سافلين. ولا يسقط في الشرك إلا من ظلم نفسه فضلّ ضلالا بعيدا. ولا جرم أن يؤول الشرك إلى الضلال البعيد وهو الذهاب بالنفس إلى سحيق المهاوي وإلى أعمق أعماق الدركات حيث العمه والتّيه.
وهذه الآية تشهير الجهلة الحمقى وتسفيه لأحلامهم التي تنطوي على التحجّر والسخف إذ سوّلت لهم عبادة الأحجار الصمّ فضلّت بذلك أبعد الضلال عن طريق الهداية والنور.
وهم كذلك لا يعبدون ( إلا شيطانا مريدا ) الشيطان من الفعل شطن أو شيطن أو تشيطن ومعناه البعد عن الحق والخير. وعلى هذا فالشيطان هو الكائن الجني أو الإنسي البعيد عن الحق والخير. وقيل هو العاتي المتمرد الذي يتمثل في كيانه الشر والشقاوة. والمريد صيغة مبالغة على وزن فعيل وهو من التمرد ومعناه العتوّ ومجاوزة الحد. وقيل هو العصيان والتجرّّد من الخير، ١ وهي معان متقاربة يجمعها معنى واحد مشترك وهو الاستنكاف عن الخير والجنوح نحو الشر مع خروج عن الطاعة في خبث. وجملة ذلك أن المشركين ضالّون في عبادتهم، وهم كذلك تعساء في تقديرهم ومآلهم وهم إنما يعبدون أحجاما موهومة جوامد من الحجارة القاسية الصلدة. والأصل في هذا الضلال كله هو الشيطان فهو الذي أوحى إليهم بزخرف من الوسواس والقول فسوّل لهم أن يجنحوا عن صراط الله المستقيم ليعبدوا من دونه آلهة مفتراه. فالشيطان بذلك معبود هؤلاء الفسّاق المخدوعين ؛ لأنهم أطاعوه من دون الله واستسلموا لتوهيمه بعد أن نفث فيهم غرورا.
هذه قصة الحوار المثير بين الإله الأوحد القهار وبين الكائن الخبيث العاتي الذي يتجسد في طبيعته المبنية على الشر والرذيلة والإغواء على نحو ليس له نظير في الكائنات جميعا. حوار تتكشف فيه حقيقة هذا الكائن عن طبيعة خبيثة لئيمة تستكبر على طاعة الله ثم تمضي في تمرّد عليه غريب وفي استنكاف يستوجب من الله اللعن وهو الإبعاد والطرد من رحمة الله في غضب وسخط.
قوله :( لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ) وهو تأكيد إجرامي متوقح من الشيطان وهو يعصي أمر ربه في اجتراء مقبوح بأنه سيجهد في الغواية والإضلال ليفتل البشرية عن طريق الله ومنهجه إلى حيث الباطل والفساد وإلى حيث الغواية والضلالة في هذه الدنيا الفانية وفي تلك الأخرى الباقية. والنصيب معناه الحصة أو الحظ. والمفروض يعني المعيّن المقدّر. وذلك الذي أشار إليه إبليس وهو أنه سيجعل له جزءا ونصيبا من البشر المضلّل المخدوع بعد أن ينفث فيهم من تضليله وتوهيمه ليساقوا معه بالتالي إلى الجحيم فيكون وإياهم في العذاب سواء.
قوله :( ولأمنينهم ) أي يسوّل لهم دوام التشبث بالأماني ليذهلوا بذلك عن الركون إلى الله وعن التوبة إليه في كل آن فتظل نفوسهم معلقة تتعلل بالآمال والتمنيات وتتشاغل عن ذكر الله وطاعته بمختلف ألوان التمني مثل طول البقاء أو الإكثار من المال والنسل أو الرغبة في وجاهة ظاهرة مرموقة، كل بما يهواه ويترجاه.
ثم يتطاول اللعين على ربه في حوار مذموم وهو يتوعد بالأمر بالبتك، ومعناه القطع١. والتشقيق وموضع ذلك الأنعام فيما يسمّى السائبة والبحيرة. فقد كان العرب يقطعون آذان هذه الأنعام أو يشقّونها ليظل ذلك سمة فيها بما يشير إلى أنها حظ الله. تعالى الله عن تلك السخافات والجهالات علوا كبيرا. وذلك من صور الشرك في بدائية وسوء تفكير التي كان العرب يتخيّلونها ثم يمارسونها في الواقع على هذه الكيفية الجاهلية السخيفة، وذلك كله بتأثير مصطنع يوحي به الشيطان إلى نصيبه من البشر المضلّل المخدوع.
قوله :( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) وقد ورد في المقصود بتغيير خلق الله عدّة أقوال نقتصر منها على ثلاثة وعلى المستزيد أن يراجع في ذلك كتب التفسير.
القول الأول : هو الإشارة إلى تغيير الخلقة طلبا لتحسين مصطنع وذلك كالوشم والتنميص والتفليج لما في ذلك من تكلف مبغوض تتغيّر به الخلقة التي قدّرها الله. وفي هذا أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل ".
والواشمة هي التي تفعل الوشم بأخرى، والمستوشمة التي يفعل بها الوشم. والوشم هو غرز الجسد بالإبرة ثم حشوه بالنيلج أو الكحل ليصير فيه رسوم وخطوط بقصد التزيين والتحسين.
أما المتنمصات فمردها المتنمصة وهو من التنمص أو النمص ومعناه أن تقوم المرأة باستئصال الشعر من وجهها بالمناص وذلك حرام.
وأما المتلفجات فمردها المتفلجة وهي من الفلج أو التفلّج ومعناه التشقيق والتقسيم. ونقول الأسنان المفلّجة أي المنفرجة. والمتفلجة هي التي تفرّج بين أسنانها بالصنعة والتكلف وهو حرام لما في ذلك من تغيير لخلق الله. ويندرج في هذا المفهوم الوصل وهو أن تصل المرأة شعرها وذلك أن تضيف إليه شعرا آخر يصبح به كثيفا. وفي ذلك يقول النبي ( ص ) فيما رواه مسلم : " لعن الله الواصلة والمستوصلة ".
القول الثاني : المقصود بخلق الله هو دينه، فالتغيير هنا واقع على الدين نفسه، وذلك يستتبع تغييرا لما انطوى عليه الدين من أمور وتكاليف شرعية فيما يسوق بالتالي إلى المعصية. وذلك قول ابن عباس والنخعي وهو الذي اختاره الإمام الطبري في تفسيره.
القول الثالث : هو أن المقصود بالخلق هنا الفطرة التي فطر الله الناس عليها. والفطرة من الفعل فطر بمعنى خلق وأنشأ، فالفطرة هي الخلقة التي جاء عليها الإنسان أو هي طبيعة تكوين الإنسان من حيث خلقته النفسية والروحية.
والفطرة التي جاء عليها الإنسان هي الإسلام. فإن الله عز وعلا قد خلق ابن آدم على أساس من التدين الذي يسري في الصميم من أغوار النفس البشرية، ولا يجرؤ على جحود هذه الحقيقة إلا غبي مكابر أو زنديق أثيم. وليس في جحود هذه أو تغييرها إلا التغيير في خلق الله. ذلك أن الفطرة من خلق الله وأنها تتضمن الإسلام الذي يعني الامتثال والخضوع لله في دينه وشرعه. قال سبحانه في ذلك :( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وعلى هذا فإن إقامة الوجه للدين الحنيف لهي الفطرة عينها وهي الكيفية أو الكينونة التي خلق الله عليها الإنسان، وأي تلاعب في تصوّر هذه الحقيقة أو مجرّد التغيير فيها يعتبر تغييرا لخلق الله.
وفي السنة المطهرة ما يكشف عن هذه الحقيقة بجلاء لنعلم أن الإنسان قد خلق مسلما على الفطرة، إذ يقول النبي ( ص ) فيما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمّاء هل تجدون بها من جدعاء ".
وأخرج مسلم بإسناده عن عياض بن حمّاد قال : قال رسول الله ( ص ) : قال الله عز وجل : " إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".
وجملة ذلك أن الفطرة البشرية تتطابق تطابقا كاملا مع دين الإسلام وأن الالتزام بالإسلام في تعاليمه وشرائعه وتصوراته وعقيدته لهو الفطرة نفسها التي جاء عليها الإنسان والتي لا يجوز بحال أن تتغيّر فإن تغييرها يعني التغيير في خلق الله٢.
وقوله :( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ) الذي يلوذ بالشيطان ويركن إليه ليستمد منه العون والنصرة لهو الذي حاق به الخسران في الدنيا والآخرة.
وهذه حقيقة لا ريب فيها فقد نطق بها الكتاب الحكيم مثلما نتلوا الآن وكذلك قد صدّقها الحس من خلال الواقع والتجربة التي يمر بها الإنسان. ذلك أن الخروج على طاعة الله والانصياع لأمر الشيطان اللعين الرجيم لهو الخسارة الفادحة القاصمة التي تؤدي بالمرء إلى السقوط والتخسير. وهو تخسير غامر شامل يتناول من يذهل عن أمر ربه ليكون في دنياه تعسا شقيا متضانكا وهو يعاني من جراء ذلك أشد ألوان المعاناة من ضيق ومكابدة وقلق.
أما في الآخرة فلا جرم أن يكون الخُسران في الدنيا بالقياس إليه إلا هيّنا هزيلا حتى لكأنه لا يعدل شيئا. وهو خسران فظيع مريع لا يطيق احتماله بشر لهوله واشتداد تحريقه الأليم.
ولذلك فقد تعس من استعان بغير الله من الشياطين. لقد تعس تعسا مذهلا بما تنطوي عليه من إهلاك وتخسير. أجل إنه تعس وانتكس وإلى الدركات في الجحيم قد ارتكس ! !.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٥ ص ٣٨٩-٣٩٥ وتفسير الطبري جـ ٤ ص ١٨٠-١٨٢..
هؤلاء الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان ثم سعوا في الأرض جادين عاملين، أولئك الذين وعدهم الله أحسن تأويل وخير عاقبة، حيث النعيم والمقيم في جنات الله الخوالد، حيث الأنهار التي تجري سائحة فيّاضة وهي تطوي معها الخير وروعة البهاء والجمال، والمؤمنون حينئذ آمنون محبورون تحفّ بهم الخيرات والبركات من كل جانب وتحف بهم الملائكة بالسلام الميمون ثم تجليهم إشراقة البركة والنور من الله التي تسري في الكون كله لتبدّد منه الظلمات وتنشر في أرجائه الضياء والبهجة.
قوله :( وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ) وعد مفعول مطلق منصوب لفعل محذوف تقديره وعد. حقا، مصدر ثان مؤكد لغيره. أي حق ذلك حقا، وتبين الآية بأن قول الله صدق، ووعده حق، وهو سبحانه لا يخلف وعده ولا ريب أنه سبحانه أصدق الصادقين إذ ليس من أحد أصدق من الله ( قيلا ) أي قولا وهو منصوب على التمييز. وقد كان النبي ( ص ) يقول في خطبته إذا خطب " إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ( ص ) " ١.
ثمة روايات عديدة ومختلفة في سبب نزول هذه الآية. فقد قيل إن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيّين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله :( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ).
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ونبيّنا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام وكتابنا نسخ كل كتاب ونبيّنا خاتم النبيين وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى الله بينهم وقال :( ليس بأمانيكم... ) ١ الأمانيّ مفردها الأمنية ومعناها البغية أو ما يُتمنى من الأمور. وفي الآية بيان حاسم يفصل بين هؤلاء المتجادلين في غير مجاملة أو محاباة أو هوادة، والأصل في ذلك أن الإسلام لا يقيم وزنا للنعرات العصبية الفارغة، أو المفاخرة بالآباء والأجداد ولا المباهاة بالأشخاص والعناوين وكل المظاهر الشكلية، لا يعبأ الإسلام بشيء من ذلك، إنما يعبأ بالعقيدة الصحيحة المستقيمة والإيمان الساطع المستنير ليزن الأمور والأشخاص جميعا بميزان الإيمان الصحيح والعمل المخلص النافع المتواصل وكفى، والله سبحانه يحسم الخلاف هنا ليبين للمتخاصمين أن النجاة لا تكون بالتمني ولا بإطلاق الأماني من غير عمل مخلص مشروع، فإن الذي يعمل السوء لسوف يلقى جزاءه كيفما كانت ملّته التي يدين بها، فلا يسرع بالمرء نحو الفوز والنجاة إلا عمله الصالح، وليس في مجرّد تمنّيه من غير عمل إلا ما يبطئ به دون النجاة والخلاص.
ويبدو أن ثمة إشكالا في قوله تعالى :( من يعمل سوءا يجز به ) فإن هذا المفهوم يفيد العموم من غير تخصيص كما يفهم من ظاهر الآية فليس من أحد يقارف سيئة أو محظورا إلا وهو مسؤول عنه ومجازى، وكأن التوبة من العبد لا تؤثر في إذهاب الجزاء عنه !.
وخير ما جاء في ذلك فيما يزيل الإشكال هو ما قاله جمهور المفسرين : وهو أن لفظ الآية عام وأن كلا من الكافر والمؤمن يجازى بعمل السوء، فأما مجازاة الكافر فالنار ؛ وذلك لكفره الذي أورده أشدّ الجزاء، وأما مجازاة المؤمن فتتحصل له بما يمسه من ضروب الشقاء والمتاعب كالفقر والمرض والحزن والنصب وغير ذلك مما يقع الإنسان في الدنيا. ومثل هذه المصاب والمتاعب تتكفّر بسببها سيئات المؤمن وخطاياه لينجو في الآخرة. وهي نفسها الجزاء المقرر للمؤمن في حياته في مقابلة ما ارتكب من تقصير وخطيئات.
فقد أخرج الإمام أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ! كيف الفلاح بعد هذه الآية :( من يعمل سوءا يجز به ) فكل سوء عملناه جزينا به، فقال النبي ( ص ) : " غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ؟ ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ " قال : بلى قال : " فهو ما تجزون به ".
وفي حديث آخر أخرجه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : لما نزلت :( من يعمل سوءا يجز به ) شق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله ( ص ) : " سدّدوا وقاربوا، فإن كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها ".
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة أنه قال عقيب نزول هذه الآية : بكينا وحزنّا وقلنا يا رسول الله ( ص ) ما أبقت هذه الآية من شيء قال : " أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسدّدوا، فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلا كفّر الله بها من خطيئته، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه ".
قوله :( ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) لا ينفع أحدا أن يتمنى ولا ينجيه من العذاب أن يطلق التمنيات بغير حساب من عمل صالح. فإن ما يجتاز به العبد صراط الحساب هو العمل الخالص لوجه الله، وهو في أية حال ليس له من دون الله أي معين أو مجير أو نصير، يستوي في هذا الحكم أن يكون العبد مؤمنا أو كافرا.
على أن العمل كيما يكون مقبولا لا يجب فيه شرطان، ولا قيمة أو اعتبار للعمل المبذول إذا لم يتحقق هذان الشرطان معا حتى إن تحقيق أحدهما دون الآخر لا يغني.
والشرطان أحدهما : أن يكون العمل المبذول مشروعا أي موافق للشرع فلا يأتي مخالفا له أو معاوضا. وذلك تحديد يفهم من قوله ( الصالحات ) فالصالحات من الأعمال ما كان موافقا للشرع وليس مخالفا. ومخالفة الأعمال للشرع تبطلها، وموافقتها له أمر مشروط. وبذلك فإن ميزان القبول هو تحقق هذا الشرط الأساسي وهو ألا يتعارض الشرع والعمل. ويؤخذ من ذلك أن الأعمال المحظورة أو المنهي عنها أو ما كان من المحدثات والضلالات والبدع، كل أولئك غير مشروع ؛ لأنه وقع على غير مقتضى الشرع.
ثانيهما : النيّة : وهي شرط عظيم في القبول ولا تسويغ للعمل من دونها. والنيّة محلّها القلب كما ورد وهي سابقة على العمل في الحصول. ومعناه أن يتجه العبد بقصده إلى الله أو أنه يبتغي من وراء ما قدّمه من عمل مرضاة الله، وهي الغاية العظيمة القصوى التي تراود المؤمن طيلة حياته. وفي أهمية النية وضرورة وجودها وسبقها من أجل القبول يقول الحديث المشهور المستفيض : " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ".
على أن اشتراط النية يستلزم بغير مندوحة أن يتحقق الإيمان لدى العبد. فشرط النية لتكون سليمة صحيحة أن يكون العبد مؤمنا، وإذا لم يكن على الإيمان فإن عمله يظل هباء منثورا لا يشفعه قبول ولا يغني صاحبه إلا الذكر وحسن الثناء في هذه الدنيا. أما في الآخرة فإنه يأتي بغير عمل ولا جزاء. وقد جاء تأكيدها هذا المعنى في قوله :( وهو مؤمن ) الواو حالية، والجملة الإسمية في محل نصب على الحال فلا يغني العمل عند الله شيئا إذا كان من كافر فمن كان على غير الإيمان فقد جهر بالعداء والجحود لله وأقام نفسه في مشاققة خصيمه مع الله، وذلك هو الكفران المتنكر الغليظ فأنى لله سبحانه أن يتقبّل عملا من هذا العبد الجاحد المتنكر في غلظة ؟ !
قوله :( فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) المؤمنون الذين يعملون الصالحات مثلما بينا من اشتراط القبول، فأولئك جزاؤهم الجنّة إكراما من الله لهم على ما قدّموا ورحمة وفضلا يمتنّ بهما سبحانه على عباده العالمين المخلصين.
قوله :( ولا يظلمون نقيرا ) لا يبخس هؤلاء شيئا من الجزاء الذي يستحقونه مقابل ما أسلفوا في الأيام الخالية ولا يقع عليهم أدنى ظلم حتى ولو كان ( نقيرا ) والنقير معناه النقرة في ظاهر نواة التمرة.
قوله :( أسلم وجهه لله ) من شأن المسلم أن يسلم كيانه البدني والشخصي كله إلى الله ليكون بذلك متوجها بجوارحه وجوانحه وحسه وشعوره إلى الله. أما ذكر الوجه هنا فهو لشرفه ؛ ولأن فيه ما يغني عن ذكر الجسد كله. والوجه في الإنسان أجلى وأحسن ما فيه وهو يمثل الصورة الوافية المميزة للإنسان، فضلا عما في الوجه من أجزاء ومركبات أساسية مثل السمع والبصر والذوق والشم والنطق، وهي أجزاء ومركبات بها تركيبة الإنسان فيستتم كيانه وشخصه، وبذلك فإن ذكر الوجه لهو تعبير عن الكيان كله وذلك من باب ذكر الجزء بدلا من الكل ؛ لما للجزء من الأهمية وشرف المكانة والشأن. والمراد في الآية إخلاص النفس لله وحده فلا تعرف لها ربا ولا معبودا سواه. وقوله :( دينا ) منصوب على التمييز وقوله :( وهو محسن ) الواو للحال والجملة بعدها اسمية تتألف من مبتدأ وخبره. والمحسن من الإحسان وهو كما بينه ( ص ) لدى إجابته عن سؤال جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وتلك هي حال المؤمن مع ربه ؛ إذ يعبده في السر والعلن، ويخشاه في كل آن، وهو يقظ الحس رهيف الضمير، ومستديم الصلة بربه سبحانه فلا تبرح قلبه اليقظة والرهافة في جميع الأحوال والهيئات، وذلك هو الإحساس المؤثر الذي ينطبع في قلب المؤمن ليظل دائما رقيب نفسه ويظل يغمره اليقين بأن الله يراه وأنه سبحانه مطّلع عليه في معلناته وخفاياه.
قوله :( واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ). الملة معناها الطريقة أو الشريعة أو الدين١. والحنيف من الفعل حنف، ومعناه مال. والحنفية هي التوحيد والميل عن الشرك. فالحنيف هو الذي يعبد الله وحده من غير ميل إلى أحد سواه٢. وفي الآية يأمر الله نبيّه والمؤمنين أن يتّبعوا ملّة إبراهيم في الإخلاص والتوحيد والحنيفية، فقد كان عليه السلام ( أمة ) أي إماما يقتدى به في الاستقامة والميل عن الشرك، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لذو شأن عظيم ومنزلة رفيعة قد خصّه الله بها لما تجلّى في شخصه المميز من ورعة الإخلاص والتقوى وسمو الطاعة والخشوع والإخبات لله بما يعز على الهمم وطاقات البشر أن تبلغ مثله وحسب إبراهيم الخليل أن تصدع له الشهادة من السماء بالإمامية والقنوت والحنيفية والإخلاص :( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) وقوله :( خليلا ) من الخلّة وهي الصداقة ولا تكون إلا بين الآدميين. لكنها في حق العبد مع الله تعني أرفع الدرجات أو أعلى مراتب القربة.
وقيل : الخليل من التخلّل أي أن محبّته تتخلل القلب فلا يبقى منه مكان إلا وقد ملأته هذه المحبة، فالمقصود أنه عند الله مقرّب ومحبوب، وقيل غير ذلك.
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ١٦٦، ١٦٧..
قوله :( وكان الله بكل شيء محيطا ) إنه سبحانه منذ الأزل الغائر في القدم وفي الأبد الممتد الأبيد لهو محيط بكل شيء. وإحاطته تتضمن علمه المطلق غير المحدود وهيمنته الغامرة المستحوذة، فهو سبحانه عليم بما كان وما سيكون وما لم يكن بعد، وهو لا يندّ من علمه خبر من أخبار السماوات والأرض أو أخبار الأحياء والأموات أو أخبار الأولين والآخرين، سواء في دنيا الفناء أو دار الآخرة حيث الديمومة والبقاء. وهو كذلك مهيمن على الوجود وما فيه بماله من قدرة متسلطة قد بسطها على الخليقة كافة. كل ذلك نتلمسه من كونه محيطا بكل شيء كما جاء في الآية، والإحاطة لفظة معبّرة أو في التعبير لا نتصوّر لفظة أخرى تعطي مدلولا مثل ما لها من مدلول. وتلك واحدة من روائع القرآن في التعبير بما يقطع أنه معجز وأنه من طريق الوحي١.
المعنى الإجمالي لهذه الآية أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يرغب في زواجها فله ذلك على أن يقدّم لها المهر كاملا ولا يظلمها في شيء، وإذا لم يفعل ذلك فعليه أن يعدل عنها إلى غيرها من النساء وهن كثيرات. وهذا المعنى قد ورد في مطلع السورة في قوله :( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ).
وإذا لم يكن الرجل راغبا في الزواج من هذه اليتيمة التي في حجره لدمامتها أو سبب آخر فلا يحق له أن يحيف عليها بعضلها ( منعها ) عن الزواج من آخرين مخافة أن يشاركوه في ماله الذي اختلط فيما بينه وبينها. وهذا هو المراد في هذه الآية :( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ) فالله يفتي المسلمين في سؤالهم النساء وطريقة التعامل معهن من حيث الزواج والعشرة وما لهن من حقوق.
قوله :( وما يتلى عليكم في الكتاب ) ذلك رجوع إلى مطلع السورة المتعلق بأمر النساء. واسم الموصول ( ما ) في محل رفع معطوف على لفظ الجلالة قبله. وعلى ذلك فالمعنى هو أن الذي يتلى عليكم وهو القرآن يفتيكم. أي أن الله يفتيكم، وكذلك القرآن يفتيكم مثلما ورد في أول السورة :( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ).
قوله :( في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ) ذلك في اليتيمة تكون في حجر الرجل وليست له الرغبة في الزواج منها لدمامتها أو نحوه ثم يمنعها من الزواج من غيره ليستأثر بمالها فلا يشاركه فيه غيره. وفي قوله :( وترغبون أن تنكحوهن ) قيل :( أن ) معناها عن. أي وترغبون عن نكاحهن. وفي الآية نهي عن هذا العضل ( المنع ) لما فيه من حيف يحيق بالمرأة فتظل معلّقة بغير زواج بغية مالها الذي يطمع فيه الوليّ الظالم فيطغى عليها من أجله.
وقوله :( والمستضعفين من الولدان ) عطف المستضعفين على النساء الأولى أي أنهم يسألون عن أحكام الولدان الصغار مثلما سألوا عن أحكام النساء، وذلك من حيث حقهم في الميراث. فقد كان العرب لا يورثون النساء ولا الذكور الولدان حتى نزلت شريعة الإسلام فأوجبت لكل ذي حق حقه سواء كان ذكرا أم أنثى. والأساس في ذلك هو قوله تعالى :( للذكر مثل حظ الأنثيين ) يستوي في ذلك الكبار والصغار بدءا بالجنين في بطن أمه حتى الشيخ الطاعن المتقدم فهم جميعا تفرض الشريعة لكل واحد منهم نصيبا مفروضا لا تملك أية قوة في الأرض أن تحرمه منه.
وقوله :( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) هذه الوصية من الله للأولياء والأوصياء باليتيمات اللواتي في حجورهم ممن لسن على شيء من الجمال. فعلى هؤلاء القائمين عليهن أن يرعوهن ويقسطوا إليهن، فإما أن ينكحوهن أو يزوجوهن غيرهم. وذلك تأكيد لما سبق من بيان.
ولعل من الصواب أن تأتي التوصية باليتامى على وجه العموم سواء كانوا من الذكور أو الإناث وسواء كانت الإناث ذوات جمال أو دمامة. فالله جلت قدرته يوصي باليتامى عموما كيما يحاطوا بالعناية والاهتمام، وأن يعاملوا بالرفق والقسط والحسنى.
قوله :( وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ) ذلك ترغيب للمسلمين في عمل الخير. والخير ضروبه كثيرة، لكن المقصود منها هو الإحسان لليتامى ومعاملتهم بالود والقسط والحسنى. وخصوصا إن كان اليتامى من البنات اللواتي في الحجور فهن أشد حاجة للعطف والاهتمام وعدم الحيف عليهن، ولا ريب أن يكون الإحسان لليتامى مجلبة لعظيم الأجر من الله وهو سبحانه عالم بذلك، إذ يكتب لعباده الأبرار المقسطين ما أسلفوا فيجزيهم عن ذلك خير الجزاء١.
قوله ( إن ) أداة شرط. ( امرأة خافت من بعلها... ) جملة الشرط. امرأة فاعل مرفوع لفعل مقدر يفسره ما بعده. وتقدير الكلام : وإن خافت امرأة من بعلها... وجواب الشرط مقترن بالفاء ويتألف من الجملة الإسمية ( فلا جناح عليهما... ).
والبعل هو الزوج. والنشوز من الفعل نشز ومعناه ارتفع. والمرأة الناشز هي المستعصية على زوجها والتي تترفّع عليه فلا تطيعه. أما النشوز من الرجل للمرأة فهو أن يجفوها وينفر منها أو يحيف عليها إضرارا. والنشوز والإعراض يؤديان إلى نتيجة مشتركة من الجفوة والنفور والإدبار. وقيل : النشوز معناه التباعد، أما الإعراض فمعناه ألا يكلمها ولا يأنس بها.
وقد أورد البخاري في سبب نزول هذه الآية عن عائشة قالت : الرجل تكون عنده المرأة المسنّة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حل فنزلت الآية.
وجاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب فسأله عن هذه الآية فقال : يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو قذذها فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج. وورد غير ذلك من الروايات بما يبيّن حكم النشوز من قبل الرجل إذا نفر من زوجته لدمامة أو سوء خلق أو غير ذلك ففكر في طلاقها. والآية تدل بوضوح على أن الصلح خير من الطلاق وهو أبغض الحلال إلى الله، وحقيقة الصلح عند ظهور النشوز أن يتصالح الزوجان على أن يترك كل واحد منهما بعض حقه رغبة في البقاء والاستبقاء ورغبة عن التباعد والفراق.
ولا يخلو النص من تحضيض واضح على المصالحة فيما يجود كل واحد من الزوجين بشيء من نصيبه وحقه للآخر بغية الالتئام وصونا للأسرة أن تتداعى. فيقول سبحانه ( فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ) وقوله :( صلحا ) منصوب على المصدر. والتقدير : فيصلح الأمر صلحا. وهو فيه تأكيد على أهمية هذه الحقيقة المرغوبة المشروعة وهي الصلح. فإنها سبيل المودّة وإذهاب للحقد والمباغضة من القلوب لكي تستقيم الحياة ويأتلف الزوجان والأسرة في عيش ودود كريم.
وقوله :( والصلح خير ) الصلح اسم من المصالحة وهي وسيلة التراضي وفضّ الخصام مع ما يصاحب ذلك من زوال الكراهية والبغضاء. وقد ورد أن الصلح خير من التقاضي، فإن الأخير لا تخلو فيه القلوب من امتضاض وامتعاض لما في التقاضي من إجهاز ملزم على الموافقة في تراض، لكن الصلح دليل الرضى الاطمئنان، وهو وسيلة التفاهم الذي تتبدد من خلاله بواعث القطيعة والأثرة. فلا ريب أن الصلح كله خير. فهو خير بإطلاق بمعنى أنه طريق الخير وهو ما يتحقق به الخير في مختلف الوجوه. أو أن الصلح خير من الطلاق كما قيل في تفسير الآية.
ويتحقق الصلح بين الزوجين إذا ما تخلى كل منهما عن جزء من حقه للآخر وفي ذلك دلالة السخاء وحسن الخلق وطرد الخسيس من الأنانية في النفس. فالزوجة تعفي زوجها من أن يجد نفسه مجبرا نحوها على المبيت أو المواقعة أو ما شابه ذلك مما تعافه نفسه ولا تطيقه لدمامة فيها أو سوء طبع أو خلق. وكذلك الزوج يظل يؤوي إليه زوجته فلا يطلّقها لما في ذلك من كراهة. وفي ذلك روى أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " وبهذا التسامح أو التنازل عن بعض الحق من كلا الزوجين يتم الصلح وهو خير من الفراق.
ولعل وهما يراود أحدا في تصوره وفهمه حول إسقاط المرأة حقها في المبيت أو العشرة بدل استبقائها في البيت بغير فراق. وقد يرى الواهم في ذلك ضربا من الحيف، وما هو بحيف وليس فيه شيء من ميل أو ظلم، لكنه العدل المطلق في أجلى صوره. بل إنه المراعاة الحقيقية الكاملة لطبيعة الإنسان سواء كان ذكرا أو أنثى، ويكشف عن ذلك سببان :
أولهما : أن الزوجة مخيّرة بين أمرين، فإما المفارقة وإما التغاضي عن جزء من حقها فهي ليست مجبرة على شيء من ذلك إجبارا. وعوضا عن ذلك يتغاضى الرجل عن جزء من حقه في وقوع الطلاق فلا يوقعه لما بينا. فليس من حيف أو ميل مادام الأمر على التخيير.
ثانيهما : أن المسألة تكشف عن المراعاة التامة والمطلقة للفطرة البشرية. وهي مراعاة فذّة لا تتحقق في غير هذا الدين الذي يلائم طبيعة الإنسان ويوائم جبلّته التي جاء عليها، وذلك من حيث النوازع والرغائب والاستعدادات التي فطر عليها الإنسان، وهي أساسيات نفسية عميقة لا تملك الأسباب والوسائل طمسها أو إزالتها مهما تعددت في ذلك أقوال المتحذلقين من مصطنعي التربية وأصحاب النظريات الكاثرة المتهافتة في السلوك.
والذي نقصد أن نقوله هو أن الرجل قد يُبتلى بانتكاسة من نفور محض نحو زوجته لسبب من دمامة أو طبع أو خلق بغيض. فما الحكم بعد ذلك ؟ فهل نحكم على الرجل بدوام الاحتمال في صبر وفي أناة ثم نكلفه أن يصطنع المحبة اصطناعا عن قسر وإكراه ؟ ! هل نظل نحمله على المحبّة حملا وهو لا يستطيع، أو نفرض عليه الرغبة والميل من حيث يبغض ويستنكف ؟ لئن وقع شيء من ذلك فتلك خطيئة بحق الرجل ؛ لما في ذلك من القهر المشين، أو لما في ذلك من إرهاق عسير يحيق به فلا يطيقه ولا يحتمله. لكن السبيل إلى الخلاص عن مثل هذا المأزق النفسي أن يُدعى كل من الزوجين إلى الصلح ( والصلح خير ) لما في ذلك من تنازل معتدل من كل منهما عن بعضه حقه حتى تظل الزوجية صائرة إلى حيث يريد الله لها أن تصير.
وقوله :( وأحضرت الأنفس الشح ) الأنفس نائب فاعل مرفوع، والشح مفعول به ثان منصوب وهو يعني البخل والحرص. وهذا البيان من الله غاية في الكشف عن طبيعة الإنسان من حيث حبه لنفسه وتفضيله لمصالحه وشؤونه على الآخرين وتلك هي الأنانية. وهي تخليق مفطور جاء عليه الإنسان بلا مندوحة. والأنفس قد خالطها الشح منذ البداية فهو قد حضرها حضورا أو هو متأصل فيها كالمشهود المحسّ الذي لا يغادر ولا يبارح لعظيم مخالطته ومداخلته.
وتظل الكلمات التي تأخذ على عاتقها التبيين والتفسير تحوم من حول العبارة القرآنية الرائعة الفذّة فلا تعطي من الدلالة مثل ما تعطيه ( وأحضرت الأنفس الشح ) تظل الكلمات البشرية الموضحة ترفرف من حول هذه العبارة الربانية وما تبلغ إلا جزءا هينا يسيرا مما بلغته العبارة الكريمة من إعطاء للمقصود من خلال ألفاظ قليلة جاءت على نحو فريد معيّن من متانة الصوغ المؤثر العجيب. وفي ذلكم دلالة من دلالات عديدة على إعجازية هذا الكلام الحكيم.
وفي الآية دعوة للزوجين المتناشزين أو اللذين نشز أحدهما أن يبوء كلاهما إلى الصواب، وهي المصالحة التي تتحقق بإسقاط كل منهما لجزء مما له على الآخر لتزول عن الزوجية لائحة الفرقة التي تلوح في أفق البيت، ولتعود لهما وللأسرة حياة تموج بالتعاطف والود. إن على الزوج ألا يضن بالبذل أو التغاضي عما له من حق إذا التمست منه الزوجة عدم تطليقها. وأن على الزوجة كذلك ألا تضن بالتغاضي عن حقها في العشرة والمسيس إذا وجدت من بعلها نفورا قد نضبت معه بواعث الرغبة لدمامة أو شيخوخة أو نحو ذلك مما لا يملك الرجل معه أن يجبر نفسه على المحبّة والرغبة في المسيس إجبارا.
في الآية تأكيد على نبذ الشح ما أمكن واطراحه من النفس اطّراحا بعد مجاهدته من خلال مكابدة وترويض إلى أن تتخلص النفس من هذه اللوثة المستحكمة المستعصية قدر المستطاع.
وقوله :( وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ). ذلك ترغيب للأزواج في أن يكبحوا ما في نفوسهم من جنوح لغيرهن ورغبة عنهن بسبب افتقادهن للجمال أو المال أو غير ذلك، وفي أن يحتملوا مشقة الصبر على البقاء معهن في عدل ووفاء وفي معاشرتهن بالمعروف ومساواتهن بغيرهن من الزوجات إن كن موجودات دون ميل عنهن أو نفور. وتلك شيمة الأزواج الكرام الذي يعاملون زوجاتهم بالحسنى والذين يظلّون على تقوى من الله فيربأون بأنفسهم عن نوازع الشهوة اللجوح وضواغطها الثقال. والله جلت قدرته مطلع على ما يفعله الرجال الأبرار حيال زوجاتهم من خير وإحسان، فلا يظلمونهن ولا يؤثرون عليهن في حق من الحقوق ولا يميلون عنهن لسبب من أسباب النفس الضعيفة التي تتوق في الغالب إلى الاستمتاع والشهوة.
والمقصود بهذا البيان الكريم هو الرجل. فإنه لا يستطيع أن يعدل بين زوجاته حتى ولو حرص على ذلك. والعدل المقصود هنا ما كان باعثه القلب أو الرغبة المستكنّة في دخيلة النفس. فالقلب أساس الحب والبغض وهما إحساس وجداني غير إرادي فلا حيلة للإنسان في تغييرهما أو التأثير فيهما فإنهما من وحي القلب وتأثيره وما القلب إلا بيد الله جلّت قدرته.
وأما النفس فهي أساس الشهوة التي تجنح للجماع ونحوه ويتحقق ذلك كله بوجود الرغبة، وهي خارجة عن مستطاع الإنسان ومقدروه. فإذا لم يكن الرجل راغبا في الجماع ولم يكن له ميل فيه فمن العبث أن يفرض عليه ذلك فرضا ؛ لأن ذلك ينبع من داخل النفس حيث الشهوة والرغبة في المسيس.
وعلى ذلك فإن النفي الوارد في هذه الآية متعلق بالتسوية بين النساء من حيث الظواهر اللاإرداية كالحب والرغبة في الجماع. ومثل ذلك يعز على الرجل أن يعدل تماما فيه حتى لو جهده الحرص ؛ لأن الطبع غلاّب.
وما يستطيع الرجل أن يعدل فيه هو ما كان فعلا أو ممارسة مقدورين، وذلك كالنفقة والمبيت ولو لم يكن فيه جماع، والبشاشة وحسن الاستقبال، وكريم العشرة في هشاشة ومعروف، كل ذلك يستطيع الرجل أن يقوم بتحقيقه في تسوية بين النساء ولا يجوز له في مثل ذلك أن يميل أو يحابي. وإن وقع شيء من ذلك فهو حرام. وفي مثل هذه الأمور المقدّرة كان النبي ( ص ) أعدل العادلين مع نسائه، فما كان يميل أو يجنح لإحداهن في نفقة أو مبيت أو هشاشة دون غيرها، لكنه فيما لا يملك من حس وجداني أو رغبة نفسية دخيلة قد يميل بقلبه وحسه لإحداهن دون الأخريات. وفي هذا روى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة فقال : كان رسول الله ( ص ) يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " وهو يعني بهذا القلب.
على أن الكثير من جهلة هذا الزمان ممن لا يدركون من معارف البيان أو القرآن مثقال قطمير يظنون أن هذه الآية فيها تحريم لتعدد الزوجات بالكلية لنفيها القدرة على العدل بين النساء. وأن الآية الأخرى في مطلع السورة تشترط لجواز التعدد عدم الخوف من انعدام القسط، وذلك فهم خاطئ وموهوم، وهو إنما يدل على جهل مطبق بقواعد اللسان وأصول اللغة، فضلا عن الجهل بأسباب النزول لمثل هذه الآيات الكريمة. والمعلوم أن الآية التي في مطلع السورة ذات معنى ودلالة مستقلين تماما. والآية الثانية وهي الواردة هنا ذات بعد ومدلول من صنف آخر، فلا علاقة لهذه بتلك. ذلك أن الأولى كما بينّا في موضعه تتحدث عن تحرّج بعض المسلمين من نكاح اليتيمات اللواتي تربين في حجورهم خشية أن يظلموهن، فإن كانوا على مثل هذه الحال من التحرج فلا جناح عليهم أن يلتمسوا زوجات أخريات :( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) على ألا يكون في مثل هذا التعدد حيف يحيق المرأة، فإن كان ثمة حيف أو عدم عدل فلا. والمقصود بالعدل هنا ما كان مستطاعا وهو من مقدور الرجل وذلك كالإنفاق ونحوه. لكن العدل الذي لا يستطيعه أحد من الناس فهو ما كان وجدانيا أو نفسيا، أو ما كان مبعثه القلب والنفس. حيث الحب والبغض والشهوة.
قوله :( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) وهو نهي عن الميل بالكلية لإحدى الزوجات ؛ كيلا تظل الأخرى كالمعلّقة. أما المقصود بالميل كل الميل ففيه قولان :
الأول : وهو أنكم إذا ملتم بقلوبكم ونفوسكم إلى واحدة من الزوجات فلا تغلوا في الميل نحوها غلوا. ومفهوم هذا الرأي أن النهي واقع على الجنوح الوجداني بإسراف ومغالاة، فإن كان جنوحا في غير مغالاة فلا جناح فيه مادام مبعثه القلب أو النفس، لكن الجنوح في إفراط ومغالاة محظور ؛ لأنه يترك الأخرى كالمعلقة فلا هي زوجة ولا هي مطلقة.
القول الثاني : وهو أن المقصود بالميل المنهي عنه هنا هو العدول عن التسوية بين الزوجات في القسم والنفقة وغير ذلك مما يستطاع.
وما ينقدح للذهن من قول مرجح هو الأول. وهو ما يفرضه سياق النص الذي يضمن نفي القدرة على العدل مع ما يرافق ذلك من حرص. فإن كان الميل الذي يكون أصله القلب أو النفس مباحا فإنه لا يجوز لأحد بعد ذلك أن يجنح جنوحا مفرطا في الميل متذرّعا بنفي الإثم عند عدم العدل والتسوية كما بيّنا. فإن مثل هذا الجنوح المغالي يجعل المرأة كالمعلّقة. وهو جنوح كثيرا ما يقود إلى عواقب مذمومة تحيق بالمرأة وهي تجد نفسها لا على شيء. فلا هي مطلقة فتكون أجنبية يتسنى لها الزواج ولا هي زوجة بالفعل. ومثل هذه الدرجة من الجنوح قد نهى عنها الشرع وحذّر مرتكبيها تحذيرا شديدا، فقد أخرج الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط ".
قوله :( وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ) ذلك شرط إذا ما تحقق فإن الله يغفر للمسيئين المتجاوزين من الأزواج الذين يميلون في حبهم ورغبتهم كل الميل والذين لا يستطيعون أن يعدلوا ولو حرصوا. والشرط هو الإصلاح والاستقامة والتقوى، فإن على من يجنح نحو زوجة أن يبادر بإصلاح أمره وما حوله وأن يكون على تقوى من الله في جميع شؤونه. وله من الله بعد ذلك رجاء في الغفران والرحمة.
وقوله :( وكان الله واسعا حكيما ) الله الباسط المنّان صاحب الفضل والعطاء الواسع يهيء للعبد من الخير والفضل ما ليس في الحسبان، وهو سبحانه له في مقاديره حكمة قد نقف على بعض منها أو نجهل منها كثيرا١.
ذلك إعلان أكبر تقرره هذه الآية، وهو إعلان صادع مجلجل يخاطب الله فيه الإنسان من خلال كلمات سريعة قصيرة تحمل في مضمونها أعظم مدلول. وهو أن الله جلّت قدرته يملك كل شيء بما في ذلك السماوات ومن فيهن والأرض ومن عليها من خلائق وأحياء وما بين الأرض والسماء من كائنات وأشياء. فالله سبحانه هو المالك الأكبر الذي يهون دونه كل مالك في المالكين، وهو الغني الأكبر الذي يصغر دونه كل غنيّ. ذلك مدلول أساسي عظيم تحمله الآية ليعلم العبد أن الله هو القادر وأنه الغني بإطلاق وأنه مالك الكون كلّه أو الوجود كله.
هذا الإله الخالص الكبير المبدع جدير بالعبادة كلها وهو سبحانه قمين بأن يتّقيه الخلق جميعا وأن يوجلوا منه وجلا شديدا. وبذلك فقد وصّى الله هذه الأمة والأمم الخالية أن يتّقوه وحده من غير شريك. ولئن قارفوا شيئا من كفر بعد هذه التوصية وذاك الإعلان فإنه سبحانه لا يعبأ بهم جميعا ؛ لأنه غني عنهم فهو مالكهم ومالك غيرهم من سموات وأرض وغير ذلك من خلائق. فمن يملك مثل هذا الملك الهائل المطلق قمين ألا يعبأ بالناس كافة، سواء آمنوا أو ارتكسوا في الكفر ؛ ولذلك قال سبحانه :( وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ).
( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) وكيلا منصوب على التمييز ومعناه حافظا مدبّرا.
إلى هؤلاء تعلن الآية أن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة. وإذا أبى الناس إلا البغية والطلب فليبتغوا الدنيا والآخرة معا لا الدنيا وحدها. فابتغاء الدنيا من دون الآخرة معناه الحرمان الفادح من عطاء الله وفضله أو هو التخسير البئيس الذي يدنو دونه كل تخسير. وخير حال للمؤمن الصادق المخلص أن يدعو بمثل ما قالت الآية الكريمة عن عباد الله الصابرين الأطهار :( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) وقد جاء قوله هذا بعد قوله :( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ).
وقوله :( وكان الله سميعا بصيرا ) الله مطلع على أعمال الناس فلا يخفى عليه شيء. وما يفعل البشر من فعل ولا ينطقون من كلمة أو يشيرون من إشارة إلا كان الله رقيبا عليهم فهو يسمعهم ويراهم ويحيط علمه بهم وبما يستكن في دخائلهم من خبايا ومكنونات.
وقوله :( شهداء لله ) أي أن تأتي الشهادة بالقسط من أجل مرضاة الله وفي سبيله. والعدل أصل ركين أكبر من الأصول التي دعا إليها الإسلام. وهو أصل قامت عليه السماوات والأرض، وبالتالي قامت الحياة وما في وسطها من خلائق وكائنات. ذلك كله قد جاء بالحق والعدل، فضلا عن حكمة الله البالغة المقدورة فيما أراد وفيما قدّر وخلق.
وقوله :( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) حقيقة الشهادة بالقسط توجب ألا يتزحزح الشاهد عن كلمة الحق قيد أنملة فلا يحرّف ولا يبدّل ولا يكتم، فإن كان كذلك كان عن المقسطين، على ألا يجنح في الشهادة للسقوط في الهوى تحت ضاغط مؤثر من عاطفة الأنانية للذات أو الوالديّة التي تشد المرء نحو أبيه شدا، أو القرابة التي تثير في نفس الشاهد فيضا من الإشفاق والحياء. ولقد ذكرت الآية أصنافا ثلاثة من الناس هم أدنى الخلق إلى الشاهد، وقد جاء ذكرهم بالتحديد ؛ لأنهم مظنّة التهمة بما يثير الشك أو الريبة لدى النطق بالشهادة في أي ظرف من الظروف.
وقوله :( ولو على أنفسكم ) ينبغي للشاهد لدى النطق بالشهادة أن يقول الحق حتى وإن كان في ذلك ما يجعله مدينا فعلا. وذلك شرف له أمام الخالق إذ يكتبه من الصادقين الثابتين الذين ينطقون بالحق. وكفى بمثل هذا المرء أن يبوء بالفضل من الله والمثوبة وليكن بعد ذلك ما يكون مما يتصوره البشر عسيرا لا يطاق.
وقوله :( أو الوالدين والأقربين ) ( أو ) أداة عطف وما بعدها معطوف على أنفسكم. وذكر الوالدين فيه تأكيد مشدّد على إرساء حقيقة العدل في الذهن أولا ثم في ساحة الواقع الذي تتزاحم فيه القضايا والمشكلات وتكتظ فيه الخصومات والنزاعات بلا انقطاع. وهناك تستبين عزائم المؤمنين الثابتين الذين لا يخشون في الله لوم لائم، والذين يقولون الحق ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين وتستبين كذلك عزائم الضعاف والخائرين الذين تتهاوى فيهم الهمم والإرادات ليلوذوا بالمداهنة أو المصانعة تحت مطرقة الهوى الجارف الذي تلين أمامه أعصاب الكثيرين وهم تغشاهم غاشية من عاطفة حرّى أو حياء شديد.
قوله :( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) اسم كان محذوف وتقديره المشهود عليه. فلا ينبغي أن تتأثر الشهادة بحال المشهود عليه سواء كان غنيا أو فقيرا. فإن كان غنيا روعي لغناه رهبة أو قلقا، وإن كان فقيرا روعي لفقره عطفا وحدبا. فإن الشهادة لا تتقوّم على شيء من مثل هذه الاعتبارات وإنما تتقوّم على أساس موضوعي بحت لا تراعى فيه حالات الغنى والفقر أو الحسب والنسب أو الصهرية أو بقية الروابط القائمة على الشهوة والهوى. ينبغي أن تقوم الشهادة بقسط لا يعرف الميل أو الزيغ فإن كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فإن الله جل وعلا لهو أولى بكل واحد منهما، ولن يكون الشاهد أكثر عطفا أو حدبا عليه من الله، فالله وحده هو الذي يتولّى مثل هؤلاء وما على الشهداء إلا أن يؤدّوا الشهادة على وجهها الصحيح.
وقوله :( أن تعدلوا ) أي لئلا تعدلوا. وذلك متعلق بما قبله، فالله يحذّر من اتّباع الهوى، الذي يضيع معه العدل أو أنه إذا اتّبع الهوى رفع العدل.
قوله :( وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) قوله :( تلوا ) من الليّ وأصله اللّوي ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ليا. واللّي هو الميل والتحريف في الشهادة عن وجهها الصحيح، وذلك من الزور ومعناه الانحراف عن الحق والميل في الشهادة إلى الباطل. وذلك من أكبر الكبائر التي ندد بها الإسلام وحذّر من بشاعتها وفظاعتها التي يتجرجر بها الشاهد المفتري في جهنّم جزاء ما اقترف من كذب وتزييف. أما الإعراض عن الشهادة فهو كتمانها ورفض الإدلاء بها وهو حرام لقوله تعالى :( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ). وفي ذلك دلالة على وجوب أداء الشهادة عند لزومها أو عند حصول ما يدعو إليها، فإن مجرد إخفائها وتركها طيّ الكتم في الصدر غير جائز.
وقد حذّر الله المخالفين الذين يتبعون الهوى فيلوون في الشهادة أو يعرضون عنها بقوله :( فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) فهو سبحانه عالم بما تنطوي عليه القلوب من شهادات مكتومة حبيسة أو بما اجترحته نفوس الكاذبين من ازورار وتحريف في الشهادة. الله جل جلاله مطلع على هؤلاء الزائغين فمجازيهم الجزاء المفروض.
يأمر الله المؤمنين أن تعي قلوبهم وأذهانهم معاني العقيدة من حيث أركانها وفروعها وأجزاؤها ومقتضياتها وهم إن كانوا كذلك فلا جرم أنهم صائرون إلى الدرجات العلى من الإيمان. ولعل من يظن أن خطاب الله للمؤمنين وأمرهم فيه بالإيمان يتضمن شيئا من تكرار. وذلك ظن غير صحيح، فليس في الخطاب من تكرار ولا هو تحصيل لحاصل، ولكنه تأكيد للمؤمنين على الالتزام بقواعد الإيمان على أكمل وجه وترويض لهم على استلهام العقيدة استلهاما يلج بهم رياض الصالحين والأبرار.
وأركان العقيدة التي يوجب الخطاب أن تتركز في القلب والذهن هي : الإيمان بالله إلها خلقا منشئا من العدم، إلها يدين له العباد بالخضوع والامتثال والطاعة. ثم الإيمان برسوله الأمين ( ص ) وهو صاحب المحجة البيضاء ومعلّم البشرية ما فيه صلاحها وسعادتها في المحيا وبعد الممات وهو عليه الصلاة والسلام قائد المؤمنين إلى الجنة حيث النعيم المقيم. ثم الملائكة وهم عباد مكرمون أطهار ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) ثم الكتب المقدسة المنزلة من السماء التي يحوي كل منها بين دفّتين هدى وبشرى وفيه من العناية بالإنسان ما يسلك به سواء السبيل وما يلج به حومة الفوز والنجاة.
وكذلك اليوم الآخر وهو يوم عصيب مزلزل حقا. إنه يوم تتزلزل فيه الحياة والأحياء جميعا ويرتج فيه الكون والكائنات كافة لهول الموقف العسير المدمر الذي تقف فيه الخلائق ذاهلة واجمة حائرة تنتظر الحساب وتنتظر من الله فصل الخطاب. ذلكم هو يوم القيامة.
وقوله :( والكتاب الذي نزل على رسوله ) المقصود به القرآن، فقد نزله الله منجما مفرقا. وقوله :( والكتاب الذي أنزل من قبل ) يقصد بالكتاب مجموعة الكتب السماوية التي نزلت على المرسلين قبل نبي الإسلام عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين. وقوله :( أنزل ) معناه نزل دفعة واحدة من غير تنجيم خلافا للقرآن فقد نزل بحسب الحاجة والوقائع طيلة فترة البعثة الطاهرة، فكان ذلك أرسخ للدين في العقول والقلوب، وأمكن له في النفس وفي واقع البشر. وتلك حقيقة لا مراء فيها، حقيقة ينطق بها التاريخ والضمير وما قدّمته أمة الإسلام للبشرية من عطاء هائل في كل ميادين الحياة.
وقوله :( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) هذه أركان العقيدة التي لا يصح إيمان امرئ إلا إذا استيقنتها نفسه. هي أركان تقوم من الدين مقام الركائز والأساسيات التي ينهض عليها بنيان الدين كلّه مع الاعتبار بأن ثمة ركنا سادسا هاما لا مفر للعبد من استيقانه ألا وهو القضاء والقدر.
إن هذه الركائز والأساسيات تأتي متتامة متكاملة ولا بد من الإيمان بها جميعها ؛ لأنها بمجموعها وحدة متماسكة واحدة من العقيدة الثابتة المكينة التي لا تقبل التجزئة والتنجيم. ولا يعني أحدا إيمانه إذا ما آمن ببعض هذه الأركان وكفر ببعض، كأن يؤمن بالله وحده من غير إيمان ببقية الأركان، أو أن يؤمن بمعظم هذه الأركان ثم يكذّب بأحدها مثل يوم القيامة أو القضاء والقدر، فلا جرم أن يكون ذلك كفرا بواحا يدمغ صاحبه بوصمة الجحود ليهوي به في جهنم. وذلك الذي قال عنه سبحانه :( فقد ضل ضلالا بعيدا ) أي بعد عن صراط الله المستقيم وكان مع التائهين الذاهلين الذين ضلّوا الطريق وأوغلوا في الضلالة والعمه والبعد.
ذلك في المتلجلجين المرتابين الذين لا يثبتون على حال مستبينة من الإيمان أو الكفر، فتارة يؤمنون وأخرى يكفرون وثالثة يؤمنون، وبعد ذلك يرتكسون في الكفر ثم يزدادون شقاوة وارتكاسا. وتلك أسوأ حالات التردد في حياة الإنسان المتأرجح. الإنسان الذي يراوده التفكير المستديم بالنقلة من حال إلى حال من غير تثبّت أو استيقان، ومن غير اقتناع موثوق أو برهان إلا الرغبة الجانحة الهوجاء التي تسوّل للمرء أن يظل متأرجحا بين الإيمان والكفر أو بين التصديق والنفاق. وهذا الصنف المتلجلج من الناس الذي ينتكس مرتدا بعد إيمان ثم يقلع عن الكفر ليعود في حومة الإيمان من جديد، ثم تعاوده الشقاوة والضلال بعد ذلك ليبوء بالكفر مرة أخرى وعلى نحو مزيد من الكفران بما هو أشد وأعتى مما كان عليه حال كفره السابق، هذا الصنف من الناس ( لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ) ؛ وذلك لأنهم لجّوا في الكفر بالارتداد أكثر من مرة ثم تمادوا في كفرهم الأخير وماتوا وهم كفار. وهؤلاء لا توبة ولا غفران لهم وهم كذلك محرومون من أن يسلكوا سبيلا إلى الجنة. وإنما مردهم إلى النار وبئس القرار.
وفي العزة من حيث مصدرها وامتلاكها وإيتاؤها يقول سبحانه :( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) فالله صاحب العزة ومالكها ومؤتيها لمن يشاء ونازعها ممن يشاء، وليس له في ذلك شريك. ويقول عز وجل في النهي عن موالاة المؤمنين للكافرين :( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ). ويقول سبحانه مخاطبا المؤمنين :( لا تتخذوا آباؤكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ) ويحذّر النبي ( ص ) من الاستنصار بأحد سوى الله : " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " ١.
وقوله :( أن إذا سمعتم آيات الله ) معناه : أنه إذا سمعتم.. ، ليكون الضمير المتصل اسم أن، وهي هنا مخففة. ولا ينحصر مدلول الآية في مثل هذا السبب المذكور لكن مدلولها ينسحب ليشمل كل حادثة تمتهن فيها كلمات الله أو كتابه الحكيم. وأي امتهانه من هذا القبيل لهو عين الكفر الصراح الذي لا يحتمل وجها آخر، ولا يجرؤ على النيل من كلام الله بالطعن أو السخرية أو الاستهزاء أو التجريح أو الغمز أو التعييب بشيء من تحقير أو زراية إلا معاند كافر أو منافق جحود يخفي في نفسه الكفر.
وقوله :( فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) ذلك نهي واضح عن القعود مع هؤلاء الكفرة في مجالس السوء حيث يقع التطاول الظالم على كلام الله بالقدح أو الزراية والاستخفاف. على أن القاعدين في مثل هذه المجالس يختلف في شأنهم الحكم بالنظر للمواقف التي يكون عليها هؤلاء القاعدون. فإذا كان القاعد مستمعا لألسنة السوء وهي تنطق بالكفر وتتناول آيات الله بالتحقير والاستخفاف، دون أن يردّ عليهم طعوناتهم وأباطيلهم ودون أن يسفّه فيهم الأحلام الفاسدة والمفترية لينافح بذلك عن دين الله فإنه إذن مثلهم. وهو مثلهم من حيث المعنى غير أنه من حيث الحكم والصورة يكون منافقا، ومعلوم أن الكافرين والمنافقين جميعا في النار.
ذلك هو شأن الذي يقعد في مجالس الكفرة وهم يسخرون من كتاب الله وهو ساكت راض يحمل في نفسه الموافقة بالإقرار بما يقال من كذب وخسة وتخريص. وهو لا يعبأ بما يسمعه من اجترار لئيم تزدرده حناجر الكافرين والمارقين عن الإسلام إذ يتناولونه بالشتائم والقبائح من القول المهين والتجريح المسف. فلا جرم أن يبوء القاعدة في هذه المجالس بالكفر لرضاه بما شاهد وسمع من غير أن يختلج فيه القلب اختلاج الغاضب الغيور على دين الله أن تنتهك حرمته.
وإذا كان الحاضر لمثل هذه المجالس يعلم في نفسه القدرة على الرد على ما يساق من افتراء وتخريص، والتصدي لحملات الكذب والتشويه التي تثار في وجه الإسلام أو كتاب الله الحكيم، فقد بات الرد في حقه أو التصدي واجبا ؛ لأن ذلك ضرب من ضروب الجهاد الذي تنتشر بموجبه كلمة هذا الدين الحنيف أو ترتد عنه أقوال السوء والافتراء والأباطيل التي يثيرها أعداء القرآن في كل زمان.
ويمكن أن يقاس على ذلك حضور مجالس الفسق والعصيان التي تجري فيها المعاصي والموبقات من خمر وقمار ولهو ومفاسد أخرى. ولا ريب أن ينسحب الحكم بالحظر كما بينّاه آنفا على مثل هذه الحالة أيضا. فإن القعود مع العصاة والفسقة وهم يقارفون ألوان الحرام يعتبر حراما ؛ وذلك لأمرين :
أحدهما : أن السكوت على ما يقع من معصية حال حضورها دليل الموافقة والرضا، وهو فيه من الإقرار والقبول ما ينافي عقيدة المسلم القاضية بالغضب والانفعال والنكير في مثل هذه المواقف. وشأن المؤمن في هذه الحال أن يكون ناهيا عن المنكر وإن احتمل في ذلك أذى وإعناتا.
ثانيهما : أن القعود في مثل هذه الجلسات التي تقع فيها المعاصي لهي مظنّة الغواية والفتنة بما يوشك أن يغري القاعد بالمشاركة في المعصية نفسها، أو أن القعود نفسه مدعاة تفضي للسقوط في المعصية، فهو إذا ما قعد فإن بواعث السقوط في المحظور تجذبه نجوه جذبا. وعلى ذلك فإن القعود في مجلس المعصية حرام وذلك من باب سد الذرائع، وقد ورد في مثل هذا المعنى عن النبي ( ص ) : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر ".
قوله :( حتى يخوضوا في حديث غيره ) إذا أقلع الجالسون عن الخوض في آيات الله وانصرفوا إلى حديث آخر فلا على المؤمن بعد ذلك أن يجالسهم عسى أن يكون في مجالسته لهم ما يؤثر فيهم بإسماعهم أخبار العقيدة والإسلام وترغيبهم في الاحتكام إلى الشريعة الكريمة الغراء التي تأتي بالخير وتباعد بين الإنسان وكل ظواهر الضر والشر.
وقوله :( إنكم إذا مثلهم ) إذا حضر أحد مجلس الكافرين وهم يفترون على دين الله وكتابه الحكيم فإنه وإياهم في الحكم سواء مادام يشهد ذلك في سكوت ورضى. أو أنه شريك في الإثم ؛ لأنه شهد المعصية أو الكفر وهو ساكت فقد رضي بما وقع. والرضا بذلك إثم وهو صنو الفعل المحرّم نفسه. وقد كان عليه أصلا أن يغادر هذا المجلس فلا يقعد مع الكافرين الخائضين في آيات الله إلا أن يجد في نفسه القدرة على التصدي للظالمين الخراصين فيرد مقالاتهم وافتراءاتهم بالحجة والمنطق المؤثر السليم.
قوله :( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) هؤلاء الذين يحضرون مجالس الكافرين وهم يفترون على الإسلام والقرآن الحكيم من غير تصد لهم أو ردّ عليهم فيما يقولون أو يهذون من سخرية فإنهم منافقون ولهم من العذاب ما للكافرين. وهو والكافرون يتقحمون في النار جميعا بما قارفوا من خوض في آيات الله بالتجريح والسخرية أو بما أظهروا من نفاق ينطوي على كفر مستور١.
أما إذا ابتلى الله المؤمنين باندحار وتقهقر فكان بذلك للكافرين نصيب من النصر والإدالة على المؤمنين بادر المنافقون بالقول للمشركين :( ألم نستحوذ عليكم ) الاستحواذ من الحوذ ومعناه الحوط. نقول حاذ الشيء أي حاطه وحافظ عليه. واستحوذ الشيء بمعنى : تغلب عليه واستولى عليه.
يقول المنافقون المذبذبون للمشركين إذا كان لهم نصيب في الغلبة مرة : ألم نغلب عليكم فكان لكم النصر على المسلمين. ولولا أن مكنّاكم من ذلك بتخذيلنا عنكم المسلمين ونشر الوقيعة والرهبة في صفوفهم لما كان لكم أن تظفروا ما ظفرتم به من غلبة ونصر، ومرادهم من ذلك كله أن ينالوا حظا من الغنيمة التي كسبها أعداء المسلمين والدين.
وقوله :( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) ذلك تخويف لهؤلاء المراوغين المخادعين الذين يأتون المسلمين بوجه والمشركين بوجه آخر. إنه تخويف مؤثر حقا لو كان هؤلاء على شيء من التبصر السديد أو التقوى، أو لو كانت طبائعهم سوية بغير خلل أو فساد. إن الله يحكم بين الناس يوم القيامة ليفضح أمثال هؤلاء المنافقين فيكشف عن مستور نواياهم وما تخفيه قلوبهم من ضغينة ورجس ليكون ذلك أمام الخلائق كلها في مشهد كوني معلن يطلع عليه الناس جميعا فإن ظن المنافقون أنهم مغمورون وأنهم يسترهم تذبذبهم الرخيص وتأرجحهم المضطرب بين هؤلاء وهؤلاء فإن ذلك مما يستطيعونه في الدنيا علما بأن الشرع لا يقضي إلا بحسب الظاهر، لكن المنافقين مردهم إلى الله جل وعلا فهو الكفيل بمجازاتهم أشد المجازاة لينالوا من العذاب الأكبر ما لا يتصوره ذهن ولا يخطر ببال.
قوله :( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) والسبيل بمعنى الحجة والسلطان والغلبة. وقد ورد في تفسير هذا النص الكريم جملة أقوال نعرض لأبرزها وهي ثلاثة :
القول الأول : وهو مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إذ سئل عن معنى الآية فقال : ذلك يوم القيامة يوم الحكم. أي أن الكافرين مغلوبون يوم القيامة، ولن يجعل الله لهم هنالك سلطانا أو حجة على المسلمين لما يحيق بهم من ذلة وقهر. ولست ميالا لهذه القول لما فيه من تحصيل لحاصل لا فائدة في بيانه وذكره. فإنه من معلومات الدين الجلية أن الكافرين يوم القيامة مقهورون، وأنه لن تكون لهم إذ ذاك غلبة أو سبيل على أحد، فضلا عما يحيق بهم من عار وخزي وعما يرهق وجوههم من ذاته وقتر. ويبدو أن قوله :( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) السابق قد حمل للذهن أن المقصود بالآية واقع يوم القيامة وذلك مجانب للصواب.
القول الثاني : المرد بالسبيل للكافرين على المؤمنين هو الاستيلاء المطبق الذي يكون فيه استئصال شأفة المسلمين والقضاء عليهم قضاء مبرما تتبدد فيه دولتهم وكلمتهم وينمحي فيه كيانهم البتة. أما إذا ألمت بهم هزيمة جانبية فذلك ليس بغريب وهو من ابتلاء الله لعباده المؤمنين ؛ إذ يكون لهم النصر تارة ولأعدائهم تارة أخرى، لكن هزيمة فيها اصطلامهم ومحوهم وإبادتهم فغير كائنة بعون الله.
القول الثالث : يكون السبيل للكافرين على المؤمنين إذا انصرف المؤمنون عن دينهم فاستحبوا العمى على الهدى وارتضوا بشريعة الكفر والباطل لتكون مكان شريعة الله ولم يغيروا من واقع المعصية والفساد حتى استشرى ذلك بين العباد، فعمت الرذيلة والفوضى، واسترخى المسلمون للشهوات فلم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر. فإذا بلغ الأمر كذلك أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده فيسلط عليهم من الأعداء اللد من يستبيح دماءهم وديارهم ثم ينكل بهم أشد تنكيل أو ينتزعهم من وطنهم ليتفرقوا في البلاد ضائعين حيارى أو يقضي على كيانهم ودولتهم ليظلوا ضعافا مهزومين.
مثل هذه الحالة من العصيان والفساد يبلغها المسلمون، تبرر التدمير والاستئصال والإبادة. ذلك ما ذهب إليه بعض المفسرين في تأويل هذا النص القرآني الكريم. وهو تأويل تعززه وقائع رهيبة حلت بالمسلمين فذاقوا خلالها ويلات وشدائد على ضروب من البلاء كثيرة ومتعددة منها التقتيل والتشريد وتخريب العمران والبنيان والاستئصال الكامل للحضارة من أساسها حتى باتت أثرا بعد عين. وما كان ذلك إلا بعد أن ذهل المسلمون عن دينهم فأخلدوا للشهوات والهوى وتركوا شريعة الله وراءهم ظهريا١.
وقوله :( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ) هذه حال المنافقين إذ قاموا إلى الصلاة، فإنهم لا يقومون إلا في تثاقل وتقاعس وكسل. وهم لا يحفزهم إلى ذلك شيء من رغبة أو يقين إلا المراءاة طلبا لمرضاة الناس أو تخلصا من جزاء يفرض عليهم لتقصيرهم وتخلفهم عن أداء واجب من الواجبات. والرياء هو التظاهر بالسلوك الحسن ليراه الناس من غير إخلاص لله أو ابتغاء لرضوانه، وهو صورة من صور الشرك بل هو الشرك الأصغر. وفي الحديث الشريف " اليسير من الرياء شرك ".
والصلاة هي عماد الدين وركيزته الأولى وأشرف ما في الإسلام من أعمال لكنها تستلزم همة ونشاطا كبيرين. وبذلك فإنه كثيرا ما يتخلف عنها المنافقون لافتقاد ما يحفزهم إليها أو يرغبهم فيها، وهم لا يأتونها إلا راغمين كسالى ولا يؤدونها إلا وهم فارغة أرواحهم وقلوبهم من أي معنى أو خشوع، وأكثر ما يتخلفون عن صلاة العشاء والفجر، وهم ينتشر فيهما الظلام فلا يراهم الناس. وفي ذلك يقول النبي ( ص ) كما ثبت في الصحيحين : " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ".
وقوله :( ولا يذكرون الله إلا قليلا ) المنافقون تخلو قلوبهم من الإيمان فهم صنف من البشر الخبيث الفاسد الذي يخفي في نفسه الكفر ويتراءى للناس في مظهر أو سمت حسن. وهم في حقيقتهم جاحدون منكرون ولا يحملون لله في نفوسهم أي وقار أو خشية أو ذكر إلا بقدر ما يتظاهرون به أمام الناس أنهم مسلمون. وهم إذا ما ذكروا الله فلا يذكرونه عن خشية وخشوع وإنما يذكرونه على مرأى من الناس ليرضوا عنهم وبذلك يكون ذكرهم لله قليلا حسبما تقتضيه طبيعة النفاق من آن لآخر. وقيل في تأويل ذلك : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا زمانا قليلا.
وقوله :( ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) هؤلاء المنافقون الفاسدون قد آثروا الباطل وارتضوا لأنفسهم أسوأ أسلوب من التدسس الرخيص والاضطراب المتلجلج. وكان عليهم أن يختاروا منهج الله القائم على الحق والثبات والقسطاس المستقيم، ولله سبحانه يحب لعباده أن تستقيم حاله ليحيوا آمنين مسلمين مطمئنين. لكن هذه النفوس الملتوية المريضة تأبى منهج الله الذي يفرض الحق والاستقامة وحسن القصد، وتأبى إلا أن تعيش في الظلام والضلال فاستحقوا بذلك أن يضلهم الله ليكونوا من أهل الشقاوة والعذاب. أو أن الله جلت قدرته قد هيأ لمثل هؤلاء من أسباب الهدية ودواعي الخير والاستقامة ما يكفي لحمل المرء على المضي في ظل الله وعلى صراطه المستقيم، لكنهم جنحوا في عتو وتمرد ليكونوا في أصحاب السعير وليفروا من نداء الله الكريم إلى نداء الشيطان الرجيم مثلما تفر الحمر البطرة المستنفرة من نداء راعيها المشفق الرحيم١.
يحذر الله عباده المؤمنين من اتّباع الكافرين واتخاذهم أعوانا وأنصارا. وأشد من ذلك نكرا أن يصاحب المؤمنون الكافرين ويسروا إليهم بالمودة بما يكون في ذلك من إفشاء لأحوال المؤمنين وأوضاعهم، وما يكون فيه كذلك من تنكر للمؤمنين أنفسهم وحيف عليهم بالتآمر والممالأة لأعدائهم المشركين. ولا جرم أن ذلك ضرب من الخيانة التي يمارسها ضعاف الإيمان على حساب المسلمين جريا وراء مصلحة محدودة أو طمعا في مأرب من المآرب التافهة الرخيصة.
وقوله :( أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ إذ تتضمن الآية سؤالا فيه استنكار لما يقوم به بعض ضعاف الإيمان من الإسرار للمشركين ومالأتهم لهم على حساب المسلمين. فإن الله يستنكر مثل هذا التصرف غير المقبول الذي يكون لله بموجبه الحجة والبرهان لعذابهم وإنزال العقوبة الشديدة بهم.
والمنافقون أسوأ حالا ومآلا من الكفار، وذلك بالنظر لشدة إفسادهم ولما يؤول إليه خبثهم وسلوكهم المشين من مخاطر تأتي على الإسلام فتهزه من الأعماق هزا، وتأتي على المسلمين فتذيقهم ألوانا من المكائد والدسائس فيما يعود عليهم بالهزيمة والتدمير إلا أن يحوط الله المؤمنين برعايته وعنايته، والمنافقون صنف من الخليقة الحقيرة التي تتزين بالمظهر الخادع الحسن، وتتكلف من حيث الأسلوب والعبارة ما ينطلي على كثير من المخاليق ؛ وذلك لفرط البهاء المصطنع الذي يجلل وجوه هؤلاء المنافقين وهم يخادعون الناس في مكر وخسة من خلال مظهر كاذب مصطنع يخفي وراءه نوايا الحقد والإجرام.
وكم يهون الأمر لو كان العدو مستبينا مكشوفا. فإننا إذ ذاك نمسك بالحذر والحيطة لنكون متنبهين يقظين حتى إذا بادرنا هذا العدو المكشوف بالعدوان دفعناه في صولة جادة محسوبة بعد أن نكون قد أخذنا الحساب لذلك كله. لكن العدو الذي يتظاهر بالإسلام ويصطنع مع المسلمين أعمال العبادة وهو يخفي في نفسه الحقد والكراهية ويتمنى في دخيلته أن تدور على الإسلام والمسلمين الدوائر، فذلكم يحذر منه القرآن بين حين وآخر أشد تحذير.
هذا الصنف الوضيع من الناس قد أعد الله لهم العذاب بما قارفوه من خديعة وتآمر. لقد أعد لهم أن يكونوا في الطبقات السفلى من النار وهي الدركات. وقد روي عن عبد الله بن مسعود في معنى الدركات أنها توابيت من حديد مقفلة وهي في أسفل النار. وكل ذلك يدل على فظاعة النفاق وأنه طريق إلى النار، بل إلى أسوء الدركات في النار.
وقوله :( ولن تجد لهم نصيرا ) إذا هوى المنافقون في الدركات من النار وتقاحموا هناك كما تتقاحم القردة والثيران وعانوا في العذاب أشد المعاناة، فإنه ليس هنالك من ينقذهم أو يستجيب لعويلهم. ولن يكون لهم إذ ذاك نصير ولا مجير.
والتوبة تتضمن الندامة عن فعل الحرام والعزم على عدم العودة وذلك يستتبع عمل الخير كالإصلاح والاعتصام بحبل الله المتين ؛ وذلك من أجل أن يكتب الله المغفرة ويتجاوز عما قارفه العبد من سيئات، أما إخلاص الدين لله فهو نقيض النفاق والرياء، وعلى الذي كان منافقا أو على شعبة من النفاق أن يبادر بالتوبة ثم يخلص النية والقلب لله ليكون مستسلما منقادا أو على شعبة من النفاق أن يبادر بالتوبة ثم يخلص النية والقلب لله ليكون مستسلما منقادا إلى الخالق دون سواه. وعلى ذلك فالتوبة والإصلاح والاعتصام بالله أو برباط العقيدة ثم إخلاص الدين لله في مجانبة كاملة للشرك أو النفاق والرياء والنفاق كل أولائك سبب في الدخول في حومة الإيمان والتقوى بعد الرياء والنفاق والمخادعة ؛ ولذلك يقول سبحانه :( فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ) المراد من اسم الإشارة ( فأولئك ) الذين كانوا منافقين ثم تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله. فمثل هؤلاء قد بابوا مؤمنين وقد وجب إدراجهم في صف المؤمنين ولهم من الله أجر عظيم لتوبتهم وإصلاحهم وإخلاصهم.
وقال الحسن البصري في معنى الآية : لا يدعو عليه وليقل اللهم أعنّي عليه وأستخرج حقي منه. وروي عنه أيضا جواز الدعاء من المظلوم على من ظلمه، فالسوء من القول هو الدعاء على من يظلم الناس.
وذهب بعض العلماء إلى إدراج حق الضيافة في مدلول الآية باعتبار أن الضيف له حق الضيافة عند مضيفه، فإن على المضيف أن يُقري ضيفه، ويتحفه بالتكريم والعناية وإذا لم يؤد له هذا الحق بات الضيف مظلوما وله عند ذلك أن يجهر بالتشهير بمثل هذا الظلم، وذلك من باب الجهر بالسوء من القول، وقيل غير ذلك١.
وجملة القول أن يتسامى المؤمن عن القول السيئ في كل الظروف والأحوال إلا أن يكون مظلوما، فإن كان كذلك فله أن يجهر بالكشف عن ظلمه وعما حاق به من ظلامة. يؤيد ذلك قوله في آية أخرى :( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ).
وقوله :( وكان الله سميعا عليما ) ذلك تخويف لمن يحتمل للناس ظلما ولمن يتجاوز في الجهر بالسوء من القول إذا ما وقع عليه ظلم. أي أن ذلك تحذير للظالم كيلا يظلم، وللمظلوم كيلا يتعدى الحد في الانتصار لنفسه.
قوله :( ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ) معناه أنهم يفرقون بين الإيمان بالله، والإيمان برسل الله. ذلك أنهم آمنوا بالله وجحدوا نبوة بعض الرسل وهم مع ذلك يظنون أنهم على شيء. وهم في الحقيقة ليسوا على شيء. فالتفريق في الإيمان بين الله ورسله كفر ؛ لأن الله فرض على الناس أن يعبدوه بما شرعه لهم على ألسنة الرسل فإذا جحدوا الرسل وردوا عليهم شرائعهم كانوا من المستنكفين عن التزام العبودية لله وذلكم كفر.
قوله :( ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ) ذلك أن أهل الكتاب يجاهرون معلنين عن جحودهم نبوة بعض المرسلين مثل تمالؤهم على نكران نبوة محمد ( ص ) فهم ينكرون أي ذكر لهذا النبي الكريم، ويزعمون في كذب ظالم أنهم لم يجدوه في كتبهم، مع أن الأخبار الصحيحة المستفيضة التي احتوتها كتب السيرة وأقوال الباحثين والعلماء وأحبار اليهود قد أجمعت على ذكر النبي محمد ( ص ) في الكتب المنزلة من قبل القرآن. وليست المسألة بعد ذلك منوطة بالذكر أو البيان أو الإعلان، ولكن المسألة منوطة بالنفوس التي يخالطها المرض والضغينة. أو الطبائع الوالغة في الزيف والفساد، فلا تستمرئ غير الكذب والخداع والافتراء، ولا تستسيغ إلا العيش في الرجس والخضوع للهوى الجانح والمزاج المريض.
إن هذه النفوس والطبائع هي التي تسول للمشركين والجاحدين أن ينكروا نبوة الرسول العظيم خاتم النبيين والمرسلين لا لشيء إلا مجانبة للحق وركونا للشيطان.
وقوله :( ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ) أي طريقا وسطا بين الإيمان والكفر. فإيمانهم ببعض النبيين وكفرانهم بآخرين أوهمهم أنهم ماضون في طريق سليمة وسط، لكن ذلك عين الجحود والكفران، لقوله سبحانه فيما يصف هذا الصنف من الناس :
وهؤلاء قد وصمتهم الآية بالكفر الصراح من خلال تعبير حاسم لا يعرف المداهنة أو اللين في مثل هذا الموقف فقال سبحانه :( الكافرون حقا ) وذلك تأكيد قاطع على أن هؤلاء كافرون كفرانا كاملا كيلا يتغرر بهم أحد فيتوهم أنهم على شيء من الإيمان ؛ لأنهم يصدقون بعض النبيين. وقوله :( حقا ) منصوب على الصدر. وعامله محذوف. أي حق ذلك حقا. وقيل : حقا صفة لمصدر الكافرين أي هم الذين كفروا كفرا حقا لا ريب فيه. وهذه القضية بالذات يعاني منها الدعاة إلى الله، الذين يحملون عقيدة الإسلام عن وعي وثقة عميقين في هذا الزمان وهي أن كثيرا من الذين يحملون عقيدة الإسلام عن وعي وثقة عميقين في هذا الزمان وهي أن كثيرا من المخدوعين الجهلة يفترون على الله الكذب وهم يصدرون الفتوى الضالة بأن أهل الكتاب مؤمنون وأنهم ليسوا كافرين. ذلك افتراء جاهل وكذاب وخبيث لا يقوله إلا جهلة مضللون أو معاندون معرضون من خصوم الإسلام الذين ينتشرون في جنبات الأرض في كل زمان. ونود أن نذكر في حسم قاطع أن أهل الكتاب ليسوا مسلمين ولا مؤمنين. فإن المؤمن كما يصوره الإسلام هو الذي آمن بالنبيين والمرسلين جميعا من غير أن يجحد نبوة أحد منهم. وإذا لم يكن كذلك فهو في شرع الإسلام كافر.
وقوله :( واعتدنا للكافرين عذاب مهينا ) أي هيأنا لهم يوم القيامة عذابا يعانون فيه مرارة الويل والمهانة ؛ وذلك جزاء جحدهم بعض النبيين وهم يظنون أنهم مؤمنون لإيمانهم ببعض النبيين. والصحيح أن هذا النوع من الإيمان لا يغنيهم شيئا ولا يدفع عنهم وصمة الكفر ولا يرد عنهم سوء العاقبة حيث الجحيم الحارق الذي تصطلي فيه جلودهم وأبدانهم.
هذه هي أمة الإسلام، أمة النبي الخاتم محمد ( ص )، وهي خير الأمم بحق وجدارة لما يتجلى فيها من خصائص كبرى لم تتيسر لغيرها من الأمم من الغابرين. وهي خصائص تتبدى في اكتمال دينها بما يتسم من اتساع ومرونة وشمول يتناول أطراف الحياة كلها، ويغطي حاجات الإنسان جميعها سواء في ذلك حاجات النفس أو البدن أو العقل أو الروح.
هذه هي أمة الإسلام التي تقوم على العقيدة المتينة المستنيرة، وعلى الفكر العميق السليم والتصور السوي المستقيم بعيدا عن الهوى والتعصب الذميم فلا جرم أن تكون رائدة الأمم لتقود قوافل البشر عبر الأدهار والسنين إلى السعادة والسلامة والرخاء. ولا جرم أن يثيب الله هذه الأمة خير الثواب، وأن يغفر لها الذنوب والخطايا برحمة منه وفضل١.
وفي قول آخر أشد نكرا وهو أنهم سألوه ( ص ) أن يصعد إلى السماء بنفسه وهم ينظرون إليهم ثم يعود إليهم بكتاب من عند الله فيه تصديق له. وذلك هو التعنت الجاحد المكابر والتحدي الفاخر الذي لا يستند إلى منطق ولا خلق إلا اللجوج والعتوّ والصلف. إنه منطق الفاجرين الحمقى وخلق المعاندين والمرضى في غير ما اعتدال ولا اتزان لا في الطلب ولا في السؤال ولا في الاقتضاء ولا في التخاطب ولا في غير ذلك من أساليب السلوك والتعامل. والمسألة لا تحتمل مثل هذا العنت والجحد ولا مثل هذا السؤال الفاجر الخصيم، لو كانت الطبائع سليمة سوية أو كانت النفس مبرأة من اللّىّ والمرض. وكل الأمر أن رجلا من الناس قد أوحي إليه فاحتمل أمانة التبليغ والإرشاد، مع أنه في شخصه وسلوكه وسيرته وفي مجموع طبائعه وسجاياه يزجي بأوفى الدلالة على أنه نبي مرسل. ومعلوم لكل ذي لب أن من يحتمل الكذب لا جرم أن تتبدى في شخصه علائم الكذب ولو بعد حين، لكن هذا النبي الأمي ( ص ) كانت تتجلى في خلقه وسلوكه وخطابه أجلى معاني الصدق والأمانة والطهر بما يبعث على اليقين الأوفى أنه رسول كريم وأنه نبي أمين.
لم يثبّت الله نبيه بالقول الثابت وهو يبين له عن سؤال من اليهود لنبيهم موسى كان أشد نكرا مما سألوه ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) وهو سؤال لا جرم أن يكون أشد فظاعة ونكرا وأشد عتوا واجتراء على الباطل والاستكبار، فقد سألوا نبيهم موسى أن يطلعهم على الله جهارا عيانا ودون حجاب. وذلكم سؤال مقبوح ومرفوض من الوجهة الدينية التي تستند إلى الوحي والعقل. فرؤية العبد لله لا تتحقق وذلك بالنظر لطبيعة الإنسان التي فطر عليها فهو ذو طبيعة نفسية وروحية وعضوية لا تتيسر له بموجبها حقيقة الرؤية لربه، وذلك مطلب كبير وخطير لا يقوى على إطاقته واحتماله إلا من كان ذا طبيعة أخرى طبيعة تتضافر فيها أسباب القوة والاحتمال والتماسك إذا ما تجلى الله للإنسان. غير أن هذه الطبيعة على نحوها وتركيبها الحاليين لا تقتدر أن ترى الله جهرة. ومن جهة أخرى فإن الإجتراء على مثل هذا الطلب ينافي أدنى مقادير التواضع الذي تفرضه العقيدة الكريمة السمجة أو ينافي ظاهرة الخوف من الله أو الخضوع له إذ لا يجترأ على مثل هذا الطلب الفاسق إلا لئيم جاحد أو عتل أثيم ؛ ولذلك قد استوجب اليهود أن يحيق بهم عذاب من الله جزاء شركهم وعتوهم. فقال سبحانه :( فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) والصاعقة هي نار تسقط من السماء مقترنة بصيحة الرعد العاتية المدمرة وقوله :( بظلمهم ) أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم الفاجر الكنود.
وقوله :( ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ) بعد أن بعثهم الله عقيب أخذهم بالصاعقة، وبعد أن نجاهم الله من طغيان فرعون وإغراقه في اليم، وبعد أن جاوزوا البحر سالمين آمنين رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم فقالوا لنبيهم موسى عليه السلام :( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) وذلك بيان لقوله هنا :( ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ) فإنه رغم معرفتهم بفظاعة الإشراك واشتداد غضب الله على المشركين بالرغم من ذلك كله فقد سألوا نبيهم موسى أن يجعل لهم إلها. وتلك غاية الصفاقة والحماقة والعمه، وغاية ما يبلغه الجاحد من استهتار وفسق وتوقح.
لكن رحمة الله أكبر من كل خطيئة وأوسع من الأرض والسماء والكائنات، فإن رحمته وسعت كل شيء حتى وسعت كفران بني إسرائيل وعتوهم وتمردهم على ربهم بالرغم مما قارفوه من فظائع نكيرة من قتل وإفساد وتقديس للعجل ومطالبة عاتية برؤية الله جهرة، إنه مع ذلك كله امتن الله على هؤلاء القوم فغفر لهم ( فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ) فقد عفا الله عن بني إسرائيل بما ارتكبوه من خطيئات، وكذلك قد ثبت الله نبيه وكليمه موسى ثتبيتا مبينا بما آتاه من حجج وبراهين وهي الآيات الباهرات الدالة على صدق نبوته ورسالته.
وكذلك قد أمرهم الله بقوله :( لا تعدوا في السبت ) أي ألا يعتدوا باصطياد الحيتان لدى اقترابها من الساحل فيسهل اقتناصها وذلك في يوم السبت وهو من الفعل سبت ومعناه قطع والسبت يعني القطع والراحة. وجمعه أسبت وسبوت. والمسْبت الذي لا يتحرك١ وعلى هذا فإن مثل هذا اليوم كان بنو إسرائيل مكلفين بالانقطاع للعبادة وعدم الاصطياد في البحر.
وقوله :( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) الميثاق هو العهد وقيل اليمين. وذلك يعني أن الله قد أخذ عليهم عهدا مؤكدا موثقا بتنفيذ ما كلفهم به من أوامر كدخول الباب سجدا وألا يعتدوا باقتناص الحيتان يوم السبت٢.
٢ - روح المعاني جـ ٦ ص ٦- ٨ وتفسير الطبري جـ ٦ ص ٦-٨..
وقوله :( وكفرهم بآيات الله ) المقصود بآيات الله البراهين والمعجزات التي تحققت على أيدي النبيين من بني إسرائيل. وقيل هي الكتب السماوية المنزلة على أنبيائهم والتي حرفوها وبدلوها تبديلا فباتت كتبا مزيفة محرفة.
وقوله :( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) الأنبياء مفعول به منصوب للمصدر ( وقتلهم ) الذي ينوب مناب الفعل، وتلك جريمة نكيرة من جرائم شتى اركبها اليهود على امتداد حياتهم، وهي جريمة غليظة كبرى اقترفها اليهود وهم يعتدون على أنبياء الله ليسومهم التعذيب والتقتيل. وليت الأمر اقتصر على واحد أو اثنين من النبيين يقتلان، ولكنهم كانوا يقتلون منهم بالجملة حتى ذكر أنهم كانوا يقتلون من النبيين بالعشرات في يوم واحد. وتلك جريمة فظيعة تأتي في طليعة الجرائم والموبقات التي يهتز لها عرش الرحمن ! !
يا لله لهذا الذنب العظيم الذي يجترحه فريق أثيم من بني إسرائيل وهم يعتدون على صفوة طاهرة من خير العباد وهم النبيون المرسلون، إذ كانوا يأتمرون بهم ليقتلوهم. ومعلوم ما في كتب الله ودياناته من تنديد مغلّظ بالقتل ومن تبشيع صارخ لمثل هذا الذنب الموبق. وهو ذنب يستوجب سخط الله وغضبه فيما يجرجر القاتل الأثيم في نار جهنم ! !.
وقوله :( بغير حق ) تأكيد للظلم الذي وقع فيه بنو إسرائيل وهم يعتدون على رسل الله بالقتل. ومع أن مجرد العدوان عليهم بالقتل يعتبر غاية الظلم والخطيئة والباطل، وإنه النكر البالغ الذي يدنو دونه كل نكر أو خطيئة. وهو من الفظاعة المكشوفة التي تقتضي برهانا- مع ذلك فإن الآية تؤكد بأجلى عبارة ( بغير حق ).
وقوله :( وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) عندما دعوا إلى الإيمان بالقرآن ونبي الله محمد ( ص ) قالوا مقالتهم :( قولبنا غلف ) أي قلوبنا داخل غلاف، فهي مجللة بالغطاء فلا تعي ما يقال لها. وذلك كقوله عنهم في آية أخرى :( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) أي قلوبهم يغطيها الكنان الواقي الذي يحول دون السماع أو الوعي. وقيل : غلف مفردها غلاف فيكون المعنى أن قلوبنا أوعية للعلم. فقد تحصّل لنا من العلم ما وعته قلوبنا بالقدر الوافي فنحن في غنى عن أي علم جديد. والذي يظهر أن الأول أصوب فإن قلوبهم كانت الغطاء الحاجب فلا تؤمن ولا تعي، ويرجح ذلك قوله تعالى بعدها :( بل طبع الله عليها بكفرهم ) فليس صحيحا ما زعموه من احتوائهم للعلم الوافي وأنهم مستغنون عن أحد غيرهم يأتيهم بعلم، ولكنهم قد عموا وصموا وتحجرت طبائعهم ونفوسهم، واستعصى الفهم والوعي على عقولهم وقلوبهم، فباءت بالانكماش والشلل والكزازة ؛ فاستحقت بذلك أن يطبع الله عليها بالختم فتظل آيسة مبلسة لا يغنيها ما زعمته من علم وما تظنه من إيمان ببعض الأنبياء، وهو إيمان قليل لا ينجي ولا ينفع.
وقوله :( فلا يؤمنون إلا قليلا ) قليلا منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف. أي لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، وصار إيمانهم قليلا ؛ لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به، ولكن صدقوا ببعض النبيين وببعض الكتب وكذبوا ببعض، فهم مصدقون من وجه ومكذبون من وجه آخر ومثل هذا الإيمان لا يجدي وليست له قيمة ؛ لأن الكفر ببعض كفر بالكل.
وهذه واحدة أخرى من مفتريات يهود ؛ إذ كذبوا على الله والناس حين زعموا أنهم قتلوا المسيح. وقوله :( رسول الله ) يوحي بما قصده اليهود من التهكم، فهم أصلا لا يصدقون رسالته ونبوته، ولكنهم ينسبون إليه الرسالة ساخرين متهكمين يضاف إلى ذلك جانب الغمز الذي ينوون به نفي النبوة عن سيدنا عيسى عليه السلام فكأنهم يقولون : لقد قتلنا هذا الرسول، ولو كان رسولا حقا لدافع عنه ربه ولما أمكننا قتله.
والقول الفاصل الحق الذي لا ريب فيه أن المسيح لم يقتل ولم يصلب، بل إن الله قد رفعه إليه رفعا. وما القتل المزعوم إلا حدثا موهوما قد شبه لليهود والنصارى معا فانطلقوا يهذون في تخريص واهم بقتل المسيح وصلبه.
وحقيقة المسألة تأتي في غاية السهولة والبساطة لو صاخ الناس لكلمة الوحي الفاصلة التي تقضي في الأمر في صدق ويقين قطعيين، أن حقيقة المسألة سهلة وبسيطة لا تحتمل شيئا من مثل هذا الصخب المصطنع وهذه الضجة العارمة المفتعلة وما صاحب ذلك كله من خلاف عميق أثار في الأرض رياح النزاع والتخاصم بين المجتمعات والطوائف على مر الزمن.
إن المسألة لا تحتمل مثل شيء من هذا الذي حدث، إن هي إلا قصة مولود جيء به من غير نكاح، ولا يقع ذلك إلا بإذن الله، وهو القادر على كل شيء. نتصور سهولة ذلك وبساطة حدوثه عندما نستذكر مسألة الخلق بالنسبة لأبي البشر آدم عليه السلام ؛ إذ خلقه الله من طين لازب ؛ فليس ثمة أب وليس ثمة أم. ذلك كل الذي يقال ببساطة في مثل هذا الموقف كيلا نتعثر فيما تعثرت به الطوائف والأناسي من الخلاف والخصام وما أعقبه ذلك من فتن وخلافات وخصومات دينية معقدة مستعصية لا سبيل لفضها طيلة الدهر.
وقوله :( ولكن شبه لهم ) والعبارة على هذا النحو تحتمل الإجمال مما حدا بالعلماء والمفسرين أن يدلوا بأقوال شتى في الكشف عن المقصود بالتشبيه. ولا نلمك في هذا المقام أن نخوض في الكشف والتبيين خوضا يعقبه تكلف. لكن الذي نملك أن نقوله أن قصة القتل والصلب كاذبة موهومة وكل الذي حصل أن ذلك شبه لهم، على ما في هذا التعبير من إجمال، سواء كان التشبيه بإلقاء صورة المسيح على أحد الحواريين فشابهه تماما، أو أن اليهود قد قتلوا الذي قتلوه وهم في شك إن كان هو المسيح أو غيره فظنوا ذلك ظنا.
قوله :( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ) واختلافهم فيه قد جاء في تفسيره جملة أقوال منها : أن المسيح إله وذلك غاية الإفراط الذي بلغه النصارى في تقديس عيسى عليه السلام. وقال بعضهم : بل هو ابن الله.
ومنها : أنه قد رفع إلى السماء ولم يقتل. وذلك قول فريق من قومه الذين عاينوا رفعه.
ومنها : أن عيسى قد صلب من حيث ناسوته لا من حيث لاهوته. بمعنى أن جانبه الإنساني هو الذي وقع عليه القتل والصلب، لكن جانبه الإلهي لا يقع عليه قتل ولا يحتمل شيئا من ذلك ؛ لأنه يمثل جزءا من إله والقتل فيه غير متصور.
ومنها : أنه قد قتل وصلب من حيث ناسوته ولاهاوته معا. فقد وقع القتل على ما فيه من جانبين متكاملين.
وقيل غير ذلك من مثل هذه الأقوال المتكلفة المعقدة التي تقوم على الظن والتخمين، والتي لا يسعفها المنطق الثابت أو الحجة المعتبرة. لا جرم أن ذلك تفكير هائم سابح في غياهب الوهم الشاطح المريض. وهؤلاء الذين اختلفوا في المسيح على نحو ما بينا ( لفي شك منه ) أي في حيرة وارتياب مما حدث. فهم ليسوا على قطع أو يقين من وقوع القتل والصلب، ولكنهم مضطربون في ذلك وشاكون. وهم كذلك لا يسعفهم في الذي زعموا أية أثارة من علم أو دليل، وليس لهم في ذلك إلا الاعتماد على الظن والاستناد إلى التخمين أو الهوى المتعصب. وفي ذلك يقول سبحانه :( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) اتباع منصوب على الاستثناء المنقطع. ثم تعاود الآية التأكيد مرة أخرى لتنفي مقتل المسيح أو موته، وأن ما أشيع عن قتله ليس إلا ظنا وما هو من اليقين في شيء ( وما قتلوه يقينا ) ما نافية. قتلوه جملة فعلية تتضمن فعلا ماضيا، والفاعل واو الجماعة، والضمير في محل نصب مفعول به. يقينا نعت لمصدر محذوف تقديره قولا وتقدير العبارة أن الله قال هذا قولا يقينا. فالله سبحانه يحسم المسألة في يقين لا يعتريه ظن أو شك أن عيسى لم يقتل ( بل رفعه الله إليه ) وقيل في قوله :( وما قتلوه يقينا ) إنهم لم يقتلوه وهم متيقنون أنه هو، بل إنهم قتلوه وهم في شك من ذلك.
أحدهما : العلو المكاني المنوط بالمسافة والبعد.
وثانيهما : العلو المعنوي وذلك منوط بعلو الشأن وارتفاع المنزلة. ثم إن الله جل جلاله لهو القوي فمن تمسك بدينه واحتمى بجنابه عز وانتصر، وأنه سبحانه منتقم جبار يسلط على المجرمين الذين يعتدون على الأنبياء ويقتلونهم بغير حق عذابا من السماء أو الأرض فيدمرهم ويدمدم عليهم إن شاء. وهو كذلك حكيم فيما يقدره وفيما يجريه أو يقرره من حوادث ووقائع، كل ذلك يتم بحكمة من لدنه قد نقف على شطر منها أو نجهل حقيقتها وأبعادها.
وقد جاء في بيان المقصود من ذلك عدة أقوال نذكرها فيما يلي :
القول الأول : كل واحد من اليهود والنصارى سوف يؤمن بالمسيح بعد نزوله إلى الأرض، ثم يدركه الموت بعد ذلك كغيره من العباد. وبذلك فإن الضمير في موته يعود على المسيح وكذلك الضمير في ( به ) أي أن كل كتابي حال حياة المسيح بعد أن ينزل من السماء إلى الأرض سوف يؤمن به إيمانا صحيحا بعيدا عن الشرك وهو أنه نبي الله وعبده ورسوله.
القول الثاني : كل واحد من أهل الكتاب سوف يؤمن بالمسيح قبل أن يموت ( الكتابي ) فالضمير في موته يعود على الكتابي، فكل يهودي ونصراني عند معاينته الموت سيؤمن بالمسيح إيمانا صحيحا. أما الضمير في ( به ) فإنه يعود على المسيح.
القول الثالث : وهو عود الضمير في ( به ) على النبي محمد ( ص ). وبذلك فكل كتابي من اليهود والنصارى إذا عاين الموت فإنه سينكشف له الحق فيعلم أن هذا النبي حق، لكن هذا التصديق لا ينفعه ؛ لأنه حاصل بعد فوات الأوان الذي تستقيم فيه التوبة وتقبل. وينبغي القول كذلك أن الكتابي لا ينفعه إيمانه إن كان ذلك عند معاينة الموت سواء تعلق إيمانه بالمسيح أو محمد عليهما الصلاة والسلام. فإن التوبة عن الكفر تكون صحيحة إذا كانت قبل معاينة الموت. وفي ذلك يقول سبحانه في آية أخرى سابقة :( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ).
ولدى النظر في هذه الأقوال يتبين أن القول الأول هو الصحيح. وذلك بالنظر للسياق الذي جاءت عليه الآيات في مطلعها وفي آخرها والمتعلقة بخبر المسيح عليه السلام، فمطلع الآيات يتناول الحديث عن فرية القتل والصلب، وأن ذلك ما كان إلا تشبيها أوقع المختلفين في الشك والاضطراب، وأن المسيح قد تم رفعه إلى السماء فانتفى ما نسبه إليه المرتابون والخراصون. وذلك كله متعلق بالمسيح نفسه. وأما آخرها فإنه يحقق أن المقصود هو المسيح. يستبين ذلك من قوله تعالى :( ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) فالذي يشهد على أعمالهم وأقوالهم من التصديق له أو التكذيب هو المسيح، وذلك الذي يدل عليه السياق، وهو الذي يدور حوله الحديث خلال هذه الآيات.
وفي تعزيز هذا القول وفي عودة المسيح إلى الأرض يقول النبي ( ص ) فيما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة خيرا له من الدنيا وما فيها " ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) وقد ورد مثل ذلك جملة أحاديث متضافرة تؤكد المقصود من الآية.
وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر : يا مسلم هذا يهودي فتعال فاقتله " لكن أمثال هذا الحديث من حيث التحقيق تظل تحتمل مدلولين. أحدهما أن يكون ذلك في الدنيا وهو أن تتحقق للمسلمين أسباب القوة والمنعة، فتكون لهم الغلبة على اليهود بعد أن تضيق البشرية بهم ذرعا وتعاني من كيدهم البلاء والشقاء.
أما الثاني : فهو أن يكون ذلك أحد أشراط القيامة ؛ إذ لا ينطق الحجر إلا بحصول معجزة ولا يتيسر ذلك إلا أن تقوم الساعة حيث الأهوال والخوارق وحيث الانقلاب الكوني الهائل الذي يأتي على الحياة والخلائق جميعا١.
ومعنى الآية أنه بسبب الظلم الذي ارتكبه اليهود فقد ضيق الله عليهم بما حرمه عليهم. وقوله :( هادوا ) فعل ماض ومضارعه يهودون. وهاد أو تهود بمعنى تاب وأناب ورجع واسم الفاعل هائد. ونقول الهوادة والمهاودة أي اللين والرفق ويشتق من ذلك كلمة اليهود ومفردها اليهودي. على أن الملاحظ أنه شتان شتان بين المدلول اللغوي لهذه الكلمة والمدلول العرفي والسياسي والواقعي لها. فالمدلول اللغوي المجرد يأتي مبرأ من إيحاءات مشرومة ومنكودة، لكن المدلول الآخر وهو ما ينطق به الواقع المحس فإنه يوحي بالتعس والشؤم ويقطع في غير ما شك بأن يهود فئة عاتية جانفة متمردة. والظلم الذي ارتكبته يهود والذي بموجبه عوقبوا يتضمن آثاما عظيمة علاوة على الذنوب والخطايا المحسوبة على اليهود والتي بيناها سابقا. لكن الظلم هنا يتضمن صدهم عن سبيل الله كثيرا فقد صدوا أنفسهم أولا، ثم صدوا غيرهم عن اتباع الحق الذي تنزلت به الشرائع السماوية وحمله الأنبياء المرسلون. وذلك شأن معهود في اليهود، وقد وقفنا على أخبارهم منذ سالف الزمان، فإنهم قد مردوا على التنكر للحق ومعاداة النبيين والمصلحين، والتصدي لرسالات الله بمختلف الوسائل والأسباب كالقتل والفتنة وبعث الشكوك والشبهات من حول العقيدة الصحيحة وأصحابها من الدعاة إلى الله.
ومن المعلوم أن جريمة الربا أكثر ما تكون لصوقا باليهود فهم قد مردوا على هذا السحت في غابر الزمن حتى يومنا هذا، وهم في ذلك يبتدعون مختلف الأساليب في التحيل للحصول على المال عن طريق الربا، يحفزهم إلى ذلك رغبتهم اللحاحة في الإكثار من المال والاستزادة منه في جشع ينافي القناعة ولا يرضى بالحلال.
ومن الظلم كذلك أكلهم أموال الناس بالباطل. وذلك ظلم ؛ لكونه كسبا غير مشروع أو هو وضع للمال من استغلال واحتكار وتلاعب بأسعار، وكذلك الرشا والميسر وأجور الفسق والفاحشة في الملاهي وبيوت الدنس والخنا حيث الزواني والزناة، وغير ذلك من وجوه الكسب الحرام الذي يبتز من خلالها اليهود أموال الناس بالباطل.
من أجل هذه المحظورات التي ارتكبها اليهود بظلم فقد عاقبهم الله بالحرمان من طيبات كانت لهم حلالا، مع أن الطعام كان جله حلالا : لهم. وفي ذلك يقول سبحانه :( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ) ولئن كان هذا العقاب مفروضا عليهم في الدنيا فإن عذاب الآخرة أشد وأنكى وأبقى. وفي ذلك يقول عز من قائل :( واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ) أي هيأنا للكافرين من بني إسرائيل عذابا مقيما يتسم بالإيلام والديمومة.
قوله :( والمقيمين الصلاة ) ثمة خلاف بين المفسرين وأهل البيان في إعراب ( المقيمين ) وسبب نصبها. وقد ورد في ذلك عدة أقوال، لعل أصحها ما ذكره سيبويه وهو النصب على المدح أو التعظيم. وذلك كقوله تعالى في آية أخرى :( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) وذلك في كلام العرب كما قال الإمام المفسر ابن كثير رحمه الله. والصلاة مفعول به منصوب لاسم الفاعل. ( المؤتون الزكاة ) من الإيتاء أي الإعطاء، مرفوعة للعطف على ( الراسخون ) و ( المؤمنون ) قبلها١ والزكاة تعني في اللغة الطهارة والنمو : وفي اصطلاح الشرع تعني قدرا من المال معلوما يؤديه مالك النصاب للمستحقين الثمانية أو بعضهم على الخلاف بعد أن يحول عليه الحول. والزكاة مفعول به منصوب لاسم الفاعل قبلها. وكذلك قوله :( والمؤمنون بالله واليوم الآخر ) فهؤلاء جميعا سيجعل الله لهم أجرا عظيما يتلقونه يوم القيامة٢.
٢ - الكشاف جـ ١ ص ٥٨٠-٥٨٢ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٢٦٢- ٢٦٣..
وكذلك سليمان وهو من أنبياء بني إسرائيل وقد منّ الله عليه ؛ إذ علمه منطق الطير وآتاه من أسباب القوة والمنعة ما مكن له في الأرض تمكينا، وقصته في القرآن وافية ومثيرة، منها إتيانه على وادي النمل، ولقاؤه مع ملكة سبأ، وغير ذلك من أخبار.
وقوله :( وآتينا داود زبورا ) وداود نبي كريم من أنبياء بني إسرائيل المرسلين، وقد أنزل الله عليه كتابه المقدس فيه هداية لقومه ورشاد لو أنهم أنابوا واهتدوا، وذلك هو الزبور ومعناه الكتاب وجمعه الزُبَر وهو من الفعل زبر أي كتب٢.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٥٨٥ وتفسير الطبري جـ ٦ ص ٢٠..
على أن النبيين والمرسلين كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله، والمرسلون أخص منهم فهم أقل، وقد ورد في ذلك روايات وأقوال شتى تتعلق بأعداد النبيين والمرسلين لكنها روايات وأقوال قابلة للنقد والتجريح وهي لا يطمئن لثبوتها وصدقها الباحث المتحقق، فنؤثر مع ذلك ألا نركن إليها في مثل هذا المجال. لكن المرسلين الذين ذكرت أسماؤهم في القرآن أربعة وعشرون رسولا، واختلفوا في ذا الكفل إن كان رسولا أو غيره، والراجح أنه رسول. والأربعة والعشرون هم على النحو التالي : آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
والملاحظ أن عددا عظيما من المرسلين هم من بني إسرائيل بدءا بأبيهم يعقوب وانتهاء بعيسى المسيح عليهم صلاة الله وسلامه. أما العرب فلم يبعث من بينهم إلا أربعة من المرسلين وهم : هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وقد أورد مثل هذا أبو ذر الغفاري فيما يرويه عن النبي ( ص ).
قوله :( وكلم الله موسى تكليما ) تكليما مفعول مطلق منصوب، وهو دليل تأكيد الكلام من الله لنبيه موسى عليه السلام ؛ كيلا يظن متأول أو واهم بأن الكلام لم يكن من الله على الحقيقة بل على المجاز. والمعلوم أن الفعل إذا عقبه ما يؤكده فقد أفاد أنه بعيد عن المجاز ؛ لأن المجاز مع تأكيد الفعل غير محتمل. وقد أفاد هذا النص القرآني عن عظيم المنزلة التي أنزلها الله نبيه موسى بما يكشف عن مرتبة عظيمة كريمة يحتلها موسى الكليم من بين رسل الله الطاهرين الأبرار، أو من بين الصفوة أولي العزم من الرسل الذين يجتازون إلى السنام من طليعة البشر المؤمن المفضل. نقول ذلك في غير ما تعصب لجنس أو عرق أو قوم أو غير ذلك مما اعتاد الناس وأصحاب الملل والديانات أن يتعصبوا من أجله. وشأن المسلم وهو يكتب أو يتحدث في مسألة أو قضية أن يصدق مع الله ليكون صادقا مع نفسه والآخرين. إن شاء المسلم في ذلك ألا يجانب الصواب وألا يحابي تحت ضاغط من تعصب لجنس أو عرق أو قوم أو ملة مثلما يفعل المتعصبون والموتورون والدجاجلة من الصليبين واليهود وعبدة الأوثان.
أما التكليم من الله فلا ندري كيف يكون ولا ينسب إلى الله بعد ذلك تشبيه فإنه ( ليس كمثله شيء ) وكل الذي نستطيع أن نتصوره في تصديق ويقين أن الله جلت قدرته قد خاطب نبيه مباشرة على نحو من التكليم الإلهي والطريقة الإلهية.
ووظيفة المرسلين التبشير والتنذير وذلك بما يناسب أصناف البشر على اختلافهم من حيث الإيمان والتقوى، أو من حيث الكفران والضلالة ؛ وذلك كله كيلا يكون للناس حجة على ربهم فيتذرعوا بالأسباب والترهات كأن يقولوا ما نزل علينا كتاب من السماء نقرأه، وما جاءنا من نذير ولا سمعنا من أحد يوقفنا على الحقيقة ويدعونا إلى منهج الله القويم وصراطه المستقيم. والكلمتان ( مبشرين ومنذرين ) كلتاهما نعت منصوب للبدل قبلهما.
أما وقد بعث الله للناس من بينهم رسلا كي يأمروهم ويحذروهم وينهوهم، ولكي يبينوا لهم دينهم الذي يصلح عليه حالهم ومآلهم ويكونوا به سعداء كرماء، فقد أصبح الناس أنفسهم محجوجين وأن الحجة لله عليهم، فلا يلومن هؤلاء بعد ذلك غير أنفسهم.
وقوله :( وكان الله عزيزا حكيما ) إن الله سبحانه لهو صاحب العزة والقوة والجبروت، وهو لا يقوى على النيل منه أي كائن، وهو كذلك ذو الحكمة فيما يحكم أو يقضي وفيما يقدر أو يريد، ولا يصدر ذلك كله إلا عن حكمته البالغة التي لا يحيط بها إلا هو تقدست أسماؤه.
وقوله :( والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ) الملائكة معطوف على لفظ الجلالة قبله أي أن الله يشهد على صدق نبوة رسوله وما نزل عليه من كتاب، وكذلك الملائكة يشهدون على هذه الحقيقة الثابتة القاطعة. والجملة الفعلية من ( يشهدون ) في محل رفع خبر الملائكة. ثم يعاود الخطاب التنصيص على شهادة الله في إبراز وتأكيد ليرسو في الذهن انها أعظم شهادة، وأنه سبحانه أعظم الشاهدين وأصدقهم ( وكفى بالله شهيدا ) أي يكفي أن يكون هو الشاهد على صدق نبيه وثبوت رسالته. وشهيدا منصوب على التمييز.
لا جرم أن الشهادة من الله عنوان الثبوت الجازم بما يضفي على رسالة الإسلام فيضا من الصدق واليقين. وحسب النبي والمسلمين أن يكون الله شهيدا لهم على صدق رسالتهم وأن دينهم لهو حق اليقين. والله جلت قدرته خير الشاهدين.
ذلك حكم من الله عام في الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله. ويتسع الحكم في الذين كفروا ليتناول الكافرين جميعا، سواء منهم المشركون أو أهل الكتاب أو الملحدون، وهؤلاء كافرون مخالفون عن أمر الله ومعادون للإسلام بكل أسباب العداء وطرقه وأساليبه وإذا اختلط الكفر بالصد عن سبيل الله فقد اكتملت الجريمة وازدادت فظاعة وعتوّا وذلك شأن الظالمين والكافرين اللّد الذين يقفون في وجه الإسلام ؛ ليصدوا عنه صدودا، وليواجهوا أتباعه والداعين إليه بالصد. وفي الصد تعميم وشمول يتناول كل وجوه التحدي والردع وكل ضروب الكيد والمعاداة وكل صور التشكيك والتعذيب والتشويه فيما يرد الناس عن دين الله ويثنيهم عن اتباع منهج الحق، منهج الإسلام.
ولا يبوء بهذه الجريمة المزدوجة ( الكفر والصد ) إلا الذين يضلّون ضلالا بعيدا. أي بعدوا عن الهداية والخير بعدا عظيما، وهو بعد غائر سحيق يهوي بالكافرين الصادّين في أطواء الضلالة وأغوار التيه ليبوءوا بالهلاك والخسران.
وقوله :( وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ) بعد الإعلان للناس كافة أن ما جاءهم به الرسول حق، وبعد عودتهم للإيمان لما في ذلك من خير لهم، فإن الله يحذر من السقوط في الكفر فإنه لا يجني كافر إلا على نفسه وأن الله لا يعبأ بالخلق جميعا إذا كفروا وهو سبحانه في ملكوته وهيمنته واقتداره لا يضره كفران الكافرين أو جحد الجاحدين. وفي الأصل فإن الله جل وعلا غني عن العباد كافة فهو مالك الملك بما في ذلك من أرضين وسموات وما بينهن.
وقوله :( وكان الله عليما حكيما ) إن الله يعلم ما هو كائن وما سوف يكون، وهو سبحانه أعلم بالخلق من أنفسهم، وإنه عالم بمصائر الناس جميعا من حيث إيمانهم وكفرانهم. والله جل وعلا حكيم فيما يقدر وفيما يقضي وله الحكمة البالغة فيما يقرر من حوادث ووقائع وفيما يفرض من أحكام وشرائع.
وقوله :( ولا تقولوا على الله إلا الحق ) يوجب الله على هؤلاء في تحذير وترشيد ألا يفتروا على الله افتراء مشينا مختلفا، وألا يتجرأوا عليه بالتقول الظالم المكذوب، وأن يتورعوا عن إطراء المسيح بما ليس له مما هو إشراك بالله كبير. ثم قال سبحانه :( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) المسيح مرفوع على الابتداء، وعيسى بدل منه وكذلك ابن بدل، ورسول خبر المبتدأ. وفي هذه الآية حصر قاطع لحقيقة المسيح في النبوة الكاملة المتولدة عن أمه مريم عليها السلام بعد أن حملت به حملا حقيقيا بإذن الله، ثم أجاءها المخاض إلى جذع النخلة حتى وضعته وليدا رضيعا ينطق كأنما هو كبير مكتهل. وتؤكد الآية بعد أداة الحصر ( إنما ) على أن المسيح عيسى لهو ابن مريم، وأنه ليس له أب، وأنه من عباد الله المرسلين كغيره من إخوانه النبيين الذين يشاركونه جميعا في حقائق كبرى ثلاث وهي : العبودية لله والنبوة والرسالة. وأي تجاوز لهذا المفهوم يشكل انزلاقة خطيرة تلج بالمنزلقين في وهدة الضلالة والإشراك بالله، وتجعلهم يجاهرون في اجترار أحمق بنسبة الولد إلى الله أو حاجته سبحانه لصاحبة وقد تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وقوله :( وكلمته ألقاها إلى مريم ) المقصود بالكلمة هنا قوله :( كن ) فإنه بعد أن قالها تحقق الحمل والولادة بغير أبوة أو نكاح. وقيل يقصد بها الآية. فإن المسيح عليه السلام من حيث ولادته بغير أب ولا نكاح كان آية دالة على عظمة الله سبحانه وعلى قدرته في الخلق بغير قيود وقيل غير ذلك.
وقوله :( وروح منه ) معطوف على كلمته مرفوع. وقد ورد في المراد بالروح هنا أقوال كثيرة نقتصر منها على قولين أحسبهما الراجحين والله تعالى أعلم. فقد قيل : إن سبب تسميته بالروح أن نفخة من روح الله عن طريق جبريل عليه السلام. والقول الثاني أن كلمة روح في الآية تعني رحمة. فالمسيح قد كان رحمة من الله للناس أي أن الله قد امتن على عباده فبعث إليهم رحمة منه تجسدت في هذا النبي الكريم عيسى عليه السلام.
قوله :( فآمنوا بالله ورسله ) يدعو الله للإيمان به وحده لا شريك له فهو خالق الكون والحياة وخالق الناس والنبيين جميعا وخالق المسيح بن مريم نفسه.
وقوله :( ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم ) ثلاثة خبر لمبتدأ محذوف تقديره آلهتنا١. ذلك نهي شديد عن مقارفة خطيرة تشبث بها النصارى منذ أن كانوا ولا يزالون فقد أشركوا بالله أشد إشراك، وزعموا أنه اتخذ ولدا. ولهم في ذلك حذلقات عقيمة تقوم على التكلف واصطناع العبارات الباهتة الغامضة. العبارات المسوقة في خلط وإبهام والتي غالبا ما تثير في الأذهان الحيرة والتساؤل أو تبعث في النفس الشك والارتياب والتردد. عبارات مضطربة غوامض ليس لها في ميزان الواقعية والمنطق أيما حساب.
ومن الحذلقات قولهم بالأقانيم الثلاثة. ومفردها أقنوم وهو يعبر عن إله والأقانيم الثلاثة ترمز إلى الأب والابن وروح القدس، وكل شطر من هذه الشطور إنما- يعني- في تصور النصارى- إلها ينبثق عن جوهر الإله الأكبر. وقد تفرقوا في تفسير هذه الاصطلاحات فرقا شتى وافترقوا كذلك في التفصيلات افتراقا يدل على تبلد في التفكير بما ينتفي معه الإخلاص للحقيقة الإلهية من أول لحظة.
ومن جملة ما قالوه في الثلاثة : الآلهة ثلاثة. الله سبحانه، والمسيح، ومريم وقالوا : إن الله تعالى جوهر، وأحد ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس. وهم يريدون بالأول الذات أو الوجود، وبالثاني العلم أي الكلمة. وبالثالث الحياة. وقالوا : إن الله واحد بالجوهرية، وثلاثة بالأقنومية. والأقانيم صفات للجوهر القديم وهي الوجود والعلم والحياة. وعبروا عن الوجود بالأب، والحياة بروح القدس، والعلم بالكلمة. ثم اختلفوا أكثر من ذلك فذهبت الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم، وأن كل واحد منها إله، وصرحوا بإثبات التثليث. وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة وسبحانه وتعالى عما يشركون. وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر، وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي، وهو قديم أزلي، وأن مريم ولدت إلها أزليا. واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم، وأن القتل الصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا، وأطلقوا لفظ الأب على الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأطلقوا كذلك لفظ الابن على عيسى عليه السلام.
وذهب نسطور الحكيم إلى أن الله تعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ولا نفس ذاته، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح لا بمعنى الامتزاج، بل بمعنى الإشراق. أي أشرقت عليه كإشراق الشمس من كوة على بلور.
ومن النسطورية من قال : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود. وصرحوا بالتثليث كالملكانية. ومنهم من منع ذلك. ومنهم من زعم أن الابن لم يزل متولدا من الأب، وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد. والحدوث راجع إلى الناسوت. فالمسيح إله تام وإنسان تام وهما قديم وحادث. وقالوا إن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوات. وذهب بعض اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح، إلى غير ذلك من الأقوال الغامضة المتناقضة. الأقوال التي يضرب بعضها بعضا ويكذب بعضها الآخر تكذيبا. أقوال في غاية الضعف والتهافت والركاكة فلا تثير غير مزيد من الحيرة والشك والإبهام٢.
أقوال لا تستند إلى أدنى نصيب من البرهان ولا يسعفها شيء من المنطق والتفكير السليم، وما هي إلا ترهات تقال في تخريص متخبط، وفي هوى جامح مجانب للصواب.
وما أروع العقيدة الإسلامية في هذا الصدد، فإنها تقوم على السهولة والبساطة واليسر وتنبذ التعقيد والتكلف ؛ لأنها عقيدة الحق والفطرة وعقيدة الإنسان المتكامل السوي الذي يمشي على صراط واضح ومستقيم لا عوج فيه. وهذه حقيقة ناصعة مكشوفة نعيها تماما ونحن نقرأ قوله سبحانه في سورة قصيرة من أعظم سور القرآن ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) وهذه عبارات قاطعة حاسمة لا تحتمل شيئا من التكلف المضطرب أو الإغراق في متاهات التصور الشاطح والمغالاة في هذيان مريض.
فالله جل وعلا أحد لا شريك له، فليس له ولد، ولم يتخذ صاحبة وليس له نديد مكافئ في خلقه. هذا هو جوهر العقيدة في الإسلام. فهو واضح كل الوضوح وميسور كل التيسير، بحيث يلائم الفطرة البشرية تماما ولا يستعصي إدراكه على العقل، ويجتمع على وعيه واستيعابه الناس جميعا. وليس غير ذلك إلا البعد عن الحقيقة والصواب أو السقوط في الكفر وهو طريق إلى النار ؛ يتقاحم فيها المشركون الذين غلوا في إطراء المسيح والثناء عليه حتى جعلوه إلها أو ثالث ثلاثة. وفي ذلك يقول سبحانه :( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) وقال عز من قائل في آية أخرى :( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) فلم يبق بعد هذا البيان القرآني الحاسم أي مجال لانتزاع الحجج الدالة على عدم كفران أهل الكتاب من يهود أو نصارى. إنه لا مجال للتقوّل بأنهم ليسوا كافرين ؛ بل إنهم كافرون لما بينّاه من أدلة في القرآن.
وقوله :( انتهوا خيرا لكم ) خيرا منصوب على الخبرية لكان المحذوفة، وتقدير العبارة : انتهوا يكن خيرا لكم. وهو نص ينهى عن الإشراك بالله ويحذر من مغبة الوقوع في هذا الظلم العظيم فإن عاقبته وخيمة. وإذا انتهى المحذرون وأقلعوا عن شركهم بالله فإنهم سيمضون إلى خير وأن عاقبتهم ستكون حسنة مرضية.
ثم يعقب ذلك تأكيد قاطع بأن الله جلت قدرته واحد معبود وليس دونه من إله. فإنه سبحانه متفرد بالألوهية ولا يشاركه في هذه الخصيصة الكبرى أحد. وهو كذلك لا حاجة له في نسل أو ذرية، وما ذلك إلا شأن الضعفاء الذين يجدون أنفسهم محتاجين إلى الأعوان والأنصار كالأولاد والأحفاد والزوجات. لكنه سبحانه غني عن ذلك كله فهو مالك كل شيء بما في ذلك عيسى ومريم والناس والخلائق جميعا وكذلك السماوات والأرض ومن فيهن وما بينهن. وهو يقول في ذلك :( إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) أي الله وكيل على كل شيء، ويتصرف في خلقه وملكوته بمثل ما يشاء. وكيلا منصوب على التمييز. والوكيل بمعنى الحافظ.
٢ - روح المعاني جـ ٦ ص ٢٦ والكشاف جـ ١ ص ٥٨٤ وتفسير الرازي جـ ١١ ص ١١٨..
يستنكف من الفعل نكف ومعناه عدل وامتنع. والاستنكاف أو النكف يعني الأنفة والعدول والامتناع والانقطاع، والانتكاف هو الخروج والميل١. والآية تعني أن المسيح عليه الصلاة والسلام لن يأنف من عبادة الله، ولن يمتنع من أن يكون عبدا خاشعا ذليلا لله وحده. بل إن المسيح نبي متواضع كريم خاشع لله تماما ولا يحمل ذرة من كبر يحول دون الخضوع والامتثال لأمر الله. لن يمتنع المسيح من ذلك ( ولا الملائكة المقربون ) والملائكة معطوف على المسيح، وهؤلاء صنف كريم رفاف من عباد الله الأطهار، وهم كما وصفتهم الآية فإنهم مقربون من الله من حيث المنزلة والدرجة الرفيعة. حتى إن بعض العلماء قد استدلوا من هذه الآية على أن الملائكة أفضل من النبيين. ولا أتصور صحة هذا الاستدلال فإن الذي يؤخذ من هذه الآية أن الملائكة عباد مقربون، وكونهم مقربين لا يدل على أفضليتهم. وما التقرب الوارد في الآية إلا مجرد وصف من جملة أوصاف تليق بالملائكة. لكن الراجح أن النبيين خير الخلائق أجمعين.
والاحتمال المعقول من ذكر الملائكة هنا وأنهم مقربون هو دفع للتصور الفاسد الذي راود أذهان العرب المشركين عندما اعتبروا الملائكة بنات الله.
قوله :( ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ) ذلك بيان عام للعباد جميعا يتضمن تحذيرا لهم وتخويفا وهو أن العصاة الذين يمتنعون عن عبادة ربهم بإخلاص ثم يستكبرون استكبارا ؛ فإنهم يوم القيامة محشورون بين يدي الله ليعاينوا الحساب ويروا جزاءهم الذي يستحقونه.
فإن سجاياه الكريمة وكمال خُلقه وشمائله وفيما يتجلى في شخصه الكريم من أطيب الملامح وأحسن المقومات لهو أجلى برهان على أنه نبي مرسل، وأنه صادق أمين لا ينطق عن الهوى، وإنما يأتيه الوحي من السماء ومعه الخبر اليقين. أما النور الذي أنزله الله فهو القرآن الكريم. ولا ريب أنه نور مبين تتكشف به الحقيقة ويتبدد الديجور المعتم لتشرق أنوار المعرفة والحق في وضح غامر مكشوف. وهو كذلك. ( مبينا ) أي واضح ظاهر في معانيه وأحكامه ومقاصده، وهو قائم على الصدق والاستقامة والجلاء من غير لبس أو تعقيد أو إبهام.
وقوله :( ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) هؤلاء الذين آمنوا بالله واعتصموا به أو بكتابه سوف ( يهديهم إليه ) وذلك هو الجزاء. فالإيمان والاعتصام هما العمل السابق المقدم والهداية تأتي نتيجة لذلك. وسواء كان المقصود بالهداية في الدنيا أم في الآخرة أم فيهما معا فإن الأمر المعتبر هنا أن الهداية تأتي مسبوقة بالإيمان الصحيح والاعتصام الوافي بالله سبحانه أو بقرآنه على الخلاف بين المفسرين. فالله سبحانه سوف يهدي هؤلاء إليه ليكونوا على صراطه المستقيم سواء في الدنيا أم في الآخرة وصراطه المستقيم في الدنيا يتحقق في منهجه القويم وفي دينه الذي يقوم على الاستقامة والخير والعدل والرحمة. أما صراطه المستقيم في الآخرة فهو النجاة من عذاب الله والفوز بمرضاته بما يؤول على الجنة والنعيم. وإعراب ( صراطا ) مفعول به ثان لفعل محذوف دل عليه الفعل قبله ( ويهديهم ) وقيل مفعول به ثان للفعل ( ويهديهم ) ومستقيما نعت منصوب٢.
٢ - روح المعاني جـ ٦ ص ٤٣ والبيان للأنباري جـ ١ ص ٢٨٠ وتفسير القرطبي جـ ٦ ص ٢٧..
أخرج الإمام أحمد في سبب نزول هذه الآية عن جابر بن عبد الله قال : دخل علي رسول الله ( ص ) وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صب عليّ، أو قال : صبوا عليه، ففعلت فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فأنزل الله آية الفرائض ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) ١ أي يطلبون منك أن تفتيهم في الكلالة وهي كما بيناها سابقا مشتقة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه٢. وقد فسرها أهل العلم بالذي يموت وليس له ولد ولا والد، وذلك ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين والمذاهب الأربعة، وقال آخرون : هو الذي ليس له ولد استنادا إلى ظاهر الآية ( إن امرؤا هلك ليس له ولد ) والمراد بالهلاك الموت. فإذا مات أحد وليس له ولد ولا والد ( الكلالة ) وكانت له أخت فإنها ترث نصف التركة، أما إن كانت الكلالة أنثى فتوفيت عن أخ كان له التركة كلها.
فلو ماتت عن زوج وأخت لأب وأم، كان للزوج النصف وللأخت النصف الآخر. ولو مات عن بنت وأخت، كان للبنت النصف وللأخت النصف الآخر. وذلك أن النصف الذي للبنت يكون بالفرض وما للأخت فهو بالتعصيب استنادا إلى ما رواه البخاري عن معاذ بن جبل أنه قضى على عهد رسول الله ( ص ) بالنصف للبنت والنصف الآخر للأخت.
ولو مات عن ابنة وابنة ابن وأخت فإن النصف للبنت ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين وما بقي فللأخت. وذلك ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود الذي قضى بمثل ما قضى به رسول الله ( ص ).
وقوله :( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ) أي إذا مات أحد كلالة وكان له أختان، فإن لكل واحدة منهما الثلث ليكون بذلك لهما الثلثان. وإذا زاد العدد عن الأختين كأن يكن ثلاث أخوات أو أكثر فإنهن جميعا يشتركن في الثلثين، ذلك أن الثلثين أقصى ما يكون للأخوات هنا وإن كثرن.
قوله :( وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ) إذا مات أحد وهو كلالة عن إخوة له من الذكور والإناث اتبع الأسلوب الذي ورد في مطلع السورة من حيث التوزيع وهو أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقوله :( يبين الله لكم أن تضلوا ) وهو تبيين للفرائض والحدود التي رسمتها شريعة الله للمؤمنين لئلا يضلوا فيركبوا متن الضلالة والشطط أو يسيروا في طريق تائه متعثر.
وقوله :( والله بكل شيء عليم ) الله جلت قدرته أعلم حيث يبين شرعه للناس فيوجب فرائضه لتتوزع التركات بين الورثة على أساس من القرابة أو الزوجية. وتلك هي سبيل الحق والعدل في التوزيع بما يلائم فطرة الإنسان وينشر بين أولي القربى أسباب المودة والالتئام. بعيدا في ذلك كله عن أساليب الإفراط والتفريط، وبعيدا عن كل ظواهر العسف والحيف.
٢ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٤٦، ٤٧..