تفسير سورة التوبة

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ
تفسير سورة التوبة
نقض عهود المشركين
اختصت سورة التوبة أو سورة براءة المدنية النزول بترك البسملة في أولها لأنها نزلت في السنة التاسعة من الهجرة في غزوة تبوك لرفع الأمان ونقض العهود مع المشركين بسبب نقض الكثيرين منهم عهودهم مع النبي صلّى الله عليه وسلم.
قال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم (١) أمان وبشارة، و (براءة) نزلت بالسيف ونبذ العهود، فلذلك لم تبدأ بالأمان.
قال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٤]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [التوبة: ٩/ ١- ٤].
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون عاهدوا المشركين العرب من أهلة مكة وغيرهم في صلح الحديبية سنة ست هجرية، ثم بادر المشركون إلى نقض العهد إلا بني ضمرة وبني
(١) تبرؤ ظاهر معلن.
(٢) غير فائتين من عذابه بالهرب.
(٣) إعلان. [.....]
(٤) يوم الوقوف بعرفة ويوم النحر.
(٥) أي ورسوله بريء منهم.
(٦) لم يعاونوا.
828
كنانة، فأمر الله تعالى بإعلان انتهاء المعاهدات مع المشركين الناكثين عهودهم، وإمهالهم أربعة أشهر ليسيروا أين شاؤوا، فإذا انتهت هذه المدة وانقضت الهدنة قاتلوهم في أي مكان.
هذه الآية حكم من الله عز وجل بنقض العهود والموادعات التي كانت بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبين طوائف المشركين الذين ظهر منهم بوادر نقض العهد. واستمر حكم العهد والميثاق مع المشركين الذين لم ينقضوا العهد.
ومعنى الآية: تبرؤ وتخلص صادر من الله ورسوله واصل إلى الذين عاهدتم من المشركين، ونسبت البراءة إلى الله والرسول لأنها تشريع جديد من الله، وأمر لرسوله بتنفيذه. والمقصود: أن الله في حكمه وشرعه بريء من عهود المشركين وأديانهم براءة عامة تقتضي المحاربة وإعمال السيف، بعد أن رفضوا أمان الإسلام، ونقضوا عهدهم مع المسلمين. وبادر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى إعلام المشركين بنقض العهد، فأمّر أبا بكر في السنة التاسعة على إمارة الحج، وقام علي رضي الله عنه بإعلام الناس يوم عرفة بهذه الآية، إثر خطبة أبي بكر، ثم رأى الرسول أنه لم يعلم الناس بالإعلان، فتتبعهم بالأذان بهذه الآية وإعلامهم بها يوم النحر، وبعث أبو بكر مع علي من يعينه بذلك كأبي هريرة رضي الله عنه وغيره، فأعلموهم بها في أسواق العرب كذي المجاز وغيره، وحددت لهم مدة الهدنة بأربعة أشهر وهي عشرون من ذي الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر. وكان تحديد هذه المدة ليفكروا في أمرهم، فيختاروا إما الإسلام وإما القتال. وأنذرهم الله بأن يعلموا علم اليقين أنهم لن يفلتوا من عذاب الله بالهرب والتحصين إن بقوا على الشرك وعداوة الإسلام، وأن الله مخزيهم، أي مذلهم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالعذاب في النار.
وتضمنت الآية إعلان براءتين: البراءة الأولى مختصة بالمعاهدين والناقضين العهد
829
منهم، والبراءة الثانية المعبر عنها بالأذان من الله ورسوله عامة لجميع الناس، من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث عهده من المعاهدين ومن لم ينكث، وكان إعلان البراءتين يوم الحج الأكبر وهو يوم عرفة، حيث وقع أول الأذان أي الاعلام، ثم يوم النحر حيث وقع إكمال الأذان.
وصيغة الإعلان هي كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان»
وقال علي أيضا: «ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد، فأجله أربعة أشهر، وأن يتم إلى كل ذي عهده عهده».
ثم أكد الله تعالى الاعلام أو التبليغ الفوري فقال: فَإِنْ تُبْتُمْ.. أي فإن تاب المشركون بعد هذا الإعلان عن الشرك فهو خير لهم، أي أنفع لهم في الدنيا والآخرة، وإن تولوا عن الإيمان وأعرضوا عن الإسلام، فليعلموا أنهم غير معجزي الله، أي غير فائتي عذابه، فإنهم لن يفلتوا منه، فإنه محيط بهم، ومنزل عقابه عليهم، ولا طاقة لهم بحرب الله في الدنيا، وأمر النبي أن يبشرهم- على سبيل التهكم- بعذاب مؤلم شديد في الآخرة.
ثم استثنى الله تعالى من مدة الأربعة الأشهر أصحاب العهود المؤقتة بمدة معينة، فإن عهدهم ينتهى بانتهاء المدة التي عوهدوا عليها، فهؤلاء تحترم عهودهم، ما داموا لم يخلّوا بشيء من شروط العهد، ولم يعاونوا على المسلمين عدوا، كبني ضمرة وبني كنانة، لأن الله يحب المتقين، أي الموفين بعهدهم. قال ابن عباس: بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتم إليهم عهدهم.
830
قتال مشركي العرب وأمانهم
أوجب الله تعالى على المؤمنين قتال مشركي العرب في أي مكان إذا لم يؤمنوا لأنهم عدة الإسلام وقاعدته، ومنطلق الدعوة الإسلامية إلى الناس قاطبة وعليهم مسئولية تبليغ الرسالة الإلهية، فإما أن يكونوا على مستوى المسؤولية أو يبادوا، ويتحمل الأمانة جيل آخر يكون أقدر على فهم الواجب والتفاعل مع متطلبات المهام الكبرى المنوطة بهم، وقد فتح الله باب الأمل أمامهم، فسمح لهم بالمجيء إلى ساحة القرآن والوحي الإلهي ليفكروا فيما أنزل الله، عن طريق منح الأمان المشروع لكل طالب سماع كلام الله، قال الله تعالى مبينا هذين الحكمين المتلازمين: وهما القتال والأمان:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥ الى ٦]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
«١» «٢» «٣» [التوبة: ٩/ ٥- ٦].
تسمى الآية الأولى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ.. آية السيف، إذ جاء فيها الأمر بالقتال العام، ومعناها إذا انقضت الأشهر الأربعة الحرم، أي التي حرم فيها القتال بين المسلمين والمشركين، وهي مدة الهدنة، من يوم النحر (الأضحى) إلى العاشر من ربيع الآخر، فافعلوا أيها المؤمنون مع المشركين ما يحقق المصلحة، ويهيئ للمسؤولية والمهام العظمى الملقاة على عاتق الأمة العربية، واتّخذوا معهم أحد التدابير الآتية:
إما القتال والقتل في أي مكان وجدوا فيه، من حرم مكة أو غيره، وإما أخذهم أسرى إن شئتم، وإما محاصرتهم في قلاعهم وحصونهم ومنعهم من الخروج منها حتى
(١) انقضت ومضت.
(٢) حاصروهم وضيقوا عليهم.
(٣) كل طريق ومعبر.
831
يسلموا، وإما القعود لهم في كل مرصد، أي مراقبتهم في كل موضع حتى يختاروا إما الإسلام أو القتال، وهذا خاص بمشركي العرب فقط. فإن تابوا عن الشرك الذي حملهم على قتال المسلمين وعداوتهم، وأعلنوا الإسلام وأدوا أركانه من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فخلّوا سبيلهم، واتركوهم وشأنهم واعلموا أن الله غفور لمن استغفره، رحيم بمن تاب إليه، وهذا وعد بالمغفرة في صيغة الخبر عن أوصافه تعالى، لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
والتنبيه بالذات على إقامة الصلاة، لأنها أشرف أركان الإسلام الذاتية بعد الشهادتين، وبعدها أداء الزكاة التي هي أشرف الأفعال الاجتماعية، التي تحقق مضمون التكافل أو التضامن الاجتماعي، وتعالج مشكلة الفقر، حتى تتقوى الأمة كلها. قال أنس بن مالك: هذا هو دين الله الذي جاءت به الرسل، وهو من آخر ما نزل قبل اختلاف الأهواء،
وفيه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن ماجه والحاكم عن أنس: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض».
وليست العلاقة مع البلاد الإسلامية مغلقة، تحكم من وراء ستار حديدي، وإنما هي مفتوحة، فمطالبة المشركين بعد انتهاء مهلة الهدنة أو الأمان مدة أربعة أشهر بالإسلام أو القتال، لا تعني عدم تمكين المشركين من سماع أدلة الإيمان، فلو طلب أحد من المشركين الدليل على الإيمان والحجة على الإسلام، أو جاء طالبا استماع القرآن، أو جاء برسالة أو سفارة لإمام المسلمين، أو أراد الدخول بقصد التجارة، فإنه لا يمنع ويجب إمهاله، ويحرم قتله، ويسمح له بالتنقل في ديار الإسلام، ويجب بعد انتهاء مدة أمانه إيصاله إلى مأمنه، أو دياره ووطنه، ليكون على بيّنة من أمره، مختارا حرا فيما يقرره لأن المهم نشر الدعوة الإسلامية بالطرق السلمية، وبالإقناع
832
العقلي، والحجة والبرهان، لأنه ليس الهدف من تشريع الجهاد سفك الدماء، أو جلب الغنائم، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان بالله وتوحيده، وترك الكفر والجحود، وإقرار السلم والأمن، ونشر ألوية الحرية، وتهيئة مناخ المعرفة والعلم، وإطلاق حرية الفكر والرأي. وهذا الاتجاه السلمي وإيثار الأمن والسلام وإعلان مبدأ التسامح والمحبة وترك التعصب والانغلاق بسبب أن هؤلاء المشركين قوم جهلة، لا يعلمون حقيقة الإسلام وما يدعو إليه، ومن جهل شيئا عاداه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا كلام الله، ويفهموا الحق الذي أنزله.
وهذه الآية آية منح الأمان لغير المسلمين ذات حكم عام تشمل جميع الأهداف الدينية والسياسية والتجارية، وتعلّم وسائل المعرفة والبراهين العلمية، والاسترشاد بالأدلة العقلية الناصعة.
أسباب البراءة من عهود المشركين
لا نجد في شرعة الإسلام أي حكم تشريعي غير قائم على أسس عقلية سليمة، وحجج منطقية رصينة، فالإسلام كله دين المنطق والعقل والحكمة، فهو حين يقرر حكما نجده منسجما مع الفطرة والأصول الفكرية والمنهجية السديدة، وحين يشتد أحيانا على قوم فبسبب ظلم هؤلاء الناس وخروجهم على مقتضى الحكمة والمصلحة، بل إنهم يعادون أنفسهم حين يتركون ما يسعدها، ويسيرون في فلك أهوائهم وشهواتهم حين يعطلون مفاتيح المعرفة والإدراك والحواس، لذا أبان القرآن أسباب إعلان البراءة من معاهدات المشركين، ورتّب على ذلك قتالهم، وتتلخص تلك الأسباب في تهورهم ومبادرتهم لنقض عهودهم، قال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧ الى ١٠]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
833
«١» «٢» «٣» [التوبة: ٩/ ٧- ١٠].
هذه الآيات الكريمة بيان سبب البراءة من عهود المشركين وإمهالهم أربعة أشهر، ثم مناجزتهم بكل أنواع القتال، لتطهير الجزيرة العربية من الوثنية والفوضى والهمجية، والسبب واضح من جانب المشركين وهو نقضهم العهود ومعاملتهم بالمثل.
وجاء البيان على سبيل الاستفهام الإنكاري والتعجب والاستبعاد لأن يكون لهم عهد، وهم أعداء حاقدون، مضمرون الغدر، مشركون بالله، كافرون به وبرسوله، والشرك وكر الخرافات والأباطيل، ومهد التخلف والفوضى، أي محال أن يثبت لهم عهد، فلا تطمعوا أيها المؤمنون في ذلك. وعلى أي وجه يكون للمشركين عهد، وهم قد نقضوا العهود، وجاهروا بالتعدي.
ثم استثنى الله من نبذ العهد مع عموم المشركين: الذين عوهدوا عند المسجد الحرام، وهو الحرم كله، أي في ناحيته وجهته، وهم قبائل بني بكر وبني ضمرة الذين لم ينقضوا عهودهم المعقودة معهم يوم الحديبية، فهؤلاء حكمهم أنهم ما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، أي حافظوا على عهدهم ما داموا محافظين عليه، قائمين على الوفاء به. فأما من لا عهد له، فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب.
(١) فما أقاموا على العهد معكم.
(٢) يظفروا بكم.
(٣) أي لا يراعوا حلفا وجوارا وعهدا، ولا يحافظوا عليها ولا على القرابة، الإل: العهد والقرابة، والذمة: الأمان.
834
ثم أكد الله تعالى ضرورة الحفاظ على العهد والوفاء بالعقد لهؤلاء بقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي يرضى عن الذين يوفون بالعهد، ويتقون الغدر ونقض العهد. وهذا تعليل لوجوب امتثال المؤمنين لما يأمرهم به ربهم، وتبيان بأن مراعاة العهد من باب التقوى، حتى وإن كان المعاهد مشركا.
وكرر الله تعالى في قوله: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ.. استبعاد ثبات المشركين على العهد، فكيف يكون لهم عهد محترم، والحال أنهم إن يظفروا بكم، لم يراعوا حلفا ولا قرابة ولا عهدا، وهذا تحريض للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم، بل وأكثر من هذا، فمن خبثهم وضغينتهم أنهم قوم مخادعون، يظهرون الكلام الحسن بأفواههم، وقلوبهم مملوءة حقدا وحسدا وكراهية: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: ٤٨/ ١١] وأكثرهم فاسقون، أي متمردون لا عقيدة تزعهم، ولا مروءة تردعهم، خارجون من أصول الدين والمروءة والأخلاق. وعبر تعالى بقوله: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ لأن نقض العهد كان من الأكثرين.
وأردف الله تعالى بيان سببين آخرين للبراءة من عهود المشركين وإيجاب قتالهم وهما أولا- أنهم اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، أي استبدلوا بآيات الله الدالة على الحق والخير والتوحيد عوضا قليلا حقيرا من متاع الدنيا، وهو اتباع الأهواء والشهوات، والطمع بالأموال متاع الدنيا الخسيسة، فمنعوا الناس من اتباع الدين الحق فبئس العمل عملهم، وقبح ما ارتضوه لأنفسهم من الكفر والضلالة وترك الإيمان.
وثانيا- أنهم من أجل كفرهم لا يراعون في شأن مؤمن قدروا على الفتك به حلفا ولا قرابة ولا عهدا على الإطلاق، وأولئك هم المعتدون، أي المجاوزون الغاية في الظلم والشر، فأصبحوا لا يفهمون بغير لغة السيف، والخضوع للقوة، لا للعهد والذمة، والقيم والأخلاق والمبادئ.
835
مستقبل المشركين العرب
أبان الله تعالى مصير المشركين العرب وحالهم في المستقبل بعد إعلان عداوتهم للإسلام، فإما أن يختاروا التوبة وقبول الإسلام، أو يلجأوا إلى القتال. ودخولهم في الإسلام إيثار للسلام وحقن للدماء وبناء مستقبل زاهر حافل بالأمجاد والمفاخر، واحتكامهم للقتال انتحار ودمار وتحطيم لقواهم المادية والمعنوية، قال الله تعالى مبينا كيفية معاملتهم في كلا الحالين:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١ الى ١٥]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ١١- ١٥].
أوضح الله تعالى حال الكفار المشركين بعد أن اختاروا موقف العداء للمسلمين، فهم بين أمرين:
أحدهما: التوبة عن كفرهم والرجوع عن حالهم، والتوبة تتضمن معنى الإيمان بالله ورسوله ودينه، ثم قرن الله تعالى مع إيمانهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. إن فعلوا ذلك، فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، ونبين الآيات لقوم يعلمون، أي نوضح الأدلة والبراهين على وجودنا الحق، لقوم يعلمون ما نبين لهم،
(١) نقضوا عهودهم المؤكدة بالأيمان.
(٢) غضبها ووجدها.
836
فيفهمون ويتفقهون. والأخوة في الدين: هي أخوة الإسلام وهي أقوى من أخوة النسب.
والأمر الثاني: القتال بعد نكث أيمانهم، أي بعد نقض عهودهم، وطعنهم في الدين، أي بالتعييب والاستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك. وحينئذ فقاتلوا أئمة الكفر، أي رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه، والمراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهم، إنهم لا عهود لهم ولا ذمة، لعلهم بالقتال ينتهون عن كفرهم وباطلهم وإيذائهم المسلمين، والصحيح أن الآية عامة لمشركي العرب ولغيرهم، كما ذكر ابن كثير، والمراد بقوله: لا أَيْمانَ لَهُمْ أي لا أيمان لهم يوفّى بها ويبرّ.
ثم حرض الله تعالى على قتال مشركي العرب، قال قتادة فيما رواه أبو الشيخ:
ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خزاعة حين جعلوا يقتلون بني بكر بمكة، وأسباب التحريض على قتالهم ثلاثة:
الأول- نكثهم العهد والأيمان التي أقسموا عليها. والعهد الذي نقضوه هو صلح الحديبية، لمناصرة قريش حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلا بالقرب من مكة، على ماء يسمى (الهجير) فسار إليهم الرسول وفتح مكة سنة ثمان هجرية في العشرين من رمضان.
والسبب الثاني- إخراجهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من مكة، فقد أخرجوه من بلده: مكة، أي إنهم هموا وفعلوا.
والسبب الثالث- إنهم بدؤوا بقتال المؤمنين يوم بدر حين صمموا على المعركة، وفي مكة، وعاونوا بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء المؤمنين، فكان هذا بدء النقض. وكذلك في أحد والخندق وغيرهما.
837
ثم ذكر الله بعد هذه الأسباب الثلاثة دواعي أربعة للقتال: وهي تعداد موجبات القتال، والتحريض على الإغارة في قوله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ وكون الله أحق بالخشية لأنه صاحب القدرة المطلقة التي تدفع الضرر المتوقع وهو القتل، والإيمان بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فالإيمان قوة دافعة على الإقدام، والخلاصة: لا تخشوا أيها المؤمنون أعداءكم، واخشوا الله وحده، فهو أحق بالخشية منهم، إن كنتم مؤمنين بالله.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بالقتال أمرا صريحا حاسما بقوله: قاتِلُوهُمْ أي قاتلوا أيها المؤمنون أعداءكم، فإن قاتلتموهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين امتلأت غيظا من أفعال المشركين بهم في مكة، وهم بنو خزاعة حلفاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذين بيتهم بنو بكر والمشركون ليلا، وأعملوا فيهم السيف قتلا وذبحا بالوتير، قائمين وقاعدين، راكعين وساجدين.
وبالرغم من شناعة فعل المشركين بالمؤمنين، فإن الله تعالى يقبل توبة من يتوب عن كفره منهم، وقد حدث ذلك فعلا، فأسلم أناس منهم، وحسن إسلامهم، مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو. والله عليم بما يصلح عباده، حكيم في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو العادل الحكيم الذي لا يجور أبدا، ولا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة، ويجازي كل إنسان بما قدم من خير أو شر، في الدنيا والآخرة.
التحريض على الجهاد وعمارة المساجد
إن إعداد الأمة إعدادا قويا، وبناء قوتها الذاتية، يتطلب عملا متواصلا من الجهاد، والاعتماد على الذات وثقات الناس، والإقبال على عمارة المساجد عمارة مادية بالبناء والترميم، ومعنوية بالصلاة والعبادة والخدمة، وعقد حلقات العلم
838
والإرشاد والتوجيه، والإخلاص في العمل وبناء العقيدة الراسخة في النفوس. قال الله تعالى مبينا هذه الخطوات البناءة لإصلاح الفرد والجماعة:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٦ الى ١٨]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ١٦- ١٨].
تضمنت الآيات الكريمة طريق الحفاظ على كيان الأمة وصدّ عدوان المعتدين عليها، وبناء شخصيات المؤمنين بروحانية عالية ومعنويات رفيعة بالصلاة والزكاة، ليظفروا بجنان الخلد، وينعموا بالهداية والرشاد.
ليعلم المؤمنون أن الجهاد طريق الجنة، ولن يصح في موازين الأشياء ترك جماعة المسلمين من دون تمحيص ولا اختبار، ففي الجهاد يتبين أهل العزم والإخلاص الذين يجاهدون بالأموال والأنفس، ولم يتخذوا بطانة (أمناء سر) من الأعداء، يسرّون إليهم بأحوال المسلمين وأمورهم وأسرارهم، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، وبه يتميزون عن المنافقين الذين يطلعون الأعداء على أسرار الأمة وسياستها وخططها، فلا بد من اختبار أهل الإيمان في عالم الدنيا، ولا سيما عند فرض القتال وفي كل شؤون الحياة، كما جاء في آية أخرى: الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ «٣» (٢) [العنكبوت: ٢٩/ ١- ٢].
والله خبير في كل وقت بأعمالكم أيها الناس، فيجازيكم عليها، ومن المعلوم أن
(١) أي بطانة وصاحب سر.
(٢) بطلت وضاعت أجورها.
(٣) أي يختبرون. [.....]
839
التكليف الشاق على الأنفس كالجهاد هو الذي يحقق الغرض من الاختبار، ويظهر المخلص من المنافق.
ففي الحفاظ على الأسرار الخاصة بالأمة دليل على صدق الإيمان، لذا حذر القرآن من تسريب الأخبار إلى العدو، كما جاء في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.. [آل عمران: ٣/ ١١٨].
ثم أناط الله تعالى أهلية عمارة المساجد بالمؤمنين، وسلبها من المشركين، فقال تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ.. أي ما ينبغي وما يصح لهم وما يستقيم أن يعمروا مساجد الله ومنها المسجد الحرام بالإقامة فيه للعبادة، أو للخدمة والولاية عليه، ولا أن يدخلوه حجاجا أو عمّارا، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، بشهادة الحال والمقال، بعبادة الأصنام، والطواف بالبيت الحرام عراة، وكلما طافوا بالكعبة شوطا سجدوا لها. فهم بهذا جمعوا بين الضدين: عمارة بيت الله والكفر به. أولئك المشركون بالله حبطت أعمالهم بشركهم، فلا ثواب لهم، وهم في نار جهنم خالدون لعظم ما ارتكبوه، فإن الكفر محبط للعمل، ولا ثواب لصاحبه في الآخرة. قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) [الفرقان: ٢٥/ ٢٣].
وإذا كان المشركون غير أهل لعمارة المساجد، بسبب كفرهم، فإنما الذي يستحق عمارة المساجد بالحق والواجب وهو أهل لها من اتصف حقا بالإيمان بالله تعالى إيمانا صحيحا، بالاعتراف بوجوده وتوحيده، وتخصيصه بالعبادة والتوكل عليه، وآمن أيضا باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه العباد، ويجزي فيه بالثواب للمحسنين وبالعقاب للمسيئين، وأقام الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل بأركانها وشروطها
840
وتدبر تلاوتها وأذكارها، وخشوع القلب لله فيها، وآتى الزكاة المفروضة لمستحقيها المعروفين، كالفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ولم يخش في قوله إلا الله وحده، دون غيره من الأصنام والعظماء الذين لا ينفعون ولا يضرون في الحقيقة، وإنما النفع والضر بيد الله، وهؤلاء هم الذين يرجى بحق أن يكونوا من المهتدين إلى الخير دائما، وإلى ما يحب الله ويرضيه، المستحقون الثواب على أعمالهم، لا أولئك المشركون الضالون الذين يجمعون بين الأضداد، فيشركون بالله، ويكفرون بما جاء به رسوله، ويسجدون للطواغيت (الأصنام) ثم يقدمون بعض الخدمات للمسجد الحرام كسقاية الحاج وتأمين الحرم.
أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان».
فضل الإيمان بالله والجهاد
ليس هناك أفضل ولا أكرم ولا أولى من الإيمان الخالص بالله تعالى، والجهاد في سبيله لإعلاء كلمة الحق ونشر دعوة الله في الأرض، فبالإيمان تنتعش النفوس وتسعد، وتقدم على الحياة بروح وثابة عالية ومنهج عقلاني صحيح، وبالجهاد تعتز الأمة وتعلو كلمتها وترهب أعداءها الطامعين في خيراتها، وسلب مقدراتها وإذلالها، لذا حرّض القرآن على الإيمان أولا والجهاد ثانيا في قوله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
(١) سقي الحجاج الماء.
841
[التوبة: ٩/ ١٩- ٢٢].
سبب نزول الآية- فيما
رواه مسلم وغيره عن النعمان بن بشير- قال: كنت عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة، دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاستفتيته فيما اختصمتم، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ.. الآية.
ومن المعلوم أن السقاية والحجابة أفضل مآثر قريش، وقد أقرهما الإسلام، وكانت سقاية الحاج في بني هاشم، وكان العباس يتولاها،
ولما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا أترك السقاية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أقيموا عليها فإنها لكم خير».
وعمارة المسجد: هي حفظه من الظلم فيه أو يقال هجرا، وكان ذلك إلى العباس.
أو هي السدانة: وهي خدمة البيت خاصة، وكانت في بني عبد الدار، وكان يتولاها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهما اللذان دفع إليهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفتاح الكعبة في ثاني يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي رضي الله عنهما.
وقال صلّى الله عليه وسلّم لعثمان وشيبة: «يوم وفاء وبرّ، خذوها خالدة تالدة، لا ينازعكموها إلا ظالم».
والراجح أن عمارة المسجد الحرام هي السدانة.
ومعنى الآيات: أجعلتم أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله سواء في الفضيلة والدرجة؟! فإن السقاية والعمارة، وإن كانتا من أعمال الخير، فأصحابهما لا يساوون في المنزلة أهل الإيمان
842
والجهاد، ثم بيّن تعالى عدم تساوي الفريقين بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يهدي القوم الكافرين في أعمالهم إلى ما هو الأفضل والأرقى رتبة، إذ قد طمس على قلوبهم، والآية إنكار صريح على تشبيه المشركين وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم، وجعل تسويتهم ظلما، بعد ظلمهم بالكفر.
فالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس أفضل وأعظم درجة عند الله من أعمال السقاية والسدانة أو العمارة.
ثم بيّن الله مراتب التفاضل بين المؤمنين أنفسهم، فإنها تتفاوت بحسب التفاوت في الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال والنفس، وحكم الله أن أهل هذه الخصال أعظم درجة عند الله من جميع الخلق، ثم حكم لهم بالفوز برحمته ورضوانه، والفوز: بلوغ البغية، إما في نيل رغبة، أو نجاة من مهلكة.
وهذا الفوز: هو أنه تعالى يبشرهم في كتابه المنزل على رسوله برحمة واسعة، ورضوان كامل، وجنات لهم فيها نعيم دائم، وهم في هذا النعيم خالدون على الدوام إلى ما شاء الله تعالى.
وإن الله عنده الثواب العظيم على الإيمان والعمل الصالح ومنه الهجرة، والجهاد في سبيل الله ومن أجل مرضاته، كما جاء في آية أخرى:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) [التوبة: ٩/ ٧٢]. والرضوان: نهاية الإحسان، وهو شيء روحي، والنعيم في الجنة شيء مادي، فهو لين العيش ورغده.
والصحب الكرام سلف هذه الأمة هم أصحاب هذه الخصال، فعلى سيوفهم انبنى الإسلام، وهم ردوا الناس إلى الشرع، وأشادوا صرح الأمة ورفعوا عزة مجدها، لذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه:
843
«دعوا لي أصحابي: فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهبا ما بلغتم أعمالهم»
فهل يجوز لأحد النيل من أصحاب الرسول أو سبهم أو الطعن بهم؟! فمن فعل ذلك فهو من أفسق الفاسقين وأجهل الجاهلين والحاقدين.
ترك موالاة الآباء والإخوة غير المؤمنين
أراد الحق سبحانه وتعالى تجميع قوى المؤمنين في بلد واحد في صدر الإسلام حتى يكونوا قوة متماسكين مرهوبين أمام الأعداء، فحضّ على الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، ورفض بلاد الكفر والشرك والإقامة مع المشركين، وجعل الجهاد مفضلا على ثمانية أشياء لإعزاز الدين وأهله، والتخطيط لبناء الأمة والمجتمع في المستقبل. قال الله تعالى موضحا هذه الخطة:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [التوبة: ٩/ ٢٣- ٢٤].
نزلت الآية الأولى الناهية عن موالاة القرابة غير المؤمنة في شأن المؤمنين،
قال الكلبي: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة إلى المدينة، جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من يتعلق به زوجته وعياله وولده، فيقولون: نشدناك الله أن تدعنا إلى غير شيء فنضيع، فيرقّ،
(١) اختاروا.
(٢) اكتسبتموها.
(٣) بوارها.
(٤) فانتظروا.
844
فيجلس معهم، ويدع الهجرة، فنزلت يعاتبهم سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ الآية.
وفي شأن الذين تخلفوا بمكة ولم يهاجروا منها نزلت آية: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ.. إلى قوله فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ يعني القتال وفتح مكة.
والمقصود من الآيتين الحض على الهجرة.
اقتضت حكمة إقامة الدين ومصلحة المسلمين حين نزول القرآن أن تكون هناك قطيعة تامة بين المؤمنين وأقاربهم الكافرين، حتى يبقى الدين سليما، فلا يتجزأ الانتماء وتتوزع العواطف، ولأن رابطة الدين أسمى وأولى وأقوى من رابطة القرابة أو العصبية أو القبلية أو الأسرية. والمراد بالإخوان في الآيتين إخوان النسب. وبدئت الآية بخطاب المصدقين المؤمنين بالله ورسوله، ومفادها: لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القضايا العامة، وتكونون تبعا لهم في سكنى بلاد الكفرة، وتطلعونهم على أسرار المؤمنين في السلم والحرب، إن اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروا الشرك على الإسلام، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون لأنفسهم وأمتهم، لأنهم خالفوا الله ورسوله، بموالاة الكافرين بدلا من التبرؤ منهم.
والنهي عن مخالطة غير المؤمنين للتحريم لا للتنزيه، لوصف من تولاهم أو خالطهم بأنهم هم الظالمون. وفي معنى هذه الآية آيات كثيرة، منها: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) [الممتحنة: ٦٠/ ٩].
ثم توعد الله من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله، وترك الهجرة والجهاد، مفضلا الجهاد على ثمانية أشياء. والمعنى: إن كنتم تؤثرون هذه
845
الأشياء الثمانية، وتفضلون الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة (القرابة الاجتماعية القريبة) والأموال، والتجارة، والمساكن، تؤثرونها على حب الله ورسوله، أي على طاعتهما، والجهاد في سبيل الله الذي يحقق السعادة الأبدية في الآخرة، فانتظروا حتى يأتي الله بعقابه العاجل أو الآجل.
ويلاحظ كيف بدأ الله تعالى بإيراد هذه الأشياء، مبتدئا بالأشد تعلقا والأدعى إلى المخالطة وهي مخالطة القرابة، ثم الحرص على المال، ثم طريق اكتسابه بالتجارة، ثم الرغبة في البناء في الأوطان بإشادة الدور والمساكن، وأبان الله تعالى أن رعاية الدين ومصالحه خير من رعاية جملة هذه الأمور، بالرغم من محبتها والميل الفطري إليها بالطبيعة.
فإن العبرة للأخلد والأبقى والأدوم نفعا، وإيثار حب الله ورسوله وطاعتهما والجهاد في سبيله يحقق مصالح كبري وسعادة دائمة لأن الله تعالى مصدر جميع النعم، وملجأ دفع كل الكروب والمحن، وكذلك حب الرسول وطاعته خير لأنه المنقذ من الضلالة إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ولأن الجهاد طريق إعزاز الأمة وإعلاء هيبتها وقوتها.
ثم ختم الله تعالى الآية بوعيد المخالفين وتهديد المعرضين بعقوبة عاجلة أو آجلة، فقال: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي فانتظروا العقاب الآتي عاجلا أو آجلا.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يرشد العصاة الخارجين عن حدود الدين ومقتضى العقل والحكمة، أو عن طاعة الله إلى معصية.
846
النصر من عند الله
يربط الله تعالى دائما أحداث العالم بالفاعل المؤثر الحقيقي فيها، الخالق لها، لتوجيه الناس إلى حقيقة الاعتقاد وإدراك أن الله هو القادر المطلق في صنع الأشياء، وأما الأفعال المعتادة التي نمارسها فما هي إلا مجرد أسباب ظاهرية لا بد من القيام بها، لتصح نسبتها إلينا، ونستحق ثوابها وجزاءها. ومن أخطر الأفعال التي نقوم بها الجهاد والقتال، فإننا نحن الذين نقارع الأعداء ونخوض المعارك بحسب النظام المعتاد، وأما تحقيق النتائج والنصر أو الظفر فهو بيد الله تعالى وحده. قال الله سبحانه:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
«١» [التوبة: ٩/ ٢٥- ٢٧].
أخرج البيهقي في الدلائل أن رجلا قال يوم حنين: «لن نغلب اليوم من قلة» وكانوا اثني عشر ألفا، فشقّ ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ.. الآية.
هذه الآية مخاطبة لجميع المؤمنين، يعدّد الله نعمه عليهم، ويذكّرهم بأفضاله عليهم في مواقف مصيرية حاسمة، ويؤكد لهم بالقسم أنه منحهم مجدا لا يمحى، وأعزهم إلى الأبد. ومضمون الآية: لقد نصركم الله أيها المؤمنون في مواقع حربية كثيرة مثل بدر والحديبية والخندق ومكة وقريظة والنضير، حيث كنتم متوكلين على
(١) بما وسعت.
847
الله، معتمدين على أن النصر من عند الله. والمواطن الكثيرة: غزوات الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهي ثمانون موطنا، أو أقل من ثمانين في رأي بعضهم. وكان النصر فيها كلها من عند الله تعالى، إما نصرا كاملا وهو الأكثر، وإما نصرا جزئيا، للتربية والتعليم، كما حدث في معركة أحد، حينما تحقق النصر في بداية المعركة، والهزيمة في نهايتها، حينما خالف جماعة من الصحابة أوامر النبي صلّى الله عليه وسلم، وتركوا جبل الرماة، وكما حدث في حنين حينما اعتمدوا على الكثرة العددية، وغاب عنهم أن الله هو الناصر، لا كثرة الجنود، فانهزموا. وحنين: واد بين مكة والطائف، قريب من ذي المجاز، على ثلاثة أميال من الطائف. ونصركم الله أيضا في يوم حنين حين أعجبتكم كثرتكم فيه، إذ بلغتم اثني عشر ألفا، وكان الكافرون أربعة آلاف فقط، ففي بدء المعركة وقعت الهزيمة عليكم، لاعتمادكم على أنفسكم، واغتراركم بقوتكم، وترككم اللجوء إلى ربكم واهب النصر، فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا من قضاء الله، وضاقت عليكم الأرض بما اتسعت من الخوف، ثم وليتم مدبرين منهزمين، ثم نصركم الله في نهاية الأمر حين اتكلتم على ربكم وثبتم في المعركة. حدث اقتتال شديد يوم حنين، فانهزم المسلمون في بداية الأمر أمام ثقيف وهوازن، حينما كمنت هوازن في وادي حنين، ثم بادروا المسلمين بالقتال، وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم سيدهم، فولى المسلمون مدبرين.
وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو راكب يومئذ على بغلة شهباء، ثم نزل عن بغلته حينما رأى شدة الحال، واستنصر الله عز وجل قائلا: «يا رب ائتني بما وعدتني» وأخذ قبضة من تراب وحصى، فرمى بها في وجوه الكفار، وقال: «شاهت الوجوه» ونزلت الملائكة لنصره، ونادى: «يا للأنصار» وأمر الرسول العباس أن ينادي: أين أصحاب الشجرة؟ أين أصحاب سورة البقرة؟ فأجابوه: لبيك لبيك، ورجعوا إليه عنقا واحدا، أي جماعة واحدة، وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، وقال: «الآن حمي الوطيس»
أي استعرت الحرب، وقاتلوا صفا واحدا، فانهزم المشركون.
848
وهذا معنى قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ.. أي أفرغ الله طمأنينته وثباته على رسوله وعلى المؤمنين الذين كانوا معه، وأنزل جنودا لم تروها، وهم الملائكة، وعذّب الذين كفروا بسيوفكم بالقتل والسبي والأسر، وذلك هو جزاء الكافرين في الدنيا، إلا أن الملائكة لم تقاتل في هذه الموقعة، كما قاتلت يوم بدر.
وبما أن الإسلام دين الرحمة، فإن الله تعالى فتح باب الأمل أمام الكفار مبينا لهم أنه يتوب الله بعد هذا التعذيب الذي حدث في الحرب على من يشاء ممن عصى وكفر، بأن يزيل عن قلبه الكفر، ويخلق فيه الإسلام، والله غفور لمن تاب، رحيم بمن آمن وعمل صالحا، وقد تاب الله على بقية هوازن، فأسلموا، وقدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم مسلمين، ولحقوه، وقد قارب مكة عند الجعرانة «١» بعد الوقعة من عشرين يوما، ورد عليهم سبيهم وكانوا ستة آلاف، ما بين صبي وامرأة، وقسم النبي أموالهم بين الغانمين، وتحقق النصر بفضل الله، وفي ذلك اليوم قتل دريد بن الصمة القتلة المشهورة، قتله ابن الدّغنّة، والله يؤيد بنصره من يشاء.
موقف المسلمين من المشركين وأهل الكتاب
تميز موقف المسلمين من غيرهم بما يناسب حال أعدائهم، أما المشركون الوثنيون فلم يقبل الإسلام منهم عهدا ولا وعدا، وحرّم عليهم دخول المسجد الحرام، تطهيرا من رجس الوثنية، وأما أهل الكتاب الذين يلتقون في الجملة مع المؤمنين بعقيدة الإيمان باليوم الآخر، فقبل الإسلام منهم العهد والمسالمة، والتعايش السلمي في ديار المسلمين، دون إزعاج ولا إكراه على الدين، قال الله تعالى مبينا هذين الموقفين:
(١) موضع على سبعة أميال من مكة إلى الطائف.
849

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
«١» «٢» «٣» «٤» [التوبة: ٩/ ٢٨- ٢٩].
نزلت الآية الأولى المتعلقة بمنع المشركين من دخول الحرم المكي- كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس- قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت، ويجيئون معهم بالطعام يتجرون فيه، فلما منعوا عن أن يأتوا البيت، قال المسلمون: من أين لنا الطعام؟ فأنزل الله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ نص الله تعالى في هذه الآية على المشركين (عبدة الأوثان) وعلى المسجد الحرام، والمعنى: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن المشركين الوثنيين أنجاس الاعتقاد، لخبث باطنهم وفساد معتقدهم، بسبب عبادة الأصنام والأوثان، فلا تمكّنوهم من دخول المسجد الحرام بعد العام التاسع من الهجرة. والمقصود بالمسجد الحرام هنا الحرم كله في رأي جماعة من العلماء كالشافعية والحنابلة. والمراد بالنهي: منع المشركين من الحج والعمرة بعد حج عامهم هذا وهو العام التاسع من الهجرة لأنهم يفسدون قدسية الحرم وطهر العبادة وشرفها وسموها.
ثم ألقى الله الطمأنينة في قلوب المسلمين، وأزال من نفوسهم مخاوف انقطاع الموارد التموينية التي كانت تأتي إلى الحرم بتجارة المشركين، وأعلمهم أنه إن خفتم أيها المسلمون فقرا، بسبب قلة جلب الأقوات وأنواع التجارات التي كان المشركون
(١) شيء نجس الاعتقاد وخبيث.
(٢) أي فقرا بانقطاع تجارتهم عنكم.
(٣) الضريبة المقدرة على الأشخاص.
(٤) خاضعون لأحكام الإسلام والدولة.
850
يجلبونها، ومنعوا من دخول الحرم بعد هذا العام، فسوف يغنيكم الله من فضله وعطائه بوجه آخر، وييسر لكم موارد العيش والرزق والكسب، إن الله عليم بأحوالكم، وبما يكون في المستقبل من غنى وفقر، حكيم فيما يشرعه لكم من أمر ونهي، وسماح ومنع، وأما أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على النحو القرآني، ولا يحرمون ما حرمه القرآن وسنّه الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون بصحة دين الإسلام، فهؤلاء يقاتلون بسبب عدوانهم، وغاية القتال إقرار السلم وعقد المعاهدة السلمية معهم، حتى يطمئن المسلمون لجانبهم، فلا يكونون خطرا يهدد الدولة من الداخل. فإن قبلوا الإقامة في ديار المسلمين بموجب عهد أو عقد بيننا وبينهم، والتزموا بتطبيق أحكام الإسلام المدنية والجنائية، أي في المعاملات وعقوبات الجرائم، وأدوا ضريبة الجزية وهي دينار عن كل رجل غني، كسائر الضرائب المباشرة وغير المباشرة، التي يدفعها المواطنون في العصر الحاضر، وهي بديل عن خدمة العلم أو المشاركة في الجهاد والدفاع عن أراضيهم وممتلكاتهم وأموالهم، فإن شاركوا في المعارك، سقطت هذه الضريبة عنهم.
وقد كان هذا النظام مألوفا في معاملات الشعوب، وليس الصغار الإذلال والإهانة، وإنما هو التزام الأحكام، أي القوانين الإسلامية السائدة وإذا انعقدت المعاهدة مع الكتابيين، وجب تنفيذ أحكامها واحترامها من الجانبين، وحرم ظلمهم وتكليفهم ما لا يطيقون.
وتسميتهم بأهل الذمة ليس بمعنى الذم والاحتقار، وإنما الذمة العهد والحماية لأن حقوق المساواة والعدل في معاملتهم بمقتضى ذمة الله ورسوله، أي عهده وميثاقه. ويسمون أيضا بالمعاهدين: وهم من بيننا وبينهم عهد محترم من الجانبين.
والتاريخ أصدق شاهد على أن التعايش السلمي وتبادل الود والوئام بين المسلمين
851
وغيرهم من الكتابيين كان هو الصفة البارزة على مدى الأعوام والسنين. لكن نهى الله المشركين عن دخول المسجد الحرام بعد العام الهجري التاسع.
عقيدة أهل الكتاب وصفة رسالة الإسلام
إن أصول العقائد في الأديان كما أنزلها الله تعالى واحدة لأنها من مصدر واحد، ولها غاية واحدة، فمصدرها هو الله عز وجل، وغايتها تثبيت العقيدة الحقة في النفوس، وإصلاح المجتمع وإسعاد البشر، وإذا التزم أتباع الأديان الأصول الصحيحة التي أنزلها على أنبيائه الكرام، سهل لقاؤهم، واتحدت أفكارهم، وزالت العصبية والأحقاد فيما بينهم، وهذا ما يريده القرآن الكريم ويدعو إليه من ضرورة الإيمان برب واحد وإله واحد، وأن يؤمن جميع الناس بدين واحد لأن الدين الإلهي في أصله واحد، ولا يعقل أن تتعارض تعاليم الدين الإلهي المنزل. قال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [التوبة: ٩/ ٣٠- ٣٣].
(١) يشابهون في الكفر.
(٢) كيف يصرفون.
(٣) علماء اليهود. [.....]
(٤) عباد النصار ورجال الدين.
(٥) ليعليه.
852
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلّام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وأنت لا تزعم أن عزيرا: ابن الله، فأنزل الله في ذلك: وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية.
وقال النقّاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا.
كان بعض اليهود يقول: عزير: ابن الله، لأنه يعدّ ناشر اليهودية، بعد أن نسيت، فقدسه اليهود ووصفوه بأنه: ابن الله. وقالت النصارى: المسيح: ابن الله، واتفقوا على أن الموحد ليس نصرانيا، وليس لقولهم أي دليل ولا برهان غير ما قرره أحبارهم، يشبهون بهذا الاعتقاد قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم، ضلّوا كما ضل هؤلاء، وهم الوثنيون البراهمة والبوذيون في الهند والصين واليابان، وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان، كما أن مشركي العرب كانوا يقولون:
الملائكة بنات الله.
لعنهم الله، كيف يصرفون عن الحق، وهو توحيد الله وتنزيهه إلى غيره، وهو الشرك الباطل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان عبدان لله، ولا يعقل أن يكون المخلوق خالقا، وهو كسائر المخلوقات يأكل ويشرب ويتعب ويألم، وقدراته محدودة، وكيف يصرفون عن الحق إلى غيره مع قيام الدليل؟
ووجه مضاهاة من كفروا قبلهم أنهم اتخذوا رؤساء الدين فيهم أربابا من دون الله، يقومون بحق التشريع، فيحلّون الحرام، ويحرمون الحلال، ويطيعونهم في ذلك، تاركين حكم الله تعالى. واتباعهم في التحليل والتحريم: عبادة لهم وتعظيم.
والحال أنهم ما أمروا إلا أن يعبدوا إلها واحدا على لسان موسى وعيسى، وهو الله الذي شرع لهم أحكام الدين، وهو ربهم ورب كل شيء فهو الذي إذا حرّم الشيء فهو الحرام، وما حلّله فهو الحلال، وما شرعه اتّبع، وما حكم به نفذ. إنه الله تعالى الإله
853
وحده شرعا وعقلا، لا يوجد إله غيره، وتنزه وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو بحق، ولا رب سواه في الواقع ومقتضى العدل.
ولكن هؤلاء المشركين والكتابيين يريدون أن يطفئوا نور الإسلام، الذي بعث الله به رسوله محمدا، فيضل الناس أجمعون، ويأبى الله إلا أن يتم نوره بتثبيته وحفظه والعناية به وإكماله وإتمامه، ولو كره الجاحدون ذلك بعد تمامه، كما كرهوه حين بدء ظهوره. والجاحد الكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه.
وأما النور الإسلامي فهو الذي أرسل الله به رسوله بالهدى ودين الحق الذي لا يغيّره ولا يبطله شيء آخر، وهو هدى الله الصادر عن القرآن والشرع المثبت في قلوب الناس، والهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع. ودين الحق: هو الأعمال الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة. والله تعالى يريد إعلاء دين الحق على جميع الأديان، ولو كره المشركون ذلك الإظهار، وقد تحقق وعد الله ونصره، كما
ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله زوي لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زري لي منها».
وإذا كانت اليهودية توصف بالتعصب والانغلاق، والمسيحية بالتسامح والمحبة، فإن أدق وصف يوصف به الإسلام أنه دين الحق والعدل والميزان، الذي لا يتجاوز الواقع، ويوجب الاعتدال في الأمور، والتزام الإنصاف في العقيدة والشريعة والمنهج الأخلاقي والسلوكي.
يتبين مما ذكر أن الله تعالى أراد أن يستمر حبل الرسالات الإلهية ويظل موصولا في البشر، قبل ختم النبوات برسالة خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبد الله، عليهم صلوات الله وسلامه، واستمرار هذا الخير من أجل الإنسان ووحدة الإنسانية، لا للتفرق والاختلاف والتمزق والانقسام.
854
وتتجسد وحدة الأديان في الدعوة إلى الاعتقاد برب واحد لا شريك له، وبالإيمان بعالم الآخرة بما فيه من حشر ونشر وحساب وميزان وصراط وجنة ونار وثواب وعقاب، وبالدعوة إلى أصول الفضائل والأخلاق الكريمة، وتصحيح مسيرة الحياة الإنسانية، القائمة على الحق والصدق والعدل والوفاء والمساواة والحرية والتضامن والتعاون بين البشر، مع مقاومة كل أسباب الاضطراب والقلق واهتزاز الثقة بسبب الاعتداء على الحقوق وأكل أموال الناس بالباطل والكذب والخيانة والغدر والتفرقة وحرمان الناس من التعبير عن آرائهم ورغباتهم، ضمن أصول النظام الإلهي والعدل الرباني.
وإن التلاعب بالأديان جريمة لا تغتفر، وتحريف النصوص عن المراد بها خيانة للأجيال، لذا يتبوأ المحرّفون والقادة المضللون مكانا عظيما من نار جهنم بسب إساءتهم لغيرهم، ومحاولتهم تفريق الناس وصرفهم عن صراط الهداية الربانية الحميد.
ومع هذا التضليل الموروث لن يعفى العقلاء المفكرون من التبصر والتأمل ودراسة أصول الدين والحق والاعتقاد الصحيح، وإذا لم يفعلوا لن يكونوا بمنجاة من العقاب أو العذاب في الآخرة لإهمالهم نعمة العقل التي تبصّرهم بمدى صدق الموروثات وأصالة الاعتقادات المنقولة، دون تفكر بمصداقيتها.
مسئولية رجال الدين
إن دور القيادة أمر خطير في تاريخ البشرية، وإن مسئولية رجال العقيدة والفكر والأخلاق والسلوك هي أشد خطرا في التاريخ من أي شيء سواها، فكان لزاما على القادة والمفكرين ورجال الدين أن يكونوا أمناء على عقيدة الأجيال وفكر البشرية،
855
فلا يقررون لهم إلا الحق، ولا يلقنونهم إلا الأصل الإلهي الصحيح الذي أراده الله هدى لعباده، ومنهجا لخلقه، وميزانا للحياة السوية. لذا شنّع القرآن الكريم على قادة الفكر المنحرف ورجال الدين المضللين، فقال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
[التوبة: ٩/ ٣٤- ٣٥].
قال الواحدي: نزلت (آية الأحبار) في العلماء والقرّاء من أهل الكتاب، كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم، وهي المأكل الذي كانوا يصيبونه من عوامهم. وآية كنز الذهب والفضة هي- كما قال الضحاك- عامة في أهل الكتاب والمسلمين.
والمراد بالآية: بيان نقائص هؤلاء الأحبار، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص.
والمعنى: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، اعلموا أن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأخذون أموال الناس بالباطل، أي من أتباعهم بصفة ضرائب وفروض لدور العبادة، يوهمونهم أن النفقة في ذلك من الشرع والتزلف إلى الله، ولكنهم يضمونها إلى جيوبهم، وقد يأخذون الرشاوى في الأحكام القضائية، ويأكلون الربا وهو محرم عليهم، ويأخذون الهدايا والنذور والأوقاف المخصصة لقبور الأنبياء والصالحين، وقد يستحل بعضهم أموال كل من عداهم من أتباع الأديان الأخرى، ولو بالخيانة أو السرقة، وكل ذلك أكل لأموال الناس بالباطل وسحت حرام.
وقد يضم هؤلاء الأحبار إلى قبائحهم صد الناس ومنعهم عن اتباع الدين الحق، إما بتكذيب رسالة الإسلام، أو بالطعن بالقرآن الكريم أو بالنبي صلّى الله عليه وسلم.
856
وهناك صفة عامة عند هؤلاء القادة وعند غيرهم من المسلمين: وهي البخل الشديد ومنع أداء حقوق الله في أموالهم، فيكنزون في بيوتهم الذهب والفضة، أي يجمعون المال ويدخرونه، ولا يؤدون منه الحقوق الواجبة شرعا كالزكاة، ولا ينفقون منه في سبيل الله، فيستحقون العذاب الشديد المؤلم في نار جهنم، وعبر عن الوعيد بهذا العذاب بلفظ البشارة على سبيل التهكم والتهديد.
ومن المقرر شرعا: أن الكنز: هو المال الذي لا تؤدى زكاته، وإن كان ظاهرا غير مخفي، وأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز، لما
أخرجه ابن عدي والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّ مال أدّيت زكاته، فليس بكنز».
ويوضح ذلك الآية الكريمة: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة:
٩/ ١٠٣] فإن الذم في منع الزكاة فقط، لا في مجرد حبس المال وادخاره. ثم هدد الله تعالى الكانزين وأخبرهم بنوع العذاب الذي يتعرضون له في الآخرة، وهو أنه يحمى على ما جمعوه من الأموال المكنوزة غير المزكاة في النار، أي توضع فيها ويوقد عليها حتى تحمى، ثم يحرق بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، أي جميع أجسادهم ويقال لهم من قبل الملائكة: هذا جزاء ما كنزتم، فذوقوا وبال ما كنزتم لأنفسكم، أي إن ما توهمتم فيه نفعا أصبح ضررا محضا، ووبالا شديدا عليكم.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار».
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آتاه
857
الله مالا، فلم يؤد زكاته، مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع «١»، له زبيبتان «٢» يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه «٣»، ثم يقول له: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا:
سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: ٣/ ١٨٠].
والخلاصة: إن من أعظم الجرائم الاجتماعية أكل أموال الناس بالباطل كالرشاوى والغصوبات وخيانة الأمانات، والصدّ عن دين الله الحق المتمثل في القرآن، واكتناز المال أو ادخاره وحبسه من غير إنفاق ولا أداء زكاة عنه.
تلاعب العرب بالأشهر
إذا كان الناس يسيرون في دروب حياتهم بمقتضى أهوائهم وشهواتهم، وبمحض عقولهم وآرائهم الشاذة، فلا يستغرب عنهم الوقوع في غرائب الأفكار، والخروج عن الأعراف العامة، وهذا ما أوقع ذوي العقلية البدائية في الجاهلية العربية في مهاوي الانحراف والعبث بالقيم الإنسانية، بل تغيير حركة الزمان ونظامه، وهذا هو النسيء في الجاهلية أي تأخير حرمة الأشهر الحرم إلى وقت آخر حسبما يروق لهم وينسجم مع مصالحهم في الاستمرار في الحروب ودوام الاقتتال والمنازعات، لذا شنع القرآن الكريم على أولئك العابثين بنظام الشهور في قول الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
«٤» «٥»
(١) أي حنشا حية كبيرة.
(٢) نقطتان منتفختان في شدقيه.
(٣) أي شدقيه.
(٤) النسيء: تأخير حرمة شهر إلى آخر.
(٥) ليوافقوا.
858
[التوبة: ٩/ ٣٦- ٣٧].
أخرج ابن جرير الطبري عن أبي مالك- لبيان سبب نزول الآية- قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، فيجعلون المحرم صفر، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل الله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ..
هاتان الآيتان تتضمنان ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحل، وتحليل شهور الحرمة. والذي أكدته الروايات أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها، فكانوا إذا توالت عليهم حرمة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم، صعب عليهم ووقعوا في مشكلة الفقر، فيتواطئون على إنساء شهر، أي تأخير حرمة المحرم وجعله في صفر، ليكون لديهم فاصل زمني للغارات، فيحلون المحرم ويغيرون فيه بقصد المعيشة، ثم يلتزمون حرمة شهر آخر وهو صفر، ثم يسمون ربيعا الأول صفرا، وربيعا الثاني ربيعا الأول، وهكذا في سائر الشهور، يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلّل لهم، وتصبح السنة ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل، ثم المحرم المصطنع وهو صفر، ثم إتمام السنة على هذا النحو المغيّر. ففي هذا العبث والتلاعب بالأشهر نزلت هاتان الآيتان.
أخبر الله سبحانه أن عدد أشهر السنة القمرية في كتاب الله أي في نظامه وحكمه التشريعي اثنا عشر شهرا، لسهولة الحساب بها، وتوقفها على رؤية الهلال، فإن كل إنسان متعلم أو غير متعلم، بدوي أو حضري، يراه ويراقب تحركاته بسهولة، وذلك منذ بدء خلق السماوات والأرض وإلى كل زمان، ومن تلك الأشهر أربعة حرم:
ثلاثة سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب، أي ذات حرمة وتعظيم تتميز به عن بقية الشهور، فلم يكن يحل فيها القتال وسفك الدماء.
وتحريم هذه الأشهر الأربعة في السنة هو الدين القيم، أي الدين والشرع المستقيم
859
دين إبراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح، فلا يجوز نقل تحريم المحرم إلى صفر، خلافا لما كان أهل الجاهلية يفعلون، من تقديم بعض أسماء الشهور وتأخير البعض. فلا تظلموا أيها الناس أنفسكم في تلك الأشهر الأربعة، باستحلال حرامها، فإن الله عظّمها، والمراد بذلك النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من تعظيم الثواب والعقاب فيها، كما قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: ٢/ ١٩٧]. والمعاصي وإن كانت حراما في غير الأشهر الحرم أيضا، إلا أنه أكد الله تعالى فيها المنع زيادة في شرفها، ثم أباح الله تعالى قتال المشركين المعتدين في جميع الأشهر، حتى الأشهر الحرم، وعلى المؤمنين قتالهم مجتمعين موحّدين، كما يقاتلون المسلمين على هذا النحو، واعلموا أن الله مع المتقين.. ومعنى الآية: الحض على قتال المشركين صفا واحدا وعلى قلب رجل واحد.
والنسيء وهو تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر لا حرمة له: زيادة في الكفر أي جار مع كفرهم بالله، وخلاف منهم للحق، وزيادة في أصل كفرهم القائم على الشرك وعبادة الأصنام، وتغيير لملة إبراهيم بسوء التأويل، يوقع أهل النسيء الذين كفروا في ضلال، زيادة على ضلالهم القديم، يحلون المحرم عاما، ويحرمونه عاما آخر، ليوافقوا في مجرد العدد الأربعة الأشهر الحرم، حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة، فظنوا ما كان سيئا حسنا، وتوهموا شبهتهم الباطلة أنها صواب، والله لا يوفق ولا يرشد القوم الضالين المنحرفين الذين يختارون السيئات، إلى الحكمة والخير والصواب وفهم حكمة الشرع.
وتم تصحيح وضع الأشهر بحسب الواقع في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم،
فقال هذا النبي فيما رواه البخاري وأحمد وغيرهما: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات الأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
860
التحريض على الجهاد ومعجزة الهجرة
لا يمكن لأمة الدعوة الإسلامية إلى العالم قاطبة أن تتخلى عن اتخاذ كل أسباب القوة والعزة، ولا أن تترك الجهاد في سبيل الله لأنها بسبب نشر دعوة الإسلام بين الناس لا بد أن يتعرض فيها الدعاة المؤمنون وأمتهم التي تساندهم للاعتداء والصد عن سبيل الله، والكيد والقمع والطرد والقتل، فتحتاج هذه الأمة لدفع الظلم ورد العدوان، لذا حرّض القرآن الكريم على الجهاد الخالص لله تعالى، وأعلم المؤمنين أن الله ينصر عباده المستضعفين المعتدى عليهم، كما نصر الله نبيه في ليلة الهجرة حين اختبأ مع صاحبه أبي بكر في غار جبل ثور، فقال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ٣٨- ٤٠].
لا خلاف في أن هذه الآيات نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، في السنة التاسعة من الهجرة بعد الفتح (فتح مكة) بعام واحد، غزا فيها الروم في عشرين ألفا بين راكب وراجل، وتخلف عنه قبائل من الناس منهم مؤمنون ومنهم منافقون، وقد اشترك مع الروم قبائل عربية متنصرة من لخم وجذام وغيرهم، حيث جهزوا جيشا كثيفا من أربعين ألفا لغزو المدينة.
(١) اخرجوا للجهاد كغزوة تبوك.
(٢) تباطأتم وأخلدتم.
861
لقد دعا الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك، وكانوا في عشرة وضيق، وشدة حر، وقد حان قطاف التمر عندهم حين طابت الثمار، فشق ذلك عليهم، فأبان الله تعالى أنه لا يصح ترك سعادة الآخرة والخير الكثير الخالد، من أجل ترف الدنيا وطيباتها، فذلك جهل وسفه، وخص الله تعالى بالعتاب ثلاثة من المؤمنين: وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، بسبب مكانهم من الصحبة، إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة.
اشتد الله في عتاب المؤمنين المتخلفين عن الجهاد في غزوة تبوك قائلا لهم: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، ما لكم تثاقلتم وتباطأتم عن الجهاد، حين قال لكم الرسول الأمين: انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم ومهاجمتكم؟! فأي شيء يمنعكم عن الجهاد؟ أرضيتم بلذات الحياة الدنيا بدلا من الآخرة وسعادتها ونعيمها؟ إن كنتم فعلتم ذلك، فقد تركتم الخير الكثير في سبيل الشيء الحقير، فما تتمتعون به في الدنيا متاعا مقترنا بالهم والألم، ولفترة مؤقتة، إذا قيس بنعيم الآخرة الدائم، إلا شيء حقير قليل، لا يصلح عوضا عن العطاء الكثير في الآخرة.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم يرجع؟»
وأشار بالسبابة.
ثم توعد الله تعالى من ترك الجهاد، فقال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ.. أي إن لم تخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما دعاكم إليه، يعذبكم الله عذابا مؤلما في الدنيا كالهلاك بالقحط وغلبة العدو، ويستبدل بكم قوما غيركم، لنصرة نبيه وإقامة دينه، كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: ٤٧/ ٣٨] إنكم بتوليكم عن الجهاد لا تضروا الله شيئا لأنه هو القاهر فوق عباده، والله قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم.
862
ثم رغب الله المؤمنين في الجهاد مرة ثانية، وحثهم على مناصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، مشيرا لنجاح الهجرة، فقال تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ.. أي إن لم تنصروا رسول الله، أو تركتم نصره ومؤازرته، فالله متكفل به، إذ قد نصره في موضع القلّة والانفراد وكثرة العدو، فنصره إياه اليوم يوم الهجرة أحرى منه حينئذ، وذلك حين أخرجه المشركون الكافرون من مكة إلى المدينة، وفعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه وفي صحبته أبو بكر رضي الله عنه. إنهما في الطريق إلى المدينة دخلا في غار ثور ومكثا فيه مدة ثلاثة أيام، ليرجع الطلب- الباحثون عنه- إلى ديارهم، ثم يسيروا بعدها إلى المدينة، ففزع أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وسلّم لما رأى المشركين حانقين متجمهرين، حال كون النبي أحد اثنين، فقال لصاحبه أبي بكر: لا تخف ولا تحزن، إن الله معنا، يؤيدنا بنصره وعونه وحفظه ولطفه.
فأنزل الله طمأنينته وتأييده على رسوله، أو على أبي بكر، قيل: إن الضمير في عَلَيْهِ عائد على أبي بكر: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل.
وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكينة النفس والجأش، وقال الجمهور: الضمير عائد على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أقوى، والمراد بالسكينة: ما ينزل الله على أنبيائه من الصيانة (أو الحياطة) لهم، والخصائص التي لا تصلح إلا لهم، والنصرة والفتوح عليهم.
وقد أيد الله نبيه وقواه وآزره أثناء الهجرة بالملائكة، وجعل كلمة الشرك والكفر هي السفلى، أي المغلوبة، وكلمة الله التي هي لا إله إلا الله أو الشرع بأسره هي العليا الغالبة، والله عزيز غالب في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، حكيم في أقواله وأفعاله.
863
لقد دعا الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك، وكانوا في عشرة وضيق، وشدة حر، وقد حان قطاف التمر عندهم حين طابت الثمار، فشق ذلك عليهم، فأبان الله تعالى أنه لا يصح ترك سعادة الآخرة والخير الكثير الخالد، من أجل ترف الدنيا وطيباتها، فذلك جهل وسفه، وخص الله تعالى بالعتاب ثلاثة من المؤمنين: وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، بسبب مكانهم من الصحبة، إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة.
اشتد الله في عتاب المؤمنين المتخلفين عن الجهاد في غزوة تبوك قائلا لهم: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، ما لكم تثاقلتم وتباطأتم عن الجهاد، حين قال لكم الرسول الأمين: انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم ومهاجمتكم؟! فأي شيء يمنعكم عن الجهاد؟ أرضيتم بلذات الحياة الدنيا بدلا من الآخرة وسعادتها ونعيمها؟ إن كنتم فعلتم ذلك، فقد تركتم الخير الكثير في سبيل الشيء الحقير، فما تتمتعون به في الدنيا متاعا مقترنا بالهم والألم، ولفترة مؤقتة، إذا قيس بنعيم الآخرة الدائم، إلا شيء حقير قليل، لا يصلح عوضا عن العطاء الكثير في الآخرة.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم يرجع؟»
وأشار بالسبابة.
ثم توعد الله تعالى من ترك الجهاد، فقال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ.. أي إن لم تخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما دعاكم إليه، يعذبكم الله عذابا مؤلما في الدنيا كالهلاك بالقحط وغلبة العدو، ويستبدل بكم قوما غيركم، لنصرة نبيه وإقامة دينه، كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: ٤٧/ ٣٨] إنكم بتوليكم عن الجهاد لا تضروا الله شيئا لأنه هو القاهر فوق عباده، والله قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم.
862
ثم رغب الله المؤمنين في الجهاد مرة ثانية، وحثهم على مناصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، مشيرا لنجاح الهجرة، فقال تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ.. أي إن لم تنصروا رسول الله، أو تركتم نصره ومؤازرته، فالله متكفل به، إذ قد نصره في موضع القلّة والانفراد وكثرة العدو، فنصره إياه اليوم يوم الهجرة أحرى منه حينئذ، وذلك حين أخرجه المشركون الكافرون من مكة إلى المدينة، وفعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه وفي صحبته أبو بكر رضي الله عنه. إنهما في الطريق إلى المدينة دخلا في غار ثور ومكثا فيه مدة ثلاثة أيام، ليرجع الطلب- الباحثون عنه- إلى ديارهم، ثم يسيروا بعدها إلى المدينة، ففزع أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وسلّم لما رأى المشركين حانقين متجمهرين، حال كون النبي أحد اثنين، فقال لصاحبه أبي بكر: لا تخف ولا تحزن، إن الله معنا، يؤيدنا بنصره وعونه وحفظه ولطفه.
فأنزل الله طمأنينته وتأييده على رسوله، أو على أبي بكر، قيل: إن الضمير في عَلَيْهِ عائد على أبي بكر: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل.
وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكينة النفس والجأش، وقال الجمهور: الضمير عائد على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أقوى، والمراد بالسكينة: ما ينزل الله على أنبيائه من الصيانة (أو الحياطة) لهم، والخصائص التي لا تصلح إلا لهم، والنصرة والفتوح عليهم.
وقد أيد الله نبيه وقواه وآزره أثناء الهجرة بالملائكة، وجعل كلمة الشرك والكفر هي السفلى، أي المغلوبة، وكلمة الله التي هي لا إله إلا الله أو الشرع بأسره هي العليا الغالبة، والله عزيز غالب في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، حكيم في أقواله وأفعاله.
863
النفير العام وتوبيخ المتخلفين عن غزوة تبوك
كان من أهم أهداف الإسلام التربوية إعداد الأمة لتحمل مسئولياتها الكبرى في العزة والسيادة وإقرار السلام ودفع العدوان، وتتجلى طرق الإعداد في المواقف الحاسمة بالأمر بالنفير العام عند الحاجة والمصلحة، ولوم المنافقين الذين يتذرعون بأوهى الأسباب للتهرب من الجهاد، وهذا مرض خطير تأصل في نفوس المنافقين الانهزاميين، وأراد القرآن الكريم التخلص من هذا المرض، فقال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
«١» «٢» «٣» «٤» [التوبة: ٩/ ٤١- ٤٥].
نزلت آية الأمر بالجهاد والنفير العام في المؤمنين الذين اعتذروا بالضيعة والشغل والحاجة والكهولة وأعباء الأسرة والأولاد، فأبى الله أن يعذرهم، دون أن ينفروا على ما كان منهم، وبالرغم من أعذارهم، فلا يتخلفوا عن غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة لقتال الروم المعتدين.
(١) على أية حال كنتم وهو النفير العام.
(٢) أي ما يعرض من منافع الدنيا وهو الغنيمة القريبة.
(٣) مغنما سهل التناول.
(٤) المسافة البعيدة التي تحتاج لمشقة.
864
ومعنى الآية: اخرجوا إلى الجهاد على كل حال من يسر أو عسر، صحة أو مرض، غنى أو فقر، شغل أو فراغ منه، كهولة أو شباب، نشاط وغير نشاط، خفاف في النفر لنشاطكم له، وثقال عنه لمشقته عليكم، وقاتلوا أعداءكم الذين يقاتلونكم، من أجل كلمة الله ورفعة الدين الحق والقيم العليا المتمثلة فيه، وذلكم المأمور به وهو النفير العام إلى الجهاد خير لكم في الدنيا والآخرة، إن كنتم تعلمون ذلك وأنه خير، فانفروا ولا تتثاقلوا، وهذا بمثابة قانون التجنيد العام، وتنبيه وهز للنفوس للقيام بواجب الجهاد.
وظهر في خلال الأمر بالنفير العام لوم المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك، فأبان الله تعالى: أن ما دعوتهم إليه من الخروج للجهاد لو كان غنيمة أو منفعة قريبة المنال، أو سفرا سهلا قريبا لا عناء فيه، لاتبعوك أيها النبي وجاؤوا مسرعين معك، ولكنّ هؤلاء المنافقين تخلفوا حينما رأوا مشقة السفر إلى بلاد الشام، وأن القتال لأكبر قوة في العالم حينذاك وهم الروم، فآثروا الجبن والراحة والسلامة، والتفيؤ في ظلال الأشجار وقطف الثمار. وسيحلفون بالله اليمين الكاذبة عند رجوعك أيها الرسول من غزوة تبوك قائلين: لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم، فإنهم لم يكونوا ذوي أعذار، وإنما كانوا أقوياء الأجسام، وأصحاب ثراء ويسار، إنهم يهلكون أنفسهم في العذاب باليمين الكاذبة أو بالكذب والنفاق.
ثم عاتب الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم في إذنه لطائفة من المنافقين بالتخلف، قائلا له:
سامحك الله بإذنك لهم، لم أذنت لهم بالتخلف، هلا تمهلت لتظهر لك الحقيقة، ويتبين لك الفريقان: الذين صدقوا والذين كذبوا في إبداء الأعذار، وهلا تركتهم لتعلم الصادق منهم من الكاذب، فإنهم كانوا مصرين على التخلف، وإن لم تأذن لهم فيه، على أن الله كره خروجهم، لما فيه من الخطر والضرر.
865
هذه الآية نزلت في الإذن للمنافقين، وكان الأولى من النبي تركه، مثل قبوله الفداء من أسرى بدر.
لا يستأذنك أيها الرسول في القعود عن الجهاد أحد من الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، بل يقدمون على الجهاد من غير استئذان لأنهم يرون أن الجهاد قربة وسبيل إلى الجنة، فليس من شأن المؤمنين الصادقين أن يستأذنوك في الجهاد، والله خبير بمن خافه واتقاه، باجتناب ما يسخطه، وفعل ما يرضيه. هذه الآية تبين منزلة المؤمنين وتميزهم عن المنافقين، لذا جاءت الآية بعدها توضح هذا الفرق الجوهري.
فإذا كان أهل الإيمان لا يستأذنون لترك الجهاد عادة، فإن الذي يستأذنك في التخلف عن الجهاد من غير عذر، إنما هم المنافقون الذين لا يصدقون بالله واليوم الآخر، ولا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم، وشكّت قلوبهم في صحة ما جئتهم به، فهم في شكهم أو ريبهم يتحيرون، ليس لهم ثبات على شيء، فهم قوم حيارى هلكى. روي أن عدد هؤلاء المنافقين المستأذنين كذبا كان تسعة وثلاثين رجلا. نسأل الله تعالى أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يحببنا في الجهاد لقمع العدوان وتحقيق العزة والمكانة اللائقة بنا.
تخلف المنافقين عن تبوك بغير عذر
ليس في منهج القرآن المجيد اتهام أحد بغير سبب أو عذر لأن القرآن شريعة الحق والعدل والإنصاف، والله سبحانه يغفر ويرحم، ولكنه يمهل ولا يهمل، ويترك الفرصة لعباده أن يتوبوا ويصلحوا أنفسهم، ويحاسب دائما بعد إيراد الأدلة والبراهين وأسباب الطاعة والعصيان، قال الله تعالى مبينا هذا المنهج في مناسبة بيان كون تخلف المنافقين عن غزوة تبوك بغير عذر صحيح:
866

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]

وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» »
[التوبة: ٩/ ٤٦- ٤٨].
هذه الآيات دليل واضح على أن تخلف المنافقين عن المشاركة في غزوة تبوك كان بغير عذر واضح ولا صحيح، وهذا الدليل المنطقي والواقعي: هو تركهم الاستعداد للمشاركة في هذه المعركة الخطيرة، ومع هذا فإن خروجهم مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما كان مصلحة، وإنما يؤدي إلى مفاسد ثلاث: هي الإفساد والشر، وتفريق كلمة المؤمنين بالنميمة، والتسبب في سماع بعض ضعفاء الإيمان كلامهم وقبول قولهم.
إن المنافقين المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو قصدوا الخروج معك إلى القتال، لاستعدوا وتأهبوا له بإعداد السلاح والزاد والراحلة ونحوها، وقد كانوا مستطيعين ذلك، ولكن كره الله انبعاثهم، أي أبغض خروجهم مع المؤمنين، لما فيه من أضرار، فثبّطهم، أي أخرهم بما أحدث في قلوبهم من المخاوف، وفي نفوسهم من الكسل والاسترخاء، وقيل لهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم: اقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والمرضى والعجزة الذين شأنهم القعود في البيوت، كما قال تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [التوبة: ٩/ ٨٧] أي القاعدين المتخلفين خوفا وجبنا ثم ثبّت الله المؤمنين وبيّن أن عدم خروج المنافقين معهم لتبوك مصلحة للجيش، فلو خرج هؤلاء المنافقون ما زادوا المؤمنين شيئا من القوة والمنعة، بل زادوهم اضطرابا في الرأي
(١) نهوضهم للخروج معكم. [.....]
(٢) حبسهم وعوقهم عن الخروج.
(٣) شرا وفسادا.
(٤) أسرعوا بالإفساد بينكم بالنميمة.
(٥) يطلبون إيقاع الفتنة.
(٦) دبروا لك الحيل والمكائد.
867
وفسادا في العمل، ولأسرعوا بالسعي بين المؤمنين بالنميمة والبغضاء، وتفريق الكلمة، وبذر بذور التفرقة والاختلاف، وإشاعة الخوف والأراجيف من الأعداء، وتثبيط الهمة.
هذا مع العلم بأن بين المؤمنين قوما ضعاف العقل والإيمان والعزيمة يسمعون كلامهم، ويصدّقون أقوالهم، ويطيعونهم، فتفتر عزائمهم عن الجهاد، وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير، وهذا لا يتفق في المواقف الخطرة مع المصلحة. والله عليم علم إحاطة بأحوال الظالمين الظاهرة والباطنة، فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، ومجازيهم على أعمالهم كلها. وفي هذا دلالة واضحة على أن خروج المنافقين لتبوك شر لا خير فيه، وضعف لا قوة.
وتذكيرا واقعيا للمؤمنين، بموقف من الماضي، ذكر الله تعالى نوعا آخر من مكر المنافقين وخبث باطنهم تحقيرا لهم، وإبطالا لسعيهم، فقال سبحانه: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ.. أي لقد أرادوا إيقاع الفتنة بين المسلمين من قبل ذلك، في غزوة أحد، حين اعتزل المؤمنين عبد الله بن أبي زعيم المنافقين بثلث الجيش في موضع يسمى الشوط بين المدينة المنورة وأحد، ثم قال للناس: أطاع النبي الولدان ومن لا رأي له، فعلام نقتل أنفسنا؟! وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة، ولكن الله عصمهم من الهوان، لقد أراد المنافقون إيقاع الفتنة في أحد بين أهل الإيمان، وأرادوا تدبير الحيل والمكايد للنبي، وفكروا في إبطال أمره، حتى جاء النصر والتأييد، وظهر أمر الله، أي غلب دينه وعلا شرعه، بالتنكيل بالأعداء من اليهود، وإبطال الشرك بفتح مكة، وانتشار الإسلام، وكل هؤلاء الأعداء كارهون انتصار المؤمنين، وظهور دعوة الإسلام.
868
شماتة المنافقين بالمؤمنين
لقد كشف القرآن الكريم عيوب المنافقين وأخلاقهم المرذولة وقبائحهم الباطنة ومكائدهم الخائبة، في مناسبات متعددة ومواقف كثيرة، فهم قوم متآمرون جبناء، خبثاء الباطن، ينتحلون الأعذار الواهية لترك الجهاد، ويشمتون بالمؤمنين إذا أصيبوا بمصيبة، ويحزنون إذا تعرضوا لحسنة، وهذه آيات كريمة تسجل عليهم هذه النقائص، قال تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ٤٩- ٥٢].
الآية الأولى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي.. نزلت في منافق اسمه: الجدّ بن قيس،
روى الطبراني وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد النبي صلّى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال للجدّ بن قيس: يا جد بن قيس: ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ - أي الروم- فقال: يا رسول الله، إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأذن لي، ولا تفتني، فأنزل الله هذه الآية: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي
أي لا تفتني بصباحة وجوههن.
ومعنى الآية: ومن المنافقين من يقول لك: يا محمد ائذن لي في القعود والتخلف عن القتال، ولا توقعني في الإثم والهلاك بالخروج معك، حتى لا أفتتن بنساء الروم،
(١) ما تنتظرون بنا.
(٢) إما النصر أو الشهادة.
869
منتحلين الأعذار الواهية، مظهرين التمسك بالفضيلة، فيرد الله عليهم مكذبا دعواهم، كاشفا حقيقتهم بأنهم بهذه المقالة وقعوا فعلا في الفتنة، حين انتحلوا الأعذار الكاذبة، وقعدوا عن الجهاد، إنهم سقطوا في الفتنة أي إنهم في الإثم والمعصية وقعوا. وإن نار جهنم لمحيطة بهم، لا يجدون عنها محيدا ولا مهربا، وهذا وعيد شديد لهم بأنهم أهل جهنم، لكثرة خطاياهم.
وأما آية إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.. فإنها نزلت- كما
روى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه- قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة، يخبرون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبار السوء، يقولون: إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم- أي إلى تبوك- وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل الله: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ...
هذا لون آخر من طبائع المنافقين المتشبعة بالكيد والخبث واستغلال الفرص لإظهار الشماتة بالمؤمنين، فإن عرضت لك أيها النبي في بعض الغزوات (المعارك الحربية) حسنة، أي فتح ونصر وغنيمة كيوم بدر، ساءهم ذلك، وإن أصابتك مصيبة، أي نكبة وشر وشدة كانهزام وتراجع في معركة كمعركة أحد، قالوا: قد اتخذنا ما يلزم من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، واحترزنا من متابعته من قبل ما وقع، إذ تركنا القتال ولم نتعرض للهلاك، لأنا متوقعون هذه الهزيمة، وانصرفوا إلى أهاليهم عن موضع التحدث والمفاخرة بآرائهم هذه، وهم مسرورون للنتيجة.
والحسنة: ما يسرّ النفس حصوله، والسيئة: ما يسوء النفس وقوعه. فأمر الله نبيه أن يجيبهم عن شماتتهم وانتهازيتهم: لن يصيبنا أبدا إلا ما كتب وخط لنا في اللوح المحفوظ، فنحن تحت مشيئة الله وقدره، هو مولانا، أي ناصرنا ومتولي أمورنا ونتولاه، وهذا إفساد لفرحهم بإعلامهم أن الشيء الذي يعتقدونه مصيبة ليس كما
870
اعتقدوه، بل جميع الأحداث مما قد كتبه الله للمؤمنين. والمؤمنون إذن متوكلون على الله.
ويجاب بجواب آخر للمنافقين: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة، أما نحن فننتظر بكم إحدى العاقبتين السيئتين: إما تعذيبكم من الله بعذاب أو بأيدينا: وهو السبي أو القتل.
إبطال ثواب المنافقين
قبول الأعمال عند الله تعالى مشروط بقاعدة أساسية وطيدة وهي ارتكاز الأعمال الصالحة على قاعدة الإيمان بالله تعالى، فيكون الكفر والنفاق كل منهما سببا لإحباط الثواب ورد العمل في وجه صاحبه، وعدم الإفادة منه في الدار الآخرة، فيقع الكافر والمنافق في ندم شديد، لا مجال للتخلص منه، قال الله تعالى عن أعمال الكافرين: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) [الفرقان: ٢٥/ ٢٣]. وقال سبحانه عن أعمال المنافقين:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)
«١» [التوبة: ٩/ ٥٣- ٥٥].
نزلت الآية- كما روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: قال الجدّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي، قال: ففيه
(١) تخرج أرواحهم.
871
نزلت: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أي لقوله: أعينك بمالي. فهذه الآية نزلة في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا مالي أعينك به، فاتركني.
والمعنى: قل أيها النبي للمنافقين: مهما أنفقتم من نفقة في سبيل الله ووجوه البر طائعين أو مكرهين، لن يتقبل منكم، لأنكم كفرتم بالله ورسوله، وما زلتم في شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة، ولأنكم قوم فاسقون، أي عتاة متمردون خارجون عن الإيمان، والأعمال إنما تصح بالإيمان وإِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: ٥/ ٢٧].
وما منع قبول نفقات المنافقين إلا مجموع هذه الأمور الثلاثة: وهي الكفر بالله ورسوله، وعدم الإتيان بالصلاة إلا في حال الكسل، والإنفاق على سبيل الكراهية والبغض. فالمنافقون كفروا بالله ورسوله وبما جاء به بالفعل، والأعمال إنما تصح بالإيمان، وهم لا يصلون أمام الناس إلا وهم كسالى، لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا، ولا يخشون بتركها عقابا، فهي ثقيلة عليهم، كما قال تعالى: وَإِنَّها- أي الصلاة- لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة: ٢/ ٤٥]. ولا ينفقون نفقة في سبيل الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لها، لا تطيب بها أنفسهم، لأنهم لا ينفقون لغرض الطاعة، بل رعاية للمصلحة الظاهرة، وسترا للنفاق، ويعدون الإنفاق مغرما وخسارة بينهم.
فلا تعجبك أيها النبي وكل مشاهد أو سامع أموال المنافقين ولا أولادهم ولا سائر نعم الله عليهم، فإنما هي من أسباب المحن والآفات عليهم. والكلام بهذا الأسلوب أو اللفظ تحقير شأن المنافقين، فإن إعطاء الله لهم الأموال والأولاد بإرادته تعذيبهم بها.
أما أموالهم في الدنيا فهي سبب تعذيبهم بها حيث يتعبون في جمعها، ويصحبها
872
الهم والقلق، ثم ينفقونها كارهين في الجهاد والزكاة وتقوية غيرهم وكذلك أولادهم ربما كانوا سبب ألم وكرب، وفي الآخرة يعذبون عذابا شديدا، حيث تزهق أنفسهم أي يموتون على الكفر الذي يحبط العمل الصالح، وتكون النتيجة أنهم خسروا الدنيا والآخرة، والحال أنهم ماتوا وهم كافرون، وذلك هو الخسران المبين. فما يظن المنافقون في صدر الإسلام أنه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم.
والخلاصة: إن النفاق مرض خطير جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا ومبطل لجميع الخيرات فيهما، وإن أفعال الكافر والمنافق إذا كانت برّا كصلة الرحم وإطعام الفقير والمسكين وإغاثة المظلوم ينتفع بها في الدنيا، فترد عنه بعض المصائب، أما أن ينتفع بها في الآخرة فلا دليل عليه،
قالت عائشة أم المؤمنين للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أرأيت عبد الله بن جدعان- وهو الذي تم في منزله في الجاهلية عقد حلف الفضول الإنساني- أينفعه ما كان يطعم ويصنع من خير؟ فقال: «لا، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
وأما أفعال الكافر والمنافق القبيحة فإنها تزيد في عذابه، وبذلك يكون التفاضل بين الكفار في عذاب جهنم بحسب قبح أفعالهم.
نموذج من صفات المنافقين وأخلاقهم
طويت نفوس المنافقين وطبائعهم على أخس الصفات وأحط مظاهر الجبن والضعف والغدر لحماية موقفهم المتخاذل والتستر على كفرهم وترددهم بين الإسلام والجحود والإنكار وموالاة غير المسلمين، فأقدموا على الأيمان الكاذبة مرارا، ولم يتركوا فرصة إلا استغلوها للطعن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مثل أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم الصدقات من الأغنياء وتوزيعها بين المستحقين، متهمين النبي بالجور والمحاباة وعدم مراعاة العدل، وصف الله تعالى في قرآنه هذه الأخلاق بقوله سبحانه:
873

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [التوبة: ٩/ ٥٦- ٥٩].
روى البخاري والنسائي في بيان سبب نزول آية اللمز في الصدقات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم قسما، إذا جاءه ذو الخويصرة التميمي- وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج- فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّميّة»،
فنزلت فيهم الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ.. الآية.
هذه صور من أخلاق المنافقين تبين حقيقتهم، وتنبئ عن قلقهم ومخاوفهم المسيطرة على نفوسهم الضعيفة وتذبذبهم، فهم يحلفون بالله الأيمان الكاذبة بأنهم لمنكم، أي من جملة المسلمين، وهم في الواقع ليسوا منكم، فهم على غير دينكم، بل هم أهل شك وريبة ونفاق، ولكنهم قوم جبناء يخافونكم أيها المؤمنون فيحلفون، مظهرين الإيمان، مبطنين الكفر، ومسرّين النفاق، كما جاء في آية أخرى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) [البقرة:
٢/ ١٤].
(١) أي يخافون خوفا شديدا.
(٢) حصنا.
(٣) مغاور في الجبال.
(٤) موضعا يدخلونه أو سربا يلجون فيه
(٥) يسرعون في دخوله سرعة لا تقاوم.
(٦) يعيبك. [.....]
874
ومن مظاهر خوفهم: أنهم يتمنون الهرب والفرار من الأرض الإسلامية والعيش بعيدين عن المسلمين، فلو وجدوا ملجأ، أي مكانا يتحصنون فيه، أو مغارة، أي كهفا في الجبال، أو سربا في الأرض، أو مسلكا للدخول فيه بمشقة، لولوا إليه، أي رجعوا إليه، وهم يجمحون، أي يسرعون في ذهابهم عنكم على نحو لا يقاوم، لأنهم إنما يعيشون معكم كرها، لا محبة وودا، وضرورة لا اختيارا، فهم في هم وقلق، وحزن وغم، لتقدم الإسلام ورفعته، وانحدار الشرك وهزيمة المشركين.
بل وأوقح من هذا، فمن المنافقين من يعيب عليك ويطعن بك أيها النبي الرسول في قسمة الصدقات صدقات الأغنياء وزكواتهم أو الغنائم الحربية، فيطالب ذو الخويصرة رأس الخوارج رسول الله بالعدل قائلا: اعدل يا رسول الله، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟! ثم يقول رسول الله:
احذروا هذا وأصحابه، فإنهم منافقون.
ثم وصفهم الله تعالى العالم بالخفيات والأسرار بأن رضا هؤلاء المنافقين وسخطهم لمصلحة أنفسهم، لا للدين والحق والعدل وصلاح أهله لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تألف واستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم، فضجر المنافقون منه، فقال تعالى:
فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ أي إن أعطوا من الزكاة أو من الغنائم، ولو بغير حق رضوا، وإن لم يعطوا منها أعلنوا التبرم والسخط، حتى وإن لم يستحقوا العطاء، فهم إنما يغضبون لأنفسهم ومنافعهم، لا للمصلحة العامة.
ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الله والرسول من الغنائم وطابت به أنفسهم، وقالوا:
كفانا فضل الله وعطاؤه وصنعه، وكفانا ما أخذناه، وسيرزقنا الله غنيمة أخرى، ويعطينا رسول الله أكثر مما أعطانا اليوم، إنا إلى الله في طلب فضله ورضاه لراغبون، لا نرغب إلى غيره أبدا، لو أنهم رضوا بذلك وقالوا هذا القول الجميل لكان خيرا لهم وأولى وأكرم.
875
مصارف الزكاة
الزكاة أحد أركان الإسلام شرعت إغناء للفقراء وأخذا بيد الضعفاء وتحقيقا لما يسمى بمبدإ التكافل الاجتماعي لأن الإسلام يحض على التعاون ويكره التباعد والتنافر بين الناس، لذا حدد القرآن الكريم مصارف الزكاة تحديدا دقيقا واضحا لغاية معينة وهي علاج الفقر، ومواساة الضعفاء والعاجزين، وجاء هذا التحديد في الآية القرآنية الكريمة التالية:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [التوبة: ٩/ ٦٠].
حصر الله تعالى بكلمة إِنَّمَا في مطلع هذه الآية مصارف الزكاة، والمعنى: إنما الزكوات المفروضة مستحقة لهؤلاء المسلمين المعدودين دون غيرهم، وهذا رد على المنافقين الذين عابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصدقات، لبيان مصارفها من غير نقد من أحد، ولا مجال للاعتراض أو الطعن في الرسول عليه الصلاة والسلام في قسمة الزكوات الواجبة، فهي مقصورة على ثمانية أصناف من المسلمين، وإنما اختلف العلماء في صورة القسمة، فرأى جماعة كالإمام مالك وأبي حنيفة وابن حنبل: أن ذلك على قدر اجتهاد الإمام وبحسب أهل الحاجة ولو لصنف واحد. ورأى آخرون كالإمام الشافعي: أن الزكاة ثمانية أقسام على ثمانية أصناف، لا يخلّ بواحد منها إلا أن إعطاء المؤلفة قلوبهم يكون عند وجود الداعي إلى التأليف، ولا يجوز صرف الزكاة لأقل من ثلاثة أشخاص من كل صنف لأن أقل الجمع ثلاثة.
(١) جباة الزكاة والكتّاب والحراس.
(٢) الذين نتألفهم على الإسلام.
(٣) تحرير الأرقاء وفكاك الأسرى.
(٤) المدينين.
(٥) في الجهاد.
(٦) المسافر المنقطع عن ماله.
876
الصنف الأول: هم الفقراء المعدمون المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم، ولا يملكون شيئا من مال ولا كسب يغطي حوائجهم.
والصنف الثاني: هم المساكين الذين يملكون أقل من كفايتهم، أي أن لديهم شيئا من المال أو الدخل، ولكنه أقل من الحاجة، أو المصاريف الضرورية اللازمة للأسرة من زوجين وأولاد. وهذا يتغير بتغير الزمان وأحوال المدخولات وأسعار الأشياء وظروف المعيشة المتوسطة المعتادة.
وأجمع العلماء على أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن له أن يأخذ من الزكاة، وللمعطي أن يعطيه، ويرى الإمام أبو حنيفة: أن من ملك نصاب الزكاة وهو يقدر اليوم ب ٣٩٠٠٠ ل. س، فلا يأخذ من الزكاة، ويعطى من الزكاة في رأي المالكية والشافعية من لم يجد من المال كفاية السنة. ولا تنقل الزكاة من بلد المال الذي تجب فيه الزكاة إلى بلد آخر إلا لضرورة أو حاجة، كأن لم يوجد فقراء في البلد، أو لقريب محتاج، أو لفقير أحوج إلى المال، أو أصلح أو أورع أو أنفع للمسلمين.
الصنف الثالث: هم العاملون على جباية الزكاة من أهلها، وهم السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام الحاكم لتحصيل الزكاة بالتوكيل على ذلك، ويشمل ذلك في عصرنا القائمين على مؤسسات أو صناديق الزكاة في البلدان الإسلامية. ويعطى هؤلاء بقدر كفايتهم بصفة أجر على عملهم وإن كانوا أغنياء.
الصنف الرابع: هم المؤلفة قلوبهم وهم غير المسلمين لتأليف قلوبهم على الدخول في الإسلام، أو المسلمون الذين أظهروا الإسلام، ولكنهم ضعاف النية واليقين، والعزيمة والاستقرار في ساحة هذا الدين، يعطون من الزكاة لتثبيت وتقوية إسلامهم وعزائمهم، أو لأنهم شرفاء في قومهم يتوقع بإعطائهم من الزكاة استمالة أتباعهم ونظرائهم. ويستمر هذا المصرف عند الحاجة.
877
الصنف الخامس: وهم الأرقاء أو العبيد المكاتبون المسلمون الذين كاتبهم أو تعاقد معهم أسيادهم على التحرير إذا قدموا أقساطا من المال في فترة زمنية معينة، ولم يعد لهم وجود الآن بعد الاتفاق العالمي على إنهاء الرق من العالم عام ١٩٥٢.
الصنف السادس: وهم الغارمون، أي المدينون الذين ركبهم الدّين ولا وفاء عندهم به، أو الذين استدانوا مبلغا من المال لإصلاح ذات البين بين فريقين من الناس، ولو كانوا غير مسلمين.
الصنف السابع: في سبيل الله، وهم المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند، يعطون ما ينفقون في معاركهم، ولو كانوا أغنياء، ترغيبا لهم في الجهاد.
الصنف الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المحتاج المنقطع في أثناء الطريق عن بلده، أو الذي يريد السفر في طاعة غير معصية، فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة.
والطاعة تشمل الحج والجهاد والزيارة المندوبة، وليست المباحة فقط كالرياضة والسياحة. هؤلاء الأصناف الثمانية هم مستحقو الزكاة دون غيرهم.
أوصاف أخرى للمنافقين
كان القرآن الكريم حكيما معتدلا في حكمه على المنافقين عند نزول الوحي، سكت عنهم في مبدأ الأمر، ثم كشف عن زيفهم وسوء أخلاقهم وطبائعهم، وأظهر خبث أعمالهم وتصرفاتهم، وفحش أقوالهم وكلامهم، وموقفهم العدائي من نبي الله ومن المؤمنين، وهذه أوصاف أخرى لهم، قال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
«١» «٢»
(١) سمّاع لكل قول.
(٢) يسمع الخير لا الشر.
878
«١» [التوبة: ٩/ ٦١- ٦٣].
نزلت آية إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس- قال: كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله، فيجلس إليه، فيسمع منه، وينقل حديثه إلى المنافقين، فأنزل الله: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ الآية.
هذا لون آخر من جهالات المنافقين وحماقتهم، فمنهم من كان يقول في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنه أذن، أي سمّاع لكل قول، على وجه الطعن والذم، وإنه يصدق كل من حلف له، فهو أذن سامعة، يسمع كل ما يقال له، ويصدقه، فإذا جئنا إليه وحلفنا له صدّقنا، أي أنه سليم القلب، يغتر بكل ما يسمع، دون أن يتدبر فيه ويميز بين الأمور. فرد الله عليهم بأن النبي أذن خير، لا أذن شر، أي مستمع خير، لا مستمع شر، فيسمع ما يجب استماعه، ولكنه يعرف الصادق من الكاذب، ويعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها بناء على الظاهر منهم، ولا يكشف أسرارهم.
إن نبي الله قوي الإيمان، صافي القلب، لا يريد مجابهة المسيء بإساءته، فهو خير شامل ووجه الخيرية أنه يصدق بالله تصديقا جازما، ويؤمن بما أوحي إليه من ربه، ويصدق كلام المؤمنين الخلّص من المهاجرين والأنصار، لا غيرهم، وهو رحمة لأهل الإيمان، يقبل الإيمان الظاهر ولا يكشف الأسرار، مراعاة للمصلحة، وإعطاء للفرصة باستقامة واعتدال المنحرفين، ولا يصدق خبر المنافقين، ويعرف حقيقة أمرهم، وهو رحمة للعالمين، بهدايتهم لما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
(١) من يعاد.
879
وحينما تمادى المنافقون في غيهم وضلالهم، نزلت سورة التوبة (براءة) تفضح شأنهم، فسميت بالفاضحة أو الكاشفة فاضحة المنافقين وكاشفتهم، وكان يقال لها المنبئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم وقبائحهم.
ومن قبائحهم جميعا أنهم يحلفون كثيرا الأيمان الكاذبة ليرضى المؤمنون عنهم، ويعتذروا عن أفعالهم، ويحاولوا إعلان أنهم من المسلمين في الدين، والحال أن الله تعالى يعلم كذبهم، وأن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، فعليهم إظهار الإيمان الصادق والطاعة الحقيقية، إن كانوا مؤمنين بحق.
ثم وبخهم الله تعالى مبينا خطورة هذا الموقف، ومضمون التوبيخ: ألم يعلم هؤلاء المنافقون ويتحققوا أن من عادى الله ورسوله وخالفه بتجاوز حدوده أو الطعن برسوله في أعماله أو أقواله، فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا، مهانا معذبا فيها إلى الأبد، وذلك العذاب هو الخزي العظيم، أي الذل الكبير والشقاء الشنيع.
وسبب نزول آية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ فيما
روى ابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل من آي القرآن: والله، إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمير، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من الحمار، وسعى بها الرجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه، فقال: ما الذي حملك على الذي قلت؟ فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدّق الصادق، وكذّب الكاذب، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ.
إن كثرة الحلف من المنافقين كانت بقصد إبعاد التهم والشبهات عنهم، ولكن الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ويعلم ما تكنه الصدور، كشف أكاذيب المنافقين
880
وأظهر أنهم قوم يبطنون غير ما يظهرون، والله تعالى لهم بالمرصاد، يعاقبهم في الدنيا والآخرة.
تخوف المنافقين من نزول القرآن فاضحا لهم
إن إحسان المنافقين بنفاقهم هو الذي جعلهم يحذرون من نزول آيات قرآنية تتلى في حقهم، تكشف أمرهم، وتهتك سترهم، وتعلن للملأ حقيقة أمرهم، وهذا الإحسان في محله، وقد وقع ما كانوا يتخوفون منه، فنزلت الآيات التالية:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
«١» [التوبة: ٩/ ٦٤- ٦٦].
نزلت آية وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ..- فيما
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عمر- قال: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك في مجلس يوما: ما رأينا مثل قرآن هؤلاء، ولا أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء!! فقال له رجل: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبلغ ذلك رسول الله، ونزل القرآن.
وسمي الرجل في رواية أخرى: عبد الله بن أبي، أو وديعة بن ثابت، وهذا هو الأصح، لأن عبد الله لم يشهد تبوك.
هذه الآيات تخبر عن حال قلوب هؤلاء المنافقين، فهم يحذرون أن تتلى سورة في شأنهم، وهل تنزل آيات فيهم أو لا؟ فذلك معتقدهم الظاهر من الآية، فرد الله
(١) نتلهى بالحديث.
881
عليهم على سبيل التهديد والوعيد بقوله: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي استهزءوا بآيات الله كما يحلو لكم وكما تريدون فإن الله مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم. قال الطبري: كان المنافقون إذا عابوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكروا شيئا من أمره قالوا: «لعل الله لا يفشي سرنا» فنزلت الآية في ذلك. وهذا مثل قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) [محمد:
٤٧/ ٢٩- ٣٠].
ثم أقسم الله تعالى بأنه إن سألتهم أيها الرسول عن أقوالهم هذه وهزئهم بالقرآن أو بالنبي محمد، لاعتذروا عنها بأنهم لم يكونوا جادّين فيها، بل هازلين لاعبين خائضين في اللغو بقصد التسلي واللهو، فوبخهم الله وأنكر عليهم بقوله: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ أي إن المجال ليس مجال استهزاء، فإن الاستهزاء بالله وآياته ورسول كفر محض وشر مستطير.
فردّ الله عليهم: قل لهم يا محمد ليس قولكم عذرا مقبولا، وقل لهم على جهة التوبيخ، لا تعتذروا أبدا بهذا وغيره، ولا تفعلوا ما لا ينفع، للتخلص من هذا الجرم العظيم، فإنكم قد كفرتم وظهر كفركم، كما أظهرتم إيمانكم، وتبين أمركم للناس قاطبة.
فإن نعف عن بعضكم أو طائفة منكم لتوبتهم الخالصة، وهو رجل واحد اسمه مخشّ بن حميّر، نعذب طائفة، أي جماعة أخرى لبقائهم على النفاق، وارتكابهم الآثام، وإجرامهم في حق أنفسهم وغيرهم، فتعذيبكم بسبب إجرامكم.
إن هذه الآيات الكريمة تدل دلالة واضحة على أن الهزل في الدين وأحكامه،
882
والخوض في كتاب الله ورسله وصفاته بغير علم يعد جهلا وكفرا، لأن الهزل أخو الباطل والجهل، والإيمان يتطلب الأدب والعلم وتعظيم الله وآياته وأنبيائه.
ولا يقتصر الكفر على القلب، وإنما يشمل الأقوال والأفعال المكفرة. وإذا كان المنافقون كفارا قبل نزول هذه الآيات بسبب نفاقهم، فإن استهزاءهم كفر بعد كفر لأن الكفر يتجدد، وقد كفروا بعد أن كانوا مؤمنين في الظاهر.
ولا طريق للمنافقين لإصلاح شأنهم إلا بالتوبة الشاملة من النفاق، والتوبة عن الكفر أو النفاق مقبولة في كل وقت، فمن تاب عفي عنه، ومن أصر على الكفر أو النفاق عوقب في جهنم. وهذا أمر من أساسيات العقيدة، فلا يصح الهزل أو الهزء في قضايا العقائد، ومثل ذلك في العقود الزواج والطلاق،
لقول النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة».
أما الهزل في بقية العقود كالبيع والإجارة والشركة فلا يترتب عليه أثر، ولا ينعقد العقد في حال الهزل.
المنافقون قوم هدامون لبنية المجتمع
لم يقتصر سوء خلق المنافقين على أنفسهم وتكوينهم القبيح، وإنما تعدى ضررهم وقبح أخلاقهم إلى المجتمع، بقصد هدم بنيته وتقويض وجوده من طريق ترويج الرذيلة والمنكر، ومحاربة الفضيلة والمعروف، وهذا يشبه اتجاه بعض الحركات الهدامة المعاصرة، كالصهيونية في (بروتوكولات حكماء صهيون). ولا شك بأن الضرر العام أسوأ أثرا من الضرر الخاص، قال الله تعالى مبينا تحركات المنافقين في هدم القيم الإنسانية:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
883
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [التوبة: ٩/ ٦٧- ٧٠].
الآيات الكريمة تقرير حاسم بأن الخبيث لا يلد إلا خبيثا، كما أن الطيب لا يلد إلا طيبا، وفي المثل العربي: «إنك لا تجني من الشوك العنب» ومطلع الآيات إخبار وحكم من الله تعالى بأن المنافقين والمنافقات بعضهم يشبه بعضا في الحكم والمنزلة من الكفر، وفي صفة النفاق والبعد عن الإيمان، وفي الأخلاق والأعمال، فهم سلالة خبيثة يأمرون بهدم قيم المجتمع، يأمرون الناس بالمنكر: وهو ما أنكره الشرع ونهى عنه واستقبحه العقل السليم والعرف الصحيح، كالكذب والخيانة ونقض العهد وخلف الوعد، وينهون الناس عن المعروف: وهو كل ما أمر به الشرع وأقره العقل والطبع السليمان كالجهاد وبذل المال في سبيل الله. وأهل النفاق أيضا قوم بخلاء، يقبضون أيديهم عن الإنفاق لمصلحة عامة أو عن الجهاد، وعن كل ما يرضي الله، ونسوا ذكر الله، وأغفلوا تكاليف الشرع، مما أمر الله به ونهى عنه، فنسيهم الله، أي جازاهم بمثل فعلهم، وعاملهم معاملة المنسيين، بحرمانهم من لطفه ورحمته،
(١) يكفون أيديهم عن الخير.
(٢) أهمل توفيقهم وهدايتهم.
(٣) تكفيهم عقابا على كفرهم.
(٤) فتمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا. [.....]
(٥) دخلتم في الباطل.
(٦) بطلت وذهب ثوابها.
(٧) أصحاب قرى قوم لوط المنقلبات.
884
وفضله وتوفيقه في الدنيا، ومن الثواب في الآخرة، إن المنافقين هم الفاسقون، أي الخارجون عن طريق الحق والاستقامة، الوالغون الداخلون في طريق الضلالة، المتمردون في الكفر، المنسلخون عن كل خير.
ثم أكد الله تعالى وعيده السابق للمنافقين بمجازاتهم وضمهم إلى الكفار، فأوعدهم نار جهنم يدخلونها، ماكثين فيها أبدا، وخالدين مع الكفار الأصليين، هي حسبهم، أي كفايتهم في العذاب، ولعنهم الله، أي طردهم وأبعدهم من رحمته، ولهم عذاب دائم مستمر غير عذاب جهنم والخلود فيها.
وأوضح الله تعالى بعدئذ وجود الشبه بين المنافقين والكفار السابقين، فهم مثلهم مغرورون بالدنيا، لكنّ السابقين كانوا أشد من المنافقين قوة، وأكثر أموالا وأولادا، وتمتع الفريقان بملاذ الدنيا، وخاضوا في مشاغلها ولذائذها وحظوظها الزائلة، وشغلوا عن التمتع بكلام الله وهدي أنبيائه، ولم ينظروا في عواقب الأمور، ولم يعملوا على طلب الفلاح في الآخرة، والفرق بين الفريقين أن دواعي الخير توافرت لدى المنافقين، ولكن كانت دواعي الشر عند الكفار السابقين، فكان المنافقون أسوأ حالا من الكفرة السابقين، وأولئك الكفار حبطت وبطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة. وكانوا هم الخاسرين، فيكون المنافقون مثلهم.
ثم وعظ الله المنافقين المكذبين الرسل وأنذرهم بقوله: أَلَمْ يَأْتِهِمْ.. أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل وهم قوم نوح الذين أغرقوا بالطوفان وعاد قوم هود الذين أهلكوا بالريح العقيم، وثمود قوم صالح الذين أخذتهم الصيحة وقوم إبراهيم الذين سلبهم الله النعمة وقتل ملكهم النمرود بالبعوضة، والمؤتفكات أصحاب قرى قوم لوط في مدائن الذين أهلكهم الله بالخسف والزلزلة،
885
وما كان الله ليهلك أولئك الأقوام ظلما وجورا، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بسبب أفعالهم القبيحة وتكذيبهم الرسل، ومخالفة الحق، والعمل بالباطل.
والخلاصة: إن المنافقين يعملون على هدم قيم المجتمع، ويعادون الحضارة الإنسانية، فاستحقوا التدمير والمحق من الوجود، والعذاب في الآخرة.
المؤمنون بناة المجتمع الفاضل
بعد أن أبان الله تعالى صفات المنافقين والمنافقات، وأنهم هدامون لبنية المجتمع، وأعداء للحضارة الإنسانية الرشيدة، أعقب ذلك ببيان صفات المؤمنين والمؤمنات، وأنهم بناة المدنية والمجتمع المتحضر الفاضل، وعمار الكون وذوو الأهلية لإعلاء مجد الحضارة من الناحيتين المادية والمعنوية، وذلك لأنهم يشيدون صرح الفضيلة، ويقاومون الرذيلة، فاستحقوا البقاء والخلود في جنان الخلد، قال الله تعالى مبينا هذه الصفات الحميدة:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
[التوبة: ٩/ ٧١- ٧٢].
هذه هي صفات أهل الإيمان، إنها صفات إيجابية سامية، تخدم الفرد والجماعة، والأمة والمجتمع، ذكرها الله تعالى ترغيبا في الإيمان، وتنشيطا له، تلطفا من الله تعالى، مع مقارنة واضحة بين المؤمنين والمنافقين، فبين المؤمنين ولاية في الله خاصة ومناصرة لمبدأ الحق والعدل والفضيلة، وتعاون فيما بينهم وجزاؤهم الجنة، وأما
886
المنافقون فلا ولاية بينهم ولا شفاعة لهم، ولا يدعو بعضهم لبعض، وجزاؤهم نيران جهنم.
وهكذا شأن القرآن يذكر المتقابلات والأضداد، للعبرة والعظة، وإظهار الفروق، لاختيار الإنسان ما فيه المصلحة، وتجنب ما فيه المضرة والمفسدة، وليعلم المؤمنون أنهم يسيرون في طريق الهدى والرشاد، وأن المنافقين غير مؤمنين في الحقيقة، وهم سائرون في طريق الغواية والضلال.
تبين الآيات أن أهل الإيمان من الذكور والإناث متناصرون متعاضدون على الخير والمعروف والفضيلة وتقدم المجتمع، متآزرون في المواقف الصعبة كالهجرة والجهاد، الرجال يعتصمون بالعفة وغض البصر، والنساء يلتزمن الأدب الجم والحشمة والحياء والتعفف وغض البصر وقوة الحديث وستر اللباس وحسن العمل. الجميع يرتبطون برابطة الأخوة والإيمان، وتسودهم المحبة والمودة والتراحم والتعاطف، على عكس المنافقين الذين لا رابطة تجمعهم، ولا عقيدة تؤلف بينهم، وإنما هم أتباع بعضهم بعضا في الشك والجبن والبخل والانهزام والتردد.
المؤمنون نقيض المنافقين يأمرون بالمعروف الذي أقره الشرع وهو عبادة الله وتوحيده وتوابع ذلك، لا بالمنكر الذي نهى عنه الشرع، وينهون عن المنكر الذي يفسد ويضر، ويمزق ويفرق بين الأخ وأخيه وهو عبادة الأوثان وتوابعها، ويقيمون الصلوات الخمس المفروضة على الوجه الأكمل بقلوب خاشعة، وعقول واعية، وأفئدة ذاكرة، ويؤتون الزكاة الواجبة مع التطوع بالصدقات والنوافل لتحسين أوضاع المجتمع وترقية أحواله، ويطيعون الله ورسوله في جميع المأمورات والمندوبات، أولئك الموصوفون بهذه الصفات الجليلة ستغمرهم رحمة الله وفضله في الدنيا والآخرة. والتعبير بالسين في قوله تعالى: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إعداد النفوس
887
للتهيؤ والتنعم برجاء الله والثقة بوعده وفضله، ووعد الله ناجز، والله متكفل بإنجازه، والله قوي لا يغلب ولا يمتنع عليه شيء من وعد ولا وعيد، حكيم يضع الأمور في موضعها المناسب على وفق العدل والحكمة والصواب.
ثم صرح الله تعالى بمضمون وعده لأهل الإيمان، مفصلا ثمرات الإيمان من التعرض لرحمة الله وفضله، والظفر بجنان الخلد التي تجري الأنهار من تحت أشجارها، فتزيدها متعة وحيوية وجمالا، وهم ماكثون في الجنات إلى الأبد، ولهم فيها مساكن طيبة، أي حسنة البناء، طيبة القرار، وجناتهم جنات عدن هي اسم مكان ومنزل من منازل الجنة كالفردوس، كما قال تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم: ١٩/ ٦١] وللمؤمنين أيضا رضوان من الله أكبر وأعظم من الجنان، أي إن رضا الله عنهم أجل مما هم فيه من النعيم المادي المحسوس، وذلك دليل قاطع على أن السعادة الروحية أكمل وأشرف وأهنأ من السعادة الجسدية.
وهذه الأمور الثلاثة: الجنات والمساكن الطيبة في جنات عدن، والرضوان الإلهي الأكبر، هي جزاء أهل الإيمان، وذلك النعيم الجسدي والروحي هو الفوز العظيم وحده، دون ما يعده الناس فوزا من طيبات الحياة الدنيا الفانية التي يحرص عليها المنافقون والكفار ويطلبونها دائما.
بهذا يتميز أهل الإيمان والتحضر عن المنافقين دعاة الفوضى والتخلف، ولا شك بأن البقاء للأصلح، والدمار والفناء للأفسد.
أسباب جهاد غير المؤمنين
لقد تعرض المسلمون في صدر الدعوة الإسلامية لأنواع مختلفة من الأذى والتنكيل، بالقول والفعل، بالكيد والمؤامرة أحيانا، وبالسب والشتم أحيانا،
888
وبالطعن في الدين تارة، وبالحملات العسكرية المتكررة في كثير من الأوقات. ومع كل هذا هادنهم التشريع القرآني، وصبر المسلمون على إيذاء غيرهم ردحا طويلا من الزمان، ثم أذن الحق سبحانه وتعالى بإنذار الأعداء وقتالهم بسبب كثرة اعتداءاتهم، فقال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ٧٣- ٧٤].
أصح ما
روي في سبب نزول هذه الآية: ما رواه ابن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا في ظل شجرة، فقال:
إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلّموا، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: علام تشتمني أنت وأصحابك؟
فانطلق الرجل، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فتجاوز عنهم، فأنزل الله:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا.. الآية.
لم يبدأ المسلمون غيرهم بقتال، وإنما ابتدأ القرآن الكريم بتهديد الكفار وإنذارهم بالجهاد، وتنوعت أساليب الجهاد بحسب الأعداء المجاهدين، فكان جهاد الكافر المعلن عداوته بالسيف، وجهاد المنافق المتستر باللسان والتعنيف. وأسباب الجهاد:
إظهار الأعداء العداوة والمجاهرة بالكفر والتحدي، وحلف الأيمان الكاذبة، والتكلم بالكلمات الشنيعة الفاسدة، والجهاد ثلاثة أنواع: جهاد العدو الظاهر، وجهاد
(١) شدّد عليهم.
(٢) ما كرهوا وما عابوا.
889
الشيطان، وجهاد النفس والهوى، لقوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ [الحج: ٢٢/ ٧٨] وقوله سبحانه: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: ٩/ ٤١].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وغيره عن أنس: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»
وما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحة عن فضالة بن عبيد:
«المجاهد: من جاهد نفسه لله أو في الله عز وجل».
ومعنى الآية التي أودّ بيانها هنا: يا أيها النبي جاهد كلا من الكفار والمنافقين، وعاملهم بالشدة والخشونة، إرهابا لهم، وقمعا لمحاولات اعتدائهم، ولهم عذابان:
عذاب الدنيا بالجهاد وعذاب الآخرة في جهنم. وذلك لأنهم يظهرون العداوة والتحدي، ويجاهرون بالكفر صراحة، ويهمّون بالفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويستهزئون بآيات الله وبالنبي وبالمؤمنين، ويحلفون الأيمان الكاذبة، ويتلاعبون بالدين، مظهرين الكفر بعد أن أظهروا الإسلام، وهموا بما لم ينالوا ولم يتحقق مأربهم وهو اغتيال الرسول في العقبة، بعد رجوعه من غزوة تبوك. ولم يكن لأولئك المنافقين عذر في موقفهم المعادي بالرغم من أن الله تعالى أغناهم من فضله، ورسوله أيضا بإعطائهم من الغنائم الحربية بعد أن كانوا فقراء في المدينة.
ومع كل هذا لم يبادرهم المسلمون بالقتال، وفتح الإسلام لهم باب التوبة والأمل، فإن يتوبوا من النفاق ومساوئ الأقوال والأفعال، يكن ذلك خيرا لهم وأصلح، ويفوزوا بالخير، ويقبل الله توبتهم إن صدقوا في كلامهم. وإن يتولوا عن التوبة بالإصرار على النفاق، يعذبهم الله عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو القتل وسبي الأولاد والنساء واغتنام الأموال، والعيش في حال شديدة من القلق والخوف والهمّ، وما لهم في الأرض كلها من ولي يتولى أمورهم ويدافع عنهم، ولا نصير ينصرهم وينجيهم من ألوان العذاب، وهم في صف معاد للمسلمين،
890
والمسلمون المؤمنون يوالي بعضهم بعضا ويناصره، وأما المنافقون فلا ولاية لهم ولا نصرة بينهم، لا بجلب خير لهم، ولا بدفع شر عنهم، والآية تضمنت إحاطة علم الله بهم، وتوبيخهم على ما كانوا عليه من شرور وآثام، ومواقف وتحركات مشبوهة.
بخل المنافقين
يتميز المؤمن عن المنافق بسخائه وجوده وإنفاقه المال بصدق وإخلاص في سبيل الله ومن أجل إعزاز أمته وإعلاء شأن بلاده ودينه، منتظرا من الله تعالى الثواب الجزيل، وتعويض النفقة، وإخلاف الرزق، أما المنافق الذي لا أثر للإيمان في قلبه، ولا ينتظر من الله الخير، فتراه بخيلا ممسكا المال، يخاف الفقر خوفا شديدا، من غير إحساس بانتمائه للأمة، ولا إسهام في سبيل إعزازها والذود عن حياضها، قال الله تعالى مبينا خصلة البخل المتأصلة في نفوس المنافقين:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ٧٥- ٧٨].
ذكر بعض المفسرين كالطبري أن سبب نزول هذه الآية هو ثعلبة بن حاطب، وهو غير صحيح لأن ثعلبة هذا بدري أنصاري، شهد غزوة بدر الكبرى، وناصر النبي والمسلمين نصرا مؤزرا، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان، قال ابن عبد
(١) ما أسروه في قلوبهم من النفاق.
(٢) ما يتناجون به من المطاعن.
891
البر: ولعل قول من قال في ثعلبة: إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم.
وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن الحارث وجدّ بن قيس، ومعتّب بن قشير، قال القرطبي: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم، إلا أن قوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً يدل على أن الذي عاهد الله تعالى لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ.
فتكون الآية في بعض المنافقين الذي عاهد الله ورسوله: لئن أغناه الله من فضله، ليصدقن وليكونن من الصالحين الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله، كصلة الرحم والجهاد.
فلما رزقهم الله تعالى، وأعطاهم من فضله ما طلبوا، لم يوفوا بما قالوا، ولم يصدقوا فيما وعدوا، وإنما بخلوا به وأمسكوه، فلم يتصدقوا منه بشيء ولم ينفقوا منه شيئا في مصالح الأمة، كما عاهدوا الله عليه، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة عن العهد وطاعة الله، وأعرضوا إعراضا تاما عن النفقة وعن الإسلام، بسبب تأصل طبع النفاق في نفوسهم.
ولما أمدهم الله بالرزق من فضله وإحسانه، بخلوا بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما تعهدوا والتزموا، وتولوا مدبرين معرضين عن الإسلام والإيمان والإحسان. فهذه صفات ثلاث لهؤلاء المنافقين: البخل: وهو منع الحق، والتولي عن العهد وتنفيذ الالتزام، والإعراض عن تكاليف الله وأوامره. والعهد الذي كان من المنافقين إنما كان بالنية لا بالقول، فأعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم، أي صير عاقبة أمرهم نفاقا دائما في قلوبهم، أي زادهم نفاقا، أو أعقب بخلهم نفاقا، واستمر فيهم
892
ذلك النفاق ثابتا متمكنا ملازما قلوبهم إلى يوم الحساب في الآخرة، أي أنهم ماتوا منافقين.
وذكر الله تعالى سببين للموت على النفاق: وهما إخلاف الوعد والكذب، فقال سبحانه: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ لقد أخلفوا ما وعدوا الله تعالى من التصدق والصلاح، وكذبوا بنقضهم العهد وترك الوفاء بما التزموه. ثم وبخ الله تعالى هؤلاء المنافقين بأن الله يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يسرونه من الكلام، وما يتناجون أو يتحدثون به من الطعن في الدين، والله أعلم بما في نفوسهم مما يضمرونه من حقد وكراهية، يعلم كل غيب وشهادة، وكل سر ونجوى، وينطبق عليهم تماما
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عمر: «ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان»
وهذا الحديث وأمثاله في المنافقين الذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، الذين شهد الله عليهم. وصدور هذه الخصال من بعض المسلمين باعتبار النفاق اللغوي أو الاجتماعي، وأنها معاص لا نفاق في العقيدة، وأن هذه الخصال تشبه أفعال المنافقين.
جزاء المنافقين في الدنيا والآخرة
ينفر المجتمع وأهل الطبع السليم النقي من النفاق والمنافقين، لأن النفاق مرض خبيث وآفة خطيرة تجمع في مضمونها ضعف النفس ولؤم الطبع، وتبييت الغدر ومحاولة الطعن بغيرهم من المجتمع والأفراد، فلا يطمئن لهم إنسان، ولا يحمد لهم فعال، وهم أعداء الباطن والداخل، فيجب الحذر منهم والبعد عنهم، قال الله تعالى واصفا طباعهم:
893

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
«١» »
[التوبة: ٩/ ٧٩- ٨٠].
سبب نزول الآية: هو ما روى البخاري ومسلم عن أبي مسعود البدري قال: لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل على ظهورنا «٣»، فجاء رجل (هو أبو عقيل واسمه الحبحاب) بشيء كثير، فقالوا: مرائي، فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزل قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ.. الآية، أي يعيبونهم.
هذا لون من ألوان طبائع المنافقين وأعمالهم القبيحة، وهو لمزهم (أي عيبهم) المتطوعين الذين يأتون بالصدقات طوعا واختيارا. وهو موقف غريب يدل على تأصل النفاق في قلوبهم، وأنه لا يرجى منهم الخير أبدا. فهم لا يكتفون بالامتناع عن الإنفاق في سبيل الله، بل ويعيبون من ينفق من المسلمين المتطوعين بسخاء في الصدقات، بل والذين يبذلون أقصى جهدهم، فلا يجدون عندهم ما ينفقونه في سبيل الله إلا القليل، وتراهم لا همّ لهم إلا الطعن والهزء والسخرية، فيهزءون من جميع المتطوعين في الصدقات بالقدر القليل أو الكثير، وخصص الله تعالى المقلّين بعد المكثرين، من قبيل عطف الخاص على العام لأن السخرية منهم كانت أشد وأوقع.
فكان جزاؤهم المحقق أن الله جازاهم على سخريتهم وهزئهم بمثل ذنبهم، حيث صاروا إلى النار، وتعرضوا للعذاب المؤلم الشديد الإيلام. وعبّر الحق تعالى عن ذلك بقوله: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وهذا من قبيل ما يسمى في اللغة العربية
(١) المنافقون الذين يعيبون.
(٢) طاقتهم.
(٣) أي نستأجر في الأعمال، ونحمل الأحمال على ظهورنا بالأجرة، ونتصدق منها أو بها.
894
بالمشاكلة أو المشابهة، فهم يستهزئون بالمنفقين ويستخفّون منهم، فيعاقبون بما يناسب فعلهم، سخر الله منهم وهو تسمية العقوبة باسم الذنب، وهي عبارة عما حلّ بهم من المقت والذل في نفوسهم، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم، وهذا وعيد محض.
وهناك حكم آخر متعلق بالمنافقين، وهو أنهم كالكفار ليسوا أهلا للاستغفار، ولا ينفعهم الدعاء، فسواء استغفر لهم الرسول أم لم يستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم، ولن يستر عليهم ذنوبهم بالعفو عنها، وترك المساءلة، فيكون مثل قوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة: ٩/ ٥٣] ولو فرض أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استغفر لهم سبعين مرة، أي مرات كثيرة، فلن يغفر الله لهم ولن يعفو عنهم، والآية كقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون:
٦٣/ ٦]. وليس المراد بالسبعين في الآية التحديد بعدد معين، فيكون ما زاد بخلافها، أي لا يصح أن يفهم أن الزيادة على السبعين يغفر معها، وإنما المراد المبالغة والتكثير في الكلام بحسب أسلوب العرب. والسبب في عدم قبول الاستغفار والدعاء للمنافقين هو ما صرح به القرآن الكريم: أنهم كفروا وجحدوا بالله ورسوله، فلم يقروا بوحدانية الله تعالى، ولم يعترفوا ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأصروا على الجحود والإنكار، فلم تعد قلوبهم مستعدة لقبول الخير والنور، وسنة الله وقانونه ألا يوفق للخير القوم المتمردين في الكفر، الخارجين عن الطاعة، الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والتوبة، وذلك هو سبب اليأس من الغفران لهم وامتناعه عنهم.
فرح المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك
تمتحن الأمة والجماعات والأفراد بالمحن والمواقف الصعبة أو الحرجة، فيعرف المحسن من المسيء، والمخلص من الخائن، والصادق من الكاذب، فيكون للمحنة
895
فضل أو ميزة بكشف أحوال الناس، وتعرضهم للامتحان والاختبار، وهكذا غربلت الأحداث الجسام مواقف المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن تلك الأحداث الحاسمة غزوة تبوك التي حدثت في الصيف، ومن أجل مجابهة عدو قوي، كثير العدد، متفوق العدد والسلاح، وهذا ما سجّله القرآن الكريم، ليكون عبرة للأجيال، ودرسا بليغا للجماعات والأفراد، قال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ٨١- ٨٢].
ذكر المفسرون روايات في بيان سبب نزول الآية،
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله، الحر شديد، ولا نستطيع الخروج، فلا ننفر في الحر، فأنزل الله: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ.
وأخرج ابن جرير أيضا عن محمد بن كعب القرظي قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حر شديد إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا الآية.
هذه آية تتضمن وصف حال المنافقين على جهة التوبيخ واللوم لهم، بسبب فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد، وفي ضمنها وعيد.
وقد نزلت الآية أثناء السفر، بقصد الذم، والإخبار عن مصير المنافقين في الآخرة، وتلك عبرة لكل متخلف عن الجهاد.
(١) بعد خروجه أو لمخالفته.
(٢) لا تخرجوا للجهاد.
896
والمعنى: فرح أولئك المنافقون المتخلفون، أي المتأخرون عن الجهاد القاعدون في المدينة في بيوتهم، بعد أن تركهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند خروجه إلى غزوة تبوك. وسبب فرحهم عدم إيمانهم بأن في الجهاد خيرا، وسبب آخر هو كراهيتهم الجهاد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والفرح بالإقامة يدل على كراهة الذهاب، أي أنهم فرحوا لأمرين: التخلف والبقاء في المدينة، وكراهة الذهاب إلى الجهاد. ومنشأ هذين الأمرين هو الشّحّ إذ لا يؤمنون بالثواب في سبيل الله، مما جعلهم يضنون بالدنيا.
ولم يقتصر الأمر على فرحهم بأنفسهم، بل أغروا غيرهم بعدم الخروج، وقال بعضهم لبعض: لا تخرجوا للجهاد لأن غزوة تبوك في شدة الحر، وقد طابت الثمار والظلال المتفيأ بها. فرد الله عليهم بقوله: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا أي إن نار جهنم التي أعدت للعصاة أشد حرا مما فررتم منه من الحر، فلو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به، لما خالفوا وقعدوا، ولما فرحوا بل حزنوا، فأقيمت عليهم الحجة بأن قيل لهم: فإذا كنتم تجزعون من حر القيظ، فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها لو فهمتم.
والأولى بهم أن يضحكوا ويفرحوا قليلا، ويبكوا كثيرا، وهذا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وإلى تأبيد الخلود في النار، أي إن ما هم عليه من الخطر مع الله وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا، وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا.
وهذا خبر عن حالهم وارد بصيغة الأمر: فَلْيَضْحَكُوا يقصد به التهديد وانتظار ما سيلاقون من عذاب شديد، جزاء على ما اقترفوه أو اكتسبوه من الجرائم والنفاق.
وقوله: جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ متعلق بالمعنى المقدر، وهو: وليبكوا كثيرا إذ هم معذّبون جزاء. وقوله يَكْسِبُونَ نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به الثواب
897
والعقاب. وهذا غاية العدل الإلهي، فإن الجزاء على قدر العمل، وكل إنسان مجازي بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا يحق لأحد الاعتراض ما دام العمل المكتسب هو أساس الجزاء، وميزان الأعمال، وسبب الثواب والعذاب.
معاملة النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل النفاق
إذا انكشف الموقف العدائي لقوم أو شخص، وجب الحذر منه، ومعاملته بما يستحق من اتخاذ موقف حاسم يدرأ الخطر، ويكشف العدو، ويمنع الاسترسال في عدوانه وأذاه. وإذا كان المنافقون في داخل الأمة أخطر من العدو الخارجي، وجب نبذهم وتحييدهم حتى لا يفسدوا غيرهم. ووجب إظهارهم أنهم غير مؤمنين، ولم يصح لأحد الاغترار بمظاهرهم الفاتنة في الدنيا من مال وثراء، أو ولد وجاه وغير ذلك، وهذه المواقف هي التي قررها القرآن في معاملة المنافقين، فقال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ٨٣- ٨٥].
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي (زعيم المنافقين) جاء ابنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام ليصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب، وأخذ
(١) أي المتخلفين من النساء والولدان وأهل الأعذار.
(٢) تخرج أرواحهم. [.....]
898
بثوبه، وقال: يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي على المنافقين؟
قال: إنما خيرني الله، فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وسأزيده على السبعين، فقال: إنه منافق، فصلى عليه، فأنزل الله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ فترك الصلاة عليهم.
وقد فهم عمر ذلك من قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ على أنه تقدم نهي صريح،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما خيرني الله»
يراد به أنه مجرد استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له.
هذه الآيات الكريمة تبين حكم معاملة زعماء النفاق، وهي تأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه إن ردك الله من سفرك بالرجوع من غزوة تبوك إلى طائفة من المتخلفين المنافقين، فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى، فقل لهم تعزيرا وعقوبة: لن تخرجوا معي أبدا على أية حال، ولن تقاتلوا معي أبدا عدوا بأي وضع كان لأنكم معشر المنافقين اخترتم القعود عن أول مرة، وتخلفتم بلا عذر، وكذبتم في أيمانكم الفاجرة، وفرحتم بالقعود، وأغريتم غيركم بالتخلف عن الجهاد، فاقعدوا أبدا مع الخالفين، أي مع فئة النساء والصبيان والعجزة وأهل الأعذار.
ثم أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يبرأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا عليه، وهذا حكم عام في كل كافر أو منافق لا يدعى له ولا يستغفر له، لأنه كافر بالله ورسوله، ومات على الكفر أو النفاق، والفسق، أي الخروج من دين الإسلام والتمرد على أحكامه، وتجاوز حدوده وأحكامه من أوامر ونواه.
ثم خاطب الله تعالى نبيه، والمراد أمته، ممن لا تفتنه زخارف الدنيا، فلا تستحسن أيها النبي وكل مؤمن ما أنعمنا به على المنافقين وأمثالهم من الأموال
899
والأولاد، فلا يريد الله بهم الخير، إنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب، وتخرج أرواحهم، ويموتوا على الكفر، وهم مشغولون بالتمتع بالدنيا عن النظر في عواقب الأمور.
أكد القرآن الكريم على هذا المعنى في هذه الآية لأن الناس كانوا وما زالوا يفتتنون بصلاح حال المنافقين والكافرين في دنياهم، وهذا خطأ لأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وليس الغنى أو الثراء دليلا على رضوان الله على الغني أو الثري، فقد يكون ذلك فتنة، وقد يكون عدلا إلهيا أن يمتّع المنافق أو الكافر في الدنيا، ليحرم من نعيم الآخرة، وقد يكون ذلك حجة بالغة على المنحرف، فبالرغم من فضل الله عليه ورحمته به وإمداده بالمال والولد، يجحد نعم ربه، ويكفر بخالقه، فيكون ذلك سببا لتشديد عذابه وعقابه.
موقف المنافقين والمؤمنين من الجهاد
تتبين مواقف الرجال وتتجلى خصالهم العالية في أحوال تحتاج لقدر كبير من التضحية بالنفس والمال، لذا كان هذا الأمر محكّ اختبار الصادقين من الكاذبين، وبه انكشف حال الجماعة المنافقين، وتميّز شأن المؤمنين المخلصين المشاركين في الجهاد، في مواجهة تخلص أهل النفاق من القيام بالواجب بمختلف الأعذار الواهية، وقد وازن القرآن الكريم بين موقفي الفريقين في الآيات التالية:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
«١» «٢»
(١) أصحاب الغنى والسعة من المنافقين.
(٢) الخوالف: أخسّة الناس وأخلافهم ومن لا خير فيهم كالنساء المتخلفات عن الجهاد.
900
[التوبة: ٩/ ٨٦- ٨٩].
ذم الله تعالى في هذه الآيات فريقا وامتدح فريقا آخر، ذم المتخلفين عن الجهاد مع القدرة عليه، وتوافر الثروة والغنى، فاستأذنوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في القعود عن الجهاد، وأما المؤمنون فهم الذين يبادرون لخوض المعارك بهمة قعساء وعزيمة مضّاء.
لقد كانت عادة المنافقين التهرب من الجهاد، فكلما أنزلت سورة أو آية فيها الأمر بالإيمان والجهاد مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، استأذن أولو الطول، أي أصحاب الغنى والسعة وأولو المقدرة على القتال والجهاد بالمال والنفس في التخلف بأعذار واهية، قائلين للنبي: اتركنا مع القاعدين في بيوتهم من النساء والصبيان والعجزة والضعفاء، وهذا غاية الجبن والمذلة والهوان، وطعن برجولتهم، ومساس بكرامتهم وعزتهم.
إنهم رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف المتخلفة من النساء، وفي هذا تقريع شديد وتشنيع ولو واضح، إذ يأبى الرجل العزيز أن يكون مثل المرأة في مواقف الرجولة. واستحقوا بهذا أن يختم أو يطبع على قلوبهم حتى لا ينفذ إليها النور والعرفان والهداية والعلم، فأصبحوا لا يفقهون، أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم، فيفعلونه، ولا ما فيه مضرّة فيجتنبونه، ولا يدركون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد.
ثم قارن الله تعالى وضع المنافقين الذين لم يجاهدوا بوضع المؤمنين، وهو أن الرسول وأهل الإيمان معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقاموا بواجبهم خير قيام، فنالوا الخيرات (أي المستحسن من كل شيء) في الدنيا كالنصر وهزيمة الكفر، وفي الآخرة بالاستمتاع في جنات الفردوس والدرجات العالية، وأولئك هم
901
الفائزون بالسعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، على عكس المنافقين الذين حرموا منهما تماما. والسبب واضح: وهو إيمان المؤمنين الخالص المستقر في نفوسهم، وافتقاد ذلك في قلوب المنافقين، فاستحق المؤمنون الفلاح أي إدراك البغية من الجنة، وتعرض المنافقون للخسران والهلاك.
وأدى ذلك إلى أن يهيّئ الله الجنة والنعيم وأن يظفر المؤمنون بجنان الخلد التي تجري الأنهار من تحت أشجارها، ماكثين فيها على الدوام، متمتعين بالبقاء في عالم الأبد، وذلك هو الفوز العظيم، أي المرتبة العليا التي لا مرتبة فوقها والحصول على الأمل والبغية، وهم أهل السعادة الأبدية، كما أنهم في الدنيا أهل الفلاح بالاستمتاع بالنصر والعزة، والثروة والكرامة، وانتصار الإيمان على الكفر، والهداية على الضلالة.
والتفاوت الواضح بين مرتبة المؤمنين في الدنيا والآخرة ومرتبة المنافقين الكافرين منشؤه التضحية والعمل المشرّف، وهذا حق وعدالة، فلا يعقل أن يسوى بين المجدّ والمتقاعس، وبين العامل والقاعد، ومقتضى العدل في ميزان الشرع والعقل أن يكافأ المحسنون بأفضل أنواع الإحسان، وأن يهمل المسيئون ويتعرضوا لمختلف ألوان الذل والهزيمة والتعرض للعقاب الشديد لأن بناء الأمجاد وتحقيق السيادة لا يقومان إلا على سواعد العاملين المخلصين.
حكم أهل الأعذار في الجهاد
ليس الجهاد فرضا إلا على القادرين على حمل السلاح، من الرجال البالغين الأشداء، أصحاب القوة البدنية والمالية، فهم المكلفون أصالة بهذا الواجب المقدس، أما أصحاب الأعذار من النساء والضعفاء والمرضى والعاجزين عن النفقة، فلا حرج عليهم بترك الجهاد، وهذا ما أبانه القرآن الكريم في قوله تعالى:
902

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]

وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)
«١» «٢» «٣» [التوبة: ٩/ ٩٠- ٩٢].
تضمنت الآيات الكريمة الكلام عن أربع فئات من الناس: وهم المعتذرون بحق من الأعراب، والمنافقون، والمعاقون العاجزون بالفعل، والبكاؤون. أما المعتذرون بأعذار هي حق من الأعراب البدو فهم قوم مؤمنون غير كافرين وهو رأي ابن عباس بدليل أن التقسيم في الآية يقتضي ذلك، وأنه ذكر بعدهم فريق القاعدين المكذبين، فلو كان الجميع كفارا، لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص، وتعرض الكل للعذاب الأليم، هؤلاء المعتذرون بعذر مقبول: هم كما
قال الضحاك: رهط عامر بن الطفيل أو نفر من بني غفار، جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، إنا إن غزونا معك، أغارت أعراب طيّ على أهالينا ومواشينا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: سيغنيني الله عنكم. جاء هؤلاء المعتذرون الأعراب بهذا العذر يطلبون الإذن من النبي صلّى الله عليه وسلّم في التخلف عن غزوة تبوك، فقال لهم: «قد أنبأني الله من أخباركم، وسيغنيني الله عنكم».
وهؤلاء صادقون غير مذمومين ولا محمودين كما يظهر من الآية.
والصنف الثاني: هم الذين قعدوا عن الجهاد، الذين كذبوا الله ورسوله بادّعائهم الإيمان، وهم منافقو الأعراب الذين جاؤوا ولم يعتذروا، وظهر بذلك أنهم كاذبون، هؤلاء توعدهم الله بالعذاب المؤلم في نار جهنم لأنهم قوم كافرون غير مؤمنين.
(١) المعتذرون بالأعذار الكاذبة.
(٢) إثم.
(٣) تمتلى بالدمع.
903
والصنف الثالث: هم أصحاب الأعذار الحقيقية القاهرة بسبب عجزهم وضعفهم أو مرضهم أو عماهم وعرجهم، أو افتقادهم نفقة الجهاد، وهؤلاء لا إثم ولا ذنب عليهم في تركهم الجهاد إذا نصحوا لله ورسوله بنياتهم وأقوالهم سرا وجهرا، بأن أخلصوا الإيمان بالله، وأطاعوا الرسول في السر والعلن، وعرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه، وحافظوا على مصلحة الأمة العليا من كتمان السر، وعدم ترويج الإشاعات الكاذبة أو المغرضة، فما على المحسنين من سبيل، أي ليس عليهم جناح ولا مؤاخذة، ولا مجال لعتابهم، ولا إثم عليهم لقعودهم عن الجهاد، والله غفور: كثير المغفرة لهم ولأمثالهم، رحيم بهم، فلا يكلفهم ما لا طاقة لهم به. أما العصاة والمنافقون فلا يغفر الله لهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن العصيان والنفاق الذي كان سببا في الإثم.
وترك التكليف بالجهاد عن أصحاب الأعذار بسبب ضعف البدن أو المرض أو الزمانة أو عدم النفقة تقرّر في آية أخرى هي قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ «١».. [النور: ٢٤/ ٦١].
وروى أبو داود عن أنس ابن مالك: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر».
والصنف الرابع والأخير: هم كما ذكر ابن إسحاق في سياق غزوة تبوك جماعة البكّائين، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف أو هم ستة أو سبعة إخوة من بني مقرّن، وهو رأي جمهور المفسرين، جاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك ليحملهم، أي يعدّ لهم وسائل الركوب، فلم يجد ما يحملهم عليه، فتولوا
(١) أي إثم.
904
وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون في سفر الجهاد، وما يتطلبه في الماضي والحاضر من وسائط النقل، لحمل الأثاث والركوب، فهؤلاء في هذه الحال لا إثم ولا ذنب عليهم، وهم قوم محمودون غير مذمومين، بسبب ظهور إخلاصهم، واعتذارهم بما هو حق وعذر مقبول.
حكم المتخلفين عن الجهاد بغير عذر
من الطبيعي أن يؤاخذ الله المتخلفين عن الجهاد بغير عذر، وأن ينذر بالعذاب والعقاب أولئك المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ثم يحاولون الاعتذار للمؤمنين بالأعذار الكاذبة، والأساليب الملتوية، والأيمان الملفقة، قاصدين بذلك إرضاء المؤمنين، وهم غافلون تمام الغفلة عن إرضاء الله رب العالمين، وهذا بيان القرآن الكريم في شأن الفريقين، قال الله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٣ الى ٩٦]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
«١» [التوبة: ٩/ ٩٣- ٩٦].
أبان الله تعالى في آية سابقة أنه لا مؤاخذة على المؤمنين المحسنين وهم ذوو الأعذار
(١) قذر وخبث.
905
بحق، إنما المؤاخذة على من كان مستأذنا لترك الجهاد من المنافقين الأغنياء القادرين على إعداد العدة من زاد وراحلة وسلاح وغير ذلك، ولا عذر لهم مطلقا، وسبب استحقاقهم المؤاخذة: أنهم رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء والصبيان والعجزة والمرضى وأهل الأعذار الحقيقية، وترتب على تقصيرهم وتقاعسهم أن طبع (ختم) الله على قلوبهم، حتى لا يصل إليها الخير، ولا ينفذ إليها النور، فهم لذلك لا يهتدون، ولا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا، ولا يعلمون الخير حتى يتجهوا إليه، وهكذا تظلم قلوب أهل المعاصي وتقسو، فلا تفتح لخير أو رضوان.
ذكر ابن عباس أن آيات المعتذرين المنافقين وهم ثمانون رجلا نزلت فيهم، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة بأن لا يجالسوهم ولا يكلموهم.
لقد أخبر القرآن الكريم في هذه الآيات بما سيكون من أمر المنافقين المتخلفين في المدينة وما حولها عن تبوك. إنهم حين رجوع المؤمنين من تبوك سيعتذرون للمؤمنين عن تخلفهم عن الجهاد بغير عذر، فرد الله عليهم آمرا نبيه بإخبارهم: لا تعتذروا بالأعذار الكاذبة لأنا لن نصدقكم أبدا، ولأن الله أخبرنا سلفا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وأحوالكم، وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد ومناقضة الحقائق، وسيظهر الله أعمالكم للناس في الدنيا، وسوف يكون مصيركم إلى الله عالم الغيب والشهادة، بعد البعث من القبور، فيعلم ما تكتمون وما تعلنون، فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها، ويجزيكم عليها. وهذا تصريح بتوبيخ المنافقين والعقاب على أعمالهم، والتخويف من الله.
ثم أخبر الله تعالى عن تأصّل الكذب في المنافقين، إنهم سيحلفون لكم الأيمان الكاذبة معتذرين، لتعرضوا عنهم أيها المؤمنون، فأعرضوا عنهم ولا تعاتبوهم ولا
906
توبخوهم، احتقارا لهم لأنهم رجس البواطن أخباث الاعتقادات، لا يقبلون التطهير، لأنهم منافقون، ومسكنهم جهنم، جزاء بما اكتسبوه في الدنيا من الآثام والخطايا، فلا ينفع معه التوبيخ أو اللوم في الدنيا والآخرة.
وحقيقة أيمانهم الكاذبة أنها ليست لوجه الله وإنما لمجرد استرضاء لكم معشر المؤمنين لتستمروا في معاملتهم كالمسلمين. وإنكم إن رضيتم عنهم، فلا ينفعهم رضاكم، إذا كانوا في سخط الله، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين، أي الخارجين عن طاعة الله والرسول، فليكن همهم إرضاء الله ورسوله، لا إرضاؤكم، كما وصفهم الله بقوله: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
[النساء: ٤/ ١٠٨] وقوله عز وجل: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر: ٥٩/ ١٣]. وهذا إرشاد ونهي للمؤمنين عن الرضا عن المنافقين، والاغترار بأيمانهم الكاذبة، وكفى بالله عليما ومعلما للمؤمنين منهج الحياة الاجتماعية وطريق معاملة المنافقين وغيرهم من أصحاب البدع المنكرة، فعلى المؤمنين أن يبغضوا المنافقين، وألا يرضوا عنهم لسبب دنيوي، من غير تفرقة بين منافق حضري أو بدوي.
كفر بعض الأعراب ونفاقهم
من المعلوم أن العيش في المدن والحواضر أقرب للمدنية والعلم بالأحكام الشرعية، وأن البداوة سبب للجهل والوقوع في الكفر والنفاق، فعلى سكان البوادي أو الصحاري أن يتنبهوا لهذا النقص، ويحاولوا تدارك ما هم عليه من بعد عن المدن ومواضع العلم والثقافة، فيسألوا العلماء، ويترددوا على مجالس العلم بقدر
907
الإمكان، حتى لا يبقوا في غمرة الجهل، أو التورط في الكفر والنفاق، قال الله تعالى واصفا بعض سكان البوادي وهم الأعراب:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
«١» «٢» «٣» «٤» [التوبة: ٩/ ٩٧- ٩٩].
قال الواحدي: نزلت آية الْأَعْرابُ في أعاريب من أسد وغطفان ومن أعاريب حاضري المدينة. وقال ابن جرير الطبري فيما يرويه عن مجاهد: نزلت آية:
وَمِنَ الْأَعْرابِ.. في بني مقرّن الذين نزلت فيهم آية: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ.. [التوبة: ٩/ ٩٢]. وقوله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً لفظة عامة، ومعناها الخصوص فيمن استثناه الله عز وجل، وهم جماعة من المنافقين كانوا في البوادي، وصفوا بالكفر والنفاق، لبعدهم عن المدن ومواضع العلم وأحكام الشرع.
والمعنى: أن بعض الأعراب سكان البادية كفرهم ونفاقهم أعظم وأشد من غيرهم، وأولى وأحرى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من فرائض الشرع لأنهم أغلظ طبعا، وأقسى قلبا، وأكثر جهلا وبعدا عن العلماء والعلم، ولانشغالهم بتربية الحيوان ورعي الأنعام، والمراد بالحدود هنا: السنن والأحكام ومعالم الشريعة.
هذه إحدى صفات البدو.
وهناك صفة أخرى للبدو، فبعضهم منافق، ينفق ماله رياء وسمعة وتقربا
(١) غرامة وخسرانا.
(٢) ينتظر بكم مصائب الدهر.
(٣) الضرر والشر.
(٤) دعواته واستغفاره.
908
للمسلمين، ويعدّ ذلك مغرما وخسارة لأنه لا يرجو به ثوابا عند الله تعالى، وينتظر الأحداث والآفات والمصائب بالمؤمنين التي لا مخلص للإنسان منها، فهي تحيط به كما تحيط الدائرة، وهم بنو أسد وغطفان. فرد الله عليهم بأن دائرة السّوء ووقوع المصيبة تدور بهم وحدهم، وتلازمهم ولا تفارقهم. وهذا وإن كان بلفظ الدعاء من الله عز وجل عليهم، فالمراد به إيجاب الشيء وتحققه ولحوقه بهم: لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهم في قبضته، مثل قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) [الهمزة: ١٠٤/ ١] وقوله سبحانه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) [المطفّفين: ٨٣/ ١] فهي كلها أحكام تامة، تضمنها خبره تبارك وتعالى، وقد وقعت فيهم، وأصيبوا بالهزيمة والخذلان.
والله سميع لما يقولون عند الإنفاق، عليم بما يضمرون وبمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان.
وهاتان الصفتان في بعض الأعراب لا تعني أنهم جميعا متصفون بهما، فمنهم مؤمنون، أي فبعض آخر من الأعراب يؤمنون إيمانا صحيحا بالله والرسول ويؤمنون باليوم الآخر، مثل جهينة ومزينة، وبني أسلم وغفار، وينوون بنفقتهم في سبيل الله القربة عند الله عز وجل، والتوصل لدعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ففي دعائه لهم خير الآخرة في النجاة من النار، وخير الدنيا في أرزاقهم ومنح الله لهم، ومن المعلوم أن الصلاة من الله على عباده رحمة، ومن النبي والملائكة دعاء، ومن الناس عبادة.
إن هذه النفقات التي ينفقها بعض الأعراب بإخلاص وحسن نية، ستكون قربة خالصة ودرجة رفيعة يتقربون بها عند الله تعالى، وسيدخلهم الله بها في رحمته، أي في جنته ورضوانه، إن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة للمخلصين في أعمالهم، فهو سبحانه يستر لهم ما فرط منهم من ذنب أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم إلى صالح الأعمال المؤدية إلى حسن الختام والمصير، ويجعلهم أهلا لرضوانه وفضله، وإحسانه ومدده.
909
فئات الناس في مجتمع المدينة
يتركب المجتمع المدني من فئات مختلفة وأصناف شتى، فهناك المستقيم المحسن، والمعوج المسيء، والمتوسط المحايد، وهكذا كان أصناف الناس في المدينة المنورة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمنهم الطبقة العليا من أهل الإيمان، ومنهم الفئة الدنيا الوالغة في الكفر والضلال، ومنهم الفئة المتوسطة التي جمعت بين الخير والشر، وخلطت العمل الصالح بالسيئ، وهذا التركيب الفئوي ذكره القرآن الكريم بصريح نصوصه، فقال تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٢]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ١٠٠- ١٠٢].
هذه الآية تبين المنزلة الرفيعة التي تبوأها الصحابة الكرام من السابقين الأولين في الهجرة والنصرة للنبي والإسلام، من المهاجرين من مكة إلى المدينة والأنصار في المدينة، ومن التابعين الذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم، ورضوا عن الله بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية، فأنقذهم من الشرك والضلال، ووفقهم إلى الخير، وهداهم إلى الحق، وأعزهم وأغناهم، وأعزّ بهم الإسلام، وأعد وهيأ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا على الدوام، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز غيره، وهو فوز شامل، كما أن نعيم الجنة نعيم مادي وروحاني معا.
(١) تمرنوا عليه وتدربوا.
(٢) أي شديد.
910
والصحابة الكرام: هم كل من لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمنا به ومات على الإسلام، وهم في الفضل درجات، وأفضلهم الذين سبقوا إلى الإسلام والهجرة ونصرة نبي الله.
والتابعون لهم بإحسان، أي بالإيمان والطاعة: هم الذين أدركوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهذا التعبير يشمل جميع الأتباع إلى يوم القيامة، كما
نبّه إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».
والحكم بالرضا عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم: هو الحكم بالرضا عنهم من الله بإدخالهم الجنة وغفر ذنوبهم، والحكم برضاهم عن ربهم في شكرهم وحمدهم على نعمه، وإيمانهم به وطاعتهم له، جعلنا الله من الفائزين برحمته وفضله ومنّه. والاتباع المطلوب: هو الإتباع بإحسان، أي إحسان الأعمال والنيات والظواهر والبواطن، وأما الاكتفاء بظاهر الإسلام فلا يحقق شرط الإحسان، والمتبعون بإحسان مع الصحابة هم خير أمة أخرجت للناس، وهم الأمة الوسط العدول الخيار. ومرتبة هؤلاء في الإسلام في القمة لا يعلوها مقام.
وكان يجاور هؤلاء الوسط الخيار فئة من المنافقين كانوا في المدينة المنورة وما حولها، من أهل البدو والحضر. وهم جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار وعصيّة ولحيان وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة، كان منهم وليسوا كلهم قوم منافقون، مرنوا على النفاق ومردوا عليه وتأصلوا فيه، لا تعلمهم ولا تعرفهم بأعيانهم أيها النبي، ولا تعلم عاقبة أمورهم، وإنما نحن نختص بعلمهم ومعرفتهم، وهؤلاء سنعذبهم مرتين: مرة في الدنيا بفضيحتهم وهتك سترهم وتكليفهم بتكاليف الإسلام من جهاد وزكاة دون أن يستفيدوا منها، ومرة في الآخرة نردهم إلى عذاب شديد مناسب لعملهم هو النار. وعذاب المرة الأولى هو القتل والجوع. ولا خلاف بين المتأولين أن العذاب العظيم الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة، وأكثر الناس أن
911
العذاب المتوسط هو عذاب القبر، وإذا كان النبي ذاته لم يعلم بأعيان المنافقين في عصره، فما بال أقوام يتكلفون علم الناس: فلان في الجنة، وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري.
وهناك فريق آخر حول المدينة أقروا بمعاصيهم واعترفوا بها لربهم، ولهم أعمال أخر صالحة، خلطوا أعمالهم الصالحة وهي التوبة والندم بالسيئة وهو التخلف عن غزوة تبوك، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه، لعل الله أن يتوب عليهم، إن الله غفور لمن تاب، رحيم بمن أحسن وأناب. وهؤلاء ثلاثة أشخاص أو سبعة تخلفوا عن غزوة مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهم أبو لبابة الأنصاري ورجلان معه، تفكروا وندموا، ثم أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، ولم يطلقوها، وظلوا على هذه الحال في حر شديد سبعة أيام، وأقسموا ألا يطعموا ولا يشربوا حتى يعفو الله عنهم أو يموتوا، فنزلت هذه الآية: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.. فلما نزلت أطلقهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه وعذرهم. وهذا يدلنا على أن الكثير من الناس الذين يخلطون العمل الصالح بالفاسد، يجب عليهم ألا يقنطوا من رحمة الله، وعليهم المبادرة إلى التوبة، فإن رحمة الله قريب من المحسنين.
أثر التوبة النصوح
إذا انحرف الإنسان عن أوامر الله ونواهيه، ثم تاب وأناب وأحسن العمل، توقف قبول أعماله على إذن الله ورضاه، وهذا ما كان عليه الحال في صدر الإسلام.
فإن الجماعة التائبة التي ربطت أنفسها بسواري المسجد، وخلطت العمل الصالح بالسيئ،
جاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما تيب عليها، فقالت: يا رسول الله، إنا نريد أن
912
نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر الله» فتركهم حتى نزلت هذه الآية:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ١٠٣- ١٠٥].
وبعد نزول هذه الآية،
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ ثلث أموالهم، أي أموال التائبين لقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ.
وقال جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الآية: الزكاة المفروضة، فيكون الضمير على هذا الرأي شاملا جميع الناس. وهو عموم يراد به الخصوص إذ يخرج من الأموال الأنواع التي لا زكاة فيها، كالثياب والدور السكنية ونحوها. وكذلك ضمير أَمْوالِهِمْ عموم يراد به خصوص، إذ يخرج منه العبيد وسواهم.
والمعنى: خذ أيها النبي ومن بعدك من الحكام من أموال هؤلاء التائبين وغيرهم صدقة مقدرة بمقدار معين، تطهرهم من داء البخل والطمع والذنوب، وتزكي أنفسهم وتطهرها بها، وتنمي بها حسناتهم، وترفعهم إلى منازل المخلصين. والتزكية:
مبالغة في تطهير المال وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال، أي إن الله تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا للإنماء، ويوضح ذلك
الحديث النبوي عند أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «ما نقصت صدقة من مال».
وصل عليهم أيها النبي، أي ادع لهم واستغفر، فإن في دعائك لهم سكونا لأنفسهم وطمأنينة ووقارا، والله سميع يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، وسميع
(١) تنمي بها حسناتهم وأموالهم. [.....]
(٢) طمأنينة.
913
لدعائك سماع قبول وإجابة، عليم بما في ضمائرهم وإخلاصهم في توبتهم وصدقاتهم، وبما فيه الخير والمصلحة لهم.
ألم يعلم أولئك التائبون وجميع المؤمنين أن الله هو الذي يقبل التوبة عن عباده، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويأخذ الصدقات، أي يقبلها ويثيب عليها ويضاعف أجرها، كما جاء في آية أخرى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [التغابن: ٦٤/ ١٧].
وألم يعلموا أيضا أن الله هو التواب الذي من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم، وهو الرحيم بعباده التائبين بإثابتهم على أعمالهم الصالحة، كما هو مبين في قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) [طه: ٢٠/ ٨٢].
والتوبة مفيدة جدا في تجديد همة النفس والعهد ومحو الذنب، والتخلص من أوزار الماضي والشعور بالارتياح من تعذيب الضمير ومساوئ الذنب.
وقل أيها الرسول لهؤلاء التائبين وغيرهم: اعملوا العمل الصالح، فإن عملكم لا يخفى على الله وعباده، خيرا كان أو شرا، فالعمل أساس السعادة، وطريق الأمن والراحة وعزة النفس، وسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون باطلاعه إياهم على أعمالكم. وهذا وعيد للمذنبين، وتحذير من عاقبة الإصرار على الذنب، والذهول عن التوبة، وليعلم كل العصاة ومخالفوا أوامر الله بأن أعمالهم ستعرض على الله تعالى وعلى الرسول وعلى المؤمنين، وذلك لا محالة في يوم القيامة، كما قال تعالى:
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) [الحاقة: ٦٩/ ١٨]
قال جابر بن عبد الله فيما رواه الطبراني وغيره: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك».
914
وستردون أيها الناس جميعا يوم القيامة إلى الله الذي يعلم سرائركم وعلانيتكم، يعلم الغائب والحاضر، والباطن والظاهر، فيعرّفكم أعمالكم، ثم يجازيكم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا كلام بليغ يتضمن الترغيب والترهيب.
قصة الذين خلّفوا وتأخروا عن التوبة
الناس في مجال العلاقة مع الله ثلاثة أصناف: صنف متمرد، مكابر معاند لا يؤمن ولا يتوب، وصنف آخر يخطئ ثم يتوب إلى ربه، وصنف ثالث متحير محايد، مؤمن بالله تعالى، لكنه لا يظهر التوبة عن خطئه، ولا يحاول إصلاح نفسه، ولكل امرئ شأنه وحريته، وسيلقى كل إنسان جزاء ما قدم، وهكذا كان المتخلفون عن غزوة تبوك أصنافا ثلاثة:
١- المنافقون الذين مردوا على النفاق، وهم أكثر المتخلفين، وجزاؤهم النار.
٢- التائبون المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا، فتاب الله عليهم، وهم الذين ربطوا أنفسهم بالسواري سبعة أيام، وهم أبو لبابة الأنصاري وأصحابه، فنزلت توبتهم من السماء ورضي الله عنهم.
٣- الذين بقوا متوقفين، وهم المؤمنون الحيارى في أمرهم، فلم يعتذروا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تخلفهم، وأرجؤوا توبتهم، فأرجأ الله الحكم في أمرهم، فتوقف أمرهم خمسين ليلة، وهجرهم الناس، حتى نزلت توبتهم بعد، وهم الثلاثة المذكورون في هذه الآية من سورة التوبة التي نزلت فيهم، وهي قوله سبحانه:
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة: ٩/ ١١٨] وتقدمت آية أخرى في شأنهم وهي موضوع البحث هنا وهي:
915

[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
«١» [التوبة: ٩/ ١٠٦].
هؤلاء النفر الثلاثة موقوفون مرجون، أي مرجؤون مؤخرون لأمر الله في شأنهم، ولا يدري الناس ما ينزل فيهم، هل يتوب الله عليهم أو لا؟ وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن مجالستهم، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن، إلى أن نزلت آية التوبة عليهم في قوله سبحانه: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ.. إلى قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.. أي تخلفوا عن التوبة.
وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ، وطيب الثمار والظلال، لا شكا ونفاقا.
وقد تردد في هذه الآية البت في شأنهم بين أمرين: التعذيب والتوبة. وترك أمرهم غامضا، لا للشك، فالله تعالى منزه عنه، وإنما ليكون أمرهم على الخوف والرجاء، وإثارة الغم والحزن في قلوبهم، ليقدموا على التوبة، ويصير أمرهم عند الناس على الرجاء، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذرا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم.
ومما لا شك فيه أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن غزوة تبوك، فلم يحكم الحق تعالى بكونهم تائبين لأن الندم وحده لا يكون كافيا في صحة التوبة، ثم ندموا على المعصية لكونها معصية، فصحت توبتهم. والله عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، وبما يصلح عباده ويربّيهم، حكيم في أفعاله وأقواله، وفيما يشرعه لهم من الأحكام المؤدية لهذا الصلاح. ومن حكمته تعالى: إرجاء النص على توبتهم.
(١) مؤخرون لا يقطع لهم بتوبة.
916
والله عليم بمن يهدي إلى الرشد، وحكيم فيما ينفذه من تنعيم من شاء، وتعذيب من شاء، لا رب غيره ولا معبود.
وقوله سبحانه: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ دليل على أنه لا حكم إلا أحد هذين الأمرين: وهو إما التعذيب وإما التوبة، أما العفو عن الذنب من غير توبة فغير معتبر ولا منتظر، إلا إذا اقتضت الرحمة الإلهية أن تشمل بعض الخلائق، فهذا مرده إلى الله تعالى من قبيل الفضل والرحمة، لا بحسب منهج الحق والعدل.
بل إن الثواب ودخول الجنان لا يكون بغير فضل الله ورحمته، لأن أعمال الناس مهما عظمت لا تساوي شيئا أمام أفضال الله ونعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى.
روى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة. قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة» وفي رواية أخرى عن عائشة: «سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل».
ومعنى: سددوا: اقصدوا السداد من الأمر، وهو الصواب، وقاربوا: اطلبوا المقاربة وهي الاعتدال في الأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير.
مسجد الضرار ومسجد التقوى
يعقد الحق تعالى في العادة مقارنة بين الأوضاع والأشياء المتضادة، لتحقيق العبرة، والتوصل إلى الإصلاح، ومحاربة الفساد، وتخليد آثار الصالحين، والاتعاظ بجرائم المفسدين الضالين. ومن هذه المقارنات بيان أغراض المنافقين في بناء مسجد الضرار في المدينة، والتعريف بغايات المؤمنين الأتقياء في بناء مسجد التقوى: مسجد قباء في أول عمل قام به النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد هجرته مع صحبه إلى المدينة المنورة، قال الله تعالى:
917

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [التوبة: ٩/ ١٠٧- ١١٠].
نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم قباء بعد هجرته إلى المدينة، على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف، وهم بطن من الأوس، وقباء قرية جنوب المدينة على بعد ميلين، وأقام فيها أربعة أيام أسس فيها مسجد قباء، بمعونة بني عمرو بن عوف، وبعثوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم، فأتاهم وصلى فيه.
فحسدهم بنو غنم بن عوف من الخزرج، وبنوا مسجدا آخر، وأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلّة، والليلة المطيرة، ونحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو بالبركة، فوعدهم النبي بذلك بعد عودته من تبوك، فلما أقبل ونزل بذي أوان، نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعة من صحابته، وأمرهم بهدم هذا المسجد وإحراقه.
أبان القرآن أربعة أسباب لهدم مسجد المنافقين: مسجد الضرار، وهي:
١- إنهم اتخذوا بقصد مضارة المؤمنين الذين بنوا مسجد قباء.
(١) إضرارا للمؤمنين.
(٢) انتظارا وترقبا.
(٣) على حرف بئر لم تبن بالحجارة.
(٤) هائر أو منهدم.
(٥) فسقط البنيان.
(٦) شكا ونفاقا في قلوبهم.
(٧) تتقطع أجزاء بالموت.
918
٢- أقاموه ليكون معقلا للكفر والنفاق، والتآمر على المسلمين، فصار مركز الفتنة وبيت النفاق ومأوى المنافقين.
٣- قصدوا ببنائه أيضا تفريق كلمة المؤمنين، وتوهين المودة والألفة بينهم.
٤- جعلوه مرصدا ومقرا لمحاربة الله ورسوله، بقيادة أبي عامر الراهب من الخزرج الذي ذهب إلى هرقل ليأتي بجنود يحارب بهم النبي وصحبه.
وصار المنافقون يحلفون: ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى والتوسعة علينا وعلى من عجز أو ضعف عن المسير إلى مسجد قباء، والله يعلم خبث ضمائرهم ويشهد على أنهم كاذبون فيما حلفوا عليه.
لكل هذه الأسباب القائمة على الضرر والإساءة، نهى الله تعالى نبيه عن الصلاة في هذا المسجد: مسجد الضرار: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. ثم أذن له وحضه على الصلاة في مسجد قباء لأمرين:
الأول- أنه بني على التقوى وهي طاعة الله ورسوله، وقصد به إرضاء الله تعالى، وإخلاص العبادة فيه، وجمع المؤمنين، والعمل على وحدة الإسلام، وظلت هذه المزية له، وأصبح من السنة صلاة ركعتين فيه على الدوام، لما
جاء في الحديث الصحيح عن أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أسيد بن ظهير: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة».
والأمر الثاني الدال على مزية مسجد قباء: أن فيه رجالا يحبون أن يتطهروا طهارة معنوية: وهي التطهر من الذنوب والمعاصي، وطهارة حسية للثوب والبدن والمكان، بإتباع الماء الحجر في الاستنجاء، والحرص على التنظف بالوضوء والغسل. والله يحب أهل النظافة والطهارة المعنوية والجسدية، ويرضى عنهم، ويقرّبهم من جنابه تعبيرا عن المحبة والرضا.
919
ثم وضع القرآن قاعدة عامة للمقارنة بين المسجدين وأي بناءين، وتلك القاعدة:
أنه لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين، وهذا مصيره الانهيار والسقوط في قعر جهنم، والله لا يوفق الظالمين ولا يهديهم للحق والصواب والصلاح، ما داموا قد قصدوا المعصية والكفر، وقد صار هذا مثلا للأجيال.
ولمسجد الضرار آثار ومعان سيئة على ممر التاريخ، فهو لا يزال سبب حزازة وأثر سوء، وشك من المنافقين في الدين، وزيادة نفاقهم إلى أن يفارقوا حياتهم بالموت والله عليم بأعمال خلقه، حكيم في إيقاع الجزاء العادل بهم من خير أو شر، ومن حكمته تعالى إظهار حال المنافقين لمعرفة الحقائق وإنصاف التاريخ.
صفات أهل الجنة
إن رسالة الإسلام هي رسالة بناء وإصلاح واستقامة في الدين والعقيدة والعمل، فمن التزم بأصولها وعمل بموجبها، وجاهد الأعداء الذين يريدون إبطالها والقضاء عليها، ظفر بخير الدنيا والآخرة، ففي الدنيا كان له العزة والسيادة، وفي الآخرة كان من الخالدين السعداء في جنان الخلد والنعيم، ومن أجل الوصول لهذه الغاية حدد القرآن المجيد صفات أهل الجنة، ووعد بها وعدا مؤكدا أوجبه على نفسه، وصيره حقا ثابتا لازما في التوراة والإنجيل والقرآن، قال الله تعالى مبينا هذا الوعد وأسبابه:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
920
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ١١١- ١١٢].
نزلت هذه الآية في البيعة الثالثة، وهي بيعة العقبة الكبرى، لما بايع النبي صلّى الله عليه وسلم الأنصار وكان عددهم يزيد عن السبعين، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو، وذلك
أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند العقبة، فقالوا: اشترط لك ولربك، وكان القائل عبد الله بن رواحة، فاشترط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمايته مما يحمون منه أنفسهم، واشترط لربه التزام الشريعة، وقتال الأحمر والأسود في الدفاع عن الحوزة، فقالوا:
ما لنا على ذلك؟ قال: الجنة، فقالوا: نعم، ربح البيع، لا نقيل ولا نقال، فنزلت الآية: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ....
جعل الله تعالى أول عمل يبوئ صاحبه الجنة، هو الجهاد في سبيل الله، ببذل المؤمنين أنفسهم وأموالهم من أجل إعلاء كلمة الله، وثمن هذا البذل هو الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون الأعداء، أو يستشهدون في سبيل الله، وفي كلتا الحالتين يكون لهم الجنة، وأكد الله تعالى وعده لهم بها، وجعل لهم ما هو خير من هبة أنفسهم وأموالهم، وصيره وعدا واجب الوفاء على نفسه، وحقا ثابتا لأصحابه، مقررا لهم به في التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد عليهم الصلاة والسلام.
ولا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله، فإن الله لا يخلف الميعاد، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء: ٤/ ٨٧] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: ٤/ ١٢٢].
ومن وعد بمثل هذا الوعد المؤكد، فليظهر السرور والفرح على ما فاز به من الجنة، وليستبشر بمدى الربح العظيم في هذه الصفقة أو المبايعة، ثوابا من الله وفضلا
(١) المجاهدون أو الصائمون.
(٢) لأحكامه من أوامر ونواه.
921
وإحسانا على بذل الأرواح والمهج ونفائس الأموال في سبيل مرضاة الله، وذلك هو الفوز الأكبر الذي لا فوز أعظم منه.
وأوصاف هؤلاء المؤمنين المجاهدين: أنهم التائبون عن الكفر بمختلف أنواعه، الراجعون إلى الله من الشر إلى الخير وفي جميع أحوالهم، التاركون كل ما ينافي مرضاة الله، العابدون ربهم بحق وإخلاص وإحسان كأنهم يرون الله، الحامدون لنعماء الله وأفضاله في السراء والضراء، الذاكرون الله بأوصافه الحسنى في كل حال، وحمده تعالى لأنه أهل لذلك، والحمد أعم من الشكر، إذ الشكر إنما هو على النعم الخاصة بالشاكر، الصائمون أو السائحون في الأرض للجهاد أو طلب العلم أو الارتزاق بالحلال الطيب أو الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته، الراكعون الساجدون، أي المؤدون صلواتهم المفروضة على أكمل وجه، وفي خشوع وخضوع دائم، الآمرون بالمعروف بالدعوة إلى الإيمان والطاعة، والناهون عن المنكر بمقاومة الشرك والمعاصي، والحافظون لحدود الله بإقامة فرائضه وشرائعه وأحكامه والانتهاء عما نهى الله عنه، وهذا وصف شامل مجمل الفضائل، وما قبله مفصل لها.
وثمرة هذه الأوصاف: نعم الله العظمى في جنان الخلد، والتي أمر الله نبيه أن يبشر بها أمته جميعا، وتشمل هذه البشارة كل الخير من الله تعالى، وأن الإيمان مخلّص من النار، فتكون النجاة بالإيمان بالله، ودليله الجهاد في سبيل الله، ومظاهره العبادات الحقة لله تعالى.
الاستغفار للمشركين
لا بأس في منهج القرآن الإصلاحي من إيمان أحد من الناس، ما دام هناك استعداد أو أمل في الإصلاح وقبول دعوة الإيمان والإسلام، فإذا وقع اليأس من
922
الإيمان، ختم الله على القلوب وسد منافذ الخير إليها، واستحق المعاندون التوبيخ، ومنع النبي أو المصلح وأعوانه من الاستغفار لهم، لذا ونهى الله نبيه من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أقرباء، حال اليأس من إيمانهم، وتحجر قلوبهم وعقولهم، قال الله تعالى مبينا هذا النهي:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٦]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
«١» [التوبة: ٩/ ١١٣- ١١٦].
روى الترمذي والحاكم عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر لأبويك، وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه، وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ...
وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: إنما نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لأبيه، فنزلت الآية في ذلك.
وعلى كل حال، ففي ورود النهي عن الاستغفار للمشركين موضع الاعتراض بقصة إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه، فنزل رفع الاعتراض في الآية التي بعدها.
والمعنى: ما ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يدعوا الله بالمغفرة للمشركين، وهذا خبر بمعنى النهي، لأن النبوة والإيمان مانعان من الاستغفار للمشركين،
(١) كثير التأوه خوفا من الله.
923
وسبب المنع اليأس من إيمانهم وتبين أنهم من أصحاب الجحيم، أي ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار؟! بأن ماتوا على الكفر، وفي هذا لا تفرقة بين الأقارب والأباعد، فكيف يصح لهم طلب المغفرة لأناس من بعد الموت على الكفر، والمعرفة بأنهم من سكان النار، والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه. وكذلك لا تجوز الصلاة على المشركين ولا تنفعهم بعد الموت على الشرك.
أما موضوع استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه المشرك آزر، فكان بسبب صدور وعد سابق به قبل المنع منه، فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله، بسبب موته على الكفر، تبرأ منه وتركه وقطع استغفاره له، إن إبراهيم لأوّاه، أي لكثير التأوه والتحسر والتفجع، أو كثير التضرع والدعاء، حليم، أي صبور على الأذى، محتمل للضرر، عظيم العقل.
ثم رفع الله المؤاخذة عن الذين استغفروا للمشركين قبل نزول آية المنع هذه، وبيّن أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل، إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه، فقال: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ.. أي ما كان من سنة الله في خلقه ولا في رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال، أو يؤاخذهم مؤاخذة الضالين، بعد أن هداهم للإيمان أو الإسلام، حتى يبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من الأقوال والأفعال، وما كان الله بعد أن هدى للإسلام وأنقذ من النار، ليحبط ذلك ويضل أهله لارتكابهم ذنبا لم يتقدم منه نهي عنه، فأما إذا بيّن لهم ما يتقون من الأمور، ويتجنبون من الأشياء، فحينئذ من ارتكب ذنبا بعد النهي عنه، استوجب العقوبة. إن الله تعالى عليم بكل شيء وبأحوال الناس وحاجتهم إلى البيان. وفي هذا دلالة واضحة على أن لا مؤاخذة ولا عقاب إلا بعد إنذار وبيان.
وبعد أن أمر الله تعالى بالبراءة من الكفار، بيّن أن النصر لا يكون إلا من عند
924
الله لأن لله ملك السماوات والأرض، وهو تعالى مالك كل موجود ومتولي أمره، والغالب المهيمن عليه، بيده الأمر كله يحيي ويميت، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه، ليتبرؤوا مما عداه، ولا تهمّ القرابة ومناصرة الأقرباء لأن الولي المعين والناصر هو الله تعالى، ولا ناصر سواه، وذهب الطبري إلى أن قوله سبحانه: يُحْيِي وَيُمِيتُ إشارة إلى أنه يجب أيها المؤمنون ألا تجزعوا من عدو وإن كثر، ولا تهابوا أحدا، فإن الموت المخوف والحياة المحبوبة، هما بيد الله تبارك وتعالى.
التوبة العامة والخاصة
كان من فضل الله ورحمته وإحسانه أن تاب توبة عامة على أناس كثيرين وتوبة خاصة على عدد قليل، أما أهل التوبة العامة فهم الذين جاهدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في غزوة تبوك، وأما أهل التوبة الخاصة فهم نفر ثلاثة، صدقوا توبتهم مع الله وعلموا علم اليقين أن مصيرهم إلى الله، فلا بد من حسن الاعتقاد والعمل، وصدق الاتجاه إلى الله تعالى، قال الله سبحانه مبينا فضله على أهل التوبة:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٧ الى ١١٩]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
«٢» «٣»
(١) وقت الشدة والضيق.
(٢) يميل للتخلف عن الجهاد. [.....]
(٣) مع وسعها ورحبها.
925
[التوبة: ٩/ ١١٧- ١١٩].
التوبة من الله: رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها، فقد تكون في الأكثر رجوعا من حال المعصية إلى حال الطاعة، وقد تكون رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها.
وهذه توبته تعالى في هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه رجع به من حاله قبل الظفر بأجر الغزوة وتحمل مشاقها إلى حاله بعد ذلك كله، وأما توبته تعالى على المهاجرين والأنصار فحالها تحتمل النقلة من تقصير إلى طاعة، وجدّ في القتال، ونصرة الدين.
وأما توبته تعالى على الفريق الثلاثة الذين كادوا أن يزيغوا، فرجوع من حالة محطوطة إلى غفران ورضا.
والمعنى: لقد تفضل الله بمزيد بالرضا عن نبيه، وعلى أصحابه المؤمنين الذين صاحبوه في تبوك وقت الشدة والضيق، وهي غزوة العسرة، والتزموا أمر النبي ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، لقد رضي الله عن نبيه وعطف عليه، وقبل التوبة من الصحابة ووفقهم للعمل بمقتضاها. وحدثت هذه التوبة على المؤمنين، من بعد ما كاد يزيغ أو يميل بعضهم عن الحق والإيمان، وهم الذين تخلفوا عن تبوك لغير سبب النفاق.
ثم أكد الله تعالى التوبة على المؤمنين، بأن رزقهم الإنابة إلى ربهم، والثبات على دينه، إن ربهم رؤف رحيم بهم، فلا يتركهم بعد صبرهم على الجهاد، وإنما يزيل ضررهم، ويديم نفعه لهم، ويحقق المصلحة لهم، وهذا معنى الرأفة، أي السعي في إزالة الضر، والرحمة، أي السعي في إيصال النفع.
وفائدة تأكيد ذكر التوبة مرة أخرى تعظيم شأنهم، وإزالة الشك من نفوسهم، والتجاوز عن وساوسهم التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة. قال مجاهد
926
وقتادة: إن العسرة بلغت بهم في تلك الغزوة وهي غزوة تبوك، إلى أن قسموا التمرة بين رجلين، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة، فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء، ثم يفعل كلهم بها ذلك، وقال عمر رضي الله عنه: وأصابهم في بعضها عطش شديد، حتى جعلوا ينحرون الإبل، ويشربون ما في كروشها من الماء.. حتى استسقى لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرفع يديه يدعو، فما أعادهما حتى انسكبت سحابة، فشربوا وادّخروا، ثم ارتحلوا، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر.
وتاب الله أيضا على الثلاثة الذين خلّفوا، أي تخلفوا عن غزوة تبوك، لا بسبب النفاق، وإنما كسلا وإيثارا للراحة والقعود. وصاروا خلفاء عن الغازين: الذين ذهبوا إلى الغزو، وتأخروا عن المنافقين، فلم يقض فيهم شيء، وهم المرجون لأمر الله، وهم كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الواقفي الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع العامري، وكلهم من الأنصار، ووصفوا بصفات ثلاث:
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت واتسعت بالخلق جميعا، وضاقت صدورهم بسبب الهم والغم، وعلموا ألا ملجأ ولا ملاذ من غضب الله إلا بالتوبة. ثم أمر الله تعالى المؤمنين أمرا عاما بتقوى الله والصدق في القول والعمل. والتقوى: التزام الأوامر واجتناب النواهي، والصدق: الثبات على دين الله وشرعه، وتنفيذ أوامره، وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلم.
إيجاب الجهاد على أهل المدينة ومن حولها
ليس تكوين الأمة وإقامة الدولة بالأمر الهيّن السهل، وإنما يحتاج لبذل أقصى الجهد في التضحية، والبناء والعمل، ومجاهدة الأعداء ورد غارات المعتدين، والصبر في سبيل ذلك صبرا شديدا، سواء في حال الإقامة، أم في الأسفار، واقتحام
927
الأخطار للقاء العدو، وهذا أمر طبيعي وحقيقة أساسية، لذا أمر الله أهل المدينة ومن حولها في بدء الإسلام بالجهاد الدائم مع رسول الله، وإيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فقال تعالى مبينا فرضية الجهاد:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [التوبة: ٩/ ١٢٠- ١٢١].
هذا عتاب من الله للمؤمنين من أهل المدينة والقبائل العربية المجاورة لها على التخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوه، وقسوة الكلام تدل على ضرورة مصاحبة النبي في الغزوات وبذل النفوس دونه.
ومعنى الآية: ما كان يصح ولا ينبغي لأهل المدينة المؤمنين ومن حولهم من قبائل العرب المجاورة لهم كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم أن يتخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، بل عليهم أن يصحبوه، فإن النفير كان فيهم، ومختصا بهم حال قلة الإسلام، وفي بدء تكوين الدولة وإعلاء مجد الأمة، ولا يصح لهم إيثار أنفسهم على نفس الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلا يرضوا لأنفسهم بالدعة والراحة، والرسول في المشقة والعناء.
لم يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الإتباع والجهاد، ففي الجهاد عز وأجر
(١) لا يترفعون بها ولا يضنون بأنفسهم في نصرة نبيهم.
(٢) تعب.
(٣) مجاعة.
(٤) يغضبهم.
(٥) شيئا من قتل أو أسر أو غنيمة.
928
عظيم، بسبب أن كل ما يتعرضون له أثناء جهادهم مثابون عليه، من معاناة ومكابدة ومشاق، كالعطش والتعب والجوع والألم في سبيل الله، ووطء جزء من أرض الكفر يغيظ الكفار، والنيل من الأعداء بالأسر أو القتل أو الهزيمة أو الغنيمة، كل ذلك يستحق الثواب الجزيل المكافئ لما قدموه وزيادة، وذلك مما يوجب المشاركة في الجهاد، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، أي لا يدع لهم شيئا من الثواب على إحسانهم إلا كافأهم به، وكقوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:
١٨/ ٣٠].
وكذلك لا ينفق هؤلاء المجاهدون في سبيل الله نفقة صغيرة ولا كبيرة، أي قليلا ولا كثيرا، ولا يقطعون واديا، أي في أثناء السير إلى الأعداء، إلا أثبت لهم الجزاء الأوفى. وإذا كتبت الصغيرة فالكبيرة أحرى. والوادي: ما بين الجبلين، سواء كان فيه ماء أو لم يكن، والله أراد لهم أن يجزيهم أحسن الجزاء على عملهم، لأن الجهاد في سبيل الله إعلاء لكلمة الإسلام، وصون لصرح الإيمان، وحفظ لحرمة الأوطان، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا واستعبدوا.
أخرج ابن جرير الطبري حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدا إلا ازدادوا من الله قربا».
والحاصل: إن فرضية الجهاد على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب كانت فرض عين لأنهم نواة الدولة، وقاعدة الإسلام، وعلى كواهلهم بناء المجد والعزة والسيادة. فلما كثر المسلمون، أباح الله التخلف عن الجهاد مع الحكام لمن شاء. قال قتادة: كان هذا خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، إذا غزا بنفسه، فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر، فأما غيره من الأئمة والولاة، فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة. قال القرطبي: قول قتادة حسن، بدليل غزاة تبوك.
929
فرضية الجهاد الدائمة
إن إيجاب الجهاد على الأمة يختلف بحسب الأحوال والظروف والحاجات، ففي وقت الشدة والأزمة الخانقة والخطر المحدق يكون الجهاد فرضا عينيا، وفي وقت قلة المؤمنين في بدء إيجاد الأمة والدولة يكون أيضا فرض عين. فإذا زالت الظروف الخطرة المحدقة وكثر المؤمنون، واستقرت الأحوال وهدأت البلاد، صار الجهاد فرض كفاية على فئة من الناس، وكان على الباقين مناصرتهم، والتفرغ لشؤون الحياة، والاسهام في إقامة صرح المدنية والحضارة، من طريق تنمية العلوم والمعارف، وازدهار الحقل العلمي بالمتابعة والتأمل والتجربة والتجديد. قال الله تعالى مبينا هذه الأصول الحضارية ولفت النظر لأهمية العلم:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ١٢٢- ١٢٣].
نظّمت هذه الآية أحوال الجهاد، ونبهت إلى ضرورة طلب العلم والتفقه في أحكام الدين والشرع.
وسبب نزولها: أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع، لما سمعوا قول الله عز وجل: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.. أهمهم ذلك، فنفروا إلى المدينة، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو، فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك.
(١) ليجاهدوا جميعا.
(٢) شدة وبأسا.
930
إن هذه الآية لا توجب الجهاد على جميع المؤمنين في أحوال الاستقرار وإنما يجب على المؤمنين طلب العلم لأن الجهاد يعتمد على العلم، ولأن نشر الإسلام في الأصل يتوقف على البيان والإقناع بالحجة والبرهان. وهذا يتطلب التنظيم والتقسيم، فتكون فئة من المؤمنين للتفقه والتعلم، وفئة أخرى للجهاد، فإنه بحسب النظام العام الدائم فرض كفاية على الناس، كما أنّ طلب العلم فرض كفاية أيضا.
ومعنى الآية: ما كان من شأن المؤمنين أن ينفروا جميعا، ويتركوا النبي صلّى الله عليه وسلم وحده، فإن الجهاد فرض كفاية، متى قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وليس هو فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل، وإنما يصبح فرض عين إذا خرج الرسول للجهاد واستنفر الناس إليه.
لذا حضّ الله تعالى على طلب العلم الذي هو أداة التقدم والرفعة، فهلا نفر في أثناء النهضة من كل جماعة كالقبيلة أو البلد طائفة قليلة منهم للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الشريعة وأسرارها، حتى إذا ما رجع المجاهدون من المعركة، أنذروهم من الأعداء، وحذروهم من غضب الله وعرفوهم أحكام الدين، لكي يخافوا الله، ويحذروا عاقبة عصيانه، ومخالفة أمره.
ثم أوضح الله تعالى بعض قواعد الجهاد، قبل الأمر بقتال الأعداء كافة، على سبيل التدرج في التشريع في أول الإسلام. وأول هذه القواعد أن يبتدئ المجاهدون بالأقرب فالأقرب، ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد، وطبق النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الخطة، فبدأ بقتال قومه في مكة، ثم قاتل سائر العرب، ثم انتقل إلى قتال الروم في الشام، ثم اتجه أصحابه لدخول العراق.
فيا أيها المؤمنون قاتلوا الأقرب فالأقرب منكم إلى ديار الإسلام، فإن فيه التحصن، وهم أولى بالرعاية والهداية، وبهم توجد الأتباع بسبب قرب الجوار،
931
وقرب الاتصال أو النسب أحيانا. وإذا قاتلتم الأعداء فليجدوا فيكم غلظة، أي شدة وخشونة، وقوة وحمية، وصبرا على القتال، وجرأة على خوض المعارك، وهذه طبيعة الحرب، ومصلحة القتال، واعلموا أن الله مع المتقين بالنصر والحراسة والإعانة، والمتقون: هم المتبعون أوامر الله، المجتنبون نواهيه.
موقف المنافقين من سور القرآن
يتحدد موقف الناس من آيات القرآن الكريم وسوره بحسب الإيمان وعدمه، فأهل الإيمان يفرحون بالآيات والسور المنزلة، وتزيدهم إيمانا وبهجة وطمأنينة، وأهل الكفر يرفضون القرآن جملة وتفصيلا، والمنافقون العابثون المترددون بين الكفر والإيمان يقفون من القرآن المجيد موقف المستهزئ الساخر، فتزيدهم سور القرآن رجسا (أي كفرا ونفاقا) إلى رجسهم، ويموتون في النهاية كفرة الداء. قال الله تعالى مصورا موقف المؤمنين وموقف المنافقين من السور القرآنية:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ١٢٤- ١٢٧].
نزلت هذه الآية في شأن المنافقين، وموقفهم من آيات القرآن وسوره، وهو موقف
(١) نفاقا.
(٢) يمتحنون بالشدائد.
932
شنيع وخطير، يتمثل في استهزائهم بالقرآن وتهربهم من أحكامه حين سماعه، وطعنهم فيه كلما نزل جديد، فتراهم يتغامزون ويتضاحكون في سبيل الطعن والهزء من كل موضوع يمسهم أو لا يمسهم.
فإذا نزلت سورة وبلغت المنافقين، قال بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ أي تصديقا بأن القرآن من عند الله، وأن محمدا صادق في نبوته. والاستخفاف والتحقير لشأن السورة في قوله تعالى: «سورة».
فأما المؤمنون الصادقون فيزيدهم نزول القرآن يقينا وتصديقا وقوة دافعة إلى العمل به، ويفرحون بنزول السورة، لأنها تزكي أنفسهم، وترشدهم إلى سعادة الدنيا والآخرة. وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، كما يرى أكثر العلماء. والواقع أن الإيمان الذي هو نفس التصديق لا يقبل الزيادة والنقص في ذاته، وإنما تقع الزيادة في المصدّق به، وما تضمنته السورة من أخبار وأمر ونهي، زائد على الذي كان عندهم قبل.
وتقع الزيادة أيضا في الأدلة الدالة على معرفة الله، فيكون المؤمن قد عرف الله بعدة أدلة، فإذا نزلت السورة زادت في أدلته، وهذه جهة أخرى من الزيادة، وكلها خارجة عن نفس التصديق، إذا حصل تاما، فإنه لا يبقى فيه موضع زيادة، هذا موقف المؤمنين من السور.
وأما الذين في نفوسهم شك وكفر ونفاق، فتزيدهم السورة كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق، ويتحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا وهم كافرون بالقرآن وبالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مناقض للهدف من إنزال السورة، فهي في الحقيقة هدى ونور، وشفاء لما في الصدور، وجلاء لما في القلوب، كما قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (٨٢) [الإسراء: ١٧/ ٨٢].
933
وبعد بيان كون المنافقين يموتون كفارا، أوضح الله تعالى أنهم يتعرضون أيضا لعذاب الدنيا كل عام مرة أو مرتين، حين يختبرون بالأمر بالجهاد وبأنواع الاختبار العديدة من محنة اجتماعية كالزكاة والقحط والمرض، وهي التي تذكر الإنسان بالله، وتجعله ميالا إلى الإيمان وترك الكفر، ولكنهم مع ذلك لا يتوبون من ذنوبهم السابقة، ولا يتعظون فيما يستقبل من أحوالهم، أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين، ويتذكرون وعد الله ووعيده؟! وإذا أنزلت سورة قرآنية فيها فضيحة أسرارهم، تعجبوا وتأملوا وتسللوا من مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتلفتوا متغامزين قائلين: هل يراكم الرسول أو المؤمنون إذا خرجتم؟! ثم ينصرفون عن طريق الاهتداء، ويتولون عن الحق، فهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه، ولا يفهمون شيئا عن الله ولا عن رسوله، ومن أعرض عن ساحة الإيمان والخير، أعرض الله عنه، وصرف الله قلوبهم عن الحق والإيمان، وعن الخير والنور، وهذا إما دعاء عليهم به، أو إخبار عن أحوالهم، وذلك الصرف الإلهي بسبب أنهم قوم لا يفهمون الآيات التي يسمعونها، ولا يريدون فهمها، ولا يتدبرون فيها حتى يفقهوا، بل هم في شغل عن الفهم ونفور منه، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٦١/ ٥].
صفات الرسول صلّى الله عليه وسلّم المتعلقة بأمته
ليس من الوفاء ولا من الأخلاق أن يكون هناك تنكر أو مجافاة لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلم من أمته العربية، فدعوته شرف خالد وعز دائم لهم، وقد جاء بلسانهم العربي، وبما يفهمونه من الأغراض، وبما يعشقونه من الفصاحة والبلاغة، فكان جديرا بهم أن يؤازروه ويبادروا إلى الدخول في دينه، ومناصرته والدفاع عنه، ولقد تميز أهل المدينة
934
المنورة بهذا الموقف العقلاني الحكيم، وسارعوا إلى تأييد النبي صلّى الله عليه وسلّم ونشر دعوته والدفاع عنه ضد كل من يريده بسوء، أو يعرقل مسيرته في تبليغ الوحي الإلهي، وإسماع نداء القرآن العظيم، قال الله تعالى مبينا خصائص النبي صلّى الله عليه وسلّم المتعلقة بأمته، والتي هي مدعاة للإيمان برسالته:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ١٢٨- ١٢٩].
هذه الآية خطاب صريح للعرب، على جهة تعداد النعم عليهم في ذلك، حيث جاءهم النبي العربي محمد صلّى الله عليه وسلّم بلغتهم ومن جنسهم وبما يألفون من أغراض البيان، وفصاحة الكلمة والجمل، وبما يشرفون به على مدى الأيام والأزمان، ووصفه الله بصفات خمس ذات جذور عربية قوية:
أول هذه الصفات: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من الجنس العربي، والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته، من غير إشادة بنزعة عرقية أو عصبية، قال ابن عباس: إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلّى الله عليه وسلّم مضريّها وربيعيها ويمانيها، أي إن نسبه تشعب في جميع قبائل العرب.
والصفة الثانية: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد عسير عليه وقوعكم في العنت، أي المشقة، والتعرض للمكروه في الدنيا والآخرة، إذ هو منكم، يتألم لألمكم، ويفرح لفرحكم، فكل ما يقع منكم من كفر وضلال بسبب الحق، أو من قتل وإسار وامتحان بسبب الحق، يسوؤه ذلك.
(١) صعب عليه.
(٢) ما يوقعكم في المشقة.
935
الصفة الثالثة: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي حريص على هدايتكم وإيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة، أو حريص على إيمانكم وهداكم.
الصفة الرابعة والخامسة: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: سماه الله تعالى باسمين من أسمائه.
والرؤوف: المبالغ في الشفقة، والرأفة أرق وأخص من الرحمة.
فإن أعرضوا يا محمد بعد هذه الحال المتقررة التي منّ الله تعالى عليهم بها، فقل:
حَسْبِيَ اللَّهُ أي اللهم كاف في النصر على الأعداء. وأنا مفوض أمري إلى الله، ومتوكل عليه، وجادّ في قتال الأعداء والله هو رب العرش العظيم، ومالك المخلوقات كلها في السماوات والأرض وما بينهما، وخص العرش بالذكر، لأنه أعظم المخلوقات، فيدخل فيه ما دونه إذا ذكر، إذ عليه تدبير أمور الخلق، كما قال الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس: ١٠/ ٣]. روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: «من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله، لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، كفاه الله ما أهمه، صادقا كان بها أو كاذبا».
قال الطبري في كتابه: كان عمر لا يثبت آية في المصحف إلا أن يشهد عليها رجلان، فلما جاء خزيمة بن ثابت بهاتين الآيتين قال: «والله لا أسأل عليهما بينة أبدا، فإنه هكذا كان صلّى الله عليه وسلم».
والمراد صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي تضمنتها الآية. ومن المعلوم أن خزيمة بن ثابت هو المعروف بذي الشهادتين، وعرف بذلك لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمضى شهادته وحده في ابتياع فرس، وحكم بها لنفسه صلّى الله عليه وسلم. وهذه خصوصية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خص بها خزيمة. وذكر النقاش عن أبي بن كعب أنه قال: أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة.
936
Icon