ﰡ
وعند الحنابلة خطاب المشافهة يتناول القاصرين عن درجة التكليف فينتظم في سلكهم من الحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة أو هو بطريق تغليب الموجودين على من لم يوجد كما غلب المذكور على الإناث في قوله (اتقوا ربكم) لاختصاص ذلك وبجمع المذكر وعدم تناوله حقيقة للإناث عند غير الحنابلة، وقد تقدم في البقرة معنى التقوى والرب.
(الذي خلقكم) فإن خلقه تعالى لهم على هذا النمط البديع من أقوى الدواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمته، ومن أتم الزواجر عن كفران نعمته، وذلك لأنه ينبىء عن قدرة شاملة لجميع المقدورات التي من جملتها عقابهم، وعن نعمة كاملة لا يقادر قدرها.
(من نفس واحدة) آدم عليه السلام (خلق منها زوجها) حواء هذا أيضاً من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة، و (مِن) لابتداء الغاية في الموضعين وخلقها منه لم يكن بتوليد كخلق الأولاد من الآباء فلا يلزم منه ثبوت حكم البنتية والأختية فيها. قال كعب ووهب
(وبثّ) فرق ونشر (منهما) الضمير راجع إلى آدم وحواء المعبّر عنهما بالنفس والزوج (رجالاً كثيراً) وصف مؤكد لما تفيده صيغة الجمع لكونها من جموع الكثرة وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي بثاً كثيراً (ونساء) كثيرة، وترك التصريح به استغناء واكتفاء بالوصف الأول.
(واتقوا الله الذي تساءلون به) أي تعاطون به، قاله ابن عباس، وقال الربيع تعاقدون وتعاهدون، وقيل تتحالفون به، وقيل تعظمونه، والمعاني متقاربة، وقال البيضاوي: أي يسأل بعضكم بعضاً بالله.
(والأرحام) بالنصب عطفاً على محل الجار والمجرور، كقولك مررت بزيد وعمرا، وينصره قراءة (وبالأرحام) فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال والمناشدة فيقولون أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله والرحم أو عطفاً على الاسم الجليل أي اتقوا الله والأرحام فلا تقطعوها فإنها مما أمر الله به أن يوصل، وهي الأولى.
وقرىء والأرحام بالجر وأنكره البصريون والكوفيون وسيبويه والزجاج، وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) بالجر لأخذت نعلي ومضيت.
وقد رد الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراءة الجر فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين لأن القراآت التي قرأ بها أئمة القرآن ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تواتراً، ولا يخفى أن دعوى التواتر باطلة، يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب، ومنه قوله تعالى (وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين).
وصلة الرحم تختلف باختلاف الناس فتارة يكون عادته مع رحمه الصلة بالإحسان، وتارة بالخدمة وقضاء الحاجة، وتارة بالمكاتبة، وتارة بحسن العبارة وغير ذلك.
وقرىء بالرفع على الإبتداء والخبر مقدر أي والأرحام صلوها أو والأرحام أهل أن توصل، أو والأرحام كذلك أي مما يتقى أو يتساءل به، وقيل إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به، وجوّز الواحدى نصبه على الإغراء.
والأرحام اسم لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، لا خلاف في هذا بين أهل الشرع واللغة، وقد خصص الإمام أبو حنيفة الرحم بالحرم في منع الرجوع في الهبة مع موافقته على أن معناها أعم، ولا وجه لهذا التخصيص.
قال القرطبي: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرّمة انتهى، وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة، روى الشيخان عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله " (١) وإنما استعير اسم الرحم للقرابة لأن الأقارب يتراحمون ويعطف بعضهم على بعض.
(إن الله كان عليكم رقيباً) حافظاً يعلم السر وأخفى، والرقيب المراقب، وهي صيغة مبالغة من رقب يرقب رقباً ورقوباً ورقباناً إذا أحدّ النظر لأمر يريد تحقيقه.
_________
(١) صحيح مسلم ٢٥٥٥ - البخاري ٢٠٤٥.
وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطائهم أموالهم مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتيم بالبلوغ مجازاً باعتبار ما كانوا عليه، ويجوز أن يراد باليتامى المعنى الحقيقي. وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة لا دفعها جميعها، هذه الآية مقيدة بالأخرى وهي قوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم) فلا يكون مجرد ارتفاع اليتيم بالبلوغ مسوغاً لدفع أموالهم إليهم حتى يؤنس عنهم الرشد.
(ولا تتبدّلوا الخبيث) هو مال اليتيم وإن كان جيداً لكونه حراماً (بالطيّب) وهو مال الولي لكونه حلالاً وإن كان رديئاً فالباء داخلة على المتروك نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموال اليتامى، فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويعوّضونه بالرديء من أموالهم، ولا يرون بذلك بأساً.
وقيل المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب من أموالكم، وقيل المراد لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله، والأول أولى فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة أخذ
وذهب جماعة من المفسرين إلى أن المنهي عنه في هذه الآية يعني (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) هو الخلط فيكون الفعل مضمناً معنى الضم أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، وهذا نهي عن منكر آخر كانوا يفعلونه بأموال اليتامى، وخص النهي بالمضموم وإن كان أكل مال اليتيم حراماً وإن لم يضم إلى مال الوصي، لأن أكل ماله مع الاستغناء عنه أقبح، فلذلك خص النهي به أو لأنهم كانوا يأكلونه مع الاستغناء عنه، فجاء النهي على ما وقع منهم فالقيد للتشنيع.
وإذا كان التقييد لهذا الغرض لم يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها، قاله الكرخي، ثم نسخ هذا بقوله تعالى (وإن تخالطوهم فإخوانكم) وقيل إن إلى بمعنى مع كقوله تعالى (من أنصاري إلى الله) والأول أولى.
(إنه) أي أكل مال اليتيم من غير حق أو التبديل المفهوم من (لا تتبدلوا) أو المراد كلاهما ذهاباً بها مذهب اسم الإشارة نحو (عوان بين ذلك) والأول أولى لأنه أقرب مذكور (كان حوباً) قرىء بضم الحاء وبفتحها، وحابا بالألف لغات في المصدر، والفتح لغة تميم، وهو الإثم، يقال حاب الرجل يحوب حوباً إذا أثم واكتسب الإثم، وأصله الزجر للإبل فسمي الإثم حوباً لأنه يزجر عنه، والحوبة الحاجة والحوب أيضاً الوحشة والتحوب التحزن.
فهذا سبب نزول الآية فهو نهي يخص هذه الصورة، قال جماعة من السلف إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما يشاء فقصرهم بهذه الآية على أربع، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا أن لا يقسطوا في اليتامى فكذلك يخافون أن لا يقسطوا في النساء، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء، والخوف من الأضداد فإن المخوف قد يكون معلوماً، وقد يكون مظنوناً.
ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية فقال أبو عبيد: خفتم بمعنى أيقنتم، وقال الآخرون بمعنى ظننتم، قال ابن عطيه وهو الذي اختاره الحداق: وإنه على بابه من الظن لا من اليقين.
والمعروف عند أهل اللغة أن أقسط بمعنى عدل وقسط بمعنى جار لأن الهمزة تأتي للسلب فيقال أقسط إذا أزال القسط أي الجور والظلم، ولذلك جاء (وأما القاسطون) الآية، (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) وجاء قسط قسطاً من باب ضرب، وقسوطاً جار وعدل فهو من الأضداد، قاله ابن القطاع، والإسم القسط.
و" ما " في قوله (ما طاب لكم) موصولة وجاء بما مكان " من " لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله (والسماء وما بناها) (ومنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على أربع).
قال بعضهم: وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصات العقول، وقال البصريون: إن (ما) يقع للنعوت كما يقع لما لا يعقل، يقال ما عندك فيقال ظريف وكريم، وقيل هي لنوع من يعقل، فالمعنى فانكحوا النوع الطيب من النساء أي الحلال وما حرمه الله فليس بطيب، وقيل إن (ما) هنا مديَّة أي ما دمتم مستحسنين للنكاح، وضعفه ابن عطية.
قال الفراء: إن (ما) ههنا مصدرية، قال النحاس: وهذا بعيد جداً، وقيل إنها نكرة موصوفة أي انكحوا جنساً طيباً وعدداً طيباً، والأول أولى، وقرىء فانكحوا من طاب لكم.
وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.
و" من " في قوله (من النساء) إما بيانية أو تبعيضية لأن المراد غير اليتائم
على أن وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير إليه، فيه مبالغة في الاستمالة إليهن، والترغيب فيهن، وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى وهو السر في توجيه النهي الضمني إلى النكاح المترقب.
(مثنى وثلاث ورباع) أي اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، وهذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف، وهل يجوز فيها القياس أو يقتصر فيها على السماع، فالأول قول الكوفيين وأبي إسحق وغيره، والثاني قول البصريين.
والمسموع من ذلك أحد عشر لفظاً أحاد وموحد، وثناء ومثنى، وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، ومخمس، وعشار ومعشر، ولم يسمع خماس ولا غيره من بقية العقد. وجمهور النحاة على منع صرفها وأجاز الفراء صرفها وإن كان المنع عنده أولى.
وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع. وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد كما يقال للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة.
وهذا مسلّم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عينّ مكانه، أما لو كان مطلقاً كما يقال اقتسموا الدراهم، ويراد به ما كسبوه فليس المعنى هكذا، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول، على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كبيراً اقتسموه مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين وبعضه ثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي.
والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد كما في قوله تعالى (اقتلوا المشركين، أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة) ونحوها.
فمعنى قوله (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، هذا ما يقتضيه لغة العرب. فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه.
ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) فإنه وإن كان خطاب للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنّة لا بالقرآن.
وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة، وكأنه قال انكحوا مجموع هذا العدد المذكور، فهذا جهل بالمعنى العربي، ولو قال انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً، كان هذا القول له وجه، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا.
وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني.
وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اختر منهن وفي لفظ أمسك منهن أربعاً وفارق سائرهن (١)، وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق.
_________
(١) الدارقطني ٢/ ١٤٩٢.
وأخرج ابن ماجه والنحاس في ناسخه عن قيس بن الحارث الأسدي قال أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأتيت النبي - ﷺ - فأخبرته فقال اختر منهن أربعاً وخلّ سائرهن ففعلت، وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقي.
وعن الحكم قال أجمع أصحاب رسول الله - ﷺ - على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين، وفي بعض التفاسير هنا خلط وخبط تركناه لأنه تطويل بلا طائل، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
(فإن خفتم ألا تعدلوا) بين الزوجات في القسم والنفقة ونحوهما (فواحدة) أي فانكحوا واحدة وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك.
(أو) انكحوا واقتصروا على (ما ملكت أيمانكم) من السراري وإن كثر عددهن كما يفيده الموصول، إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات، والمراد نكاحهن بطريق الملك لا بطريق النكاح، وفيه دليل على أنه لا حق للمملوكات في القسم كما يدل على ذلك جعله قسيماً للواحدة في الأمن من عدم العدل، وإسناد الملك إلى اليمين لكونها المباشرة لقبض الأموال وإقباضها ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب.
(ذلك) أي نكاح الأربعة فقط أو الواحدة أو التسري (أدنى) أقرب إلى (ألا تعولوا) تجوروا من عال الرجل يعول إذا مال وجار ومنه قولهم عال السهم عن الهدف أي مال عنه، وعال الميزان إذا مال.
والمعنى إن خفتم عدم العدل بين الزوجات فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور، وهو قول أكثر المفسرين.
وذكر ابن العربي أن عال يأتي لسبعة معان (الأول) مال (الثاني) زاد (الثالث) جار (الرابع) افتقر (الخامس) أثقل (السادس) قام بمعونة العيال ومنه قوله - ﷺ - وابدأ بمن تعول (١) (السابع) غلب ومنه عيل صبري، قال ويقال أعال الرجل كثر عياله، وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح.
ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي، وكذلك إنكار ابن العربي بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد، وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية، وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه.
وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمرو الدوري وابن الأعرابى، وقال أبو حاتم كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ولعله لغة، وقال الدوري هي لغة حِمْير.
قال ابن عطية: قول الشافعي نفسه حجة لأنه عربي فصيح، وقال الأزهري: والذي اعترض عليه وخطّأه عَجِل ولم يتثبت فيما قال، ولا ينبغي للحضرمي أن يعجل إلى إنكاره ما لا يحفظه من لغات العرب أهـ.
وبسط الرازي في هذا المقام من تفسيره. ورد على أبي بكر الرازي ثم قال: الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة.
وقرأ طلحة بن مصرف: أن لا تعيلوا بضم التاء، وهو حجة الشافعي.
_________
(١) البخاري كتاب الزكاة الباب ١٨.
وقد حكى ابن الأعرابي أن العرب تقول عال الرجل إذا كثر عياله، وكفى بهذا، وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي منها عال اشتد وتفاقم، حكاه الجوهري، وعال الرجل في الأرض إذا ضرب فيها حكاه الهروي، وعال إذا أعجز حكاه الأحمر، فهذه ثلاثة معان غير السبعة، والرابع عال كثر عياله، فحمله معاني عال أحد عشر معنى.
وعن قتادة في الآية قال: يقول إن خفت أن لا تعدل في أربع فثلاثاً وإلا فاثنتين وإلا فواحدة فإن خفت أن لا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك، وعن الربيع مثله، وعن الضحاك قال ألا تعدلوا في المجامعة والحب وفيه نظر، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك " (١) يعني في حبه لعائشة، والله تعالى يقول (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) وعن السدي " أو ملكت أيمانكم " قال: السراري.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عائشة عن النبي - ﷺ -[ذلك أدنى أن لا تعدلوا] قال أن لا تجوروا قال ابن أبي حاتم هذا حديث خطأ، والصحيح عن عائشة موقوف، وعن ابن عباس موقوف (٢).
وعن ابن عباس قال أن لا تميلوا، وعن مجاهد وأبي رزين وأبي مالك والضحاك مثله، وعن زيد بن أسلم أن لا يكثر من تعولوا، وعن سفيان بن عيينة أن لا تفتقروا.
_________
(١) أبو داود كتاب النكاح الباب ٣٨ - الترمذي كتاب النكاح الباب ٤١.
(٢) ابن كثير ٢/ ٤٥١.
(وآتوا) الخطاب للأزواج وقيل للأولياء (النساء صدقاتهنّ) بضم الدال جمع صدقة كسمرة قال الأخفش وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت.
(نحلة) بكسر النون وضمها لغتان، وأصلها العطاء نحلت فلاناً أعطيته، وعلى هذا فهي منصوبة على المصدرية لأن الإيتاء بمعنى الإعطاء وقيل النحلة التدين فمعنى نحلة تديناً قاله الزجاج وعلى هذا فهي منصوبة على المفعول له، وقال قتادة الفريضة، وعلى هذا فهي منصوبة على الحال وقيل طيبة النفس، قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا عن طيبة نفس، وقال ابن عباس: المهر، قالت عائشة: واجبة، وقال ابن جريج: فريضة مسماة وعن قتادة مثله.
ومعنى الآية على كون الخطاب للأزواج أعطوا النساء اللاتي نكحتموهن مهورهن التي لهن عليكم عطية أو ديانة منكم أو فريضة عليكم أو طيّبة من أنفسكم.
ومعناها على كون الخطاب للأولياء أعطوا النساء من قراباتكم التي قبضتم مهورهن من أزواجهن تلك المهور، وقد كان الولي يأخذ مهر قريبته في الجاهلية ولا يعطيها شيئاً. حكى ذلك عن أبي صالح والكلبي. والأول أولى وهو الأشبه بظاهر الآية وعليه الأكثر لأن الله تعالى خاطب الناكحين فيما قبله كما تقدم، فهذا أيضاً خطاب لهم.
وفي الآية دليل على أن الصّداق واجب على الأزواج للنساء، وهو مجمع عليه كما قال القرطبي، قال: وأجمع العلماء على أنه لا حد لكثيره واختلفوا في قليله.
(فإن طبن لكم) يعني النساء المتزوجات للأزواج (عن شيء منه) قال
والمعنى فإن طبن النساء لكم أيها الأزواج أو الأولياء عن شيء كائن من المهر، و (من) فيها وجهان أحدهما أنها للتبعيض ولذلك لا يجوز لها أن تهبه كل الصداق، وإليه ذهب الليث (والثاني) أنها للبيان، ولذلك يجوز أن تهبه المهر كله، وفي الكرخي وتذكير الضمير يعود على الصداق المراد به الجنس، قل أو كثر فيكون حملاً على المعنى.
(نفساً) نصب على التمييز لأن نفساً في معنى الجنس، وجيء بالتمييز مفرداً وإن كان قبله جمعاً لعدم اللبس، إذ من المعلوم أن الكل لسن مشتركات في نفس واحدة أي فإن طابت نفوسهن عن شيء من الصداق.
وفي طبن دليل على أن المعتبر في تحليل ذلك منهن لهم إنما هو طيبة النفس لا مجرد ما يصدر منها من الألفاظ التي لا يتحقق معها طيبة النفس، فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة النفس نفسها لم يحل للزوج ولا للولي وإن كانت قد تلفظت بالهبة أو النذر أو نحوهما.
وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار ما يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها لنقصان عقولهن وضعف إدراكهن وسرعة انخداعهن وانجذابهن إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب أو ترهيب.
(فكلوه) أي فخذوا ذلك الشيء الذي طابت به نفوسهن وتصرفوا فيه بأنواع التصرفات وخص الأكل لأنه معظم ما يراد بالمال وإن كان سائر الإنتفاعات به جائز كالأكل (هنيئاً مريئاً) يقال هناه الطعام والشراب يهنيه ومراه وأمراه من الهنا والمرا، والفعل هنا ومرأ أي أتى من غير مشقة ولا غيظ، وقيل هو الطيب الذي لا تنغيص فيه وقيل المحمود العاقبة الطيب الهضم؛ وقيل ما لا إثم فيه؛ والمقصود هنا أنه حلال لهم خالص عن الشوائب.
(ولا تؤتوا) أيها الأولياء (السفهاء) المبذرين من الرجال والنساء والصبيان (أموالكم) هذا رجوع إلى بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وقد تقدم الأمر بدفع أموالهم إليهم في قوله (وآتوا اليتامى أموالهم) فبينّ سبحانه ههنا أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه؛ وقد تقدم في البقرة معنى السفيه لغة.
واختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم فقال سعيد بن جبير: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالهم، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية، وقال مالك: هم الأولاد الصغار لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها ويبقوا بلا شيء. وقال مجاهد: هم النساء قال النحاس وغيره هذا القول لا يصح إنما تقول العرب سفايه أو سفيهات.
واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء فقيل أضافها إليهم لأدنى ملابسة فإنها بأيديهم وهم الناظرون فيها كقوله (فسلّموا على أنفسكم) وقوله (فاقتلوا أنفسكم) أي ليسلّم بعضكم على بعض وليقتل بعضكم بعضاً، وقيل أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم؛ فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل.
وقيل المراد أموال المخاطبين حقيقة؛ وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة؛ والمراد النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها كالنساء والصبيان ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تحصل المال ولا يتجنب وجوه الضرر التي تهلكه وتذهب به.
وقال الأخفش: المعنى قائمة بأموركم، فذهب إلى أنها نفع، وقال البصريون: قيماً جمع قيمة كديمة وديم أي جعلها الله قيمة للأشياء، وخطأ أبو علي الفارسي هذا القول وقال هي مصدر كقيام وقوام.
والمعنى أنها صلاح للحال وثبات له.
فأما على قول من قال إن المراد أموالهم على ما يقتضيه ظاهر الإضافة فالمعنى واضح، وأما على قول من قال إنها أموال اليتامى فالمعنى أنها من جنس ما تقوم به معايشكم ويصلح به حالكم من الأموال، قال الفراء الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي والأموال التي وكذا غير الأموال ذكره النحاس.
(وارزقوهم فيها) أي أطعموهم منها، قال ابن عباس: أنفقوا عليهم أي اجعلوا لهم فيها رزقاً أو افرضوا لهم، وآثر التعبير بفي على من مع أن المعنى عليها إشارة إلى أنه ينبغي للولي أن يتجر لموليه في ماله ويربحه له حتى تكون نفقته عليه من الربح لا من أصل المال، فالمعنى واجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا فيها وتربحوها لها.
(واكسوهم) هذا فيمن تلزم نفقته وكسوته من الزوجات والأولاد ونحوهم، وأما على قول من قال إن الأموال هي أموال اليتامى فالمعنى اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوهم من الأرباح، أو جعلوا لهم من أموالهم رزقاً ينفقونه على أنفسهم ويكتسون به.
وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على السفهاء وبه قال الجمهور،
(وقولوا لهم قولاً معروفاً) أي كلاماً ليّناً تطيب به نفوسهم، وقال مجاهد: أمروا أن يقولوا لهم قولاً جميلاً في البر والصلة قيل معناه ادعوا لهم بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم، وقيل معناه: عدوهم وعداً حسناً قاله ابن جريج أي بإعطائهم أموالهم كأن يقول الولي لليتيم مالك عندي وأنا أمين عليه، فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك، ويقول الأب لابنه مالي سيصير إليك، وأنت إن شاء الله تعالى صاحبه ونحو ذلك، وذلك لأجل تطييب خواطرهم، ولأجل أن يجدّوا في أسباب الرشد.
والظاهر من الآية ما يصدق عليه مسمى القول الجميل ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل والأولاد أو مع الأيتام المكفولين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح عنه " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " (١) وعن ابن عباس في الآية لا تعمد إلى مالك وما خوّلك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنتك ثم تضطر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم، وعنه لا تسلّط السفيه من ولدك على مالك، وأمره أن يرزقه منه ويكسوه، وعنه قال: هم بنوك والنساء.
وعن أبي أمامة مرفوعاً عند ابن أبي حاتم أن السفهاء النساء التي أطاعت قيمها. وعن أبي هريرة قال: هم الخدم وهم شياطين الإنس، وقال ابن مسعود: هم النساء والصبيان؛ وعن حضرمي أن رجلاً عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق فقال الله (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) الآية.
وعن ابن جبير قال: هم اليتامى والنساء وعن عكرمة قال هو مال اليتيم يكون عندك يقول لا تؤته إياه وأنفق عليه حتى يبلغ.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٣٣٠٩.
(وابتلوا اليتامى) شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم، وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق، والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء، والابتلاء الاختبار، وقد تقدم تحقيقه، وقد اختلفوا في معنى الاختبار فقيل هو أن يتأمّل الوصي أخلاق يتيمه ليعلم بنجابته وحسن تصرفه فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وآنس منه الرشد، وقيل معنى الإختبار أن يدفع إليه شيئاً من ماله ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله.
وقيل معنى الاختبار أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره، وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها، وهذا الخطاب للأولياء، والاختبار واجب على الولي، وقيل نزلت هذه الآية في ثابت بن رفاعة وعمه.
(حتى إذا بلغوا النكاح) المراد ببلوغ النكاح بلوغ الحلم لقوله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم) ومن علامات البلوغ الإنبات، وبلوغ خمس عشرة سنة. وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة، وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى، وتختص الأنثى بالحبل والحيض.
(فإن آنستم) أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله (آنس من جانب الطور ناراً) قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً معناه تبصر، وقيل: هو هنا بمعنى وجد وعلم أي فإن وجدتم وعلمتم.
وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر، وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا يحجر على الحر البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً، وبه قال النخعي وزفر.
وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد، فلا بد من مجموع الأمرين، فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ وإن كانوا معروفين بالرشد، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم، والمراد بالرشد نوعه وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها ووضعها في مواضعها.
(فادفعوا إليهم أموالهم) من غير تأخير إلى حد البلوغ (ولا تأكلوها) أيها الأولياء (إسرافاً وبداراً أن يكبروا) الإسراف في اللغة الإفراط ومجاوزة الحد بغير حق، وقال النضر بن شميل: السرف التبذير، والبدار المبادرة أي لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم أو لا تأكلوا لأجل السرف ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين ومبادرين لكبرهم، وتقولوا ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينزعونها من أيدينا.
(ومن كان) من الأولياء (غنياً فليستعفف) أي يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله (ومن كان فقيراً فليأكل) منه (بالمعروف) بيّن سبحانه ما يحل
واختلف أهل العلم فيه ما هو فقال قوم هو القرض إذا احتاج إليه، ويقضي متى أيسر الله عليه، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة السلماني وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية ومقاتل والأوزاعي وأبو وائل، وقال النخعي وعطاء والحسن وقتادة: لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف، وبه قال جمهور الفقهاء وهذا بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير فرض.
والمراد بالمعروف المتعارف به بين الناس فلا يترفه بأموال اليتامى ويبالغ في التنعم بالمأكول والمشروب والملبوس، ولا يدع نفسه عن سد الفاقة وستر العورة، قال عطاء وعكرمة: يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي ولا يلبس الكتان ولا الحلل، ولكن يأكل ما يسد به الجوع ويلبس ما يستر العورة.
وقال الحسن: يأكل من تمر نخله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة فلا يأخذ منه شيئاً فإن أخذ وجب عليه رده، وقال الكلبي: المعروف هو ركوب الدابة وخدمة الخادم، وليس له أن يأكل من ماله شيئاً، وقال قوم: هو أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله، ولا قضاء عليه، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم، والأول أولى.
وقال ابن عباس في الآية نسختها (إن الذين يأكلون أموال اليتامى) الآية والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين مما يصلحهم كالأب والجد ووصيهما.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالآية اليتيم إن كان غنياً وسّع عليه وعف
وعن ابن عباس قال: إن كان فقيراً أخذ من فضل اللبن وأخذ من فضل القوت ولا يجاوزه وما يستر عورته من الثياب، فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل.
أخرج البيهقي وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم عن ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ليس لي مال ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثّل مالاً ومن غير أن تقي مالك بماله (١).
(فإذا) حصل مقتضى الدفع و (دفعتم إليهم أموالهم) بعد رعاية الشرائط المذكورة: (فأشهدوا عليهم) أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم، وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم، وقيل إن الإشهاد المشروع هو على ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم، وقيل هو على رد ما استقرضه إلى أموالهم.
وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم، وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد والدفع للجميع إليهم بعد الرشد، وهذا أمر إرشاد وليس للوجوب (وكفى بالله حسيباً) لأعمالكم شاهداً عليكم في كل شيء تعملونه، ومن جملة ذلك معاملتكم اليتامى في أموالهم، وفيه وعيد عظيم، والباء زائدة أي كفى الله، قال أبو البقاء: زيدت لتدل على معنى الأمر إذ التقدير اكتف بالله، وهذا القول سبقه إليه مكي والزجاج.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٤٣٧٣.
(للرجال) يعني المذكور من أولاد الميت وعصبته (نصيب) حظ (مما ترك) من الميراث (الوالدان والأقربون) المتوفّون، لما ذكر سبحانه حكم أموال اليتامى وصلتها بأحكام المواريث وكيفية قسمتها بين الورثة وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال على الاستقلال لأجل الاعتناء بأمرهن، وللإيذان بأصالتهنّ في استحقاق الإرث، وللمبالغة في إبطال ما عليه الجاهلية فقال (للنساء) أي الإناث من أولاد الميت (نصيب) حظ (مما ترك الوالدان والأقربون) أي من المال المخلّف عن الميت، وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث مع التعميم لما يصدق عليه مسمّى القربة من دون تخصيص.
(مما قلّ منه أو كثر) بدل من قوله (مما ترك) بإعادة الجار، والضمير في (منه) راجع إلى المبدل منه، وهذا الأمر مراد في الجملة الأولى أيضاً محذوف للتعويل على المذكور، وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلة الحرب للرجال، وتحقيق أن لكل من الفريقين حقاً من كل ما دقّ وجلّ.
وقد أجمل سبحانه في هذه المواضع قدر النصيب المفروض، ثم أنزل قوله (يوصيكم الله في أولادكم) فبيّن ميراث كل فرد جعله الله (نصيباً مفروضاً) وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، والحنفية أيضاً قائلون بجواز تأخيره، والفرض ما فرضه الله تعالى وهو آكد من الواجب أو مقطوعاً بتسليمه إليهم، فلا يسقط بإسقاطهم، ففي الآية دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه بالإعراض، قاله البيضاوي.
وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة وأن الأمر للندب، وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) والأول أرجح لأن المذكور في الآية لقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال إنها منسوخة بآية المواريث، إلا أنه إن قيل: إن أولي القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه.
وقالت طائفة إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة. وهو معنى الأمر الحقيقي فلا يصار إلى الندب إلا لقرينة، والضمير في قوله (منه) راجع إلى المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل راجع إلى ما ترك؛ وهذا خطاب للورثة الكاملين.
(و) قوله (قولوا) خطاب لأولياء اليتامى إذا كان الورثة صغاراً (لهم) أي للأصناف الثلاثة (قولاً معروفاً) وهو القول الجميل الذي ليس
وقال مجاهد: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم، وكذا قال الحسن والزهري، وقال ابن عباس: يرضخ لهم، فإن كان في ماله تقصير اعتذر إليهم فهو قوله (قولاً معروفاً) وعن عائشة أنها لم تنسخ ولكن تهاون الناس في العمل بها، وعن سعيد بن المسيب قال: هي منسوخة أي بآية الميراث، وعن سعيد بن جبير قال: إن كانوا كباراً يرضخوا، وإن كانوا صغاراً اعتذروا إليهم.
وبعضهم جعل الخطاب لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء وإليه ذهب البيضاوي؛ أو أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافاً مثلهم هل يجوزون حرمانهم، أو أمر للمؤمنين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية، والأول أولى.
(فليتّقوا الله) يعني في الأمر الذي تقدم ذكره. قالت طائفة: المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم، وقال آخرون: إن المراد بهم من يحضر الميت عند موته أمروا بتقوى الله،
وقال ابن عطية: الناس صنفان يصلح لأحدهما أن يقال له عند موته ما لا يصلح للآخر، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثته ضعفاء مفلسين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإنّ أجره في قصده ذلك كأجره في المساكين.
قال القرطبي: وهذا التفصيل صحيح والمعنى وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع من بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم، ثمّ أمرهم بتقوى الله والقول السديد للمحتضرين أولاً، ولأولادهم من بعدهم على ما سبق.
قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأذنيه وعينيه وأنفه يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم، وإنما خص
(وسيصلون سعيراً) بأكلهم أموال اليتامى، وقرىء سيصلون من التصلية لكثرة الفعل مرة بعد أخرى؛ وقرأ الباقون بفتح الياء من صلى النار يصلاها، والصلا هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها، والسعير الجمر المشتعل، وقيل النار الموقدة.
أخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً فقيل يا رسول الله من هم؟ قال ألم تر أن الله يقول (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً) الآية (١).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال حدثنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ليلة أسري به قال " نظرت فإذا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار فيقذف في أحدهم حتى يخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ، فقلت يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً الآية (٢).
وقال زيد بن أسلم: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٤٥٦.
(٢) قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلماً ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه، وأذنيه، وأنفه، وعينيه، يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم أخرجه ابن جرير ٨/ ٢٦ من طريق أسباط.
(يوصيكم الله في أولادكم) هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى (للرجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون) من أحكام المواريث، وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذه الآية بطولها ركن من أركان الدين وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض، وقد كان هذا العلم من أجل علوم الصحابة رضي الله عنهم وأكثر مناظراتهم فيه، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض، ذكر بعد فضائل هذا العلم إن شاء الله تعالى.
وبدأ بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثر بقاء بعد المورث، والمراد بالوصية في الأولاد الوصية في شأن ميراثهم، وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا؟ فقالت الشافعية إنهم يدخلون مجازاً لا حقيقة، وقالت الحنفية: إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب.
ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافراً ويخرج بالسنة، وكذلك يدخل القاتل عمداً ويخرج أيضاً بالسنة والإجماع، ويدخل فيه الخنثى.
وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة، وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين للحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ " ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر " إلا إذا كان ساقطاً معهم كالإخوة لأم (١).
(للذكر مثل حظ الأنثيين) جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد، فلا بدّ من تقدير ضمير يرجع إليهم أي يوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، والمراد حال اجتماع المذكور والإناث، وأما حال الإنفراد فللذكر جميع الميراث وللأنثى النصف وللأنثيين فصاعداً الثلثان (٢).
وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه لأن القصد إلى بيان فضله والتنبيه على أن التضعيف كاف في التفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة، وإن فائدة التعصيب أن العاصب إذا انفرد حاز المال كله.
(فإن كنّ) الأولاد المتروكات والتأنيث باعتبار الخبر أو البنات أو المولودات (نساء) ليس معهن ذكر (فوق اثنتين) أي زائدات على إثنتين على أن فوق صفة لنساء أو يكون خبراً ثانياً لكان (فلهن ثلثا ما ترك) الميت المدلول عليه بقرينة المقام.
_________
(١) إنما زاد نصيب الرجل في الميراث لما يجب عليه من الأعباء كالمهر والنفقة.
(٢) مسلم ١٦١٥ البخاري ٢٤٩٦.
احتج الجمهور بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه قال في شأنهما فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين.
وقيل في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للإبنتين إذا انفردتا الثلثان، هكذا احتجّ بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد، قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين.
وأيضاً للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين وابناً فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت بقوله (وإن كانت واحدة فلها النصف) كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين الإقتصار للبنتين على الثلثين.
وقيل: إن فوق زائدة والمعنى إن كن نساء اثنتين كقوله تعالى (فاضربوا فوق الأعناق) أي الأعناق، ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا: هو خطأ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى وقال ابن عطية: ولأن قوله (فوق الأعناق) هو الفصيح، وليس فوق زائدة بل هي محكمة المعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن يكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ كما قال دريد بن الصمة: اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال انتهى.
وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي في سننه عن جابر قال جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيداً وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث (يوصيكم الله في أولادكم) الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمهما فقال: اعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك، أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال الترمذي ولا يعرف إلا من حديثه (١).
(وإن كانت واحدة) قرىء بالرفع على أن كان تامة بمعنى فإن وجدت بنت واحدة أو حدثت واحدة؛ وقرىء بالنصب، قال النحاس: وهذه قراءة حسنة أي وإن كانت أي المتروكة أو المولودة واحدة (فلها النصف) يعني فرضاً لها.
(ولأبويه) أي الميت وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه والمراد بالأبوين الأب والأم والتثنية على لفظ الأب للتغليب، وهذا شروع في إرث الأصول (لكل واحد منهما السدس مما ترك) بدل من لأبويه بتكرير العامل، قاله الزمخشري، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل ولأبويه السدس لكان ظاهرها اشتراكهما فيه، ولو قيل لأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما بالسوية وعلى خلافها.
_________
(١) المستدرك كتاب الفرائض ٤/ ٣٣٤.
فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال بقول أبي بكر: ابن عباس وعبد الله ابن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة وعطاء وطاوس والحسن وقتادة وأبو حنيفة وأبو ثور وإسحق، واحتجوا بمثل قوله تعالى (ملّة أبيكم إبراهيم) وقوله (يا بني آدم) وقوله - ﷺ - إرموا يا بني إسماعيل.
وذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الجدّ مع الأخوة لأبوين أو لأب ولا ينقص معهم من الثلث ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد ومالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي، وقيل يشرك بين الجد والأخوة إلى السدس ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة.
وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الأخوة، وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الأخوة في المقاسمة مجرى الأخوة.
وأجمع العلماء أن للجدة السدس إذا لم تكن للميت أم، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدة أم الأم.
واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي، فروى عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي أنها لا ترث وابنها حي، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وروى عن عمر وابن مسعود وأبي موسى أنها ترث معه، وروى أيضاً عن علي وعثمان وبه قال شريح وجابر بن زيد وعبيد الله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحق وابن المنذر.
(إن كان له ولد) الولد يقع على الذكر والأنثى لكنه إذا كان الموجود الذكر مع الأولاد وحده أو مع الأنثى منهم فليس للجد إلا الثلث، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض وهو عصبة فيما عدا السدس وأولاد ابن الميت كأولاد الميت.
وروى عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين وهو يستلزم تفضيل الأم على الأب في مسئلة زوج وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين.
(فإن كان له إخوة) يعني ذكوراً أو إناثاً اثنين فصاعداً (فلأمه السدس) يعني لأم الميت سدس التركة إذا كان معها أب، وإطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما، وقد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الإخوة يقومان مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأم إلى السدس إلا ما يروى عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب، وأجمعوا أيضاً أن الأختين فصاعداً كالأخوين في حجب الأم.
(من بعد وصية يوصي بها أو دين) يعني أن هذه الأنصبة والسهام إنما تقسم بعد قضاء الدين وإنفاذ وصية الميت في ثلثه، قرىء يوصى بفتح الصاد وبكسرها واختار الكسر أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا.
واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدماً عليها بالإجماع مقيل المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما، وقيل لما كانت الوصية أقل لزوماً من الدين قدمت إهتماماً بها، وقيل قدمت لكثرة وقوعها فصارت كالأمر اللازم لكل ميت وقيل قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان.
وقيل لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت بخلاف الدين فإنه
وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم عن علي قال: إنكم تقرؤون هذه الآية من بعد وصية يوصي بها أو دين وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدين قبل الوصية؛ وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلاّت.
(آباؤكم وأبناؤكم) قيل خبره مقدر أي هم المقسوم عليهم أو خبره (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً) أي نفعه في الدعاء لكم والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح " أو ولد صالح يدعو له " (١) وقال ابن عباس والحسن قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه.
وقال بعض المفسرين إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه؛ وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه؛ وقيل المراد النفع في الدنيا والآخرة قاله ابن زيد.
وقيل المعنى أنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم أمن وصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً أو من ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا، وقوى هذا صاحب الكشاف قال لأن الجملة اعتراضية ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه.
(فريضة من الله) نصب على المصدر المؤكد، وقيل على الحال، والأول أولى، والمعنى ما قدر من المواريث لأهلها فريضة واجبة (إن الله كان عليماً) بقسمة المواريث (حكيماً) حكم بقسمتها وبيّنها لأهلها، وقال الزجاج: عليماً بالأشياء قبل خلقها، حكيماً فيما يقدره ويمضيه منها.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٨٠٥.
(ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد) منكم أو من
غيركم، الخطاب هنا للرجال والمراد بالولد ولد الصلب أو ولد الولد؛ ذكراً كان أو أنثى لما قدّمنا من الإجماع (فإن كان لهن ولد فلكم الرّبع مما تركن) وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف ومع وجوده وإن سفل الربع (من بعد وصيّة يوصين بها أو دين) الكلام فيه كما تقدم أي حالة كونهن غير مضارّات في الوصية، وألحق بالولد في ذلك ولد الإبن بالإجماع وهذا ميراث الأزواج من الزوجات.
وقال تعالى في ميراث الزوجات من الأزواج (ولهن) أي الزوجات تعددن أوْلاً (الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد) منهن أو من غيرهن (فإن كان لكم ولد فلهنّ الثمن مما تركتم) هذا النصيب مع الولد والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات ويشترك فيه الأكثر عن الواحدة، لا خلاف في ذلك.
(وإن كان رجل) ميت (يورث) على البناء للمفعول من ورث لا من أورث (كلالة) مصدر من تكلله النسب أي أحاط به وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس وهو الميت الذي لا ولد له ولا والد، هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم، وبه قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتيبي وأبو عبيد وابن الأنباري، وقد قيل إنها إجماع، وقال ابن كثير: وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم، وقد حكى الإجماع غير واحد وورد فيه حديث مرفوع انتهى. (١)
وقال في الجمل هذا أحسن ما قيل في تفسير الكلالة، ويدل على صحته أن اشتقاق الكلالة من كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة بينهما فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه.
وروى أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال: الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة، قال أبو عمرو بن عبد البر ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له ولم يذكره في شرط الكلالة غيره، وما يروى عن أبي بكر وعمر من أن الكلالة من لا ولد له خاصة فقد رجعا عنه.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٤٦٠.
وقيل إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء، قال ابن الأعرابي: إن الكلالة بنو العم الأباعد.
وبالجملة من قرأ يورث كلالة بكسر الراء مشددة وهو بعض الكوفيين أو مخففة وهو الحسن وأيوب جعل الكلالة القرابة. ومن قرأ يورث بفتح الراء وهم الجمهور احتمل أن يكون الكلالة الميت واحتمل أن تكون القرابة.
وقد روى عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس والشعبي أن الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة.
قال الطبري: الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده لصحة خبر جابر قلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة أفأوصي بمالي كلّه قال لا. انتهى.
وروى عن عطاء أنه قال الكلالة المال، وقال ابن الأعرابي وهذا قول ضعيف لا وجه له.
وقال صاحب الكشاف إن الكلالة تطلق على ثلاثة: على من لا يخلف ولداً ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا والمد من المخلّفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد انتهى.
وفي السمين: هذه الآية مما ينبغي أن يطول فيها القول لإشكالها واضطراب أقوال الناس فيها ثم قال بعد ذكر الاختلاف فيها فقد تخلص مما
(أو امرأة) معطوف على رجل مقيد بما قيد به أي كانت المرأة الموروثة خالية من الوالد والولد (وله أخ أو أخت) قرأ سعد بن أبي وقاص وابن مسعود (من أم) والقراءة الشاذة كخبر الآحاد لأنها ليست من قبل الرأي، وأطلق الشافعي الاحتجاج بها فيما حكاه البويطي عنه في باب الرضاع وباب تحريم الجمع وعليه جمهور أصحابه لأنها منقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيّتها انتفاء خصوص خبريّتها، قاله الكرخي.
قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الإخوة ههنا هم الإخوة لأم، قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الأخوة المذكورين في قوله تعالى (وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) هم الإخوة لأبوين أو لأب.
وأفرد الضمير في قوله (وله أخ أو أخت) لأن المراد كل واحد منهما كما جرت بذلك عادة العرب إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفرداً كما في قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة) وقوله (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) وقد يذكرونه مثنى كما في قوله (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما) وقد قدمنا في هذا كلاماً أطول من المذكور هنا.
(فلكلّ واحد منهما السدس) مما ترك المورث (فإن كانوا أكثر من ذلك) الأخ المفرد والأخت المنفردة بواحد وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعداً ذكرين أو انثيين أو ذكراً وأنثى، وقد استدل بذلك على أن الذكر كالأنثى من الأخوة لأم لأن الله شرك بينهم في الثلث ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى كما ذكره في البنين والإخوة لأبوين أو لأب، قال القرطبي: وهذا أجمل.
ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم وهو كون الميت كلالة ويؤيد هذا حديث ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأول رجل ذكر وهو في الصحيحين وغيرهما، وقد قرر الشوكاني دلالة الآية والحديث على ذلك في الرسالة التي سماها المباحث الدرية في المسائل الحمارية، وفي هذه المسئلة خلاف بين الصحابة فمن بعدهم معروف.
(فهم شركاء في الثلث) يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم لإدلائهم بمحض الأنوثة (من بعد وصيّة يوصى بها أو دين) الكلام فيه كما تقدم، وظاهر الآية يدل على جواز الوصية بكل المال وببعضه، ولكن ورد في السنة ما يدل على تقييد هذا المطلق وتخصيصه وهو قوله - ﷺ - في حديث سعد بن أبي وقاص قال " الثلث والثلث كثير " أخرجه البخاري ومسلم (١)، ففي هذا دليل على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث وأن النقصان عن الثلث جائز.
(غير مضارّ) أي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الإضرار كان يقر بشيء ليس عليه أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار بالورثة أو يوصي لوارث مطلقاً أو لغيره بزيادة على الثلث ولم يجزه الورثة، وهذا القيد راجع إلى الوصية والدين المذكورين فهو قيد لهما فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء لا الثلث ولا دونه.
_________
(١) مسلم ١٦٢٩ - البخاري ١٣١٨.
قال أبو السعود في تفسيره وتخصيص القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم.
أخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه واللفظ له والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ثم يقول أبو هريرة اقرؤا إن شئتم (تلك حدود الله إلى قوله عذاب مهين) وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال معروف (١).
وأخرج ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ - " من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة ".
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي - ﷺ - أتاه يعوده في مرضه فقال: إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة لي أفاتصدق بالثلثين، قال لا قال فالشطر، قال لا، قال فالثلث، قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. (٢)
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٦١٩. وفي رواية " إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " وقرأ أبو هريرة ها هنا:
" (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار | حتى بلغ الفوز العظيم). |
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثلث كثير، وقال عمر بن الخطاب الثلث وسط لا بخس ولا شطط.
وعن علي قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث ومن أوصى بالثلث لم يترك.
(وصية من الله) نصب على المصدر المؤكد أي يوصيكم بذلك وصية كائنة من الله، قال ابن عطية: ويصح أن يعمل فيها مضار، والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزاً فيكون وصية على هذا مفعولاً به لأن اسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال أو لكونه منفياً معنى.
وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل على أنه قد وصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة في الفرائض، وإن كل وصية من عباده يخالفها فهي مسبوقة بوصية الله وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه (والله عليم حليم) قال الخطابي: الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب، ولا يستخفه جهل جاهل (١).
_________
(١) جاء في كتاب الكبائر للامام الذهبي/٢٣٤.
قال ابن عباس: يريد ما أحل الله من الميراث (ومن يطع الله ورسوله) في شأن المواريث (يدخل جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله) قال مجاهد فيما فرض الله من المواريث.
وقال عكرمة عن ابن عباس من لم يرض يقسم الله ويتعد ما قال الله (يدخله ناراً).
وقال الكلبي يعني يكفر بقسمة الله المواريث ويتعدى حدوده استحلالاً (يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين).
وجاء عنه - ﷺ - أنه قال: " من فر بميراث وارث قطع الله ميراثه من الجنة ".
وقال عليه الصلاة والسلام: " أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " صححه الترمذي.
والإشارة بقوله
(ومن يطع الله ورسوله) في قسمة المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية كما يفيده عموم اللفظ (يدخله) بالياء والنون (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) الذي لا فوز وراءه وهكذا قوله
روعي في الضمائر في الآيتين وفي خالداً لفظ (من) وفي خالدين معناها، قال الضحاك: والمعصية هنا الشرك.
وقال ابن عباس في معنى الآية: ومن لم يرض بقسمة الله ويتعد ما حده، وقال الكلبي: يكفر بقسمة المواريث فإذا كفر كان حكمه حكم الكفار في الخلود في النار إذا لم يتب قبل موته وإذا مات وهو مصر على ذلك كان مخلداً في النار، فلا دليل في الآية للمعتزلة على أن العصاة والفساق من أهل الإيمان يخلدون في النار.
وقد ورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم
وأخرجا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله وصلى الله عليه وسلم - تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم وأنه ينسى وهو أول ما ينزع من أمتي، وأخرجه ابن ماجه والدارقطني ولفظهما هو أول علم ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي (٢).
قد روي عن عمرو ابن مسعود وأنس آثار في الترغيب في الفرائض، وكذلك روي عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.
وهذا العلم من أعظم العلوم قدراً وأشرفها ذخراً وأفضلها ذكراً، وهو ركن من أركان الشريعة، وفرع من فروعها في الحقيقة، اشتغل الصدر الأول من الصحابة بتحصيلها وتكلموا في فروعها وأصولها، ويكفي في فضلها أن الله تولى قسمتها بنفسه وأنزلها في كتابه مبينة في محل قدسه، وقد حث رسول الله - ﷺ - على تعليمها كما ذكرنا.
وقد ذكر بعض المفسرين أحكام الفرائض وأسباب الإرث في هذا المقام من تفسيره وإنما محلها كتب الفروع، وذكروا من تخاريج هذا العلم ما لم يكن له مستند إلا محض الرأي. وليس مجرد الرأي مستحقاً للتدوين. فلكل عالم رأيه واجتهاده مع عدم الدليل ولا حجة في اجتهاد بعض أهل العلم على البعض الآخر، ويكفيك منها ما ثبت في الكتاب والسنة وما عرض لك وما لم يكن فيهما فاجتهد فيه برأيك عملاً بحديث معاذ المشهور (٣).
_________
(١) المستدرك كتاب الفرائض ٤/ ٣٣٣.
(٢) المستدرك كتاب الفراثض ٤/ ٣٣٢ - الدارقطني كتاب الفرائض ٤/ ٦٧.
(٣) المسند ٥/ ٢٣٠.
-[٥١]-
حدثنا عبد الله: حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي عون عن الحرث بن عمر وبن أخي المغيرة بن شعبة عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص عن معاذ أن رسول الله ﷺ حين بعثه إلى اليمن فقال كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله ﷺ قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال اجتهد رأي لا آلو قال فضرب رسول الله ﷺ صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول الله ﷺ لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأولو الأرحام يتوارثون وهم أقدم من بيت المال، فإن تزاحمت الفرائض فالعول، ولا يرث ولد الملاعنة والزانية إلا من أمه وقرابتها والعكس، ولا يرث المولود إلا إذا استهل، وميراث العتيق لمعتقه ويسقط بالعصبات وله الباقي بعد ذوي السهام، ويحرم بيع الولاء. وهبته، ولا توارث بين أهل ملَّتين ولا يرث القاتل من المقتول.
هذا جميع ما ثبت بالسنة المطهرة فاشدد عليه يديك.
واللاتي جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ وفيه لغات ويقال في جمع الجمع اللواتي واللوائي واللوات واللواء، والفاحشة الفعلة القبيحة وهي مصدر كالعافية والعاقبة، والمراد بها هنا الزنا خاصة، وإتيانها فعلها ومباشرتها.
(من نسائكم) هن المسلمات (فاستشهدوا عليهن أربعة) خطاب للأزواج أو للحكام، قال عمر بن الخطاب إنما جعل الله الشهود أربعة ستراً يستركم به دون فواحشكم (منكم) المراد به الرجال المسلمون.
(فإن شهدوا) عليهن بها (فأمسكوهنّ) احبسوهن (في البيوت) وامنعوهن من مخالطة الناس، لأن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز إلى الرجال، فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزنا، عن ابن عباس قال: كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيت فإن ماتت ماتت، وإن عاشت عاشت حتى نزلت الآية في سورة النور (الزانية والزاني فاجلدوا) فجعل الله لهن سبيلاً فمن عمل شيئاً جلد وأرسل، وقد روي عنه من وجوه (١).
_________
(١) أخرجه ابن جرير ٨/ ٨٤ وأبو داود ٤/ ٢٠٢؛ وقد كان الرجم من الأمم التي سبقتنا.
_________
(١) مسلم ١٦٩٠. ورواه أحمد ٥/ ٣١٨ والشافعي في الرسالة ١٢٩/ ٢٤٧ ومسلم ٣/ ١٣١٦ وأبو داود ٤/ ٢٠٢ باختلاف في الروايات.
والمراد (باللذان) هنا الزاني والزانية تغليباً، وقيل الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات، والثانية في الرجال خاصة وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن، فعقوبة النساء وعقوبة الرجال الأذى، واختار هذا النحاس ورواه عن ابن عباس ورواه القرطبي عن مجاهد وغيره واستحسنه.
وقال السدي وقتادة وغيرهما: الآية الأولى في النساء المحصنات ويدخل معهن الرجال المحصنون، والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين، ورجحه الطبري وضعفه النحاس، وقال تغليب المؤنث على المذكر بعيد.
(فآذوهما) واختلف المفسرون في تفسير الأذى فقيل التوبيخ والتعيير وقيل السب والجفاء من دون تعيير وتقريع، وقيل النيل باللسان والضرب بالنعال وقد ذهب قوم إلى أن الاذى منسوخ بالحد كالحبس إن أريد به الزنا وكذا إن أريد اللواط عند الشافعي، لكن المفعول به لا يرجم عنده وإن كان محصناً بل يجلد ويغرب، وأما الفاعل فيرجم إن كان محصناً، وارادة اللواط أظهر بدليل تثنية الضمير، وقيل ليس بمنسوخ كما تقدم في الحبس، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين كمجاهد وقتادة والحسن وسعيد بن جبير والسدي.
(فإن تابا) من الفاحشة (وأصلحا) العمل فيما بعد (فأعرضوا عنهما) أي اتركوهما وكفوا عنهما الأذى (إن الله كان تواباً رحيماً) وهذا كان قبل نزول الحدود في ابتداء الإسلام على ما تقدم من الخلاف، فثبت الجلد على البكر بنص الكتاب وثبت الرجم على الثيب المحصن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجم ماعزاً وكان قد أحصن.
(إنما التوبة على الله) إستئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الإطلاق كما ينبىء عنه قوله (تواباً رحيماً) بل إنما يقبل من البعض دون البعض كما بينه النظم القرآني ههنا، وقيل المعنى إنما التوبة على فضل الله ورحمته لعباده.
وقيل المعنى إنما التوبة واجبة على الله، وهذا على مذهب المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين.
وقال أهل المعاني: المعنى أوجب على نفسه من غير إيجاب أحد عليه لأنه يفعل ما يريد، وقيل على هنا بمعنى عند، وقيل بمعنى من.
وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون) وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافا للمعتزلة.
وقيل إن قوله (على الله) هو الخبر، وقوله الآتي (للذين) متعلق بما تعلق به الخبر، إلا أن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام هو كون للذين خبراً، وقال أبو حيان التقدير إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله، فتكون (على) هنا باقية على أصلها.
(للَّذين يعملون السوء) أي العمل السيء والمعصية متصفين (بجهالة) أو جاهلين إذا عصوا، قال أبو العالية هذه للمؤمنين، وقد حكى القرطبي عن قتادة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن كل
وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، ومنه قوله تعالى (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) وقال الزجاج: معنى بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، وقيل معناه أنهم لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك وضعفه ابن عطية.
وعن أبي العالية أن أصحاب رسول الله - ﷺ - كانوا يقولون كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة، وعن ابن عباس قال: من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء.
(ثم يتوبون من قريب) معناه قبل أن يحضرهم الموت كما يدل عليه قوله (حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) وبه قال أبو مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم، وقيل المراد قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه.
ومن للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب، وهو ما عدا وقت حضور الموت، وإنما كان الزمن الذي بين فعل المعصية وبين وقت الغرغرة قريباً ولو كان سنين لأن كل ما هو آت قريب وإن طال قليل.
وفيه تنبيه على أن الإنسان ينبغي له أن يتوقع في كل ساعة نزول الموت به، وقيل معناه قبل المرض وهو ضعيف بل باطل لما قدمنا ولما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (١).
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٨٩٩. زاد المسير ٥/ ٣٧.
وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر ذكرها ابن كثير في تفسيره، ومنها الحديث الذي قدمنا ذكره، والغرغرة أن يجعل المشروب في فم المريض فيردّه في الحلق ولا يصل إلى جوفه، ولا يقدر على بلعه. وذلك عند بلوغ الروح إلى الحلقوم. وقيل الغرغرة تردد الروح في الحلق.
(فأولئك يتوب الله عليهم) هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم ويقبل توبتهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم (وكان الله عليماً) بما في قلوبهم من التصديق فحكم بالتوبة قبل الموت ولو بقدر فواق ناقة، وقيل علم أنه أتى بتلك المعصية باستيلاء الشهوة والجهالة عليه فحكم بالتوبة لمن تاب عنها وأناب عن قريب (حكيماً) في صنعه (١).
_________
(١) وقد وردت الأحاديث في التوبة كثيرة منها:
- عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون " رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وإسناده حسن ".
- عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى، رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
(وليست التوبة للّذين يعملون السيئآت) الذنوب، فيه تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ثم تاب عن قريب، قال أبو العالية: هذه لأهل النفاق وبه قال سعيد بن جبير، قال ابن عباس: يريد أهل الشرك أي الكفار، وقال الثوري: هم المسلمون. ألا ترى أنه قال ولا الذين يموتون وهم كفار.
(حتى) حرف ابتداء، وجملة (إذا حضر أحدهم الموت) غاية لا قبلها، وهذا وجه حسن وحضور الموت حضور علاماته وبلوغ المريض إلى حالة السياق ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق وهي بلوغ روحه حلقومه، قاله الهروي.
(قال) عند مشاهدة ما هو فيه (إني تبت الآن) أي وقت حضور الموت حين لا يقبل من كافر إيمان ولا من عاص توبة، قال تعالى (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) قيل قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال، ولذلك لم تقبل توبة فرعون ولا إيمانه حين أدركه الغرق.
(ولا الذين يموتون وهم كفار) إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب، قال أبو العالية هذه لأهل الشرك وروى عن الربيع مثله مع أنه لا توبة لهم رأساً، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت، وإن وجودها كعدمها أي ليست التوبة لهؤلاء ولا لهؤلاء (أولئك أعتدنا لهم) أي أحضرنا وهيأنا لهم وأعددنا (عذاباً أليماً) مؤلماً.
(يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكم) أيها الأولياء (أن ترثوا النساء) أى ذاتهن (كرهاً) بالفتح والضم لغتان أي مكرهين على ذلك، هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات، والمقصود نفي الظلم عنهن، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بأمرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤا زوجوها وإن شاؤا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت (١).
وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها.
وقد روى هذا السبب بألفاظ فمعناها لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم وتحبسوهن لأنفسكم.
(ولا) يحل لكم أن (تعضلوهن) عن أن يتزوجهن غيركم ضراراً (لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) أي لتأخذوا ميراثهن إذا متن أو ليدفعن إليكم
_________
(١) الأثر رواه البخاري في " صحيحه " ٨/ ١٨٦ ولفظه: " كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك " ورواه ابن جرير ٨/ ١٠٤، وأبو داود في " سننه " ٢/ ٣١٠.
أخرجه ابن جرير ٨/ ١٠٥ وابن مردويه، ورجال إسناده ثقات.
(إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) فإنها إذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بما لها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج، قال الحسن: إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى ويرد إلى زوجها ما أخذت منه، وقال أبو قلابة إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه، وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن.
وقال قوم الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولاً وفعلاً، وقال مالك وجماعة من أهل العلم للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.
هذا كله على أن الخطاب في قوله (ولا تعضلوهن) للأزواج، وقد عرفت ما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله (ولا تعضلوهن) لمن خوطب بقوله (لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرهاً) فيكون المعنى ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أي ما آتاهن من ترثونه إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فحينئذ يجوز لكم حبسهن عن الأزواج.
ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعف من الزنا.
وكما أن جعل قوله: (ولا تعضلوهن) خطاباً للأولياء فيه التعسّف، كذلك جعل قوله (ولا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته بسبب نزول الآية الذي ذكرناه.
والأولى أن يقال أن الخطاب في قوله (ولا يحل لكم) للمسلمين أي لا
والإستثناء من أعم الأحوال والأوقات أو من أعم العلل أي لا يحل لكم عضلهن في حال أو وقت أو لعلة إلا في حال أو وقت أو لأجل إتيانهنّ بها فإن السبب حينئذ يكون من جهتهن وأنتم معذورون في طلب الخلع.
وقال الكرخي: الاستثناء متصل وعليه جرى القاضي كالكشاف وهو استثناء من زمان عام أو من علة عامة، وهذا أولى لأن الأول يحتاج إلى حذف زمان مضاف، وقيل منقطع واختاره الكواشي كأبي البقاء.
والمبيّنة قرىء بفتح الياء وكسرها أي بينت بيّنها من يدعيها وأوضحها وأظهرها أو هي بينة أي الزنا والنشوز، وقرأ ابن عباس: بكسر الموحدة من أبان الشيء فهو مبين.
(وعاشروهن بالمعروف) أي بما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة والإجمال في القول والنفقة والمبيت، وهو خطاب
_________
(١) اختار الإمام أبو جعفر الطبري في " تفسيره " ٨/ ١١٣ قول من قال. نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها، والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق. وإنما قلنا: ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها، وحبسها على نفسه وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك، ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك، أو لوليها الذي إليه إنكاحها، وإذا كان لا سبيل إلا عضلها لأحد غيرهما، وكان الولي معلوماً أنه ليس مما آتاها شيئاً، فيقال إن عضلها عن النكاح: " عضلها ليذهب ببعض ما آتاها " كان معلوماً أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها، هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضراراً لتفتدي منه.
(فإن كرهتموهن) بسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز فعسى أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة، وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته أي فإن كرهتموهن فاصبروا ولا تفارقوهن بمجرد هذه النفرة.
(فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) عن ابن عباس قال: الخير الكثير أن يعطف عليها فيرزق ولدها، ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً، وعن السدي نحوه، وقال مقاتل: يطلقها فتتزوج من بعده رجلاً فيجعل الله له منها ولداً، ويجعل الله في تزويجها خيراً كثيراً، وعن الحسن نحوه.
وقيل في الآية ندب إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها لأنه إذا كره صحبتها وتحمل ذلك المكروه طلباً للثواب، وأنفق عليها وأحسن هو صحبتها استحق الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة. (١)
_________
(١) في صحيح مسلم ٢/ ١٠٩ عن أبي هريرة مرفوعاً " لا يفرك مؤمن مؤمنه إن كره منها خلقاً رضي منها آخر، وقال: غيره.. والفرك: البغض.
(وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) الخطاب للرجال وأراد بالزوج الزوجة، قيل لما ذكر الله في الآية الأولى مضارّة الزوجات إذا أتين بفاحشة وهي إما النشوز أو الزنا، بين في هذه الآية تحريم المضارة إن لم يكن من قبلها نشوز ولا زنا، ونهى عن بخس الرجل حق المرأة إذا أراد طلاقها واستبدال غيرها.
(و) قد (آتيتم إحداهن) وهي المرغوب عنها والمراد بالإيتاء والالتزام والضمان كما في قوله (إذا سلّمتم ما آتيتم) أي ما التزمتم وما ضمنتم فلا يرد أن حرمة الأخذ ثابتة وإن لم يكن قد آتاها المسمى، بل كان في ذمته أو يده، والواو للحال، وقيل للعطف وليس بظاهر.
(قنطاراً) قد تقدم بيانه في آل عمران والمراد به هنا المال الكثير، وفي الآية دليل على جواز المغالاة في المهور (فلا تأخذوا منه شيئاً) قيل هي محكمة وقيل هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة (ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) والأولى أن الكل محكم والمراد هنا غير المختلعة فلا يحلّ لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئاً.
وقال ابن عباس: إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها فطلقت هذه وتزوجت تلك فأعط هذه مهرها وإن كان قنطاراً، أخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى قال السيوطي بسند جيد: إن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت أما سمعت ما أنزل الله يقول (وآتيتم إحداهن قنطاراً) فقال اللهم غفراً كل الناس أفقه من عمر، فركب المنبر فقال أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا
وقيل المعنى لو جعلتم ذلك القدر لهن صداقاً فلا تأخذوا منه شيئاً وذلك أن سوء العشرة إما أن يكون من قبل الزوج أو من قبل الزوجة، فإن كان من قبل الزوج وأراد طلاق المرأة فلا يحل له أن يأخذ شيئاً من صداقها، وإن كان النشوز من قبل المرأة جاز له ذلك.
(أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً) الاستفهام للإنكار والتقريع، والجملة مقرّرة للجملة الأولى المشتملة على النهي (٢).
_________
(١) ابن كثير ١/ ٤٦٧.
وخطب عمر رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صَدُقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أصدق قط آمرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه آمرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: ، (وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً)؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر!. وفي أخرى: آمرأة أصابت ورجل أخطأ. وترك الإنكار. أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال: خطب عمر الناس، فذكره إلى قوله: اثنتي عشرة أوقية، ولم يذكر: " فقامت إليه امرأة إلى آخره ". وأخرجه ابن ماجة في سننه عن أبي العجفاء.
(٢) وروق ابن العاص ٥/ ١٠١ القرطبي.
(وكيف) كلمة تعجب (تأخذونه) إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ وهى الإفضاء، والمعنى لأي وجه تفعلون مثل هذا الفعل، وكيف يليق بالعاقل أن يسترد شيئاً بذله لزوجته عن طيب نفس، وقيل هو استفهام معناه التوبيخ والتعظيم لأخذ المهر بغير حله.
ثم ذكر السبب فقال (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) قال الهروي والكلبي: وهو إذا كان في لحاف واحد جامع أو لم يجامع، وقال الفراء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها وبه قال أبو حنيفه، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي واختاره الزجاج: أن الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكن الله يكنى وبه قال الشافعي.
وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة يقال للشيء المختلط فضاء ويقال القوم فوضاً وفضاء أي مختلطون لا أمير عليهم، وقيل الوصول: يقال أفضى إليه أي وصل.
(وأخذن منكم) وهذا الإسناد مجاز عقلي لأن الآخذ للعهد حقيقة هو الله لكن بولغ فيه حتى جعل كأنهن الآخذات له (ميثاقاً غليظاً) وهو عقد النكاح ومنه قوله - ﷺ - " فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله (١) وقيل هو قوله تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) قاله ابن عباس، وقيل هو الأولاد.
كان ابن عمر إذا نكح قال: نكحتك على ما أمر الله به إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، قال قتادة: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرّحن بإحسان، وعن أنس بن مالك نحوه، وعلى هذا هو قول العاقد عند العقد وعلى الأول هو كلمة النكاح المعقودة على الصداق.
_________
(١) أبو داود كتاب المناسك باب ٥٦ - الإمام أحمد ٥/ ٧٢.
(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) نهى عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم، وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينتظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كانوا مصرين على تعاطيه.
ومن المعلوم أن المحرمات بالمصاهرة أربع: زوجة الأب وزوجة الأبن وأم الزوجة وبنت الزوجة، وكلها يحصل فيه التحريم بمجرد العقد وإن لم يحصل دخول إلا الربيبة فلا تحريم إلا بشرط الدخول بأمها وهذا يستفاد من الآيات فإنها لم تقيد بالدخول إلا في الربيبة على ما سيأتي. والمراد آباؤكم من نسب أو رضاع.
(إلا ما قد سلف) استثناء منقطع لأن الماضي لا يستثنى من المستقبل أي لكن ما قد سلف في الجاهلية فاجتنبوه ودعوه فإنه مغفور عنه، وقيل إلا بمعنى بعد أي بعد ما سلف وقيل المعنى ولا ما سلف، وقيل هو استثناء متصل من قوله ما نكح آباؤكم يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعليق بالمحال، يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا فلا يحل لكم غيره.
وقيل معناه إلا ما سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بإمرأة فإنه يجوز للإبن تزوجها قاله ابن زيد. والأول أولى.
ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال (إنه كان فاحشة ومقتاً) هذه الجملة تدل على أنه من أشد المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه بنكاح المقت، قال ثعلب سألت ابن الإعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية قلت أين تريد قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.
(وساء سبيلاً) أي ساء سبيل ذلك النكاح لأنه يؤدي إلى مقت الله، وقيل التقدير ساء سبيله وقيل مقولاً في حقه ساء سبيلاً فإن ألسنة الأمم كافة لم تنزل ناطقة بذلك في الأمصار والأعصار، وقيل مراتب القبح ثلاث: وقد وصف الله هذا النكاح بكل ذلك، فقوله (فاحشة) مرتبة قبحه العقلي، وقوله (مقتاً) مرتبة قبحه الشرعي، وقوله (ساء سبيلاً) مرتبة قبحه العادي، وما اجتمعت فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح.
_________
(١) وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. ألا ترى أن عمرو ابن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره؛ فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما. ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاخته بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أمية قتل عنها. ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زبان بن سيار. ومن ذلك حصن ابن أبي قيس تزوج آمرأة أبيه كبيشة بنت معن. والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه. وقال الأشعث بن سوار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه امرأة أبيه فقالت: إني أعدك ولداً، ولكني آتي رسول الله ﷺ أستأمره؛ فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية.
(حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين).
قد بين الله سبحانه في هذه الآية ما يحل وما يحرم من النساء، فحرّم سبعاً من النسب وستاً من الرضاع والصهر، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، ووقع عليه الإجماع.
والسبع المحرمات من النسب الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت.
والمحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، فهؤلاء ست، والسابعة منكوحات الآباء والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها.
قالوا ومعنى قوله وأمهات نسائكم أي اللاتي دخلتم بهن وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعاً، رواه خلاس عن علي بن أبي طالب، وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وابن الزبير ومجاهد.
قال القرطبي: ورواية خلاس عن علي لا تقوم به الحجة ولا تصح روايته عند أهل الحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب أن يكون اللاتي دخلتم بهن نعتاً لهما جميعاً لأن الخبرين مختلفان.
قال ابن المنذر: والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله وأمهات نسائكم.
ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالأبنة أم لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة (١).
قال ابن كثير في تفسيره مستدلاً للجمهور: وقد روي في ذلك خبر، غير
_________
(١) الترمذي كتاب النكاح باب ٢٥.
وقال في الكشاف: وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى انتهى، ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم.
واعلم أنه يدخل في لفظ الامهات أمهاتهن وجدّاتهن وأم الأب وجداته وإن علون لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدنه وإن سفل، ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد وان سفلن، والأخوات تصدق على الأخت لأبوين أو لأحدهما والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو أحدهما، وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأم.
والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو إحداهما وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك، وبنت الأخ اسم لكل أنثى لاخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت، وكذلك بنت الأخت وأمهات الرضاعة مطلق مقيد بما ورد في السنة، من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة.
ظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعاً، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة عن جماعة من الصحابة وتقرير ذلك وتحقيقه يطول، وقد استوفاه الشوكاني في مصنفاته وقرر ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٤٧١.
والأخت من الأم هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر وأمهات النساء من نسب أو رضاع قد تقدم الكلام عليها على اعتبار الدخول وعدمه.
والربيبة بنت امرأة الرجل من غيره سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة فعيلة بمعنى مفعولة.
قال القرطبي: واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها دخل بالأم وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها، وقد روى ذلك عن علي.
قال ابن المنذر والطحاوي لم يثبت ذلك عن علي لأن رواية إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي، وإبراهيم هذا لا يعرف، وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي: وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم.
والحجور جمع حجر بفتح الحاء وكسرها مقدم الثوب، والمراد لازم الكون في الحجور وهو الكون في تربيتهم، والمراد أنهن في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن كما هو الغالب، وقيل المراد بالحجور البيوت أي في بيوتكم، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة وقيل هي صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها.
_________
(١) مسلم ١٤٤٤، البخاري ١٢٨٥.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب، فروى عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث: إن الزوج إذا لمس الأم بشهوة حرمت عليه ابنتها، وهو أحد قولي الشافعي، وقال أبو السعود معنى الدخول بهن إدخالهن الستر والباء للتعدية وهي كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب، وفي حكمه اللمس ونظائره انتهى ورجحه الخفاجي.
ورد على البيضاوي في قوله رداً على أبي حنيفة تصريح بعد إشعار دفعاً للقياس بأن صريح الآية غير مراد قطعاً بل ما اشتهر من معناها الكنائي.
وقال ابن جرير الطبري: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع انتهى.
وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال: وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها، واختلفوا في النظر فقال الكوفيون إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة، وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس وهو قول الشافعي.
والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى
وأما الربيبة في ملك اليمين فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك وقال ابن عباس: أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعله، وقال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين لأن الله حرم ذلك في النكاح قال (وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم) وملك اليمين عقدهم تبع للنكاح إلا ما روى عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم انتهى.
والحلائل جمع حليلة وهي الزوجة سميت بذلك لأنها تحل مع الزوج حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال فهي حليلة بمعنى محلّلة وقيل لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.
وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء أم لم يكن لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) وقوله (وحلائل أبنائكم) واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسداً هل يقتضي التحريم أم لا كما هو مبين في كتب الفروع.
قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطىء امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده، وأجمع العلماء على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه، فإذا اشترى جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه، لا أعلمهم يختلفون فيه فوجب تحريم ذلك تسليماً لهم، ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم، قال: ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله - ﷺ - خلاف ما قلناه.
وأما زوجة الابن من الرضاع فقد ذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه، وقد قيل انها إجماع مع أن الإبن من الرضاع ليس من أولاد الصلب، ووجهه ما صح عن النبي ﷺ من قوله: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (١) " وإن كان مقتضى مفهوم الآية تحليلهن، ولا خلاف في أن أولاد الأولاد وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم.
وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا هل يقتضي التحريم أم لا، فقال أكثر أهل العلم إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو ابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوج بأم من زنى بها وبابنتها.
وقالت طائفة من أهل العلم: إن الزنى يقتضي التحريم، وحكى ذلك عن عمران بن حصين والشعبي وعطاء والحسن والثورى وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي، وحكى ذلك عن مالك والصحيح عنه كقول الجمهور، احتج الجمهور بقوله تعالى (وأمهات نسائكم) وبقوله (وحلائل أبنائكم) والموطوأة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ولا من حلائل أبنائهم.
وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: لا يحرم الحرام الحلال.
_________
(١) مسلم ١٤٤٤ - البخاري ١٢٨٥. الدارقطني كتاب النكاح ٣/ ٢٦٨.
ثم اختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري إذا لاط بالصبي حرمت عليه أمه وهو قول أحمد بن حنبل قال إذا تلوّط بابن امرأته أو ابنها أو أخيها حرمت عليه امرأته، وقال الأوزاعي إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنها بنت من قد دخل به.
ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشُبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم.
والجمع بين الأختين من نسب أو رضاع يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين، وقيل إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين، وأما في الوطء بالملك فلا حق بالنكاح، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد نكاح، واختلفوا في الأختين بملك اليمين فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط. وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك وسيأتي بيان ذلك.
واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك فقال الأوزاعي: إذا وطىء جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها. وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت.
وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله (حرّمت عليكم أمهاتكم) الآية أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، فكذلك يجب أن يكون قياساً ونظراً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب، وكذلك هو عند جمهورهم وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها والله المحمود انتهى.
وأقول ههنا إشكال وهو أنه قد تقرر أن النكاح يقال على العقد فقط وعلى الوطء فقط، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والاخر مجازاً وكونهما حقيقتين معروف. فإن حملنا هذا التحريم المذكور في قوله (حرّمت عليكم أمهاتكم) الخ على أن المراد تحريم العقد عليهن لم يكن في قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى آخره تستوي فيه الحرائر والإماء والعقد والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف وهو الجمع بين الأختين في الوطء، بملك اليمين مثل محل الإجماع، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض.
وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك الإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أول الآية إلى آخرها،
ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعاً أعني العقد والوطء، لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع، أو من باب الجمع بين معنيي المشترك وفيه الخلاف المعروف في الأصول، فتدبر هذا.
وقال السيوطي: ويلحق بهما أي بالأختين بالسنّة الجمع بينها وبين عمتها أو خالتها، ويجوز نكاح كل واحدة على الإنفراد وملكهما معاً ويطأ واحدة انتهى.
قلت: قد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها بالملك أيضاً فقال علي وابن عمر والحسن البصري، والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق أو بأن يزوجها.
قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها ثم يمسك عنهما حتى تستبريء المحرمة ثم يغشى الثانية، وفيه قول ثالث وهو أنه لا يقرب واحدة منهما هكذا قاله الحكم وحماد، وروي معنى ذلك عن النخعي.
وقال مالك إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو
قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدّة المطلقة، واختلفوا إذا طلقها لا يملك رجعتها فقالت طائفة ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلقها روي ذلك عن علي وزيد بن ثابت ومجاهد وعطاء والنخعي والثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي.
وقالت طائفة: له أن ينكح أختها، وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهن طلاقاً بائناً، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد، قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك، وهو أيضاً إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء.
وقوله (إلا ما قد سلف) يحتمل أن يكون معناه ما تقدم من قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) ويحتمل معنى آخر وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً وإذا جرى في الإسلام خيّر بين الأختين، والصواب الإحتمال الأول (وإن الله كان غفوراً) لما سلف منكم قبل النهي (رحيماً) بكم في ذلك.
_________
(١) وقد روى فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أختان فأتيت النبي - ﷺ - فقال: " طلق إحداهما " رواه ٤/ ٢٣٢ وأبو داود ٣/ ١٥٨ والترمذي ٣/ ٤٣٦ وابن ماجة ١/ ٦٢٧. وفي رواية " اختر أيتهما شئت ".
(والمحصنات من النساء) عطف على المحرمات المذكورات أي وحرمت عليكم ذوات الأزواج، وأصل التحصن التمنع ومنه قوله تعالى (ليحصنكم من بأسكم) أي ليمنعكم، ومنه الحصان بكسر الحاء للفرس لأنه يمنع صاحبه من الهلاك، والحصان بفتح الحاء المرأة العفيفة لمنعها نفسها والمصدر الحصانة بفتح الحاء.
والمراد بالمحصنات هنا الأزواج. وقد ورد الإحصان في القرآن لمعان أحدها التزوج كما في هذه الآية وكما في قوله (محصنين غير مسافحين) والثاني يراد به الحرية، ومنه قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات) وقوله (والمحصنات من المؤمنأت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) والثالث يراد به العفة، ومنه قوله تعالى (محصنات غير مسافحات) والرابع الإسلام ومنه قوله تعالى (فإذا أحصنّ) أي أسلمن.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية فقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قلابة ومكحول والزهري: المراد بالمحصنات هنا المسبيّات ذوات الأزواج خاصة أي هن محرمات عليكم أن تنكحوهن قبل مفارقة أزواجهن، وقد قرىء المحصنات بفتح الصاد وكسرها فالفتح على أن الأزواج أحصنوهن، والكسر على أنهن أحصن فروجهن من غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن.
والإستثناء متصل لأن المستثنى المزوجات، لكن فيه شائبة انقطاع من حيث أن المستثنى منه نكاح المتزوجات، والمستثنى وطء الزوجات، وقد صرح السمين بأنه منقطع، واختلفوا في استبرائها بماذا يكون كما هو مدون في كتب الفروع.
وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية العفائف، وبه قال أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر، ومعنى الآية عقدهم كل النساء حرام إلا ما ملكت إيمانكم أي تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء، وحكى ابن جرير الطبري: أن رجلاً قار لسعيد بن جبير ما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئاً فقال كان ابن عباس لا يعلمها.
وروى ابن جرير أيضاً عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل انتهى، ومعنى الآية والله أعلم أوضح لا سترة به أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء أي المزوجات أعمّ من أن يكن مسلمات أو كافرات إلا ما ملكت إيمانكم منهن إما بسبي فإنها تحل وإن كانت ذات زوج، أو بشراء فإنها تحل ولو كانت مزوجة وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوجها، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(كتاب الله عليكم) أي كتب ذلك كتاباً وفرضه فرضاً، وقيل الزموا كتاب الله أو عليكم كتاب الله، وروي عن عبيدة السلماني أن قوله هذا إشارة
وفي قوله (وأحل لكم ما وراء ذلكم) دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، ومن ذلك نكاح المعتدة، ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لا يجوز له نكاح الأمة، ومن ذلك القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة، ومن ذلك من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة، ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن أبداً.
وقيل لا حاجة للتنبيه على هذا لأن الكلام في التحريم على التأبيد، وما ذكره من الأقسام لا يحرم مؤبداً بل لعارض يزول. نعم يظهر ما قالوه في الملاعنة لأن تحريمها مؤبّد، وقد أبعد من قال إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه لأنه حرم الجمع بين الأختين فيكون ما في معناه في حكمه، وهو الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وكذلك يحرم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرّة فإنه يخصص هذا العموم.
لأجل (أن تبتغو بأموالكم) النساء اللاتي أحلهن الله لكم ولا تبتغوا بها الحرام فتذهب، وقيل هو بدل من (ما) في قوله (ما وراء ذلكم) والأول أولى. وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء (محصنين) الإحصان العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم والعقاب أي حال كونكم متزوجين ومتسرّين متعفّفين عن الزنا (غير مسافحين) أي غير زانين؛ والسفاح الزنا وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح لا على وجه السفاح.
(فما استمتعتم به منهن) قد اختلف أهل العلم في معنى الآية فقال
وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي - ﷺ - أنه قال: يوم فتح مكة: يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عقده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً (٢)، وفي لفظ لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ، وقال سعيد بن جبير نسختها آية الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها.
وقالت عائشة والقاسم بن محمد تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا ما ملكت أيمانهم، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث، وليست المستمتع بها كذلك والأحاديث في تحليل المتعة ثم تحريمها وهل كان نسخها مرة أو مرتين مذكورة في كتب الحديث، وقد روى عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ، وروى عنه أنه رجع عن ذلك عقد أن بلغه الناسخ، وقد قال بجوازها جماعة
_________
(١) مسلم ١٤٠٧ - البخاري ١٩٠٨.
(٢) مسلم ١٤٠٦.
وقال ابن العربي: وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت في غزوة أوطاس ثم حرمت بعد ذلك، واستقر الأمر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسئلة القبلة، فإن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت حكاه القرطبي عنه.
(فآتوهن أجورهن) أي مهورهن التي فرضتم لهن، وإنما سمي المهر أجراً لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين (فريضة) أي مفروضة مسماة، وقد كمل بهذا الوصف ما قبله ودخل به على ما بعده فهي مصدر مؤكد أو حال من أجورهن.
(ولا جناح عليكم) ولا عليهن (فيما تراضيتم به) أنتم وهن (من بعد الفريضة) أي من زيادة ونقصان في المهر، فإن ذلك سائغ عند التراضي.
هذا عند من قال إن الآية في النكاح الشرعي، وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة فالمعنى التراضي في زيادة مدة المتعة أو نقصانها أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه، وقيل ما تراضيتم به من الإبراء من المهر والافتداء والاعتياض، وقال الزجاج: معناه لا جناح عليكم أن تهب المرأة للزوج مهرها وأن يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه.
(إن الله كان عليماً) بما يصلحكم في مناكحكم وغيرها من سائر أموالكم أو عليماً بالأشياء قبل خلقها (حكيماً) فيما دبر لكم من التدبير وفيما يأمركم وينهاكم عنه ولا يدخل حكمه خلل ولا زلل أو فيما فرض لكم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب.
(ومن) شرطية أو موصولة (لم يستطع منكم طولاً) الطول الغنى والسعة قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وأبو زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وجمهور أهل العلم، وإنما سمي الغنى طولاً لأنه ينال به من المراد ما لا ينال مع الفقر، والطول كناية عما يصرف إلى المهر والنفقة يقال طال يطول طولاً في الأفضال والقدرة، وفلان ذو طول أي ذو قدرة في ماله، والطول بالضم ضد القصر، وقال قتادة والنخعي وعطاء والثوري: إن الطول الصبر.
ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه، وخاف أن يبغي بها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة، وقال أبو حنيفة وهو يروي عن مالك: إن الطول المرأة الحرة فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ولو كان غنياً، وبه قال أبو يوسف واختاره ابن جرير واحتج له.
والقول الأول هو المطابق لمعنى الآية ولا يخلو ما عداه عن تكلف، فلا
(أن ينكح المحصنات) الحرائر (المؤمنات) هو جري على الغالب فلا مفهوم له، ومعنى الآية فمن لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات (فممّا) أي فلينكح مما (ملكت أيمانكم) يعني جارية أخيك المؤمن، ودخلت الفاء في قوله (فمما ملكت) لتضمن المبتدأ معنى الشرط وقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحر أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرة كما ذهب إليه الشافعي، والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله (ذلك لمن خشي العنت منكم) فلا يحل للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت.
والمراد هنا الأمة المملوكة للغير، وأما أمة الإنسان نفسه فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها.
(من فتياتكم المؤمنات) وقد استدل بهذا على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وبه قال أهل الحجاز وجوّزه أهل العراق، والفتيات جمع فتاة وهي الشابة من النساء والعرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة، وفي الحديث الصحيح: لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي (١).
(والله أعلم بإيمانكم) فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران أي كلكم بنو آدم وأكرمكم عقد الله أتقاكم فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عقد الضرورة فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر، والجملة اعتراضية تفيد أن الإيمان كاف في نكاح الأمة المؤمنة ولو ظاهراً، ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها علماً يقيناً فإن ذلك لا يطلع عليه إلا الله تعالى.
_________
(١) مسلم ٢٢٤٩ - البخاري ١٢٥١.
وقال ابن عباس: يريد أن المؤمنين بعضهم أكفاء بعض، أي فلا يترفع الحر عن نكاح الأمة عند الحاجة إليه.
(فانكحوهن بإذن أهلهن) أي بإذن المالكين لهن ومواليهن لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له، واتفق أهل العلم على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها باطل لأن الله تعالى جعل إذن السيد شرطاً في جواز نكاح الأمة.
(وآتوهن أجورهن بالمعروف) أي أدوا إليهن مهورهن بما هو المعروف في الشرع من غير مطل ولا نقص ولا ضرار، وقيل مهور أمثالهن، وقد استدلّ بهذا من قال إن الأمة أحق بمهرها من سيدها، وإليه ذهب مالك وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد وإنما أضافها إليهن لأن التأدية إليهن تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله.
(محصنات) عفائف حال (غير مسافحات) زانيات جهراً أي غير معلنات بالزنا، وهذا الشرط على سبيل الندب بناء على المشهور من جواز نكاح الزواني ولو كنّ إماء، قاله الخطيب.
(ولا متخذات أخدان) أخلاء يزنون بهن سراً، والأخدان الأخلاء،
(فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) المراد بالإحصان هنا الإسلام، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد. وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي والشعبي والسدي، وروى عن عمر بن الخطاب بإسناد منقطع وهو الذي نصّ عليه الشافعي، وبه قال الجمهور، وقال ابن عباس وأبو الدرداء ومجاهد وعكرمة وطاوس والحسن وقتادة وغيرهم أنه التزويج، وروى عن الشافعي.
فعلى القول الأول لا حدَّ على الأمة الكافرة، وعلى الثاني لا حد على الأمة التي لم تتزوج، وقال القاسم: وسالم إحصانها إسلامها وعفافها، وقال ابن جرير: إن معنى القراءتين مختلف، فمن قرأ أحصن بضم الهمزة فمعناه التزويج، ومن قرأ بفتح الهمزة فمعناه الإسلام.
قال قوم إن الإحصان المذكور في الآية هو التزوج ولكن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوج بالسنة، وبه قال الزهري.
قال ابن عبد البر: ظاهر قول الله عز وجل يقتضي أنه لا حد على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن وكان ذلك زيادة بيان.
قال القرطبي: ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ولا يقين مع الأختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد.
قال: وعلى كلا القولين إشكال على مذهب الجمهور لأنهم يقولون إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة مزوّجة أو بكراً مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء، قد اختلفت أجوبتهم عن ذلك.
ثم ذكر أن منهم من أجاب وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم، ومنهم من عمل على مفهوم الآية وقال إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها، إنما تضرب تأديباً قال وهو المحكي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد وداود الظاهري في رواية عنه.
فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله ﷺ سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال: إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير (٢)، بإن المراد بالجلد هنا التأديب. وهو تعسف.
وأيضاً قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد، الحديث (٣).
_________
(١) ابن كثير ١/ ٤٧٦.
(٢) مسلم ١٧٠٣ - البخاري ١٠٨٨.
(٣) مسلم ١٧٠٣ - البخاري ١٠٨٨.
وأما ما أخرجه سعيد بن منصور وابن خزيمة والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -، " وليس على الأمة حد حتى تحصن بزوج فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب " فقد قال ابن خزيمة والبيهقي إن رفعه خطأ والصواب وقفه.
والفاحشة هنا الزنا فعليهن نصف ما على المحصنات أي الحرائر الأبكار إذا زنين، لأن الثيب عليها الرجم، وهو لا يبعّض، وقيل المراد بالمحصنات هنا المزوجات لأن عليها الجلد والرجم، والرجم لا يتبعّض فصار عليهن نصف ما عليهن من الجلد، فيجلدن خمسين ويغرّبن نصف سنة.
والمراد بالعذاب هنا الجلد، وإنما نقص حد الإماء عن حد الحرائر لأنهن أضعف، وقيل لأنهن لا يصلن إلا مرادهن كما تصل الحرائر، وقيل لأن العقوبة تجب على قدر النعمة كما في قوله تعالى (يضاعف لها العذاب ضعفين) ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس وكما يكون على الإماء والعبيد نصف الحد في الزنا كذلك يكون عليهم نصف الحد في القذف والشرب.
(ذلك) أي نكاح المملوكات عقد عدم الطول (لمن خشي العنت) العنت الوقوع في الإثم وقيل الزنا وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر ثم استعير لكل مشقة، وأريد به هنا ما يجر إليه الزنا من العقاب الدنيوي والأخروي، والمعنى ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الشبق والغلمة وشدة الشهوة على الزنا.
(منكم) بخلاف من لا يخافه من الأحرار فلا يحل له نكاحها، وكذا من استطاع طول حرة، وعليه الشافعي وكذا مالك وأحمد.
(أن تصبروا) أي صبركم عن نكاح الإماء (خير لكم) من نكاحهن لأن نكاحهن يفضي إلى إرقاق الولد والغض من النفس (والله غفور رحيم) هذا كالتأكيد لما تقدم (٢).
_________
(١) وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أيما حر تزوج بأمةٍ فقد أرق نصفه. يعني يصير ولده رقيقاً؛ فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد. وقال سعيد بن جبير: ما نكاح الأمة من الزنى إلا قريب، قال الله تعالى: (وأن تصبروا خير لكم)، أي عن نكاح الإماء. وفي سنن ابن ماجة عن الضحاك بن مزاحم قال: سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول: " من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر "، ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس، وكان خادماً لأنس، وزاد: فقال أبو هريرة سمعت رسول الله ﷺ يقول " الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت - أو قال: فساد البيت ".
(٢) قال الطبري: والصواب من القول في قوله (ذلك لمن خشي العنت منكم) ذلكن لمن خاف منكم ضرراً في دينه وبدنه.
وقيل اللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال أو لتأكيد إرادة التبيين، وبه قال الزمخشري والسمين.. ومعنى الآية يريد الله أن يبين لكم مصالح دينكم وما يحل لكم وما يحرم عليكم، وقيل يبين لكم ما يقربكم منه، وقيل يبين أن الصبر عن نكاح الأمة خير لكم.
(ويهديكم سنن الذين من قبلكم) أي طرقهم في تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنها كانت محرمة على من قبلكم وهم الأنبياء وأتباعهم لتقتدوا بهم (و) يريد أن (يتوب عليكم) يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته فتوبوا إليه وتلافوا ما فرط منكم بالتوبة يغفر لكم ذنوبكم (والله عليم) بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم (حكيم) فيما دبر أمورهم.
قيل هذه الإرادة منه سبحانه في جميع أحكام الشرع، وقيل في نكاح الأمة فقط، وقال ابن عباس: معناه يريد أن يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى، وقيل معناه يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم، وقيل معناه إن وقع منكم تقصير في دينه فيتوب عليكم ويغفر لكم.
(ويريد الذين يتبعون الشهوات) المراد بالشهوات هنا ما حرمه الشرع دون ما أحله، اختلف في تعيين متبعي الشهوات فقيل هم الزناة وقيل اليهود والنصارى وقيل اليهود خاصة، وقيل هم المجوس لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب وبنت الأخ، والأول أولى.
(أن تميلوا) تعدلوا عن الحق وقصد السبيل بالمعصية فتكونوا مثلهم (ميلاً عظيماً) يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم، والميل العدول عن طريق الاستواء، ووصف الميل بالعظيم بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة نادراً.
(يا أيها الذين آمنوا) شروع في بيان بعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان المحرمات المتعلقة بالإبضاع (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع، والباطل ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور، وأخذ الأموال باليمين الكاذبة ونحو ذلك، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع.
وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيهاً على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل، لأن معظم المقصود من المال الأكل، وقيل يدخل فيه أكل مال نفسه بالباطل ومال غيره، أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي، وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه، وقيل يدخل في أكل المال بالباطل جميع العقود الفاسدة.
(إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، وهذا الاستثناء منقطع أي لكن أموال تجارة صادرة عن تراض منكم وطيب نفس جائزة بينكم ولكم أن تأكلوها، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم لأن التجارة ليست من جنس أكل المال بالباطل، ولأن الاستثناء وقع على الكون، والكون معنى من المعاني ليس مالاً من الأموال، فكان إلا هنا بمعنى لكن.
وقوله عن تراض صفة لتجارة أي كائنة عن تراض، وإنما نص الله
وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) وقوله تعالى (يرجون تجارة لن تبور).
واختلف العلماء في التراضي فقالت طائفة تمام وجوده بافتراق الأبدان بعد عقد البيع أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والليث وابن عيينة وإسحق وغيرهم، وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار.
وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته.
وقرىء تجارة بالرفع على أن كان تامة وبالنصب على أنها ناقصة.
وروى الطبراني وابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود قال: إنها يعني هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
وعن عكرمة والحسن قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عقد أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية فنسخ ذلك الآية التي في النور (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) الآية.
وأخرج ابن ماجة وابن المنذر عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما البيع عن تراض " (١).
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٣١٩.
وقيل إن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأ بها في بطنه أي يضرب بها نفسه في نار جهنم مخلداً فيها أبداً (٢)، وفي الباب أحاديث.
أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي يعني لا يفعل شيئاً يستحق به القتل مثل أن يقتل فيقتل به فيكون هو الذي تسبب في قتل نفسه بكسب الجريمة، وقيل لا تقتلوا بأكل المال بالباطل وقيل لا تهلكوا أنفسكم بأن تعملوا عملاً ربما أدى إلى قتلها، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة.
ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني، ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل فقرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجاجه، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما.
(إنّ الله كان بكم رحيماً) ومن رحمته بكم أن نهاكم عن كل شيء تستوجبون به مشقة أو محنة، وقيل إن الله تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون ذلك توبة لهم، وكان بكم يا أمة محمد ﷺ رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
_________
(١) مسلم ٦٦ - البخاري ٨٩٤.
(٢) مسلم ١٠٩ - البخاري ٧٢١.
(عدواناً) على الغير (وظلماً) على النفس لا جهلاً ونسياناً وسفهاً، وعلى هذا لا يرد أنه كيف قدم الأخص على الأعم إذ التجاوز عن العدل جور ثم طغيان ثم تعدّ، والكل ظلم، والعدوان تجاوز الحد. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وقيل إن معنى العدوان والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد إلا أن يقال إن العطف باعتبار التغاير في المفهوم كما تقدم، وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق، كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك القتل الخطأ.
(فسوف نصليه) أي ندخله في الآخرة (ناراً) عظيمة يحترق فيها، وقرىء نصليه بفتح النون وهو على هذا منقول من صلى ومنه شاة مصلية (وكان ذلك) أي إصلاؤه النار (على الله يسيراً) هيناً لأنه لا يعجزه شيء.
وحملُ السيئآت على الصغائر هنا متعينّ لذكر الكبائر قبلها. وجعل اجتنابها شرط لتكفير السيئآت: واجتناب الشيء المباعدة عنه وتركه جانباً، والكبيرة ما كبر وعظم من الذنوب وعظمت عقوبته.
وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ثم في عددها فأما في تحقيقها فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها كما يقال الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقد روى نحو هذا عن الإسفرايني والجويني والقشيري وغيرهم.
قالوا المراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيآت هي الشرك، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه، وعلى قراءة الجمع فالمراد أجناس الكفر واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) قالوا فهذه الآية مقيدة لقوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه.
وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية، قال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة.
وقال جماعة من أهل الأصول الكبائر كل ذنب رتّب الله عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره، وقد ذكر الشوكاني جُلّ ذلك في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، وقد ذكر رضي الله عنه في إرشاد الفحول من النصوص عليها فوق الثلاثين.
وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال النبي - ﷺ - ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت (٢).
وفي لفظ عند البخاري عن ابن عمرو عنه صلى الله عليه وآله وسلم واليمين الغموس.
وأخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قالوا وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (٣).
وعن ابن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندّاً، وهو خلقك، قلت إن ذلك لعظيم (٤) ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، أخرجه البخاري والأحاديث في تعداد الكبائر وتعيينها
_________
(١) مسلم ٨٩ - البخاري ١٣٢٥.
(٢) مسلم ٨٧ - البخاري ١٢٩١.
(٣) مسلم ٩٠ - البخاري ٢٣١٠.
(٤) البخاري كتاب التفسير سورة ٢.
وقد ثبت من الأدلة المتقدمة أن من الذنوب كبائر وصغائر، وإليه ذهب الجمهور.
واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيآت بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر ثم قال " والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفّق، ثم تلا هذه الآية (١).
وعن ابن مسعود قال إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، لقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها، قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) الآية وقوله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) الآية وقوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء،) وقوله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك) الآية وقوله تعالى (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) الآية.
(وندخلكم مدخلاً كريماً) يعني حسناً شريفاً مرضياً أي مدخلاً تكرمون فيه، والمراد بالمدخل بضم الميم وفتحها كما قرىء بهما في الآية مكان الدخول وهو الجنة ويجوز أن يكون مصدراً.
_________
(١) المستدرك كتاب الصلاة ١/ ٢٠٠.
(ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض) التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي، فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني لأن فيه تعلق البال ونسيان الآجال، قاله القرطبي، وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من الناس عليه، فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته وحكمته البالغة، وفيه أيضاً نوع من الحسد المنهي عنه إذا صحبه إرادة زوال تلك النعمة عن الغير.
وعبارة القرطبي فيدخل فيه أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر، وهذا هو الحسد بعينه، وهو الذي ذمه الله تعالى أيضاً، ويدخل فيه خطبة الرجل على خطبة أخيه وبيعه على بيعه لأنه داعية إلى الحسد والمقت انتهى.
قد اختلف العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا؟ وهي أن يكون له حال مثل حال صاحبه من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، واستدلوا بالحديث الصحيح: " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، وقد بوّب عليه البخارى باب الاغتباط في العلم والحكم (١).
_________
(١) مسلم ٧١٦ - البخاري ٩/ ٦٥.
ونحوه قال الحسن: وسبب نزول الآية ما قال قتادة أن النساء قلن لو جعل أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال، وقال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(للرّجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب ممّا اكتسبن) فيه تخصيص بعد التعميم، ورجوع إلى ما يتضمنه سبب نزول الآية من أن أم سلمة قالت: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو ولا نقاتل فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث فنزلت، أخرجه عبد الرزاق وابن منصور وابن حميد والترمذي والحاكم والبيهقي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وقد روي نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة (١).
والمعنى في الآية أن الله جعل لكل من الفريقين نصيباً على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته، وعبّر عن ذلك المجهول لكل فريق من فريقي النساء والرجال بالنصيب مما اكتسبوا على طريق الإستعارة التبعية، شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه.
قال قتادة: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب والعقاب، وللنساء كذلك، وللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها كما للرجال، وقال ابن عباس: المراد بذلك الميراث والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة للذكر مثل حظّ
_________
(١) زاد المسير ٦٨.
(واسألوا الله من فضله) هذا الأمر يدل على وجوب سؤال الله سبحانه كما قاله جماعة من أهل العلم، وعن مجاهد قال: ليس بعرض الدنيا، وعن سعيد بن جبير قال: العبادة ليس من أمر الدنيا، وأخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل " (٢) قال ابن عباس: الفضل الرزق. وقيل الفضل خزائن نعمه التي لا نفاذ لها (إن الله كان بكل شيء عليماً) أي بما يكون صلاحاً للسائلين فليقتصر السائل على المجمل في الطلب.
_________
(١) رواه الترمذي وفي رواية " فإنه يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج ".
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة من لم يسأل الله غضب عليه.
(٢) رواه الإمام أحمد في " المسند " ٦/ ٣٢٢ والترمذي ٢/ ١٢٧ والحاكم ٢/ ٣٠٥، عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة. قال الحاكم: هذا حديث على شرط الشيخين إن كان سمع مجاهد من أم سلمة، ووافقه الذهبي على تصحيحه. قال الشيخ أحمد شاكر: وأما حكم الترمذي في روايته من طريق ابن عيينة بأنه حديث مرسل، فانه جزم بلا دليل، ومجاهد أدرك أم سلمة يقيناً وعاصرها.
فإنه ولد سنة ٢١، وأم سلمة ماتت بعد سنة ٦٠ على اليقين، والمعاصرة من الراوي الثقة تحمل على الاتصال إلا أن يكون الراوي مدلساً، ولم يزعم أحد أن مجاهداً مدلس إلا كلمة قالها القطب الحلبي في " شرح البخاري " حكاها عنه الحافظ في " التهذيب " ١٠/ ٤٤، ثم عقب عليها بقوله: ولم أر من نسبه إلى التدليس. وقال الحافظ أيضاً في " الفتح ": ٦/ ١٩٤ رداً على من زعم أن مجاهداً لم يسمع من عبد الله ابن عمرو: لكن سماع مجاهد من عبد الله بن عمرو ثابت وليس بمدلس.
قال ابن كثير: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، قال: ولا يتمنى الرجل فيقول: ليت
أن لي مال فلان وأهله، فنهى الله عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله. وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا، وهو الظاهر من الآية، ولا يرد على هذا ما ثبت في صحيح البخاري ٩/ ٦٥ " لا حسد إلا من اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، فيقول رجل: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثله " فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الآية، وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمني وعين نعمة هذا.
(ولكلّ) من الرجال والنساء مفعول ثان قدم لتأكيد الشمول (جعلنا موالي) يلون ميراثهم وهو جمع مولى يطلق على المعتق والمعتق والناصر وابن العم والجار، والمراد هنا العصبة أي ولكل أحد جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض، فلا حق للحليف فيها وهم يرثون (مما ترك الوالدان والأقربون) من ميراثهم وهم الموروثون وقيل هم الوارثون، والأول أولى لأنه مروي عن ابن عباس وغيره.
وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي ليتبع كل واحد ما قسم الله له من الميراث ولا يتمنّى ما فضّل الله به غيره عليه، وقد قيل إن هذه الآية منسوخة لقوله تعالى بعدها (والذين عقدت أيمانكم) وقيل العكس كما روى ذلك ابن جرير، وذهب الجمهور إلى أن الناسخ لقوله تعالى (والذين عقدت أيمانكم) قوله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض).
(والذين عقدت أيمانكم) أي الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصر والإرث فالمراد به موالي الموالاة فقد كان الرجل من أهل الجاهلية يعاقد الرجل أي يحالفه فيستحق من ميراثه نصيباً، ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه الآية ثم نسخ بقوله (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) وهذا أحد قولين في معنى الآية.
والآخر ما أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس ولكل جعلنا موالي ورثة والذين عقدت أيمانكم، قال المهاجرون: لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي - ﷺ - بينهم، فلما
(فآتوهم نصيبهم) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصي له، وفي الباب أحاديث بطرق وألفاظ، وفي الجلالين نصيبهم حظوظهم من الميراث وهو السدس وهو منسوخ كما تقدم، وقرىء عقّدت بتشديد القاف على التكثير أي والذين عقّدت لهم أيمانكم الحلف أو عقّدت عهودهم أيمانكم والتقدير على قراءة الجمهور والذين عاقدتهم أيمانكم، والأيمان جمع يمين يحتمل أن يراد به القسم أو اليد أو هما جميعاً، ونسبة المعاقدة أو العقد إلى الأيمان مجاز، وقيل التقدير عقدت ذوو أيمانكم والمعاقدة المحالفة والمعاهدة (٢).
(إن الله كان على كل شيء شهيداً) قال عطاء: يريد أنه لم يغب عنه علم ما خلق وبرأ، فعلى هذا الشهيد بمعنى الشاهد والمراد منه علمه بجميع الأشياء، وقيل الشهيد هو الشاهد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه، فعلى هذا الشاهد بمعنى الخبر وفيه وعد للطائعين ووعيد للعصاة المخالفين.
_________
(١) أخرجه البخاري ٨/ ١٨٦، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في " سننه " عن ابن عباس، وتمام الحديث: " فلما نزلت: ولكل جعلنا موالي " نسخت، ثم قال: " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.
(٢) وروى مسلم في " صحيحه " ٤/ ١٩٦١، والإمام أحمد في " المسند " ٤/ ٨٣، وأبو داود وابن جرير، والنسائي، عن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله - ﷺ - " لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " قال القرطبي في " المفهم " معنى: لا حلف، لا يتحالف أهل الإسلام كما كان أهل الجاهلية، كانوا يتحالفون، وذلك أن المتحالفين كانا يتناصران في كل شيء فيمنع الرجل حليفه وإن كان ظالماً، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكل ممكن حتى يمنع الحقوق، وينتصر به على الظلم والفساد، ولما جاء الشرع بالانتصاف من الظالم، وأنه يؤخذ ما عليه من الحق لا يمنعه أحد من ذلك، وحد الحدود، وبين الأحكام؛ أبطل ما كانت الجاهلية عليه من ذلك.
(الرجال قوّامون) مسلطون (على النساء) كلام مستأنف سيق لبيان سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث تفصيلاً إثر بيان تفاوت استحقاقهم إجمالاً، وعلل ذلك بأمرين (أولهما) وهبي والثاني كسبي، والمعنى أنهم يقومون بالذب عنهن كما يقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعية، وهم أيضاً يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن.
وجاء بصيغة المبالغة لتدلّ على أصالتها في هذا الأمر، وهو جمع قوّام وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب، يشير به إلى أن المراد قيام الولاة على الرعايا قال ابن عباس: أمّروا عليهن فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله.
(بما) الباء سببية وما مصدرية (فضّل الله) والضمير في قوله (بعضهم على بعض) للرجال والنساء أي إنما استحقوا هذه المزيّة لتفضيل الله إياهم عليهن بما فضلهم به من كون فيهم الأنبياء والخلفاء والسلاطين والحكام والأئمة والغزاة، وزيادة العقل والدين والشهادة والجمعة والجماعات، وأن الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد، وزيادة النصيب والتعصيب في الميراث، وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب، وغير ذلك من الأمور، فكل هذا يدل على فضل الرجال على النساء.
(فالصالحات) أي المحسنات العاملات بالخير من النساء (قانتات) أي مطيعات لله قائمات بما يجب عليهن من حقوق الله وحقوق أزواجهن (حافظات للغيب) لما يجب حفظه عقد غيبة أزواجهن عنهن من حفظ نفوسهن وفروجهن وحفظ أموالهن.
و" ما " في قوله (بما حفظ الله) مصدرية أي بحفظ الله إياهن ومعونته وتسديده أو حافظات له بما استحفظهن من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به، أو حافظات له بحفظ الله لهن بما أوصى به الأزواج في شأنهن من حسن العشرة.
وقريء بما حفظ الله بنصب الاسم الشريف والمعنى بما حفظن أمر الله أو دينه فحذف الضمير الراجع إليهن للعلم به، وما على هذه القراءة مصدرية أو موصولة كالقراءة الأولى، أي بحفظهن الله أو بالذي حفظن الله به وقال السدي: تحفظ على زوجها ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله.
(واللاتي تخافون نشوزهنّ) هذا خطاب للأزواج، قيل الخوف هنا على بابه وهو حالة تحدث في القلب عقد حدوث أمر مكروه أو عقد ظن حدوثه، وقيل المراد بالخوف هنا العلم، والنشوز العصيان وقد تقدم بيان أصل معناه في اللغة.
قال ابن فارس: يقال نشزت المرأة استصعبت على بعلها، ونشز بعلها
(فعظوهنّ) أي ذكروهن بما أوجبه الله عليهن من الطاعة وحسن المعاشرة ورغّبوهن ورهّبوهن إذا ظهر منهن أمارات النشوز وهو أن يقول لها اتقي الله وخافيه فإن لي عليك حقاً، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك، فإن أصرت على ذلك هجرها في المضجع كما قال تعالى:
(واهجروهن في المضاجع) يقال هجره أي تباعد منه، والمضاجع جمع مضجع وهو محلّ الاضطجاع أي تباعدوا عن مضاجعتهن ولا تدخلوهن تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب، وقيل هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع في الفراش، وقيل هو كناية عن ترك جماعها، وقيل لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه.
(واضربوهن) إن لم ينزعن بالهجران ضرباً غير مبرح ولا شائن، وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز، وقيل حكم الآية مشروع على الترتيب وإن دلّ ظاهر العطف بالواو على الجمع لأن الترتيب مستفاد من قرينة المقام، وسوق الكلام للرفق في إصلاحهن وإدخالهن تحت الطاعة.
فالأمور الثلاثة مرتبة أي لأنها لدفع الضرر كدفع الصائل فاعتبر فيها الأخف فالأخف وقيل إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ فإن أثّر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب، وقال الشافعي: الضرب مباح وتركه أفضل، وفي الجمل: إن كلاً من الهجر والضرب مقيد بعلم
(فإن أطعنكم) كما يجب وقمن لواجب حقكم وتركن النشوز (فلا تبغوا عليهن سبيلا) أي لا تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا بفعل، وقيل المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهن (إن الله كان علياً كبيراً) إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب أي وإن كنتم تقدرون عليهن فاذكروا قدرة الله عليكم فإنها فوق كل قدرة وهو بالمرصاد لكم.
عن ابن عباس قال: تلك المرأة تنشز وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره، فأمره الله أن يعظها ويذكرها بالله ويعظم حقه عليها فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد فإن رجعت وإلا ضربها ضرباً غير مبرح ولا يكسر لها عظماً ولا يجرح لها جرحاً فإن أطاعتك فلا تجني عليها العلل، وعنه قال يهجرها بلسانه ويغلظ لها بالقول ولا يدع الجماع، وسئل عن ضرب غير مبرح فقال: بالسواك ونحوه.
وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد خطبة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها أنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً (١).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول
_________
(١) الترمذي كتاب الرضاع.
وفي هذه دليل على أن الأولى ترك الضرب للنساء فإن احتاج فلا يوالي بالضرب على موضع واحد من بدنها وليتّق الوجه لأنه مجمع المحاسن، ولا يبلغ بالضرب عشرة أسواط، وقيل ينبغي أن يكون الضرب بالمنديل واليد، ولا يضرب بالسوط والعصا (٢).
وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شيء أولى في هذا الباب، قيل حكم الآية مشروع على الترتيب وقيل هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز، وأما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل والأول أولى، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته أخرجه أبو داود (٣).
_________
(١) ولطم رجل زوجته فاستعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخبر في الأصول كلها معزو لابن عباس، وقد بحثت في كتب " التفسير " فلم أجد أحداً عزاه إليه، ولا نقله عنه، وقد ذكره ابن جرير ٧/ ٢٩١ عن الحسن، وابن جريج، والسدي، وفي " الدر المنثور " ٢/ ١٥١، واخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك، عن الحسن، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير منها طريق قتادة عن الحسن. وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق جرير بن حازم، عن الحسن. وأخرج ابن مردويه عن علي قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم.
(٢) البخاري كتاب النكاح باب ٩٣.
(٣) وذكر ابن جرير ٨/ ٢٩١ عن الحسن وابن جريج والسدي، وفي الدر المنثور ٢/ ١٥١ وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن المنذر وغيرهم.. عن علي أن رجلاً لطم زوجته لطمة فاستعدت عليه رسول الله ﷺ نزلت هذه الآية (الرجال قوامون).
وروى الترمذي القرطبي ٥/ ١٧٣.
ورواه أبو داود/التفاح/٤٢.
(وإن خفتم شقاق بينهما) قد تقدم معنى الشقاق في البقرة وأصله أن كل واحد منهما يأخذ شقاً غير شق صاحبه أي ناحية غير ناحيته، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى (بل مكر الليل والنهار) وقولهم يا سارق الليلة أهل الدار، والضمير في بينهما للزوجين لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما وهو ذكر الرجال والنساء.
(فابعثوا) إلى الزوجين برضاهما، قيل المخاطب بذلك الإمام أو نائبه لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه. وقيل كل أحد من صالحي الأمة وقيل هو خطاب للزوجين (حكماً) رجلاً عدلاً (من أهله) أقاربه (وحكماً من أهلها) أي من يصلح للحكم بينهما، من يصلح لذلك عقل وديناً وانصافاً، وإنما نص الله سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين لأنهما أقدر بمعرفة أحوالهما، فإذا لم يوجد الحكمان منهم كانا من غيرهم.
وهذا إذا أشكل أمرهما، ولم يتبين من هو المسيء منهما فأما إذا عرف المسيء فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه، والبعث واجب وكون الحكمين من أهلهما مندوب.
(إن يريدا إصلاحاً) أي الحكمان وقيل الزوجان والأول أولى، أي على الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فإن قدرا على ذلك عملا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ولا توكيل بالفرقة من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي واسحق، وهو مروى عن عثمان وعلي وابن عباس والشعبي والنخعي
وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحكم وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان، أو يأمرهما الإمام أو الحاكم، لأنهما رسولان شاهدان، فليس إليهما التفريق، ويرشد إلى هذا قوله إن يريدا أي الحكمان إصلاحاً يوفق الله بينهما لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق.
ومعنى إن يريدا إصلاحاً (يوفق الله بينهما) أي يوقع الألفة والموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن المعاشرة، ومعنى الإرادة خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين.
وقيل إن الضمير في قوله بينهما للحكمين كما في قوله (إن يريدا إصلاحاً) أي يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما، وقيل كلا الضميرين للزوجين أي إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله به بينهما الألفة والوفاق.
وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف، وعن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين فقيل لنا إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، والذي بعثهما عثمان.
(إن الله كان عليماً خبيراً) يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين، وفيه وعيد شديد للزوجين والحكمين إن سلكوا غير طريق الحق.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٤٩٣.
(واعبدوا الله) يعني وحِّدوه وأطيعوه، وعبادة الله عبارة عن كل فعل يأتي به العبد لمجرد الله ويدخل فيه جميع أعمال القلوب وأفعال الجوارح (ولا تشركوا به) العطف للتأسيس و (شيئاً) إما مفعول به أي شيئاً من الأشياء من غير فرق بين حي وميت وجماد وحيوان، وإما مصدر أي شيئاً من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر، والواضح والخفي.
(و) أحسنوا (بالوالدين إحساناً) برّاً ولين جانب، وقد دل ذكر الإحسان إليهما بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله (أن اشكر لي ولوالديك) فأمر سبحانه بأن يشكرا معه وهو أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ويسعى في تحصيل مرادهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة، وقد وردت أحاديث كثيرة في حقوقهما وهي معروفة.
(وبذي القربى) أي صاحب القرابة وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيداً، وقيل ذو رحمة من قبل أمه وأبيه، وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله - ﷺ - يقول " من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " أخرجه البخاري ومسلم (١)، وقد تقدم نظيره في البقرة إلا أنه هنا قال بإعادة الباء وذلك لأنها في حق هذه الأمة فالاعتناء بها أكثر، وإعادة
_________
(١) مسلم ٢٥٥٧ - البخاري ١٠٤٤.
(واليتامى والمساكين) وقد تقدم تفسيرهم، والمعنى وأحسنوا إليهم إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية، إنما أمر بالإحسان إليهم لأن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز: الصغر وعدم المشفق، والمسكين هو الذي ركبه ذل الفاقة والفقر فتمسكن لذلك.
وعن سهل بن سعد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبّابة والوسطى، وفرج بينهما شيئاً " أخرجه البخاري (١).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم لا يفطر " أخرجه الشيخان (٢).
(والجار ذي القربى) أي القريب منك جواره وقيل هو من له مع الجوار في الدار قُرْب في النسب أو الدين (والجار الجنب) يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع مذكراً كان أو مؤنثاً، قاله السمين أي المجانب وهو مقابل للجار ذي القربى والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة.
وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها.
وفيه ردٌّ على من يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو مختص بالقريب دون البعيد.
_________
(١) البخاري، كتاب الطلاق باب ٢٥.
(٢) مسلم ٢٩٨٢ البخاري ٢١٧٠.
وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي عليه يصدق مسمى الجوار ويثبت لصاحبه الحق فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حدّ أربعين داراً من كل ناحية وروي عن الزهري نحوه، وقيل من سمع إقامة الصلاة، وقيل إذا جمعتهما محلة وقيل من سمع النداء.
والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جار إلى حد كذا من الدور أو من مسافة الأرض، كان العمل عليه متعيناً، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفاً، ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضاً ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة المجاور ويطلق على معان.
قال في القاموس: الجار المجاور، والذي أجرته من أن يظلم، والمجير والمستجير والشريك في التجارة وزوج المرأة وهي جارته، وفرج المرأة وما قرب من المنازل والاست كالجارة والقاسم والحليف والناصر انتهى.
قال القرطبي في تفسيره: وروى أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جواراً أشدهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر وعلياً يصيحون على أبواب المساجد ألا إن أربعين داراً جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه أهـ.
أقول هذا الحديث بلفظه أخرجه الطبراني كما ذكر في الترغيب والترهيب وروى السيوطي في الجامع الصغير " الجوار أربعون داراً " أخرجه البيهقي عن عائشة. قال المناوي في شرحه: وروي عن عائشة أوصاني جبريل بالجار إلى أربعين داراً، وكلاهما ضعيف (١)، والمعروف المرسل الذي أخرجه أبو داود، وهكذا نقل عن السيوطي ثم قال:
ولفظ مرسل أبي داود حق الجوار أربعون داراً هكذا وهكذا، وأشار قداماً ويميناً وخلفاً. قال الزركشي: سنده صحيح. قال ابن حجر: رجاله ثقات، ورواه أبو يعلى عن أبي هريرة مرفوعاً باللفظ المذكور ولكن سنده كما قال الزركشي ضعيف، قال ابن حجر: فيه عبد السلام بن أبي الحبوب منكر الحديث انتهى.
فهذا يؤيد أصل ما نقله القرطبى والله أعلم.
وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة، قال الله تعالى (لئن لم ينته المنافقون إلى قوله ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً) فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً، وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة.
_________
(١) ولعل الحديث المروي عن أبي ذر قال: قال رسول الله،- ﷺ -: " يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك " رواه مسلم ٤/ ٢٠٥٢.
وقال زيد ابن أسلم: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر وامرأتك التي تضاجعك، ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب أي بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلّم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك، فإنه صحبك وحصل بجنبك، ومنهم من قعد في مسجد أو مجلس أو غير ذلك مع أدق صحبة بينك وبينه.
(وابن السبيل) قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك ماراً، والسبيل الطريق فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر، فإن على القيم أن يحسن إليه، وقيل هو المنقطع به في سفره للحج أو للغزو أو مطلقاً، والأظهر أن يقول المسافر من غير قيد الانقطاع، وقيل هو الضيف قاله القارىء، وقد وردت أحاديث صحيحة في إكرام الضيف وجائزته ثلاثة أيام في الصحيحين وغيرهما.
(و) أحسنوا إلى (ما ملكت أيمانكم) من الأرقاء إحساناً، وهم العبيد والإماء، وقيل أعم فيشمل الحيوانات وهي غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان منهم فغلب جانب الكثرة، وأمر الله بالإحسان إلى كل مملوك آدمي وغيره قاله القارىء، والأول أولى.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم يطعمون مما يطعم
والإحسان إليهم أن لا يكلفهم ما لا يطيقونه ولا يؤذيهم بالكلام الخشن، وأن يعطيهم من الطعام الكسوة ما يحتاجون إليه بقدر الكفاية، وعن علي بن أبي طالب قال: كان آخر كلام رسول الله - ﷺ - " الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم " (١) وقد ورد مرفوعاً إلى رسول الله ﷺ في بر الوالدين وفي صلة القرابة وفي الإحسان إلى اليتامى والجار، وفي القيام بما يحتاج إليه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا.
وقوله (إن الله) علة لمحذوف تقديره ولا تفتخروا عليهم لأن الله (لا يحب من كان مختالاً) ذا الخيلاء وهو الكبر والتيه اسم فاعل من اختال يختال أي تكبر وأعجب بنفسه أي لا يحب من كان متكبراً تائها على الناس (فخوراً) مفتخراً عليهم، والفخر المدح للنفس والتطاول وتعديد المناقب والمحاسن.
وخص هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية يعني يأنف من أقاربه الفقراء ومن جيرانه الضعفاء وغيرهم، ولا يلتفت إليهم، ومن كان متكبراً لا يقوم بحقوق الناس، وقد ورد في ذم الاختيال والكبر والفخر ما هو معروف.
_________
(١) روى مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للعبد المملوك المصلح أجران " والذي نفسُ أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك.
وروي عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: " إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين ".
(الذين يبخلون) البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشر خصال الشر، ما هو أقبح منه وأدل على سقوط نفس فاعله وبلوغه في الرذالة إلى غايتها (و) هو أنهم مع بخلهم بأموالهم وبما منحوا به وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله (يأمرون الناس بالبخل) كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجاً ومضاضة، فلا كثر الله في عباده من أمثالكم.
هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه فما بالكم بخلتم بأموال غيركم مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر، وهل هذا إلا غاية اللؤم ونهاية الحمق والرقاعة وقبح الطباع وسوء الأختيار، وقد قيل إن المراد بهذه الآية اليهود فإنهم جمعوا بين الإختيال والفخر والبخل بالمال، وكتمان ما أنزل الله في التوراة، وفي البخل أربع لغات فتح الباء والخاء وضمهما وفتح الباء مع سكون الخاء وضم الباء مع سكون الخاء وقرىء بها جميعاً، وقرأ الجمهور بالأخيرة.
(ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) من صفة محمد أو من العلم أو الغنى، قيل المراد بها المنافقون ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك وأكثر شمولاً وأعم فائدة (وأعتدنا للكافرين) يعني الجاحدين لنعمة الله عليهم (عذاباً مهيناً) في الآخرة، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق " أخرجه الترمذي واستغربه.
(والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) عطف على قوله (الذين يبخلون) ووجه ذلك أن الأولين قد فرطوا بالبخل وبأمر الناس به وبكتم ما آتاهم الله من فضله، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها لمجرد الرياء والسمعة، وليقال ما أسخاهم وما أجودهم كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم، ويتطاول على غيره بذلك ويشمخ بأنفه عليه، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله واليوم الآخر أي لا يصدقون بتوحيد الله ولا بالمعاد الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن.
وكررت لا وكذلك الباء إشعاراً بأن الإيمان بكل منهما منتف على حد، قيل نزلت في اليهود، وقيل في المنافقين، وقيل في مشركي مكة.
(ومن يكن الشيطان له قريناً) في الكلام إضمار والتقدير ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان، ومن يكن الخ، والقرين المقارن وهو الصاحب والخليل فعيل بمعنى مفاعل كالخليط والجليس، والقرين الحبل لأنه يقرن به بين البعيرين، والمعنى من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه فيها أو فهو قرينه في النار (فساء) الشيطان (قريناً) وبئس الصاحب وبئس الخليل هو.
وفيه تقريع لهم على طاعة الشيطان، وقيل هذا في الآخرة يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار يقرن مع كل كافر شيطان في سلسلة من النار، والأول أولى وألصق بظاهر الآية.
والمراد من هذا الكلام أن الله لا يظلم كثيراً ولا قليلاً أي لا يبخسهم من ثواب أعمالهم ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرة فضلاً عما فوقها، ومناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة.
(وإن تك حسنة) قرأ أهل الحجاز بالرفع أي أن توجد حسنة على أن كان هي التامة لا الناقصة، وقرأ من عداهم بالنصب أي إن تك فعلته حسنة وحذفت منه النون من غير قياس تشبيهاً بحرف العلة وتخفيفاً لكثرة الاستعمال.
وقرأ الحسن (نضاعفها) بالنون والباقون بالياء وهي الأرجح، وقد تقدم الكلام في المضاعفة والمراد مضاعفة ثواب الحسنة لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مما لا يعقل.
عن سعيد بن جبير: وإن يك حسنة وزن ذرة زادت على سيآته يضاعفها، فأما المشرك فيخفف بها عنه العذاب ولا يخرج من النار أبداً، قال قتادة: لأن تفضل حسناتي على سيآتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها، وفي الباب أحاديث يطول ذكرها وهذا عند الحساب.
(ويؤت) أي يعط صاحبها (من لدنه) أي من عقده على نهج التفضل زائداً على ما وعده في مقابلة العمل (أجراً عظيماً) يعني الجنة، قال أبو هريرة: إذا قال الله أجراً عظيماً فمن يقدر قدره.
عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأ عليّ القرآن قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم إني أحب
_________
(١) رواه الإمام أحمد في مسنده ٣٥٥٠ والبخاري ٩/ ٨١ عن عبد الله بن مسعود. وفي رواية رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل وهذا لفظ مسلم ١/ ٥٥١ والمستدرك ٣/ ٣١٩.
(ولا يكتمون الله حديثاً) أي أنهم لا يقدرون على الكتم في مواطن دون مواطن، قال ابن عباس لا يكتمون أي بجوارحهم ولا يقدرون على ذلك يعني تشهد عليهم الجوارح والأعضاء والزمان والمكان فلم يستطيعوا الكتمان، قال الزجاج: هذا كلام مستأنف لأن ما عملوه ظاهر عقد الله لا يقدرون على كتمانه، وقال بعضهم: المعنى يودون أن الأرض سوّيت بهم وأنهم لم يكتموا حديثاً لأنه ظهر كذبهم.
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين لأنهم الذين كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى، قال أهل اللغة: إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه.
والمراد هنا النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها، وبه قال جماعة من المفسرين، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال آخرون المراد مواضع الصلاة وبه قال الشافعي، وعلى هذا فلا بد من تقدير مضاف، ويقوّي هذا قوله (ولا جنباً إلا عابري سبيل).
وقالت طائفة: المراد الصلاة ومواضعها معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين، وسكارى جمع سكران مثل كسالى جمع كسلان، وقرىء سكرى بالفتح وهو تكسير سكران، وقرأ الأعمش: سكرى كحبلى.
والسكر لغة السدّ، ومنه قيل لما يعرض للمرء من شرب المسكر لأنه يسد ما بين المرء وعقله وأكثر ما يقال السكر لإزالة العقل بالمسكر، وقد يقال ذلك لإزالته بغضب ونحوه من عشق وغيره، والسكر بالفتح وسكون الكاف حبس الماء وبالكسر نفس الموضع المسدود، وأما السكر بفتحهما فما يسكر به من
(حتى تعلموا ما تقولون) هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه وتصحوا وتفيقوا من السكر. فإن السكران لا يعلم ما يقوله.
وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع، لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة وهو قول الليث بن سعد وإسحق وأبي ثور والمزني واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز والسكران معتوه كالموسوس.
وأجازت طائفة وقوع طلاقه وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي. واختلف قول الشافعي في ذلك. وقال مالك: يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسّنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا وحضرت الصالاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله هذه الآية، وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن الذي صلّى بهم عبد الرحمن. وروى بألفاظ من طرق (١).
_________
(١) أخرجه أبو داود ٣/ ٤٤٥ والترمذي ٢/ ١٢٨ وابن جرير ٨/ ٣٧٦ والإمام أحمد ١/ ٣٧٩.
والمعنى جنباً بإيلاج وإنزال ونصبه على الحال، والاستثناء مفرغ أي لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل، والمراد به هنا السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم. وهذا قول علي وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم قالوا: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمّم، لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم.
وقال ابن مسعود وعكرمة، والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي: " عابر السبيل " هو المجتاز في المسجد وهو مروي عن ابن عباس، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب.
وفي القول الأول قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر، وأن معناه أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء كما يكون في المسافر.
وفي القول الثاني قوة من جهة عدم التكلف في معنى قوله (إلا عابري سبيل) وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها.
وبالجملة فالحال الأولى أعني قوله (وأنتم سكارى) تقوي بقاء الصلاة
ويمكن أن يقال إن بعض قيود النهي أعني لا تقربوا وهو قوله (وأنتم سكارى) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي وهو قوله (إلا عابري سبيل) يدل على أن المراد مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيّد كل واحد منهما بقيد وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب.
وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور، وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: والأولى قول من قال: (ولا جنباً إلا عابري سبيل) إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر) الآية فكان معلوماً بذلك أي أن قوله (ولا جنباً إلا عابري سبيل) لو كان معنيّاً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر) معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.
فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، قال: وعابر السبيل المجتاز مرّاً وقطعاً، يقال منه عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً ومنه قيل عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ومنه قيل للناقة القوية هي عبر أسفار لقوتها على قطع الأسفار.
(حتى تغتسلوا) غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة، والمعنى لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل، وعن علي قال نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي، وقال ابن عباس إن لم تجدوا الماء فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض، وعن مجاهد قال لا يمر الجنب ولا الحائض في المسجد، وإنما أنزلت (ولا جنباً إلا عابري سبيل) للمسافر يتيمم ثم يصلي.
(وإن كنتم مرضى) المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ، وهو على ضربين: كبير ويسير، والمراد هنا أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء أو كان ضعيفاً في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء، وروى عن الحسن أنه يتطهر وإن مات، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله (ولا تقتلوا أنفسكم) وقوله (يريد الله بكم اليسر).
(أو على سفر) فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر، والخلاف مبسوط في كتب الفقه وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر، وقال قوم لا بد من ذلك، وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر، واختلفوا في الحاضر فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر، وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف.
(أو جاء أحد منكم من الغائط) هو المكان المنخفض المطمئن من
_________
(١) ابن كثير ١/ ٥٠٢.
(أو لامستم النساء) وقرىء لمستم قيل المراد بما في القراءتين الجماع، وقيل المراد به مطلق المباشرة، وقيل إنه لمجمع الأمرين جميعاً وقال المبرد الأولى في اللغة أن يكون (لامستم) بمعنى قبّلتم ونحوه (ولمستم) بمعنى غشيتم.
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال: فقالت فرقة الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع قالوا: والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء، وقد روى هذا عن عمر وابن مسعود، قال ابن عبد البر لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار انتهى.
وأيضاً الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث عمار وعمران بن حصين وأبي ذر في تيمم الجنب، وقالت طائفة هو الجماع كما في قوله (ثمّ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وقوله (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وهو يروى عن علي وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حيان وأبي حنيفة.
وقال مالك الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا الْتذّ، فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد واسحق، وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا، وحكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة.
وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه، وليس الأمر كذلك، فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ أو لمستم وهي محتملة بلا شك ولا شبهة، ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل.
وهذا الحكم تعم به البلوى وثبت به التكليف العام فلا يحل إثباته بمحتمل قد وقع النزاع في مفهومه.
وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من أجنب ولم يجد الماء فكان الجنب داخلاً في هذا الحكم بهذا الدليل، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك، وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالاً بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال.
وأما ما استدلوا به من أنه - ﷺ - أتاه رجل فقال يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ فأنزل الله (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئآت ذلك ذكرى للذاكرين) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ، قالوا فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها، فلا يخفاك أنه لا دلالة لهذا الحديث على محل النزاع فإن النبي - ﷺ - إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية إذ لا صلاة إلا بوضوء.
وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة، وأيضاً قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ ثم يقبّل ثم يصلي ولا يتوضأ، وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبي داود والنسائي وابن ماجه.
(فلم تجدوا ماء) تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش، وهذا القيد إن كان راجعاً إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط وهو المرض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوغان التيمم، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض والمسافر أن يتيمما إلا إذا لم يجدا ماء.
ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح والمقيم كالمريض والمسافر إذا لم يجدا الماء تيمما، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر، فقيل وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنّة للعجز عن الوصول إلى الماء وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب.
وإن كان راجعاً إلى الصورتين الأخيرتين أعني قوله (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء) كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم وإن كان واجداً للماء قادراً على استعماله، وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الأخيرين مع كونه معتبراً في الأولين لندرة وقوعه فيهما، وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد.
وقال مالك: ومن تابعه ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم إعتباراً
والظاهر أن المرض بمجرده مسوغ للتيمم وإن كان الماء موجوداً إذا كان يتضرر باستعماله في الحال أو في المال ولا تعتبر خشية التلف، فالله سبحانه يقول (والله يريد بكم اليسر) ويقول (ما جعل عليكم في الدين من حرج) والنبي - ﷺ - يقول " الدين يسر (١) " ويقول: " يسروا ولا تعسروا (٢) " وقال " قتلوه قتلهم الله (٣) " ويقول " أمرت بالشريعة السمحة (٤) ".
فإذا قلنا: إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المريض هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضره فيكون إعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضره، فإن في مجرد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف، وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض.
(فتيمّموا) التيمم لغة القصد يقال تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصيد تعمدته، وتيممته بسهمي ورمحي قصدته دون من سواه، قال ابن السكيت: قوله تيمموا أي اقصدوا ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب.
وقال ابن الأعرابي في قولهم: قد تيمم الرجل معناه قد مسح التراب على وجهه، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي، فإن العرب لا تعرف
_________
(١) الحديث: إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه
(٢) مسلم ١٧٣٤ - البخاري ٦١.
(٣) رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني وصححه ابن السكن.
(٤) الإمام أحمد ٦/ ١١٦.
وظاهر الأمر الوجوب وهو مجمع على ذلك، والأحاديث في هذا الباب كثيرة وتفاصيل التيمم وصفاته مبينة في السنة المطهرة ومقالات أهل العلم مدونة في كتب الفقه.
والتيمم من خصائص هذه الأمة، عن حذيفة قال: قال رسول الله - ﷺ - فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء أخرجه مسلم (١). وكان سبب التيمم انقطاع عقد لعائشة في بعض الأسفار وقصته في الصحيحين.
(صعيداً طيّباً) الصعيد وجه الأرض سواء كان عليه تراب أم لم يكن قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج، قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة، قال الله تعالى (وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً) أي أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً وقال تعالى (فتصبح صعيداً زلقاً) وإنما سمي صعيداً لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض.
قال قتادة الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات، وقال ابن زيد المستوى من الأرض، وبه قال الليث، وقال الفراء هو التراب، وبه قال أبو عبيدة، وجمع الصعيد صعدات.
وقد اختلف أهل العلم فيما يجزىء التيمم به فقال مالك وأبو حنيفة والثوري والطبراني أنه يجزىء بوجه الأرض كله تراباً كان أو رملاً أو حجارة، وحملوا قوله (طيباً) على الطاهر الذي ليس بنجس، وقال الشافعي وأحمد
_________
(١) مسلم ٥٢٢.
وقد تنوزع في معنى الطيب فقيل الطاهر كما تقدم وقيل المنبت كما هنا، وقيل الحلال، والمحتمل لا تقوم به حجة.
ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز لكان الحق ما قاله الأولون لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا الطهور إذا لم نجد الماء وفي لفظ وجعل ترابها لنا طهوراً (١) " فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية أو مخصص لعمومه أو مقيد لإطلاقه.
ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد أي خذ من غباره انتهى، والحجر الصلد لا غبار له.
(فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) هذا المسح مطلق يتناول المسح بضربة أو ضربتين، ويتناول المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين، وقد بينته السنة بياناً شافياً، وقد جمع الشوكاني بين ما ورد في المسح بضربة وبضربتين وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحه للمنتقى وغيره من مؤلفاته بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
والحاصل أن أحاديث الضربتين لا يخلو جميع طرقها من مقال، ولو
_________
(١) مسلم ٥٢٢.
قال الخطابي: لم يختلف أحد من العلماء في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين، واحتجوا بالقياس على الوضوء وهو فاسد الاعتبار.
قال الحافظ: إن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه انتهى، فالحق مع أهل المذهب الأول حتى يقوم دليل يجب المصير إليه، ولا شك أن الأحاديث المشتملة على الزيادة أولى بالقبول، ولكن إذا كانت صالحة للاحتجاج بها، وليس في الباب شيء من ذلك (١).
(إن الله كان عفوّاً غفوراً) أي عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم.
_________
(١) البخاري ٨/ ١٨٩، ومسلم ٢٧٩، ولفظه عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - ﷺ - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء (أو بذات الجيش) انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - ﷺ - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - ﷺ - وبالناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله - ﷺ - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - ﷺ - والناس ليسوا على ماء، وليس معهم ماء قالت: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - ﷺ - على فخذي. فنام رسول الله - ﷺ - حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم " فتيمموا ".
وروى عمار عن النبي ﷺ أنه قال: التيمم ضربة للوجه والكفين رواه البخاري ١/ ٣٧٧ ومسلم ١/ ٢٨٠ وغيرهما.
(إلى الذين أوتوا نصيباً) حظاً (من الكتاب) التوراة والمراد أحبار اليهود (يشترون الضلالة) المراد بالاشتراء الاستبدال، وقد تقدم تحقيق معناه، والمعنى أن اليهود استبدلوا الضلالة وهي البقاء على اليهودية بالهدى أي بعد وضوح الحجة على صحة نبوة نبينا- ﷺ -، وقيل يأخذون الرشا ويحرفون التوراة.
(ويريدون أن تضلّوا السبيل) عطف على قوله يشترون مشارك له في بيان سوء صنيعهم وضعف اختيارهم، أي لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى، بل أرادوا مع ضلالهم أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو سبيل الحق، قال تعالى (ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء).
(من الذين هادوا) قوم (يحرّفون الكلم عن مواضعه) وقال الفراء التقدير من الذين هادوا من يحرفون كقوله (وما منّا إلا له مقام معلوم) أي من له مقام، وأنكره المبرد والزجاج وقيل بيان لقوله (الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) والتحريف الإمالة والإزالة أي يميلونه ويزيلونه عن مواضعه ويجعلون مكانه غيره، أو المراد أنهم يتأولونه على غير تأويله، وإليه ذهبت طائفة من الفقهاء والمحدثين.
وقال ابن عباس: يحرفون حدود الله في التوراة، وقال مجاهد: تبديل اليهود التوراة، وذمهم الله عز وجل بذلك لأنهم يفعلونه عناداً وبغياً وإيثاراً لعرض الدنيا.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: وقد اختلف في التوراة التي بأيديهم هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدّل، وغلا بعضهم حتى قال يجوز الاستجمار بها، وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه والكلام إنما وقع التبديل في التأويل.
قال البخاري في صحيحه يحرفون يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهو اختيار الرازي أيضاً،
ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وانتشرت جنوباً وشمالاً، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ حتى لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة، وهذا مما يحيله العقل، قالوا: وقد قال الله لنبيه (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم ولم يمكنهم تغييرها من التوراة ولذا لما قرؤها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع القارىء يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها.
وتوسطت طائفة فقالوا: قد زيد فيها وغير أشياء يسيرة جداً، واختاره شيخنا في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، قال وهذا كما في التوراة عقدهم أن الله سبحانه قال لإبراهيم: اذبح ابنك بكرك أو وحيدك إسحق.
قلت والزيادة باطلة من وجوه عشرة الأول: أن بكره ووحيده اسمعيل باتفاق الملل الثلاث.
الثاني: أنه سبحانه أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها اسمعيل عن سارة ويسكنها في برية مكة لئلا تغار سارة فأمره بإبعاد السرية وولدها عنها فكيف يؤمر بعد هذا بذبح ابن سارة وابقاء ابن السرية، وهذا مما لا تقتضيه الحكمة.
الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعاً ولذا جعل الله سبحانه ذبح الهدايا والقرابين بمكة تذكيراً للأئمة بما كان من إبراهيم وولده هنالك.
الرابع: أن الله بشر سارة أم إسحق بإسحق ومن ورائه يعقوب فبشرها بهما جميعاً فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحق وقد بشر أبويه بولد ولده.
السادس: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه الولد فأجاب دعاءه وبشره به فلما بلغ معه السعي أمره بذبحه قال تعالى (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين. رب هب لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم) فهذا دليل أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولداً وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعاً بنص القرآن، وأما إسحق فإنه بشر به من غير دعوة منه بل على كبر السن وكون مثله لا يولد له، وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة، ولذا تعجبت من حصول الولد منها.
السابع: أن إبراهيم لم يقدم بإسحق إلى مكة البتّة، ولم يفرق بينه وبين أمه، وكيف يأمره الله أن يذهب بابن امرأته فيذبحه بموضع ضرّتها وفي بلدها ويدع ابن ضرتها.
الثامن: أن الله لما اتخذ إبراهيم خليلاً، والخلّة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقاً بربه ليس فيه سعة لغيره، فلما سأل الولد وهب له إسمعيل فتعلّق به شعبة من قلبه، فأراد خليله أن تخلص تلك الشعبة له فامتحنه بذبح ولده، فلما امتثل خلصت تلك الخلة فنسخ الأمر بذبحه لحصول الغرض وهو العزم وتوطين النفس على الامتثال، ومن المعلوم أن هذا إنما يكون في أول الأولاد لا في آخرها، فلما حصل هذا المقصود مع الولد الأول لم يحتج إلى مثله مع الولد الآخر، فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه، فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره في الأول على مزاحمة الخلة به مدة طويلة، ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك وهو خلاف مقتضى الحكمة فليتأمل.
العاشر: أن النبي - ﷺ - كان يفتخر بأنه ابن الذبيحين يعني أباه عبد الله وجده إسمعيل، والمقصود أن هذه اللفظة مما زاده في التوراة انتهى ملخصاً.
قال الخفاجي: في العناية في تفسير الفاتحة وأما الإنجيل ففيه تبديل وتحريف في بعض ألفاظه ومعانيه وهو مختلف النسخ، والأناجيل أربعة كما فصله بعضهم في كتاب عقده لذلك سماه المفيد في التوحيد انتهى.
(ويقولون سمعنا) قولك (وعصينا) أمرك (واسمع) حال كونك (غير مسمع) كلاماً أصلاً بصمم أو موت وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى اسمع لا سمعت أو غير مسمع كلاماً ترضاه.
ويحتمل أن يكون المعنى اسمع منا غير مسمع جواباً كانوا يخاطبون به النبي - ﷺ - استهزاء به مظهرين له إرادة المعنى الأخير، وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأول، وقال ابن عباس: غير مقبول.
وقد تقدم الكلام في (وراعنا) أي يريدون بذلك نسبته إلى الرعونة وقيل معناه ارعنا سمعك، ومثل ذلك لا يخاطب به الأنبياء، وهي كلمة سب بلغتهم.
ومعنى (ليّاً بألسنتهم) أنهم يلوونها عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم، وأصل الليّ الفتل أي فتلاً بها وصرفاً للكلام عن نهجه إلى نسبة السب حيث وضعوا (غير مسمع) موضع لا سمعت مكروهاً، وأجروا راعنا المشابهة
(وطعناً) أي قدحاً (في الدّين) بقولهم لو كان نبياً لعلم أنا نسبه، فأطلع الله سبحانه نبيه - ﷺ - على ذلك (ولو أنهم قالوا سمعنا) قولك (وأطعنا) أمرك (واسمع) ما نقول (وانظرنا) أي أفهمنا لا تعجل علينا أي لو قالوا هذا مكان قولهم سمعنا وعصينا وراعنا بلسان المقال أو الحال (لكان خيراً لهم) مما قالوه (وأقوم) أي أعدل وأولى من قولهم الأول وهو قولهم سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب واحتمال الذم في راعنا.
(ولكن) لم يسلكوا ذلك المسلك الحسن، ولم يأتوا بما هو خير لهم وأقوم، بل استمروا على كفرهم ولهذا (لعنهم الله بكفرهم) أي خذلهم وأبعدهم بسبب كفرهم (فلا يؤمنون) بعد ذلك (إلا) إيماناً (قليلاً) وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض، وببعض الرسل دون بعض، وقيل هو اعترافهم بأن الله خلقهم ورزقهم وقيل إلا نفر قليل كعبد الله بن سلام، وعبّر الزمخشري وابن عطية عن هذا القليل بالعدم يعني أنهم لا يؤمنون ألبتة.
_________
(١) في " مشكل القرآن " ٢٩١: هؤلاء قوم من اليهود كانوا يقولون للنبي - ﷺ - إذا حدثهم وأمرهم: سمعنا، ويقولون في أنفسهم: عصينا، وإن أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا له: اسمع يا أبا القاسم، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، ويقولون له: راعنا، ويوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون: انتظرنا، حتى نكلمك بما نريد، كما تقول العرب: أعرني سمعك وراعني، أي: انتظرني وترفق بي وتلوم علي، هذا ونحوه، وإنما يريد سبه بالرعونة في لغتهم، فقال الله سبحانه: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) ويقولون كذا وكذا، ويقولون: (راعنا لياً بألسنتهم) أي: قلباً للكلام بها، (وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا) مكان قولهم: سمعنا وعصينا، وقالوا: واسمع، مكان قولهم: لا سمعت، وانظرنا، مكان قولهم: راعنا لكان خيراً لهم وأقوم.
(يا أيها الذين أوتوا الكتاب) الخطاب لليهود، ولم يقل هنا أوتوا نصيباً من الكتاب لأن المقصود فيما سبق بيان خطئهم في التحريف، وهو إنما وقع في بعض التوراة والمقصود هنا بيان خطئهم في عدم إيمانهم بالقرآن وهو مصدّق لجميع التوراة فناسب التعبير هنا بإيتائهم الكتاب (آمنوا بما نزلنا) يعني القرآن (مصدقاً لما معكم) يعني التوراة ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقاً لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش.
وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليس بمخالفة في الحقيقة، بل هو عين الموافقة من حيث أن كلا منهما حق بالإضافة إلى عصره، متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: " لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي ".
ثم قرن بهذا الأمر الوعيد الشديد الوارد على أبلغ وجه وأكده فقال (من قبل أن نطمس وجوهاً) أصل الطمس استئصال أثر الشيء بالمحو وإزالة الأعلام، ومنه (فإذا النجوم طمست) يقال طمس الأثر أي محاه كله ومنه (ربنا اطمس على أموالهم) أي أهلكها، ويقال مطموس البصر ومنه (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) أي أعميناهم.
وعلى الأول فالمراد بقوله (فنردّها على أدبارها) نجعلها أقفاء أي نذهب بآثار الوجه وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا. وقيل أنه بعد الطمس يردها إلى مواضع القفا والقفا إلى مواضعها، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله (فنردها على أدبارها).
فإن قيل كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم، فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين، وقال المبرد الوعيد باق منتظر، وقال لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة، وقيل هو مختص بيوم القيامة، وقيل المراد طمس القلب والبصيرة وقيل المراد محو آثارهم من المدينة وردهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام من حيث جاؤوا، والأول أولى.
والضمير في (أو نلعنهم) عائد إلى أصحاب الوجوه (كما لعنّا أصحاب السبت) وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير، وقيل المراد نفس اللعنة، وهم ملعونون بكل لسان، والمراد وقوع أحد الأمرين إما الطمس أو اللعن، وقد وقع اللعن، ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت (وكان أمر الله مفعولاً) أي كائناً موجوداً لا محالة إن لم يؤمنوا أو يراد بالأمر المأمور، والمعنى أنه متى أراده كان كقوله (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).
ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته، وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
قال ابن جرير قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله عز وجل، وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة.
وقد تقدم قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم) وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئآت من اجتنب الكبائر فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئآته.
عن ابن عمر بسند صحيح قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا - ﷺ - (إن الله لا يغفر) الآية وقال: إني ادّخرت دعوتي
وعن ابن عباس قال في هذه الآية: إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم عن المغفرة وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به) الآية.
وعن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله ما الوجبتان قال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك به دخل النار، أخرجه مسلم (١).
(ومن يشرك بالله) يعني يجعل معه شريكاً غيره، إظهار في موضع الإضمار لإدخال الرّوع (فقد افترى) أي اختلق وفعل، لأن الافتراء كما يطلق على القول حقيقة يطلق على الفعل مجازاً كما صححه التفتازاني (إثماً عظيماً) يعني ذنباً كبيراً غير مغفور إن مات عليه.
_________
(١) روي عن أبي ذر قوله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة...
وقال الضحاك: هو قولهم لا ذنوب لنا ونحن كالأطفال، وقيل قولهم إن آباءهم يشفعون لهم، وقيل: ثناء بعضهم على بعض، ومعنى التزكية التطهير والتنزيه فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها، واللفظ يتناول كلّ من زكّى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم، وكل من ذكر نفسه
ويدخل في هذا التلقب بالألقاب المتضمنة للتزكية كمحيي الدين وعز الدين وسلطان العارفين ونحوها، فهذه الأشياء لا يعلمها إلا الله تعالى فلهذا قال (بل الله يزكّي من يشاء) أي بل ذلك إليه سبحانه، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده ومن لا يستحقها، فليدع العباد تزكية أنفسهم ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه، فإنّ تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس وطلب العلو والترفع والتفاخر، ومثل هذه الآية قوله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى).
(ولا يظلمون) هؤلاء المزكون أنفسهم من أعمالهم (فتيلاً) هو الخيط الذي في نواة الثمر، وقيل القشرة التي حول النواة وقيل هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما فهو فتيل بمعنى مفتول، والمراد هنا الكناية عن الشيء الحقير، ومثله ولا يظلمون نقيراً، وهو النكتة التي في ظهر النواة.
والمعنى أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب، ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون، ويجوز أن يعود الضمير إلى (من يشاء) أي لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلاً مما يستحقونه من الثواب.
وقد ضربت العرب المثل في القلّة بأربعة أشياء اجتمعت في النواة وهي الفتيل والنقير وهو النقرة التي في ظهر النواة، والقطمير وهو القشر الرقيق فوقها، وهذه الثلاثة واردة في الكتاب العزيز، والثفروق وهو ما بين النواة والقمع الذي يكون في رأس الثمرة كالعلاقة بينهما.
ثم عجّب النبي - ﷺ - من تزكيتهم لأنفسهم فقال
وفي قوله (وكفى به إثماً مبيناً) من تعظيم الذنب وتهويله ما لا يخفى أي كفى بالافتراء وحده وبالأولى إذا انضم إلى التزكية، والتنكير في إثماً للتشديد.
وروي عن ابن مسعود أن الجبت والطاغوت هنا كعب بن الأشرف، وقال قتادة الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن، وروي عن مالك أن الطاغوت ما عبد من دون الله، والجبت الشيطان، وقيل هما كل معبود من دون الله أو مطاع في معصية الله، وقيل هما صنمان كانا لقريش وهما اللذان سجد اليهود لهما لمرضاة قريش.
وقيل العيافه هي زجر الطير، والطرق هو ضرب الحجارة والحمى على طريق الكهانة، والطيرة هو أن يتطير بالشيء فيرى الشؤم فيه والشر منه، وقيل هو من التطيّر وهو زجر الطير، والخط هو ضرب الرمل لاستخراج الضمير.
(ويقولون) أي اليهود (للذين كفروا) كأبي سفيان وأصحابه، واللام للتبليغ أو للعلة كنظائرها (هؤلاء) أي أنتم (أهدى من الذين آمنوا) بمحمد (سبيلاً) أي أقوم دينا وأرشد طريقاً.
_________
(١) وروى ابن جرير ٨/ ٤٦٦ عن ابن عباس، قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم. قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السًدانة، وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير منه. قال: فأنزلت: (إن شانئك هو الأبتر) [الكوثر: ٣] وأنزلت (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) إلى قوله: (فلن تجد له نصيراً) وإسناده صحيح. وزاد السيوطي نسبته في " الدر " ٢/ ١٧١ لأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وقولهم: " ألا ترى إلى هذا الصنبور الأبتر " في " النهاية " الصنبور: سعفات تنبت في جذع النخلة، لا في الأرض، ثم قالوا: للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب ولا ناصر " صنبور ".
وهذا ذم لهم بالبخل بعد أن ذمهم بالجهل، لعدم جريهم على مقتضى العلم، وسيأتي ذمهم بالحسد، والأول قوة عملية والثاني علمية، والأول مقدم كما بينه الفخر، وقيل المعنى بل لهم نصيب من الملك على أن معنى أم الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني، وقيل التقدير أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب، الآية.
والنقير النقطة والنقرة في ظهر النواة، وقيل ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض، والنقير أيضاً خشبة تنقر وينبذ فيها.
وقد نهى النبي - ﷺ - عن النقير كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، والنقير الأصل يقال فلان كريم النقير أي كريم الأصل، والمراد هنا المعنى الأول والمقصود به المبالغة في الحقارة كالقطمير والفتيل، والنقير يضرب به المثل في الشيء الحقير التافه الذي لا قيمة له، وفي القلة والحقارة.
وإذن هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز قال سيبويه: إذن في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذا
وليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
(على ما آتاهم الله من فضله) من النبوة والنصر وقهر الأعداء، وقيل حسدوه على ما أحل الله له من النساء، وكانت له يومئذ تسع نسوة والأول أولى.
(فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه وهو مسلّم عندهم أي ليس ما آتينا محمداً وأصحابه من فضلنا بأبدع حتى تحسدهم اليهود على ذلك فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم وهم أسلاف محمد - ﷺ - وأبناء أعمامه.
وفيه حسم لمادة حسدهم واستبعادهم المبنيّين على توهم عدم استحقاق الحسود ما أوتيه من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابراً عن كابر،
(وآتيناهم ملكاً عظيماً) فلم يشغلهم ذلك عن أمر النبوة، ومن فسر الفضل بكثرة النساء قال: الملك العظيم في حق داود وسليمان بكثرة النساء، فإنه كان لداود مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة ثلثمائة حرة وسبعمائة سرية، ولم يكن لرسول الله - ﷺ - يومئذ إلا تسع نسوة، وقيل هو ملك سليمان واختاره ابن جرير وهو الأولى (١).
_________
(١) قال ابن جرير ٨/ ٤٧٩: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول قتادة وابن جريج الذي ذكرناه قبل، أن معنى " الفصل " في هذا الموضع: النبوة التي فضل الله بها محمداً، وشرف بها العرب، إذ آتاها رجلاً منهم دون غيرهم، لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية تدل على أنها تقريظ للنبي - ﷺ - وأصحابه، رحمة الله عليهم، على ما قد بينا قبل، وليس النكاح وتزويج النساء -وإن كان من فضل الله جل ثناؤه الذي آتاه عباده- بتقريظ لهم ومدح.
وقوله (إن الذين كفروا) تقرير لهذا وبيان لكيفية عذابهم وعذاب جميع من كفر (بآياتنا) الظاهر عدم تخصيصه ببعض الآيات دون بعض (سوف) كلمة تذكر للتهديد، قاله سيبويه وتنوب عنها السين (نصليهم) أي ندخلهم (ناراً) يحترقون فيها.
(كلما نضجت) أي احترقت (جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها) أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق جلداً آخر غير محترق، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحترق.
وقيل المراد بالجلود السرابيل التي ذكرها الله في قوله (سرابيلهم من قطران) ولا موجب لترك المعنى الحقيقي ههنا، وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازاً، وقيل المعنى أعدنا الجلد الأول جديداً، ويأبى ذلك معنى التبديل، قال ابن عمر: يبدلون جلوداً بيضاء أمثال القراطيس.
وقال معاذ: تبدل في ساعة مائة مرة فقال عمر هكذا سمعت رسول الله - ﷺ - أخرجه الطبراني بسند ضعيف، والبغوي بغير سند. وقال كعب عشرين ومائة مرة وعن ابن مسعود أن غلظ جلد الكافر إثنان وأربعون ذراعاً وقال الحسن، تأكلهم النار في كل يوم سبعين ألف مرة.
(ليذوقوا العذاب) أي ليحصل لهم الذوق الكامل لذلك التبديل ويقاسوا شدته، وقيل معناه ليدوم لهم العذاب ولا ينقطع (إن الله كان عزيزاً) في انتقامه ممن ينتقم من خلقه لا يغلبه شيء ولا يمنع عليه أحد (حكيماً) في تدبيره وقضائه وأنه لا يفعل إلا ما هو الصواب.
ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين فقال
(لهم فيها أزواج مطهّرة) من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا ومن كل قذر وسوء الخلق (وندخلهم ظلاً ظليلاً) الظل الظليل الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك، وقيل هو مجموع ظل الأشجار والقصور. وقيل الظل الظليل هو الدائم الذي لا يزول، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف للمبالغة كما يقال ليل أليل، قال الربيع بن أنس: هو ظل العرش الذي لا يزول، وقيل هو ظل الجنة والأول أولى.
وممن قال بعموم هذا الخطاب البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأُبيُّ ابن كعب، واختاره جمهور المفسرين ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار كما قال ابن المنذر.
والأمانات جمع أمانة وهي مصدر بمعنى المفعول.
ْوقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - لما فتح مكة وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة فنزل جبريل عليه السلام بردّ المفتاح فدعا النبي - ﷺ - عثمان بن طلحة فرده إليه وقرأ هذه الآية (١).
وعن ابن جريج أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه صلى الله عليه وآله وسلم مفتاح الكعبة فدعاه ودفعه إليه. وقال هاك خالدة تالدة أي مستمرة إلى آخر الزمان قديمة متأصلة، وقد روى هذا المعنى بطرق كثيرة.
وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أدّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك (٢) "، وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن ففيه خصلة من خصال النفاق (٣).
_________
(١) قال السيوطي في " الدر المنثور " ٢/ ١٧٤: أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس مطولاً. قلت: والكلبي وأبو صالح ضعيفان لا يحتج بهما.
(٢) قال ابن كثير في تفسير الآية: يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله - ﷺ - قال " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
(٣) صحيح الجامع الصغير ١٦.
وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ولا بما هو أقرب إليهما فهو لا يدري ما هو العدل لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فضلاً عن أن يحكم بها بين عباد الله.
عن علي قال: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل وأن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا وأصل العدل هو المساواة في الأشياء، فكل ما خرج عن الظلم والاعتداء سمّي عدلاً.
قيل: ينبغي العدل بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والإقبال عليهما والاستماع منهما والحكم بالحق فيما لهما وعليهما فيجب على الحاكم أن يأخذ الحق ممن وجب عليه لمن وجب له، ويكون مقصوده بحكمه إيصال الحق إلى مستحقّه، وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر، وقد ورد في فضل العادلين من الولاة أحاديث.
(إنّ الله نعمّا يعظكم به) أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو أداء، الأمانات والحكم بالعدل على وفق السنة والكتاب دون الرأي البحت والعقل الصرف تقليداً للأحبار والرهبان من غير حجة نيّرة وبرهان واضح (إن الله كان سميعاً بصيراً) فإذا حكمتم فهو يسمع حكمكم، وإذا أديتم الأمانة فهو يبصر فعلكم.
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) لما أمر الله سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق أمر الناس بطاعتهم هنا، وطاعة الله عز وجل هي امتثال أوامره ونواهيه وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه، وأولو الأمر: هم الأئمة والسلاطين والقضاة وأمراء الحق ولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية.
والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الله كما ثبت ذلك عن رسول الله - ﷺ -.
وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: إن أولي الأمر هم أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك، وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد - ﷺ -، وقال ابن كيسان: هم أهل العقل والرأي، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء والعلماء الذين يعلّمون الناس معالم دينهم وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، والراجح القول الأول لصحة الأخبار عن رسول الله - ﷺ - بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله وللمسليمن مصلحة فإذا زال عن الكتاب والسنة فلا طاعة له، وإنما تجب طاعته فيما وافق الحق.
عن ابن عباس قال نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي - ﷺ - في سريّة وقصته معروفة (١).
_________
(١) أنظر البخاري ٨/ ١٩٠ ومسلم ٣/ ١٤٦٥ وأحمد ٢/ ٦٢٢.
وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء ثابتة في الصحيحين وغيرهما مقيّدة بأن يكون ذلك في المعروف وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله.
ومن جملة ما استدل به المقلدة هذه الآية قالوا: وأولو الأمر هم العلماء، والجواب أن للمفسرين في تفسيرها قولين أحدهما أنهم الأمراء، والثاني أنهم العلماء كما تقدم ولا يمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة، ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين فإنه لا طاعة لأحدهما إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق سنة رسوله وشريعته.
وأيضاً العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم ونهوهم عن ذلك كما روي عن الأئمة الأربعة وغيرهم فطاعتهم ترك تقليدهم (١) ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان يرشد إلى معصية الله، ولا طاعة له بنص حديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
_________
(١) البخاري: ٨/ ١٩٠، ومسلم: ٣/ ١٤٦٥. قال الحافظ في " الفتح ": كذا ذكره -أي: البخاري- مختصراً، والمعنى: نزلت في قصة عبد الله بن حذافة، أي، المقصود منها في قصته قوله: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله) - الآية. قلت: وقصة حذافة بطولها رواها الإمام أحمد ٢/ ٦٢٢، والبخاري ١٣/ ١٠٩، ومسلم ٣/ ١٤٦٩ عن علي رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله - ﷺ - سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله - ﷺ - أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله - ﷺ - من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا، ذكروا ذلك للنبي - ﷺ - فقال: " لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف ".
ومن جملة ما يجب فيه طاعة أولى الأمر تدبير الحروب التي تدهم الناس والانتفاع بآرائهم فيها وفي غيرها من تدبير أمر المعاش وجلب المصالح ودفع المفاسد الدنيوية، ولا يبعد أن تكون هذه الطاعة في هذه الأمور التي ليست من الشريعة هي المرادة بالأمر بطاعتهم لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله لكان ذلك داخلاً تحت طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يبعد أيضاً أن تكون الطاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل الواجبات المخيّرة وواجبات الكفاية، فإذا أمروا بواجب من الواجبات المخيرة أو ألزموا بعض الأشخاص الدخول في واجبات الكفاية لزم ذلك، فهذا أمر شرعي وجب فيه الطاعة.
وبالجملة فهذه الطاعة لأولي الأمر المذكورة في الآية هي الطاعة التي ثبتت في الأحاديث المتواترة في طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله أو يرى المأمور كفراً بواحاً، فهذه الأحاديث مفسرة لما في الكتاب العزيز، وليس ذلك من التقليد في شيء بل هو في طاعة الأمراء الذين غالبهم الجهل والبعد عن العلم في تدبير المحاربات وسياسة الأجناد وجلب مصالح العباد، وأما الأمور
هذا الذي سقناه هو عمدة أدلة المجوزين للتقليد وقد أبطلناه كما عرفت، ولهم شبه غير ما حررناه.
(فإن تنازعتم) المنازعة المجاذبة والنزع الجذب كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها والمراد بالأختلاف المجادلة، والظاهر أنه خطاب مستقل مستأنف موجّه للمجتهدين، ولا يصح أن يكون لأولي الأمر إلا على طريق الالتفات، وليس المراد فإن تنازعتم أيها الرعايا مع أولي الأمر المجتهدين لأن المقلد ليس له أن ينازع المجتهد في حكمه، قاله أبو السعود على ما في الجمل، والأولى ما قدمناه.
وظاهر قوله (في شيء) يتناول أمور الدين والدنيا ولكنه لما قال (فردّوه إلى الله والرسول) تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا، والمعنى في شيء غير منصوص نصاً صريحاً من الأمور المختلف فيها كندب الموتر وضمان العارية ونحوهما، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه العزيز، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته المطهرة بعد موته، وأما في حياته فالرد إليه سؤاله.
هذا معنى الرد إليهما، وقيل معنى الرد أن يقول لما لا يعلم " الله ورسوله أعلم " وهو قول ساقط وتفسير بارد، وليس الرد في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى (ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
والرد إلى كتاب الله وسنة رسوله واجب، فإن وجد ذلك الحكم في كتاب الله أخذ به، فإن لم يوجد فيه ففي سنة رسوله، فإن لم يوجد فيها فسبيله
وفي قوله (إن كنتم تؤمنون) دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين وأنه شأن من يؤمن (بالله واليوم الآخر) وفي الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب متابعة الكتاب والسنة والحكم بالنصوص القرآنية والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر.
(ذلك) أي الرد المأمور به (خير وأحسن تأويلاً) أي مرجعاً وأحمد عاقبة من الأول يقال آل يؤول إلى كذا أي صار إليه، والمعنى أن ذلك الرد خير لكم في حد ذاته من غير اعتبار فضله على شيء يشاركه في أصل الخيرية من التنازع والقول بالرأي وأحسن مآلاً مرجعاً ترجعون إليه، ويجوز أن يكون المعنى أن الرد أحسن تأويلاً من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع، وقال قتادة: ذلك أحسن ثواباً وخير عاقبة، وقال مجاهد: أحسن جزاء.
واعلم أن هذه الآية الشريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهذه الآية مشتملة على تقرير هذه الأصول الأربعة بهذا الترتيب.
أما الكتاب والسنة فقد وقعت الإشارة إليهما بقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فدلت على وجوب متابعة الكتاب والسنة، وقوله تعالى (وأولي الأمر منكم) يدل على أن إجماع الأمة حجة لأن الله تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم، وهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والمراد بهم أهل الحل والعقد، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة.
وهذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة مقدمان على القياس مطلقاً فلا يجوز ترك العمل بهما بسبب القياس، ولا يجوز تخصيصهما بسبب القياس ألبتة سواء كان القياس جلياً أو خفياً، وسواء كان النص مخصوصاً قبل ذلك أم لا.
ومما يدل عليه أن قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أمر بطاعة الكتاب والسنة وهذا الأمر مطلق فثبت أن متابعتهما سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يوجد واجب.
ومما يؤكد ذلك وجوه أخرى (أحدها) أن كلمة (إن) على قول الأكثرين للإشتراط وعلى هذا كان قوله (فإن تنازعتم) صريحاً في أنه لا يجوز العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول (الثاني) أنه تعالى أخر ذكر القياس عن ذكر الأصول الثلاثة وهذا مشعر بأن العمل به مؤخر عن الأصول الثلاثة.
(الثالث) أنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر هذا الترتيب في قصة معاذ حيث أخر الاجتهاد عن الكتاب، وعلق جوازه على عدم وجدان الكتاب والسنة بقوله " فإن لم تجد ".
(الرابع) أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ثم إن إبليس لم يدفع هذا النص بالكلية بل خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس، ثم أجمع العقلاء على أنه جعل القياس مقدماً على النص وصار بذلك السبب ملعوناً، وهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس تقديم للقياس على النص وأنه غير جائز.
(الخامس) أن القرآن مقطوع في متنه لأنه ثبت بالتواتر، والقياس ليس كذلك بل هو مظنون من جميع الجهات، والقطوع راجح على المظنون.
(السابع) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) فإذا كان عموم القرآن حاضراً ثم قدمنا القياس المخصص عليه لزم التقديم بين يدي الله ورسوله.
(الثامن) قوله تعالى (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله) إلى قوله (إن تتبعون إلا الظنّ) جعل اتباع الظن من صفات الكفار، ومن الموجبات القوية في مذمتهم، فهذا يقتضي أن لا يجوز العمل بالقياس ألبتّة ترك هذا النص لما بينا أنه يدل على جواز العمل بالقياس، لكنه إنما دل على ذلك عند فقدان النصوص فوجب عند وجدانها أن يبقى على الأصل.
(التاسع) أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والقياس يفرق عقل الإنسان الضعيف وكل من له عقل صحيح علم أن الأول أقوى بالمتابعة وأحرى.
وأيضاً هذه الآية دالة على أن ما سوى هذه الأصول الأربعة مردود باطل وليس للمكلف أن يتمسك بشيء سوى هذه الأصول، فالقول بالاستحسان الذي يقول به أبو حنيفة، والقول بالإستصلاح الذي يقول به مالك إن كان المراد به أحد هذه الأمور الأربعة فهو تغيير عبارة ولا فائدة فيه، وإن كان مغايراً لهذه الأربعة كان القول به باطلاً قطعاً لدلالة هذه الآية على بطلانه.
والأمر في قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) للوجوب وبه زعم كثير من الفقهاء واعترض عليه المتكلمون بما لا يغني عن جوع، وهذه الآية دالة على أن ظاهر الأمر للوجوب ولا شك أنه أصل معتبر في الشرع.
والكلام في الآية إستنباطاً وتفقهاً ورداً وتعقباً يطول، وقد بسط القول فيه الرازي في تفسيره والذي ذكرناه حاصل ما يتعلق بالتفسير منه.
_________
(١) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " النكتة في إعادة العامل في " الرسول " دون " أولي الأمر " مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى، كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف، هما القرآن والسنة، فكأن التقدير: وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن، وما ينصه عليكم من السنة، والمعنى: أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن. قلت: وقد روى أبو داود ٤/ ٢٧٩ بسند صحيح عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله - ﷺ -: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرمه رسول الله - ﷺ - كما حرم الله ".
(ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) فيه تعجيب لرسول الله ﷺ من حال هؤلاء الذين ادّعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله ﷺ وهو القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء، فجاؤا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها، ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به.
وقد تقدم تفسير الطاغوت والإختلاف في معناه، وبسند قال السيوطي: صحيح عن ابن عباس قال كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر ناس إليه من المسلمين فأنزل هذه الآية.
وعنه كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعتّب بن قشير ورافع بن زيد كانوا يدعون الإسلام فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله - ﷺ - فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية فنزلت الآية، وبذلك يتضح معناها.
(ويريد الشيطان أن يضلّهم) عن طريق الهدى والحق (ضلالاً بعيداً) مستمراً إلى الموت.
_________
(١) قال أبو جعفر في تفسير الآية: يعني بذلك جل ثناؤه، فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك، وما أنزل من قبلك (إذا أصابتهم مصيبة) بمعني إذا نزلت بهم نقمه من الله (بما قدمت أيديهم) يعني بذنوبهم التي سلفت منهم، (ثم جاؤوك يحلفون بالله) يقول: ثم جاؤوك يحلفون بالله كذباً وزوراً (إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً) وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العبر والنقم، وأنهم أن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت لم ينيبوا ولم يتوبوا، ولكنهم يحلفون بالله كذباً وجرأة على الله: ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الإحسان من بعضنا إلى بعض، والصواب فيما احتكمنا فيه إليه.
وقال ابن كيسان: معناه ما أردنا إلا عدلاً وحقاً مثل قوله (وليحلفنّ إن أردنا إلا الحسنى) فكذبهم الله بقوله (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) من النفاق والعداوة للحق، وكذبهم في عذرهم، قال الزجاج: معناه قد علم الله أنهم منافقون (فأعرض عنهم) أي عن عقابهم بالصفح، وقيل عن قبول اعتذارهم، وقيل أعرض عنهم في الملا، وقل لهم في الخلا، لأنه في السر أنجع، وقيل هذا الإعراض منسوخ بآية القتال.
(وعظهم) أي خوّفهم من النفاق والكفر والكذب والكيد وعذاب الآخرة باللسان (وقل لهم في أنفسهم) أي في حق أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المنطوية على الشرور التي يعلمها الله، وقيل معناه قل لهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم (قولاً بليغاً) أي بالغاً في وعظهم ومؤثراً فيهم، واصلاً إلا كنه المراد مطابقاً لما سيق له من المقصود، وذلك بأن يوعدهم بسفك دمائهم وسبي نسائهم وسلب أموالهم، والإيذان بأن ما في قلوبهم من مكنونات الشر والنفاق غير خاف على الله تعالى، وأن ذلك مستوجب لأشد العقوبات.
والبلاغة إيصال المعنى إلا الفهم في أحسن صورة من اللفظ، وقيل حسن العبارة مع صحة المعنى، وقيل سرعة الإيجاز مع الإفهام وحسن التصرف من غير إضجار، وقيل ما قل لفظه وكثر معناه، وقيل ما طابق لفظه معناه ولم يكن لفظه إلا السمع أسبق من معناه إلا القلب.
وقيل المراد بالقول البليغ ما كان مشتملاً على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار والوعد والوعيد، وإذا كان كذلك عظم وقعه في القلوب وأثر في النفوس.
(وما أرسلنا من رسول) من زائدة للتوكيد قاله الزجاج، والمعنى وما أرسلنا رسولاً (إلا ليطاع) فيما أمر به ونهى عنه، وهذه لام كي، والاستثناء مفرغ أي ما أرسلنا لشيء من الأشياء إلا للطاعة (بإذن الله) بعلمه وقيل بأمره وقيل بتوفيقه، وفيه توبيخ وتقريع للمنافقين الذين تركوا حكم رسول الله - ﷺ - ورضوا بحكم الطاغوت.
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك من الطاغوت وغيره (جاؤوك) متوسّلين إليك تائبين من النفاق متنصلين عن جناياتهم ومخالفاتهم (فاستغفروا الله) لذنوبهم بالتوبة والإخلاص وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً لهم فاستغفرت لهم، وإنما قال (واستغفر لهم الرسول) على طريقة الالتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول - ﷺ - وتعظيماً لاستغفاره وإجلالاً للمجيء إليه (لوجدوا الله تواباً رحيماً) أي كثير التوبة عليهم والرحمة لهم.
وهذا المجيء يختص بزمان حياته صلى الله عليه وآله وسلم، وليس المجيء إليه يعني إلى مرقده المنوّر بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم مما تدل عليه هذه الآية كما قرره في (الصارم المنكى (١)) ولهذا لم يذهب إلا هذا الاحتمال البعيد أحد من سلف الأمة وأئمتها لا من الصحابة ولا من التابعين ولا ممن تبعهم بالإحسان.
_________
(١) البخاري ٥/ ٢٦، ومسلم ٤/ ١٨٣٠، ولفظه عن عروة، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
قال ابن جرير: قوله (فلا) رد على ما تقدم ذكره تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ثم استأنف القسم بقوله (وربّك لا يؤمنون) وقيل إنه قدم (لا) على القسم اهتماماً بالنفي وإظهاراً لقوته ثم كرره بعد القسم تأكيداً، وقيل (لا) مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي، قاله الزمخشري، والتقدير: فوربّك لا يؤمنون كما في قوله (فلا أقسم بمواقع النجوم).
(حتى) غاية أي ينتفى عنهم الإيمان إلى أن (يحكّموك) أي يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم، لا يحكمون أحداً غيرك وقيل معناه يتحاكمون إليك، ولا ملجىء لذلك (فيما شجر) أي اختلف (بينهم) واختلط ومنه الشجر لاختلاف أغصانه، ومنه تشاجر الرياح أي اختلافها.
(ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت) قيل هو معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا، والحرج الضيق وقيل الشك، ومنه قيل للشجر الملتف حرج وحرجة وجمعها حراج وقيل الحرج الإثم أي لا يجدودن في أنفسهم إثماً بأنكارهم ما قضيت به (ويسلّموا تسليماً) أي ينقادوا لأمرك وقضائك إنقياداً لا يخالفونه في شيء بظاهرهم وباطنهم، قال الزجاج: تسليماً مصدر مؤكد أي ويسلّمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً ولا شبهة فيه.
والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم كما يؤيد ذلك قوله (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) فلا يختص بالمقصودين بقوله (يريدون
فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوة، مترجم عنها، حاكم بأحكامها، وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة فإنه أولاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله - ﷺ -.
ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت) فضم إلى التحكيم أمراً آخر هو عدم وجود حرج أي حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان، وانثلاج قلب وطيب نفس.
ثم لم يكتف بهذا كله بل ضم إليه قوله (ويسلّموا) أي يذعنوا وينقادوا ظاهراً وباطناً.
ثم لم يكتف بذلك بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال (تسليماً) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ثم لا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه ويسلم لحكمه وشرعه تسليماً لا يخالطه رد، ولا تشوبه مخالفة.
ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس.
وقوله (ثمّ لا يجدوا) إلى آخره مشعر بذلك لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ويسلم للنصّ تسليماً كلياً، وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف انتهى.
أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن عبد الله بن الزبير أن الزبير خاصم رجلاً من الانصار قد شهد بدراً مع النبي - ﷺ - إلى رسول الله - ﷺ - في شراج من الحرة وكانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه فقال رسول الله - ﷺ -: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري وقال يا رسول الله إن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - ﷺ - ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك (١).
واستوعى رسول الله - ﷺ - للزبير حقه، وكان رسول الله - ﷺ - قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ (٢) رسول الله - ﷺ - الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك.
_________
(١) سبق ذكره.
(٢) أي أغضب.
_________
(١) وفي سبب نزول الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، فأتيا النبي - ﷺ -، فقضى لليهودي، فلما خرجا، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إليه، فقصّا عليه القصة، فقال: رويداً حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج، فضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أن أبا بردة الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة، عن ابن عباس.
والثالث: أن يهودياً ومنافقاً كانت بينهما خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، لأنه لا يأخذ الرشوة، ودعا المنافق إلى حكامهم، لأنهم يأخذون الرشوة، فلما اختلفا، اجتمعا أن يحكما كاهناً، فنزلت هذه الآية، هذا قول الشعبي.
والرابع: أن رجلاً من بني النضير قتل رجلاً من بني قريظة، فاختصموا، فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن، فقال المسلمون من الفريقين: بل إلى النبي فأبى المنافقون فأتوا الكاهن.
(ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) من اتّباع الشرع والانقياد لرسول الله - ﷺ - (لكان) ذلك (خيراً لهم) وأنفع في الدنيا والآخرة من غيره على تقدير أن الغير فيه خير، وهذا إذا كان على بابه، ويحتمل أنه بمعنى أصل الفعل أي لحصل لهم خيرهما (وأشدّ تثبيتاً) لإقدامهم على الحق فلا يضطربون في أمر دينهم.
_________
(١) ابن جرير ٨/ ٥٢٦ ونقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم أيضاً.
(ومن يطع الله والرسول) كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول فيما أمرا به إيجاب أمر أو ندب، أو فيما نهيا عنه نهي تحريم أو كراهة، فالمراد بالطاعة الإنقياد التام لجميع الأوامر والنواهي.
والإشارة بقوله (فأولئك) أي المطيعين كما يفيده من (مع الذين أنعم الله عليهم) بدخول الجنة والوصول إلى ما أعد الله لهم (من النبيين) بيان للذين، وفي الآية سلوك طريق التدلّي فإن منزلة كل واحد من الأصناف الأربعة أعلى من منزلة ما بعده.
(والصدّيقين والشهداء والصالحين) الصدّيق المبالغ في الصدق كما تفيده الصيغة، وقيل هم فضلاً، أتباع الأنبياء، والشهداء من ثبت لهم الشهادة في سبيل الله أو الذين استشهدوا يوم أحد والأول أولى، والصالحون أهل الأعمال الصالحة، وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبالصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي وبالصالحين سائر الصحابة، والعموم أولى ولا وجه للتخصيص.
(وحسن أولئك) الأصناف الأربعة وفيه معنى التعجب كأنه قال: وما أحسن أولئك (رفيقاً) في الجنة، والرفيق مأخوذ من الرفق وهو لين الجانب والمراد به المصاحب لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض، وإنما وحّد الرفيق وهو صفة الجمع لأن العرب تعبّر به عن الواحد والجمع.
وقيل معناه: وحسن كل واحد من أولئك رفيقاً في الجنة بأن يستمتع فيها
وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وإنك لأحب إليّ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي - ﷺ - حتى نزل جبريل بهذه الآية (١).
وقيل نزلت في ثوبان مولى (٢) رسول الله - ﷺ -، كان شديد الحب لرسول الله - ﷺ - قليل الصبر عنه.
وعن أنس أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحبّ الله ورسوله فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء أشد فرحاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنت مع من أحببت، قال أنس فأنا أحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بأعمالهم، أخرجه الشيخان.
أقول: وأنا أيضاً أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأتباعهم وأهل بيته وسلف الأمة وأئمتها سيما المحدثين منهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين حباً شديداً وأرجو أن يجمعني الله معهم في دار رحمته وكرامته بمنّه ولطفه، فإنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
_________
(١) ابن جرير ٨/ ٥٣٤ وأبو نعيم في الحلية ٨/ ١٢٥.
(٢) ذكره الواحدي في أسباب النزول.
وفيه دليل على أنهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم، بل إنما نالوها بفضل الله ورحمته، ويدل عليه ما روى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ لن يدخل أحد منكم عمله الجنة قيل: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني الله منه بفضل ورحمة أخرجه البخاري، ولمسلم نحوه (١).
_________
(١) مسلم ٢٨١٦ - البخاري ٣٥.
(فانفروا) نفر ينفر بكسر الفاء نفيراً ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفوراً، والمعنى إنهضوا لقتال العدو، أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون. وأصله من النفار والنفور والنفر وهو الفزع، ومنه قوله تعالى (ولوا على أدبارهم
وقوله (ثُبات) جمع ثبة أي جماعة من الرجال فوق العشرة وقيل فوق الإثنين، والمعنى انفروا جماعات متفرقات سرية بعد سرية (أو انفروا جميعاً) أي مجتمعين جيشاً واحداً، ومعنى الآية الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين ليكون ذلك أشد على عدوهم، وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك.
وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (انفروا خفافاً وثقالاً) وبقوله (إلا تنفروا يعذّبكم) والصحيح أن الآيتين جميعاً محكمتان (إحداهما) في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع، (والأخرى) عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض (١).
_________
(١) قال أبو سليمان الدمشقي والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإمام وليس في هذا المنسوخ بذلك.
(فإن أصابتكم مصيبة) من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال (قال) هذا المنافق (قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً) أي حاضر الوقعة حتى يصيبني ما أصابهم.
_________
(١) قال ابن الجوزي أنها نزلت في المنافقين كانوا يتأملون عن الجهاد..
(ليقولنّ) هذا المنافق قول نادم حاسد (كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة) أي معرفة وصداقة حقيقية، وإلا فالمودة الظاهرة حاصلة بالفعل جملة معترضة، وقيل إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وقيل المعنى كأن لم نعاقدكم على الجهاد (يا) للتنبيه لا للنداء لدخولها على الحرف (ليتني كنت معهم) أي في تلك الغزوة التي فيها المؤمنون (فأفوز) معهم (فوزاً عظيماً) أفوز بالنصب على جواب التمني، وقرأ الحسن بالرفع أي فآخذ نصيباً وافراً من الغنيمة (١).
_________
(١) مسلم ١٨٧٦ - البخاري ٣٤. زاد المسير ٢/ ١٣١.
(ومن يقاتل في سبيل الله) لإعلاء دينه (فيُقتل) أي فيستشهد (أو
وعد الله المقاتلين في سبيله بأنه سيؤتيهم أجراً عظيماً لا يقادر قدره، وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور، وان غلب وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلو في الدنيا والغنيمة، وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيداً أو انقلب غانماً.
وربما يقال إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم، ولا يلزم أن يكون أجرهما مستوياً فإن كون الشيء عظيماً هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيماً بالنسبة إلي ما هو دونه، وحقيراً بالنسبة إلى ما فوقه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم (١).
_________
(١) قال ابن عطية: المنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين فعلى هذا يجيء قوله تعالى: (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) التفاتة بليغة، واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم " البحر المحيط " ٣/ ٢٩٣.
وقال محمد بن يزيد اختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفاً على السبيل لا على الجلالة وإن كانت أقرب على ما في تفسير الكواشي، لأن خلاص المستضعفين من أيدي المشركين سبيل الله لا سبيلهم.
والمراد بالمستضعفين هنا من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار، وهم الذين كان يدعو لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والستضعفين من المؤمنين كما في الصحيح.
وفيه دليل على أن الجهاد واجب، والمعنى لا عذر لكم في ترك الجهاد وقد بلغ حال المستضعفين ما بلغ من الضعف والأذى.
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس قال: أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله وأنا من الولدان وأمي من النساء، ولا
وقد استجاب الله دعاءهم وجعل لهم من لدنه خير ولي وخير ناصر، وهو محمد - ﷺ - فتولّى أمرهم ونصرهم واستنقذهم من أيدي المشركين يوم فتح مكة، وقال السيوطي: يسرّ لبعضهم الخروج وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة، وولّى - ﷺ - عتاب بن أسيد فأنصف مظلومهم من ظالمهم انتهى، وكان ابن ثماني عشرة سنة قال الخازن: فكان يأخذ للضعيف من القوي وينصر المظلومين على الظالمين.
وعن ابن عباس قال: إذا رأيتم الشيطان فلا تخافوه واحملوا عليه إن كيده كان ضعيفاً واهياً، وقال مجاهد كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة فكنت أذكر قول ابن عباس فأحمل عليه فيذهب عني، والكيد السعي في الفساد على جهة الاحتيال.
(ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) قيل هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في مكة بعد أن تسرعوا إليه فلما كتب عليهم بالمدينة ثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفاً من الموت وفزعاً من هول القتل، وقال مجاهد: إنها نزلت في اليهود، وقيل في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال، فلما فرض كرهوه، وهذا أشبه بالسياق لقوله (وقالوا ربنا -إلى قوله- قريب) وقوله إن تصبهم حسنة الآية، ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة، وفيه دليل على أن فرض الصلاة والزكاة كان قبل فرض الجهاد.
(فلما كتب عليهم القتال) أي فرض عليهم جهاد المشركين وأمروا بالخروج إلى بدر (إذا فريق منهم) أي جماعة من الذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد (يخشون الناس) أي يخافون مشركي مكة (كخشية الله أو أشد خشية) أو للتنويع على أن معنى خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها (وقالوا) جزعاً من الموت (ربنا لم كتبت علينا القتال) أي لم فرضت علينا الجهاد (لولا) هلا (أخّرتنا) يريدون المهلة (إلى أجل) أي وقت آخر (قريب) من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال.
والقائلون لهذا القول هم المنافقون، وقيل قاله بعض المؤمنين خوفاً وجبناً لا اعتقاداً ثم تابوا منه، وقال السدي: إلى أجل يعني إلى موت، فأمره الله
وإذا كنتم توفّون أجوركم ولا تنقصون شيئاً منها فكيف ترغبون عن ذلك، وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه؟.
أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي - ﷺ - فقالوا: يا نبي الله كنّا في عزّة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوّله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله هذه الآية (١) وعن قتادة نحوه.
_________
(١) ذكره الواحدي عن الكلبي، وروى ابن جرير ٨/ ٥٤٩ عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي - ﷺ - فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة! فقال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا، فلما حوله الله إلى المدينة، أمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله تبارك وتعالى:. (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) الآية، وإسناده جيد، ورواه الحاكم في " المستدرك " مع اختلاف في لفظه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وقد اختلف في هذه البروج ما هي فقيل الحصون والقلاع التي في الأرض وقيل هي القصور المحصنة الرفيعة، قال الزجاج والقتبي: معنى مشيدة مطولة وقيل المراد بالبروج بروج في سماء الدنيا مبنية حكاه مكي عن مالك، وقال: ألا ترى إلى قوله (والسماء ذات البروج) (وجعل فيها بروجاً) (ولقد جعلنا في السماء بروجاً) وقيل إن المراد بالبروج المشيدة هنا قصور من حديد.
(وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) هذا وما بعده مختص بالمنافقين أي إن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى (وإن تصبهم سيئة) أي بلية ونقمة (يقولوا هذه من عندك) أي نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرد الله ذلك عليهم بقوله (قل كلّ) من النعمة والبلية (من عند الله) خلقا وإيجاداً من غير أن يكون له مدخل في وقوع شيء منهما بوجه من
ثم نسبهم إلى الجهل وعدم الفهم فقال (فما لهؤلاء القوم) أي فما بال هؤلاء المنافقين أو ما شأن اليهود الذين قالوا ما قالوا (لا يكادون) لا يقاربون (يفقهون حديثاً) من الأحاديث أصلاً أو معاني القرآن، وأن الأشياء كلها من الله.
وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية كقوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) وقوله (أو لمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنىّ هذا قل هو من عند أنفسكم).
وقد يظن أن قوله (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) مناف لقوله (كل من عند الله) ولقوله (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) وقوله (نبلوكم بالشر والخير فتنة) وقوله (وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال).
وليس الأمر كذلك فالجمع ممكن فإضافة الأشياء كلها إلى الله حقيقة،
وعن ابن عباس قال: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها، وما أصابك من سيئة قال: ما أصابه يوم أحد أن شجّ وجهه وكسرت رباعيّته.
وقد تعلّق بظاهر هذه الآية القدرية وقالوا نفى الله السيئة عن نفسه ونسبها إلى الإنسان ولا متعلّق لهم بها لأنه ليس المراد منها الكسب، بل ما يصيب الناس من النعم والمحن، ولو كانت على ما يقول أهل القدر لقال ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ولم يقل ما أصابك، وقال ابن الأنباري: الفعلان راجعان إلى الله يعني ما أصابك الله به من حسنة ومن سيئة.
(وأرسلناك للناس رسولاً) فيه البيان لعموم رسالته ﷺ إلى الجميع كما يفيده التأكيد بالصدر والعموم في الناس ومثله قوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس)، وقوله (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) وفيه جلالة منصبه ومكانته عند الله وبيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه بناء على جهلهم بشأنه الجليل.
(وكفى بالله شهيداً) على ذلك أو على أن الحسنة والسيئة منه، والأول أولى، والمعنى شهيداً على إرسالك للناس أو على تبليغك ما أرسلت به إلى الناس.
ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهي إلا ما نهى عنه، ولولا بيانه صلى الله عليه وآله وسلم ما كنا نعرف كل فريضة في كتاب الله كالحج والصلاة والزكاة والصوم كيف نأتيها، وقال الحسن: جعل الله طاعة رسوله طاعته وقامت به الحجة على المسلمين.
(ومن تولّى) أي أعرض عن طاعته (فما أرسلناك عليهم حفيظاً) أي حافظاً لأعمالهم، إنما عليك البلاغ، قيل وقد نسخ هذا بآية السيف.
(غير الذي تقول) لهم أنت وتأمرهم به أو غير الذي تقول لك هي من
(فأعرض عنهم) أي دعهم وشأنهم حتى يمكن الانتقام منهم وقيل معناه لا تخبر بأسمائهم وقيل لا تعاقبهم، وقيل لا تغتر بإسلامهم (وتوكل على الله) أي ثق به وفوض أمرك إليه في شأنهم (وكفى بالله وكيلا) ناصراً لك عليهم، أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه، قيل وهذا منسوخ بآية السيف.
ودلت هذه الآية وقوله تعالى (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها) على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه، والمعنى أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفاً غير مختلف، صحيح المعاني قوي المباني، بالغاً في البلاغة إلى أعلى درجاتها، قال ابن عباس: أفلا يتفكرون فيرون تصديق بعضه لبعض وما فيه من الواعظ والذكر والأمر والنهي، وأن أحداً من الخلق لا يقدر عليه.
(ولو كان من عند غير الله) كما يزعمون (لوجدوا فيه اختلافاً) أي تفاوتاً وتناقضاً (كثيراً) قاله ابن عباس، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات والسور لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر لا سيما إذا طال وتعرض قائله للإخبار بالغيب فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع إلا القليل النادر. عن قتادة يقول: أن قول الله لا يختلف وهو حق ليس فيه باطل وأن قول الناس يختلف.
(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) يقال أذاع الشيء وأذاع به إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك، وقيل هم المنافقون كانوا يستخبرون عن حالهم ثم يشيعونه قبل أن يحدث به رسول الله - ﷺ -.
(ولو ردّوه إلى الرسول) حتى يكون هو الذي يتحدث به ويظهره (وإلى أولي الأمر منهم) وهم أهل العلم والبصيرة والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) أي يستخرجونه بتدبّرهم وصحة عقولهم.
والمعنى أنهم لو تركوا إذاعة الأخبار حتى يكون النبي - ﷺ - هو الذي يذيعها، أو يكون أولو الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك لأنهم يعلمون بما ينبغي أن يفشى ويكتم، والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته والنبط الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها، وقيل أن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة.
وفي الآية إشارة إلى جواز القياس، وأن من العلم ما يدرك بالنص وهو الكتاب والسنة ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس عليهما.
_________
(١) قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف) في سبب نزولها قولان.
أحدهما: أن النبي - ﷺ - لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلق رسولُ الله - ﷺ - نساءه، فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطلقت نساءك؟ قال: " لا " فخرج فنادى: ألا إن رسول الله لم يطلق نساءه. فنزلت هذه الآية. فكان هو الذي استنبط الأمر. انفرد بإخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن عمر.
مسلم ١/ ١١٠٥ وهو حديث طويل فيه فوائد عظيمة، وتوجيهات قيمة، فارجع إليه.
والثاني: أن رسول الله - ﷺ - كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت أو غلبت، تحدثوا بذلك، وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدث به. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
وقد نص كلامه في " جامع البيان " ٨/ ٥٦٨، ٥٧١: وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم (أو الخوف) يقول: أو تخوفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم، (أذاعوا به) يقول: أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله - ﷺ -، وقيل ما أتى سرايا رسول الله - ﷺ -... ولو ردوا الأمر الذي نالهم من عدوهم والمسلمين إلى رسول الله - ﷺ -، وإلى أولي أمرهم، يعني: وإلى أمرائهم وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر حتى يكون رسول الله - ﷺ -، أو ذوو أمرهم هم الذين يتولون الخبر عن ذلك، بعد أن تثبت عندهم صحته، أو بطوله، فيصححوه إن كان صحيحاً، أو يبطلوه إن كان باطلاً، لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به، الذين يبحثون عنه.
قال الزجاج: أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصر، قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ إلا أنه لم يجىء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة، والمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وفي المعنى له ولأمّته أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له فقاتل في سبيل الله لا تكلف غير نفسك ولا تلزم فعل غيرك وهو استئناف مقرر لما قبله، لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده.
وقرىء لا تكلف بالجزم على النهي وقرىء بالنون.
وفي الآية دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أشجع الناس وأعلمهم بأمور القتال، إذ لو لم يكن كذلك لما أمره بذلك، ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتال أهل الردة على الخروج ولو وحده.
(عسى الله أن يكف) فيه إطماع للمؤمنين بكفّ (بأس الذين كفروا) عنهم، والإطماع من الله عز وجل واجب فهو وعد منه سبحانه ووعده كائن لا محالة (والله أشدّ) أي أعظم (بأساً) أي صولة وسلطاناً وشدة وقوة (وأشد تنكيلاً) عقوبة وعذاباً يقال نكلت بالرجل تنكيلاً من النكال وهو العذاب والمنكّل الشيء الذي ينكل بالإنسان.
(يكن له نصيب) حظ (منها) أي من أجرها، وقد بيّن النصيب في حديث من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك آمين ولك بمثل " هذا " (١) فهذا بيان لمقدار النصيب الموعود به قاله أبو السعود، وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً فجاء رجل يسأل
_________
(١) القرطبي ٥/ ٢٩٦.
(ومن يشفع شفاعة سيئة) الظاهر أن إطلاق الشفاعة هنا من قبيل المشاكلة لأن حقيقتها اللغوية تقتضي أنها لا تكون إلا في الخير، قال الخازن: هي النميمة والغيبة ونقل الحديث لإيقاع العداوة بين الناس، وقيل المراد دعاء اليهود على المسلمين وقيل معناه من يشفع كفره بقتال المؤمنين.
(يكن له كفل منها) أي من وزرها والكفل الوزر، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط، يقال اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً منه، ويستعمل في النصيب من الخير والشر، ومن استعماله في الخير قوله تعالى (يؤتكم كفلين من رحمته).
(وكان الله على كل شيء مقيتاً) أي مقتدراً قاله الكسائي، وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته، يقال قته أقوته قوتاً وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت، وحكى الكسائي: أقات يقيت وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ، قال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان، وقال ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر والحافظ والشاهد، وقال مجاهد: مقيتاً أي شهيداً حسيباً حفيظاً، وقال سعيد ابن جبير وابن زيد قادراً قديراً وعن الضحاك المقيت الرزاق (١).
_________
(١) والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يُشفع؛ لأنه تعالى قال: (من يشفع) ولم يقل يشفع. وفي صحيح مسلم " أشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب ".
وجاء في الحديث: " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " و " يقيت " ذكره الثعلبي: وحكى ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة. والله أعلم.
وهذا المعنى هو المراد هنا ومثله قوله تعالى (وإذا جاؤوك حيّوك بما لم يحييّك به الله) وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين، وروى عن مالك أن المراد بالتحية هنا تشميت العاطس، وقال أصحاب أبي حنيفة التحية هنا الهدية لقوله (أو ردوها) ولا يمكن رد السلام بعينه وهذا فاسد لا ينبغي الإلتفات إليه.
والمراد بقوله (فحيّوا بأحسن منها) أي بأن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدىء بالتحية، فإذا قال المبتدىء السلام عليكم قال المجيب وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد المبتدىء لفظاً زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدىء لفظاً أو ألفاظاً نحو: وبركاته وتحياته ومرضاته.
قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغّب فيها ورده فريضة لقوله (فحيّوا بأحسن منها) وإنما اختار الشرع لفظ السلام على لفظ حيّاك الله لأنه أتم وأحسن وأكمل ولأن السلام من أسمائه تعالى.
(أو ردّوها) أي ردوا عليه كما سلم عليكم واقتصروا على مثل اللفظ الذي جاء به المبتديء فظاهر الآية أنه لو رد عليه بأقل مما سلم عليه به أنه لا
واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزىء أوْلاً؟ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزىء عن غيره، ويرد عليهم حديث علي عن النبي - ﷺ - قال: يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم (١) أخرجه أبو داود وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني وليس به بأس، وقد ضعفه بعضهم، وقد حسّن الحديث ابن عبد البر.
وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتديء بالسلام ومن يستحقّ التحية ومن لا يستحقها وفي فضل السلام والحث عليه وكيفية السلام وما له من الأحكام ما يغني عن البسط ههنا.
(إن الله كان على كل شيء حسيباً) يحاسبكم على كل شيء وقيل معناه مجازياً وقيل كافياً من قولهم أحسبني كذا أي كفاني ومثله حسبك.
_________
(١) وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحييونك فإنها تحيتك وتحيّة ذريتك -قال: فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله- قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن ".
وسبب نزول الآية به يتضح المعنى فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله - ﷺ - خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله - ﷺ - فيهم فرقتين، فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله (فما لكم في المنافقين) الآية فقال رسول الله - ﷺ -: إنها طيبة وأنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة (١)، هذا أصح ما روى في سبب نزول الآية وقد رويت أسباب غير ذلك.
(والله أركسهم) حكى الفراء والنضر بن شميل والكسائي أركسهم وركسهم أي ردهم إلى الكفر ونكسهم، فالركس والنكس قلب الشيء على رأسه أو رد أوله إلى آخره والمنكوس المركوس (بما كسبوا) الباء للسببية أي أركسهم بسبب كسبهم وهو لحوقهم بدار الكفر.
_________
(١) زاد المسير ٢/ ١٥٣.
(حتى يهاجروا في سبيل الله) هجرة صحيحة تحقق إيمانهم، والمراد بالهجرة هنا الخروج مع رسول الله - ﷺ - للقتال في سبيله مخلصين صابرين محتسبين، قال عكرمة: هي هجرة أخرى (١).
(فان تولّوا) عن الهجرة للقتال في سبيل الله (فخذوهم) إذا قدرتم عليهم (واقتلوهم حيث وجدتموهم) في الحل والحرم، فإن حكمهم حكم سائر المشركين قتلاً وأسراً (ولا تتخذوا منهم ولياً) توالونه (ولا نصيراً) تستنصرون به.
_________
(١) " المسند " ٥/ ١٨٤، والبخاري: ٨/ ١٩٣ ومسلم ٤/ ٢١٤٢. قال الحافظ في " الفتح " وهذا هو الصحيح في سبب نزولها. وفي " الفتح ": وقوله: " رجع ناس ممن خرج معه " يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحاً في رواية موسى بن عقبة في " المغازي "، وأن عبد الله بن أبي كان وافق رأيه رأي النبي - ﷺ - على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج، وأجابهم النبي - ﷺ - فخرج، قال عبد الله بن أبي: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا؟ فرجع بثلث الناس.
(إلا الذين) هذا مستثنى من الأخذ والقتل فقط، وأما الموالاة فحرام مطلقاً لا تجوز بحال (يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) بالجوار والحلف فلا تقتلوهم لما بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإن العهد يشملهم، هذا أصح ما قيل في معنى الآية، وقيل الاتصال هنا هو اتصال النسب: والمعنى إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، قاله أبو عبيدة (١).
وقد أنكر ذلك عليه أهل العلم لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع، فقد كان بين السلمين وبين المشركين أنساب ولم يمنع ذلك من القتال.
وقد اختلف في هؤلاء القوم الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميثاق، فقيل هم قريش كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميثاق، والذين يصلون إلى قريش هم بنو مدلج وقيل نزلت في هلال ابن عويم وسراقة بن جعثم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد، وقيل خزاعة، وقيل بنو بكر بن زيد.
(أو جاؤوكم حصرت صدورهم) والحصر الضيق والإنقباض، وقال محمد بن يزيد المبرد: هو دعاء عليهم كما تقول لعن الله الكافر، وضعفه بعض المفسرين، وقيل أو بمعنى الواو (أن يقاتلوكم) مع قومهم (أو يقاتلوا قومهم) معكم فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين وكرهوا ذلك.
_________
(١) زاد السير ٢/ ١٥٧ و١٥٨.
(فإن اعتزلوكم) عن قتالكم (فلم يقاتلوكم) أي لم يعترضوا لقتالكم (وألقوا إليكم السلم) أي استسلموا لكم وانقادوا (فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) أي طريقاً فلا يحل لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرمه، قيل هذا منسوخ بآية القتال، وقيل محكمة محمولة على المعاهدين وهذا هو الظاهر (٢).
_________
(١) قال ابن كثير رحمه الله: ثم استثنى الله سبحانه من هؤلاء فقال: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) أي: إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة، أو عقد ذمة، فاجعلوا حكمهم كحكمهم، وهذا قول السدي، وابن زيد، وابن جرير وانظر تفصيل القول في " المغني " ١٠/ ٥١٣، و " نيل الأوطار " ٨/ ١٧٦.
(٢) وقال ابن كثير ١/ ٥٣٣: وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة، عن علي ابن زيد بن جدعان، عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم، قال: لما ظهر يعني النبي - ﷺ - على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة. فقالوا: صَهْ، فقال النبي - ﷺ - دعوه ما تريد؟ قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا، لم تخشن قلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله، - ﷺ - بيد خالد ابن الوليد، فقال: اذهب معه فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله - ﷺ -، وإن أسلمت قريش أسلموا، فأنزل الله (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونوا سواء فلا تتخذوا منهم أولياء).
(ستجدون آخرين) والسين للاستمرار لا للاستقبال كقوله تعالى سيقول السفهاء قال السفاقسي: والحق أنها للاستقبال في الاستمرار للفعل لا في ابتدائه (يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) فيظهرون لكم الإسلام ويظهرون لقومهم الكفر ليأمنوا من كلا الطائفتين، وهم قوم من أهل تهامة طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم، وقيل هم قوم من أهل مكة.
وقيل نزلت في نعيم بن مسعود فإنه كان يأمن المسلمين والمشركين، وقيل في قوم من المنافقين، وقيل في أسد وغطفان.
(كلما ردّوا إلى الفتنة) أي دعاهم قومهم إليها وطلبوا منهم قتال المسلمين (أركسوا فيها) أي قلبوا فرجعوا إلى قومهم وقاتلوا المسلمين ومعنى الارتكاس الانتكاس.
(فإن لم يعتزلوكم) يعني هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، لم يكفوا عن قتالكم حتى يسيروا إلى مكة (ويلقوا إليكم السلم) أي يستسلمون لكم ويدخلون في عهدكم وصلحكم وينسلخون عن قومهم (ويكفّوا أيديهم) عن قتالكم (فخذوهم) يعني أسرى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم.
(وأولئكم) الموصوفون بتلك الصفات (جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) أي حجة واضحة تتسلطون بها عليهم وتقهرونهم بها بسبب ما في قلوبهم من المرض وما في صدورهم من الدغل وارتكاسهم في الفتنة بأيسر عمل وأقل سعي.
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً) هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم كقوله تعالى (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبراً وهو يستلزم صدقه فلا يوجد مؤمن قتل مؤمناً قط، وقيل المعنى ما كان له ذلك في عهد الله، وقيل ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآن ذلك بوجه.
ثم استثنى منه استثناء منقطعاً فقال (إلا خطأً) أي ما كان له أن يقتله ألبتّة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، هذا قول سيبويه والزجاج، وقيل هو استثناء متصل، والمعنى وما ثبت ولا وجد ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطاً إذ هو مغلوب حينئذ، وقيل المعنى ولا خطأً.
قال النحاس: ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في العنى لأن الخطأ لا يحظر، وقيل المعنى لا ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده فيكون قوله (خطأ) منتصباً بأنه مفعول له.
ووجوه الخطأ كثيرة ويضبطها عدم القصد، والخطأ اسم من أخطأ خطأ إذا لم يتعمد، أخرج ابن جرير عن عكرمة قال كان الحرث بن يزيد من بني
(ومن قتل مؤمناً خطئاً) بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة فأصابه أو ضربه بما لا يقتل غالباً (فتحرير) أي فعليه تحرير (رقبة) أي نسمة (مؤمنة) يعتقها كفارة عن قتل الخطأ، وعبّر بالرقبة عن جميع الذات.
واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة فقيل هي التي صلت وعقلت الإيمان فلا تجزىء الصغيرة، وبه قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم، وقال عطاء بن أبي رباح إنها تجزىء الصغيرة المولودة بين المسلمين.
وقال جماعة منهم مالك والشافعي يجزيء كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات، ولا يجزيء في قول جمهور العلماء أعمى ولا مقعد ولا أشل، ويجزىء عند الأكثر الأعرج والأعور، قال مالك: إلا أن يكون عرجاً شديداً، ولا يجزىء عند أكثرهم المجنون، وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والبيهقي عن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي ﷺ بجارية سوداء فقال: يا رسول الله إن عليّ عتق رقبة مؤمنة فقال لها: أين الله، فأشارت إلى السماء بأصبعها فقال: فمن أنا
(ودية) هي ما يعطى عوضاً عن دم المقتول إلى ورثته (مسلّمة) أي مدفوعة مؤداة (إلى أهله) المراد بهم الورثة، وأجناس الدية وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة، وقد وردت أحاديث في تقدير الدية، وفي الفرق بين دية الخطأ ودية شبه العمد، ودية المسلم ودية الكافر، وهي معروفة فلا حاجة لنا في ذكرها في هذا الموضوع.
(إلا أن يصدّقوا) أي إلا أن يتصدق أهل المقتول على القاتل بالدية بأن يعفوا عنها، فسمى العفو عنها صدقة ترغيباً فيه، وهذه الجملة المستثناة متعلقة بقوله (ودية مسلّمة) أي فعليه دية مسلمة إلا أن يقع العفو من الورثة عنها.
(فإن كان) المقتول (من قوم عدو لكم) وهم الكفار الحربيون (وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) هذه مسئلة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ثم أسلم ولم يهاجر، وهم يظنون أنه لم يسلم، وأنه باق على دين قومه فلا دية على قاتله، بل عليه تحرير رقبة مؤمنة.
واختلفوا في وجه سقوط الدية فقيل وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية، وقيل وجهه أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة لقول الله تعالى (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء) وقال بعض أهل العلم: إن ديته واجبة لبيت المال.
(وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) أي عهد مؤقت أو مؤبد كأهل
_________
(١) مسلم ٥٣٧.
(فمن لم يجد) أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها (فصيام) أي فعليه صيام (شهرين متتابعين) لم يفصل بين يومين من أيام صومها إفطار في نهار، فلو أفطر استأنف، هذا قول الجمهور، وأما الإفطار لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف، واختلف في الإفطار لعروض المرض، ولم يذكر الله سبحانه الإنتقال إلى الطعام كالظهار، وبه أخذ الشافعي.
(توبة) أي شرع ذلك لكم قبولاً لتوبتكم أو تاب عليكمٍ توبة أو حال كونه ذا توبة كائنة من الله، قال سعيد بن جبير: يعني تجاوزاً من الله لهذه الأمة حيث جعل في قتل الخطأ الكفارة (وكان الله عليماً) بمن قتل خطأً (حكيماً) فيما حكم به عليه من الدية والكفارة، وأحكام الديات محلها كتب الفروع فلا نطول بذكرها.
_________
(١) في " الكافي " ٣/ ٧٨: ودية الكتابي نصف دية المسلم، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - ﷺ - أنه قال: " ودية المعاهد نصف دية المسلم " رواه أبو داود. وروي عنه: أن ديته ثلث الدية، لما روي أن عمر: جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، إلا أنه رجع عن هذه الرواية، وقال: كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، فأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم. قلت: أما حديث عمرو بن شعيب فرواه أيضاً أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجة، وهو حديث حسن. وأما أثر عمر فقد رواه عنه سعيد بن المسيب، وهو منقطع، لأن سعيداً لم يسمع من عمر.
(ومن يقتل مؤمناً متعمداً) أى قاصداً لقتله، لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمداً، وقد اختلف العلماء في معنى العمد فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو القتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المحدود، أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها (١).
وقال الجمهور: إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عمد وشبه عمد وخطأ، واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها.
وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين عمد وخطأ، ولا ثالث لهما، واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان، ويجاب عن ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك بالسنة.
(فجزاؤه جهنم خالداً فيها) أي فجُعل جزاؤه ذلك بكفره وارتداده أو حكم عليه بها، وهو الذي استثناه النبي - ﷺ - يوم فتح مكة عمّن أمّنه من أهلها فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة (وغضب الله عليه) لأجل كفره وقتله المؤمن متعمداً (ولعنه) طرده عن رحمته (وأعد له عذاباً عظيماً) في النار.
وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمداً فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له أي يستحقها بسبب هذا الذنب، وبين كونه خالداً فيها،
_________
(١) زاد المسير ٢/ ١٦٦.
وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيها علماء أهل الكوفة فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية (ومن يقتل مؤمناً متعمداً) وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء، وقد روى النسائي عنه وعن زيد بن ثابت نحوه.
وممّن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم نقله ابن أبي حاتم عنه.
وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة واستدلوا بمثل قوله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئآت) وقوله (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) وقوله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقوله (وإني لغفار لمن تاب).
قالوا أيضاً: والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان فيكون معناهما: فجزاؤه جهنم إلا من تاب لا سيما وقد اتحد السبب وهو القتل والموجب وهو التوعّد بالعقاب.
واستدلوا أيضاً بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه - ﷺ - قال: " تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه (١)، وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره في الذي قتل مائة نفس.
_________
(١) مسلم ١٧٠٩ - البخاري ١٨.
لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل وتسليم نفسه للقصاص أن كان واجباً أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجباً وكان القاتل غنياً متمكناً من تسليمها أو بعضها، وأما مجرد التوبة من القاتل عمداً وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ولا تسليم نفس فنحن لا نقطع بقبولها، والله أرحم الراحمين هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
وقد تعلقت المعتزلة وغيرهم بهذه الآية على أن الفاسق يخلد في النار، والجواب أن الآية نزلت في كافر قتل مسلماً، وهو مقيس بن ضبابة، وهي على هذا مخصوصة، وقيل المعنى من قتل مسلماً مستحلاً لقتله وهو كفر، وعن أبي مجلز قال: هي جزاؤه فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعل، أخرجه أبو داود.
وقيل الخلود لا يقتضي التأبيد بل معناه طول المكث. قاله البيضاوي.
وقد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحيحة إخراج جميع الموحدين من النار، قال الكرخي: الظاهر أنه أراد التشديد والتخويف والزجر العظيم عن قتل المؤمن لا أنه أراد بعدم قبول توبته عدمه حقيقة، وظاهره أن الآية من المحكم لأنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله نسخ ومنه الوعد والوعيد قاله الجلال في الإتقان.
ولا متمسك للمعتزلة فيها لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام، وقد روي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " هو جزاؤه إن جازاه ".
قال الواحدي: والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد، وإن امتنع أن يحلف الوعد، وبهذا وردت السنة عن رسول الله - ﷺ - في حديث أنس أنه - ﷺ - قال " من وعده الله على عمله ثواباً فهو منجزه له، ومن أوعده على عمله عقاباً فهو بالخيار ".
والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور، لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك، كيف لا وقد قال الله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها لعارضة قوله تعالى (ويعفو عن كثير) انتهى كلام أبي السعود ملخصاً.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٤٩٥٤.
(٢) ضعيف الجامع الصغير ٥٤٥٥.
(يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا) هذا متصل بذكر الجهاد والقتال، والضرب السير في الأرض، تقول العرب ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما، وتقول ضربت الأرض بدون في، إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ومنه قوله - ﷺ - " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط ".
والتبيّن هو التأمل وهي قراءة الجماعة، إلا حمزة فإنه قرأ (فتثبتوا) من التثبت، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم قالا: لأن من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، وإنما خص السفر بالأمر بالتبين مع أن التبيُنّ والتثبت في أمر القتل واجبان حضراً وسفراً بلا خلاف لأن الحادثة التي هي سب نزول الآية كانت في السفر (١).
(ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) وقريء السلم ومعناهما واحد، واختار أبو عبيد (السلام) وخالفه أهل النظر فقالوا السلم هنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والتسليم، والمراد هنا لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم (لست مؤمناً) فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام وقيل هما بمعنى الإسلام أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام أي كلمته وهي الشهادة لست مؤمناً.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٦٣٥١.
ومؤمناً من أمّنته إذا أجرته فهو مؤمّن، وقيل المعنى لست من أهل الإيمان.
وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافراً بعد أن قال لا إله إلا الله قتل به لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله، وإنما أسقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي - ﷺ - لأنهم تأولوا فظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح لا يكون مسلماً ولا يصير بها دمه معصوماً، وأنه لا بد أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف.
وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الإنقياد بأن يقول أنا مسلم أو أنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو عمل، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأول.
وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لحق ناس من المسلمين رجلاً معه غنيمة له فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فنزلت هذه الآية، وفي سبب النزول روايات كثيرة وهذا الذي ذكرناه أحسنها.
(تبتغون عرض الحياة الدنيا) أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي راجعاً إلى القيد والقيد لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الدنيا عرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت.
وفي المجمل لإبن فارس: والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد.
(فعند الله) هو تعليل للنهي أي عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور (مغانم كثيرة) تغنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد وإغنام ماله، وقيل فعنده ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن، والمغانم جمع مغنم وهو يصلح للمصدر والزمان والمكان، ثم يطلق على ما يؤخذ من مال العدو، إطلاقاً للمصدر على اسم المفعول نحو ضرب الأمير.
(كذلك كنتم من قبل) أي كنتم مثل الرجل المذكور في مبادئ الإسلام كفاراً فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة الشهادة أو كذلك كنتم من قبل تخفون إيمانكم عن قومكم خوفاً على أنفسكم حتى منّ الله عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به.
(فمنّ الله عليكم) يعني بالإسلام والهداية فلا تقتلوا من قال لا إله إلا الله أو منّ عليكم بإعلان الإسلام بعد الإختفاء، وقيل بالتوبة (فتبيّنوا) ولا تعجلوا بقتل مؤمن، وكرر الأمر بالتبين للتأكيد عليهم لكونه واجباً لا فسحة فيه ولا رخصة (إن الله كان بما تعملون خبيراً) فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في
سبيل الله بأموالهم وأنفسهم).
التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه وإن كان معلوماً لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار تنشيط المجاهدين ليرغبوا، وتبكيت القاعدين ليأنفوا، ونحوه قوله تعالى (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) فهو تحريك لطالب العلم، وتوبيخ على الرضا بالجهل.
وغير أولي الضرر بالرفع على أنه صفة للقاعدين كما قال الأخفش لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير وبكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين وبفتحها على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين.
ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من القاعدين أي لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم، وجازت الحال منهم لأن لفظهم لفظ المعرفة.
قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار من مرض أو عاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها لأنها أضرت بهم حتى منعتهم عن الجهاد، وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد، وقيل يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة.
وقد أخرج البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أملى عليه (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفخذه على فخذي (غير أولي الضرر) وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور وأحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه من حديث خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه.
وعن ابن عباس قال (غير أولي الضرر) المتخلفون عن بدر، والخارجون إلى بدر، وعنه قال: نزلت في قوم كانت تشغلهم أمراض وأوجاع فأنزل الله عذرهم من السماء، وعن أنس بن مالك قال: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم، ولقد رأيته في بعض مشاهد المسلمين معه اللواء.
(وفضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالاً، والمراد هنا غير أولي الضرر حملاً للمطلق على المقيد.
وقال هنا (درجة) وقال فيما بعد (درجات) فقال قوم التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد، وقال آخرون: فضّل الله
_________
(١) صحيح الجامع ٢٠٣٢ عن جابر.
(وكلًّا) مفعول أول لقوله (وعد الله) قدم عليه لإفادة القصر أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين وعده الله (الحسنى) أي المثوبة وهي الجنة، قاله قتادة (وفضّل الله المجاهدين على القاعدين) الذين لا عذر لهم ولا ضرر (أجراً عظيماً) أي ثواباً جزيلاً.
_________
(١) قال زيد بن ثابت: إني لقاعد إلى جنب رسول الله - ﷺ -، إذ غشيته السكينة، ثم سري عنه، فقال: " اكتب " (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون) الآية، فقام ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فوالله ما قضى كلامه حتى غشيت رسول الله السكينة، ثم سري عنه، فقال: اقرأ فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون، فقال النبي - ﷺ -: غير أولي الضرر) فألحقتها.
" المسند " ٥/ ١٨٤، والبخاري ٨/ ١٩٥، وأبو داود ٣/ ١٧، والترمذي ٤/ ٩٢ والنسائي ٦/ ٩، ولفظه عند البخاري عن ابن شهاب قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت- أخبره أن النبي - ﷺ - أملى عليه (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) فجاء ابن أم مكتوم وهو يملها علي قال: يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد معك لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله - ﷺ -، وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله (غير أولي الضرر). ويملها: بضم أوله وكسر الراء، قال: لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) دعا رسول الله - ﷺ -، زيداً فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم، فشكا ضرارته، فأنزل الله (غير أولي الضرر).
ثم فسر ذلك بقوله
وعن ابن جريج قال: كان يقال الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الهجرة درجة.
وعن ابن محيريز قال: الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة.
وأخرج البخاري والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنة (١).
(ومغفرة) لذنوبهم يسترها ويصفح عنها (ورحمة) رأفة بهم، والمعنى غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة (وكان الله غفوراً) لذنوبهم بتكفير العذر (رحيماً) بهم بتوفير الأجر، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
_________
(١) أخرجه الترمذي ٣/ ٣٢٦ والحاكم ١/ ٨٠ وأحمد ٥/ ٣١٦ و ٣٢١ وابن ماجه ٢/ ٥٩٠.
_________
(١) النسائي/٣١٢٦. زاد السير ١٧٥.
والمراد بالملائكة ملك الموت وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم لقوله تعالى (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) وقيل ملك الموت وأعوانه، وعلى الأول يكون المراد بالملائكة الزبانية الذين يلون تعذيب الكفار.
(ظالمي أنفسهم) بالمقام مع الكفار وترك الهجرة، نزل فيمن أسلم ولم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة وخرج مع المشركين إلى بدر مرتداً فقتل كافراً (قالوا فيم كنتم) سؤال توبيخ أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم قيل المعنى أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو كنتم مشركين، قاله القرطبي.
وقيل: إن معنى السؤال التقريع لهم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين، قال أبو حيان: أي في أي حالة كنتم بدليل الجواب أي في حالة قوة أو ضعف.
(قالوا) على وجه الكذب معتذرين (كنّا مستضعفين) عاجزين عن
ثم أوقفتهم الملائكة على ذنبهم وألزمتهم الحجة وقطعت معذرتهم حيث (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة) قيل المراد بهذه الأرض المدينة والأولى العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها، ويراد بالأرض الأولى كل أرض ينبغي الهجرة منها.
(فتهاجروا فيها) وتخرجوا من بين أظهر المشركين، قال الواحدي: فيه أن الله لم يرض بإسلام أهل مكة حتى يهاجروا (فأولئك مأواهم) أي منزلهم (جهنم وساءت) أي جهنم (مصيراً) أي مكاناً يصيرون إليه.
والآية تدل على أن من لم يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يجب بأي سبب كان وعلم أنه يتمكن من إقامته في غيره، حقَّت عليه المهاجرة، وفي الباب أحاديث ذكرناها في جواب سؤال عن الهجرة من أرض الهند اليوم بالفارسية فليرجع إليه.
وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإبهام أنها تجب لو استطاعها غير الملكف فكيف من كان مكلفاً، وقيل أراد بالولدان المراهقين والمماليك.
والحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، أي لا يجدون حيلة في الخروج منها لفقرهم وعجزهم، ولا طريقاً إلى ذلك، وقيل السبيل سبيل المدينة، عن ابن جريج في قوله (حيلة) قال قوة، وعن عكرمة قال نهوضاً إلى المدينة وسبيلاً أي طريقاً إليها.
(وكان الله عفواً غفوراً) مبالغاً في المغفرة لهم ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج.
(ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً) هذه الجملة متضمّنة للترغيب في الهجرة والتنشيط إليها، وفيه دليل على أنّ الهجرة لا بد أن تكون بقصد صحيح، ونية خالصة غير مشوبة بشيء من أمور الدنيا، ومنه الحديث الصحيح " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (١) ".
وقد اختلف في معنى الآية فقال ابن عباس وجماعة من التابعين ومن بعدهم المراغم المتحوّل والمذهب من أرض إلى أرض، وقال مجاهد: المراغم المتزحزح عما يكره، وقال ابن زيد: المراغم المهاجر، وبه قال أبو عبيدة: قال النحاس: هذه الأقوال متفقة المعاني، فالمراغم المذهب والمتحوّل وهو الموضع الذي يراغم فيه وهو مشتق من الرغام وهو التراب، ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب، وراغمت فلاناً أي هجرته وعاديته، ولم أبال أن رغم أنفه.
وهذا من الأمثال التي جرت في كلامهم بأسماء الأعضاء ولا يراد أعيانها بل وضعوها لمعان غير معاني الأسماء الظاهرة، ولاحظ لظاهر الأسماء من طريق الحقيقة، ومنه قولهم: كلامه تحت قدمي، وحاجته خلف ظهري، يريدون الإهمال وعدم الإحتفال.
وقيل إنما سمي المهاجر مراغماً لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه
_________
(١) جزء من حديث طويل سبق ذكره.
(وسعة) أي في البلاد وقيل بالرزق وقال عطاء سعة أي رخاء، وقيل في إظهار الدين أو في تبدل الخوف بالأمن أو من الضلال إلى الهدى، ولا مانع من حمل السعة على ما هو أعم من ذلك.
(ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله) أي إلى حيث أمر الله ورسوله، قالوا كل هجرة في غرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد أو نحو ذلك فهي هجرة إلى الله ورسوله (ثمّ يدركه الموت) قبل أن يصل إلى مطلوبه وهو المكان الذي قصد الهجرة إليه أو الأمر الذي قصد الهجرة له.
(فقد وقع أجره على الله) أي ثبت ذلك عنده ثبوتاً لا يتخلف، يعني وجب أجر هجرته عليه بإيجابه على نفسه بحكم الوعد والتفضل والكرم، لا وجوب استحقاق، قيل ويدخل فيه من قصد فعل طاعة ثم عجز عن إتمامها كتب الله له ثواب تلك الطاعة كاملاً (وكان الله غفوراً رحيما) أي كثير المغفرة كثير الرحمة.
وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهاراً إذا كان قادراً على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين لما في هذه الآية الكريمة من العموم وإن كان السبب خاصاً كما تقدم، وظاهرها عدم الفرق بين مكان ومكان وزمان وزمان.
وقد ورد في الهجرة أحاديث، وورد ما يدل على أن لا هجرة بعد الفتح، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في شرحه على المنتقى.
وأخرج ابن سعد وأحمد والحاكم وصححه عن عبد الله بن عتيك قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول " من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله وأين المجاهدون في سبيل الله، فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله، يعني بحتف أنفه على فراشه، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قتل قعصا فقد استوجب الجنة (٢).
وأخرج أبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - من خرج حاجّاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة، قال ابن كثير وهذا حديث غريب من هذا الوجه (٣).
_________
(١) زاد السير/١٨٠
(٢) المستدرك ٢/ ٨٨.
(٣) مشكاة المصابيح ٢٥٣٩.
(وإذا ضربتم في الأرض) هذا شروع في بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمرض والمطر، وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على الهجرة وترغيب له فيها لما فيه من تخفيف المؤنة أي إذا سافرتم أيَّ مسافرة كانت، ولذلك لم تقيد بما قيد به المهاجرة وقد تقدم تفسير الضرب في الأرض قريباً.
(فليس عليكم جناح) أي وزر وحرج في (أن تقصروا من الصلاة) يعني من أربع ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء، وأصل القصر في اللغة التضييق وقيل هو ضم الشيء إلى أصله، وفسّر ابن الجوزي القصر بالنقص، ولم أره لأحد من أهل التفسير واللغة، ومن للتبعيض.
وفي الآية دليل على أن القصر ليس بواجب إليه ذهب الجمهور، وذهب الأقلون إلى أنه واجب ومنهم عمر بن عبد العزيز والكوفيون والقاضي إسمعيل وحماد بن أبي سليمان، وهو مروي عن مالك، واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأُقرت في السفر " ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت، فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومثله حديث يعلى بن أمية قال سألت عمر بن الخطاب قلت: (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وقد
وظاهر قوله (فاقبلوا صدقته) أن القصر واجب، وظاهر هذا الشرط أعني (إن خفتم أن يفتنكم) أي يغتالكم ويقتلكم في الصلاة (الذين كفروا) أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن، ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصر مع الأمن كما عرفت.
فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من القصر مع الأمن.
وقد قيل إن الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر كما تقدم.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمناً فلا قصر له، وإليه ذهب داود الظاهري.
وذهب آخرون إلى أن قوله (إن خفتم) ليس متصلاً بما قبله، وأن الكلام تم عند قوله (من الصلاة) ثم افتتح فقال (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف.
_________
(١) صحيح الجامع ٣٦٥٦ وصحيح أبو داود/١٠٨٣.
وقد حكى القرطبي عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه، ومما يرد هذا ويدفعه الواو في قوله الآتي (وإذا كنت فيهم) وقد تكلف بعض المفسرين فقال: إن الواو زائدة وأن الجواب للشرط المذكور أعني قوله (إن خفتم) هو قوله (فلتقم طائفة).
وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة وهي حديث عمر الذي قدمنا ذكره وما ورد في معناه، وعن أمية أنه سأل ابن عمر أرأيت قصر الصلاة في السفر، إنا لا نجدها في كتاب الله إنما نجد ذكر صلاة الخوف، فقال: يا ابن أخي إن الله أرسل محمداً ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله - ﷺ - يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله - ﷺ - أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي.
وعن حارثة أن وهب الخزاعي قال: صليت مع النبي ﷺ الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين، أخرجه الشيخان وغيرهما، وعن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ركعتين، أخرجه الترمذي وصححه والنسائي.
وشذ أبو يوسف وإسمعيل بن علية فقالا: لا تصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالا: ولا يلحق غيره به لما له صلى الله عليه وآله وسلم من المزية العظمى.
وهذا مدفوع فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به وقد قال - ﷺ -: صلّوا كما رأيتموني أصلي (١)، والصحابة أعرف بمعاني القرآن وقد صلّوها بعد موته في غير مرة كما ذلك معروف.
والمعنى إذا كنت يا محمد في أصحابك وشهدت معهم القتال وأردت إقامة الصلاة بهم كقوله (وإذا قمتم إلى الصلاة) وقوله (إذا قرأت القرآن) وقال السمين: الضمير المجرور يعود على الضاربين في الأرض، وقيل على الخائفين وهما محتملان.
(فلتقم طائفة منهم معك) يعني بعد أن تجعلهم طائفتين: طائفة تقف بإزاء العدو، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة، وإنما لم يصرح به لظهوره (وليأخذوا أسلحتهم) أي الطائفة التي تصلي معك، وقيل الضمير راجع إلى الطائفة التي بإزاء العدو والأول أظهر، لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو لابد أن تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة، فأمره الله بأن يكون آخذاً لسلاحه أي غير واضع له.
_________
(١) المشكاة/١١٦٠.
وقد قال بإرجاع الضمير إلى الطائفة القائمة بإزاء العدو ابن عباس، قال: لأن المصليّة لا تحارب، وقد قال غيره: إن الضمير راجع إلى المصلية، وجوز الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمراً للطائفتين جميعا لأنه أرهب للعدو.
وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملاً للأمر على الوجوب، وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح وأن ذلك يبطل الصلاة وهو مدفوع بما في هذه الآية وبما في الأحاديث الصحيحة، والسلاح ما يقاتل به وجمعه أسلحة، وهو مذكر وقيل مؤنث باعتبار الشوكة يقال سلاح كحمار وسلح كضلع، وسلح كصرد، وسلحان كسلطان، قاله أبو بكر بن زيد.
(فإذا سجدوا) أي القائمون في الصلاة (فليكونوا) أي الطائفة القائمة بإزاء العدو (من ورائكم) أي من وراء المصلين، ويحتمل أن يكون المعنى فإذا سجد المصلون معه أي أتموا الركعة تعبيراً بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة فليكونوا من ورائكم أي فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدو للحراسة.
(ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا) وهي القائمة في مقابلة العدو التي لم تصل (فليصلوا معك) على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى (وليأخذوا) أي هذه الطائفة الأخرى (حذرهم) أي ما يتحرزون به من العدو كالدرع ونحوها (وأسلحتهم) زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح، قيل وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شغل شاغل، وأما في
ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين، وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة، وصفات متعددة وكلها صحيحة مجزية، من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها فقد أبعد عن الصواب، وقد أوضحنا هذا في شرحنا لبلوغ المرام وفي شرحنا للدرر البهية.
(ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر وأخذ السلاح أي ودوا غفلتكم عن أخذ السلاح وعن الحذر إذا قمتم إلى الصلاة ليصلوا إلى مقصودهم وينالوا فرصتهم فيشدون عليكم شدة واحدة ويحملون عليكم حملة واحدة، والأمتعة ما يتمتع به في الحرب، ومنه الزاد والراحلة، والخطاب للفريقين بطريق الالتفات.
(ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم) رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من مطر، وفي حال المرض لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح، وعن ابن عباس قال: نزلت في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً، أخرجه البخاري وغيره.
ثم أمرهم بأخذ الحذر فقال (وخذوا حذركم) لئلا يأتيهم العدو على غرة وهم غافلون، والمعنى راقبوا عدوكم ولا تغفلوا عنه، أمرهم بالتحفظ والتحرز والاحتياط، وهذا يفيد إيجاب حملها عند عدم العذر وهو أحد قولين للشافعي، والثاني أنه سنة ورجحه الشيخان (إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً) يهانون به أخبر أنه يهين عدوهم لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبتهم عليهم وإنما هو تعبد من الله.
(فإذا قضيتم الصلاة) أي فرغتم من صلاة الخوف وهو أحد معاني القضاء، ومثله (فإذا قضيتم مناسككم) و (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) (فاذكروا الله) الأمر للندب لأنه في الفضائل (قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم) في جميع الأحوال حتى في حال القتال، قال ابن عباس بالليل والنهار وفي البر والبحر وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة والسرّ والعلانية وعلى كل حال.
وعن ابن مسعود أنه بلغه أن قوماً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فقال إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائماً صلى قاعداً، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف أي فإذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله في هذه الأحوال، وقيل معناها إذا صليتم فصلوا قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم حسبما تقتضيه الحال عند ملاحمة القتال، فهي مثل قوله (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً).
والمعنى أن ما أنتم عليه من الخوف جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه، وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله في كل أحيانه أخرجه الشيخان.
(فإذا اطمأننتم) أي أمنتم بعد ما وضعت الحرب أوزارها وسكنت قلوبكم، والطمأنينة سكون النفس من الخوف (فأقيموا الصلاة) أي فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة من الأذكار والأركان، ولا تفعلوا
(إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) أي فرضاً محدوداً معيناً، والكتاب هنا بمعنى المكتوب يعني مؤقتة في أوقات محدودة فلا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أي حال كان من خوف أو أمن، وقيل المعنى فرضاً واجباً مقدراً في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين، يقال وقّته فهو موقوت ووقّته فهو مؤقت.
والمقصود أن الله افترض على عباده الصلوات وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي من نوم أو سهو أو نحوهما، قال ابن عباس: موقوتاً مفروضاً، والوقوت الواجب، فلا بد أن تؤدى في كل وقت حسبما قدّر فيه.
_________
(١) القرطبي ٣٧٤.
(ولا تهنوا في ابتغاء القوم) من وهن بالكسر في الماضي أو من وهن بالفتح أي لا تضعفوا في طلبهم وقتالهم وأظهروا القوة والجلد، وقريء تهانوا من الإهانة مبنياً للمفعول أي لا تتعاطوا من الجبن والخور ما يكون سبباً في إهانتكم.
(إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) تعليل للنهي المذكور قبله أي ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصاً بكم، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم، فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال ومرارة الحرب.
ومع ذلك فلكم عليهم مزيّة لا توجد فيهم (و) هي أنكم (ترجون من الله) من الأجر وعظيم الجزاء (ما لا يرجون) لكفرهم وجحودهم فأنتم أحق بالصبر منهم وأولى بعدم الضعف منهم، فإن أنفسكم قوية لأنها ترى الموت مغنماً وهم يرونه مغرماً، ونظير هذه الآية قوله تعالى (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله).
وقيل: إن الرجاء هنا بمعنى الخوف لأن من رجا شيئاً فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف ما يرجو، وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي كقوله تعالى: (مالكم لا ترجون لله وقاراً) أي لا تخافون له عظمة.
(وكان الله عليماً حكيماً) لا يأمركم بشيء إلا وهو يعلم أنه مصلحة لكم.
روي عن عمر أنه قال: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليجهد رأيه لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مصيباً لأن الله كان يريه إياه، وإن رأى أحدنا يكون ظناً ولا يكون علماً، وقد دلت هذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي الإلهي.
(ولا تكن للخائنين) أي لأجلهم (خصيماً) مخاصماً عنهم مجادلاً للمحقين بسببهم، وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق، ونزلت هذه الآية في بني الأبيرق، وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة عن جماعة من التابعين عند أهل السنن وغيرهم لا نطوّل بذكرها (١).
_________
(١) روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن نفراً من الأنصار غزوا مع رسول الله - ﷺ - في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله - ﷺ - فقال أن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده، فانطلقوا إلى نبي الله - ﷺ - ليلاً فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان وقد -[٢٣١]- أحطنا بذلك علماً فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك فقام رسول الله - ﷺ - فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله (إنا أنزلنا الكتاب بالحق ليحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً) ورواه الترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم بأطول من هذا قلت إسناده ضعيف جداً.
وقد تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء وقالوا لو لم يقع منه - ﷺ - ذنب لما أمر بالاستغفار، والجواب عنه بوجوه ذكرها الخازن في تفسيره (١).
_________
(١) لا شك أن الرسول - ﷺ - عندما يتحدث أو يعمل كرسول، أي مبلغاً أو داعياً فهو معصوم، أما إذا كان يتحدث أو يعمل من عند نفسه في الأمور العامة التي ليست جزءاً من الرسالة فهو بشر، يمكن أن يخطىء، ويغلب أن يصيب، وقد وضح الرسول ذلك بقوله في الحديث الذي رواه رافع بن خديج " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فأنا بشر " وكان الصحابة يفرقون بين محمد النبي ومحمد الإنسان، يتضح ذلك في المثال الذي حدث في غزوة بدر، فإن الرسول اختار مكاناً ليهىء فيه جنده للقتال، فسأله أحدهم: هل هذا الاختيار وحي من الله أو اجتهاد من عندك؟ فأجابه - ﷺ -: بل هو اجتهاد من عندي، فقال الرجل هناك مكان أصلح من هذا، فانتقل الرسول - ﷺ - إليه.
وكفى بهذه الآية ناعية على ما هم من قلة الحياء والخشية من ربهم مع علمهم أنهم في حضرته لا سترة ولا غيبة (إذ يبيّتون) أى يدبرون الرأي بينهم، وسماه تبييتاً لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل (ما لا يرضى من القول) أي من الرأي الذي أداروه بينهم وسماه قولاً لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم (وكان الله بما يعملون محيطاً) عالماً علم إحاطة لا يخفى عليه شيء من أسرار عباده وهو مطلع عليهم، لا تخفى عليه خافية.
(في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي فمن يخاصم ويجادل الله عنهم عند تعذيبهم بذنوبهم (أم من يكون عليهم وكيلاً) أي مجادلاً ومخاصماً، الوكيل في الأصل القائم بتدبير الأمور، والمعنى من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه، ومن يكون محامياً عنهم من بأس الله إذا نزل بهم.
وقال الضحاك: إن هذه الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة ثم جاء إلى النبي - ﷺ - وقال هل لي من توبة فنزلت، وعلى كل
وعن ابن عباس قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ثم استغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال، وعن ابن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر الله غفر له (ومن يعمل سوءاً) الآية (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) الآية.
وقد ورد في قبول الاستغفار وأنه يمحو الذنب أحاديث كثيرة مدونة في كتب السنة، وفي هذه الآية دليل على حكمين.
(أحدهما) أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر.
(والثاني) أن مجرد الاستغفار كاف كما هو ظاهر الآية وقيل: إنه مقيد بالتوبة (١).
_________
(١) روى الإمام أحمد في " المسند " ١/ ١٧٤ عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله - ﷺ - شيئاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، قال: قال رسول الله - ﷺ -: " ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله تعالى لذلك الذنب إلا غفر له " وقرأ هاتين الآيتين: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم... ) الآية [آل عمران: ١٣٥] ورواه الترمذي: ٢/ ٢٥٧، وابن حبان في " صحيحه " وهو حديث حسن. وقد ذكر في " التهذيب " ١/ ٢٦٨ تحسينه عن ابن عدي.
(ثمّ يرم به بريئاً) منه، توحيد الضمير لكون العطف بأو، أو لتغليب الإثم على الخطيئة وقيل إنه يرجع إلى الكسب (فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً) لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل، ومثله (وليحملنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) والبهتان مأخوذ من البهت وهو الكذب على البرىء بما يتبهّت له ويتحير منه.
يقال بهته بهتاً وبهتاناً إذا قال عليه ما لم يقل، ويقال بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير، وبهت بالضم ومنه (فبهت الذي كفر) والمبين الواضح.
(ولولا فضل الله عليك ورحمته) خطاب لرسول الله ﷺ والمراد بهذا الفضل والرحمة لرسول الله - ﷺ - أنه نبهه على الحق في قصة بني أبيرق وقيل المراد بهما العصمة والنبوة (لهمّت طائفة منهم) أي من الجماعة الذين عضدوا بني أبيرق يعني من بني ظفر، وهم قوم طعمة (أن يضلّوك) عن القضاء الحق وتوخّي طريق العدل أو يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر.
(وما يضلّون إلا أنفسهم) لأن وبال ذلك عائد عليهم بسبب تعاونهم على الإثم (وما يضرّونك من شيء) لأن الله سبحانه هو عاصمك من الناس، ولأنك عملت بالظاهر فلا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي، ومن زائدة.
(وأنزل الله عليك الكتاب) قيل هذا ابتداء كلام وقيل الواو للحال أي وما يضرونك من شيء حال إنزال الله عليك القرآن أو مع إنزال الله ذلك عليك، فالجملة في معنى العلة لما قبله (والحكمة) أي القضاء بها (وعلّمك) أي بالوحي من أحكام الشرع وأمور الدين أو علم الغيب وخفيات الأمور أو من أحوال المنافقين وكيدهم أو من ضمائر القلوب (ما لم تكن تعلم) من الوحي، وقال قتادة: علمه الله بيان الدنيا والآخرة وبين حلاله وحرامه ليحتج بذلك على خلقه وقال الضحاك: علمه الخير والشر.
(وكان فضل الله عليك عظيماً) فيما علمك وأنعم عليك لأنه لا فضل أعظم من النبوة التامة، والرسالة العامة، وفيه تنبيه منه سبحانه لرسوله على ما حباه من ألطافه، وما شمله من فضله وإحسانه ليقوم بواجب حقه،
(لا خير في كثير من نجواهم) النجوى السر بين الاثنين أو الجماعة، تقول ناجيت فلاناً مناجاة ونجاء وهم يتنجون ويتناجون ونجوت فلاناً أنجوه نجوى أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه أي خلصته وأفردته والنجوة من الإرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، فالنجوى المسارة مصدر، وقد يسمى به الجماعة كما يقال قوم عدل قال الله تعالى (وإذ هم نجوى) وقيل النجوى جمع نجيّ، نقله الكرماني.
وقد قال جماعة من المفسرين: إن النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الإثنين سواء كان ذلك سراً أو جهراً، وبه قال الزجاج، والآية عامة في حق جميع الناس كما اختاره البغوي والكواشي كالواحدي وقيل عائد إلى قوم طعمة، والأول أولى.
(إلا من أمر بصدقة) أي حث عليها، والظاهر أنها صدقة التطوع وقيل إنها صدقة الفرض والأول أولى، والاستثناء متصل كما اختاره القاضي كالكشاف وقيل منقطع لأن (من) للأشخاص وليست من جنس التناجي فيكون بمعنى لكن في لغة الحجاز.
(أو معروف) لفظ عام يشمل جميع أنواع الجميل وفنون أعمال البر، وقال مقاتل: المعروف هنا الفرض، والأول أولى، ومنه الحديث كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وقيل المعروف إغاثة الملهوف والقرض وإعانة المحتاج وأعمال البر كلها معروف لأن العقول تعرفها.
وقد أخرج عبد الله بن حميد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كلام ابن آدم كلّه عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكر الله عز وجل (١) ".
قال سفيان الثوري هذا في كتاب الله يعني هذه الآية وقوله تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً) وقوله (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
وقد وردت أحاديث صحيحة في الصمت والتحذير عن آفات اللسان والترغيب في حفظه وفي الحث على الإصلاح بين الناس، ولعل وجه تخصيص هذه الثلاثة بالذكر، أن عمل الخير المتعدي للناس إما إيصال منفعة أو دفع مضرة، والمنفعة إما جسمانية وإليه الإشارة بقوله إلا من أمر بصدقة وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف، ودفع الضرر أشير إليه بقوله أو إصلاح بين الناس قاله أبو السعود.
(ومن يفعل ذلك) إشارة إلى الأمور المذكورة، جعل مجرد الأمر بها خيرًا ثم رغب في فعلها بقوله هذا لأن فعلها أقرب إلى الله من مجرد الأمر بها إذ خيرية الأمر بها إنما هي لكونه وسيلة إلى فعلها أو أراد ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر بالفعل أيضاً فعل من الأفعال.
_________
(١) ابن ماجة كتاب الفتن باب ١٢.
وأخرج أبو نصر السجزي في الإنابة عن أنس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أنزل على القرآن يا أعرابي (لا خير في كثير من نجواهم) إلى قوله (عظيماً) يا أعرابي الأجر العظيم الجنة "، قال الأعرابي: الحمد لله الذي هدانا للإسلام.
(ومن يشاقق الرسول) المشاقة المعاداة والمخالفة (من بعد ما تبيّن) أي وضح وظهر (له الهدى) بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ثم يفعل المشاقة (ويتبع غير سبيل المؤمنين) أي غير طريقهم وهو ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه في الاعتقاد والعمل والقول (نوّله ما تولّى) أي نجعله والياً لما تولاه واختاره من الضلال بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا ونتركه وما اختاره لنفسه.
(ونصله) أي نلزمه وندخله في الآخرة، وأصله من الصلّى وهو لزوم النار وقت الاستدفاء (جهنم وساءت مصيراً) مرجعاً هي، وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله (ويتبع غير سبيل المؤمين).
ولا حجة في ذلك عندي لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب، فلا يصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل الدين فأداه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين وهو الدين القويم والملة الحنيفية، ولم يتبع غير سبيلهم.
وقد أخرج الترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة فمن شذَّ شذ في النار "، (١) وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً.
_________
(١) الترمذي كتاب الفتن/٧.
(ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً) أي ذهب عن طريق الهدى وحرم الخير كله إذا مات على شركه، لأن الشرك أعظم أنواع الضلال وأبعدها من الصواب والاستقامة، كما أنه افتراء وإثم عظيم ولذلك جعل الجزاء في هذه الشرطية (فقد ضل) وفيما سبق (فقد افترى إثماً عظيماً) حسبما يقتضيه سياق النظم الكريم وسياقه.
وفي السمين ختمت الآية المتقدمة بقوله فقد افترى وهذه بقوله فقد ضل لأن الأولى في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بصحة نبوته وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك وافتروا على الله، وهذه في شأن قوم مشركين. ليس لهم كتاب ولا عندهم علم، فناسب وصفهم بالضلال.
وأيضاً قد تقدم هنا ذكر الهدى وهو ضد الضلال اهـ.
وقد تقدم تفسير هذه الآية وتكريرها بلفظها في موضعين من هذه السورة للتأكيد وقيل كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق، وقيل: إنها نزلت هنا بسبب غير قصة بني أبيرق وهو ما رواه الثعلبي والقرطبي في تفسيريهما عن الضحاك أن
وقيل المراد بالإناث الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله قال الضحاك: اتخذوهن أرباباً وصوروهن صور الجواري فحلوا وقلدوا وقالوا هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده يعنون الملائكة، وقرىء إلا وثناً بضم الواو والثاء جمع وثن، رويت هذه عن عائشة، وقرأ ابن عباس: إلا أثناً جمع وثن أيضاً وقرأ الحسن إلا أنثاً جمع أنيث كغدير وغدر، وحكى الطبري أنه جمع أناث كثمار وثمر.
وعلى جميع هذه القراآت فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين والإزراء عليهم، والتضعيف لعقولهم لكونهم عبدوا من دون الله نوعاً ضعيفاً، وقال الحسن: كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان فأنزل الله هذه الآية.
وقال ابن عرفة: هو الذي ظهر شره يقال شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها، ومنه قيل للرجل أمرد أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه، وقال ابن عباس: لكل صنم شيطان يدخل في جوفه ويتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم والأول أولى.
عن مقاتل بن حيان قال هذا إبليس يقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، وعن الربيع بن أنس مثله.
قلت: وهذا صحيح معنى ويعضد، قوله تعالى لآدم يوم القيامة أخرج من ذريتك بعث النار فيقول يا رب وما بعث النار؟ فيقول الله تعالى أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فعند ذلك تشيب الأطفال من شدة الهول، أخرجه مسلم.
فنصيب الشيطان هو بعث النار، والمعنى لأتخذن منهم حظاً مقدراً معلوماً فكل ما أطيع فيه إبليس فهو نصيبه ومفروضه، وأصل الفرض القطع، وهذا النصيب هم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه.
قال الكلبي: أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث، وقيل إدراك الجنة مع المعاصي وقيل أُزيّن لهم ركوب الأهواء والأهوال الداعية إلى العصيان وقيل طول البقاء في الدنيا ونعيمها ليؤثروها على الآخرة، ولا مانع من حمل اللفظ على الجميع.
(ولآمرنَّهم فليبتكنّ آذان الأنعام) أي ولآمرنهم بتبتيك آذانها أي تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري والبتك القطع ومنه سيف باتك يقال بتكة وبتكة مخففاً ومشدداً، وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه فشقوا آذان البحائر والسوائب (١) كما ذلك معروف، قال قتادة: التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم (ولآمرنّهم فليغيرنَّ خلق الله) بموجب أمري لهم.
واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو فقالت طائفة: هو الخصي وفقء العين وقطع الأذن، وقال آخرون: إن المراد هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة وبه قال الزجاج، وقيل المراد تغيير الفطرة التي فطر الله
_________
(١) البحيرة هي الناقة تشق أذنها وتخلى للطواغيت إذا ولدت خمسة أبطن آخرها ذكر والسائبة هي الناقة تسيب للأصنام لنحو برء من مرض أو نجاة في حرب.
وقد رخص طائفة من العلماء في خصي البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره، وكره ذلك آخرون وأما خصي بني آدم فحرام، وقد كره قوم شراء الخصي، قال القرطبي: لم يختلفوا أن خصي بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة، وتغيير لخلق الله، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود قاله أبو عمرو بن عبد البر.
أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خصي البهائم والخيل، وأخرج ابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال نهى - ﷺ - عن صبر الروح وإخصاء البهائم.
وعن ابن عباس فليغيرنّ خلق الله قال دين الله، وعن الضحاك وسعيد ابن جبير مثله، وعن الحسن قال الوشم ووصل الشعر، وهذه الجمل الخمسة المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالاً أو حالاً، وما فيها من اللامات الخمس للقسم كما تقدم.
(ومن يتخذ الشيطان وليّاً من دون الله) باتباعه وامتثال ما يأمر به وإيثار ما يدعو إليه من دون اتباع لا أمر الله به ولا امتثال له، وقيل الولي من الموالاة وهو الناصر (فقد خسر) بتضييع رأس ماله الفطري (خسراناً مبيناً) أي واضحاً ظاهراً لأن طاعة الشيطان توصله إلى نار جهنم المؤبدة عليه وهي غاية الخسران.
(وعد الله حقاً) قال في الكشاف مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره، ووجهه أن الأول مؤكد لمضمون الجملة الاسمية ومضمونها وعد، والثاني مؤكد لغيره أي حق ذلك حقاً (ومن أصدق من الله قيلاً) هذه الجملة مؤكده لما قبلها، والقيل مصدر قال كالقول والقال والاستفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق قولاً من الله عز وجل، وقيل إن قيلاً اسم لا مصدر، وإنه منتصب على التمييز قاله ابن السكيت.
وعن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء نحن أفضل منكم، فنزلت، وقد ورد معنى هذه الرواية من طرق كثيرة مختصرة ومطولة، والأماني جمع أمنية أفعولة من التمنية، والتمني تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها والأمنية هي الصورة الحاصلة في النفس، وقيل الخطاب للمسلمين ولليهود والنصارى وقيل لمشركي مكة في قولهم لا نبعث ولا نحاسب.
(من يعمل سوءاً يجز به) قال الحسن: هذا في حق الكفار، ولا وجه له، وقال ابن عباس: هي عامة في كل من عمل سوءاً.
وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال لما نزلت (من يعمل سوءاً يجز به) بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً فقال رسول الله - ﷺ -: قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم
أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن المنذر عن أبي بكر الصديق أن النبي - ﷺ - قال له لما نزلت هذه الآية: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة (٢).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يهمّه إلا كفّر الله به من سيآته (٣) وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة (ولا يجد له من دون الله) أي غيره (ولياً) يحفظه (ولا نصيراً) يمنعه منه.
_________
(١) مسلم ٢٥٧٤.
(٢) ضعيف الجامع ١٣٣٥.
(٣) مسلم ٢٥٧٣ والبخاري ٢٢٣٥.
(فأولئك) إشارة إلى العامل المتصف بالإيمان، قرىء (يدخلون الجنة) على البناء للمجهول وللمعلوم والجمع باعتبار معنى (من) كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها (ولا يظلمون نقيراً) أي قدر النقير وهو النقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة، وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان، كيف والمجازي أرحم الراحمين.
(واتبع ملة إبراهيم حنيفاً) أي اتبع دين إبراهيم حال كون المتبع مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دين الحق وهو الإسلام، وخص إبراهيم للاتفاق على مدحه حتى من اليهود والنصارى (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) أي جعله صفوة له وخصه بكراماته، وفيه إظهار في مقام الإضمار لتفخيم شأنه، والتنصيص على أنه متفق على مدحه.
وفائدة هذه الجملة تأكيد وجوب اتباع ملته لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن يتبع ملته، قال ثعلب إنما سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته، وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم، وقيل هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوباً لله ومحباً له، وقيل الخليل من الاختصاص، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها، واختار هذا النحاس.
قال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل، أخرج الحاكم
_________
(١) المستدرك ٢/ ٥٥٠.
(٢) المستدرك ٢/ ٤٦٩.
(٣) روى عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ انه قال: " يا جبريل لم أتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال: " لإطعامه الطعام " - رواه السيوطي في الدر ٢٠/ ٢٣٠ ونسبه للبيهقي في شعب الإيمان.
وفي رواية أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعام، وكانت له ميرة
من صديق له بمصر في كل سنة.
فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه فلم يعطهم شيئاً، فقالوا: لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فملؤوا الغرائر رملاً، ثم أتوا إبراهيم عليه السلام فاعلموه، فاهتم إبراهيم لأجل الخلق، فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان ففتحت الغرائر فإذا دقيق حواري فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم فقال من أين هذا الطعام فقالت: من عند خليلك المصري فقال: لا بل من عند خليلي الله عز وجل فيومئذ أتخذ الله خليلاً انتهى. قال ابن كثير وفي صحيحه هذا ووقوعه نظر وغايته أن يكون خبراً إسرائيلياً لا يصدق ولا يكذب.
(وكان الله بكل شيء محيطاً) هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها أي أحاط بكل شيء علماً وقدرة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
(ويستفتونك) يطلبون منك الفتوى وهي بالواو فتفتح الفاء، وبالياء فتضم وهي اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم واستفتيته سألته أن يفتي، والجمع الفتاوى بكسر الواو على الأصل، وقيل يجوز الفتح للتخفيف.
(في) شأن (النساء) وميراثهن (قل) لهم (الله يفتيكم فيهن) سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغيره فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم إن الله يبين لكم حكم ما سألتم عنه.
وهذه الآية رجوع إلا ما افتتحت به السورة من أمر النساء وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم (الله يفتيكم) قال مجاهد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئاً، كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيراً ففرض الله لهن الميراث حقاً واجباً.
وعن إبراهيم قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثونها فأنزل الله هذا.
(وما يتلى عليكم في الكتاب) أي القرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى قوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا
(في يتامى النساء) فيه خمسة أوجه (أحدها) أنه بدل من (في الكتاب) وهو بدل اشتمال ولا بد من حذف مضاف أي في حكم يتامى (الثاني) أن يتعلق بيتلى قاله أبو البقاء (الثالث) أنه بدل من فيهن بإعادة العامل (الرابع) أن يتعلق بنفس الكتاب أي فيما كتب في حكم اليتامى (الخامس) أنه حال أي كائناً في حكم يتامى والإضافة من باب إضافة الصفة إلى الموصوف إذ الأصل في النساء اليتامى.
(اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب) أي فرض (لهن) من الميراث وقيل من الصداق وغيره وذلك لأنهم كانوا يورثون الرجال دون النساء، والكبار دون الصغار (وترغبون أن تنكحوهن) بجمالهن ومالهن بتقدير (في) أو لعدم جمالهن ودمامتهن بتقدير عن، والآية محتملة للوجهين (والمستضعفين من الولدان) عطف على قوله (يتامى النساء) وما يتلى في حقهن هو قوله (يوصيكم الله في أولادكم) الآية.
وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا من كان مستضعفاً من الولدان كما سلف، وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور.
(و) يأمركم (أن تقوموا لليتامى بالقسط) أي العدل في مهورهن ومواريثهن (وما تفعلوا من خير) في حقوق المذكورين أو من شر ففيه اكتفاء (فإن الله كان به عليماً) يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر.
(وإن امرأة) مرفوع بفعل يفسره (خافت) أي توقعت ما يخاف من زوجها وقيل معناه تيقنت، وهو خطأ (من بعلها) أي زوجها، والبعل هو السيد (نشوزاً) دوام النشوز قاله الزجاج يعني ترفعاً عليها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها لبغضها وطموح عينه إلى أجمل منها (أو إعراضاً) عنها بوجهه، قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها.
(فلا جناح عليهما) أي لا حرج ولا إثم على الزوج والمرأة قال أبو السعود: الجناح عن الزوج ظاهر لأنه يأخذ شيئاً من قبلها، والأخذ مظنة الجناح، ومظنة أن يكون من قبيل الرشوة الحرمة، وأما نفي الجناح عنها مع أن الذي هو من قبلها هو الدفع لا الأخذ فلبيان أن الصلح ليس من قبيل الرشوة الحرمة للمعطى والآخذ اهـ.
(أن يصلحا) من المصالحة على قراءة الجمهور وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أي نشوز أو أي إعراض، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهرها أنه يجوز التصالح بأي نوع من أنواعه إما بإسقاط التوبة أو بعضها أو بعض النفقة أو بعض المهر.
وقرأ الكوفيون (أن يصلحا) من الإصلاح والأول أولى لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعداً قيل تصالح الرجلان أو القوم لا أصلح.
قد أخرج الترمذي وحسّنه وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية (١)، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وأخرج أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة، وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت: الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك من شأني في حلّ فنزلت هذه الآية، وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا.
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم لها بيوم سودة.
(وأحضرت الأنفس الشحّ) أي شدة البخل، وهذا إخبار منه سبحانه بأن الشح في كل واحد منهما بل في كل الأنفس الإنسانية كائن، وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال، وأن ذلك بحكم الجِبلّة والطبيعة فالرجل يشح بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة وحسن النفقة ونحو
_________
(١) زاد المسير ٢١٧/ ٤٩٣.
(وإن تحسنوا) أيها الأزواج الصحبة والعشرة (وتتقوا) ما لا يجوز من النشوز والإعراض في حق المرأة فإنها أمانة عندكم، وقيل المعنى إن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتتقوا ظلمها والجور (فإن الله كان بما تعملون خبيراً) فيجازيكم الله يا معشر الأزواج بما تستحقّونه.
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء (١)) أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه البتّة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة هذه في المحبة ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم اللهم: هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (٢)، رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر عن عائشة وإسناده صحيح.
قال ابن مسعود: العدل بين النساء الجماع، وقال الحسن: الحب وكذا المحادثة والمجالسة والنظر إليهن والتمتّع (ولو حرصتم) يعني على العدل والتسوية بينهن في الحب وميل القلب.
_________
(١) يظن بعض الناس أن هذه الآية تمنع تعدد الزوجات وفاته أن آخرها صريح في الإباحة حيث تقول (فلا تميلوا كل الميل) فهذا لا يقال لصاحب الزوجة الواحدة وتضم إلى هذا أن من الثابت أن بعض الصحابة كانوا يتزوجون أكثر من واحدة وقصة حفصة بنت عمر معروفة وهي أنها لما مات زوجها عرضها عمر على عثمان وعمر كان يعلم أن عثمان متزوج.
(٢) وكذلك يأخذ بعضهم على الإسلام أنه يبيح الزوجات ويظن أنه بذلك يدافع عن المرأة وأن التعدد ضار بها وقد قرأنا كلمة للأستاذ العقاد جاء فيها (والأمر الذي يغفل عنه الكثيرون أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام إنما هو في حقيقته رخصة للمرأة التي تريده باختيارها، وليس رخصة للرجل إذا أراد فمهما يكن من إرادة الرجل فهو لا يستطيع البناء بامرأة واحدة لا تختاره فضلاً عن الجمع بين امرأتين أو أربع على هواه وإذا كان قبول المرأة شرطاً واجباً لصحة كل زواج فالرخصة إذاً في مصلحة المرأة التي تختاره وترى من أحوالها في الأسرة أنها هي الرابحة في هذا الاختيار. -[٢٥٨]-
ولقد عرفنا نحن كما عرف غيرنا أحوالاً غير نادرة كانت المرأة توازن فيها بين جميع الاعتبارات فتخرج من هذه الموازنة بتفضيل تعدد الزوجات على ما عداه).
(فتذروها) أي الأخرى الممال عنها (كالمعلّقة) التي ليست ذات زوج ولا مطلقة تشبيهاً بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء لا في السماء ولا في الأرض، أي لا أيِّماً ولا ذات زوج، وقرأ أبي بن كعب فتذروها كالمسجونة لا هي مخلصة فتتزوج، ولا هي ذات بعل فيحسن إليها.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن عن أُبَيّ هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط (١).
(وإن تصلحوا) ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء والعدل بينهن في القسم والحب (وتتقوا) الجور في القسم وكل الميل الذي نهيتم عنه (فإن الله كان غفوراً رحيماً) بكم لا يؤاخذكم بما فرط منكم من الميل إلى بعضهن دون بعض.
_________
(١) صحيح الجامع ٦٣٩١ وسلسلة الأحاديث الصحيحة ٢٧٧. أبو داود كتاب النكاح ٣٨ - النسائي كتاب النساء باب ٢.
ويجوز أن تكون أن مفسرة لأن التوصية في معنى القول وهو أن توحدوه وتطيعوه وتحذروه وتخافوه ولا تخالفوا أمره، والمعنى أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة أوصى الله بها جميع الأمم السالفة في كتبهم على ألسن رسلهم.
_________
(١) قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً) أي: هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، كما قال: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) [محمد: ٣٨] وقال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره.
(ولو على أنفسكم) متعلّق بشهداء، هذا المعنى هو الظاهر من الآية وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق (أو الوالدين والأقربين) أي من ذوي رحمه وأقاربه، فأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير، وكذلك الشهادة على الأقربين، وذكر الأبوين لوجوب بِرّهما وكونهما أحب الخلق إليه،
(إن يكن) المشهود عليه من الأقارب أو الأجانب (غنيّا) فلا يراعى لأجل غنائه استجلاباً لنفعه أو استدفاعاً لضره فتترك الشهادة عليه (أو فقيراً) فلا يراعى لفقره رحمة له وإشفاقاً عليه فتترك الشهادة عليه، وقرأ ابن مسعود: إن يكن غني أو فقير على إن كان تامة، وإنما قال (فالله أولى بهما) ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما.
وقيل رد الضمير إلى المعنى دون اللفظ، وقال الأخفش: تكون أو بمعنى الواو، وقيل: إنه يجوز ذلك مع تقدم ذكرهما كما في قوله تعالى (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) وقد تقدم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا، وقرأ أُبَيّ فالله أولى بهم.
(فلا تتّبعوا الهوى) في الشهادة (أن تعدلوا) إما من العدل كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، واختاره الزمخشري أو من العدول واختاره القاضي كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا عنه.
(وإن تلووا) من اللَّي يقال لويت فلاناً حقه إذا دفعت عنه والمراد لي الشهادة ميلاً إلى المشهود عليه، وقرأ الكوفيون وإن تلوا من الولاية أي وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق، وقد قيل إن هذه القراءة تفيد معنيين الولاية والإعراض، والقراءة الأولى تفيد معنى واحداً، وهو الإعراض.
(أو تعرضوا) عن تأدية الشهادة من الأصل، وقيل معناه التحريف والتبديل في الشهادة، وقيل هو خطاب مع الحكام أن يميلوا مع أحد الخصمين أو يعرضوا عنه بالكلية (فإنّ الله كان بما تعملون) من اللَّيّ والإعراض أو من كل عمل (خبيراً) وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما يجب عليه.
وقد روي أن هذه الآية تعم القاضي والشهود أما الشهود فظاهر، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه، وقيل هي خاصة باليهود، قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يهابون غنياً لغنائه ولا يرحمون مسكيناً لمسكنته، وقال الرجلان يجلسان عند القاضي فيكون لَيُّ القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر (١).
_________
(١) وروى ابن جرير ٩/ ٤٠٣ عن السدي " إن فقيراً وغنياً اختصما إلى النبي ﷺ فكان (ميله) مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني فنزلت هذه الآية.
وقيل: إن الآية نزلت في المنافقين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله، وقيل نزلت في المشركين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله، وهما ضعيفان.
(ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) أي بشيء من ذلك كما جرى عليه القاضي كالكشاف، وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة فناسبه ذكر الرسل جملة، وجمع أيضاً لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل، قاله الكرخي.
وتقديم الملائكة على الرسل لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله، قال الضحاك: يعني بذلك أهل الكتاب كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل وأقروا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد - ﷺ -، فلما بعث الله رسوله
(فقد ضلّ) عن القصد لأن الكفر ببعضه كفر بكله (ضلالاً بعيداً) عن الحق بحيث يعسر العود منه إلى سواء الطريق، وقول القاضي: بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه، لا يصح إلا إذا كانت الآية في جمع مخصوص علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه.
والظاهر أنه لا يحتاج إلى هذه المبالغة بل المراد ما أشرنا إليه لأن الذين يكفرون بما ذكر قد يسلم بعضهم، وزيادة الملائكة واليوم الآخر في جانب الكفر لما أنه بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلاً، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل.
وفي هذا إشارة إلى أن الكفر بعد التوبة مغفور ولو بعد ألف مرة كما قاله الأصفهاني وغيره، وهذا الاضطراب منهم تارة يدَّعون أنهم مؤمنون، وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمر والجحود الدائم، يدل أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ليست لهم نية صحيحة ولا قصد خالص.
وعن قتادة قال: هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعن ابن زيد قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ثم كفروا مرتين ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك بموتهم على الكفر، وذلك لأن من تكرر منه الإيمان والكفر بعد الإيمان مرات كثيرة دل على أنه لا وقع للإيمان في قلبه، ومن كان كذلك لا يكون مؤمناً بالله إيماناً كاملاً صحيحاً وازديادهم الكفر هو استهزاؤهم وتلاعبهم بالإيمان.
قال علي: لا تقبل توبته أي توبة مثل هذا المتلاعب، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن توبته مقبولة، وظاهر القرآن مع علي.
_________
(١) قال ابن الجوزي: أنها في اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعُزيْر، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد - ﷺ -، هذا قول ابن عباس. وروى عن قتادة قال: آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد.
(أيبتغون عندهم العزّة) هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة معترضة أي لا يجدونها عندهم (فإن العزة لله جميعا) هذه الجملة تعليل لما تقدم من توبيخهم بابتغاء العزة عند الكافرين، وجميع أنواع العزة وأفرادها مختص بالله سبحانه في الدنيا والآخرة، ولا ينالها إلا أولياؤه الذين كتب لهم العزة، وما كان منها مع غيره فهو من فضله وتفضله كما في قوله (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).
وهذا يقتضي بطلان التعزّز بغيره سبحانه واستحالة الانتفاع به، وعزة الكفار ليس معتدّاً بها بالنسبة إلى عزة المؤمنين لأنه لا يعز إلا من أعزه الله، والعزة الغلبة يقال عنه بعزه عزا إذا غلبه.
(وقد نزّل عليكم في الكتاب) الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزل الله، وقيل: إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ، والكتاب هو القرآن والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) وهذا نزل بمكة لأنه قد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به فنهوا عن ذلك.
ثمّ إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين، وكان المنافقون يجلسون إليهم ويخوضون معهم في الاستهزاء بالقرآن فنهى الله المؤمنين عن القعود معهم بقوله (أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله، فأوقع السماع على الآيات، والمراد سماع الكفر والاستهزاء.
(فلا تقعدوا معهم) ما داموا كذلك (حتى) غاية للنهي (يخوضوا في حديث غيره) أي حديث الكفر والاستهزاء.
وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيراً من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء
بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه القائل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدماً على الله وعلى كتابه وعلى رسوله فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضح الشوكاني ذلك في القول المفيد وأدب الطلب، اللهم انفعنا بما علمتنا واجعلنا من المتقيدين بالكتاب والسنة، وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين.
قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة.
(إنكم إذاً مثلهم) مستأنفة سيقت لتعليل النهي أي أنكم إن فعلتم ذلك وقعدتم معهم ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر واستتباع العذاب (١)، قيل
_________
(١) روى الإمام أحمد ٢/ ١٤٨ بترتيب الساعاتي، والترمذي ٤/ ٢٠ وحسنه، والنسائي ١/ ١٩٨ من حديث جابر أن النبي - ﷺ - قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " وهو حديث صحيح. قال ابن حجر: أخرجه النسائي من حديث جابر مرفوعاً وإسناده جيد، قلت: وليس في النسائي الشطر الثاني من الحديث، وأخرجه الترمذي من وجه آخر بسند فيه ضعف، وأبو داود في " سننه " ٣/ ٤٧٧ عن ابن عمر بسند فيه انقطاع، وأحمد ١/ ٢١٠ عن عمر- بسند فيه مجهول. وفي " القرطبي " ٥٢٢/ ٤١٧! فكل من جلس مجلس معصية، ولم ينكر عليهم أن يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكر عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
*وكل قرين بالمقارن يقتدي*
وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال: هي منسوخة بقوله تعالى (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء) وهو مردود فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزؤن بها.
قال أهل العلم: هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر أو خالط أهله كان في الإثم بمنزلتهم إذا رضي به وإن لم يباشره، فإن جلس إليهم ولم يرض بفعلهم، بل كان ساخطاً له وإنما جلس على التقيّة والخوف فالأمر فيه أهون من المجالسة مع الرضا، وإن جلس مع صاحب بدعة أو منكر ولم يخض في بدعه أو منكره فيجوز الجلوس معه مع الكراهة، وقيل لا يجوز بحال والأول أولى.
(إنّ الله جامع المنافقين والكافرين) هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، قيل وهم القاعدون والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجهاً إلى المنافقين، وعن سعيد بن جبير قال: إن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والمشركين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزؤا بالقرآن (في جهنم جميعاً) كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر والاستهزاء.
(الذين يتربّصون بكم) أي ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شر، يقال تربصت الأمر تربصاً انتظرته، والربصة وزان غرفة اسم منة، وتربصت الأمر بفلان انتظرت وقوعه به، والخطاب في (بكم) للمؤمنين والموصول صفة للمنافقين أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين، وعليه جرى القاضي كالكشاف ويجوز أن يكون على الذم.
(فإن كان لكم فتح) هذه الجملة والتي بعدها حكاية لتربصهم أي إن حصل لكم فتح (من الله) بالنصر على من يخالفكم من الكفار وبالظفر على عدوكم وغنيمة تنالون منهم (قالوا) لكم (ألم نكن معكم) في الإتصاف بظاهر الإسلام والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد.
(وإن كان للكافرين نصيب) من الغلب لكم والظفر بكم (قالوا) للكافرين (ألم نستحوذ عليكم) أي ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم، وقيل المعنى أنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم.
والأول أولى فإن معنى الاستحواذ الغلب يقال استحوذ على كذا أي غلب عليه، ومنه قوله تعالى (استحوذ عليهم الشيطان) ولا يصح أن يقال ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون، ولكن المعنى ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ونتمكن منكم فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين.
(ونمنعكم من المؤمنين) بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم وعجزوا عن الانتصاف منكم، والمراد أنهم يميلون إلى من له الغلب والظفر من الطائفتين، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة (١).
وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهّر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالغلظة وسوء الخلق ويزدري به ويكافحه بكل مكروه، فقبّح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها.
(فالله يحكم بينكم) وبينهم (يوم القيامة) بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق وتظهر الضمائر، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقاً، وقيل يحكم بأن يدخلكم الجنة ويدخلهم النار (٢).
_________
(١) أخرجه عبد الرزاق: ٥١، وابن جرير ٩/ ٣٢٧ بإسناد صحيح، والحاكم ٢/ ٣٠٩. وصححه ووافقه الذهبي، والسيوطي في " الدر " ٢/ ٢٣٥.
(٢) ذكر القرطبي في " تفسيره " ٥/ ٤١٩ للآية التأويل الثالث: وهو أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر، ويتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدو من قبلهم.
قال ابن العربي وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله يعنى قوله (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) وذلك يسقط فائدته إذ يكون تكراراً، هذا معنى كلامه.
وقيل المعنى أن الله لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين يمحو به دولتهم بالكلية ويذهب آثارها، ويستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً. وقيل: إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل، ولا تاركين للنهي عن المنكر، كما قال تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) قال ابن العربي: وهذا نفيس جداً وقيل إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً فإن وجد فبخلاف الشرع فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة.
هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل منها أن الكافر لا يرث المسلم، ومنها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم لم يملكه، ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبداً مسلماً، ومنها أن المسلم لا يُقتل بالذمي إلى غير ذلك من الأحكام.
(إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل الخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية.
ومعنى كون الله خادعهم أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه وذلك بأنه تركهم على ما هم عليه من التظهّر بالإسلام في الدنيا فعصم به أموالهم ودماءهم، وأخّر عقوبتهم إلى الدار الآخرة فجازاهم على خداعهم بالدّرك الأسفل من النار.
قال في الكشاف: والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه وقال الحسن: في قوله (يخادعون الله) يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفيء نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم، فتلك خديعة الله إياهم، وعن السدي ومجاهد وسعيد بن جبير نحوا نحوه ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير فإن مثله لا ينقل إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(وإذا قاموا إلى الصلاة) مع المؤمنين (قاموا كسالى) جمع كسلان والمراد أنهم يصلّون وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، وقرىء كسلى والكسل الفتور والتواني وأكسل إذا جامع ولم ينزل وفتر.
(يراؤون الناس) أي لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة لا
(ولا يذكرون الله إلا) ذكراً (قليلاً) أو لا يصلّون إلا صلاة قليلة، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص أو لكونه غير مقبول أو لكونه قليلاً في نفسه، لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خالياً كالمخلص، قال ابن عباس: إنما قلّ ذلك لأنهم يفعلونه رياء سمعة ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله لكان كثيراً.
عن ابن جريج في الآية قال نزلت في عبد الله بن أُبَيّ وأبي عامر بن النعمان، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً (١).
_________
(١) أخرج الإمام مسلم ١/ ٤٥١ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - " إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ". وفي " المسند " عن أبي هريرة رضي الله عنه " ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار " وروى الإمام مالك في " الموطأ " ١/ ٢٢٠ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - ﷺ -: " تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً " ورواه مسلم ١/ ٤٣٤، والترمذي ١/ ٣٠١، والنسائي ١/ ٢٥٤.
قال في الكشاف: وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين مرة بعد أخرى أي يذاد ويدفع فلا يقر في جانب واحد، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى، وانتصاب مذبذبين إما على الحال أو على الذم.
(لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) أي لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، قال مجاهد: هم المنافقون لا إلى هؤلاء أي أصحاب محمد - ﷺ -، ولا إلى هؤلاء أي اليهود.
وثبت في الصحيح عن ابن عمر عن النبي - ﷺ - قال " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة فلا تدري أيهما تتبع (١) " العائرة بالعين المهملة المتحيرة المترددة، ومعنى تعير تتردد وتذهب يميناً وشمالاً، مرة إلى هذه ومرة إلى هذه لا تدري إلى أين تذهب.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٥٧٢٩. زاد السير/٢٣٢.
(أتريدون) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال أتجعلون للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه لا ينبغي أن يصدر عن العاقل إرادته فضلاً عن صدور نفسه (أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً) أي حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين (١).
قال قتادة: إن لله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذراً مبيناً، وعن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة والله سبحانه أعلم، والسلطان يذكر ويؤنث فتذكيره باعتبار البرهان، وتأنيثه باعتبار الحجة إلا أن التأنيث أكثر عند الفصحاء، وقال الفراء: التذكير أشهر وهي لغة القرآن.
_________
(١) رواه الإمام أحمد ٧/ ١٢٩، ومسلم ٤/ ٢١٤٦ وابن جرير ٩/ ٣٣٣. والشاة العائرة: هي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع، من قولهم: عار الفرس والكلب وغيرهما يعير عياراً: إذا ذهب كأنه منفلت من صاحبه، فهو يتردد هنا وهنا. وقوله: تعير إلى هذه مرة. أي: تذهب في ترددها إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة.
والدرك الطبقة والنار دركات سبع بعضها فوق بعض، وسميت طبقاتها دركات لأنها متداركة متتابعة، فالمنافق في الدرك الأسفل منها وهي الهاوية لغلظ كفره وكثرة غوائله، وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، وقد يسمى جميعها باسم الطبقة العليا أعاذنا الله من عذابها.
وقيل الدرك بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم، وإنما كان المنافق أشد عذاباً من الكافر لأنه أمن السيف في الدنيا فاستحق الدرك الأسفل في الآخرة تعديلاً، ولأنه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله.
قال ابن مسعود: الدرك الأسفل توابيت من حديد مقفلة عليهم، وفي لفظ مبهمة عليهم، أي مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها، وعن أبي هريرة نحوه (١).
(ولن تجد لهم نصيراً) يخلصهم من ذلك الدرك، والخطاب لكل من يصلح له أو للنبي - ﷺ -
_________
(١) زاد المسير ٢٣٤.
(فأولئك) الذين اتصفوا بالصفات السابقة الأربعة والإشارة بما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة. وعلو الطبقة (مع المؤمنين) فيما يؤتونه، قال الفراء: أي من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلاً.
قال القتيبي: حاد عن كلامهم غضباً عليهم فقال أولئك مع المؤمنين ولم يقل هم المؤمنون انتهى، والظاهر أن معنى (مع) هو معتبر هنا أي فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة ثم بين ما أعد الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال:
(وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً) في الآخرة وحذفت الياء من (يؤتى) في الخط كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله (يوم يدع الداع، وسندع الزبانية، ويوم يناد المناد) ونحوها فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين، فجاء الرسم تابعاً للفظ، والقراء يقفون عليه دون ياء اتباعاً للخط الكريم إلا يعقوب والكسائي وحمزة فإنهم يقفون بالياء نظراً إلى الأصل.
_________
(١) قال السيوطي في " الدر " ٢/ ٢٣٦ رواه ابن أبي شيبة، وهناد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في صفة الناس عن ابن مسعود. قلت: وفي سنده انقطاع، لأن خيثمة بن عبد الرحمن الراوي عن ابن مسعود لم يسمع منه، ذكره الإمام أحمد، ورواه ابن أبي حاتم من طريق حماد ابن سلمة: أخبرنا علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن أن ابن مسعود... وعلي بن يزيد ضعيف، والقاسم بن عبد الرحمن صدوق يرسل كثيراً وفي " الطبري " ٩/ ٣٣٩ عن أبي هريرة (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) قال: " في توابيت ترتج عليهم " وفي تفسير ابن كثير ١/ ٥٧٠: ووراه ابن أبي حاتم بسند حسن، ولفظه: " الدرك الأسفل: بيوت لها أبواب تطبق عليهم، فتوقد من تحتهم ومن فوقهم ".
والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظُلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ " ليُّ الواجد ظلم يُحلّ عرضه وعقوبته ".
وأما على القراءة الثانية فالاستثناء منقطع أي إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءاً فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه، وعن ابن عباس قال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه، وإن يصبر فهو خير له.
وقد أخرج ابن أبي شيبة والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من دعا على من ظلمه فقد انتصر (١)، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المتسابان ما قالاه فعلى الباديء منهما ما لم يعتد المظلوم (٢).
قال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ولكن ليقل اللهم أعِني عليه اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بيني وبين ما يريد ونحوه من الدعاء.
وقيل نزلت في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه فله أن يشكو ما صنع به، وبه قال مجاهد والأول أولى (٣).
_________
(١) ضعيف الجامع/٥٥٨٨.
(٢) مسلم ٢٥٨٧.
(٣) ابن جرير ٩/ ٣٤٧ ونسبه السيوطي في " الدر " للفريابي وعبد بن حميد وجاء في " تفسير ابن كثير " ١/ ٥٧٠: قال ابن عباس في تفسير الآية: يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله. (إلا من ظلم) وإن صبر فهو خير له.
-[٢٨٢]-
وروى أبو داود [٢/ ١٥٧] عن عائشة قالت: سرق لها شيء، فجعلت تدعو عليه، فقال النبي - ﷺ -: " لا تسبخي عنه " (قال الخطابي: لا تسبخي عنه، أي: لا تخففي عنه بدعائك) وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه. وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه لكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، لقوله: " (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) وروى أبو داود [٤/ ٣٧٧]، عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " المستبان ما قالا فعلى الباديء منهما ما لم يعتد المظلوم " [قلت: ورواه أحمد في المسند/١٩٤١٤ والبخاري في " الأدب المفرد " ١/ ٥١٢، ومسلم ٤/ ٢٠٠٠، والترمذي ٣/ ١٣٩.
(وكان الله سميعاً عليماً) هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به.
ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل فقال:
_________
(١) مسند أحمد/٢ - ٤٢٦
(إن الذين يكفرون بالله ورسله) لما فرغ سبحانه عن ذكر المشركين والمنافقين، ذكر الكفار من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة والكفر بذلك كفر بالله.
وينبغي حمل هذه الآية على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعاً، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله، ولا بجميع رسله لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفراً بالله وبجميع الرسل.
(ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) يعني أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله فكان ذلك تفريقاً بين الله وبين رسله (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) وهم اليهود آمنوا. بموسى وكفروا بعيسى ومحمد، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك) أي الإيمان والكفر (سبيلاً) أي ديناً متوسطاً بينهما.
قال قتادة: أولئك أعداء الله اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة وبموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله، وعن السدي وابن جريج نحوه.
(وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) يهانون فيه في الآخرة وهو عذاب النار، وإنما أظهر في مقام الإضمار ذماً لهم وتذكيراً لوصفهم أو المراد جميع الكافرين.
(أولئك) يعني من هذه صفتهم (سوف يؤتيهم أجورهم) يعني جزاء إيمانهم بالله وبجميع كتبه ورسله وثواب أعمالهم (وكان الله غفوراً رحيماً) يستر السيئآت ويقبل الحسنات، والآية تدل على بطلان قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة ممن آمن بالله ورسله.
(فأخذتهم الصاعقة) هي النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم (بظلمهم) في سؤالهم الباطل لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة، ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد غلط غلطاً بيناً.
ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات بل ضموا إليه ما هو أقبح منه وهو عبادة العجل (ثم اتخذوا العجل) إلهاً، وفي الكلام تقدير أي فأحييناهم فاتخذوا العجل (من بعد ما جاءتهم البينات) البراهين والدلائل والمعجزات الواضحات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها لا التوراة لأنها لم تنزل عليهم بعد.
(فعفونا عن ذلك) أي عما كان منهم من التعنت وعبادة العجل، وفيه
(وقلنا لهم) على لسان موسى والطور مظل عليهم، قاله الجلال وأبو السعود والنسفي والخازن والبيضاوي، وهذا التقييد سبق قلم لأن قصة فتح القرية كانت بعد خروجهم من التّيه وقصة رفع الجبل فوق رؤسهم كانت عقب نزول التوراة قبل دخولهم التيه.
(ادخلوا الباب) أي باب القرية، قال قتادة: كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس، وقيل هو إيلياء وقيل هو أريحاء وقيل هو اسم قرية، وقيل باب القبة التي كانوا يصلون إليها، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام.
(سجّداً) فخالفوا ودخلوا وهم يزحفون على أستاههم (وقلنا لهم لا تعدوا) أي لا تعتدوا فهو من الإعتداء بدليل إجماع السبعة على اعتدوا منكم (في السبت) فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان، وقد تقدم تفسير ذلك (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) هو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة، وقيل إنه عهد مؤكد باليمين فسمي غليظاً لذلك.
قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم، وقال الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله (فبظلم من الذين هادوا حرمنا) ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم، وقيل المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلاً.
(وكفرهم بآيات الله) أي كتبه التي حرفوها وجحودهم بآياته الدالة على صدق أنبيائه (وقتلهم الأنبياء) يعني بعد قيام الحجة والدلالة على صحة نبوتهم، والمراد بالأنبياء يحيى وزكريا (بغير حق) أي بغير استحقاق لذلك القتل (وقولهم قلوبنا غلف) جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول.
وقيل إن غلف جمع غلاف والمعنى أن قلوبهم أوعية للعلم فلا حاجة
(بل طبع الله عليها بكفرهم) هذا إضراب عن الكلام الأول أي ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفاً بحسب مقصدهم الذي يريدونه بل بحسب الطبع من الله عليها، والطبع الختم، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة وهي مطبوع من الله عليها بسبب كفرهم فلا تعي وعظاً، أي أحدث عليها صورة مانعة عن وصول الحق إليها، وقيل الباء للآلة.
(فلا يؤمنون إلا) إيماناً أو زماناً (قليلاً) أو إلا قليلاً منهم كعبد الله بن سلام ومن أسلم منهم معه وجرى عليه البيضاوي وغيره.
(وقولهم على مريم بهتاناً) هو الكذب المفرط الذي يتعجب منه، وهو هنا رميها بيوسف النجار، وكان من الصالحين، وقال ابن عباس: رموها بالزنا وإنما سماه (عظيماً) لأنه قد ظهر عند ولادة مريم من المعجزات ما يدل على براءتها من ذلك.
(وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم) هو من جملة جناياتهم، وذنوبهم لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه وافتخروا بقتله، قال أبو حيان: لم نعلم كيفية القتل ولا من ألقي عليه الشَّبه ولم يصح بذلك حديث.
(رسول الله) ذكروه بالرسالة استهزاء لأنهم ينكرونها ولا يعترفون بأنه نبي، أو هذا من كلامه تعالى لمدحه وتنزيهه عن مغالاتهم فيه، وما ادعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته وإيضاح حقيقته الإنجيل وما فيه هو من تحريف النصارى أبعدهم الله فقد كذبوا وصدق الله القائل في كتابه العزيز:
(وما قتلوه وما صلبوه) جملة حالية (ولكن شبّه لهم) أي ألقي شبه عيسى على غيره حتى قتل وصلب وقيل لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه.
أخرج سعيد بن منصور والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردوية عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين فخرج عليهم من عين في النبت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي إثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيّكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي فقام شاب من أحدثهم سِنّاً فقال له: اجلس ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا فقال: أنت ذاك فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.
وافترقوا ثلاث فرق فقالت طائفة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء فهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عليه (فآمنت طائفة من بني إسرائيل) يعني الطائفة التي آمنت في زمن عيسى (وكفرت طائفة) يعني التي كفرت في زمن عيسى (فأيّدنا الذين آمنوا) في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين.
قال ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عند ابن أبي حاتم قال حدثنا أحمد ابن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس (١).
وصدق ابن كثير فهؤلاء كلهم من رجال الصحيح، وأخرجه النسائي من حديث أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه، وقد رويت قصته عليه السلام من طرق بألفاظ مختلفة، وساقها عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر على صفة قريبة مما في الإنجيل.
(وإن الذين اختلفوا فيه) أي في شأن عيسى وهم النصارى فقال بعضهم قتلناه، وقال من عاين رفعه إلى السماء ما قتلناه.
وقيل إن الاختلاف بينهم هو أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب
_________
(١) تفسير ابن كثير/٥٧٤.
(ما لهم به من علم) من زائدة لتوكيد نفي العلم (إلا اتباع الظن) الاستثناء منقطع وهو الصحيح الذي لم يذكر الجمهور غيره، وهي لغة الحجاز أي لكنهم يتبعون الظن في قتله ولم يعرفوا حقيقة ذلك المقتول هل هو عيسى أو غيره، لأن الظن واتباعه ليس من جنس العلم الذي هو اليقين، إذ الظن الطرف الراجح، وقيل استثناء مما قبله والأول أولى.
قال أبو البقاء إنه متصل لأن العلم والظن يجمعهما مطلق الإدراك انتهى، لا يقال إن اتباع الظن ينافي الشك الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه لأن المراد هنا بالشك التردد كما قدمنا، والظن نوع منه، وليس المراد به هنا ترجح أحد الجانبين.
(وما قتلوه يقيناً) أي قتلاً يقيناً، وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى، وقيل: إنه يعود إلى الظن، قاله ابن عباس، والمعنى ما قتلوا ظنهم يقيناً، قال أبو عبيدة: ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقيناً لقال وما قتلوه فقط، وقيل إن المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم، وقيل المعنى بل رفعه الله إليه يقيناً، وهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعدى بل فيما قبلها.
وذكر السمين فيه خمسة أوجه ولا وجه لهذه الأقوال، والضمائر قبل قتلوه وبعده لعيسى، وذكر اليقين هنا لقصد التهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة.
وقيل كلا الضميرين لعيسى، والمعنى أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابي في عصره، وقيل الضمير الأول لله وقيل إلى محمد - ﷺ -، وبه قال عكرمة وهذا القول لا وجه له لأنه لم يجر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر قبل هذه الآية حتى يرجع الضمير إليه.
وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير، وبه قال جماعة من السلف وهو الظاهر لأنه تقدم ذكر عيسى فكان عود الضمير إليه أولى، والمراد بالإيمان به حين يعاين ملك الموت فلا ينفعه إيمان.
أو عند نزوله في آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة قال ابن عباس: سيدرك أناس من أهل الكتاب عيسى حين يبعث فيؤمنون به، وعنه قال: ليس يهودي يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى، قيل لابن عباس أرأيت إن خر من فوق بيت قال: تكلم به في الهواء، فقيل إن ضرب عنق أحدهم، قال: يتلجلج بها لسانه، وقد روى نحو هذا عنه من طرق، وقال به جماعة من التابعين.
وذهب كثير من التابعين فمن بعدهم إلى أن المراد قبل موت عيسى كما روي عن ابن عباس قبل هذا، وقيّده كثير منهم بأنه يؤمن به من أدركه عند نزوله إلى الأرض حتى تصير الملة كلها إسلامية.
وقال الزجاج: هذا القول بعيد لعموم قوله تعالى (وإن من أهل الكتاب) والذين يبقون يومئذ يعني عند نزوله شرذمة قليلة منهم.
وأجيب بأن المراد بهذا العموم الذين يشاهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله فيؤمنون به، وصحح الطبري هذا القول، وقد تواترت الأحاديث بنزول عيسى حسبما أوضح ذلك الشوكاني في مؤلف مستقل يتضمن ذكر ما ورد في المنتظر والدجال والمسيح، وغيره في غيره.
(ويوم القيامة يكون) عيسى (عليهم) أي على أهل الكتاب (شهيداً) يشهد على اليهود بالتكذيب له والطعن فيه، وعلى النصارى بالغلو فيه حتى قالوا: هو ابن الله، وقال قتادة: يكون شهيداً على أن قد بلغ رسالة ربه وأقر على نفسه بالعبودية.
(فبظلم) الباء للسببية، والتنكير، والتنوين للتعظيم، أي بسبب ظلم عظيم لا بسبب شيء آخر كما زعموا أنها كانت محرمة على من قبلهم (من الذين هادوا) لعل ذكرهم بهذا العنوان للإيذان بكمال ظلمهم بتذكير وقوعه بعدما هادوا أي تابوا ورجعوا عن عبادة العجل (حرّمنا عليهم طيبات أحلّت لهم) الطيبات المذكورة هي ما نصه الله سبحانه في سورة الأنعام (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الآية.
قال الواحدى: وأما وجه تحريم الطيبات عليهم كيف كان ومتى كان وعلى لسان من حرم فلم أجد فيه شيئاً أنتهي إليه فتركته، قال الخازن: ولقد أنصف الواحدي فيما قال فإن هذه الآية في غاية الإشكال انتهى.
قلت: ولهذا لم يذكر الرازي والشوكاني في تفسيرهما ما ذكره المفسرون في معنى الظلم المذكور في الآية وذكرا لها تفسيراً إجمالياً، فكانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها يحرم الله عليهم نوعاً من الطيبات التي كانت حلالاً لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم، وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه، وإنما كانت محرمة على إبراهيم ونوح ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا فكذبهم الله تعالى في مواضع كثيرة وبكتهم بقوله (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة) الآية قاله أبو السعود.
(وبصدّهم) أنفسهم وغيرهم (عن سبيل الله) وهو اتباع محمد ﷺ وبتحريفهم وقتلهم الأنبياء وما صدر منهم من الذنوب المعروفة (كثيراً) أي بصدهم ناساً كثيراً أو صداً كثيراً أو زماناً كثيراً، والأول أولى.
(والمؤمنون) بالله ورسوله، والمراد أما من آمن من أهل الكتاب أو من المهاجرين والأنصار أو من الجميع (يؤمنون بما أنزل إليك) أي القرآن (وما أنزل من قبلك) أي سائر الكتب المنزلة على الأنبياء (والمقيمين الصلاة) قرأ جماعة المقيمون على العطف على ما قبله، وكذا في مصحف ابن مسعود تنزيلاً
وقال الخليل والكسائي: هو معطوف على قوله (بما أنزل إليك) واستبعده الأخفش، ووجهه محمد بن يزيد المبرد.
وعن عائشة أنها سئلت عن المقيمين وعن قوله إن هذان لساحران والصابئون في المائدة فقالت: يا ابن أخي الكتّاب أخطأوا، وروي عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف أتى به قال: أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له ألا تغيره فقال دعوه فإنه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً (١).
_________
(١) قال السخاوي: هذا الأثر ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع، لأن عثمان رضي الله عنه جعل للناس إماماً يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة، وليس فيها اختلاف قط إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟ وقد نقل ابن هشام في شرح " شذور الذهب ": ٥٠ عن الإمام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله أنه قال: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ (إن هذان) لحن، وأن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه:
أحدها: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتسارعون إلى إنكار أدق النكرات، فكيف يقرؤون اللحن في القرآن مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته.
والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف.
والثالث: أن الاحتجاح بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم، لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.
والرابع: أنه قد ثبت في " الصحيح " أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب " التابوت " بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك، ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنه، فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش.
قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسكين: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشرٍ من شيءٍ بعد موسى، فنزلت هذه الآية. سيرة ابن هشام ١/ ٥٦٢، وابن جرير ٩/ ٤٠٠ عن ابن عباس، وفي سنده محمد ابن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال الذهبي: لا يعرف. وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد من بني قينقاع، ذكرهم ابن هشام في " السيرة " في الأعداء من يهود.
وقال الزمخشري في الكشاف: ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوع لحن في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، يعني كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص والمدح من الافتنان وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثلةٍ وشواهد، وربما خفي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبِّ الطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله عز وجل ثلمة يسدَها من بعدهم، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم، انتهى.
وقد رجح سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير واختاره الزجاج، ورجح قول الخليل والكسائي ابن جرير الطبري والقفال.
(والمؤتون الزكاة) عطف على والمؤمنون، لأنه من صفتهم (والمؤمنون) يؤمنون (بالله واليوم الآخر) هم مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولاً بالرسوخ في العلم ثم بالإيمان بكتب الله وأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر، وقيل المراد بهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار من هذه الأمة كما سلف وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف.
(أولئك) أي الراسخون، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم في الفضل (سنؤتيهم) أي سنعطيهم على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره، والسين لتأكيد الوعد (أجراً) ثواباً (عظيماً) وهو الجنة، والتنكير للتفخيم، وهذا الإعراب أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث وعد الأولون بالعذاب الأليم، ووعد الآخرون بالأجر العظيم.
وخص نوحاً لكونه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع وأول نذير على الشرك وأول من عُذّبت أمته لردهم دعوته، وأهلك أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم وأطول الأنبياء عمراً، وصبر على أذى قومه طول عمره، وقيل غير ذلك أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح أو حال كونه مشبهاً بايحائنا إلى نوح.
(والنبيّين من بعده) كهود وصالح وشعيب وغيرهم (وأوحينا إلى إبراهيم) وهو ابن تارخ واسم تارخ آزر (و) بعث بعده (إسمعيل) فمات بمكة (وإسحق) أي ثم بعث أخاه اسحق فمات بالشام (ويعقوب) وهو إسرائيل ابن اسحق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن نويب ثم هود بن عبد الله ثم صالح بن أسف ثم موسى وهرون ابني عمران ثم أيوب ثم الخضر ثم داود بن ايشا ثم سليمان بن داود ثم يونس بن متى ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدياً وهو من سبط يهوذا بن يعقوب وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران ألف سنة وسبعمائة سنة.
قال الزبير بن بكار: كل نبي ذُكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح وهود ولوط وصالح، ولم يكن من العرب الأنبياء إلا خمسة هود
(والأسباط) هم أولاد يعقوب وكانوا إثني عشر، ومنهم يوسف نبي رسول باتفاق، وفي البقية خلاف (وعيسى وأيوب ويونس) فيه ست لغات أفصحها واو خالصة ونون مضمومة وهي لغة الحجاز (وهرون وسليمان) وخص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفاً لهم كقوله (وملائكته ورسله وجبريل).
وقدم عيسى على أيوب ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه رداً على اليهود الذين كفروا به، وأيضاً فالواو ليست إلا لمطلق الجمع، والمعنى أن الله تعالى أوحى إلى هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه الآية وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك، وما أنزل الله على أحد من هؤلاء كتاباً جملة واحدة، فلما لم يكن ذلك قادحاً في نبوتهم فكذلك لم يكن إنزال القرآن مفرقاً على محمد قادحاً في نبوّته بل قد أنزل عليه كما أنزل عليهم.
(وآتينا داود زبوراً) أي كتاباً مزبوراً يعني مكتوباً، والزبور بالفتح كتاب داود، قال القرطبي: وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام وإنما هي حكم ومواعظ انتهى.
قلت: هو مائة وخمسون مزموراً، والمزمور فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ويدعو الله عليهم ويستنصره، وتارة يأتي بمواعظ وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئاً من الآلات التي لها نغمات حسنة كما هو مصرح بذلك في كثير من تلك المزمورات، والزبر والكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب كالرسول والحلوب والركوب.
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود، أخرجه الشيخان (١)، قال الحميدي: زاد البرقاني قلت: والله يا رسول الله لو علمت أنك تسمع لقراءتي لحبَّرتها لك تحبيراً، والتحبير تحسين الصوت بالقراءة، وإنما لم يذكر موسى في هذه الآية لأن الله أنزل عليه التوراة جملة واحدة (٢).
_________
(١) مسلم ٧٩٣ والبخاري/٢٠٩٧.
(٢) قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسكين: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشرٍ من شيءٍ بعد موسى، فنزلت هذه الآية سيرة ابن هشام ١/ ٥٦٢، وابن جرير ٩/ ٤٠٠ عن ابن عباس، وفي سنده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال الذهبي: لا يعرف. وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد من بني قينُقاع، ذكرهم ابن هشام في " السيرة " في الأعداء من يهود.
وقيل إنه لما قص الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى فنزل (وكلّم الله موسى) بلا واسطة أي أزال عنه الحجاب حتى سمع كلام الله سبحانه، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي خصّ به موسى من بينهم، ولم يكن ذلك قادحاً
قرأ الجمهور برفع الاسم الشريف على أن الله هو الذي كلم موسى، وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب بنصب الاسم الشريف على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه، و (تكليماً) مصدر مؤكد، وفائدة التأكيد دفع توهم كون التكليم مجازاً كما قال الفراء أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر، فإذا أُكد لم يكن إلا حقيقة الكلام.
قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً، وفيه ردّ على من يقول إن الله خلق كلاماً في محل فسمع موسى ذلك الكلام.
وأخرج أبو يعلى والحاكم بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: كان فيمن خلا من إخواني الأنبياء ثمانية آلاف نبي ثم كان عيسى ثم كنت أنا بعده (٢).
_________
(١) مسند أحمد ٥/ ١٧٨.
(٢) المستدرك ٢/ ٥٩٨.
(رسلاً مبشّرين) لأهل الطاعات بالجنة (ومنذرين) لأهل المعاصي بالعذاب (لئلا) اللام لام كي وتتعلق بمنذرين على المختار للبصريين، وبمبشرين عند الكوفيين، فإن المسألة من باب التنازع، والأول أولى، وله في القرآن نظائر، وقيل تتعلق بمحذوف أي أرسلناهم كيلاً:
(يكون للنّاس على الله حجّة) أي معذرة يعتذرون بها كما في قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتَّبع آياتك) وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة تنبيهاً على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضّلاً منه ورحمة.
(بعد) إرسال (الرسل) وإنزال الكتب وفيه دليل على أنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس عليه حجة في ترك التوحيد والطاعة، وعلى أن الله لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسل كما قال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وفيه حجة لأهل السنة على أن معرفة الله لا تثبت إلا بالسمع (وكان الله عزيزاً) لا يغالبه مغالب (حكيماً) في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين، وفي لفظ مسلم ولا شخص أحب إليه العذر من الله، الحديث (١).
_________
(١) مسلم ٢٧٥٠ والبخاري ٢٠٠٣.
(لكن الله يشهد بما أنزل إليك) هذا الاستدراك من محذوف مقدر كأنهم قالوا ما نشهد لك يا محمد بهذا أي الوحي والنبوة فنزل (لكن الله يشهد) وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل هذا القرآن البالغ في الفصاحة والبلاغة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن المعارضة والإتيان بمثله فكان ذلك معجزاً، وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي صادقاً لا جرم قال الله تعالى ذلك.
(أنزله بعلمه) جملة حالية أي متلبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره من كونك أهل لما أصطفاك الله له من النبوة وأنزله عليك من القرآن واستعدادك لاقتباس الأنوار القدسية، وفيه نفي قول المعتزلة في إنكار الصفات فإنه أثبت لنفسه العلم، وقيل العلم هنا بمعنى المعلوم أي بمعلومه مما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم.
(والملائكة يشهدون) بأن الله أنزله عليك ويشهدون بتصديقك، وإنما عرفت شهادة الملائكة لأن الله تعالى إذا شهد بشيء شهدت الملائكة به (وكفى بالله شهيداً) على صحة نبوتك حيث نصب لها معجزات باهرة وحججاً ظاهرة مغنية عن الاستشهاد بغيرها وإن لم يشهد معه أحد.
وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شهادة أهل الكتاب له، وشهادة الله سبحانه هي ما نصبه من المعجزات الدالة على صحة النبوة فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصدق ما أخبر به
_________
(١) سيرة ابن هشام ٢/ ٢١١ وابن جرير ٩/ ٤٩ عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله - ﷺ - جماعة من يهود، فقال لهم: " إني لأعلم والله أنكم لتعلمون أني رسول الله " فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله عز وجل:. (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً) وزاد السيوطي نسبته في " الدر " ٢/ ٢٤٨ إلى ابن المنذر، والبيهقي في " الدلائل ". قلت: وفي سنده محمد مولى زيد بن ثابت وهو مجهول كما تقدم.
تفسير ابن كثير ١/ ٥٨٩.
(قد ضلّوا ضلالاً بعيداً) عن الحق والصواب بما فعلوا لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق، فجمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد من الانقطاع منه.
(خالدين فيها) وهي حال مقدرة (أبداً) منصوب على الظرفية توكيد خالدين وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل (وكان ذلك) أي تخليدهم في جهنم أو ترك المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم (على الله يسيراً) لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء من مراداته إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
(فآمنوا) قال سيبويه والخليل أي اقصدوا أو آتوا (خيراً لكم) وقال الفراء: فآمنوا إيماناً خيراً لكم، وقال أبو عبيدة والكسائي: فآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم، وأقوى هذه الأقوال الثالث ثم الأول ثم الثاني على ضعف فيه.
(وإن تكفروا) أي وإن تستمروا على كفركم وتجحدوا رسالة محمد - ﷺ - وتُكذّبوا بما جاءكم به من الحق (فإن لله ما في السموات والأرض) من مخلوقاته وأنتم من جملتهم، ومن كان خالقاً لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم.
ففي هذه الجملة وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان، لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله) وهو يعم ما اشتملتا عليه وما تركبتا منه (وكان الله عليماً) بمن يؤمن ومن يكفر (حكيماً) لا يسوي بينهما في الجزاء.
فمن الإفراط غلوّ النصارى في عيسى حتى جعلوه رباً، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة، وما أحسن قول الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد | كلا طرفي قصد الأمور ذميم |
(وكلمته) أي كونه بقوله كن فكان بشراً من غير أب، وقيل كلمته بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) وقيل الكلمة هاهنا بمعنى الآية ومنه (وصدّقت
وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله فيقال هذا روح من الله أي من خلقه كما يقال في النعمة أنها من الله.
وقيل روح منه أي من خلقه كما قال تعالى (وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) أي من خلقه، وقيل رحمة منه، وقيل برهان منه، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه.
والمعنى روح كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ، والمعنى ليس هو كما زعمتم ابن الله وإلهاً معه أو ثالث ثلاثة لأن ذا الروح مركّب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركّب إليه.
وعن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله، هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر، فتناول عوداً من الأرض فرفعه فقال يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه.
وعن ابن مسعود بأطول من هذا. وأخرج البخاري عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (١).
_________
(١) صحيح الجامع ٧٢٤٠.
(فآمنوا بالله ورسله) أي بأنه سبحانه إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ وبأن رسله صادقون مبلّغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم فتجعلوا بعضهم آلهة (ولا تقولوا ثلاثة) قال الزجاج أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة.
وقال الفراء وأبو عبيد أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله سيقولون ثلاثة، وقال أبو علي الفارسي: لا تقولوا هو ثالث ثلاثة فحذف المبتدأ والمضاف، والنصارى مع تفرّق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة الثلاثة الأقانيم فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً وله ثلاثة أقانيم ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود وأقنوم الحياة وأقنوم العلم، وإنما يعبرون عن الأقنانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود وبالروح الحياة وبالابن المسيح، وقيل المراد بالآلهة الثلاثة الله سبحانه وتعالى ومريم والمسيح.
وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً، ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها اسم الإنجيل عندهم على اختلاف كثير في عيسى، فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان وتارة يوصف بأنه ابن الله وتارة يوصف بأنه ابن الرب، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين.
والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة والإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين.
_________
(١) صحيح الجامع ٦١٩٦.
وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام.
وكلام الله أصدق وكتابه أحقّ، وقد أخبرنا أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم وأن الزبور كتابه آتاه داود: وأنزله عليه.
(انتهوا خيراً لكم) أي انتهوا عن التثليث ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وانتصاب خيراً هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله فآمنوا خيراً لكم.
(إنّما الله إله واحد) لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد (سبحانه) أي أسبحه تسبيحاً عن (أن يكون له ولد) لأن الولد جزء من الأب، وهو متعال عن التجزئة وصفات الحدوث ولكن جعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور.
(له ما في السموات وما في الأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً، وما جعلتموه له شريكاً أو ولداً هو من جملة ذلك والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً ولا ولداً (وكفى بالله وكيلاً) مستقلاً بتدبير خلقه يكل الخلق أمورهم إليه، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فلا حاجة إلى ولد يعينه، وقيل شهيداً على ذلك.
قال الزجاج: استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خديك، وقيل هو من النّكف وهو العيب يقال ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي عيب، ومعنى الأول لن يأنف عن العبودية ولن يتنزه عنها، ومعنى الثاني لن يعيب العبودية ولن ينقطع عنها.
(ولا الملائكة المقربون) أي ولن يستنكف حملة العرش وأفاضل الملائكة مثل جبريل وغيره عن أن يكونوا عباداً لله، وهذا من أحسن الاستطراد، ذكر للردّ على من زعم أنها آلهة أو بنات الله كما رد بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم.
وقد استدل بهذا القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسن ولا يغني من جوع، وادعى أن الذوق قاض بذلك، ونعم الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب، وشابه شوائب الجمود كان هكذا.
(ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر) أي يأنف تكبراً ويعد نفسه كبيراً على العبادة (فسيحشرهم إليه جميعاً) المستنكف وغيره فيجازي كلاًّ بعمله، لا يملكون لأنفسهم شيئاً، وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أول الكلام عليه ولكون الحشر لكلا الطائفتين.
وأخرج ابن المنذر وغيره بسند ضعيف عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا، وقد ساقه ابن كثير في تفسيره ثم قال هذا إسناد لا يثبت وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً فهو جيد (١).
(وأمّا الذين استنكفوا واستكبروا) عن عبادته (فيعذّبهم) بسبب استنكافهم واستكبارهم (عذاباً أليماً) هو عذاب النار (ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً) يواليهم (ولا نصيراً) ينصرهم.
_________
(١) ابن كثير ١/ ٥٩٢.
والبرهان ما يبرهن به على المطلوب، قال قتادة: البرهان البينة؛ وقال مجاهد: الحجة وقيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقدير كائن من ربكم أو من براهين ربكم، وقيل من لإبتداء الغاية.
(وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) وهو القرآن وسماه نوراً لأنه يهتدى به من ظلمة الضلال.
(وفضل) يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهب الجنة (ويهديهم إليه) أي إلى امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه وتفضله، قال أبو علي الفارسي: الهاء في إليه راجعة إلى ما تقدم من اسم الله، وقيل إلى القرآن وقيل إلى الفضل وقيل إلى الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب، وأخر هذا مع أنه سابق في الوجود الخارجي على ما قبله تعجيلاً للمسرة والفرح على حد: سعد في دارك.
(صراطاً) أي طريقاً يسلكونه إليه (مستقيماً) لا عوج فيه وهو التمسك بدين الإسلام وترك غيره من الأديان.
(يستفتونك) ختم السورة بذكر الأموال كما أنه افتتحها بذلك لتحصل المشاكلة بين المبدأ والختام، وجملة ما في هذه السورة من آيات المواريث ثلاثة
الأولى: في بيان إرث الأصول والفروع.
والثانية: في بيان إرث الزوجين والأخوة والأخوات من الأم.
والثالثة: وهي هذه في إرث الأخوة والأخوات الأشقاء أو لأب، وأما أولو الأرحام فمذكورون في آخر الأنفال، والمستفتي عن الكلالة هو جابر كما سيأتي، وعن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله هذه الآية.
(قل الله يفتيكم في الكلالة) قد تقدم الكلام في الكلالة في أول هذه السورة واسم الكلالة يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الأول فهم من سوى الوالد والولد، وإن وقع على الثاني فهو من مات ولا يرثه أحد الأبوين ولا أحد الأولاد.
قد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال: دخل عليّ رسول الله - ﷺ - وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صَبّ علي فعقلت فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث فنزلت آية الفرائض، وعنه عند ابن سعد وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت في قل الله يفتيكم في الكلالة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا، وقد أوضحنا الكلام لغة وخلافاً واستدلالاً وترجيحاً في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة فلا نعيده.
(إن امرؤ هلك) أي إن هلك امرؤ، هلك كما تقدم في قوله: (وإن امرأة خافت) والمعنى مات وسمي الموت هلاكاً لأنه إعدام في الحقيقة (ليس له ولد) إما صفة لامرؤ أو حال كما قاله صاحب الكشاف، ولا وجه للمنع من كونه حالاً والأول رجحه الكرخي.
والولد يطلق على الذكر والأنثى، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة اتكالاً على ظهور ذلك، قيل والمراد هنا الابن وهو أحد معنيي المشترك لأن البنت لا تسقط الأخت.
(وله أخت) المراد بالأخت هنا هي الأخت لأبوين أو لأب لا لأم فإن فرضها السدس كما ذكر سابقاً (فلها) أي لأخت الميت (نصف ما ترك).
وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة للبنات وإن لم يكن معهن أخ، وذهب ابن عباس إلى أن الاخوات لا يعصبن البنات، وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة،
وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذاً قضى على عهد رسول الله - ﷺ - في بنت وأخت فجعل للبنت النصف، وللأخت النصف، وكذا صح أن النبي - ﷺ - قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي، فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت.
(وهو) أي الأخ (يرثها) أي كذلك يرث الأخت جميع ما تركت (إن لم يكن لها ولد) ذكر، إن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع ما تركته، وإن كان المراد ثبوت ميراثه لها فالجملة أعمّ من يكون كلاًّ أو بعضاً صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى، فإن كان لها ولد ذكر فلا شيء له أو أنثى فله ما فضل عن نصيبها، ولو كانت الأخت أو الأخ من أم ففرضه السدس كما تقدم في أول السورة.
واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر لأن المراد بيان سقوط الأخ مع الولد فقط هنا، وأما سقوطه مع الأب فقد تبين بالسنة كما ثبت في الصحيح من قوله - ﷺ - ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر، والأب أولى من الأخ (١).
(فإن كانتا) أي فإن كان من يرث بالإخوة (اثنتين) أي أختين فصاعداً لأنها نزلت في جابر وقد مات عن أخوات سبع أو تسع والعطف على
_________
(١) مسلم/١٦١٥ والبخاري/٢٤٩٦.
(وإن كانوا) أي من يرث بالإخوة (إخوة) أي وأخوات فغلب المذكور على الإناث أو فيه اكتفاء بدليل (رجالاً ونساء) أي مختلطين ذكوراً وإناثاً (فللذّكر) منهم (مثل حظ الأنثيين) تعصيباً (يبين الله لكم) حكم الكلالة وسائر الأحكام كراهة (أن تضلّوا) هكذا حكاه القرطبي عن البصريين وبه قال في الكشاف وتبعه القاضي ورجحه.
وقال الكسائي: المعنى لئلا تضلوا، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين قال أبو عبيد: رويت للكسائي حديث ابن عمر لا يدعو أحدكم على ولده أن يوافق من الله ساعة إجابة فاستحسنه أي لئلا يوافق (والله بكل شيء) من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها (عليم) أي كثير العلم يعلم مصالح العباد، في المبدأ والمعاد، وفيما كلفهم من الأحكام.
وهذه السورة اشتمل أولها على كمال تنزه الله وسعة قدرته، وآخرها اشتمل على بيان كمال العلم وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والألوهية والجلال والعزة، وبهما يجب أن يكون العبد منقاداً للتكاليف، قاله أبو حيان.
روى الشيخان عن البراء أنها آخر آية نزلت من الفرائض، وروي عن ابن عباس: آخر آية نزلت آية الربا، وآخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح وروي أنه - ﷺ - بعد ما نزلت سورة النصر عاش عاماً ونزلت بعدها براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة، فعاش - ﷺ - بعدها ستة أشهر، ثم نزلت في طريق حجة الوداع (يستفتونك) الآية فسُمّيت آية الصيف لأنها نزلت في الصيف، ثم نزلت وهو واقف بعرفة (اليوم أكملت لكم دينكم) فعاش بعدها واحداً وثمانين يوماً ثم نزلت آية الربا ثم نزلت (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) فعاش بعدها واحداً وعشرين يوماً.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدةهي مائة وثلاث وعشرون آية، قال القرطبي: هي مدنية بالإجماع، وبه قال قتادة، وعن محمد ابن كعب قال إنها نزلت في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة، وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " المائدة في آخر القرآن تنزيلاً. فأحلوا حلالها وحرموا حرامها، ورد هذا الحديث من قول عائشة وليس هو بحديث عن رسول الله وقد ساقه ابن كثير ج ٢ ص ٢.
وعن عمر بن شرحبيل قال: لم يسنخ من المائدة شيء، وقال الشعبي إلا هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ)، وزاد ابن عباس: (فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال ميسرة: إن الله أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها من سور القرآن وهي قوله: (وَالمُنْخَنِقَةُ) إلى قوله: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْت).
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)