ﰡ
إما أن تكون( الم ) وما شاكلها من فواتح السور التي تكون من حروف تهج، وإما أن تكون من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وإما أن تكون من المحكم الذي يمكن أن نجد سبيلا إلى تفسيره١ ؛ وهي على هذا إما أن تكون اسما للسورة، أو ذكرت هذه الحروف بيانا لإعجاز القرآن الكريم إذ هو مكون من حروف كالتي يتكون منها كلامهم ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثله، فعلم أنه ليس من كلام البشر، وإنما هو كلام العزيز الحميد، الحكيم المجيد. قال ابن كثير : ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل :﴿ الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه ﴾، ﴿ الم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم. نزل عليك الكتاب بالحق ﴾٢، ﴿ المص. كتاب أنزل إليك ﴾٣، ﴿ الر. كتاب أنزلناه إليك... ﴾٤، ﴿ الم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه ﴾٥، ﴿ حم. تنزيل من الرحمن الرحيم... ﴾٦ وغير ذلك. اه
﴿ ريب ﴾ شك، تهمة. ﴿ هدى ﴾ دلالة ودعوة وتنبيه.
﴿ للمتقين ﴾ للمتقين المعاصي والمساخيط، المطيعين لما أمروا به.
﴿ ذلك الكتاب ﴾ هذا القرآن كتابنا الذي سما على الكتب وجمع كل الخير وكل البر والحق، وهو كتاب عزيز نفيس، هو الكتاب على الحقيقة. و( ذلك ) يشار بها إلى البعيد غالبا ؛ وهنا قد يكون المعنى : الإشارة إلى علو رتبته ورفعة شرفه.
مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن١ :﴿ ذلك ﴾ قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه :﴿ ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ﴾٢، أقول : وهو سبحانه أقرب إلينا من حبل الوريد وقد بين ذلك الذكر الحكيم في أكثر من آية ﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب.. ﴾٣ كما بين أنه تبارك وتعالى رقيب وشاهد ﴿ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه.. ﴾٤ ؛ و( الكتاب ) اسم من أسماء القرآن المجيد، وقد أورد منها صاحب تفسير غرائب القرآن٥ نحوا من أربعين اسما، الله العليم سماه فرقانا، يقول جل وعز﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده.. ﴾٦ ؛ ولعل في التسمية ما يشير إلى نزوله متفرقا على مدى بضع وعشرين سنة، أو لأنه يفرق بين الحق والباطل ؛ وسماه المولى سبحانه ( حكما ) كما في الآية القرآنية ﴿ وكذلك أنزلناه حكما عربيا.. ﴾٧ وسماه ( روحا ) و( نورا ) يقول ربنا تقدست أسماؤه :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا.. ﴾٨، ويقول :(.. ولكن جعلناه نورا.. )٩.
﴿ لا ريب ﴾ لا شك ولا تهمة في أنه تنزيل الله الخالق جل وعلا، وأنه حق فإن قلت كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق، كم من شقي مرتاب فيه، ؟ قلت : ما نفى من أحد مرتاب فيه وإنما المنفى كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه١٠، وقيل : هو خبر ومعناه النهي، أي : لا ترتابوا فيه.
﴿ هدى للمتقين ﴾ الهدى قد يعني : التبيين والدلالة والتنبيه والدعوة، ومنها قول الله عز ثناؤه :﴿ .. ولكل قوم هاد ﴾١١ :﴿ .. وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾١٢، وهذا هو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم ؛ وقد يعني الهدى : التأييد والتوفيق وخلق الإيمان في القلب، وهذا لا يقدر عليها إلا الله، يقول سبحانه :﴿ .. ولكن الله يهدي من يشاء.. ﴾١٣، ﴿ إنك لا تهدي من أحببت.. ﴾١٤ ؛ ﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام.. ﴾١٥ ؛ والمتقي : هو المؤتمر للمأمورات، المنتهي عن المحظورات، فحقيقة التقوى الخشية، وقد يراد بها التوحيد كما في قول الله عز من قائل :﴿ .. وألزمهم كلمة التقوى.. ﴾١٦، أي كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ؛ وقد يراد بها الإخلاص، ومنه ما جاء في الآية الكريمة ﴿ .. فإنها من تقوى القلوب ﴾١٧، أي : إخلاصها ؛ عن ابن عباس : المتقون١٨ : هم المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة الله وقال قتادة : هم الذين نعتهم الله بقوله :﴿ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ﴾١٩ واختيار ابن جرير٢٠ أن الآية تعم ذلك كله ؛ والفرقان الحكيم يبني ويدل على الحق ويرشد ويدعو إلى البر، ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.. ﴾٢١ لكن المنتفعين بهداه٢٢ هم الذين يخشون الله، ويطلبون رحمته وثوابه ورضاه، ﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾٢٣، ﴿ وإنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب.. ﴾٢٤.
٢ سورة السجدة الآية ٦..
٣ سورة البقرة من الآية ١٨٦..
٤ سورة يونس من الآية ٦١..
٥ الحسن بن محمد ابن حسين القمي النيسابوري..
٦ سورة الفرقان من الآية ١..
٧ سورة الرعد الآية ٣٧..
٨ سورة الشورى من الآية ٥٢..
٩ سورة الشورى من الآية ٥٢..
١٠ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن..
١١ سورة الرعد من الآية ٧..
١٢ سورة الشورى من الآية ٥٢..
١٣ سورة البقرة من الآية ٢٧٢..
١٤ سورة القصص من الآية ٥٦..
١٥ سورة الأنعام من الآية ١٢٥..
١٦ سورة الفتح من الآية ٢٦..
١٧ سورة الحج من الآية ٣٢..
١٨ سأل عمر أبي ابن كعب عن التقوى فقال له أما سلكت طريقا ذا شوك قال ؟ بلى قال فماذا عملت قال شمرت واجتهدت قال فذلك التقوى..
١٩ سورة البقرة الآية ٣..
٢٠ هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب تفسير جامع البيان..
٢١ سورة الإسراء من الآية ٩..
٢٢ نظم بعضهم أثر القرآن فيه فقال:
يا بيانا جل عن كل شبيه *** وتعالى عن أساليب العرب
وكتابا كلما ارتلت فيه *** خشع القلب لديه واضطرب
هو إن رق نسيم نافع *** بشذا الخلد وأنفاس النعيم.
٢٣ سورة ( ق) من الآية ٤٥..
٢٤ سورة يس من الآية ١١..
﴿ الصلاة ﴾ العبادة المعروفة. ﴿ رزقناهم ﴾ أعطيناهم.
﴿ ينفقون ﴾ يخرجون. ﴿ بما أنزل إليك ﴾ بالقرآن.
﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾ الذين يستيقنون بما لابد من التصديق الراسخ به وإن غاب عن أعينهم –الإيمان في اللغة يطلق على التصديق المحض كما قال تعالى :﴿ .. يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين.. ﴾١ وكما قال إخوة يوسف لأبيهم ﴿ .. وما أنت بمؤمن لنا.. ﴾٢ ؛ وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ﴾٣ ؛ فأما إذا استعمل مطلقا فالإيمان المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا، هكذا ذهب أكثر الأئمة وحكاه الشافعي وأحمد إجماعا : أن الإيمان قولا وعملا، يزيد وينقص... وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، فقال أبو العالية : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، وجنته ولقائه، وبالحياة بعد الموت.. ٤- وأما الذين يرتابون في مطالب الإيمان فلا يهتدون بالقرآن بل قد يتمادون بعد سماعه في الطغيان، يقول ربنا جل ثناؤه :﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ﴾٥ ؛ ﴿ .. والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى.. ﴾٦ ؛ والإيمان شرعا- فيما ذهب إليه جمهور المحققين- : التصديق بما علم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به بضرورة، تفصيلا فيما علم تفصيلا، وإجمالا فيما علم إجمالا ؛ وذهب البعض إلى أنه المعرفة بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، وجوانبه أشارت إليه مجتمعة آية في أوسط سورة البقرة ﴿ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.. ﴾ وآية كريمة في خواتمها :﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾ ؛ وزادت السنة سادسا :( وأن تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره ).
﴿ ويقيمون الصلاة ﴾ ويوفون الصلاة حقها، وذلك كقوله سبحانه :(.. لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل.. )٧، أي توفوا حقها بالعلم والعمل، ( الصلاة ) في الأصل الدعاء ؛ وعند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان، وعرفوها بأنها العبادة ذات الهيآت والأقوال المخصوصة التي مفتتحها التحريم- تكبيرة الإحرام- ومختتمها التسليم، فرضا كانت أو نفلا-إلا أنه يحتمل أن يقال : المراد بها في الآية الفرض، لأن الفلاح قد نيط بها في قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي ( أفلح والله إن صدق ) بعد قول الأعرابي : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص أي على ( الصلوات )٨ المفروضة.
﴿ مما رزقناهم ينفقون ﴾ الرزق لغة : هو ما ينتفع به ؛ وعند أهل السنة ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما ؛ والإنفاق : البذل والإخراج، وهذا شامل للنفقات الواجبة- نفقة الرجل على نفسه وعلى من يعول- وللزكاة كذلك.
إن الشرع القويم والطبع السليم يقضيان بأن ابتغاء السعادة وبلوغ منازل الأتقياء والفوز بهداية القرآن سبيلها إيمان وعبادة، وبهذا بشر أهل اليقين :﴿ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام.. ﴾٩ بعد قوله الحكيم ﴿ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ﴾ ؛ والمصلون المنتهون عن الفحشاء والمنكر يشرح الله تعالى صدورهم، ويطيب قولهم وفعلهم، ويجمع عليهم أمرهم، لا يدرك ذلك إلا من استيقن يقينهم وعمل عملهم، ﴿ إن الإنسان خلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا. إلى المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون. والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم. والذين يصدقون بيوم الدين ﴾١٠ ؛ فهؤلاء في الآخرة السعداء، وهم في هذه الحياة الدنيا لا يجزعون عند البلاء، ولا يضنون ببذل ولا يخشون في عطاء، بل بفضل الله تعالى يجودون، ومن طيبات ما أحل لهم يأكلون ويشربون ويتزينون ويتملكون، ويتصدقون ويهدون ؛ وفريق من علماء القران على أن :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ مما نزل قبل أن تفرض الزكاة، فإن هذه السورة- سورة البقرة- أول ما نزل بالمدينة، والزكاة شرعت في السنة الثانية من الهجرة ؛ ومن سماحة الإسلام أنه يرتب الإنفاق ويثيب عليه، ويبشر النبي صلى الله عليه وسلم كل منفق لا يبذر ولا يتفاخر بأنه مأجور. ١١
٢ سورة يوسف من الآية ١٧..
٣ سورة العصر من الآية ٣..
٤ ما بين العارضتين مما أورد ابن كثير.
٥ سورة الإسراء الآيتان ٤٥-٤٦..
٦ سورة فصلت من الآية ٤٤..
٧ سورة المائدة من الآية ٦٨..
٨ أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن بحثا مطولا في الصلاة و إقامتها زاد على اثنتي عشرة صفحة..
٩ سورة المائدة من الآية ١٦..
١٠ سورة المعارج الآيتان من ١٩ إلى ٢٦..
١١ من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إنك ما نفقت من نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فم امرأتك ) وروى " في في امرأتك" و في حديث شريف آخر (ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل عن نفسك شيء فلزوجك فإن فضل عن زوجك شيء فلولدك، فإن فضل عن ولدك شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذوي قرابتك شيء فهكذا و هكذا) أي أنفق في كل جوانب النفع والخير ما استطعت..
﴿ وبالآخرة ﴾ وبالبعث والحشر والحساب والجزاء.
﴿ يوقنون ﴾ يعلمون دون شك.
﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ يدرك الهدى والتقوى من آمن بالغيب، وأقام الصلاة، وأنفق مما رزقه الله، ويفوز بهما كذلك المصدقون بما أوحيت إليك، وبما أوحيت إلى الرسل من قبلك، ولقد عهد ربنا العظيم إلينا أن نستيقن بكلامه الذي آتاه مصطفاه وخاتم أنبيائه، وبما آتى الرسل السابقين من كلامه ؛ ﴿ يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل... ﴾١، ووصانا أن نذكر أهل الكتاب-أصحاب الكتابين التوراة والإنجيل، وهم اليهود والنصارى- ووصانا أن نذكرهم في رفق بأننا لا نجحد ما جاءهم من الحق﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾٢ والإسلام جاء مصدقا لشرائع الله التي شرعت للأمم التي خلت ومهيمنا عليها، واستحفظ خاتم النبيين على هذا الهدى الرباني الحكيم، فقال مولانا العلي العظيم :﴿ قل آمنا بالله وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴾٣، كما عهد إلينا بما عهد به إلى نبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴾٤.
﴿ وبالآخرة هم يوقنون ﴾ أي : وبالدار الآخرة هم عالمون علما راسخا في الرأس والنفس ؛ و( الآخرة ) في الأصل صفة، لكنها كالعلم بالغلبة على الحياة التي بعد حياتنا الأولى هذه- وقد تضاف الدار لها كقوله تعالى.. (.. ولدار الآخرة خير.. )٥ أي دار الحياة الآخرة، وقد تقابل الأولى كقوله سبحانه وتعالى :﴿ .. له الحمد في الأولى والآخرة.. ﴾٦ والمعنى هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة... ( والإيقان ) التحقق للشيء كسكونه ووضوحه... قال الجوهري : اليقين العلم وزوال الشك.. ؛ وذهب الواحد وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال، فلا يوصف به البديهي، ولا علم الله تعالى، وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم الذي لا يحتمل النقيض... ؛ وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه سواء كان ضروريا أو استدلاليا ؛ وذكر الراغب أن اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها ؛ يقال : على يقين، ويقال معرفة يقين، وهو سكون النفس مع ثبات الحكم.. ٧-أما من جحد لقاء الله أو شك في مجيئه فقد عمى قلبه :﴿ بل ادارك علمهم في الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بل هم منها عمون.. ﴾٨ وأولئك لا يستنيرون بنور القرآن وإن كان الذي يتلوه عليهم هو خير الأنام عليه الصلاة والسلام، يقول الله جل علاه :﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. وجعلنا على قلوبهم أكنة لا يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ﴾٩، فيا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه، وعجبا ممن يعرف النشأة الآخرة وعجبا ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم يموت ويحيا، وعجبا ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور١٠. ولكن أهل الإيمان والتقى يصدقون بيوم الدين، يوم الفصل بين العباد بعد بعث الأجساد والحشر والتناد لا يشكون في إحياء الموتى من قبورهم ولا في عرضهم على ربهم، ولا في جزائهم وثوابهم وعقابهم، ولا ينكرون شيئا من أحوال دار القرار التي أنبأنا بها الواحد القهار، العزيز الغفار.
٢ سورة العنكبوت الآية ٤٦..
٣ سورة آل عمران الآية ٨٤..
٤ سورة البقرة الآية ١٣٦..
٥ سورة يوسف من الآية ١٠٩.
٦ سورة القصص من الآية ٧٠..
٧ ما بين العارضتين من روح المعاني، في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني..
٨ سورة النمل الآية ٦٦..
٩ سورة الإسراء الآيتان ٤٥-٤٦..
١٠ في المأثور "والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا"..
﴿ أولئك على هدى من ربهم ﴾ الموصوفون بالصفات التي أرشدت إليها الآيات المباركات السابقات يفوزون بالتمكن من الهدى ؛ فالعرب تقول : فلان على الحق، أي متمكن من الحق، فلان على الباطل أي موغل فيه، متشبث به وقد يصرحون بذلك فيقولون : اتخذ الغواية مركبا ؛ أما الذين صدقوا واستمسكوا بالوحي فإن مولاهم تبارك اسمه أصلحهم وحبب إليهم الاستقامة ؛
يقول الحكماء : الهدى من الله كثير، ولا يصلحه إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولكن لا يهتدي بها إلا العلماء.
﴿ أولئك هم مفلحون ﴾ هم الفائزون الرابحون في الدنيا والآخرة ؛ قال ابن أبي إسحاق عن ابن عباس : هم الذين أدركوا ما طلبوا ونجو من شر ما منه هربوا وأما معنى قوله ﴿ أولئك على هدى من ربهم ﴾ فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم، - وتأويل قوله ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ أي : أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكرهم بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب-١.
﴿ أأنذرتهم ﴾ أخوفتهم.
وصف الله تعالى المتقين في الآيات الأربع السابقات وكأنها شاهدة بأن بصائر القرآن ونوره وموعظته تهدي إلى سبل السلام وتبلغ بالمتبعين لها الفوز والنجاح ورضوان الملك العلام أما الذين لا يتبعون الذكر فقد أنبأتنا هذه الآية أنهم لا يزدجرون عن الغي ولا يتهيبون عاقبة الزيغ والبغي ولا يسلكون سبيل الحق : " ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر.. ﴾ ١، أي : فهذا ينفعه الإنذار أما المكذبون بالقرآن فما تغني عنهم النذر، ذلك أن القلوب إذ غلفها الغرور والكبر تحجرت، وفارقها صفاء الفطرة ولا يستويان جاء في محكم الفرقان :﴿ ... فويل للقاسية قلوبهم من الذكر أولئك في ضلال مبين. الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يظلل الله فماله من هاد ﴾٢ ؛ وهكذا من خرج على فطرة الله السوية فإن إنذاره وعدم إنذاره يستويان والكفر ضد الإيمان وهو المراد في الآية وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان ومنه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف (.. ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء ) قيل : بم يا رسول الله ؟ قال بكفرهن قيل : أيكفرن بالله ؟ قال :( يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيك منك خيرا قط ) أخرجه البخاري وغيره، وأصل الكفر في كلام العرب : الستر والتغطية.
وقوله تعالى ﴿ سواء عليهم ﴾-معناه : معتدل عندهم الإنذار وتركه.. وجيء بالاستفهام من أجل التسوية، ومثله قوله تعالى ﴿ سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ﴾٣.. (.. أنذرتهم ) والإنذار : الإبلاغ والإعلام ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للإحتراز كان إشعارا ولم يكن إنذارا ؛ واختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقيل هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب.. ﴿ لا يؤمنون ﴾ موضعه رفع خبر ( إن )- ٤.
٢ سورة الزمر من الآية ٢٢ و الآية ٢٣..
٣ سورة الشعراء من الآية ١٣٦..
٤ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القران..
﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ﴾ قال أهل المعاني : وصف الله تعالى قلوب الكفارة بعشرة أوصاف : بالختم والطبع والضيق والمرض والقساوة والانصراف والحمية والإنكار١ ؛ وعن ابن عباس وابن مسعود ما حاصله : الختم على القلوب عدم الوعي عن الحق- سبحانه- مفهوم مخاطبته والفكر في آياته ؛ وعلى السمع عدم فهمهم القرآن إذا تلي عليهم أودعوا إلى وحدانيته ؛ وعلى الأبصار عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته، [ القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر وقال الله تعالى :﴿ ... كذلك لنثبت به فؤادك ﴾٢، ويقال :﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾٣ يعني في الموضعين قلبك ؛ وقد يعبر به عن العقل قال الله تعالى :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب.. ﴾ ٤ أي عقل ؛ لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين : والفؤاد محل القلب والصدر محل الفؤاد والله أعلم ] ٥.
٢ سورة الفرقان من الآية ٣٢.
٣ سورة الشرح الآية ١..
٤ سورة ق من الآية ٣٧..
٥ ما بين العالمتين [] مما أورد القرطبي في الجامع لأحكام القرآن وقال الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب وإن كان رئيسها و ملكها بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر و الباطن قال صلى الله عليه و سلم " إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وعن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه" وروى الترمذي و صححه عن أبي هريرة " إن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه" قال وهو الرين الذي ذكر الله في القرآن في قوله( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) وقال مجاهد القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع ثم يطبع..
٢ سورة المنافقون الآية ١..
٣ سورة المائدة الآية ٦١..
﴿ يشعرون ﴾ يعلمون علم حس.
وإذا اعتلت نفوس المنافقين وفسد عقلهم وساء ظنهم بربهم ففعلوا معه فعل المخادع- تكلموا بكلام المسلمين وعملوا عمل الغادرين وظنوا أن هذه المراءاة تجوز وتروج على الحكيم العليم-
﴿ فزادهم الله مرضا ﴾ كلما أنزل من وحي الله تعالى شيئا فكفروا به وازدادوا كفرا.
﴿ أليم ﴾ وجيع ﴿ يكذبون ﴾ فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
لما فسدت طويتهم زادهم الله فسادا : فكأن المرض هنا علة في الدين ولا تستلزم بالضرورة أن تكون علة حسية في العضلة الصنوبرية التي في أيسر التجويف الصدري، والمعروف بالقلب ؛ ومن عدل الله وفضله أن كلماته- وكلها صدق وعدل- تزيد العقلاء المهتدين تبصرا وهداية، وتزيد الضالين حسرة وخسارا :﴿ .. فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم.. ﴾١ :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾٢ ؛ ﴿ وإنه لتذكرة للمتقين. وإنا لنعلم أن منكم مكذبين. وإنه لحسرة على الكافرين. وإنه لحق اليقين ﴾٣. ﴿ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ﴾ ولهؤلاء المخادعين عذاب موجع أشد الوجع : بالغ النهاية في الألم :﴿ .. قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم. يصهر به ما في بطونهم والجلود. لهم مقاطع من حديد ﴾٤ : وذلك بكذبهم على ربهم وقولهم آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وإن كذبا على الله ليس ككذب على غيره :﴿ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة.. ﴾٥ -المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان ما في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان خاليا عما يشعر به ظاهره... ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.. ﴾٦ : ووصف حال الكفار في آيتين، وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم، وفضحهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم، .. ودعاهم صما وبكما، وضرب الأمثال الشنيعة ؛ قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا... والضمير العائد إلى من يكون موحدا تارة باعتبار اللفظ، نحو :﴿ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة.. ﴾٧ ومجموعا أخرى باعتبار المعنى مثل :﴿ ومنهم من يَسْتَمِعُونَ إليك.. ﴾٨، وقد اجتمع الاعتبار في الآية في ﴿ يقول ﴾ و﴿ منا ﴾ وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره، وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانيين على صفة الصحة والاستحكام ؛ فلما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها : أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة جاء بالجملة الاسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البث والقطع، وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال : إنهم لم يؤمنوا ونظير الآية قوله تعالى :﴿ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها.. ﴾٩-
٢ سورة الإسراء الآية ٨٢..
٣ سورة الحاقة الآيات ٤٨- ٥١..
٤ سورة الحج من الآية ١٩ و الآيتان ٢٠- ٢١..
٥ سورة الزمر من الآية ٦٠..
٦ سورة النساء من الآية١٤٥..
٧ سورة الأنعام من الآية ٢٥..
٨ سورة يونس من الآية ٤٢..
٩ سورة المائدة من الآية ٣٧..
﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نَحْنُ مصلحون ﴾ ومن هؤلاء الناس الذين يخادعون من إذا قيل لهم لا تخرجوا بقلوبكم وعقولكم عما فيه صلاحها وفلاحها- إذ المكر والمخاتلة تفسد العباد- إذا نهوا عن الغي والفسوق ردوا بأنهم ما فعلوا إلا ما فيه الصلاح قال ابن عباس : قالوا : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ﴾ دعوا إلى التخلي عن المكر والكفر فنفروا، ونودوا إلى التحلي بالتصديق بالحق واتباع الرشد فخسروا، وآذوا أهل اليقين، ورموهم بخفة العقل، وقلة المعرفة، وضعف الرأي ؛ عن ابن عباس ما حاصله١ : وإذا قيل لهم صدقوا كما صدق أصحاب محمد الذين تعرفونهم من أهل التصديق الراسخ بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وباليوم الآخر، فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم : أنؤمن كما آمن أهل الجهل ونصدق بمحمد كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام ؟ ﴿ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ﴾ قال ابن كيسان يقال : ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم ؛ وإنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم، قال : ففيه جوابان : أحدهما- أنهم كانوا يعملون الفساد سرا ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم، والوجه الآخر : أن يكون فسادهم عندهم صلاحا وهم لا يشعرون أن ذلك فسادا وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبين الحق واتباعه.
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون ﴾ يبتغون بادعائهم الإيمان المصانعة للمؤمنين والمشاركة فيما يسوق الله إلى أوليائه من خير أو مغانم، فهم لهذا إذا واجهوا المؤمنين وجلسوا إليهم يعلنون إيمانهم- وقلوبهم منكرة- وقد نبأ الله المؤمنين من أخبارهم : فقال جل شأنه :﴿ وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به... ﴾١ أي يدخلون عليكم وهم على كفرهم، ويخرجون من عندك وما تغير من كفرهم شيء وحين يبتعدون عن أعينكم ومجالسكم ويذهبون ويخلصون إلى أقرانهم وكبرائهم وقادتهم وأشقيائهم من شياطين الإنس والجن- وكلهم أعداء الله، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا يقول هؤلاء المخادعون لأئمة ضلالهم : إنهم على إفكهم وكفرهم ؛ وإنما صنيعهم في التكلم بكلام المسلمين والتردد على مجالسهم ومشاركتهم بعض أعمالهم ليس إلا على سبيل الاستهزاء والسخرية.
﴿ يمدهم ﴾ يزيدهم ويلحق بهم ما يتمادون به.
﴿ طغيانهم ﴾ غلوهم في كفرهم ومجاوزتهم الحد في فجورهم وشرهم.
﴿ يعمهون ﴾ يتحيرون ويترددون.
﴿ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ﴾ الله يجازيهم على الاستهزاء بالمؤمنين ويعاقبهم عقوبة المخادعين، فسمى هذا الجزاء باسم ما ارتكبوه من زور :( موافقا في اللفظ مخالفا في المعنى ؛ وذلك كقوله سبحانه ﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها.. ﴾ ١ مع أن اقتضاء الحقوق بر وعدل وليس من السوء في شيء لكن هذا كما قال علماء المعاني من باب المشاكلة أي الكلمتين واحد ومعناها مختلف كما في الآية الكريمة ﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم.. ﴾ ٢ مع أن العدوان الأول ظلم والثاني عدل ﴿ ويمدكم ﴾ أي ويمهلكم الله تعالى فيخلى بينهم وبين ما سلكوه في طغيانهم في تجاوزهم الحد في البغي والإغواء والغي ﴿ يعمهون ﴾ يتحيرون ويترددون.. ﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾٣ وذلك كقوله تعالى ﴿ إنما نملى٤ لهم ليزدادوا إثما.. ﴾٥.
٢ سورة البقرة من الآية ١٩٤..
٣ سورة الصف الآية ٥..
٤ يقول صلوات ربنا عليه و سلامه" إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد العاصي ما يحب و هو مقيم عليه معصية فإنما ذلك منه استدراج" أو كما قال..
٥ سورة آل عمران من الآية ١٧٨..
﴿ الضلالة ﴾ الذهاب عن الصواب وإعياء الأمر.
﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ﴾ تخلوا عن هدى الله الذي جاءهم مقابل أخذهم الزيغ والحيرة والجور عن القصد هؤلاء البعداء في الغواية وإن كان ذكرهم قريبا استبدلوا الخبيث بالطيب، منهم من فضل الغواية منذ البداية ومنهم من أسلم ثم اتقى كالذين حكى القرآن عنهم :﴿ ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع الله قلوبهم ﴾١، وإذا كانت معاوضة ومبادلة بين شيئين وصيغت مع دخول الباء على أحد العوضين فإن الباء تدخل على المتروك كما جاء في القول الحكيم ﴿ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ﴾ أي تأخذون الشيء الأدنى مقابل أن تتركوا الشيء الذي هو خير ﴿ فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾ الربح تحصيل الزيادة على رأس المال، والتجارة التصرف في رأس المال طلبا للربح، صفقة خاسرة تلك التي أبرمها المخادعون فلا هم ظفروا بربح ولا بقي لهم رأس المال وقد يراد بالضلال الهلاك كما في قول ربنا عز وجل ﴿ وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد.. ﴾ ٢ أي إذا أهلكنا وبلينا في القبور هل يجري علينا الإحياء ثانية والبعث والنشور كما أن الهدى قد يعني الاهتداء إلى دار الإسلام كما قال الملك العلام ﴿ والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم ﴾٣.
٢ سورة السجدة من الآية ١٠..
٣ سورة محمد من الآية ٤ و الآيتان ٥- ٦..
﴿ ذهب ﴾ أزال ﴿ تركهم ﴾ أبقا بهم
نقل عن ابن مسعود وغيره أن أناسا دخلوا في الإسلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة : ثم إنهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذي وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقى فبينما هو كذلك إذ طفأت ناره فأقبل ما يدري ما يتقى من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر وأما النور فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وكانت الظلمة نفاقهم، حالهم كحال الذي توجه إلى الاستضاءة وطلبها من مصدرها ثم كرهها وصد عنها واختار الظلام لها بديلا ويصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما جاء في الآية الكريمة :﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله... ﴾١ ولولا ذلك لقيل : كمثل الحمير. ﴿ وتركهم في ظلمات لا يبصرون ﴾ وتركهم الله إلى ظلمات أحقادهم، وسواد أطماعهم، فزادتهم عماية وغواية.
﴿ عمي ﴾ ذهبت أبصارهم ﴿ لا يرجعون ﴾ لا يعودون إلى الاهتداء
﴿ صم بكم عمي فهم لا يعقلون ﴾ صم عن سماع الحق، فآذانهم مغلقة دونه، عمي عن سبيل السلام فلا يبتغونه، بكم عن القول الحق فلا يقولونه، وإنما تتحرك به ألسنتهم مخاتلة وغدرا ولكنهم يتجافون عنه ولا يقدسونه بل لا يحبون أهل الحق ولا يكادون يطيقون رؤيتهم :﴿ .. وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ.. ﴾١- ولا يرغبون الرجوع عن صفقتهم التي باعوا فيها الإخلاص واشتروا المكر والمخاتلة ؛ ﴿ .. ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ﴾٢ ؛ وليس الغرض مما ذكرناه نفى الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض مما ذكرناه نفيها من جهة ما ؛.. ولقد أحسن الشاعر حيث قال : أصم عما ساءه سميع
وقال الدرامي :
أعمى إذا ما جارتي خرجت | حتى يواري جارتي الخدر٣ |
٢ سورة التوبة من الآية ١٢٦..
٣ ما بين العارضتين مما اورد القرطبي..
﴿ رعد ﴾ الصوت الذي يسمع من جهة السحاب ﴿ برق ﴾ الضوء المنبعث من السماء
﴿ يجعلون أصابعهم في آذانهم ﴾ يضعون أطراف أصابعهم ليسدوا بها آذانهم
﴿ الصواعق ﴾ الواقعات الشديدة من صوت الرعد أومن نار البرق والشهاب
﴿ محيط ﴾ لا يفوته شيء
﴿ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ﴾ تسع آيات سبقت بينت حقيقة المخادعين المنافقين، وبعدها أربع ضرب الله في كل اثنين منها مثلا لحالتهم وصفتهم وقصتهم، مضى المثل في الأول في الآيتين السابعة عشرة والثامنة عشرة، ثم عطف عليه المثل الثاني، ﴿ أو كصيب من السماء ﴾ أوحالهم كحال من سقط عليه المطر النازل من العلو ومن جهة السماء ﴿ فيه ظلمات ورعد وبرق ﴾ حين ينهمر الماء من السحاب يظلم الأفق، ويحتجب الضوء، ويحدث الرعد والبرق، فنسمع الصوت القاصف، ونشهد الضوء المتوهج اللامع الخاطف ؛ ﴿ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ﴾ يجعل المخادعون أناملهم وأطراف الأصابع السبابة منهم، ويضعونها في آذانهم ليسدوها لكيلا يسمعوا صوت الصاعقة خشية أن يميتهم سماعه ﴿ والله محيط بالكافرين ﴾ فلن ينفعهم حذرهم، لأن الكون كله في قبضته سبحانه، فقدرته محيطة بكل مخلوق وبكل مقدور، ولن يفلت منه أو يفوته أو يعجزه أحد ؛ ويكن اعتبار المثل مركبا وتشبيها لهيئة بهيئة فلا يلزم أن نقابل بين كل ما ذكر في المشبه به وبين كل ما ذكر في المشبه به وكأن المعنى : مثل المختالين في ممالأتهم لأهل الكفر وضيقهم بأهل الإسلام وحذرهم من علو كلمة الله مثلهم كصفة الذي يشهد المطر الخير النافع الذي يحيي الله به الأرض ويسقي به الخلق فلا يفرحون بنزوله، ولا يتعرضون لبركته وإنما يخافون ما اقترن به ويحسبون كل صيحة عليهم كما وصفهم الله بقوله تعالى :﴿ .. ولكنهم قوم يفرقون ﴾١، جبناء فزعون.
٢ سورة الأنعام من الآية ٤٦..
٣ نقل عن سيبويه الشيء لغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو شامل للمعدوم والمعلوم والموجود والواجب والممكن وتختلف إطلاقاته ويعلم المراد منه بالقرائن فيطلق تارة ويراد به جميع أفراده كقوله تعالى ﴿والله بكل شيء عليم ﴾ بقرينة إحاطة العلم الإلهي والممكن المعدوم والموجود والمحال.. ويطلق ويراد به الممكن والمعدوم الثابت في نفس الأمر كما في قوله ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ بقرينة إرادة التكوين التي تختص بالمعدوم.. نقل عن هذا صاحب روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني..
﴿ ربكم ﴾ سيدكم ومولاكم ومطاعكم ووليكم.
﴿ خلقكم ﴾ أنشأكم وأبدعكم.
لعل في نداء الله تعالى كافة البشر ما يشهد لعموم الرسالة الخاتمة وأنها لجميع الآدميين منذ بعث خاتم النبيين، وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين فمع أن السورة مدنية فإن الخطاب موجه إلى المؤمنين ومن عداهم ؛ والعبادة تعني التوحيد كما تعني الطاعة
﴿ فراشا ﴾ وطاء ومستقرا. ﴿ بناء ﴾ سقفا
﴿ الثمرات ﴾ حمل الشجر وأنواع المال. ﴿ رزق ﴾ قوتا وما يتمول وينتفع به. ﴿ أندادا ﴾ أكفاء وأمثال ونظراء.
وذكرت نعم في اللآيتين المباركتين ليستدل الناس بها على المنعم سبحانه فيعبدونه ويشكرونه على ما خلق وما رزق، ويتركوا ما اختلقوه وزعموه وادعوه من أكفاء وأمثال ونظراء، فإن الذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ﴿ .. إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ﴾ ١، فالله الولي هو الذي يستحق الطاعة والشكر وحده دون سواه، فهو الذي أنشأنا وآبائنا من العدم، وأبدعنا على خير مثال سبق فصورنا فأحسن صورتنا، وأتقن تقويمنا فنسأله كما حسن خلقنا أن يحسن خلقنا وتبارك الذي سخر علا الكون وسفليه، فالأرض لنا مستقر ووطاء والسماء فوقنا سقف وغطاء وما ينزل من السحاب المعلق جهة السماء إنما هو ماء مبارك يصيب به ربنا من يشاء ويصرفه عمن يشاء ؛ فإذا أصاب به أرضا اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج نبت نقتات من حبه وجنات من نخيل باسقات وأعناب وزيتون ورمان وشجر مختلف الثمرات، نتفكه بها ونتملك ما ييسر الله لنا من ثمنها فمن غير الله يخلق كخلقه أو يملك شيئا من رزقه ؟.
﴿ أنتم تعلمون ﴾٢ أنه لا أحد يخلق كخلقه :﴿ ولئن سألتم من خلقهم ليقولن الله.. ﴾٣ والمشركون يعلمون أنه لا رازق إلا الله :﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أَمَّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ﴾٤. نقل عن أبي عبيدة :( أندادا ) جمع ند، وكأنه راعى في المعنى أن فعل ( ند ) يفيد النفور يقال ند البعير إذا نفر وذهب على وجهه، قالوا : والند : المثل ولا يقال إلا للمثل المخالف.. من ناددت الرجل : خالفته وقول الموحد : ليس لله ند ولا ضد يعني : نفى ما يسد مسده ونفى ما ينافيه واتخاذ الأنداد والشركاء جريمة دونها كل ذنب وجرم، وهي رأس الكبائر وأعظم الظلم سواء اعتقد المشرك ذلك، أو تابع غيره من الآباء والكبراء والقرناء في ظلالهم، والقول مثل قولهم ولعل هذا من حكمة الله تعالى في النهي عن مقاربة الشرك قولا أو اعتقادا، يقول سبحانه :﴿ .. فاجتنبوا الرجس من الأوثان... ﴾٥ ؛ والزعم أن الأسباب تؤثر بذاتها دون جاعلها ومسببها تبارك وتعالى- زعم استقلال الأسباب بالتأثير- جحود بالله العلي الكبير ؛ روى البخاري ومسلم في صحيحهما عند زيد ابن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية على إثر سماء٦ كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال :( هل تدرون ماذا قال ربكم ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ؛ قال ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب وأما من قال مطرا بنوء٧ كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ) ؛ ولئن كان نزول المطر في أكثر الأحيان يترتب على تقلبات فلكية، لكن خلقه ونزوله بقدرة الله تعالى ومشيئته ؛ والأنواء وتأثيرها في حصول الأمطار لا يعدو أن يكون سببا يعلمه الله- جل جلاله- متى شاء ويبطل عمله متى يشاء والله الفعال بما يريد قادر على إنشاء الأشياء بلا أسباب بل وبلا مواد، كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد.
٢ مما أورد محمد أبو عبد الله بن أحمد الأنصاري القرطبي فإن قيل كيف وصفهم بالعلم و قد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمي فالجواب من وجهين أحدهما ﴿أنتم تعلمون﴾ يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد الثاني أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم والله اعلم، وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد... يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين فالمعنى لا ترتدوا.. وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نقيض الجهل لأن الله واحد..
٣ سورة الزخرف من الآية ٨٧..
٤ سورة يونس الآية ٣١..
٥ سورة الحج من الآية ٣٠..
٦ أي: في أعقاب مطر و يسمى المطر سماه لنزوله من جهة السماء..
٧ النوء: يطلق و يراد به ما يحدث من تقلبات جوية كتراكم السحب..
﴿ شهداءكم ﴾ أعوانكم.
﴿ سورة ﴾ قطعة من القرآن مشتملة على جملة من آياته.
في آيتين كريمتين سبقتا ساق الله تعالى البرهان على أنه- دون سواه- هو الخالق للأولين والآخرين، وأنه الرزاق ذو القوة المتين، فلا حجة لمشرك يتخذ أندادا لرب العالمين ؛ ثم بعد ذلك الكلمات التامات الصادقات العادلات- وكل كلمات ربنا تامة وصدق وعدل- أقام الله الحكيم فيها الحجة على أنه منزل الكتاب العزيز، فمن ارتاب في أنه كلام الذي ليس كمثله شيء فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين فيما ادعوه من أنه من قول البشر ؛ - قال الله جل ثناؤه لهم : وإن كنتم أيها المشركون من العرب، والكفار من أهل الكتابين١ في شك، وهو الريب مما نزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي، وأنا الذي أنزلته إليه، فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول فاتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبرهانه على صحة نبوته وأن ما جاء به من عندي عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله، وإذا عجزتم عن ذلك وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراسة فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز... فيتقرر حينئذ عندكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يتقوله ولم يختلقه، لأن ذلك لو كان منه اختلاقا وتقولا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعد أن يكون بشرا مثلكم... )٢ – ومع حرصهم على التشكيك في الإسلام وكتابه أعجزهم أن يجيئوا بقرآن مثله، وقال المولى الحكيم سبحانه :﴿ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ﴾٣، وعجزوا عن الإتيان بعشر سور من مثل٤ سوره الكريمة وحاجهم القرآن فحجهم إذ ادعوا زورا وافتراء أن النبي ابتدعه من عند نفسه، أو اكتتبه من أساطير الأولين، فأكذبهم رب العالمين بقوله المبين :﴿ أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله... ﴾٥ ؛ روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ) ؛ - أي : الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه ؛ وصدق الله العظيم :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾٦.
٢ ما بين العارضتين من جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري..
٣ سورة الطور الآية ٣٤. و قبلها الآية المباركة ﴿أم يقولون تَقَوَّلَهُ بل لا يؤمنون﴾..
٤ مما أورد صاحب روح المعاني ﴿وإن كنتم ﴾ عطف على قوله ﴿... اعبدوا ربكم﴾.. وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة و نفي الشرك بإزالة تلك الآيات والانقياد لما يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه أرشدهم بما يوجب هذا العلم.... وكلمة ﴿إن﴾ إلى معنى الاستقبال... و﴿مما﴾ من فيها ابتدائية صفة ريب و لا يجوز ان تكون للتبعيض.. و ﴿ما﴾ موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب.. وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم إذ الضمائر في الآية السابقة كانت للغائبين ﴿اعبدوا﴾ و ﴿فلا تجعلوا﴾ و إلا لقال مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لاسيما وقد تأتي ب﴿نا﴾ المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام والفاء منم ﴿فاتوا﴾ جوابية.. والأمر من باب التعجيز... كما في قوله تعالى:﴿.. فات بها من المغرب..﴾ و هو الإتيان بمعنى المجيء و﴿ادعوا..﴾ الدعاء النداء والاستعانة.. و﴿دون﴾ ظرف مكان لا ينصرف.. ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو كعند على أنها تنبئ عن دنو كثير وانحطاط يسير.. والوقود ما يوقد به النار... ﴿الحجارة﴾ صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ولمثل ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت وفيها من شدة الحر أو كثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان... ما نعوذ بالله منه ومما أورد صاحب تفسير غرائب القران جاء فصيحا في كل فن من فنون الكلام فانظر في الترغيب إلى قوله ﴿فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين..﴾ وفي الترهيب ﴿.. وخاب كل جبار عنيد من وراءه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت..﴾ و في الزجر ﴿فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا..﴾ وفي الوعظ ﴿أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون﴾ وفي الإلهيات ﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال﴾ والأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صلاة الخسوف (إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط) يدل على وجودهما فإن قيل علام عطف هذا الأمر؟ كأنه يعني قول الحق سبحانه ﴿وبشر﴾ ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلنا ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي إنما المتعمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين على جملة وصف عقاب الكافرين.. وقال بعض المحققين إنه معطوف على قل مقدرا ﴿يا أيها الناس﴾ فإن تقدير القول في القرآن مع وجود القرينة غير عزيز أي غير نادر الحصول كقوله تعالى ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا﴾ أي يقولان ربنا ثم المأمور في قوله ﴿وبشر﴾ إما الرسول وإما كل من له استئهال أنيبشر... واستدل بهذه الآية من قال عن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان وإلا لزم التكرار ولمن زعم أن الإيمان هو المجموع أن يقول عطف بعض الأجزاء على الكل جائز لغرض من الأغراض كقوله تعالى﴿وملائكته ورسله وجبريل وميكال..﴾.
٥ من سورة هود الآية ١٣و من الآية ١٤..
٦ من سورة الإسراء الآية ٨٨..
٢ أورد بعض علماء القران ههنا نكتة و هي أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى يمنع من مباشرتها فإذا كانت اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن إذا كنت نجسا بالمعاصي أولى وأيضا من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع من الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون و أيضا من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تجوز صلاته أو تستكره فكيف بمن صلى وعلى قلبه جبال من نجاسات الذنوب والمعاصي؟ والخلد عند المعتزلة الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع بدليل قوله تعالى ﴿وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد..﴾ نفي الخلد عن البشر مع تعمير بعضهم وعند الأشاعرة الخلد الثبات الطويل دام أو لم يدم و لو كان التأبيد داخلا في مفهوم الخلد كان قوله ﴿خالدين فيها أبدا﴾ تكرارا..
﴿ بعوضة ﴾ الحشرة الصغيرة ذات الجناحين المعروفة.
﴿ فما فوقها ﴾ فما دونها، إذ هي فوقها في الصغر وأقل منها.
﴿ الحق ﴾ الأمر الثابت الصادق وضده الباطل.
﴿ مثلا ﴾ كلاما حكيما يشبه مضربه بمورده.
﴿ يظل ﴾ يترك في الضلال والضياع والحيرة والذهاب عن القصد.
﴿ يهدي ﴾ يرشد، ويشرح الصدر، ويمكن للإيمان في القلب.
﴿ الفاسقين ﴾ الخارجين عن حدود ربهم، الفجار والكفار.
إن المولى الحكيم جل علاه لا يخشى أن يضرب أي مثل١ كان بأي شيء كان، صغيرا كان أو كبيرا و﴿ ما ﴾ للتقليل ؛ - فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، فكما لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله :﴿ .. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ﴾٢ ويقال :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾٣-٤﴿ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ﴾ فأهل اليقين والتصديق كلما ضرب الله تعالى مثلا علموا أنه صدق وعدل وحكمة لأنه كلام ربنا الذي له الجلال كله وهوالحكيم العليم. ﴿ وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ﴾ ولكن المكذبين بوحي ربنا يسخرون من الآيات ويسألون سؤال المستهزئ وينكرون أن يكون لهذا الكلام أثر :﴿ وإذا ذكروا لا يذكرون. وإذا رأوا آية يستسخرون. وقالوا إن هذا إلا سحر مبين ﴾٥ ؛ ﴿ وإذا ما أزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم.. ﴾٦.
﴿ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ عن ابن مسعود : فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له، وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به ﴿ ويهدي به ﴾ يعني بالمثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله لهم مثلا وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به، وهذا شأن الكتاب العزيز كله :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾٧.
﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ فهو موعظة تهدي للتي هي أقوم يتعظ ويهتدي به من عقل وسلمت فطرته واستقامت سريرته ويضيق به ويصد عنه من غفل وضل وفسدت فطرته وخبثت طويته، جاء في محكم التنزيل :﴿ .. قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى.. ﴾٨، ﴿ .. وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولولا على أدبارهم نفورا ﴾٩ ؛ ﴿ وإنه لحسرة على الكافرين ﴾١٠ ؛ والفاسق : الخارج عن حدود الله.
٢ سورة الحج من الآية(٧٣)..
٣ سورة العنكبوت من الآية (٤١)..
٤ ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم..
٥ سورة الصافات. الآيات من ١٣ إلى ١٥..
٦ سورة التوبة الآية ١٢٤؛ ومن الآية ١٢٥..
٧ سورة الإسراء الآية ٨٢..
٨ سورة فصلت من الآية٤٤.
٩ سورة الإسراء من الآية٤٦.
١٠ سورة الحاقة من الآية٥٠..
﴿ عهد ﴾ أمر ووصى. ﴿ ميثاقه ﴾ عهده المؤكد باليمين.
﴿ يقطعون ﴾ يهجرون، ويعقبون، ويصدون. ﴿ يوصل ﴾ يرعى.
﴿ يفسدون ﴾ يتلفون ويسيئون.
﴿ الخاسرون ﴾ الذين نقصوا نفوسهم حظها من الفلاح.
﴿ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ﴾ وصف القرآن الفاسقين بأنهم الذين يفسدون ما أبرموا من عهد وقد وثقوه وأخذ ربنا عليهم ميثاقه أن يوفوا به وذلك وصية الله تعالى إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعة الله تعالى ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله ونقضهم وذلك : ترك العمل به ثم وصفهم ثانيا بأنهم يهجرون ويعقون ويصدون عن الذي أمر الله تعالى أن يرعى ؛ ووصفهم ثالثا بأنهم يفسدون في الأرض فيتلفون ويسيئون ويهلكون ويخرجون ويبغون. ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ أشار إليهم بما يشار به إلى البعيد مع أنهم ذكروا قريبا إشارة إلى بعدهم في الهلاك والضياع وغبنهم أنفسهم، إذ نقصوها حظها من الفلاح والفوز والنجاة.
٢ سورة غافر من الآية ١١..
٣ سورة النازعات الآيات من ٣٧ إلى ٤١..
﴿ استوى ﴾ ارتفع وعلا، قصد إليها بخلقه وإبداعه.
﴿ فسواهن ﴾ أبدعهن مستويات وحسنهن.
﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾ الله الذي يحيي ويميت وإليه المصير حقه أن يذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ويطاع فلا يعصى فعجيب ومنكر أن يجحده الجاحدون ومع تفضله بنعمة الخلق فقد أسبغ الآلاء والعطايا والرزق ولمنافعنا سخر لنا كوكب الأرض وما فيه- ولانتفاعكم به في دنياكم وذلك ظاهر وفي دينكم من النظر في عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم ومن التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب، ... والمراكب والمناظر الحسنة البهية وعلى أسباب الوحشة والألم من النيران والصواعق... والغموض والمخاوف- ١ ﴿ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سنوات ﴾ ربنا سبحانه أبدع الأرض وأوجدها في يومين وبارك فيها وقدر فيها أقواتنا في يومين فصارت أربعة أيام ثم خلق السماوات السبع في يومين فخلق السماوات والأرض في ستة أيام أي ما قدره ذلك لأن اليوم إنما يعرف ويتقصى بالدورة الفلكية المعلومة التي تكون سببا لليل والنهار وحين بدئ خلقهما لم يكن ثمة شمس ولا أرض ينشأ من دورانها وتحركها في فلكيها نهار وليل ومنهما يتكون اليوم ؛ - ﴿ ثم استوى ﴾ ﴿ ثم ﴾ لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه ؛ والاستواء في اللغة : الارتفاع والعلو على الشيء، قال الله تعالى :﴿ فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك... ﴾٢ وقال :﴿ لتستووا على ظهوره.. ﴾٣ وهذه الآية من المشكلات والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه، قال بعضهم : نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها وذهب إليه كثير من الأئمة وهذا كما روى عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى :﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾٤ قال مالك : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأراك رجل سوء أخرجوه وقال بعضهم : نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة.. وقال البيهقي : قوله ﴿ استوى ﴾ بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء والقصد هو الإرادة وذلك جائز في صفات الله تعالى ولفظه ﴿ ثم ﴾ تتعلق بالخلق لا بالإرادة... ﴿ فسواهن سبع سموات ﴾ ذكر تعالى أن السموات سبع، ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى :﴿ ... ومن الأرض مثلهن.. ﴾٥، ... وأنها سبع كالسموات السبع ؛ روى مسلم عن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾... فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته-٦.
٢ سورة المؤمنون. من الآية٢٨.
٣ سورة الزخرف. من الآية ١٣..
٤ سورة طه الآية ٥..
٥ سورة الطلاق من الآية ١٢..
٦ ما بين العارضتين مما أورد القرطبي.
.
﴿ للملائكة ﴾ للخلق النورانيين سكان السماء جند الله المطيعين
﴿ جاعل ﴾ خالق. ﴿ خليفة ﴾ يخلف من كان قبله في الأرض
﴿ يسفك ﴾ يصب. ﴿ نسبح ﴾ ننزهك عما لا يليق بصفاتك.
﴿ نقدس ﴾ نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك.
﴿ وإذ قال ربك ﴾ امتن الله تعالى بأن خلق علوي الكون وسفليه وسخره لنا ثم امتن بتكريمه لأبي البشر لآدم عليه السلام وتشريفه لكل بني جنسنا وإذ١ قد تكون مسبوقة بجملة مقدرة أي : وابتدأ خلقكم إذا قال أو متعلقة بفعل محذوف، تقديره : واذكر إذ قال ربك، أو التقدير : واذكر وقت قول ربك٢ ﴿ للملائكة ﴾ جمع ملك والتاء للمبالغة كعلامة ونسابة.
﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ : إني خالق في هذا الكوكب الأرضي من يخلف الذين كانوا قبل فيها أو خلقا يخلق بعضهم بعضا عن أبي مسعود وابن عباس وأهل التأويل أن المعنى بالخليفة هنا آدم- عليه السلام- وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره- هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة.. ودليلنا قول الله تعالى :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾، وقوله تعالى :﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض... ﴾ ٣ وقال :﴿ وعد الله الذي آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض.. ﴾٤ أي : يجعل منهم خلفاء.. واختلفت فيما يكون به الإمام إماما وذلك ثلاث طرق أحدهما النص، .. فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصديق أو على جماعة كما فعل عمر وهو الطريق الثاني ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان ابن عفان رضي الله عنه، الطريق الثالث إجماع أهل الحل والعقد... شرائط الإمام... أحد عشر-٥.
﴿ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسد الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ﴾ نقل ابن جرير ؛ وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت ﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم فسألتهم الملائكة فقالت على التعجب منها : فكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ؟ فأجابهم ربهم :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ يعني أن ذلك كائن منهم... قال، وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك فكأنهم قالوا يا رب اخبرنا – مسألة اختبار منهم لا على وجه الإنكار- واختاره ابن جرير لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا :﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ ؟ فإذا كان المراد عبادك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال ﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد الذي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى، المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم جميعا –٦قال ابن جرير : التقديس هو التعظيم والتطهير ومنه... سبوح قدوس، .. : تنزيه له :.. قدوس : طهارة وتعظيم، وكذلك قيل للأرض مقدسة يعني.. المطهرة فمعنى قول الملائكة : ونحن نسبح بحمدك ننزهك ونبرؤك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ﴿ ونقدس لك ﴾ ننسبك إلى من هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ ( قال ما اصطفى الله لملائكته : سبحان الله وبحمده ).
٢ وذلك كقوله سبحانه: (واذكر أخا عاد إذ أنذر...) أي وقت إنذاره على أنه بدلا من أخا عاد لأن الذكر في ذلك الوقت ممتنع..
٣ سورة ص من الآية ٢٦..
٤ سورة النور من الآية ٥٥..
٥ ما بين العارضتين مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن وقد ساق بحثا في عشر صفحات ونقل فيه إجماع الصحابة على تقديم الصديق ثم إن الصديق لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ثم ذكر ما ادعاه الإمامية من أحقية علي بالخلافة قبل الشيخين وأبطل مدعاهم بأدلة ومنها الإجماع ورد على ما احتجوا به إذ طعن فيه أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي ثم أشار إلى أن عقد الإمامة لا يشترط فيه جماعة كبيرة ونقل الإجماع على ذلك كما تكلم في أمر الشهادة على عقد الإمامة وفي نصب المفضول مع وجود الفاضل إذا خفيت الفتنة وهل يعزل بفسق أم بكفر؟ وساق ثلاثة أحاديث صحيحة تعضد القول بأنه لا يعزل إلا بالكفر ووجوب البيعة ومنع إقامة إمامين أو أكثر وألا ينصر الخارجي وإن أظهر العدالة على إمام فاسق إلا ظهرت عدالة الخارجي وعدله واتفق على خلع الأول ثم ختم البحث المستفيض بقوله: وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة... ا. ه..
٦ ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل ابن كثير..
﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضها على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ﴾ هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم ١أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له وإنما قدم هذا الفصل على ذاك لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم.. }٢ ﴿ الأسماء كلها ﴾ [ عن ابن عباس : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل... وأشباه ذلك، ﴿ وعلم ﴾ واختلف.. في كيفية التعليم بعد أن فسر أنه فعل يرتب عليه الفعل غالبا وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده... وتلقيه من جهة المعلم... خلق فيه- عليه السلام- بموجب استعداده- علما ضروريا تفصيليا بتلك الأسماء وبمدلولاتها.. ﴿ آدم ﴾ وإبراز اسمه عليه السلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره و﴿ الأسماء ﴾ جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق : ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ.. واستعمل عرفا في الموضوع لمعنى، مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما.. وقال الإمام : المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، لأنها علامات دالة على ماهيتها، فجاز أن يعبر عنها بالأسماء... ﴿ ثم عرضهم على الملائكة ﴾ أي المسميات المفهومة من الكلام... وقيل الضمير للأسماء باعتبار أنها المسميات مجازا... عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة.. أو إظهار ذلك في عالم تتجسد فيه المعاني- وهذا غير ممتنع على الله تعالى -.. ﴿ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾... وعندي أن المراد إظهار عجزهم وقصور استعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن بأمرهم من الإنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها والإنباء في الأصل مطلق الإخبار- وهو الظاهر هنا ويطلق على الإخبار بما فيه فائدة عظيمة ويحصل منه علم أو غلبة ظن وقال بعضهم إنه إخبار فيه إعلام... للإيذان برفعة شأن الأسماء... ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي فيما اختلج في خواطركم من أن لا أخلق خلقا إلا أنتم أعلم منه... وأفضل وقيل : إن المعنى ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في زعمكم أنكم اصح بالاستخلاف أو أوفى في استخلافهم لا يليق... وليس هذا من المعصية في شيء لأنه شبه اختلجت وسألوا عما يزيحها.. فحاصل المعنى حينئذ أخبروني ولا تقولوا إلا حقا كما قال الإمام ]٣.
٢ ما بين العارضتين مما أورد صاحب تفسير القرآن العظيم.
.
٣ ما بين العلامتين﴿﴾ مما أورد صاحب روح المعاني..
﴿ الحكيم ﴾ المحكم لكل ما تفعل وتقول، المتقن
عن ابن عباس :﴿ قالوا سبحانك ﴾ تنزيها لله من أن يكون أحدا يعلم الغيب غيره تبنا إليك ﴿ لا علم لنا ﴾ تبرؤ منهم من علم الغيب ﴿ إلا ما علمتنا ﴾ كما علمت آدم وسبحان مصدر لا تصرف له ومعناه نسبحك كأنهم قالوا نسبحك تسبيحا وننزهك تنزيها ونبرؤك من أن نعلم شيئا غير ما علمتنا ﴿ العليم ﴾ العالم من غير تعليم ﴿ الحكيم ﴾ ذو الحكمة
﴿ قال يا أدم أنبئهم بأسمائهم ﴾ قال الله تعالى آمرا آدم عليه السلام : أخبرهم الملائكة بأسماء الذين لم يعرفوهم ﴿ قال ﴾ لهم ربهم : ألم أقل لكم أني أعلم ما غاب في علوي الكون وسفليه وما وراءه و﴿ أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ﴾ قال ابن زيد فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا لآدم بالفضل وعن ابن عباس :﴿ وأعلم ما تبدون ﴾ يقول : ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاعتزاز.
﴿ إبليس ﴾ جني أسكنه الله السماء حينا ثم أهبطه إلى الأرض ﴿ أبى ﴾ امتنع
﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ﴾ – ﴿ وإذ قلنا ﴾ ؛ أي واذكر... ﴿ قلنا ﴾ ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره... ﴿ اسجدوا ﴾ السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع... استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة ﴿ اسجدوا لآدم ﴾ وذلك يدل أنه كان أفضل منهم.. واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة فقال الجمهور كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض كالسجود المعتاد في الصلاة لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع... واختلف أيضا هل كان السجود خاصا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا الله تعالى أم كان جائزا بعده إلى زمن يعقوب عليه السلام لقوله تعالى ﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ﴾١ فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين ؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسوله صلى الله عليه وسلم٢ ﴿ إلا إبليس ﴾... قال ابن زيد والحسن... إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا... والاستثناء على هذا منقطع مثل قوله تعالى :﴿ .. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن... ﴾٣... واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله عز وجل وصف الملائكة فقال :﴿ ... لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾٤ وقوله تعالى :﴿ .. إلا إبليس كان من الجن.. ﴾٥ والجن غير الملائكة، ... ﴿ أبى ﴾ معناه : امتنع من فعل ما أمر به٦ ﴿ واستكبر ﴾ تأنف واستعظم، وكره أن يستجيب ما أمره الله تعالى به، كما حكى القرآن قيله، في آية كريمة :﴿ أأسجد لمن خلقت طينا ﴾٧ وفي آية أخرى :﴿ قال أرأيت هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ﴾٨ ؛ وفي آية ثالثة :﴿ قال أنا خير منه خلقتني من النار وخلقته من طين ﴾٩ وفي آية رابعة ﴿ قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ﴾١٠ ﴿ وكان ﴾ أي وصار من الكافرين وظهر أنه جاحد بحق المولى وحقه جل علاه أن يطاع فلا يعصى لكن الاستكبار يعمي البصائر ويستنزل السخط ويستوجب العقاب وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ) وفي رواية قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال ( إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ) أخرجه مسلم، ومعنى بطر الحق : تسفيهه وإبطاله، وغمط الناس : الاحتقار لهم والازدراء بهم ولقد حمل الكبر ناسا على إنكار الحق واليوم الحق وفيهم يقول الحق سبحانه ﴿ ... فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ﴾ ١١ فحل بهم مقت الله :﴿ ... إنه لا يحب المستكبرين ﴾١٢ وأحلهم دار البوار ﴿ ... فلبئس مثوى المتكبرين ﴾١٣ وجند الله المكرمون لا يستنكفون عن الخضوع للملك المهيمن جل علاه ﴿ ... وهم لا يستكبرون ﴾١٤.
٢ روى أن بعضا من أصحاب النبي قالوا حين سجدت لهم الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد؛ فقال لهم " لا ينبغي أن أسجد لأحد إلا الله رب العالمين" وروى ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال: لما قدم معاد ابن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما هذا" ؟ فقال يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك فقال " فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها لا تؤدى المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه " لفظ البستي ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب رحل صغير على قدر السنام عند الولادة وفي بعض طرق معاذ ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة..
٣ سورة النساء. من الآية ١٥٧.
٤ سورة التحريم. من الآية ٦..
٥ سورة. الكهف. من الآية ٥٠..
٦ بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن.
٧ سورة الإسراء. من الآية ٧١.
٨ مسورة الإسراء. من الآية ٦٢..
٩ سورة ص الآية ٧٦..
١٠ سورة الحجر الآية ٣٣..
١١ سورة النحل من الآية ٢٢..
١٢ سورة النحل من الآية ٢٣..
١٣ سورة النحل الآية ٢٩..
١٤ سورة النحل الآية ٤٩..
﴿ زوجك ﴾ زوجتك حواء
﴿ رغدا ﴾ عيشا هنيئا
﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ﴾ بعد تكريم آدم عليه السلام وتعليمه وتكريم الملائكة تفضيلا له، من الله تعالى عليه بالزوجة حواء وبالمقام١ في منازل رفعة وعلاء٢ وبأقوات ومطاعم رغيدة هنيئة من أي جوانبها شاء ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ﴾ نهى لآدم وحواء عن التلبس بالأكل من شجرة أشير إليها ونهيا عن الدنو منها٣ ﴿ فتكونا من الظالمين ﴾ عطف على ﴿ تقربا ﴾ وهو مجزوم بحرف النون وجزمه ب﴿ لا ﴾ الناهية وكأن المعنى : قصيرا وتصبح من المتجاوزين لما أمرتما به إن أنتما اقتربتا من الشجرة المعينة،
٢ ( الجنة} أدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة وحكى أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم..
٣ قال ابن عطية: وهذا مثال بين في سد الذرائع..
﴿ مستقر ﴾ موضع استقرار في حياتكم أو بعد موتكم تكون فيها قبوركم
﴿ متاع ﴾ ما تمتعون به ﴿ حين ﴾ وقت أجل
﴿ فأزلهما الشيطان عنها ﴾ طوى هنا ما بعد بينته آيات محكمات أخر، منها قول الحق تقدست أسماؤه :﴿ فوسوس لهما الشيطان ﴾١ ﴿ فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما... )٢ وأزل تكون بمعنى : نحى وعلى هذا يكون الضمير في { عنها ﴾ عائد إلى الجنة أي : فلما نسي ما عهد إليهما به من توقي تلبيس إبليس ﴿ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فَتَشْقَى ﴾٣ فوقعا في تزيينه وإغوائه فكان ذلك سبب تنحيتهما عن الجنة ويمكن أن تكون أزل بمعنى أوقعهما في الزلل والخطأ ويكون الضمير عائد إلى الشجرة فيصبح تقدير الكلام : فوسوس إليهما فأوقعهما في الزلل بسبب الشجرة والأكل منها و[ عن ] تأتي للسببية كما في قوله تعالى :﴿ يؤفك عنه من أفك ﴾٤ أي : يصرف بسببه من هو مأفوك.
﴿ فأخرجهما مما كانا فيه ﴾ فبتنحية آدم وحواء من الجنة إذ دلاهما الشيطان ففوت عليهما سكنى الجنان وهنئ الطعام وبهي الكساء ؛ ﴿ فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة... ﴾٥ وقد أعذر الله تعالى إليهما :﴿ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أَلَّا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ﴾٦.
﴿ وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ﴾ طرد إبليس من ملأ السماء ثم أهبط آدم وزوجه من الجنة فحسدهما الشيطان على ما آتاهما الله تعالى من فضله وإذ طرد اللعين صاغرا ذليلا ﴿ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ﴾٧ طلب الإهمال إلى يوم البعث وإذا قام الخلق للحساب فلا موت بعد ذلك لكن الحكيم سبحانه أمهله إلى حين يهلك من في السموات ومن في الأرض إلا من يشاء الله ﴿ قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم ﴾٨ ؛ ﴿ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾٩ ﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين ﴾١٠ وهكذا بدأت حياة الجنس البشري على هذا الكوكب، والأبالسة لإغوائه بالمرصاد ﴿ بعضهم لبعض عدو ﴾ فهل يحذر الناس من تولى أعدائهم ؟ ﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا... ﴾١١ ﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إِنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ﴾١٢ ﴿ ... أَفَتَتَّخِذُونَه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ﴾١٣.
﴿ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾ جعل الله تعالى الأرض مستقرا للثقلين الجن والإنس موضع استقرار لهم وتمتع وانتفاع إلى أجل قضاه الله الحكيم العليم فإذا انقضى قبروا على أن يجيء وعد الله الحق فيخرجون من أجداثهم ومن طيات الأرض التي نبتوا منها ودرجوا عليها ثم أعيدوا إليها وبعثوا منها ؛ ثم تبدل الأرض غير الأرض.
٢ سورة طه من الآية١٢١.
٣ سورة طه من الآية١١٧؛ ولعل الشقاء هنا بمعنى العناء والمكابدة والكدح بعد راحة الجنة ورغد عيشها نقل عن القاضي أبو بكر البقالي وعن الأستاذ أبو إسحق الاسفراييني الإجماع على أن الأنبياء – صلوات الله عليهم- معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شين ونقص ونقل عن الطربي وبعض الفقهاء المحدثين: تقع الصغائر منهم، وجمهور من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي على أنهم- سلام ربنا عليهم- معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة أو الحظر أو المعصية ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية وقال بعض المتأخرين: الله تعالى أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم في مواضيع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك أحدها وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان أوالتأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات..
٤ سورة الذاريات الآية ٩..
٥ سورة الأعراف من الآية ٢٢..
٦ سورة طه الآيات: من ١١٧-١١٩..
٧ سورة ص الآية٧٩..
٨ سورة ص الآيتان ٨٠-٨١..
٩ سورة الأعراف الآية ١٦..
١٠ سورة ص الآيتان ٨٢-٨٣..
١١ سورة فاطر من الآية ٦..
١٢ سورة الأعراف الآية ٢٧..
١٣ سورة الكهف من الآية ٥٠.
﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ﴾ ففهم آدم وأخذ وقبل من المولى سبحانه كلمات أشارت إليها الآية الكريمة :﴿ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ﴾١ ؛ ﴿ فتاب عليهم ﴾ فقبل الله تعالى توبتهما وتاب تعني في اللغة : الرجوع كآب وتاب وأناب وفي الشرع تعني علما بضرر الذنب وندما على الوقوع فيه وعزما على تركه وعدم العود إلى عصيان ؛ - وكثيرا تطلق على الندم وحده لكونه لازما للعلم مستلزما للعمل وفي الحديث :( الندم توبة )-٢ قال ابن العربي : ولعلمائنا في وصف الرب بأنه تواب في ثلاثة أقوال : أحدهما—أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول وقال آخرون : هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد قبوله توبته، ﴿ إنه هو التواب الرحيم ﴾ ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى الله إنابته إلى طاعته وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يسقط من الأمور التي كان عليها مقيما مما يكرهه ربه فكذلك توبة الله على عبده هو أن يرزقه ذلك، ويؤوب من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه ؛ وأما قوله ﴿ الرحيم ﴾ فإنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة ورحمته إياه إقامة عثرته وصفحه عن عقوبة جرمه.
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني.
﴿ خالدون ﴾ باقون ماكثون
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ -والذين جحدوا آياتي وكذبوا رسلي وآيات الله : حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته وما جاء به الرسل من الأعلام والشواهد على ذك وعلى صدقهما فيما أنبأت به عن ربها وقد بينا أن معنى الكفر : التغطية على الشيء ﴿ أولئك أصحاب النار ﴾ يعني أهلها الذين هم أهلها دون غيرهم المخلدون فيها أبدا إلى غير أمد ولا نهاية-١ في الصحيح عن أبي سلمة٢ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أقواما أصابتهم النار بخطاياهم أو بذنوبهم فأماتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة ).
٢ وروى عن أبي سعيد الخدري كذلك.
٢ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن.
٣ مما نقل عن الحسن العهد هو ما جاء في الآية الكريمة ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقا ل الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزمتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل﴾..
﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ أي لا تبيعوا ما آتاكم الله تعالى من العلم بكتابه وآياته بثمن قليل وخسيس وعرض من الدنيا قليل وبيعه إياه تركهم إبانة ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس وأنه مكتوب فيه أنه النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجدوه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بثمن قليل وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم وأخذهم الأجر١ ممن بينوا له منه-. ٢
﴿ وإياي فاتقون ﴾ لا تعبدون غيري ولا تطيعوا سواي ووحدوني فإن التقوى قد تعني التوحيد كما في الآية الكريمة }... وألزمهم كلمة التقوى... }٣ وقد تعني الإخلاص كما في قول المولى سبحانه :﴿ .. فإنها من تقوى القلوب ﴾٤ أي إخلاصها ٥.
مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن قال ابن المنذر وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم فيجوز الإجازة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة وأما الجواب عن الآية فالمراد بها بنو إسرائيل وشرع من قبلها هل هو شرع لنا فيه خلاف وهو يقال جواب ثان وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا؛... وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته؛ ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدين إعانته وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما ولى الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال ومن أين أنفق على عيالي فردوه وفرضوا له كفايته؛... واختلف العلماء في حكم المصلي بأجرة فروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من استأجر في رمضان يقوم للناس فقال أرجو أن لا يكون به بأسا؛... وقال الشافعي وأبو ثور لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه؛... روى الدرامي أبو محمد في مسنده... أخبرنا الضحاك بن موسى قال مر سليمان بن عبد الملك بالمدينة وهو يريد مكة فأقام بها أياما فقال: هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له أبو حازم فأرسل إليه... قال سليمان يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال لأنكم أخربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب قال أصبت يا حازم فكيف القدوم غدا على الله تعالى؟ قال أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال ليت شعري مالنا عند الله؟ قال اعرض عملك على كتاب الله قال وأي مكان أجده؟ قال أبو حازم رحمة الله قريب من المحسنين؛... قال أي القول أعدل؟ قال قول الحق عند من تخافه أو ترجوه قال فأي المؤمنين أكيس قال رجل عمل بطاعة الله ودل الناس عليها... قال له سليمان فكيف لنا أن نصلح؟ قال تدعون الصلف وتمسكون بالمروءة وتقسمون بالسوية قال له سليمان فكيف لنا بالمأخذ به؟ قال أبو حازم: تأخذه من حله وتضعه في أهله،... قال فادع لي، قال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى؛... قال له سليمان: أوصني قال: سأوصيك وأوجز: عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار وكتب إليه بأن أنفقهما ولك عندي مثلها كثيرا قال فردها عليه وكتب إليه يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا أو ردي عليك بذلا وما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي... فإن كانت هذه المائة دينار عوضا لما حدثت فالميتة... في حال الإضرار أحل من هذه وإن كان لحق في بيت المال فلى فيها نظراء فإن ساويت بينهما وإلا ليس لي فيها حاجة. ثم يتابع القرطبي قلت: هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء،... بين الحق وصدع به ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فزع ثم أورد القرطبي نقولا في الفرق بين رهبة الله وتقواه لكن عباراتها غير محررة. نقلت عن أبي حيان هكذا. قال سهل ﴿إياي فارهبون﴾ موضع اليقين بالمعرفة ﴿وإياي فاتقون﴾ موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج..
٢ ما بين العارضتين من جامع البيان..
٣ سورة الفتح. من الآية ٢٦..
٤ سورة الحج. من الآية ٣٢..
٥ لكن صاحب تفسير غرائب القرآن ذهب إلى أنها تعني الخوف منه عز وجل ثم أورد تفرقة بينها وبين الرهبة فقال: ﴿وإياي فاتقون﴾ مثل: ﴿وإياي فارهبون﴾ وقيل: الإتقاء إنما يكون عند الجزم بحصول ما يتقي عنه فكأنه أمرهم بالرهبة على أن جواز العقاب قائم ثم أمرهم بالتقوى على أن يقين العقاب قائم..
٢ سورة آل عمران من الآية١٨٧..
٣ سورة البقرة الآيتان ١٥٩-١٦٠..
٢ سورة الزمر من الآية ٤٢..
٣ جمهور السلف والخلف على أن فعل المعروف واجب، والأمر به واجب كذلك، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، وذهب البعض إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره، وهذا ضعيف فقد قال سعيد بن جبير: لو كان المرء يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء، أو قال: ليس عليه شيء. ومما أورد القرطبي: دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلم... اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر..
٤ سورة الصف الآيتان ٢-٣..
٥ سورة هود. من الآية٨٨..
٦ ولقد صور بعض الحكماء كيف ترد الدعوة ولا تقبل إذا لم تكن بالحال كما هي بالمقال وأجرى ذلك على لسان الحيوان وأنشد:
إني رأيت أحد الأدبـــــــــاب قام خطيبا في وحوش الغاب
يأمرهم بالحلم أثناء الغضب والعفو عن كل مذنب
ولم يزل يحتد في المقال يشير باليمين والشمال
حتى أتى من خلفه نسناس يبدو عليه اللطف والإيناس
فهشم النسناس أي هشمة دق بها أعصابه وعظمه
فانفضت الجموع عن ذي الجلسة تقول ينهاها وينسى نفسه
إنا سمعنا خطبة فصيحة لكن رأينا فعلة قبيحة
والناس لا تعتبر الأقوالا وإنما تعتبر الأفعالا
فكان ما أظهر من إرشاد كنفخة النافخ في رماد
والفعل من قول الهواة أفصح إذا أرادوا مرة أن يفصحوا
ونسب إلى أبي الأسود الدؤلي:
يا أيها الرجل المعلم غيره | هلا لنفسك كان ذا التعليم |
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا | كيما يصح به وأنت سقيم |
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا | أبدا وأنت من الرشاد عدو |
لا تنه عن خلق وتأتي مثله | عار عليك إذا فعلت عظيم |
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها | فإذا انتهت عنه فأنت حكيم |
فهناك يقبل ما تقول ويهتدي | بالقول منك وينفع التعليم |
وغير تقي يأمر الناس بالتقى | طبيب يداوي والطبيب مريض |
٧ كانوا رسل رسول الله عيسى عليه السلام..
٨ سورة يس من الآية ٢٠ والآية ٢١..
وهكذا من يخشع لجلال العزيز الحكيم يهده إلى صراط مستقيم.
٢ سورة النحل من الآية ١٢٧..
٣ سورة الأعراف من الآية ٤٣..
٢ سورة الحاقة الآيات من ٢١ إلى ٢٤..
٣ ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم..
٢ سورة المجادلة من الآية ١٧..
٣ سورة الشعراء الآيتان ١٠٠ ١٠١..
٤ سورة الأنبياء من الآية٢٨..
٥ سورة النبإ من الآية ٣٨.
.
﴿ نجيناكم ﴾ أخرجناكم من الضر إلى اليسر وخلصناكم وأنقذناكم
﴿ آل ﴾ قوم وأتباع
﴿ فرعون ﴾ ملك من ملوك مصر الأقدمين
﴿ يسومونكم ﴾ يذيقونكم ويديمون متابعتكم ويلزمونكم ﴿ سوء ﴾ سيء وأشد.
﴿ يذبحون ﴾ يقتلون بقطع الرقاب
﴿ يستحيون ﴾ يتركونهن حيات ويستبقوهن دون ذبح
﴿ بلاء ﴾ اختبار وامتحان ونقمة وضر ومكروه
واذكروا إذ خلصتكم من ملك مصر وأتباعه الذين صبوا عليكم سيء الأذى وأشده وأدومه فلا يدعون لكم وليدا إلا ذبحوه وقطعوا عنقه ولا يتركون لكم امرأة إلا استذلوها وأبقوها لخدمتهم. وفي هذا الاستضعاف محنة لهم قاسية١ أو في هذا الإنجاء لهم منحة عالية فقد اتخذهم فرعون عبيدا وكان شطر دعوة موسى صلى الله عليه وسلم إليه أن يحرر هؤلاء المستذلين المقهورين وصدق الله العظيم :﴿ ... وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله.. ﴾٢ فقال لفرعون : علام تحبس هؤلاء القوم ؟ أخل سبيلهم وأول عهد ربنا إلى رسوليه موسى وهارون عليهما السلام أن يدعواه إلى تسريح هؤلاء المستعبدين كما جاء في القرآن المبين :﴿ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل ﴾٣.
٢ سورة الدخان من الآيتين ١٧ - ١٨..
٣ سورة الشعراء الآيتين: ١٦، ١٧..
﴿ فرقنا ﴾ فصلنا وفلقنا وجعلنا منه فرقا
﴿ أغرقنا ﴾ رسبناهم في الماء وغمرناهم به فأمتناهم
﴿ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ﴾ واذكروا وقت تخليصكم من تسلط عدوكم فلم تنعموا بمجرد فكاكم وإنما صنعنا معجزة لم نجرها إلا على يد نبيكم فكان خلاصهم بانشطار البحر وتفرق صفحته لتنحسر عنهم طريق أيبسناه لمروركم ﴿ .. فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾١ ﴿ .. فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا.. ﴾٢ وعظمت منة المولى الحميد المجيد إذ هم موسى – على ما روى- أن يضرب البحر بعصاه بعد أن تجاوزه ومن معه ليلتئم قبل أن يدركهم فرعون وجنده فناداه مولاه :﴿ واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون ﴾٣ فأزلف الحكيم وقرب الجند الخاطئين من مهلكهم، واندفعوا يقدمهم فرعون إلى حتفهم ونهايتهم والإسرائيليون على الشاطئ يرون ما فعل الله بالجبارين وشيعهم.
٢ سورة طه من الآية ٧٧..
٣ سورة الدخان الآية ٢٤.
.
﴿ ظالمون ﴾ متجاوزون الحد ومشركون
﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ واذكروا وقت ميعادنا لموسى أن يأتي إلى الوادي المقدس بجانب جبل الطور لنسمعه ما نشاء من كلامنا وأمرنا ووحينا بعد أربعين ليلة وحين غاب عنكم فتنكم السامري فصنع لكم من الحلية جسدا على صورة عجل ثم ناداكم لتجعلوا هذا الجسد إلها فجعلتموه إلها وفي هذا من الغي والخسران والجحود والنكران والسفه والبهتان ما فيه.
﴿ تشكرون ﴾ تقرون بالنعمة وتنصرفون إلى الطاعة.
﴿ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ﴾ ثم تجاوزنا عن ذنبكم ومحونا وتركنا عقوبتكم عليه لتشكروا صفح ربكم أن لم يعذبكم بجرمكم فتقلعوا عن غيكم.
﴿ الفرقان ﴾ التوراة أو ما يفرق به بين الحق والباطل.
﴿ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ﴾ واذكروا وقت إعطائنا موسى التوراة نورا يبين الحق وأعطيناه الفرقان والمعجزات التي تشهد له بالصدق ومن الآيات التسع التي تعرفوها لعل هذا يدلكم على الهدى ويقيمكم على الرشد والبر والتقى.
﴿ التواب ﴾ كثير القبول لتوبة التائبين.
﴿ الرحيم ﴾ واسع الرحمة.
﴿ وإذ قال موسى لقومه إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ﴾ - القوم : الجماعة من الرجال دون النساء قال الله تعالى :﴿ ... لا يسخر قوم من قوم... ﴾١ ثم قال :﴿ ... ولا نساء من نساء.. ﴾٢ وقد يقع القوم على الرجال والنساء قال الله تعالى :﴿ إنا أرسلنا نوحا إلى قومه... ﴾٣ وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا ؛..
﴿ يا قوم ﴾ منادى مضاف ؛ والمراد هنا بالقوم عبدة العجل، وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى. قوله تعالى ﴿ إنكم ظلمتم أنفسكم ﴾ استغنى بالجمع القليل عن الكثير، والكثير نفوس، وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة، والقليل موضع الكثرة. قال الله تعالى ﴿ .. ثلاثة قروء.. ﴾٤ وقال ﴿ .. وفيها ما تشتهيه الأنفس.. ﴾٥ ؛...
والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل... لما قال لهم : فتوبوا إلى بارئكم قالوا كيف قال :﴿ فاقتلوا أنفسكم... ﴾ والصحيح أنه قتل لا على الحقيقة هنا... قال سفيان بن عيينة : التوبة نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري لما قيل لهم :﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ قاموا صفين فقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم كفوا... ﴿ بارئكم ﴾ البارئ الخالق وبينهم فرق، وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال... ﴿ فتاب عليكم ﴾ في الكلام حذف تقديره ففعلتم ﴿ فتاب عليكم ﴾ أي فتجاوز عليكم أي على الباقين منكم-٦ ﴿ إنه هو التواب الرحيم ﴾ ( يعني الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحب من العفو عنه ويعني بالرحيم العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته ) ٧.
٢ سورة الحجرات من الآية ١١..
٣ سورة نوح من الآية ١..
٤ سورة البقرة من الآية ٢٢٨..
٥ سورة الزخرف من الآية ٧١..
٦ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن..
٧ ما بين العلامتين ( ) من جامع البيان..
﴿ الصاعقة ﴾ نار من السماء محرقة. ﴿ تنظرون ﴾ تشاهدون وترون.
﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ واذكروا معاشر بني إسرائيل وقت قيل أسلافكم وآبائكم الأقدمين لموسى الكليم عليه الصلوات والتسليم لن نصدقك ولن نستجيب لك في الدعوة إلى الدين حتى نعاين رب العالمين، قال ابن عباس ﴿ جهرة ﴾ علانية.
وقد اختلف في جواز رؤية الله تعالى فأكثر المبتدعة على إنكارها١ في الدنيا والآخرة وأهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعهما في الآخرة... وأكد في الجهر فرقا بين رؤية العيان ورؤية المنام –٢.
﴿ فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ﴾ أصل الصاعقة : كل أمر هائل عاينه أو أصابه حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وإلى ذهاب عقل وغمور فهم ؛ أو فقد بعض آلات الجسم صوتا كان ذلك أو نارا أو زلزلة أو رجفا ﴿ وأنتم تنظرون ﴾ أي إلى الصاعقة التي أصابتكم.
٢ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن.
﴿ السلوى ﴾ طائر يشبه السماني.
﴿ طيبات ﴾ مستلذات.
﴿ أنفسهم يظلمون ﴾ بتخسيرها وفعل ما يوردها العذاب.
﴿ وظللنا عليكم الغمام ﴾... والغمام جمع غمامة كما السحاب جمع سحابة، والغمام هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام وغير ذلك مما يسترها من أعين الناظرين...
﴿ وأنزلنا عليكم المن ﴾.... عن الربيع ابن أنس قال ﴿ المن ﴾ شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجوه بالماء ثم يشربونه... ﴿ السلوى ﴾... طائر يشبه السماني واحدة وجماعة بلفظ واحد كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء...
﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ وهذا مما استغنى بدلالة ظاهرة على ما ترك منه في الخطاب عليه ﴿ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ وهذا أيضا من الذي استغنى بدلالة ظاهرة على ما ترك منه وذلك المعنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به وعصوا ربهم ثم رسولنا إليهم وما ظلمونا ثم اكتفى بما ظهر عما ترك... ﴿ وما ظلمونا ﴾ بفعلهم ذلك ومعصيتهم... وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها... ربنا جل ذكره لا تضره معصية عاص، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ولا تنفعه طاعة مطيع ولا يزيد في ملكه عدل عادل بل نفسه يظلم الظالم وحظها يبخس العاصي وإياها ينفع المطيع وحظها يصيب العادل –١.
.
﴿ رغدا ﴾ كثيرا واسعا. ﴿ حطة ﴾ احطط عنا ذنوبنا.
﴿ نغفر ﴾ نصفح ونستر. ﴿ خطاياكم ﴾ جمع خطية وهي السيئة والمعصية.
﴿ وسنزيد المحسنين ﴾ نزيد من صدق يقينهم واستقام سعيهم إحسانا على إحسانهم.
﴿ وإذ ﴾ منصوبة١ بفعل تقديره اذكر ﴿ قلنا ﴾ لعل القول قال موسى عليه السلام لكنه المولى سبحانه لأنه جل علاه هو الآمر به وهو موحيه ويمكن أن يقال هذا في الأوامر التي تضمنتها القصة مما سبق ومما سيأتي ﴿ ادخلوا هذه القرية ﴾ اقتحموها وأخرجوا منها من غلب عليها من الكفرة ؛ والقرية : المدينة ٢ من قرية إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس عن الطريق المساكنة واختلف في ذلك تعيينها لكن الذي عليه الجمهور ما نقل عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أنها بيت المقدس٣ وجائز أن يكون طلب الدخول هو ما نادوا به في آيات سورة المائدة :﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين )٤ فعصوا ونكلوا عن إخراج العماليق الكفار منها وقالوا ما بينه كتاب الله :{ ... فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ﴾٥ فحرمها سبحانه عليهم أربعين سنة وقضى عليهم بالتيه في تلك المدة فقضوها بين الجبال جزاء لهم على مروقهم وفسوقهم بينما ذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر بدخول القرية الوارد في هذه الآية الكريمة من سورة البقرة إنما هو أمر إباحة ونودوا إليه بعد التيه ﴿ فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ﴾ أذن الله تعالى لهم إذ دخلوا القرية الموعودة أن يأكلوا من ثمرات زرعها ومما يتيسر لهم في شتى أرجائها من خير كثير واسع وعهد إليهم سبحانه أن يدخلوا باب هذه المدينة منحنين ركوعا كما نقل عن ابن عباس وأمروا أن يسألوا المولى أن يحط عنهم خطاياهم ( وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح والفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جدا عند النصر كما روى أنه يوم الفتح -فتح مكة- داخلا إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع إلى ربه حتى إن عثنونه٦ ليمس مورك ٧ رحله شكرا لله على ذلك )٨ ﴿ نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ﴾ أي إذا فعلتم ما أمرناكم به من الدخول إلى القرية خاضعين مستغفرين غفرنا لكم السيئات وضاعفنا لكم الحسنات ؛ و﴿ نغفر ﴾ مجزوم لأنه جواب الأمر وجزاؤه ؛ ﴿ وسنزيد ﴾ معطوف على ﴿ نغفر ﴾ ولم ينجزم لأن السين تمنع الجزاء عن قبول الجزم ومفعول ﴿ سنزيد ﴾ محذوف والتقدير ثوابا.
٢ ونقل الألوسي قولا لا يفرق بينهما وحاصله أن القرية تضم جمعا قليلا من السكان فإن كثروا فهي مدينة..
٣ وهناك من يقول هي أرصفاء أ والرملة إلى غير ذلك..
٤ سورة المائدة الآية ٢١..
٥ سورة المائدة من الآية ٢٤..
٦ العثنون من اللحية: ما نبت على الذقن وتحته سفلا..
٧ قال أبو عبيدة: المورك: الموضع الذي يثني الراكب رجليه على قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب.
٨ ما بين العلامتين () مما أورد صاحب تفسير القرآن العظيم – إسماعيل بن كثير-..
﴿ فبدل ﴾ فغير.
﴿ رجزا ﴾ عذابا ونتنا.
﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ﴾ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة ) وقال ابن عباس قال : ركعا من باب صغير فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة فذلك قوله تعالى :﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ﴾ – أي : فبدل الظالمون منهم قولا غير الذي قيل لهم وذلك أنه قيل لهم قولوا حطة فقالوا حنطة... فزادوا حرفا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر هذا في تغيير كلمة هي عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود هذا والقول أنقص من العمل فكيف في التغيير والتبديل في الفعل ؛....
﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا ﴾ كرر لفظ ﴿ ظلموا ﴾ ولم يضمره تعظيما للأمر ؛... ﴿ رجزا ﴾.... ؛ والرجز : العذاب ( بالسين ) النتن والقذر... وقال الفراء : الرجز هو الرجس... وهو مشتق من الرجز وهو داء يصيب الإبل في أعجازها فإذا ثارت ارتعشت أفخاذها ﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ أي بفسقهم والفسق الخروج... ١ -.
﴿ وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم ﴾ واذكروا حين طلب موسى لقومه الماء عند عدمه فأوحينا إليه أن يضرب بعصاه حجرا من الأحجار قال الحسن لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، وقال ابن عباس : لما كان بنو إسرائيل في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عينا من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها١.
﴿ كلوا واشربوا من رزق الله ﴾ لكأن المعنى : وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر وكل ذلك من فيض المعبود بحق ومن عطائه تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه. ﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ نهاهم عن التجاوز والاعتداء والتخريب والإيذاء و﴿ مفسدين ﴾ نصب على الحال وجائز أن تكون حالا مؤكدة.
.
﴿ فومها ﴾ ثومها أو حمصها أو كل حب يختبر. ﴿ عدسها ﴾ النبتة المعروفة ذات الحبيبات الصغيرة. ﴿ اهبطوا ﴾ أنزلوا وآتوا ﴿ مصر ﴾ مدينة وأصله كل كورة تجمع فيها السكان
﴿ ضربت عليهم ﴾ ألزموها وقضى عليهم بها ﴿ الذلة ﴾ الصغار.
﴿ المسكنة ﴾ الفقر﴿ عصوا ﴾ خالفوا﴿ يعتدون ﴾ يتجاوزون الحد.
﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ﴾ ( واذكروا ضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم...
﴿ قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ﴾ فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيئ الطيب النافع وقوله تعالى :﴿ اهبطوا مصرا ﴾ هكذا هو منون مصروف وقال ابن عباس مصرا من الأمصار والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه فليس يساوي مع دنائته وكثرته في الأمصار أن أسال الله فيه ولهذا قال :﴿ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ﴾ أي ما طلبتم ولما كان سؤالكم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم.
﴿ وضربت عليه الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله... ﴾ أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا أي لا يزالون مستذلين من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار وهم على ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون ؛... استحقوا الغضب من الله، ... فمعنى الكلام رجعوا منحرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضبا ووجب عليهم من السخط سخط ؛... هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله وإهانتهم حملة العرش وهم ( الأنبياء ) وأتباعهم فانتقصوهم إلى أن أفضى الحال إلى أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا.... ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الكبر بطر الحق وغمط الناس ) يعني رد الحق وانتقاص الناس الازدراء بهم والتعاظم عليهم.... ﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ هذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي ؛ والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به والله أعلم )١.
.
﴿ النصارى ﴾ أتباع عيسى عليه السلام.
﴿ الصابئون ﴾ معظمو الكواكب.
وفي الآية الثانية والستين من هذه السورة الكريمة بيان لعقبى العاصين المعتدين وقضاء الله تعالى فيهم أن يبقوا أذلة صاغرين ثم يكون مثواهم في نار الجحيم وفي الآية الثالثة والستين بشرى بطيب المآب وجزيل الثواب للمصدقين المستيقنين المستقيمين على نهج القرآن المبين فأولئك هم السعداء في الدنيا ويوم الدين قال سفيان في معنى قوله تعالىّ ﴿ إن الذين آمنوا ﴾ المراد المنافقين كأنه قال الذين آمنوا في ظاهر أمرهم فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم ؛ ١.
﴿ والذين هادوا ﴾ هم اليهود وسماهم بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل ٢.
﴿ والنصارى ﴾ أتباع عيسى عليه السلام. و﴿ الصابئين ﴾ معظمي الكواكب.
﴿ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ من يؤمن من هؤلاء الذين ذكروا ويصدق ويستيقن بما يجب الإيمان به مما أوحى في الإسلام الدين الخاتم ومع رسوخ يقينه يلزم الطاعات ويجتنب السيئات فلهم ثواب الأبرار عند ربنا العزيز الغفار والاكتفاء بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لاندراج الإيمان بالكتب والملائكة والرسل – فإن قال قائل :﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ وإنما لفظ ﴿ من ﴾ لفظ واحد، والفعل معه موحد ؟ قيل :﴿ من ﴾ وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا فإن له معنى الواحد والاثنين والجمع والتذكير والتأنيث لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير فالعرب توحد معه الفعل وإن كان في المعنى جمعا للفظه، وتجمع معه أخرى لمعناه، كما قال عز وجل :﴿ ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ﴾٣ فجمع مرة مع ﴿ من ﴾ الفعل لمعناه، ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد ؛... فكذلك قوله تعالى :﴿ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ وحد ﴿ آمن وعمل صالحا ﴾ للفظ ﴿ من ﴾ وجمع ذكرهم في قوله :﴿ فلهم أجرهم ﴾ لمعناه : لأنه في معنى جمع ؛ وأما قوله :﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ فإنه يعني جل ذكره : ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على ما خلفوا ورائهم من الدنيا وعيشها عند معاينته ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده-٤.
٢ وقيل: نسبوا إلى يهودا وهو أكبر أبناء يعقوب عليه السلام فقلبت العرب الذال دالا..
٣ سورة يونس الآيتان. ٤٢، ٤٣..
٤ ما بين العارضتين من جامع البيان..
﴿ الطور ﴾ اسم لجبل معروف في شبه جزيرة سيناء بين البحرين الأبيض والأحمر ﴿ آتيناكم ﴾ أعطيناكم ﴿ بقوة ﴾ بطاعة في الجد والعمل به.
﴿ واذكروا ما فيه ﴾ واقرؤوا ما في التوراة تدبروه واحفظوا ما فيه ولا تضيعوه.
﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ عن قتادة :﴿ الطور ﴾ الجبل كانوا بأصله فرفع عليهم فوق رؤوسهم فقال لتأخذن أمري أو لأرمينكم به وفي آية كريمة أخرى يقول المولى سبحانه :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنهم ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه... ﴾١ أي قلنا خذوا ما أعطيناكم بجد واجتهاد وتدبروا ما فيه واحفظوا أوامره ووعيده ولا تنسوه ولا تضيعوه ليعقبكم ذلك التقوى.
.
﴿ ثم توليتم من بعد ذلك ﴾ أعرضتم عن العهد الذي واثقناكم به بعد أن رفع الجبل فوقكم ﴿ فلولا فضل الله عليكم ﴾ ولولا أن الله تفضل عليكم وتدارككم وعفا عنكم ونالكم غفرانه ورحمته لصرتم من الناقصين أنفسهم حظها ؛ قال ابن فارس المجمل الفضل : الزيادة والخير والإفضال : الإحسان.
﴿ خاسئين ﴾ أذلاء صاغرين مبعدين.
﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ﴾ قال السدي هم أهل أيلة وهي القرية التي كانت حاضرة البحر فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا لم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت فلذلك قوله تعالى ﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم... ﴾١ فاشتهى بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيمكث فيها فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره روائحه فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما يصنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك فقال لهم علماؤهم : ويحكم إنما تصطادون يوم السبت وهولا يحل لكم فقالوا إنما اصطدناه يوم الأحد حين أخذناه فقال الفقهاء لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل فقال : وعتوا أن ينتهوا فقال بعض الذين نهوهم لبعض :(... لم تعظون قوم الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا )٢ يقول لم تعظونهم وقد عظتموهم فلم يطيعوكم فقال بعضهم :(... معذرة إلى ربهم ولعلهم يتقون )٣ فلما أبوا قال المسلمون : والله لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار فتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا ولعنهم داوود عليه السلام فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم فلما أبطأوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط فإذا هم قردة.. اه.
٢ سورة الأعراف من الآية ١٦٤..
٣ سورة الأعراف من الآية ١٦٤..
﴿ لما بين يديها وما خلفها ﴾ لما حولها من القرى ولمن حضر معهم ومن يجيء بعدهم. ﴿ وموعظة ﴾ وتخويفا وتذكيرا.
﴿ فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ﴾١ عن ابن عباس جعلناها٢ بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى كما قال تعالى :{ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون٣ فالمراد لما بين يديها وما خلفها في المكان.
﴿ وموعظة للمتقين ﴾ ونصحا وتعقيبا بالعواقب يمنع المتقين من الدخول فيما حرمه الله قال الماوردي وخص المتقين إن كانت موعظة للعالمين لتفردهم بها عن الكافرين والمعاندين وقال الزجاج. ﴿ وموعظة للمتقين ﴾ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا ما حرم الله عز وجل ما نهاهم عنه فيصيبهم ما أصاب صاحب السبت إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم.
٢ جعلنا القرية والمراد أهلها..
٣ سورة الأحقاف الآية ٢٧..
﴿ وإذا قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ﴾- وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذ الله عليهم بالطاعة للأنبياء فقال لهم : واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي إذ قال موسى لقومه، وقومه بنو إسرائيل إذ ادارؤوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا والهزء اللعب والسخرية... ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله فيما أخبرت به عن الله من أمر ونهي هزو أو لعب فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه أنه هازئ ولاعب ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة١. عن عبيدة قال كان في بني إسرائيل رجل عقيم أو عاقر، قال فقتله وليه فاحتمله فألقاه في سبط غير سبطه قال : فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح قال فقال أولوا النهى : أتقتلون وفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال فأتوا نبي الله فقال اذبحوا بقرة فقالوا أتتخذنا هزوا ؟ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
﴿ فارض ﴾ مسنة هرمة ﴿ بكر ﴾ صغيرة لم تحمل.
﴿ عوان ﴾ نصف بين الكبيرة والصغيرة
﴿ لا فارض ﴾ لا مسنة هرمة وعن مجاهد ﴿ لا فارض ﴾ قال لا كبيرة ﴿ ولا بكر ﴾ ولا صغيرة لم تلد وعن السدي في البكر لم تلد إلا ولدا واحدا ﴿ عوان بين ذلك ﴾ عن مجاهد وسقط قد ولدت بطنا أو بطنين وعن السدي التي ولدت وولد ولدها يقال هذه حرب عوان إن كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة
﴿ فاقع ﴾ صاف.
﴿ فاقع لونها ﴾ يعني خالص لونها والفقوع في الصفرة نظير النصوع في البياض والشدة وهو بياضه وشدته وصفاؤه
﴿ لا ذلول ﴾ لم تذلل بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية.
﴿ مسلمة ﴾ من العرج وسائر العيوب. ﴿ لاشية فيها ﴾ لونها واحد.
﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ ما ذبحوها إلا بعد جهد وقاربوا ألا يفعلوا لغلاء ثمنها وخوف الفضيحة في معرفة القاتل.
﴿ لا ذلول ﴾ أي يذللها العمل ﴿ تثير الأرض ولا تسقي الحرث ﴾ عن السدي ليست بذلول يزرع عليها وليست تسقي الحرث وعن الربيع لا تعمل في الحرث ﴿ مسلمة ﴾ عن قتادة مسلمة في العرج وسائر العيوب ﴿ لاشية فيها ﴾ ليس فيها لون يخالف معظم لونها ﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله.
يقول توبيخا لبني إسرائيل وتقريعا لهم على ما شهدوه من آيات الله تعالى وإحيائه الموتى... ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال :( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون )١ فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعدما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة... والمعنى إن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق ؛...
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى :﴿ فهي كالحجارة أو أشد قسوة ﴾ بعد الإجماع عن استحالة كونها للشك فقال بعضهم ﴿ أو ﴾ ههنا بمعنى الواو تقديره فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى ﴿ ... ولا تطع منهم آثما أو كفورا ﴾٢ وقوله :﴿ عذرا أو نذرا ﴾٣، ... وقال آخرون ﴿ أو ﴾ ههنا بمعنى بل فتقديره فهي كالحجارة بل أشد قسوة-. ٤
٢ سورة الدهر من الآية ٢٤..
٣ سورة المرسلات الآية ٦..
٤ ما بين العارضتين مما أورد صاحب تفسير القرآن العظيم.
.
﴿ يحرفونه ﴾ يتأولونه على غير تأويله.
﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ﴾ عن الربيع يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أن يؤمنوا لكم ﴾ يقول : أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. عن ابن عباس أي لا تحزن على تكذيبهم إياك وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا ﴿ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله من بعدما عقلوه ﴾ قال أبو العالية : عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضيعه وقال ابن وهب التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا ولعل المراد بفريق منهم وطائفة علماء اليهود – كما قال مجاهد والسدي- لكن أبا جعفر ارتضى تأويلا آخر نقله عن الربيع بن أنس وحكاه بن إسحاق عن بعض أهل العلم١. ﴿ من بعد ما عقلوه ﴾ فهموه ووعوه ﴿ وهم يعلمون ﴾ الحق ويعرفون أنهم يتأولون الوحي على غير وجهه.
أقول ويمكن أن يفهم من آية كريمة أخرى غير ما ذهب له أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه جامع البيان في تفسير القرآن وذلك قول الحق جل وعز ﴿قال موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي...﴾ فهي تشير إلى أن الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم ولم يسم به أحدا (كليم الله) إلا موسى عليه الصلاة والسلام وبهذا نطق كتاب الله: ﴿.. وكلم الله موسى تكليما..﴾..
﴿ ليحاجوكم ﴾ ليقيموا به الحجة عليكم
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذ خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ﴾ هذا بيان لنفاق من نفاق اليهود معطوف على ما كان من فجور آبائهم وعلمائهم إذ يحرفون كلام الله عن مواضعه ومعنى هذه الآية قريب من معنى قول الحق تقدست أسماؤه ﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾١ ﴿ وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ﴾ وأصل الفتح في كلام العرب : النصر والقضاء والحكم ومنه قول ربنا تباركت آلاؤه :﴿ ... ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾٢ أي احكم بيننا وبينهم وأنت خير الحاكمين. عن قتادة ﴿ قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ﴾ أي بما من عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم... وعن السدي ﴿ قالوا اتحدثونهم بما فتح الله عليكم ﴾ من العذاب ﴿ ليحاجوكم به عند ربكم ﴾ هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض ﴿ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ﴾ من العذاب ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم :( وقوله :﴿ أفلا تعقلون ﴾ خبر من الله تعالى ذكره عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم أنهم قالوا لهم : أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث حجة لهم عليكم عند ربكم يحتجون بها عليكم أي فلا تفعلون ذلك ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم ولا تخبروهم مثل ما أخبرتموهم به من ذلك.
٢ سورة الأعراف من الآية ٨٩.
.
﴿ أماني ﴾ اختلافا للكذب ﴿ يظنون ﴾ يكذبون ويقلدون.
﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ﴾ الأمي من لا يحسن الكتابة ١ قال مجاهد أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا ٢ وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله ويقولون هو من الكتاب آماني يتمنونها والتمني قد يعني : تخرص الكذب وافتعاله والاستثناء هنا منقطع إذ الأماني ليست من نوع الكتاب كما قال ربنا جل ثناؤه :﴿ ... مالهم به من علم إلا اتباع الظن... ﴾٣ والظن ليس من نوع العلم وما هم إلا يشكون ولا يعلمون حقيقة ما يزعمون ويتقولون يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعون ما هم فيه شاكون وفي حقيقته مرتابون مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله ومخالفة منهم لأمر الله واغترارا منهم بإهمال الله إياهم.
٢ لعله يعني التوراة..
٣ سورة النساء من الآية ١٥٨..
﴿ فويل ﴾.... واد من صديد في جهنم ؛.... ﴿ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ﴾ يعني بذلك الذين حرفوا كلام الله من يهود بني إسرائيل وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم، مخالفا لما أنزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها ولا بما في التوراة، جهال بما كتب الله – لطلب عرض من الدنيا خسيس فقال الله تعالى ﴿ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ﴾... إن قال لنا قائل : وما وجه ﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ﴾ وهل تكون الكتابة بغير اليد حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة إلى أن يخبروا عنهم هؤلاء القوم الذين قص الله قصصهم أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ؟ قيل له إن الكتاب من بني آدم وإن كان منهم باليد فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولى رسم خطه فيقال : كتب فلان إلى فلان بكذا وإن كان المتولى كتابته بيده غير المضاف إليه الكتاب إذا كان الكتاب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب فأعلم ربنا بقوله ﴿ فول للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ﴾ عباده المؤمنون أن أحبارهم اليهود تولوا كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم، على علم منهم وعمد للكذب على الله ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله تكذبا على الله وافتراء عليه، فنفى جل ثناؤه بقوله ﴿ يكتبون الكتاب بأيديهم ﴾ أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم..... فالعذاب في الوادي السائل من صديد أهل النار في أسفلهم جهنم ﴿ لهم ﴾ يعني الذين يكتبون الكتاب الذي وصفنا أمره من يهود بني إسرائيل محرفا ثم قالوا هذا من عند الله ابتغاء عرض من الدنيا به قليل مما يبتاعه منهم وقوله﴿ مما كتبت أيديهم ﴾ يقول من الذي كتبت أيديهم من ذلك ﴿ وويل لهم ﴾ أيضا ﴿ مما يكسبون ﴾ يعني مما يعملون من الخطايا ويجترحون من الآثام ويكسبون من الحرام بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم بخلاف ما أنزل الله ثم يأكلون ثمنه قد باعوه ممن باعوه منهم على أنه من كتاب الله١.
﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾ عن الضحاك١ قال : قالت اليهود لا نعذب في النار في يوم القيامة إلا أربعين يوما مقدرا ما عبدنا العجل، ولقد بينت آية كريمة أخرى إمعانهم في الافتراء وسفه الخيلاء والاستعلاء فقال ربنا ذو الجلال والعزة والكبرياء ﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك آمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾٢ ورد الله تعالى ما ادعوه، وبشر أهل الإيمان والإحسان بأنهم دون غيرهم أصحاب النعيم والمثوبة والفوز والرضوان ﴿ بلى من أسلم وجهة لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾٣ ﴿ قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ﴾ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألهم : هل لهم عند الله عهدا وعهدهم إياه في وحيه أو ادخرتم وقلتم لا إله إلا الله ولم تشركوا ولم تكفروا به فإن كنتم قلتموها فارجوا بها وإن كنتم لم تقولوها فلم تقولون على الله ما لا تعلمون. والاستفهام هنا الإنكار.
٢ سورة البقرة الأية١١١..
٣ سورة البقرة الآية ١١٢..
﴿ أحاطت به خطيئته ﴾ جميع أعماله سيئات.
﴿ بلى من كسب سيئة وأحاط به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ :﴿ بلى ﴾ إثبات لما حرف النفي وهو قوله ﴿ لن تمسنا ﴾ النار أي بلى تمسكم أبدا بدليل قوله تعالى :﴿ هم فيها خالدون ﴾ أي ماكثون أبدا ( ولفظ الإحاطة حقيقة في المجسمات إحاطة السور بالبلد.... فنقل إلى الخطيئة وهي عرض لمعنيين من جهة أن المحيط يستر المحاط به والكبيرة تستر الطاعات ومن جهة أن الكبيرة تحيط الطاعات وتستولي عليها إحاطة العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من الخلاص عنهم والآية إن وردت في اليهود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )١.
﴿ اليتامى ﴾ الصغار الذين مات آباؤهم ولا كاسب لهم.
﴿ المساكين ﴾ الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم.
﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ أتموا أداءها وأحسنوه.
﴿ وآتوا الزكاة ﴾ أعطوا زكاة أموالكم مستحقيها.
﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ﴾ الميثاق العهد الموثق عن أبي العالية أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له وأن لا يعبدوا غيره ونقل عن بعض نحويي البصرة كأنك قلت استحلفناهم لا تعبدون أي قلنا لهم والله لا تعبدون أي : قلنا لهم والله لا تعبدون وقالوا والله لا يعبدون وهذا بالحقيقة يتضمن جميع ما لابد به في الدين لأن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وجميع ما يحب له ويستحيل عليه ومسبوق أيضا بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة-١ ومما أورد صاحب الجامع لأحكام القران وعبادة الله إثبات توحيده وتصديق رسله والعمل بما أنزل في كتبه. ا ه. ولما كانت العبادة تعني كل هذا أمر الله تعالى بها جميع خلقه ولذلك خلقهم : قال تباركت آلاؤه وتقدست أسماؤه :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.. ﴾٢، وقال جل ثناؤه :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾٣. ﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ بعد بيان الحقوق وأعظمها وهي حق توحيد الله وإفراده بالعبادة والتصديق بالرسل والعمل بما أنزل في الكتب أمر بالإحسان إلى الوالدين فكأن التقدير يحسنون بالوالدين أو : وأمرناهم بالوالدين إحسانا أو قلنا لهم أحسنوا بالوالدين إحسانا. في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي ؟ قال الجهاد في سبيل الله ( وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد لأن النشأة الأولى من عند الله والنشء الثاني – وهو التربية- من جهة الوالدين ولهذا قرن سبحانه الشكر لهما بشكره فقال :﴿ .. أن اشكر لي ولوالديك.. ﴾٤ والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما وامتثال أمرهما والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما وصلة أهل ودهما... )٥. ﴿ وذي القربى ﴾ أصحاب القرابة وهو معطوف على ﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ وكأن المعنى وقلنا لهم : أحسنوا بالوالدين وبذي القربى وصلوا الأرحام، والإحسان إليهم كالإحسان بالوالدين ﴿ واليتامى ﴾ معطوف على ما سبق، واليتيم من الأطفال الذي مات أبوه حتى يبلغ الحلم وقد وصى الكتاب الحكيم بحق رعاية اليتيم بحفظ المال وبالإنفاق عليه وتقديم المعروف إليه وحذر من أي بغي على ما يملك، وعده حوبا كبيرا وإثما مبينا وأنذر العائدين على أموالهم ظلما بأنهم ﴿ .. إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ﴾٦ وبشر أهل الرعاية لليتامى بأنهم اقتحموا العقبة التي بينهم وبين الجنة وفي ذلك جاءت الآيات المباركات :﴿ فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة ﴾٧ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كافل اليتيم له أولغيره أنا وهو كهاتين في الجنة ) وأشار مالك- أحد رواة هذا الحديث – بالسبابة الوسطى والسبابة الأصبع التي تلي الإبهام. ﴿ والمساكين ﴾ معطوف أيضا على ما سبق وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم والإحسان إليهم تفقد أحوالهم ومواساتهم وإعطاؤهم حقهم من الزكاة والصدقة وفوق ذلك فقد سخط الله تعالى على من لا يحض غيره على رعاية هؤلاء المحتاجين الضعفاء يقول ربنا جل ثناؤه :﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين ﴾٨ وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله- وأحسبه قال- : وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر ) ؛ ﴿ وقولوا للناس حسنا ﴾ أي وقولوا للناس قولا حسنا قال ابن عباس قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها ؛ وعن ابن جريج :( قولوا للناس صدقا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تغيروا نعته ؛ وعن سفيان : مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر )٩. ﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ – أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة-١٠، وقد أمر الله بكثير من تلك العهود في قوله سبحانه :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم.. ﴾١١ بل في هذه الآية الكريمة زيادة فيمن أمرنا الله بالإحسان إليهم الجار القريب والجار الأجنبي والصاحب بالجنب- الزوجة أو رفيق الطريق في السفر- والمسافر المملوك كما أكد الأمر بإفراده بالعبادة بقوله الحكيم ﴿ ... ولا تشركوا به شيئا.. ﴾١٢ عن ابن مسعود وإقامة الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليه فيها﴿ ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ﴾ – وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات ويصلوا الأرحام ويتعاطفوا على الأيتام ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها ويؤتوا زكاة أموالهم فخالفوا أمره في ذلك كله وتولوا عنه معرضين إلا من عصمه الله منهم فوفى بعهد الله وميثاقه... عنى الله جل ثناؤه بقوله ﴿ وأنتم معرضون ﴾ اليهود الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعنى بسائر الآية أسلافهم... وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم-١٣.
٢ سورة النحل من الآية٣٦..
٣ سورة الذاريات الآية ٥٦..
٤ سورة لقمان من الآية ١٤.
٥ ما بين العلامتين () من الجامع لأحكام القرآن.
٦ سورة النساء من الآية ١٠..
٧ سورة البلد الآيتان: من ١١-إلى١٦..
٨ سورة الفجر من الآيتان ١٧- ١٨.
٩ مما أورد أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: وهذا كله حض على مكارم الأخلاق فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه لأن الله تعالى قال لموسى وهارون ﴿ فقولا له قولا لينا﴾ فالقائل ليس أفضل من موسى وهارون والفاجر ليس بأخبث من فرعون وقد أمرنا الله تعالى باللين له وقال طلحة بن عمر قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ فقال لا تفعل يقول الله تعالى ﴿وقولوا للناس حسنا ﴾ فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنفي وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة (لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء)... قال ابن عطية: وهذا يدل على أن أهل هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه والله أعلم..
١٠ ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم..
١١ سورة النساء من الآية ٣٦..
١٢ سورة النساء من الآية ٣٦..
١٣ ما بين العارضتين من جامع البيان..
عن ابن عباس ما حاصله : قوله سبحانه ﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم.. ﴾ الآية خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه، مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها فقال الله تعالى لهم :﴿ ثم أقررتم ﴾ يعني بذلك إقرار أوائلكم وسلفكم وأنتم بذلك تشهدون على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم بأن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ويصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم يقول تبارك وتعالى منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج وذلك أن الأوس والخزرج – وهم النصارى- كانوا من الجاهلية عباد الأصنام وكانت بينهم حروب كثيرة وكان يهود المدينة ثلاث قبائل :( بنو قينقاع ) و( بنو النضير ) حلفاء الخزرج و( بنو قريظة ) حلفاء الأوس فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتلوا كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم ويخرجونهم من بيوتهم، وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ثم إذا وضعت الحرب أوزارها افتكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ولهذا قال تعالى ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ﴾ ؟ ولهذا قال تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ﴾ أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) وقوله تعالى :﴿ ثم أقررتم وأنتم تشهدون ﴾ ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.
﴿ الإثم ﴾ الذنب ﴿ العدوان ﴾الإفراط في الظلم
﴿ أسارى ﴾ مأسورين ﴿ تفادوهم ﴾ تدفعون شيئا لتحريرهم.
﴿ خزي ﴾ ذل وهوان
﴿ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ﴾ الآية... والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليه الصلاة والسلام، واليهود- عليهم لعائن الله- يتكاتمونه بينهم ولهذا قال تعالى ﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ﴾-١ ومما أورد القرطبي أن علماؤنا كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة وفداء أساراهم فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى فقال ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب ﴾ وهو التوراة و﴿ تكفرون ببعض ﴾ قلت ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض ليت بالمسلمين، بل بالكافرين حتى تركنا إخواننا أذلة وصاغرين يجري عليهم حكم المشركين فلا حول لهم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال علماؤنا : فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد قال ابن خويز منداد : تضمنت الآية وجوب فك الأسرى وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكهم وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع ويجب فك الأسارى من بيت المال فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين ا ه. ﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ﴾ فليس لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه من عوض يثوب إليه وأجر يرد عليه إلا الهوان والصغار في هذه الحياة العاجلة ﴿ ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ﴾ ويصار به في الآخرة إلى العقاب الذي لا عقوبة أوجع منه ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ ما يغيب عن علم ربنا وسمعه وبصره شيء من قول القائلين وعمل العاملين وما في صدور العالمين وسينال كل مثوبة ما اكتسبت فهو إخبار فيه معنى الإنذار كقوله جل ثناؤه ﴿ ... واعملوا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه... ﴾٢.
٢ سورة البقرة من الآية ٢٣٥..
﴿ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ﴾ أشار إليهم بما يشار به للبعيد ربما لبعدهم من الرحمة إذ استبدلوا الحياة الفانية بالدار الباقية وآثروا ما يفنى على ما يبقى كالذين أشار إليهم الكتاب الكريم في قول ربنا العظيم إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا }١ فاستحقوا أن يخلدوا في لظى وسعير لا يخبو ولا ينتهي وما يجيره منه مجير.
﴿ أيدناه ﴾ قويناه. ﴿ روح القدس ﴾ جبريل.
﴿ تهوى ﴾ تحب.
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ﴾ الواو عاطفة على ما قبل واللام موطئة للقسم وقد للتحقيق وهذا القسم والتوكيد والتحقيق لمزيد من تثبيت جنايات بني إسرائيل الذين بعث الله تعالى فيهم كثيرا من أنبيائه المصطفين الأخيار وأنزل فيهم كتبا سماوية تهدي إلى الرشد فصد عنها الفجار، فلقد أعطى ربنا سبحانه كليمه موسى عليه السلام التوراة فيها هدى ونور، وأرسل من بعد موسى رسلا كثيرين يوحى إليهم من أمره ما فيه الخير والبر- إنما يعني جل ثناؤه في قوله ﴿ وقفينا من بعده بالرسل ﴾ أي اتفقنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة لأن كل من بعثه الله نبيا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن مريم فإنه بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ما فيها-١ ﴿ وآتينا عيسى بن مريم البينات ﴾.. أعطينا عيسى المعجزات وخوارق العادات حججا تدل على نبوته ومنها كما هو معلوم إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وإبراء الأكمة والأبرص بإذن الله وإخبارهم إياه بإذن الله وما يدخرون في بيوتهم إلى غير ذلك. ﴿ وأيدناه بروح القدس ﴾ وقوينا عيسى وأعناه بعبدنا وأمين وحينا جبريل عليه السلام٢. ﴿ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ﴾ تقريرا لما ارتكبه الإسرائيليون وإنكارا لما يرتكبون من تحكيم الهوى٣ فيما يسمعون مع أنه وحي الله فيما لا يسمعون وفي نعمه يتخوضون لكنهم كلما أرسل إليهم نبي بشيء لا يوافق ما يحبونه ويميلون إليه تأنفوا على النبي وما جاء به، وتأبوا عن الاستجابة إليه واستبعدوا رسالته وقد يتجاوزون تكذيبه إلى قتله فقد كذبوا عيسى عليه السلام ومحمد صلوات الله عليهما وقتلوا يحيى وزكريا سلام الله عليهم.
٢ نقل ابن جرير عن بن زيد وغيره أن المراد وقويناه ونصرناه بالإنجيل لكنه لم يرتض هذا القول ورده ثم قال فبين فساد قول من زعم أن الروح في هذا الموضوع الإنجيل وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه لأنها تحيا بها القلوب الميتة وتنعش بها النفوس المولية وتهتدي بها الأحلام الضالة وإنما سمى بها الله تعالى جبريل عليه السلام روحا وأضافه إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده فسماه بذلك روحا وأضافه إلى القدس والقدس هو الطهارة كما سمى بن مريم روحا لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده. ا. ه.
٣ وأصل الهوي الميل إلى الشيء وجمعه أهواء وسمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه إلى النار غالبا وأكثر ما يستعمل في الذي لا خير فيه ولا رشد ولا بر وهكذا يمكن أن يكون معناه في هذه الآية الكريمة وقد يستعمل في الحق ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بدر فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث (والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أخرجهما مسلم..
﴿ وقالوا قلوبنا غلف ﴾ قال مجاهد عليها غشاوة وقال عكرمة عليها طابع ﴿ بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ﴾ بين المولى سبحانه أنه على ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كما قال سبحانه ﴿ ... فلما زاغوا أزاغ الله على قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾١ فسبب نفورهم عن الإيمان هو أنهم نأوا عنه ونهوا عنه والذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله فقد طردهم جل وعلا وأبعدهم من رحمته ﴿ فقليلا ﴾ أي فإيمانا قليلا ما يؤمنون وقال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا٢.
٢ ثم يضيف كما تقول ما أقل ما يفعل كذا أي لا يفعله البتة وقال الكسائي تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبث الكراث والبصل أي لا تنبت شيئا نقل هذا عنهما صاحب الجامع لأحكام القرآن.
.
﴿ مصدق لما معكم ﴾ يصدق الذي معهم من التوراة.
﴿ يستفتحون ﴾ يستخبرون أو يستنصرون.
ولما جاء اليهود من بني إسرائيل القرآن المجيد الذي هو تنزيل المولى الحكيم الحميد والذي يتوافق وما آتاهم من التوراة والإنجيل وكانوا من قبل نزول القرآن الموحى به إلى خاتم النبيئين محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يستنصرون١ به على الكافرين فلما بعث الله خاتم رسله وأنزل أكرم كتبه كفر به اليهود فاستحقوا أن يبعدوا من رحمة الله تعالى ومن هدايته فاستحبوا الكفر على الإيمان.
﴿ اشتروا ﴾ باعوا ﴿ بغيا ﴾ حسدا أو فسادا وابتغاء وطلبا
﴿ فباءوا ﴾ فرجعوا ﴿ مهين ﴾ مذل
﴿ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ﴾ ساء ما باعوا به أنفسهم فقد بخسوها حظها من الرشد والسلامة وأوردوها الخزي والسعير والندامة بجحودهم الحق وقد علموه لكن قد كرهه إليهم الحسد المطغي فلم يطيقوا أن يروا نعمة النبوة والوحي تنال خاتم النبيين عليه صلوات الله وفي هذا يقول القرآن الكريم ﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا١ ﴾ فباؤوا بغضب على غضب } فرجعوا وعادوا بمقت من الله واستحقاق لحلول نقمته سبحانه بهم، فوق مقت واستحقاق مزيد من نقمة تضاف إلى سابقتها. عن الحسن وقتادة وغيرهما ما حاصله لابد من إثبات سببي غضب، أحدهما تكذيبهم عيسى وما أنزل عليه، والثاني تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه فصار ذلك سببا بعد سبب لسخط بعد سخط. وعن السدي الأول لعبادة العجل والثاني لكتمانهم نعت محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم نبوته وعن عطاء وغيره المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور موالية صدرت عنهم كقوله ﴿ .. عزير بن الله ﴾٢ ﴿ .. يد الله مغلولة.. ﴾٣ ﴿ إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾٤. ﴿ وللكافرين عذاب مهين ﴾ أي ولهم عذاب فوضع
﴿ الكافرين ﴾ وضع المضمر ليدل على أنهم استحقوا العذاب والنقمة بسبب كفرهم ﴿ مهين ﴾ أي مضمر مذل مخز ولا يلزم من اقتران العذاب بالإهانة تكرار فقد يكون العذاب ولا إهانة كالوالد يؤدب ولده.
٢ سورة التوبة من الآية ٣٠..
٣ سورة المائدة من الآية ٦٤.
٤ سورة آل عمران من الآية ١٨١..
﴿ بما أنزل الله ﴾ بالقرآن الحكيم
﴿ آمنوا بما أنزل الله ﴾ بكل ما أنزل الله من كتاب ﴿ قالوا نؤمن بما أنزل علينا ﴾ أي بالتوراة وبسائر كتب الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام ﴿ ويكفرون بما وراءه ﴾ أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة والإنجيل وهو الحق الضمير يعود إلى ما وراءه أو إلى القرآن فقط و﴿ مصدقا ﴾ حال مؤكد لوجود شرطها وهو كونها مقررة لمضمون جملة اسمية، أو كون مضمونها لازما لمضمون الجملة الاسمية فإن التصديق لازما حقية القرآن، فصار لازما كأنه هو العامل في ﴿ مصدقا ﴾ محذوف وهو يبدو أو يثبت على الأصح وأما الواو في وهو الحق فيجوز أن تكون معترضة فلا محل للجملة ويجوز أن تكون للحال وحينئذ إما أن يكون العامل فيها هو العامل في قوله ﴿ ويكفرون ﴾ على أنهما حالان متداخلان ؛ وفي قوله ﴿ وهو الحق مصدقا لما معهم ﴾ دلالة على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لما أثبت نبوته بالمعجزات ثم إنه أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله وأنه صلى الله عليه وسلم أمر المكلفين بالإيمان كان الإيمان به واجبا لا محالة، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعضهم وبعضها محال، وأيضا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعلم علما ولم يقرأ ولم يخط، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بالقصص والأخبار المطابقة لما في التوراة، فيعلم أن بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم استفادها من قبل الوحي، وأيضا القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أخبر الله تعالى أنه مصدق التوراة وجب اشتمال التوراة على الإخبار عن نبوته، فمدعي الإيمان بالتوراة يجب أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وإلا كان كذبا ثم إنه بين من وجه آخر كذب دعواهم وهو أن التوراة لا تسوغ قتل الأنبياء وإنهم سوغوا ذلك وفيه دليل على أن إيراد المناقصة على الخصم جائزة والكلام وإن كان على وجه الخطاب إلى أن المراد بذلك أسلافهم، بدليل ﴿ من قبل ﴾ ﴿ وتقتلون ﴾ حكاية حال ماضية، وأصل ﴿ لم ﴾ لما بإدخال لام التعليل في ما الاستفهامية، حذفت الألف للتخفيف أي لأي غرض وبأي حجة كان أسلافكم يقتلون الأنبياء ؟.
وفي قوله ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم الإيمان وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما تقدمه، وفيه تنبيه على أن اليهود المعاصرين خرجوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالتوراة كما أن أسلافهم خرجوا بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بها والله تعال أعلم-١
﴿ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ في الآية الحادية والخمسين من هذه السورة المباركة قبح الله تعالى اليهود باتخاذ العجل إلها وعبادته من دون الله جل علاه، لكن هناك سبقت بقول الحق سبحانه ﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ﴾ فإبان المواعدة وغيبة موسى عنهم وذهابه لميقات ربه تقربوا هم للعجل وههنا تنبيه على فرط قبحهم إذ ظهرت لهم المعجزات الواضحات البينات عن صدق كليم الله عليه السلام في حقيقة نبوته ثم عبدوا عجلهم الذي صنعه لهم وفتنهم به السامري فعلوا ذلك بعد مجيء الآيات والعلامات الشاهدة على أن موسى رسول رب العالمين وفي هذا بيان لإصرارهم على العناد على التكذيب، مع ما فيه من تسلية لخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيت له ولمن معه، فإن صنيعهم لم ينل من صبر موسى لكنه ثبت على الدعوة إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه.
﴿ ورفعنا فوقكم الطور ﴾ علقنا جزءا من الجبل المسمى بذلك فوق رؤوسكم.
﴿ بقوة ﴾ بحزم وجد ﴿ وأشربوا في قلوبهم العجل ﴾ اشتد شغفهم بحب عبادة العجل.
ومثل هذا يجب أن يكون من حكمة التكرار في قوله تقدست أسماؤه ﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا ﴾ وفي هذه الآية بيان مرائهم ونهاية لجاجهم فإنهم أمروا بالسمع ليستيقنوا بالحق ويذعنوا له وينقادوا للشرع ويستقيموا على نهجه لكنهم قالوا سمعنا وعصينا والأكثرون على أنهم قالوا هذا القول -قالوا سمعنا لا سماع طاعة سمعنا قولك وعصينا أمرك١، ﴿ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ﴾ ( أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ وقوله تعالى ﴿ وفي قلوبهم ﴾ بيان لمكان الإشراب٢ كقوله ﴿ إنما يأكلون في بطونهم نارا.. ﴾٣ وفي قوله ﴿ وأشربوا ﴾ دلالة على أن فاعلا غيرهم فعل ذلك بهم كالسامري... وإبليس وشياطين الإنس والجن وذلك بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه على الله تعالى ولا ريب أن جميع الأسباب تنتهي إلى الله تعالى٤ ).
﴿ قل بئسا يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ﴾ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لليهود سوء صنيعتهم و﴿ بئس ﴾ لإنشاء الذم وفاعله قد يكون مظهرا وقد يكون مضمرا يعود إلى معهود ذهني والتقدير هنا بئس وساء شيئا يأمركم به إيمانكم بالتوراة عبادة العجل، أو : بئس الشيء يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده، وإنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله وتأمر بخلافه... وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم والذي يحملهم عليه البغي والعدوان٥ ( وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال قوم شعيب :﴿ ... أصلاتك تأمرك... ﴾٦ وكذلك إضافة الإيمان إليهم ؛ واعلم أن الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي لكن الداعي إلى الفعل والسبب فيه قد يشبه بالأمر كقوله ﴿ ... إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾٧ ). ٨
٢ أخرج الإمام مسلم في صحيحه حديثا شريفا وفيه (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيها نكتة سوداء)..
٣ سورة النساء من الآية ١٠..
٤ ما بين العلامتين () من تفسير غرائب القرآن.
٥ ما بين العارضتين من جامع البيان.
٦ سورة هود من الآية ٨٧..
٧ سورة العنكبوت من الآية ٤٥..
٨ ما بين العلامتين () من تفسير غرائب القرآن..
٢ سورة البقرة من الآية ١١١.
٢ نقل النيسابوري وتخصيص الألف بالذكر بناء على العرف ولأنه أول عقد يستحيل وقوعه في أعمار بني آدم أو ينذر ا. ه..
﴿ مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ﴾ وهذا القرآن الذي نزل به أمين الوحي جبريل على قلب خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام إنما جاء مصدقا لما سبقته من كتب الله التي أنزلت على رسل بعثوا من قبلك وجاء الكتاب العزيز هدى يدل على سبيل الفوز والنعيم المقيم ويثبت على صراط الله المستقيم، ويبشر المؤمنين أن لهم من الله فضلا كبيرا.
﴿ تتلوا ﴾ تقرأ أو تتابع وهي بمعنى تلت أو روت
﴿ السحر ﴾ التمويه بالحيل والخدعة والأخذة وما لطف أخذه وخفي سببه
﴿ بابل ﴾ قطر من الأرض قيل العراق وما والاه
﴿ فتنة ﴾ ابتلاء واختبار ﴿ المرء ﴾ الرجل ﴿ زوجه ﴾ امرأته
﴿ بإذن ﴾ بأمر أو بعلم ويتجوز بالأمر هنا عن التكوين
﴿ اشتراه ﴾ استبدله ﴿ خلاق ﴾ نصيب ﴿ اشروا ﴾ باعوا
من سوء صنيع بني إسرائيل وما أكثرهم وأفجر إساءتهم أنهم طرحوا كتب الله تعالى المنزلة وأداروا ظهورهم لها، فعل المعرض المستخف وأقبلوا على ما افترته الشياطين على ملك سليمان عليه السلام وأنه قام على السحر والخدعة والأخذة صلى الله عليه وسلم وبهذا تسلط على الجن وسخر الطير والريح والله يشهد أنهم لكاذبون وبينت الآية الكريمة بهتانهم ﴿ وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ﴾ واقتفوا أثر التمويه بالحيل والتخييل وفضلوا أن يعملوه ويعلموه على أن يتبعوا ما أنزل الله من الحق والرشد والهدى ودعوة الناس إلى البر والخير، ﴿ وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ﴾ و﴿ ما ﴾ موصولة١ بمعنى الذي والواو للعطف على السحر وهما واحد إلا أنه نزل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات-٢ و﴿ هاروت وماروت ﴾ عطف بيان للملكين، فكأن المعنى : يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين هاروت وماروت إذ أهبطا إلى العراق ﴿ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ﴾ فكان السحر المنزل على الملكين ابتلاء للناس واختبارا ولله تعالى أن يمتحن عباده بما يشاء وقد اختبر سبحانه جنود طالوت بماء عذب مروا به في طريقهم إلى جهاد عدو الله وعدوهم فاختبروا من شرب هذا الماء ﴿ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم.... ﴾٣ وها هنا قال الملكان إنما نحن محنة من الله نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت وإن عصيتنا هلكت وما يعلم الملكان أحدا حتى ينهياه وينصحاه ويقولا له : إنما نحن ابتلاء واختبار من الله فلا تكفر بأن تتعلمه معتقدا له أنه حق أو متوصلا به إلى شيء من المعاصي والأعراض العاجلة ﴿ فيتعلمون ﴾ الضمير لما دل عليه العموم في ﴿ من أحد ﴾ أي فيتعلم الناس من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه إما لأنه اعتقد أن السحر حق فكفر فبانت منه امرأته وإما لأنه يفرق بينهما بالتمويه والاحتيال كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز ابتلاء منه، لا أن السحر له أثرا في نفسه بدليل قوله تعالى ﴿ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾ بإرادته وقدرته لأنه إن شاء أحدث عند ذلك شيئا من أفعاله وإن شاء لم يحدث وكان الذي يتعلمونه منها لم يكن مقصورا على هذه الصورة ولكن سوء المرء وركونه إلى زوجته لما كان أشد خصت بالذكر ليدل بذلك على أن سائر الصور بتأثير السحر فيها أولى٤ والتفريق بين الرجل وزوجته جرم عظيم لما جعل الله تعالى بينهما من الألفة التي هي من ملته سبحانه وآثار حكمته ورحمته يقول تباركت آلاؤه وتقدست أسماؤه ﴿ من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾٥ فمن خبب امرأة على زوجها كان من الفاسقين وعمل عمل الشياطين وروى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ﴿ إن الشيطان ليدعوا عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة يجيء أحدهم فيقول مازلت بفلان حتى تركته يقول كذا وكذا فيقول إبليس لا والله ما صنعت شيئا فيجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول نعم أنت ". { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ﴾ ويتعلم الإسرائيليون من السحر ما يغريهم تعلمه على العمل بشروره وآثامه فيخسرون معادهم ومهما حصلوا من كسب عاجل فيما انتفعوا به لأن الانتفاع القليل الزائل كلا انتفاع ؛ ﴿ ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ﴾ لقد علم اليهود من بني إسرائيل كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم، التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه، ماله في الآخرة من خلاق.... عن مجاهد... ﴿ من خلاق ﴾ يقول من نصيب... ﴿ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ﴾... ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه وأخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بيعهم، إذا كان يتعلم ذلك منهم من لا يعرف الله ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه ثم عاد إلى الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم... فأخبر عنهم أنهم قد علموا من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق... وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله.. ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ بعد وصفه وإياهم بأنهم قد علموا، بقوله ﴿ ولقد علموا ﴾، من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا وإنما العالم العامل بعلمه وأما إن خالف عمله علمه فهو في معاني الجهال -٦.
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني..
٣ سورة البقرة من الآية ٢٤٩.
٤ ما بين العارضتين مما جاء في تفسير غرائب القرآن..
٥ سورة الروم الآية ٢١..
٦ ما بين العارضتين من جامع البيان..
﴿ ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ﴾ ﴿ لو ﴾ قد يراد بها الامتناع، أي امتنع إدراكهم ثواب الله وما عنده من النعيم والكرامة لامتناعهم عن الإيمان والتقوى وكأن المعنى لو ثبت أنهم آمنوا وصدقوا بما يجب التصديق به وخافوا ربهم وأطاعوه وتجنبوا عصيانه لأثيبوا ثوابا خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ أن ثواب الله إياهم على ذلك خير مما وقعوا فيه -وإنما نفى بقوله ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ العلم أنهم كانوا عالمين بمبلغ ثواب الله وقدر جزائه على طاعته.. وثواب الله عز وجل عباده على أعمالهم بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه حتى يرجع إليهم بدل من علمهم بدل من علمهم الذي عملوا له-١ [ وقد استدل بقوله ﴿ ولو أنهم آمنوا واتقوا ﴾ من ذهب إلى تكفير الساحر كما هو رواية من الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف وقيل بل لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه لما رواه الشافعي وأحمد ابن حنبل عن عمر بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر٢ وساحرة قال : فقتلنا ثلاث سواحر ] ورواه البخاري في صحيحه.
٢ أورد ابن كثير في تاريخ السحر وأقسامه وأحكامه قريبا من ثلاثة آلاف كلمة، وأورد القرطبي في هذا الشأن قريبا من ستة آلاف كلمة، أما الطبري فقد أورد حول ذلك ما يناهز عشرة آلاف كلمة..
﴿ انظرنا ﴾ أقبل علينا وانظر إلينا فهي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ﴾ نداء من الله تعالى للمؤمنين أن لا يتشبهوا بالسفهاء الإسرائيليين فقد كانوا عليهم اللعنة -يعمدون إلى كلام فيه تورية- ظاهره مقبول وقصدهم منه خبيث مرذول فإذا أرادوا استنصات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقولوا اسمع لنا وإنما يقولون راعنا ويقصدون رميه صلوات الله عليه بالرعونة والخفة والطيش وقد أظهر الله تعالى أضغانهم تلك بمثل قوله سبحانه ﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلام عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين... ﴾١ ( وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم أنهم كانوا إذا سلموا يقولون السام عليكم والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نردد عليهم ب " وعليكم " والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين في أقوالهم وأفعالهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولم نقر عليها... والله نهى المؤمنون أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم راعنا لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم )٢ وعلمنا سبحانه أن نقول ﴿ انظرنا ﴾ وأن نسمع له صلوات ربنا عليه ونطيعه ﴿ وللكافرين عذاب أليم ﴾ وعيد من الله تعالى وتحذير شديد ونذير لمن تشبه بالجاحدين المكذبين بالدين ولم يقر خاتم النبيين عليه الصلوات والتسليم.
٢ ما بين العلامتين( ) من تفسير القرآن العظيم..
﴿ ما يود الذين كفروا ﴾ أنبأنا العليم الخبير بكراهية الكافرين لنا وحبهم لهلاكنا يستوي في ذلك كتابيهم ومشركهم ﴿ من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ﴾١ فهؤلاء اليهود والنصارى وأولئك الوثنيون يتمنون أن نحرم الهداية والرحمة يحسدوننا على ما آتانا الله من فضله -﴿ من ﴾ الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون كقوله ﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين... ﴾٢.... والثانية لاستغراق الخير فإن ﴿ ينزل ﴾ في سياق النفي فمعنى ما يود أن ينزل : يود أن لا ينزل والثالثة لابتداء الغاية -٣ ( وفي الآية دلالة على أن الله تعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين والاستماع من قولهم وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منه باطلاعه جل ثناؤه إياهم به على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما يستبطنون... ﴿ والله يختص برحمته من يشاء ﴾ والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته فيرسله إلى من يشاء من خلقه فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له واختصاصه إياهم بها وإفرادهم بها دون غيره من خلقه وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه وهدايته من هدى من عباده رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة٤ واستحقاقه به ثناؤه وكل ذلك رحمة من الله له ؛ وأما قوله ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ فإنه من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم من غير استحقاق منهم ذلك عليه... )٥.
٢ سورة البينة من الآية ١..
٣ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن..
٤ ومع هذا الفوز والفلاح فإن أتباع شرع الله الحكيم يظفره في عاجله بالحياة الطيبة مصداقا لوعد مولانا البر الرحيم ﴿... فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى...﴾ من سورة ( طه) من الآية ١٢٣..
٥ ما بين العلامتين ( ) من جامع البيان..
ربنا المعبود ولي التقدير خبير وبصير يشرع لعباده ما فيه خيرهم وقد ينقله سبحانه من حكم إلى حكم يعلم جل وعلا أن هذا التحول مما يصلح به أمرهم.
والنسخ لغة الإزالة ومنه نسخت الشمس الظل أي أزالته وقد يراد به النقل ومنه نسخت الكتاب وفي الاصطلاح رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر [ ونسخ الآية -على ما ارتضاه بعض الأصوليون- بيان انتهاء التعبد بقراءتها كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله العزيز الحكيم أو الحكم المستفاد منها كآية ﴿ والذين يتفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ﴾١ أو بهما كآية عشر رضعات معلومات يحرمن وفيه التأبيد المستفاد من إطلاقها.. فهو بيان بالنسبة إلى الشوارع ورفع بالنسبة إلينا
٢ ﴿ أو ننسها ﴾ أو نرجئها أو نتركها من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها قاله ابن عباس والسدي ومنه قوله تعالى ﴿ .. ونسوا الله فنسيهم.. ﴾٣ أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب... وحكى الأزهري ﴿ ننساها ﴾ نأمر بتركها يقال أنسيته الشيء أي أمرت بتركه.. ؛ ﴿ نأت بخير منها ﴾ لفظة ﴿ بخير ﴾ هنا صفة تفضيل والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف وفي آجل إن كانت أثقل وب ﴿ مثلها ﴾ إن كانت مستوية وقيل ليست بأخير التفضيل لأن كلام الله لا يتفاضل وإنما هو مثل قوله ﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها.. ﴾٤ أي فله منها خير أي نفع وأجر لا الخير الذي بمعنى الأفضل-٥.
٢ ما بين العلامتين [] من روح المعاني.
٣ سورة التوبة من الآية ٢٧..
٤ سورة القصص من الآية ٢٤..
٥ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ويشهد ذلك ما ختمت به الآية الكريمة ﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه كما يشاء فله الخلق والأمر... يحكم في عباده ما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴾١ ويختبر عباده بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أمروا وترك ما عنه زجروا وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم – لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا وإما نقلا كما ترخصه آخرون منهم افتراء وإفكا. ٢.
٢ ما بين العلامتين ( ) من تفسير القرآن العظيم..
﴿ السبيل ﴾ الطريق
﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ﴾ وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن المغيرة بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وفي صحيح مسلم ( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت عنهم رسول الله ثلاثا، ثم قال عليه السلام :( لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ) ثم قال ( ذروني ما تركتكم ) الحديث و﴿ أم ﴾ وإن كانت للاستفهام لكن ربما قد يراد بها الإنكار، نهى الله تعالى المؤمنين عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال سبحانه ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم... ﴾١ أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم٢ ؛ وقال بعض المفسرين النهي عام يعم المؤمنين والكافرين كما قال تعالى ﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء... ﴾٣ ﴿ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ﴾ والذي يقبل على الكفر ويعدل عن تصديق الأنبياء واتباعهم إلى مخالفتهم والتعنت في مساءلتهم – الذي يترك الإيمان ويختار عليه الكفر جائر عن وسط الطريق زائغ عن جادة السلام والإسلام.
٢ في الصحيح (أن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)..
٣ سورة النساء من الآية ١٥٣ وتمامها: ﴿فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا﴾. نقل عن ابن عباس قال: قال رافع بن حرملة ووهب بن زيد: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله من قولهم﴿أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل﴾..
﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ﴾ تمنى وأحب كثير من اليهود -وفيهم نزلت التوراة- ومن النصارى -وفيهم أنزل الإنجيل- تمنوا ومازالوا يتمنون أن يرجع المسلمون إلى الكفر كما قال تقدست أسماؤه ﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء... ﴾١ وقال عز وجل ﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم... ﴾٢ يحذرنا سبحانه أن نأمن مكرهم أو نواليهم ونقفوا أثرهم يقول تباركت آلاؤه ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾٣ وقد نبأنا العليم الخبير أنهم ملئوا ضغنا ومردوا على النفاق ﴿ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾٤ ﴿ حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ﴾ وإنما يحب الكفار ضلالنا وإغوائنا ويسارعون في خبالنا لأنهم يحسدوننا على فضل وهداية مولانا لنا وهم يعلمون أنا على الحق وهم على الباطل لكن يكرهون أن ننجوا وهم يهلكون ومعنى ﴿ من عند أنفسهم ﴾ أي من تلقائهم من غير أن يجحدوه في كتاب ولا أمروا به... الحسد نوعان مذموم ومحمود فالمذموم أن تتولى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا وهذا النوع الذي ذمه الله تعالى في كتابه بقوله ﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله... ﴾٥ وإنما كان مذموما لأن فيه تسفيه الحق سبحانه وأنه أنعم على من لا يستحق، وأما المحمود فهو ما جاء في الصحيح من قوله عليه السلام ( لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ) وهذا الحسد معناه الغبطة وكذلك ترجم عليه البخاري ( باب الاغتباط في العلم والحكمة ) وحقيقتها أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من النعمة ولا يزول عنه خيره وقد يجوز أن يسمى هذا منافسة ومنه قوله تعالى :﴿ ... وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ﴾٦-٧.
﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ العفو ترك المآخذة بالذنب والصفح الإعراض والترك وزوال أثره من النفس والأمر إما واحد الأوامر، وإما واحد الأمور، أمرنا الله تعالى بالعفو عن إساءتهم والإعراض عن سفاهاتهم ومتابعة نصحهم والإشفاق عليهم وحسن الاستدعاء وترك التشدد ؛ روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية ٨ وأسامة وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول٩-وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي- فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفي المسلمين محمد بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة١٠ الدابة خمر١١ ابن أبي أنفة بردائه وقال : لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي بن سلول : أيها المرء لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك١٢. فمن جاء فاقصص عليه قال عبد الله بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي- قال كذا وكذا ) فقال أي رسول الله بأبي أنت وأمي اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح عليه أهل البحيرة ١٣ على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك فلذلك فعل ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عفى عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى ويصبرون على الأذى قال الله عز وجل ﴿ ... ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن أشركوا أذى كثيرا... ﴾١٤ وقال ﴿ ود كثير من أهل الكتاب ﴾ فكان رسول الله يتأول في العفو عنهم ما أمره الله به حتى أذن لهم فيه١٥، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به من قتل من صناديد الكفار وسادات قريش فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه غانمين منصورين معهم أسارى من صناديد الكفار وسادات قريش قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان هذا أمر قد توجه١٦ فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ إن شاء الانتقام انتقم وإن شاء الهداية هدى فإنه يفعل ما يشاء ولا يعجزه شيء أراد.
٢ سورة البقرة من الآية ١٢٠..
٣ سورة آل عمران من الآية ١٠٠..
٤ سورة آل عمران من الآية ١١٩...
٥ سورة النساء من الآية ٥٤.
٦ سورة المطففين من الآية ٢٦..
٧ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن..
٨ فدكية منسوبة إلى فدك قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان..
٩ سلول: أم عبد الله بن أبي ولهذا لم تسقط الألف في الكتابة..
١٠ عجاجة غبار..
١١ خمر: غطى..
١٢ رحلك منزلك..
١٣ البحيرة مدينة الرسول عليه السلام..
١٤ سورة آل عمران من الآية ١٨٦. وتمامها﴿.. وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)..
١٥ وعلى هذا لن تكون الآية منسوخة لكن ذهب بعض المفسرين إلى ان الآية منسوخة بآية القتال {.. فاقتلوا المشركين..﴾ ويقول المولى سبحانه ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾.
١٦ توجه: ظهر وجهه..
﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾ – وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير وشر١ سرا وعلانية فهو به بصير لا يخفى عليه من شيء فيجزيهم بالإحسان جزاؤه وبالإساءة مثلها٢، وهذا الكلام وإن خرج مخرج الخبر فإنه فيه وعدا ووعيدا وأمرا وزجرا وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذا كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه... وليحذروا معصيته إذا كان مطلعا على راكبها بعد تقدمه إليه بالوعيد عليها وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه وما وعد عليه ربنا فمأمور به. أما قوله ﴿ بصير ﴾ فإنه مبصر صرف إلى ﴿ بصير ﴾ كما صرف مبدع إلى ﴿ بديع ﴾-٣
٢ قدمنا أن الآية بينت الجزاء المدخر لمن قدم خيرا ولمن تذكر المسيء.
٣ ما بين العارضتين من جامع البيان..
﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم ﴾ اليهود والنصارى أكثرهم يعض على يديه تغيظا أن هدانا الله إلى الحق ولا يألوا جهدا في السعي في فتنتنا عن الهدى والرشد وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فانبعثوا يتشهون حصول ما لا يمكن أن يكون واختلقوا كذبا ومينا أنهم دون سواهم إلى الجنة صائرون وما زعمهم وافتعالهم إلا أماني ولهذا قال الشاعر : " إن الأماني والأحلام تضليل "
فهم يضللون أنفسهم ويضلل بعضهم بعضا ويريدون أن يضلوا غيرهم بقولهم الذي حكاه الحق سبحانه :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ وقوله جل علاه ﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ﴾ يريدون أن يوقعوا الآخرين في غيهم ليشاركوهم شقوتهم في مآلهم ومصيرهم. ﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ رد الله تعالى افتراءهم وعهد إلى نبيه ثم إلينا أن ندعوهم إلى إحضار دليلهم على قولهم إن كانوا صادقين في ادعائهم.
﴿ محسن ﴾ متقن لجميع ما يفعله
﴿ لا خوف عليهم ﴾ مما ينتظرهم
﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على ما خلفوا من ورائهم
﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ ليس الأمر كما زعموا بل الحق أنه من انقاد وأطاع مولاه وأتقن عمله لأولاه وعقباه وعبد الملك المهيمن كأنه يراه، فالجزاء الأوفى والثواب الأبقى مدخر عند الله ولا خوف عليه مما سيلقاه فالجنة مأواه، ولا يحزنون على ما تركوا وراءهم فإن البر يخلفهم وهو نعم الخليفة. وإنما عاد الضمير على من مفردا في قوله سبحانه ﴿ فله ﴾ وعاد مجموعا في قوله عز ثناؤه ﴿ ولا خوف عليهم ﴾ رعاية للفظ ﴿ من ﴾ وهو مفرد ثم رعاية لمعناها، وهو جمع -وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس وينبوع الفكر والتخيل فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى لأن الوجه قد يكنى به عن النفس والذات ﴿ ... كل شيء هالك إلا وجهه... ﴾١ ﴿ إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ﴾٢.. وهذا الاسلام أخص من الإسلام الذي ورد في الحديث
" الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتأتي الزكاة وتصوم٣ رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " لأن هذه عبارة عن الإذعان الكلي بجميع القوى والجوارح في كل الأحوال والأوقات وهو الإسلام الذي أمر به إبراهيم عليه السلام ﴿ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾ ويؤكد ذلك قوله ﴿ لله ﴾ أي خالصا.. وزاد التأكيد بقوله ﴿ وهو محسن ﴾ ومعنى الإحسان هو الذي في الحديث :" الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".. والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو عمل الحق.. وأما النية فهي انبعاث النفس وميلها إلى سلوك طريق الحق في كل فعل فاجتهد لتصيير ذلك ملكة لنفسك- ٤
٢ سورة الليل من الآية ٢٠..
٣ هذه العبارة سقطت فلم تدون في النسخة المطبوعة على هامش جامع البيان..
٤ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان.
﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ﴾ استفهام يراد به النفي فكأن المعنى لا أحد أشد ظلما من الذي يمنع الناس من مساجد الله وإتيانها والعكوف فيها كراهية أن يذكر فيها اسم الواحد المعبود الملك الحميد المجيد وسعي في خراب المساجد بانقطاع الذكر أو تخريب البنيان ( قيل أن قوله ﴿ ومن أظلم ﴾ الذي هو في قوة : ليس أحد أظلم ليس على عمومه لأن الشرك أعظم من هذا الفعل ﴿ .. إن الشرك لظلم عظيم ﴾١ وكذا الزنا وقتل النفس ؛ قلت أما استعمال لفظ الظلم في هذا المعنى ففي غاية الحسن لأن المسجد موضوع لذكر الله تعالى فيه لأن المانع من ذلك واضع للشيء في غير موضعه وأما أنه لا أظلم منه فلأنه إن كان مشركا فقد جمع مع شركه هذه الخصلة الشنعاء فلا أظلم منه وإن كان يدعي الإسلام ففعله مناقض لقوله لأن من اعتقد أن له معبودا عرف وجوب عبادته له عقلا أو شرعا، والعبادة تستدعي معبدا لا محالة فتخريب المتعبد ينبئ عن إنكار العبادة وإنكار العبادة يستدعي إنكار المعبود فهذا الشخص لا يكون في الحقيقة مسلما وإنما هو منخرط في سلك أهل النفاق، والمنافق كافر أسوأ حال من الكافر الأصلي باتفاق ). ٢
﴿ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ﴾ هؤلاء الذين سعوا في خرائب المساجد ليس لهم أن يدخلوها وهذا إن كان خبرا إلا أنه قد يراد به الأمر أي جاهدوهم واستأصلوهم حتى لا يدخل أحد منهم مساجد الله أو المسجد الحرام ﴿ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ وكل ساع في تخريب بيوت الله يناله الذل والصغار في الدنيا ويحل عليه في الآخرة عذاب شديد مقيم.
٢ ما بين العلامتين ( ) من تفسير غرائب القرآن..
﴿ المغرب ﴾ ناحية غروبها. ﴿ فأينما ﴾ ففي أي مكان كنتم وحيثما توجهتم
﴿ فثم ﴾ فهناك. ﴿ واسع ﴾ يسع خلقه بالعطاء والإفضال.
﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ﴾ لربنا الواحد المعبود بحق ملك جهة الشروق وجهة الغروب ما بينها من الجهات والمخلوقات ؛ عن مجاهد حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة، وعن ابن عباس قال : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى الله عليم وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم وكان يدعو وينظر إلى السماء فأنزل الله ﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ إلى قوله ﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾... قال : قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا ؛ روى مسلم في صحيحه عن بن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية ﴿ فأينما تولوا١ فثم وجه الله ﴾ فهو إذا تيسير على المصلي تطوعا في السفر يصلي حيث توجه من شرق أو من غرب ﴿ إن الله واسع ﴾ يسع الخلق يسع الخلق جميعا بما يكفي ويغني ويقني ﴿ عليم ﴾ محيط علمه بكل الخلق وما يؤتون وما يذرون.
﴿ بديع ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هو بديع السماوات والأرض عم أولا لأن الملكية والاختصاص لا يستلزم كون المالك موجودا للملوك ثم خص ثانيا فقال ﴿ بديع ﴾.. أبدعته : اخترعته. ثم إنه تعالى بين كيفية إبداعه فقال :﴿ فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ أصل التركيب من ق ض ى يدل على القطع.. وقضى أمرا حكم بأنه يفعله١- ( ﴿ كن ﴾... هي المراد بقوله عليه السلام ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )... فإذا قال لكل أمر ﴿ كن ﴾ ولكل شيء كن ) فهن كلمات.... وإذا قيل [ تامة ] لأن أقل الكلام عند أهل اللغة على ثلاثة أحرف... وإذا كان على حرفين فهو عندهم منقوص كيد ودم وفم... فهي من الآدميين من المنقوصات لأنها على حرفين ولأنها... ملفوظة بالأدوات ومن ربنا تبارك وتعالى تامة. لأنها بغير الأدوات، تعالى عن شبه المخلوقين... الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها قادرا مع تأخر المقدورات عالما مع تأخير المعلومات فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن. وكل ما يستند إلى الله تعالى من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل والمعنى الذي تقتضيه عبارة ﴿ كن ﴾ هو قديم قائم بالذات ) ٢.
٢ ما بين العلامتين( ) من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ آية ﴾ دلالة وعلامة. ﴿ تشابهت قلوبهم ﴾ في الإصرار على الكفر
﴿ يوقنون ﴾ يصدقون تصديقا لا شك معه.
﴿ وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ﴾ عن الربيع والسدي وقتادة ﴿ وقال الذين لا يعلمون ﴾ مشركوا العرب حكى القرآن قيلهم : هلا يكلمنا الله أي هلا يكلمنا بنبوة محمد أو يأتينا بعلامة تدل على أنه نبوته كما فصل قيلهم في آيات كريمات ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه... ﴾١﴿ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ﴾ مثل هذا التعنت سلكه قوم من قبلهم فقال أتباع موسى لموسى عليه السلام ﴿ .. لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة... ﴾٢ وقال الحواريون لعيسى عليه السلام ﴿ .... هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا... ﴾٣ ﴿ تشابهت قلوبهم ﴾ تشابهت قلوب مشركي العرب وقلوب من سبقوهم من المتعنتين في طلب العلامات وخوارق العادات الكثيرات من رسلهم عنادا ولجاجة ومراء. ﴿ قد بينا الآيات لقوم يوقنون ﴾ قد وضحنا العلامات الدالة على صدق رسلنا فيما بلغوا عنا وأظهرنا ذلك لقوم يريدون أن يصلوا إلى الحق واليقين فيصدقوا ولقد جاء من الأنباء ما يؤمن على مثله أهل الرشد من البشر أما من فسدت فطرته وعميت بصيرته فما تغني عنه النذر ﴿ .. وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا... ﴾٤ ﴿ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾٥.
٢ سورة البقرة من الآية ٥٥..
٣ سورة المائدة من الآية ١١٢-١١٣..
٤ سورة الأعراف من الآية ١٤٦..
٥ سورة يونس الآيتان ٩٦-٩٧..
﴿ بشيرا ﴾ تخبر المؤمنون بما يسرهم فيرى أثر الاستبشار على وجوههم.
﴿ ونذيرا ﴾ تنذر وتحذر من كفر وفجر من سوء عاقبتهم.
﴿ ولا تسأل ﴾ ولا تؤاخذ.
﴿ عن أصحاب الجحيم ﴾ عن المعذبين في جهنم.
﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾ عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمر بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال أجل إنه والله لموصوف في التوراة بصفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسول سميتك المتوكل لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح الله به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ﴿ إنا أرسلناك بالحق ﴾ بالدين الذي لا أقبل سواه وبالقرآن الذي جعلته مصدقا لما سبق من كتبي ومهيمنا على التوراة والإنجيل. ﴿ بشيرا ﴾ تبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ﴿ ونذيرا ﴾ تنذر من فجر وكفر شقوة وخزيا وجحيما وسعيرا ﴿ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾ لن نسألك عن ضلال من ضل ما عليك من حسابه من شيء إنما عليك البلاغ وقد بلغت وأما من افترى علي الكذب وكذب بالصدق إذ جاءه فسوف يدعوا ثبورا ويقول ﴿ ... يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عنها مالية هلك عني سلطانية ﴾١.
.
يبين الخبير والبصير إصرار المبطلين على باطلهم وكيف زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا وأنهم يسخطون على كل ما ليس على شاكلتهم شأنهم في ذلك شأن الكفار الفجار وقد حكى القرآن الحكيم قيلهم ﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا... ﴾١ والملة الدين والسنة والطريقة – فيه إقناط لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم وأن القوم قد بلغوا من التصميم إلى حد أنهم لا يقنعون بالكفاف ولا يرضون رأسا برأس بل يريدون منك عكس ما تطمع منهم زاعمين أن ملتهم التي حان نسخها هي الهدى٢ ( وليس غرضهم يا محمد مما يقترحون من الآيات ما يؤمنوا بل لو آتيتهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الإسلام واتباعهم... تمسك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداوود وأحمد بن حنبل على أن الكفر ملة واحدة... وذهب أحمد ومالك في الرواية الأخرى إلى أن الكافر ملل فلا يرث اليهودي النصراني ولا يرثان المجوسي أخذا بظاهر قوله عليه السلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) وأما قوله تعالى ﴿ ملتهم ﴾ فالمراد به الكثرة وإن كانت موحدة في القول واللفظ... كما تقول أخذت عن علماء المدينة –مثلا- علمهم.. يعني علومهم )٣ ﴿ قل إن هدى الله هو الهدى ﴾ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر ويقرر أن بيان الله هو بيان القاطع والقضاء الفاصل بين الراشد والغاوي وأن دين الإسلام هو الحق وليس من بعده إلا الضلال فقد نسخ الأديان كلها ؛ فأنا أدعوكم إلى وحي كله هدى وأنتم تدعون إلى هوى وردى ؛ ﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ﴾ ذهب صاحب روح المعاني إلى أن حاصل المعنى متابعة أهوائهم محال لأنه خلاف ما علم صحته فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي ولا نصير يدفع عنه العذاب ا ه. والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم أو المراد أمته٤ والأهواء مشتهياتهم وآرائهم الباطلة الناسخة.
٢ ما بين العارضتين مما أورد النيسابورى..
٣ ما بين العلامتين ( ) من الجامع لأحكام القرآن..
٤ يقول النيسابوري ما حاصله: فيه زجر شديد لأمته لأنهم إذا علموا مآل حال النبي صلى الله عليه وسلم لو فرض منه اتباع أهوائهم مع ما ورد في حقه (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر...) لم يبق لهم طمع في الخلاص لو وجد منهم ذلك..
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ﴾ الذين من الله تعالى عليهم وأحسن إليهم وشرفهم فاختارهم ليكونوا أهل تعلم ما أنزل من كتاب وأهل تعليم لما فيه حق ورشد- وكله حق ورشد – هؤلاء يقرؤونه ويتدبرونه ويتبعونه إذ هم به مصدقون وبالهداية والسعادة التي جاء بها مستيقنون. ﴿ الكتاب ﴾ إما أن يكون مراد به الكتب المنزلة من عند الله تعم التوراة والإنجيل والقرآن وإما أن تكون أل في ﴿ الكتاب ﴾ للعهد والكتاب المعهود هو القرآن فيكون ﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾ هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا فسر قتادة وقال بن زيد هم من أسلم من بني إسرائيل. والكتاب على هذا التأويل التوراة ؛ والآية تعم -ثم التلاوة قد يكون مراد بها الاتباع كالذي في قول الله تعالى ﴿ والقمر إذا تلاها ﴾ ١ وقد يراد به القراءة مع تدبر يلين منه القلب ويستقيم به النهج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها. وقد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا مر بآية رحمة سأل وإذا مر بآية عذاب تعوذ ؛ وقال الحسن هم الذين يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه-٢ [ وقوله :
﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ خبر أي من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته آمن بما أرسلتك يا محمد كما قال تعالى :
﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.. ﴾. ٣ وقال :﴿ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم... ﴾٤ أي إذا أقمتموها حق الإقامة وآمنتم بها حق الإيمان وصدقتم ما فيه من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة... ]٥
ورى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ". فالضمير في " به " على هذا التأويل عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم و﴿ ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ﴾ قال ابن زيد٦ من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون.
٢ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن..
٣ سورة المائدة من الآية ٦٦..
٤ سورة المائدة من الآية ٦٨..
٥ ما بين العلامتين ( ) من الجامع لأحكام القرآن العظيم..
٦ ولعل ما يشهد لرجحان هذا الرأي أن السياق الذي يقتضيه إذ الآيات المحكمات السابقات على هذه واللاحقات لها تبين أحوال اليهود خاصة فصرف الكلام إلى ما يقتضيه السياق يرجح أن يكون المراد بالكتاب التوراة وإيمانهم: تصديقهم بما أوحي في التوراة وما أوحي إليك يا محمد في القرآن فقد أنزل على موسى عليه السلام البشرى بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٢:﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ﴾ الآيتان السابعة والأربعون والثامنة والأربعون من هذه السورة المباركة بينتا هذه المعاني فهاتان إذا تكرير تذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم ليكون النصح بليغا مؤكدا ؛ ومعلوم –كما قدمنا- أن بني إسرائيل هم كل من تناسل من نبي الله يعقوب عليه السلام إذ هو يعقوب وإسرائيل وأورد صاحب روح المعاني قيل إن ما سبق١ كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة وما هنا لتذكير -نعمة بها فضلهم على العالمين- وهي نعمة الإيمان بنبي زمانهم وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا بها ويكونوا من الفاضلين -لا المفضولين- وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها- كما اتقوا بمتابعة موسى عليه السلام.
﴿ فأتمهن ﴾ قام بهن ووفاهن. ﴿ إماما ﴾ قدوة.
﴿ عهدي ﴾ الإمامة أو النبوة.
﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ﴾ في متعلق ﴿ إذ ﴾ احتمالات... والمشهور تعلقها بمضمر مقدم تقديره اذكر أو اذكروا وقت كذا والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة والجامع الاتحاد في المقصد من تذكيرهم وتخويفهم -تحريضهم عل قبول دينه صلى الله عليه وسلم واتباع الحق وترك التعصب وحب الرياسة وكذلك المقصد من قصة إبراهيم عليه السلام وشرح أحواله : الدعوة إلى ملة الإسلام وترك التعصب في الدين وذلك لأنه إذا علم أنه نال –الإمامة- بالانقياد لحكمته تعالى... وأن نبينا عليه السلام من دعوته ودعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام كان الواجب على من يعترف بفضله وأنه من أولاده ويزعم اتباع ملته ويباهي أنه من ساكن حرمه وحامي بيته أن يكون حاله مثل ذلك. ا ه
﴿ ابتلى ﴾ اختبر وامتحن ﴿ إبراهيم ﴾ وقع عليه الاختبار والفاعل ﴿ ربه ﴾ وهذا من تقديم المفعول في الكلام على الفاعل فكأن المعنى عامل الله تعالى عبده ونبيه وخليله إبراهيم عليه السلام معاملة المبتلي المختبر وعهد إليه بتكاليف ﴿ فأتمهن ﴾ أتى بهن على الوجه الأتم وأداهن بإحسان وإتقان. عن ابن عباس قال : ما ابتلى أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم ابتلي بالإسلام فأتمه وكتب الله له البراءة فقال ﴿ وإبراهيم الذي وفي ﴾١ فذكر عشرا في براءة٢ فقال ﴿ التائبون العابدون الحامدون... ﴾ إلى آخر الآيات٣ وعشرا في الأحزاب ﴿ إن المسلمين والمسلمات... ﴾٤ وفي سورة المؤمنين إلى قوله ﴿ والذين هم على صلواتهم يحافظون ﴾٥ وعشرا في سأل سائل٦ وعن مجاهد قال ابتلي بالآيات التي بعدها ﴿ قال إني جاعلك للناس إماما ﴾ وقوله ﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ﴾
وعن الربيع ما حصله فالكلمات ﴿ إني جاعلك للناس إماما ﴾ وقوله ﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ﴾ وقوله ﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ وقوله ﴿ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل... ﴾ الآية وقوله ﴿ إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت... ﴾ الآية قال فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم٧ ١ه. ﴿ قال إني جاعلك للناس إماما ﴾ قال الله جل علاه مخاطبا إبراهيم نبي الله وخليل الله : إني مصيرك للناس قدوة ورسولا فأهل الإيمان من العالمين إلى يوم الدين يأتمون بك والرسل الذين أرسلهم من بعدك يستنون بسنتك التي تعمل بها بأمري ووحيي ولقد عهد الله تعالى إلينا نحن الأمة الخاتمة أن ننهج نهجه عليه السلام ﴿ ... ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا... ﴾٨ ووصانا أن نتخذ من غيرته على أمانات ربنا الملك القدوس أسوة فقال جل علاه ﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده.. ﴾٩. ﴿ قال ومن ذريتي ﴾ عن الربيع قال إبراهيم ومن ذريتي يقول اجعل من ذريتي من يؤتم به ويقتدى به ﴿ قال لا ينال عهدي الظالمين ﴾ عن مجاهد لا أجعل إماما ظالما يقتدى به وعن قتادة ﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ ذلكم عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالم يعني لا يؤمنه من عذابه فأما في الدنيا فقد نالوا عهد الله فوارثوا به المسلمون وعاملوهم وناكحوهم به فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه.
٢ سورة براءة وهي سورة التوبة..
٣ هكذا أوردها بن جرير ولعلها الآية وتمامها: ﴿التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنون﴾ رقم ١١٢..
٤ وتمامها ﴿إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهن والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما﴾ رقم ٣٥..
٥ وتمامها ﴿قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون﴾ الآيتان من ١ إلى ٩..
٦ وهي سورة المعارج من الآية ٢٢ إلى الآية ٣٥﴿إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقوا بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون﴾..
٧ أقول ولعل السياق يشير إلى رجحان هذا الرأي والإمام بن جرير رحمه الله يقول فقير جائز لأحد أن يقول عن الله بالكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء ولا عنى به كل ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو إجماع من الحجة ولم يصح في شئ من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته... ا ه.
.
٨ سورة الحج من الآية ٧٨..
٩ سورة الممتحنة من الآية ٤..
﴿ مصلى ﴾ تصلون عنده.
﴿ عهدنا ﴾ أوحينا وأمرنا. ﴿ طهرا بيتي ﴾ من الأوثان والرفت
﴿ العاكفين ﴾ المعتكفين المقيمين. ﴿ الركع السجود ﴾ المصلين
﴿ مثابة ﴾ مجمعا ومرجعا.
﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ﴾ واذكر إذ جعلنا الكعبة البيت الحرام المسجد العتيق مرجعا للناس يأتونه المرة بعد المرة ثم لا يقضون منه وطرا يتمنون العودة والرجوع إليه. ﴿ وأمنا ﴾ ملجأ ومعادا والمراد موضع أمن، إما لسكانه من الخطف أو لحجاجه من العذاب... ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل اكتفاء به أو إشارة إلى العموم ؛ أي : إنه أمن لكل شيء كائنا ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا ﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ عطف على ﴿ جعلنا ﴾ أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا لهم أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر... و﴿ من ﴾ إما للتبعيض أو بمعنى في... والأظهر الأول، والمقام مفعل من القيام يراد به المكان، أي : مكان قيامه، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت... ﴿ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ﴾ أي : وصينا، أو أمرنا، .... ﴿ أن طهرا بيتي ﴾ أي : بأن ﴿ طهر ﴾ على أن ﴿ أن ﴾ مصدرية... والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق، فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع شرعا كالحائض ؛... ﴿ للطائفين ﴾ أي لأجلهم فاللام تعليلية، ... والطائف : اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله، ... وقال ابن جبير : المراد : الغرباء الوافدون مكة حجاجا وزوارا ؛ ﴿ والعاكفين ﴾ وهم أهل البلد الحرام المقيمون..... وقيل هم المعتكفون فيه ﴿ والركع السجود ﴾ وهم المصلون، جمع راكع وساجد وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى...
﴿ وإذا قال إبراهيم رب اجعل هذا بلد آمنا ﴾... أي اجعل هذا المكان القفر بلدا... فالمدعو به البلدية مع الأمن، ... ﴿ وارزق أهله من الثمرات ﴾ أي من أنواعها، بأن تجعل قريبا منه قرى يحصل فيها ذلك، أو تجئ إليه من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلاهما١_ ﴿ من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ﴾ _ أي : ارزق من آمن من أهله دون من كفر ؛ وقوله
﴿ ومن كفر ﴾ الظاهر أن هذا كلام الله سبحانه ردا على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم، أي : وأرزق من كفر فأمتعه بالرزق قليلا.. ويحتمل أن يكون كلاما مستقلا بيانا لحال من كفر، ... ومعنى ﴿ أضطره ﴾ ألزمه حتى أصير مضطرا لذلك لا يجد عنه مخلصا، ولا منه متحولا٢- [ والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى، وبذلك يحصل الجمع بين الآيات، وأن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به وقوعا محققا حتى كأنه مربوط به ؛... ﴿ وبئس المصير ﴾ المخصوص محذوف لفهم المعنى، أي وبئس المصير النار ]٣.
٢ ما بين العارضتين من فتح القدير لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني..
٣ ما بين العلامتين [] من روح المعاني للسيد محمود الألوسي البغدادي..
﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴾ لكأن المعني : واذكر وقت رفع إبراهيم البيت أساس البيت الحرام١ أول بيت وضع للناس، بناه وأعلى بناءه معه ولد إسماعيل عليهما السلام ويمكن أن يكون هذا القول الكريم قد عطف قول المولى سبحانه ﴿ وإذ قال إبراهيم ﴾ وجاء بصيغة المضارع مع أن الرفع قد مضى استحضارا لهذا الأمر [ ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه ]٢ ؛ -ورفع القواعد ورفع ما هو مبنى فوقها _ ورفع القواعد صريح فيما ذهب إليه الأكثرون من أن القواعد كانت موجودة وأن إبراهيم عمرها ورفعها، ..... وإنما لم يقل : قواعد البيت ليكون الكلام مبنيا على تبيين بعد إبهام، ففيه تفخيم لشأن االمبين-٣ ؛ ومما أورد صاحب جامع البيان : وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدام فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة، وجائز أن يكون ذلك أن القبة التي ذكرها عطاء مما أنشأه الله من زبد الماء، وجائز أن يكون ياقوتة أو درة أهبطها من السماء، وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي، لان حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن رسوله بالنقل المستفيض، ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها، ولا هو إذ لم يكن به خبر على ما وصفنا مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد.... اه. ﴿ ربا تقبل منا ﴾ وإبراهيم وإسماعيل إذ يبنيان البيت يقولان : يا ربنا تقبل عملنا هذا الذي نعمل طاعة لأمرك، ووفاء بعهدك ؛ [ وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبا، وإلا لم يطلب ]٤ _... وقبول الله عمل العبد عبارة عن كون العمل بحيث يرضاه الله تعالى أو يثيب عليه... شبه الفعل من العبد بالهدية، وإثابة الله تعالى عليه ورضاه بالقبول ٥_ ﴿ إنك أنت السميع العليم ﴾ إنك يا مولانا _ أنت السميع العليم دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه.
﴿ العليم ﴾ بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة وما نبدي ونخفي من أعمالنا ٦_.
وأورد محمد بن إسحاق في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتم الخامسة والثلاثين من عمره اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هدمها... فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب خال والد النبي ابن عمر وابن عائذ وتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد ابن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب ابن لؤي وهو الحطيم... قال بن إسحق ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني الحجر الأسود فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تقاعدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت... فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة وكان عامئذ أسن قريش كلهم قال يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا.. هذا محمد فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿هلم إلي بثوب﴾ فأتي به فأخذ الركن يعني الحجر الأسود فوضعه بيده ثم قال ﴿لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب فارفعوه جميعا﴾ ففعلوا حتى بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بنى عليه وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إن ينزل عليه الوحي الأمين قال بن إسحق وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعا وكانت تكسى القباطي -ثياب إلى الدقة والرقة والبياض كتان تعمل بمصر. ومنه حديث عمر رضي الله عنه لا تلبسوا نسائكم القباطي فإنه إن لا يشف فإنه يصف -ثم كسيت بعد البرود- أثواب فيها خطوط تصنع من الصوف غالبا- وأول من كساها الحجاج بن يوسف، ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا بن الزبير فحينئذ نقضها بن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزل ذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان بذلك. لما قال مسلم عن عطاء كما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه بن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجبرهم على أهل الشام فلما صدر الناس قال يا أيها الناس أشيروا علي من في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهي منها قال بن عباس إنه قد خرق لي رأيي فيها أن تصلح ما وهي منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال بن الزبير لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي عنه حتى يجدده فكيف ببيت ربكم عز وجل؟ إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري، فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة فلما لم يره الناس أصابه بشئ تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض فجعل بن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه؛ وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى.
٢ ما بين العلامتين[] من روح المعاني..
٣ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان..
٤ ما بين العلامتين [] مما جاء في روح المعاني..
٥ ما بين العارضتين مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن..
٦ ما بين العارضتين من جامع البيان في تفسير القرآن للطبري..
﴿ أمة ﴾ جماعة. ﴿ أرنا ﴾ رؤية بصرية أي ؛ أو رؤية بصرية، أي بصرنا متعبداتنا.
﴿ مناسكنا ﴾ جميع أعمال حجنا، أو جميع عبادتنا، أو مذابحنا التي نتقرب إليها بتقديمها.
﴿ تب علينا ﴾ أصل التوبة : الأوبة والرجعة من مكروه إلى محبوب ؛ وتوبة الرب على عبده : عوده عليه بالصفح له عن ذنبه، مغفرة له منه، وتفضيلا عليه.
﴿ التواب ﴾ عظيم التفضل على عبادك بالعفو عنهم.
﴿ الرحيم ﴾ واسع الرحمة.
﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ﴾ قد يراد بالإسلام الاستسلام والانقياد، وقد يراد به إخلاص النفس والقصد ؛ والجعل : يأتى بمعنى الصنع والتصيير ؛ _ فإن أريد بالإسلام الدين والاعتقاد الطلب إلى الثبات والدوام، أي ثبتنا على ذلك ١_ ومما أورد صاحب جامع البيان يقول : وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ﴾ يعنيان بذلك : واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ولا في العبادة غيرك. اه، أما صاحب الجامع لأحكام القرآن فيقول : والإسلام في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعا ؛ ومنه قوله تعالى ﴿ إن الدين عند الله الإسلام... ﴾٢ ففي هذا دليل لمن قال : إن الإيمان والإسلام شيء واحد ؛ وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى :﴿ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ﴾٣. ا ه ؛ ﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ وهذه من دعوات إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كذلك، فهما يسألان الله القريب المجيب أن يصنع ويصير من ذريتهما طائفة تنقاد لمنهاج الدين المرتضى، وتستقيم على دينه الذي لا يقبل غيره وتستسلم للشرعة التي وصى بها _ وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة. كما قال الله تعالى :﴿ .. قوا أنفسكم وأهليكم نارا... ﴾٤ ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس، فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه :﴿ .. ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه... ﴾٥ أو من قوله عز شأنه :﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ باعتبار السياق أن في ذريتهما ظلمة، وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء. ولا كان من مكان من أملاك السماء ٦_ كان في الكلام حذفا والتقدير : واجعل من ذريتنا، ﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ دعا الرسولان الكريمان لأنفسيهما في أول الآية المباركة :﴿ ربنا اجعلنا مسلمين لك ﴾ ثم لذريتهما :﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ ثم لهما وللذرية :﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ والرؤية إما قلبية بصيرية، أي علمنا وإما بصرية ؛ والمناسك : قد تعني جميع العبادات أو جميع أعمال الحج، وقد تعني : المذابح التي يتقرب بها إلى المولى سبحانه : ف ﴿ أرنا ﴾ إن كان منقولا عن رؤية العلم فمعناه علمنا شرائع حجنا كيف هي ؟، إذ أمرتنا ببناء البيت لنحج وندعوا الناس إلى حجه ؛ وإن كان منقولا عن رؤية البصر _ وهو الأظهر _... فالمعنى : بصرنا متعبداتنا في الحج... وقيل : المراد العلم والرؤية معا لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا، وليس ببعيد، فإن اللفظ المشترك يصح إطلاقه على معنييه معا، وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز يصح إرادتهما معا من لفظ واحد، كالعقد والوطء من النكاح. غاية ما في الباب أن يكون هذا الإطلاق مجازا ]٧. ﴿ وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ﴾ أصل التوبة الأوبة والرجعة من مكروه إلى محبوب وتوبة الرب على عبده عوده عليه بالصفح له عن عقوبة ذنبه مغفرة له منه، وتفضيلا عليه
و﴿ التواب ﴾ عظيم التفضيل على العباد بالعفو عنهم ؛ ﴿ الرحيم ﴾ واسع الرحمة ؛ فكأنهما عليهما السلام يسألان الصفح عن ترك الأولى، أو نحو ذلك، [ التوبة منهما محمولة على ما عسى أن يكون فرط منهما من الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء ]٨.
٢ سورة آل عمران.. من الآية ١٩..
٣ سورة الذاريات الآيتان ٣٥.- ٣٦..
٤ سورة التحريم من الآية ٦..
٥ من سورة الصافات من الآية ١١٣..
٦ ما بين العارضتين من روح المعاني..
٧ ما بين العلامتين [] مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان..
٨ ما بين العلامتين [] مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان..
﴿ يتلو ﴾ يقرأ، يتبع، يتابع. ﴿ آياتك ﴾ جمع آية قيل سميت كذلك لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام ؛ أو لأن الآية من القرآن كالعلامة التي يفضي منها غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية. ﴿ الكتاب ﴾ القرآن.
﴿ الحكمة ﴾ السنة، وقد تعني الإصابة في القول والعمل جميعا.
{ يزكيهم { يطهرهم، برفع قدرهم.
﴿ العزيز ﴾ الذي لا ند له ولا مثيل، والذي يغلب ولا يغلب.
﴿ الحكيم ﴾ الذي لا يفوته الصواب _ والحكمة : وضع الشيء في موضعه_ أو : الحاكم، أو المانع من أراد أن يلم بسوء، أو يناله خسارة.
﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ هذا التضرع إلى الله الحميد المجيد من أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، وابنه الصديق إسماعيل، عليهما صلوات ربنا وسلامه دعوة للأمة الخاتمة : أن تتم عليها النعمة ببعثه النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد استجاب الله القريب المجيب فأرسل فينا مبعوثه ومصطفاه يرشد ويبصر ويهدي بوحي الله للتي هي أقوم، ويعلمنا المنهاج الأعز الأكرم، فعظمت بذلك المنة ﴿ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾١ وإنها لمن آيات ربنا الكبرى أن يجمع برسوله الأمة من شتات، ويحييها برشده من موات :﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾٢. وبهذا عظمت منته عز وتبارك :﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾٣ -﴿ ربنا وابعث فيهم ﴾ أي أرسل في الأمة المسلمة وقيل : في الذرية.... ﴿ رسولا منهم ﴾ أي من أنفسهم، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به وأشرف... ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لا من ذريتهما٤ _ وقد جاء في الأثر ما شهد لهذا٥ ؛ والمفسرون مجمعون على أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المراد، وإجماعهم حجة ؛ وكانت طلبة إبراهيم عليه السلام أن يرسل النبي المرتجى يقرأ على الأمة آيات٦ الله ويتابع تذكيرها بآلاء المنعم وبرهان جلاله، بما يشاهدون من بديع صنعه وسابغ أفضاله ؛ ﴿ ويعلمهم الكتاب ﴾ يبين لهم معاني القرآن المجيد _ وذلك أن التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا من التحريف، ولأن لفظه ونظمه معجز، وفي تلاوته نوع عبادة ولا سيما في الصلوات، إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام٧ _ ﴿ والحكمة ﴾ الإصابة في القول والعمل جميعا، فلا يسمى حكيما إلا وقد اجتمع فيه الأمران، فيضع كل شيء موضعه ؛ أوالمراد بها السنة ؛ وعن ابن وهب : قلت لمالك : ما الحكمة ؟ قال : معرفة الدين والفقه فيه، والاتباع له ؛ وعن قتادة _ وإليه ذهب الشافعي _ هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقيل : هي الفصل بين الحق والباطل ؛ ﴿ ويزكيهم ﴾ يطهرهم، وينميهم، ويصلحهم ٨ ﴿ إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ -أي الغالب المحكم لما يريد٩، وعن ابن جرير أنك يا رب أنت العزيز القوي الذي لا يعجزه شيء أراده فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك والحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك ا ه.
٢ من سورة الجمعة الآية ٢..
٣ من سورة آل عمران. الآية ١٦٤..
٤ ما بين العارضتين من روح المعاني..
٥ روى الإمام وغيره من العرباض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ﴿سأخبركم بأول أمري أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني﴾ ولما كان إسماعيل عليه السلام شريكا في الدعوة مع أبيه إبراهيم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة إسماعيل أيضا إلا أنه خص إبراهيم لأنه أصل لهما وأصل في الدعاء فأما البشارة فهي التي أتت في الذكر الحكيم ﴿وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد...﴾ من سورة الصف من الآية ٦. وأما الرؤية فما رأت أمه منه وهي حامل أنه خرج منها نور أضاء ما بين المشرق والمغرب..
٦ الآيات جمع آية وأصلها بمعنى العلامة قيل سميت الجملة من الكتاب العزيز كذلك لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام أو لأن الآية من القرآن كالعلامة التي يفضي منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية..
٧ ما بين العارضتين مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن..
٨ ومنه قوله تعالى ﴿فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة...﴾ أي عملا صالحا وقوله سبحانه ﴿وحنانا من لدنا وزكاة...﴾أي عملا صالحا..
٩ ما بين العارضتين من روح المعاني..
﴿ يرغب ﴾ يرغب في الشيء : يريد ؛ ويرغب عنه : يتركه متعمدا زاهدا فيه لا يريده ؛ أو يرى لنفسه عليه فضلا.
﴿ سفه نفسه ﴾ حملها على الجهالة، أو أهلكها وأوبقها، أو نسي نفسه ولم يفكر فيها، وخسرها جهلا ؛ أو صار سفيها ؛ والسفه : الخفة والطيش والحمق ؛ وتسفه فلانا عن ماله : إذا خدعه عنه.
﴿ اصطفيناه ﴾ اخترناه واستخلصناه واجتبيناه للصفوة.
﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ وأي الناس يترك شريعة إبراهيم ودينه وطريقته ويزهد فيها لا يريدها إلا الذي حمل نفسه على الجهالة والضلالة وأهلكها وأوبقاها أو نسيها ولم يفكر فيها وخسرها جهلا وصار سفيها والسفه الخفة والطيش والحمق والعرب تقول تسفه فلان عن ماله إذا خدعه عنه والاستفهام لتقرير النفي أي ما يرغب أحد عن سنة إبراهيم وملته الحنيفية إلا سفيه خاسر [ وفيه توبيخ لليهود والنصارى ومشركي العرب وتعجيب من حالهم فإن أعظم مفاخرهم وفضائلهم الانتماء إلى إبراهيم ثم إنهم لا يؤمنون بالرسول الذي هو دعوته ومطلوبه بالتضرع والإخلاص. فإن قيل ملة إبراهيم عين ملة محمد في الأصول والفروع أو هما متحدتان في الأصول كالتوحيد والنبوة وأصول مكارم الأخلاق ولكنهما مختلفان في فروع الأعمال ولا سبيل إلى الأول وإلا لم يكن شرع محمد صلى الله عليه وسلم ناسخا لسائر الشرائع، ولا إلى الثاني لأنه يلزم أن يكون محمد أيضا راغبا عن ملة إبراهيم ولأن الاعتراف بالأصول لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قلنا : المختار اتحاد الملتين في الأصول فقط، لكن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأصول التي مهدها إبراهيم عليه السلام والمراد بملة إبراهيم في الآية أصولها التي لا تختلف بمر الأعصار وكر الدهور فلا يلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم راغبا عنها لأنه أمر باتباعها ﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا... ﴾١ ] ٢. ﴿ ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾٣.
الدين الذي بعث به إبراهيم دين سمح مرتضى لا يزيغ عنه إلا هالك ومن بعثه الله الحكيم بذلك المنهاج القويم رسول كريم اجتباه ربنا واختاره واصطفاه يوم القيامة ينال من النعيم أعلاه.
٢ ما بين العلامتين مما جاء في تفسير غرائب القرآن..
٣ قيل كيف جاز تقديم ﴿في الآخرة﴾ وهو داخل في الصلة قال نحاس فالجواب أنه ليس التقدير أنه لمن الصالحين في الآخرة فتكون الصلة قد تقدمت ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة ثم حذف وقيل ﴿في الآخرة﴾ متعلق بمصدر محذوف أي صلاحه في الآخرة... وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن الصالحين فالكلام على حذف مضاف وقال الحسين بن الفضل في الكلام تقدير وتأخير مجازه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. ا ه..
﴿ أسلمت ﴾ انقدت وخضعت.
﴿ إذ١ قال له ربه أسلم٢ قال أسلمت لرب العالمين ﴾ لعل هذه الآية المباركة كالسبب لما قبلها أو كشاهد على ما ذكر من أنه لا يرغب عن ملته إلا من خسر نفسه ولقد شهد ربنا جل وعز وكفى به شهيدا أن خليله عليه السلام خاصم أباه وقومه في ذات الله... ﴿ قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾٣، ﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ﴾٤، وعهد إلينا الكتاب الحق أن نتخذ منه عليه السلام وممن اتبعه قدوة ﴿ لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده... ﴾٥، و﴿ إذ قال له ربه ﴾ -من باب الالتفات ولولا ذلك لكان حقه أن يقال : إذ قلنا له والأكثرون على أنه تعالى قال له ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارة الحدوث فيها فلما عرف ربه قال له أسلم فإنه لا يجوز له أن يقول له قبل... ولا يكون المراد منه نفس القول بل دلالة الدليل عليه كقولهم نطق الحال قال تعالى ﴿ أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ﴾٦، فجعل دلالة الكلام برهانا، ويحتمل أن يكون هذا بعد النبوة والمراد استقامته على الإسلام وثباته عليه كقوله ﴿ فاستقم كما أمرت... ﴾٧ - ٨.
٢ كما أورد رحمه الله فإن قال لنا قائل وهل دعا إبراهيم إلى الإسلام قيل نعم قد دعاه إليه فإن قال في أي حال دعاه إليه قيل حين قال ﴿.. يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين﴾ ذلك هو الوقت الذي قال له ربه أسلم من بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس..
٣ من سورة الأنعام من الآية ٧٨ والآية ٧٩..
٤ من سورة الزخرف الآيتان ٢٦-٢٧..
٥ سورة الممتحنة من الآية ٤..
٦ سورة الروم الآية ٣٥..
٧ سورة هود الآية ١١٢..
٨ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن..
﴿ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ عهد إبراهيم إلى بنيه عهدا بعد عهد وكذا عهد يعقوب إلى أبنائه أن يا أبنائي إن الله اصطفى لكم واختار هذه الملة ملة الإسلام وارتضاها فاثبتوا على مقتضاها حتى تخرجوا من الدنيا وأنتم على سنتها وهداها تستمسكون بأمانتها غير مفرطين ولا مبدلين ويعقوب هو ابن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام فيعقوب نافلة إبراهيم -ابن ابنه- وقد اقتدى بجده في توصية أبنائه بالتزام الإسلام حتى يفارقوا الدنيا والله عنهم راض مما أورد صاحب روح المعاني ﴿ ووصى بها إبراهيم بنيه ﴾ مدح له عليه السلام بتكميله غيره إثر مدحه بكماله في نفسه وفي توكيد لوجود الرغبة في ملته والتوصية والتقدم إلى الغير بفعل صلاح وقربة سواء كان حالة الاحتضار أولا، وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة الاحتضار. ا ه. وهكذا بين الكتاب المجيد أن الذين هدى الله وأمر أن نقتدي بهم تواصوا بالحق وعهدوا إلى أهليهم بالثبات على الرشد فلتكن لنا فيهم الأسوة الحسنة.
﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون ﴾ ﴿ أم ﴾ قد تكون للاستفهام دخلت على أم التي للإضراب بمعنى بل وقد تكون للاستفهام كما تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه وقد جاء في الكتاب العزيز ﴿ آلم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه... ﴾١ ؛ -وقيل الخطاب للمؤمنين ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول والأخذ فيما هو الأهم وهو التحريض على اتباعه صلى الله عليه وسلم بإثبات بعض معجزاته وهو الإخبار عن أحوال الأنبياء السابقين من غير سماع من أحد ولا قراءة من كتاب، كأنه تعالى بعد ذكر ما تقدم التفت إلى مؤمني الأمة أما شهدتم ما جرى ؟ وأما علمتهم ذلك بالوحي وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم فعليكم باتباعه... -٢ ؛ وقيل الاستفهام هنا للإلزام والتبكيت وتوبيخ اليهود على ادعائهم يهودية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام [ وتأويل الكلام أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم الجاحدين نبوته حضور يعقوب وشهوده إذ حضره الموت أي إنكم لم تحضروا ذلك فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل وتنحلوهم اليهودية والنصرانية فإني ابتعثت خليلي إبراهيم وولده إسحق وإسماعيل وذريتهم بالحنفية المسلمة وبذلك وصوا بنيهم وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم فلو حضرتموهم فسمعتم منهم علمتم أنهم على غير ما تنحلوهم من الأديان والملل من بعدهم ]٣. و﴿ شهداء ﴾ جمع شاهد بمعنى حاضر ﴿ إذ حضر يعقوب الموت ﴾ العامل في ﴿ إذ ﴾ ٤ معنى الشهادة وحضور الموت أي : مجيء أسبابه وحلول مقدماته – وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا وعبر عن المعبود ب ﴿ ما ﴾ ولم يقل من لأنه أراد أن يختبرهم.. ﴿ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق ﴾ في موضع خفض على البدل ولم تنصرف لأنها أعجمية... وسمى الله كل واحد من العم والجد أبا٥ – ﴿ إلها واحدا ﴾ بدلا من ﴿ إلهك وإله آبائك ﴾والنكرة تبدل من المعرفة ما دامت قد وصفت يقول المفسرون وفائدة الإبدال دفع توهم التعدد الناشئ من ذكر الإله مرتين أو نصب على المدح ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي داخلون في الإسلام ثابتون عليه أو مذعنون مقرون بالعبودية.
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني..
٣ ما بين العلامتين مما أورد صاحب جامع البيان في تفسير القرآن.
٤ هذه ﴿إذ﴾ الأولى والثانية ﴿إذ قال﴾ وهي بدل من الأولى..
٥ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي..
﴿ خلت ﴾ مضت. ﴿ كسبت ﴾ عملت، وسعت وطلبت، وأصابت.
﴿ تلك أمة قد خلت ﴾ جماعة إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وبنيه قد مضوا وذهبوا وتركوا هذه الدنيا وهؤلاء السلف الصالحون لا ينفعكم انتسابكم إليهم دون عمل صالح تقدمونه أنتم فقد جاء فيما روى مسلم في صحيحه :( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) ﴿ لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾ للأمة الصالحة إبراهيم وأولاده ونافلته ثواب ما قدموا من خير وبر ورشد ولكم أنتم أجر ما تجترحون ﴿ .. ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾١ لا يؤاخذ أحد بذنب أحد ؛ مما يقول صاحب الجامع لأحكام القرآن : وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرا فبعدله وهذا مذهب أهل السنة، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة فالعبد مكتسب لأفعاله على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل، ... وذلك التمكن هو مناط التكليف. ا ه.
﴿ أو ﴾ للتنويع وليست للتخيير
﴿ نصارى ﴾ أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام
﴿ تهتدوا ﴾ تصيبوا الحق وتدركوا البر والرشد
﴿ حنيفا ﴾ مستقيما ومنعطفا نحو القسط والعدل والرحمة
وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به صيروا إلى الديانة اليهودية كي تصيب الحق وتدركوا الرشد وقالت النصارى للنبي الخاتم – عليه صلوات الله وسلامه- ولأتباعه ليس الهدى إلا في اتباع ملة النصرانية فأمر المولى سبحانه نبيه أن يقول لهؤلاء وهؤلاء لن نتبع ما دعوتمونا إليه بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم فإنها الملة المستقيمة والمبعوث بها مال عن كل دين باطل والتزم التوحيد وتبرأ من كل شرك ومن كل مشرك والضمير في ﴿ قالوا ﴾ يعود على اليهود والنصارى وإن لم يذكروا قريبا لإمكان العلم بهما من السياق و﴿ أو ﴾ للتنويع وليست للتخيير إذ اليهود والنصارى وكل فريق منهم يكفر الفريق الآخر وقد شهد كتاب الله الحق بذلك ﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء... ﴾١ و﴿ ملة إبراهيم ﴾ ربما تكون منصوبة بفعل محذوف والتقدير بل نتبع ملة إبراهيم و﴿ حنيفا ﴾ منصوبة على الحال من مضاف إليه ﴿ إبراهيم ﴾ والمقصود التعريض بأهل الكتاب والعرب الذين يدعون اتباعه ويدينون بشرائع مخصوصة به من حج البيت والختان وغيرهما فإن في كل طائفة منهم شركاء فاليهود قالوا عزير بن الله قالوا والنصارى المسيح بن الله والعرب عبدوا الأصنام وقالوا الملائكة بنات الله –٢
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني..
﴿ أحد ﴾ لا يراد بها هنا الواحد الذي هو بداية العدد ولكن يراد بها الجماعة كما في قول المولى سبحانه ﴿ ... لستن كأحد من النساء ﴾
﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴾ أمر تعالى نبيه والمؤمنين أن يقروا ويصدقوا بالله وبوحيه إلى خاتم رسله وبوحيه إلى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وكذا بوحيه إلى إسماعيل وإسحق ويعقوب الذي هو إسرائيل وبالأسباط الذين هم الأنبياء من ولد يعقوب وبالذي أعطي موسى وعيسى من كلمات ربنا وكتبه وبالذي أعطي كل نبي من لدن ربنا الحكيم الخبير، نؤمن أن ذلك كله حق وهدى ونور ونصدق ونستيقن أن كل الأنبياء دعاة إلى الرشد والخير لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض ولا نتبرأ من بعضهم ونتولى بعضا بل نشهد أنهم حملة أمانات الحق جل ثناؤه ونحن لمولانا تباركت آلاؤه وتقدست أسماؤه خاضعون مطيعون ؛ وقدم اليقين بالله تعالى في القول الكريم ﴿ قولوا آمنا بالله ﴾ لأنه الأصل والتصديق به سبحانه يستتبع التصديق بالنبوات والرسالات ثم قدم القرآن المجيد – وإن كان في الترتيب النزولي مؤخرا عن غيره لكنه في الترتيب الإيماني مقدم عن غيره- لكونه مصدقا له ولذا قدمه... ﴿ وما أوتي النبيون من ربهم ﴾ وهي الكتب التي خصت من خصته منهم أو يشمل ذلك المعجزات وهو تعميم بعد التخصيص كيلا يخرج من الإيمان أحد الأنبياء.... و﴿ أحد ﴾... حيث وقع في سياق النفي عم، واستوى فيه الواحد والكثير وصح إرادة كل واحد منهما وقد أريد به هنا الجماعة... وهذا غير الأحد الذي هو أول العدد في قوله تعالى﴿ قل هو الله أحد ﴾١- ٢
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني..
﴿ فسيكفيكهم ﴾ فسيكفيك ومن معك كيدهم.
﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ﴾ عن ابن عباس قال أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى وأنه لا يقبل عملا إلا به ولا تحرم الجنة إلا على من تركه. اه. ﴿ بمثل ما آمنتم ﴾ وقع التمثيل ما بين الإيمانين لا بين المؤمن به ومما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن : ولما بين الطريق الواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة كل من قامت الدلالة على نبوته من غير مناقضته، رغبهم في مثل هذا الإيمان وههنا سؤال وهو أن دين الإسلام وهو الحق واحد فما معنى المثل في قوله ﴿ بمثل ما آمنتم به ﴾ ؟ والجواب أن قوله فإن آمنوا بكلمة الشك دليل على أن الأمر مبني على الفرض والتقدير أي فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم ومساويا له في الصحة والسداد فقد اهتدوا ولكن لا دين صحيحا سوى هذا لسلامته عن التناقض بخلاف غيره فلا اهتداء إلا بهذا ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي الصواب فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوفيقه على أن ما رأيت لا أرى وراءه... والتمثيل بين التصديق أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم... وفي الآية دليل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وهي الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عن وجودها. والاهتداء : قبولها والعمل بها ليفوزوا بالسعادة العظمى. ا ه. ﴿ وإن تولوا فإنما هم في شقاق ﴾ وإذا أعرض هؤلاء الذين يدعون إلى اليهودية والنصرانية وأدبروا عما نودوا إليه من الحق والرشد والدخول في الإسلام دين الله الذي ارتضاه ولم يرتض سواه إن كان منهم ذلك الصدود فلا تبتئسوا يا أهل الإيمان فإن أولئك الأعداء يخالفون ويعاندون والله يكتب ما يبيتون ويمكرون ﴿ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ﴾ وربنا الذي يسمع سرهم ونجواهم ويعلم ما أعدوا من صد عن الإسلام وهم بأهله سيرد كيدهم في نحورهم وكفى به وليا وكفى به نصيرا، يؤيد عباده على هؤلاء المبطلين وكان ذلك على الله يسيرا.
﴿ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ﴾ ﴿ صبغة ﴾ الأولى قد تكون منصوبة على الإغراء أي لزموا صبغة الله دينه ومناهجه وشرعته والاستفهام ب ﴿ من ﴾ قد يراد به النفي فكان المعنى ولا أحسن من صبغة الله صبغة فهي أحسن من كل صبغة ﴿ ونحن له عابدون ﴾ وإنا على الإذعان لربنا لمستقيمون وله مطيعون موحدون.
﴿ مخلصون ﴾ نبتغي بأقوالنا وأفعالنا وعباداتنا وسعينا وجهه سبحانه دون سواه.
﴿ قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ﴾ الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أمر أن ينكر هؤلاء المعرضين عن الحق المجادلين بالباطل أن يبطل مدعاهم أنهم أولى بالله من المسلمين كما ادعى اليهود والنصارى أنه لا حظ لمن عداهم في الفوز بنعيم الآخرة وإلى هذا يشير قول المولى تقدست أسماؤه ﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم... ﴾١ قال الحسن : كانت المحاجة أن قالوا نحن أولى بالله منكم لأنا أبناء الله وأحباؤه. ا ه. فكان المعنى أتجادلوننا الحجة على دعواكم والرب واحد ؟ ﴿ ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ﴾ كل مجزى بعمله – لنا جزاء أعمالنا الحسنة الموافقة لأمره ولكم جزاء أعمالكم السيئة المخالفة لحكمه٢ ؛ ﴿ ونحن له مخلصون ﴾ نحن لا نرجو بإيماننا وعملنا إلا رضوان الله ولا نبتغي بذلك أحدا سواه٣. [ لا نشرك به شيئا ولا نعبد غيره أحدا كما عبد أهل الأوثان معه الأوثان وأصحاب العجل معه العجل وهذا من الله تعالى ذكره توبيخ لليهود واحتجاج لأهل الإيمان... قولوا أيها المؤمنون لليهود والنصارى الذين قالوا لكم : كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، أتحاجوننا في الله في دين الله الذي أمرنا أن ندينه به وربنا وربكم واحد عدل لا يجور وإنما يجازي العباد على ما اكتسبوا وتزعمون أنكم أولى بالله منا لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم ونحن مخلصون له العبادة لم نشرك به شيئا وقد أشركتم في عبادتكم إياه فعبد بعضكم العجل وبعضكم المسيح وأنى تكونوا خيرا منا وأولى بالله منا ؟ ]٤.
٢ ما بين العارضتين من روح المعاني..
٣ خرج الدارقطني عن الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس اخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذه لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم وليس لله تعالى منها شئ﴾.
.
٤ ما بين العلامتين [ ] من جامع البيان..
﴿ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ﴾ عن الزجاج بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا أبالتوحيد فنحن موحدون أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون ﴿ قل أأنتم أعلم أم الله ؟ ﴾- بل الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل والقرآن أن إبراهيم ما كان يهوديا أو نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وكيف لا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ولأنهم مقرون بأن الله أعلم وقد أخبر بنقيض ما ادعوه فإن قالوا ذلك عن ظن فقد بان لهم خطؤه وإن قالوا ذلك عن جحود وعناد فما أجهلهم وأشقاهم ؛ فإذن فائدة الكلام إما التنبيه وإما التجهيل ﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ﴾ ؟.. ﴿ من الله ﴾.. يتعلق بكتم أي : لا أحد أظلم ممن عنده شهادة ثم إنه لم يقمها عند الله وكتمها وأخفاها منه إما أن يتعلق بشهادة، كقولك : عندي شهادة من فلان ومثله ﴿ براءة من الله ورسوله.. ﴾١ والمعنى ليس أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده جاءته من الله وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لم يكتموا ما عندهم من الحق وشهدوا لإبراهيم بالحنيفية، وتعريض بأن أهل الكتاب قد كتموا شهادات الله فأنكروا نبوة محمد وحنيفية إبراهيم وغير ذلك من تحريفاتهم ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ كلام جامع لكل وعيد لهم ولأضرابهم، ولو أن أحدا كان عليه رقيب من قبل ملك مجازى لكان دائم الحذر والوجل فكيف بالرقيب القريب الذي يعلم أسراره ويعد عليه أنفاسه وأفكاره هو يقدر على أن يدخله جنته أو ناره.
﴿ خلت ﴾ مضت. ﴿ لها ما كسبت ﴾ لها أجر ما عملت.
﴿ تلك أمة ﴾ إشارة إلى إبراهيم وبنيه كما مر وإنما أعيدت الآية هنا لغرض آخر وهو زجرهم عن الاشتغال بوصف ما عليه الأمم السالفة من الدين فإن أديانهم لا تنفع إلا إياهم لاندراس آثارها وانطماس أنوارها وأما الآن فالدين هو الإسلام الثابت بالدليل القاطع والبرهان البين فيجب اتباع المعلوم واقتفاؤه وإلقاء المظنون وإلغاؤه ولا يسأل المتأخر عن المتقدم ولا المحسن عن المسيء وكل بعمله مجزى- ١
﴿ ما ولاهم ﴾ أي شيء صرفهم. ﴿ المشرق ﴾ جهة شروق الشمس
﴿ المغرب ﴾ جهة غروبها.
﴿ سيقول ﴾ إخبار عن١ الماضي بفعل يدل على الاستقبال ربما لبيان أن مثل ذلك القول قد يستمر صدوره عن المنافقين والمشركين والمفترين. ﴿ السفهاء ﴾ الحمقى خفاف العقول الجهلاء الضالون المفترون والذين قالوا وأخبر القرآن عن قيلهم كانوا من أهل الكتاب والمشركين. وإذا كان من لا يميز بين ما له وعليه في أمر دنياه يعد سفيها شرعا فالذي يضيع آخرته أولى بهذا الاسم ﴿ من الناس ﴾ – لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات٢ -–[ وفائدته بيان أن ذلك القول المحكي لم يصدر عن كل فرد من تلك الطوائف بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في آسن الفساد أو التنبيه على كامل سفاهتم بالقياس إلى الجنس ]٣. ﴿ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ ؟ لعل المعنى ما الذي صرفهم – يريدون النبي ومن آمن معه – عن استقبالهم في صلاتهم البيت المقدس وقد ظلوا يتجهون إليه ويتخذونه قبلة سنوات واستفهامهم يعني أنهم ينكرون ذلك روى البخاري – رحمه الله- في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول اله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا٤ أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت٥ وأنه صلى أول صلاة٦ صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد٧ وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم من قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله ﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ﴾ مما نقل عن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس فكان بمكة يصلي بين الركنين فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس. ا ه. واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرا روى البخاري ومسلم – رحمهما الله تعالى- في صحيحهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ﴿ قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ أمر المولى سبحانه نبيه أن يذكر الناس بأن ما بين قطري مشرق الشمس ومغربها والكون كله ملك لله المهيمن الحكيم يرشد من أحب من عباده إلى النهج القويم والصراط المستقيم فهدانا إلى الوجهة التي اختارها وارتضاها.
٢ ما بين العارضتين أورده القرطبي..
٣ ما بين العلامتين [ ] مقتبس مما أورد صاحب روح المعاني بتصرف وقد رجح الرأي الثاني..
٤ أي بعد هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة..
٥ قبل البيت أي جهة الكعبة وناحيتها..
٦ يعني أول صلاة توجه فيها نحو الكعبة..
٧ هو مسجد قباء كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر..
﴿ ينقلب على عقبيه ﴾ يرتد عما كان عليه ويرجع
﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾- كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطا... الأمة هي القرن من الناس والصنف منهم ومن غيرهم وأما الوسط فإنه في كلام العرب الخيار... وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسطا لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين قالوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبيائهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها-١. ﴿ ولتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ اصطفى الله تعالى هذه الأمة واختارها واجتباها لتكون شاهدة على الأمم وخاتم النبيين محمد صلوات ربنا عليه وسلامه يشهد بعدالة أمته ويزكيها وكلمة ﴿ عليكم ﴾ يراد بها لكم لكن لما كان الشهيد بمعنى الرقيب جئ بعلى. روى البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قول الله عز وجل ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾... ) - وقالت طائفة معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرت جنازة فأثني عليها خير فقال ( وجبت وجبت وجبت ) ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها شر فقال ( وجبت وجبت وجبت ) فقال عمر فدى لك أبي وأمي ؛ مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت ( وجبت وجبت وجبت ) ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت ( وجبت وجبت وجبت )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض ) أخرجه البخاري بمعناه-٢ ؛ ﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾ ولم نجعلك تتجه في صلاتك أو أمرك إلى بيت المقدس لشيء من الأشياء إلا لينكشف أثر علمنا في أهل الثبات على الحق الذين يصدقونك ولا يردون أمرا مما شرعته لكم وفي الذين يعبدون على حرف فإن أصابتهم فتنة واختبار ارتدوا عن دينهم ؛ مما يقول صاحب روح المعاني : واستشكلت الآية بأنها تشعر بحدوث العلم في المستقبل -وهو تعالى لم يزل عالما- وأجيب بوجوه : الأول –أن ذلك على سبيل التمثيل أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم ؛ الثاني - أن المراد العلم الحالي الذي يدور عليه فلك الجزاء أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل فالعلم مقيد بالحادث والحدوث راجع إلى القيد ؛ الثالث- أن المراد ليعلم الرسول والمؤمنون وتجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص.... ا ه.
لكن صاحب الجامع لأحكام القرآن نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن معنى ﴿ لنعلم ﴾ لنرى والعرب تضع العلم مكان الرؤية والرؤية مكان العلم كقوله تعالى ﴿ ألم تر كيف فعل ربك... ﴾٣ بمعنى ألم تعلم ؛ ثم قال : معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى ﴿ ... وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء... ﴾٤ ﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين... ﴾٥ وما أشبه ا ه. ﴿ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ﴾ قال الأخفش أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة إلا على من خلق الله الهدى وكتب الإيمان في قلوبهم كما قال تعالى ﴿ ... أولئك كتب في قلوبهم الإيمان... ﴾٦ ؛ ﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ﴾ العلماء على أنها نزلت في الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس٧ وقالوا سميت الصلاة إيمانا لاشتمالها نية وقول وعمل، وربنا جل ثناؤه وتقدست أسماؤه عظيمة رأفته بعباده أن يضيع ثواب عملهم رحيم به أن يحرمهم أجرهم- أي ولا تأسوا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فإني لهم على طاعاتهم إياي بصلاتهم التي صلوها كذلك مثيب لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي ولا تحزنوا عليهم فإني غير مآخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله-٨
٢ ما بين العارضتين مما نقل عن أبو عبد الله القرطبي صاحب الجامع لأحكام القرآن الكريم..
٣ من سورة الفيل الآية ١..
٤ من سورة آل عمران من الآية ١٤٠..
٥ من سورة محمد عليه السلام. من الآية ٣١..
٦ من سورة المجادلة الآية ٢٢..
٧ والدليل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال (لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى ﴿وما كان الله ليضيع إيمانكم...﴾ الآية قال هذا حديث حسن صحيح..
٨ ما بين العارضتين من جامع البيان..
﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فلو وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ﴾ عن قتادة : كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس يهوى ويشتهي القبلة نحو البيت الحرام فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها ؛ نقل صاحب الجامع لأحكام القرآن أن هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى ﴿ سيقول السفهاء من الناس... ﴾ ويقول الزجاج في معنى ﴿ تقلب وجهك ﴾ تقلب عينيك في النظر إلى السماء ﴿ فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ عن مجاهد قال : قالت اليهود : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا فكان يدعو الله جل ثناؤه ويستعرض للقبلة فنزلت ﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطرا المسجد الحرام ﴾ وانقطع قول يهود : يخالفنا ويتبع قبلتنا١ في صلاة الظهر فجعل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال. ومما نقل عن ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن يهود تقول : والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ورفع وجهه إلى السماء فقال الله جل ثناؤه ﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء... ﴾ الآية و﴿ شطر ﴾ يعني تلقاء ونحو ﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ في أي مكان تكونون افترضت عليكم أن تصلوا ووجوهكم منصرفة نحو المسجد الحرام الكعبة المشرفة القبلة المرتضاة ؛ ﴿ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ﴾ الذين نزل عليهم كتابا سماويا قبلكم وهم اليهود والنصارى يعلمون أن ما شرع لك هو الحق الموحى إليك من قبل الحق تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه يجدون ذلك مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل لكنهم يحرفون الكلام عن مواضعه ويجحدون ما هو يقين لا ريب فيه وما ربنا العظيم بساه عما يمكرون ويبيتون لكنه سبحانه عليم بما يصنعون وسيعلم هؤلاء أي منقلب ينقلبون ويجزون ما كانوا يقترفون.
٢ ومنها ﴿إن﴾ التحقيقية المؤكدة واللام الموطئة للقسم و﴿إذن﴾ الجزائية والجملة الإسمية..
٢ سورة النمل من الآية ١٤..
٣ سورة الأنعام من الآية ٣٣..
﴿ الحق من ربك ﴾ ما جاءك من ربك هو الحق لا غير ومنه استقبال الكعبة ﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ – يقول الله جل ثناؤه اعلم يا محمد أن الحق ما أعلمك ربك وآتاك من عنده لا ما يقوله لك اليهود والنصارى... فاعمل بالحق الذي آتاك من ربك... فلا تكونن من الشاكين في أن القبلة التي وجهتك نحوها قبلة إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره... فإن قال لنا قائل : أو كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكا في أن الحق من ربه أو في أن القبلة من ربه أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره حتى نهي عن الشك في ذلك ؟.... قيل ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب والمراد به غيره كما قال جل ثناؤه ﴿ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين.. ﴾١ ثم قال ﴿ واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾٢ فخرج الكلام مخرج الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والنهي له والمراد به أصحابه المؤمنين-٣.
٢ من سورة الأحزاب الآية ٢..
٣ ما بين العارضتين من جامع البيان..
﴿ ولكل وجهة هو موليها ﴾ عن الربيع.. فلليهود وجهة هو موليها وللنصارى وجهة هو موليها وهداكم الله عز وجل أنتم أيتها الأمة للقبلة التي هي قبلته... ﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ يعني فسارعوا.. بينت لكم أيها المؤمنون الحق وهديتكم للقبلة التي ضلت عنها اليهود والنصارى... فبادروا بالأعمال الصالحة شكرا لربكم وتزودوا في دنياكم لأخراكم فإني قد بينت لكم سبيل النجاة فلا عذر لكم في التفريط وحافظوا على قبلتكم ولا تضيعوها كما ضيعها الأمم قبلكم فتضلوا كما ضلت. ا ه. ﴿ أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ﴾ في أي مكان تموتون وحيث تكون قبوركم يجمعكم الواحد القهار ليوم لا ريب فيه ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى فمن سارع بالخيرات أدرك عالي الدرجات في الجنات ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ تحققوا أن المعبود بحق سبحانه قادر على إخراجكم وبعثكم وحشركم وعلى كل ما يريد جل وعلا مقتدر.
٢ في الآية ١٤٤..
٣ الآية ١٤٨. ومن الآية ١٤٩..
﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطرا المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ﴾ والناس الذين احتجوا فأبطل الله تعالى حجتهم المشركون الكتابيون المنافقون ولهذا جاء في تمام الآية ﴿ إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ﴾ مما يقول الطبري : نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبي وأصحابه في استقبالهم الكعبة والمعنى لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا : ما ولاهم ؟ وتحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق ؛ والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة وسماها الله حجة وحكما بفسادها حيث كانت من ظلمة ؛ ﴿ ولأتم نعمتي عليكم ﴾ عرفتكم قبلتي قال سعيد بن جبير ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة ﴿ ولعلكم تهتدون ﴾ ولتثبتوا على الهداية ولعل من الخير أن نذكر بعض ما دلت عليه هذه الآيات المباركات – آيات تحويل القبلة – أولا - دلت الآيات على أن في أحكام الله تعالى ناسخا ومنسوخا والأمة مجمعة على ذلك إلا من شذ، كان الحكم أولا أن يستقبلوا في صلاتهم بيت المقدس ثم نسخ هذا الحكم بوجوب استقبال الكعبة. ثانيا- من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول فإن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن آتاهم من يخبرهم بالحكم الناسخ فمالوا نحو الكعبة.
﴿ يزكيكم ﴾ يطهركم ويرفعكم ﴿ الكتاب ﴾ القرآن
﴿ الحكمة ﴾ السنة وقد تعني الإصابة في القول والعمل جميعا
﴿ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ﴾ عن مجاهد يعني بذلك العرب قال لهم جل ثناؤه ألزموا أيها العرب طاعتي وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجه إليها لتنقطع حجة اليهود عنكم فلا تكون لهم عليكم حجة ولأتم نعمتي عليكم وتهتدوا كما ابتدأتكم بنعمتي فأرسلت فيكم رسولا إليكم منكم – وذلك الرسول الذي أرسله إليهم محمد صلى الله عليه وسلم – وقيل لأتم نعمتي ببيان الشرائع وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم حيث قال ﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا ﴾ كما أرسلنا فيكم رسولا إجابة لدعوته حيث قال ﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ﴾ ﴿ يتلو عليكم آياتنا ﴾ – صفة ﴿ رسولا ﴾ وفيه إشارة إلى إثبات طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي الآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته-١ [ وكون القرآن متلوا من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ولأنه يتلى فتستفاد منه.. العلوم ولأنه يتلى فيوقف على مجامع الأخلاق الحميدة ففي تلاوته خير الدنيا والآخرة ]٢ ﴿ ويزكيكم ﴾ ويطهركم ويؤدبكم ويسمو بكم بتربيتكم على ما يعزكم ويعلي أقداركم ﴿ ويعلمكم الكتاب ﴾ يعلمكم الرسول المصطفى محمد المبعوث إليكم بالقرآن فهو الحقيقة ﴿ والحكمة ﴾ السنة النبوية والفقه في الدين والإصابة في القول والفعل جميعا ﴿ ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ فسرها الطبري بقوله : فإنه يعني ويعلمكم من أخبار الأنبياء وقصص الأمم الخالية والخبر عما هو حادث وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها فعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم جل ثناؤه أن ذلك كله إنما يدركونه برسول الله صلى الله عليه وسلم. ا ه.
٢ ما بين العلامتين [ ] نقله صاحب تفسير غرائب القرآن.. الحسن النيسابوري..
وصح عن أنس وقتادة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ﴿قال الله عز وجل يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة -أو قال في ملأ خير منه- وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا وإن دنوت مني باعا دنوت منك باعا وإن آتيتني تمشي أتيتك هرولة﴾ قال قتادة الله أقرب بالرحمة وفي رواية لهما ﴿وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم﴾..
٢ من سورة إبراهيم. من الآية ٧..
٣ من سورة الإسراء الآية ٣..
٤ من سورة القمر الآيتان ٣٤-٣٥..
٥ ما بين العارضتين مما أورد القرطبي..
﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ﴾ –[ لما أوجب بقوله ﴿ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ﴾ جميع الطاعات ورغب بقوله ﴿ ولا تكفرون ﴾ عن جميع المنهيات -فإن الشكر بالحقيقة صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه إلى ما أعطاه لأجله -ندب إلى الاستعانة على تلك الوظائف بالصبر والصلاة فالصبر قهر للنفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى والصلاة إذا اشتملت على مواجب الخشوع والتذلل للمعبود والتدبر لآيات الوعد والوعيد والترغيب والترهيب انجر ذلك إلى أداء حقوق سائر الطاعات والاجتناب عن جميع الفواحش والمنكرات ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ بالنصر والتأييد ومزيد التوفيق والتسديد... ]١.
﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ﴾ كأنه قيل استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني وسلوك سبيلي فإن احتجتم في ذلك إلى مجاهدة عدوي بأموالكم وأنفسكم فتلفت فإن قتلاكم أحياء عندي. نهى خلقه على أن يقولوا للشهداء إنهم موتى و﴿ أموات ﴾ مرفوع بمضمر تقديره هم أموات وكذا أحياء ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ وتلك خصوصية نهذه المخالفأن لهم إن شاركهم في النعيم بل وزاد عليهم بعض عباد الله تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبدا وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم بالكلية بحيث أنهم ما ذاقوه أصلا ولا طرفة عين وإلا لقال تعالى ﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله ﴾ ماتوا فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم امتازوا بعد أن قتلوا بحياة لائقة بهم-١ ﴿ ولكن لا تشعرون ﴾ لا تحسون ما حالهم بحواسكم لأنها من أحوال البرزخ التي ليس للحواس التي رزقناها في الدنيا إلى إدراكها من سبيل ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي. وأورد بن جرير رحمه الله تعالى : فإن قال لنا قائل وما في قوله ﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ﴾ من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعم به غيره ؟ وقد علمت تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبوابا إلى الجنة يشمون منها روحها ويستعجلون الله قيام الساعة ليصيروا إلى مساكنهم منها ويجمع بينهم وبين أهليهم وأولادهم فيها وعن الكافرين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبوابا إلى النار ينظرون إليها ويصيبهم من نتنها ومكروهها ويسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يقمعهم فيها ويسألون الله فيها تأخير قيام الساعة حذرا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها مع أشباه ذلك من الأخبار ؟ وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما الذي خص به القتيل في سبيل الله مما يعم به سائر البشر غيره من الحياة ؟ وسائر الكفار والمؤمنين غيره أحياء في البرزخ أما الكفار فمعذبون بالمعيشة الضنك وأما المؤمنون فمنعمون بالروح والريحان ونسيم الجنان قيل إن الذي خص الله به الشهداء في ذلك وأفاد المؤمنين بخبرهم عنهم -تعالى ذكره- إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في برزخهم قبل بعثهم ومنعمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر من لذيذ مطاعمها الذي لم يطعمها الله أحدا غيرهم في برزخه قبل بعثه... ا ه.
﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ﴾ معطوف على مضمون الآيتين السابقتين – ١٥٤-١٥٣. من قوله سبحانه ﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر... ﴾ إلى قوله جل ذكره ﴿ بل أحياء ولكن لا يشعرون ﴾ [ والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر ومضمون الثانية ﴿ ولنبلونكم ﴾ الآية بيان مواطن الصبر والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلي والمختبر ]١ بقليل من الخوف ومن الجوع والقحط ونقص الأموال -وهي ما يتمول – بهلاك بعضه ونقص الأنفس بموت الأحبة أو قلتهم ونقص الثمرات تلفها أو نقصها أو قلتها ﴿ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ﴾ [ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة والجملة عطف على ما قبلها... كأنه قيل الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة ولكن لمن صبر منكم وقيل على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر،
روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول ﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها ) قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم٢.
وأخرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته ).
٢ ورواه أحمد عنها قالت أتاني أبو سلمة يوما فقال لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال (لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ويقول اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا فعل ذلك به} فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها ثم رجعت إلى نفسي فقلت من أين لي خير من أبي سلمة فلما انقضت عدتي استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لي فغسلت يدي من القرظ وأذنت له فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي فلما فرغ من مقالته قلت يا رسول الله ما بي أن لا أكون بك الرغبة ولكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني سيئا يعذبني الله به وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال فقال (أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عز وجل عنك وأما ما ذكرت منك في السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي) قالت سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم سلمة فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.
﴿ المهتدون ﴾ الملتزمون بمنهاج الصواب الفائزون بالكرامة والثواب
﴿ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ﴾ قال عمر رضي الله عنه نعم العدلان ونعم العلاوة أراد بالعدلين الصلاة والرحمة وبالعلاوة الاهتداء ؛ وصلاة الله على عبده عفوه وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة وقال الزجاج : الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن.. ا ه. وقد يراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة – يعني تعالى ذكره بقوله ﴿ أولئك ﴾ هؤلاء الصابرون١ الذين وصفهم ونعتهم ﴿ عليهم ﴾ يعني لهم ﴿ صلوات ﴾ يعني مغفرة وصلوات الله على عباده غفرانه كالذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) يعني اغفر لهم... ثم أخبر تعالى ذكرهم مع الذي ذكر أنه معطيهم على اصطبارهم على محنه تسليما منهم لقضائه من المغفرة والرحمة أنهم هم المهتدون المصيبون طريق الحق والقائلون مال يرضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله جزيل الثواب.
وروى أحمد والترمذي عن ابن سنان قال دفنت ابنا لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولاني) فأخرجني وقال لي ألا أبشرك قلت بلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده قال نعم قال فما قال قال حمدك واسترجع قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد﴾ وفي الأثر عن زين العابدين إذ جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب قال فيقوم ناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين يا بني آدم فيقولون إلى الجنة فيقولون قبل الحساب قالوا نعم قالوا من أنتم قالوا نحن الصابرون قالوا وما كان صبركم قالوا صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله قالوا أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ويشهد لهذا قوله تعالى ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾..
﴿ الصفا ﴾الجبل الصغير المعروف بمكة.
﴿ المروة ﴾ الجبل الصغير المقابل للصفا
﴿ شعائر ﴾ جمع شعيرة وهي العلامة أو العبادة والشرعة والمنسك.
﴿ حج ﴾ قصد وأوتي بعد بدء. ﴿ اعتمر ﴾ زار
﴿ فلا جناح ﴾ فلا إثم ولا حرج ﴿ يطوف بهما ﴾ يسعى بينهما
﴿ تطوع ﴾ تعبد أو فعله المؤمن من قبل نفسه.
روى البخاري في صحيحه عن عاصم بن سليمان قال سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام امسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل ﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ وفي رواية له رواها مسلم وغيره عن عروة عن عائشة قال : قلت أرأيت قول الله تعالى ﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ فوا لله ما على أحد جناح أن لا يتطوف بهما فقالت عائشة بئس ما قلت يابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه فلا كانت على جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل عز وجل ﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ قالت عائشة قد سن١ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فليس لأحد أن يدع الصواب بهما. ﴿ ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ﴾ –معنى ذلك : ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه فإن الله شاكر له على تطوعه بما تطوع به من ذلك ابتغاء وجهه فمجازيه به. ﴿ عليم ﴾ بما قصد وأراد بتطوعه بما تطوع به-٢
٢ ما بين العارضتين من جامع البيان... لأبي جعفر محمد ابن جرير الطبري.
وقد أطال المحدثون والشراح والمفسرين في ذكر بعض أسباب النزول وذكر جانبا من خلاف بعض الأئمة والفقهاء حول حكم السعي لكن ابن جرير رحمه الله قال إن الله تعالى ذكره جعل الطواف بين الصفا والمرة من شعائر الله فالطواف بهما فرض واجب لتظاهر الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس فكان مما علمهم أن من مناسك حجه الطواف بهما. اهـ..
﴿ يلعنهم الله ﴾ يقصيهم ويبعدهم ويطردهم من رحمته
﴿ يلعنهم اللاعنون ﴾ يدعون عليهم بالطرد والإبعاد من الله تعالى ومن رحمته.
بعد أن بشر الله تعالى من أقام الملة الحنيفية وعظم الشعائر الإسلامية والمناسك الإبراهيمية حذر وتوعد الذين يتركون إظهار الحقائق التنزيلية وبيان السلطان والحجة العقلية من بعد ما نطقت بها الكلمات الربانية فمن أخفى من هذا الرشد ما تدعو الحاجة إلى إظهاره أو بدله وحرم الناس من نوره وبره فإن الله تعالى يقصيه ويبعده منه ومن رحمته، وكذا الخلائق تدعوا على من كتم أو بدل أن يطرده الواحد القهار من عداد الذين يدخلهم من عفوه وغفرانه وهذا الحرمان والإبعاد وطلب الخلائق إحلالهما بالكاتمين والمبدلين يكون في الدنيا ويوم الدين ويشهد لهذا القول ربنا وهو أصدق القائلين ﴿ .. ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم ببعض.. ﴾١ وقوله تقدست أسماؤه ﴿ .. كلما دخلت أمة لعنت أختها ﴾٢ وهكذا فمن كتم شيئا من الدين مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره فقد وقع في إثم مبين٣، روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثت أحدا بشيء أبدا، ثم تلا هذه الآية ؛ -وفي الآية دليل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، والمراد بالبينات كل ما أنزله الله على الأنبياء كتابا ووحيا، دون أدلة العقل، ﴿ والهدى ﴾ يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية لأن الهدى الدلالة فيعم الكل، وبعبارة أخرى : الأول هو التنزيل والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد... خبر الواحد والإجماع، والقياس حجة لأن الكتاب دل على هذه الأمور، ... ومن الناس من يحتج بالآية على وجوب قبول خبر الواحد، لأن وجوب الإظهار دل على وجوب العمل بالذي أظهر ولا سيما وقد قال :﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ﴾ فحكم بوقوع البيان بخبرهم، ... ﴿ أولئك ﴾ تبعيد لهم عن درجة الاعتبار ﴿ يلعنهم الله ﴾ يبعدهم عن كل خير ﴿ ويلعنهم ﴾ يدعو عليهم باللعن ﴿ اللاعنون ﴾ الذين يتأتى منهم اللعن ويعتد بلعنهم من الملائكة وصالحي الثقلين٤، وقيل : يدخل فيهم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول منعنا القطر بشؤم معاصي بني آدم ﴿ واللاعنون ﴾ دون اللاعنات تغليب..
٢ من سورة الأعراف من الآية ٣٨..
٣ أخرجه أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سئل من علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار).
٤ الثقلين الإنس والجن.
﴿ وأصلحوا ﴾ ما أفسدوا من أحوالهم وغيرهم وتداركوا ما فرط منهم
﴿ وبينوا ﴾ ما كتموه وأظهروا للناس ما أحدثوه من توبة عما غووا.
﴿ أتوب عليهم ﴾ أقبل توبتهم.
﴿ إلا الذين ﴾ استثناء منهم.... ﴿ وأصلحوا ﴾ ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرطوا منهم ﴿ وبينوا ﴾ ما كتموه أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به ويقتدي بهم غيرهم... ﴿ فأولئك أتوب عليهم ﴾ أقبل توبتهم بأن أسقط العقاب عنهم تجملا وأضع مكانه الثواب تجملا... -١.
﴿ خالدين فيها ﴾ يبقون في اللعنة أو في النار ماكثين فيها أبدا ﴿ لا يخفف عنهم العذاب ﴾ لا يفتر عذابهم ولا تخف حدته في وقت من الأوقات ﴿ ولا هم ينظرون ﴾ لا ينظر الله تعالى إليهم نظر رحمة ولا تمهلهم الملائكة ليعتذروا
﴿ السماوات ﴾ البناء الكوني الذي نراه يعلونا وتتراءى لنا حوله قبة زرقاء وتبدو من خلاله الشمس والقمر والنجوم والكواكب.
﴿ الأرض ﴾ الكوكب الترابي الذي نسكنه ونعيش فيه وندب عليه
﴿ الليل ﴾ الوقت من غروب الشمس إلى طلوع الفجر
﴿ النهار ﴾ الوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس
﴿ الفلك ﴾ السفن واحده وجمعه سواء
﴿ فأحيا به الأرض ﴾ أخرج نبتها. ﴿ بعد موتها ﴾ بعد قحوطها وجدبها.
﴿ بث ﴾ نشر وفرق. ﴿ دابة ﴾ ما يدب على الأرض
﴿ تصريف ﴾ تحريك وتوجيه وتقليب.
﴿ الرياح ﴾ واحدها ريح وهو نسيم الهواء
إيجاد البناء الكوني الذي نراه يعلونا كالسقف فوقنا وتتراءى لنا حوله قبة زرقاء وتبدو من خلاله الشمس والقمر والكواكب والنجوم، هذه السماوات بعظمتها وامتدادها وارتفاعها وجمالها وحفظها مرفوعة بغير عمد ونجومها المسخرات التي لا يحصيها عد وملئها الأعلى الذي لا يدانيه ملأ ولا جند وإنشاء الأرض بتراميها واتساع أرجائها وفرشها وتذليلها وخلق يابسها ومائها ومعادنها وأشجارها ونبتها وحيوانها وجاذبيتها وهوائها- ذانك برهان من ربنا على حكمة موجودهما سبحانه وقدرته وعلوه وجلاله ووحدانيته ﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة ويختلفان في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر والحركة والسكون فخلوف أحدهما إلى الآخر وانتظام أحوال النبات والحيوان والإنسان بهما دليل ثالث على حكمة الله تعالى ووحدانيته ﴿ والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ﴾ السفن والمراكب التي تجري محمولة على الماء عذبة وملحة بالذي ينفع البشر من التجارات وسائر ما تصلح به أحوالهم من نقل وتعلم وجهاد وتواصل وتعبد وقضاء أوطار في ذلك دليل رابع على أن الله وحده موجد الكون كله ومدبره ؛ ﴿ وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ﴾ إتحاف ربنا لنا بالمطر الذي ينزل من جهة السماء فتكون به حياة من على الأرض وما عليها من إنسان أو حيوان أو نبات وبهذا تعمر البلاد بعد خراب إذ هي دون هذه الأحياء هامدة جامدة كالجسد لا روح فيه ذلك برهان خامس على أن الله هو الخلاق الوهاب دون سواه وتبارك الملك القدوس القائل في محكم التنزيل ﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ﴾١ ؛ كما قال جل ذكره ﴿ أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها ﴾٢ وقال عز من قائل ﴿ ... وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ﴾٣.
﴿ وبث فيها من كل دابة ﴾ سادس البراهين – في هذه الآية الكريمة- دليل على تفرد ربنا الملك الكريم بالإيجاد والتدبير أن فرق في الأرض ونشر كل ما يدب عليها من حيوان -إنسي أو وحشي أو جني أو مستأنس- أو طير وهوام ﴿ وتصريف الرياح ﴾ تقليب الريح في جهات العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا على كيفيات مختلفة حارة وباردة ورخاء وعاصفة نصر٤ وصر٥ وملقحة وعقيم- إن الذي يجري الرياح ويوجهها حاملة ما يريد من رحمة أو عذاب من غوت أو هلاك خالق كل شيء وليس إلا هو سبحانه يحركها أو يسكنها ويلينها أو يعصفها فهذا دليل سابع على اقتدار الله دون سواه ؛ ﴿ والسحاب المسخر بين السماء والأرض ﴾ الغمام المسير بين السماء والأرض والمحمل بالماء على ثقله والمعلق في الفضاء دون علائق والموجه إلى حيث يريد الفاعل المختار عز شأنه أو المشحون بالهلاك والطوفان مثلما حدثت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك قالت عائشة فسألته فقال ( إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي )٦ كما أن الخبير البصير القدير سخر السحاب فهو يجمعه حينا دون حين لأنه لو دام لعظم ضرره من حيث إنه يستر ضوء الشمس ويكثر الأنواء والأمطار ويتعذر التردد في الحوائج ولو انقطع لعظم الضرر استلزامه الجدب والإمحال فإتيان الله به في وقت، ودفعه في الوقت لا يكون إلا بمسخر ومدبر وإلى هذا لفت البصائر والعقول ﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء.. ﴾٧ ثم يأتي بعد ذلك قول الحميد المجيد ﴿ ... إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾٨ كما أن تراكمه وتخلخله وارتفاعه وانخفاضه وتجمعه وتشققه في كل ذلك حجة وبرهان على اقتدار الأحد الصمد اللطيف الخبير ؛ ﴿ لآيات لقوم يعقلون ﴾ لدلالات تدل على عزة ربنا ونافذ إرادته وفي كل ما بينته الآية سلطان وحجة بالغة مقنعة لكل من يعقل : ومحال أن يكون شيء من هذه الآيات سلطان وحجة بالغة مقنعة لكل من يعقل ومحال أن يكون شيء من هذه الآيات الثمانية أو غيرها أوجد نفسه... أو أوجدته الطبيعة لأنها لو أحدثت نفسها لم تخل أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو وهي معدودة كان محالا لأن الإحداث لا يأتي – عقلا- إلا من حي عالم قادر مريد وما ليس بموجود لا يتصف بشيء من ذلك وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها ؛ وما الطبيعة إلا مجموع تلك الظواهر والقوى ومحال أن تكون الصدفة أوجدتها، فإن مر جوز في بناء رفيع وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ثم تولدت منهما اللبنات ثم تحولت تلك اللبنات وتركبت وتولد من تركيبها القصر ثم تزين بنفسه بالرسوم والنقوش اللطيفة- من قال ذلك قضى العقل عليه بالجنون.
ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالقوة المودعة فذاك بدعي فلا تلتفت
الحق أن كل هذه الأمور دلائل على وجود مبدع عظيم الشأن غني عن الزمان والمكان مبرأ عن سمات الحدوث والإمكان متفرد بالهيمنة والسلطان يقول الحسن النيسابوري : وإنما خص الآيات الثمانية بالذكر -مع أن سائر الأجسام والأعراض متساوية في الاستدلال بها على وجود الصانع بل كل ذرة من الذرات- لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعما على المكلفين ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيرا في الخواطر. ا ه
٢ من سورة النازعات الآيتان من ٢٧ إلى ٣١..
٣ من سورة الحج من الآية ٥..
٤ نصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالريح التي ذكرها سبحانه في سورة الأحزاب وذلك في قوله عز شأنه ﴿يا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود فأرسلنا عليكم ريحا...﴾ من الآية ٩..
٥ الصر الريح المهلكة كما قال تعالى في سورة آل عمران ﴿مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته...﴾ من الآية ١١٧. وهي الصرصر التي أهلكت بها عاد الأولى وجاء ذكرها في آية الحاقة في الآيات الكريمات ﴿وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية﴾ ٦، ٧، ٨ والصر تسمى الدبور كما جاء في صحيح مسلم عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ﴿نصرت بالصبا وأهلكت عادا بالدبور﴾..
٦ رواه مسلم وفي رواية قال ﴿لعله يا عائشة كما قال قوم عاد {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا..﴾ والآية من سورة الأحقاف وتتمتها ﴿بل هو ما استعجلهم به ريح فيها عذاب أليم﴾٢٤..
٧ من سورة النور الآية ٤٣..
٨ من سورة النور الآية ٤٤..
﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ﴾ بعدما بينت الآية الكريمة السابقة بعضا من الحجة والبرهان على توحيد الله المتفرد بالجلال والسلطان جاءت هذه الآيات المحكمات تبين ضلال أهل الشرك والأوثان ؛ بعض من البشر يتخذ من الخلق ما يزعم نديته لله تعالى وتقدس ؛ ومن المفسرين من قال هي الأصنام وزعموا أنها تقربهم من الله زلفى ومنهم من قال السادة الذين كانوا يطيعونهم على أوامرهم ونواهيهم محلين ما حرم الله، ومحرمين ما أحل الله ﴿ يحبونهم١ كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ﴾ قال المبرد : يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق أي إنهم مع عجز الأصنام يحبونها كحب المؤمنين لله مع قدرته، وعن ابن عباس والسدي المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال ( أن تجعل لله ندا٢ وهو خلقك ) -المراد بشدة محبة ٣ المؤمنين شدتها في المحل ورسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرؤون منها عند معاينة الأهوال-٤ ؛ روى أن باهلة -قبيلة من قبائل العرب- صنعت آلهة لها من حيس وهو الأقط والسمن والتمر ثم أكلتها عام المجاعة وفيهم قال الشاعر :
أكلت حنيفة ربها زمن التجمع والمجاعة
لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتابعة
﴿ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ﴾ ولو يرى المشركون والكافرون والظالمون عذاب الله الذي أعد لهم في جهنم لعلموا حين يرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعا وأن الله شديد عذابه لمن جحده وأشرك به وعصاه
٢ الند المثل النظير والشبيه والضد: المخالف.
٣ قال الأزهري محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتباع أمرهما قال الله تعالى ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني﴾ ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران قال الله تعالى ﴿... إن الله لا يحب الكافرين﴾أي لا يغفر لهم وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلان فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض) ومما نقل النيسابوري يروي أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت وقد جاء لقبض روحه هل رأيت خليلا يميت خليله ؟ فأوحى الله إليه هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله؟ فقال يا ملك الموت الآن فاقبض وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة؟ فقال (ماذا أعددت لها) فقال ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم (المرء مع من أحب).
٤ ما بين العارضتين من روح المعاني..
﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ﴾ وحين يرون ما أعد لهم من غليظ العذاب يتبرأ المتبعون من الأتباع فالأصنام قد يخلق القوى القدير فيها نطقا فتكفر بعابديها كما قال الحق جل ثناؤه ﴿.. ويوم القيامة يكفرون بشرككم.. ﴾ ١ والشيطان يقول يوم التغابن ما جاء من محكم التنزيل ﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل... ﴾٢ ويتبرأ الملأ الأعلى ممن عبدوهم ﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانون يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ﴾٣ فلا تواصل بين المشركين وبين ما شركوا وإنما يتعادون ويتلاعنون ﴿.. ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا وما لكم من ناصرين ﴾٤ والمتجبرون رؤوس الكفر يقولون للذين ﴿ استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ﴾٥ وهكذا لا يفتر عنهم العذاب وهم فيه مبلسون بل يستسلمون.
﴿ حسرات ﴾ مفردها حسرة وهي شدة الندامة
﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ﴾ وحين يرون ما أعد لهم من غليظ العذاب يتبرأ المتبعون من الأتباع فالأصنام قد يخلق القوى القدير فيها نطقا فتكفر بعابديها كما قال الحق جل ثناؤه ﴿.. ويوم القيامة يكفرون بشرككم.. ﴾ ١ والشيطان يقول يوم التغابن ما جاء من محكم التنزيل ﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل... ﴾٢ ويتبرأ الملأ الأعلى ممن عبدوهم ﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانون يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ﴾٣ فلا تواصل بين المشركين وبين ما شركوا وإنما يتعادون ويتلاعنون ﴿.. ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا وما لكم من ناصرين ﴾٤ والمتجبرون رؤوس الكفر يقولون للذين ﴿ استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ﴾٥ وهكذا لا يفتر عنهم العذاب وهم فيه مبلسون بل يستسلمون.
﴿ طيبا ﴾ لذيذا زكيا طاهرا كثير الخير ليس فيه خبث ولا مكروه ولا نتن أو حلالا.
﴿ خطوات الشيطان ﴾ أعماله وخطاياه. ﴿ مبين ﴾ مظهر
﴿ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ حذرت الأيام السابقات من سوء مصير أهل الشرك وأنذرت هذه أهل الضلال وأتباع الشيطان وقالة الإفك ؛ روى الإمام مسلم في صحيحه في حديث عياض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يقول الله تعالى إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال –وفيه- وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ) نادى الله تعالى العباد أن يأكلوا من طيبات الرزق والحلال يطلق على الجائز والمباح وما ليس بمحرم والطيب الطاهر اللذيذ الزكي وكثير الخير وما لا خبث فيه ولا مكروه ولا نتن، والحلال قال الكلبي : نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة السائبة والوصيلة والحامي وقال آخرون كانت العرب تستقذر أشياء فلا تأكلها، وتستطيب أشياء فتأكلها، فأحل الله لهم ما استطابوه مما لم ينزل بتحريمه تلاوة مثل لحوم الأنام كلها وألبانها ومثل الدواب التي من الضباب والأرانب وغيرها ؛ ثم الحرام قد يكون حراما في جنسه كالميتة وقد يكون حراما لعرض كملك الغير إذ لم يأذن في أكله فالحلال هو الخالي عن القيدين ؛ والطيب إن أريد به ما يقرب من الحلال فالوصف لتأكيد المدح مثل ﴿ ... نفخة واحدة ﴾١ أي الطاهر٢ من كل شبهة ويمكن أن يراد بالطيب اللذيذ – ودعوا خطوات الشيطان الذي يوبقكم فيهلككم ويوردكم موارد العطب، ويحرم عليكم أموالكم، فلا تتبعوها ولا تعملوا بها ؛ ﴿ إنه ﴾.. إن الشيطان والهاء.. عائدة على الشيطان ﴿ لكم ﴾ أيها الناس عدو مبين يعني أنه قد أبان لكم عداوته بإبائه عن السجود لأبيكم وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة واستزله بالخطيئة فأكل من الشجرة، يقول تعالى ذكره فلا تنتصحوه أيها الناس مع إبانته لكم العداوة ودعوا ما يأمركم به والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرمته عليكم دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم وحللتموه طاعة للشيطان اتباعالأمره...
٢ عن ابن عباس قال تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم ﴿يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا﴾ فقام سعد ابن أبي وقاص فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال (يا سعد أطب مطعمك تكون مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به).
﴿ الفحشاء ﴾ ما يقبح ويعظم شره ويقام الحد على فاعله أو الزنا.
﴿ إنما يأمركم بالسوء ﴾... الإثم... ﴿ الفحشاء ﴾... كل ما استفحش ذكره وقبح مسموعه وقيل إن السوء الذي ذكره الله هو معاصي الله.. وقيل إن الفحشاء الزنا- ١ ﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ كانوا يحرمون البحائر والسوائب ويزعمون أن الله تعالى حرمها فأكذبهم الله تعالى بقوله الحكيم ﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ﴾٢.
٢ من سورة المائدة الآية ١٠٣..
﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾.
وإذا قيل لهؤلاء الكفار كلوا مما أحل الله لكم ودعوا خطوات الشيطان وطريقه واعملوا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه استكبروا عن الإذعان للحق قالوا بل نأتم بآبائنا فنتبع ما وجدناهم عليه من تحليل ما كانوا يحلون وتحريم ما كانوا يحرمون.. ﴿ أو لو كان آباؤهم ﴾ يعني آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم ﴿ لا يعقلون شيئا ﴾ من دين الله وفرائضه وأمره ونهيه فيتبعون على ما سلكوا من طريق ويؤتم بهم في أفعالهم ؟ ﴿ ولا يهتدون ﴾ لرشد...
﴿ دعاء ﴾ يكون للقريب ﴿ نداء ﴾ ويكون للبعيد
﴿ صم ﴾ لا يسمعون ﴿ بكم ﴾ لا يتكلمون
﴿ عمي ﴾ لا يرون ولا يبصرون.
﴿ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ﴾.. عن قتادة : هو مثل ضربه الله للكافر، يقول : مثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له، عن ابن عباس : ومثل وعظ الكافر وواعظه كمثل الناعق بغنمه ونعيقه فإنه يسمع نعيقه ولا يعقل كلامه... ﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾ لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وعن قتادة : بكم عن الحق فلا ينطقون به.
أورد هذا صاحب الجامع لأحكام القرآن واستشهد بأحاديث٣ كثيرة ﴿ غير باغ ولا عاد ﴾ قال مجاهد وابن جرير غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم فيدخل في الباغي والعادي وقطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾- أي يغفر المعاصي فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه ومن رحمته أنه رخص-٤.
٢ روت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي لله عنها أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة البرمة من الدم فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره..
٣ ومنها ما أخرجه بن ماجه رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة مربوطة الضروع بعضاة الشجر فثبنا إليها فنادانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا إليه فقال إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد الله أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا}؟ فقال: (إن هذه كذلك) قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال (كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل)..
٤ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن..
هذا وقد بينت بعض معاني هذه الآيات الكريمة المباركة :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب... ﴾ رقم ١٥٩. من هذه السورة.
﴿ في الرقاب ﴾ في معاونة للعبيد والإماء والمكاتبين حتى يفكوا رقابهم.
﴿ البأساء ﴾ المصائب في الأموال كالفقر ونحوه.
﴿ الضراء ﴾ المصائب في الأبدان كالمرض ونحوه.
﴿ البأس ﴾ الحرب
- ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا لشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة، ولكن البر الذي يجب صرف الهمة إليه بر من آمن وقام بهذه الأعمال-١ وقد تضمنت جوانب الإيمان الخمسة : الإيمان بالله تعالى وبالآخرة وبالملائكة وكتب ربنا المنزلة وبالنبيين سلام ربنا وصلاته عليهم أجمعين كما دعت الآية الكريمة إلى إعطاء المال وبذله لأصناف ستة : ذوي القرابة اليتامى والمساكين وأبناء السبيل المسافرين عابري الطريق والسائلين والعبيد الجواري المكاتبين على مال ليفكوا بهم رقابهم من الرق والأسر ؛ وعهد الله تعالى إلينا في هذه الآية كذلك بإقامة الصلاة وإتيان الزكاة والوفاء بالوعد وبالصبر٢ في مواطن الفقر وبلايا المال، وفي مواطن المرض وما يصيب الجسد وفي مواطن الجهاد والحرب سبعة عشر عهدا٣ من وفى بها فقد استحق أن يكون بارا دون من أدى البعض وضيع البعض٤، ﴿ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ﴾ عن الربيع قال : وكان الحسن يقول فتكلموا بكلام الإيمان فكانت حقيقة العمل صدقوا الله قال. وكان الحسن يقول هذا الكلام الإيمان وحقيقته العمل فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء – فمن فعل هذه الأشياء فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم لا من ولى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره وينقض عهده وميثاقه ويكتم الناس بيان ما أمره الله ببيانه ويكذب رسله. وأما قوله ﴿ أولئك هم المتقون ﴾ فإنه يعني وأولئك الذين اتقوا عقاب الله فتجنبوا عصيانه وحذروا وعده فلم يتعدوا حدوده وخافوا فقاموا بأداء فرائضه-٥.
٢ جاء في هذه الآية الكريمة ﴿والموفون بعهدهم إذ عاهدوا والصابرين﴾ فنصب على الاختصاص والمدح إظهارا لفضل الصبر على سائر الأعمال..
٣ بل كل عهد منها ينتظم عهودا فالإيمان بالله تعالى يستلزم العلم بما يجب وبما يجوز ومما يستحيل عليه ويستلزم العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا والإيمان بالآخرة يتضمن اليقين في الموت والبعث والحشر والحساب والوزن والشجاعة والجزاء إما بالجنة وإما بالنار والوفاء بالعهد يقتضينا أن نوفي بميثاق الخالق سبحانه وميثاق المخلوقين ولهذا قال المفسرون ههنا هم الذين وعدوا أنجزوا وإذ حلفوا أو نذروا أوفوا وإذ اؤتمنوا أدوا وإذا قالوا صدقوا..
٤ ذكر الواحدي ههنا أن الواوات في هذه الأوصاف للجمع فمن شرائط البر وتمام شرط أن يجتمع فيه هذه الأوصاف ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام البر وكذا الصابر في البأساء بل لا يكون قائما بالبر عند استجماع هذه الخصال حتى قال بعضهم إن البر من خواص الأنبياء والحق أنه ليس بمستبعد أن يوجد في الأمة موصوف بالبر إلا أن كمال البر لا يكون إلا في النبي صلى الله عليه وسلم ولاسيما في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ا ه..
٥ ما بين العارضتين من جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى..
روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فقال الله لهذه الأمة ﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر١ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء ﴾ فالعفو أن يقبل الدية في العمد ﴿ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ﴾ يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان ﴿ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ﴾ مما كتب على من كان قبلكم ﴿ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ﴾ قتل بعد قبول الدية، و﴿ كتب ﴾ بمعنى فرض – معناه.. أن الحر إذا قتل الحر فدم القاتل كفء لدم القتيل والقصاص منه دون غيره من الناس فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غير قاتله، والفرض الذي فرضه الله علينا في القصاص هو ما وصفت من ترك المجاوزة بالقصاص قتل القاتل بقتيله إلى غيره لا أنه وجب علينا القصاص فرضا وجوب فرض الصلاة والصيام حتى لا يكون لنا تركه ولو كان في ذلك فرضا لا يجوز لنا تركه لم يكن لقوله ﴿ فمن عفي له من أخيه شيء ﴾ معنى مفهوم لأنه لا عفو بعد القصاص- ٢ ؛ وذهب آخرون إلى أن التقدير يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استفاءه ﴿ فمن عفي له من أخيه شيء ﴾ [ المعنى فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو... فمن الآية : فمن عفي له من جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية وإنما قيل ﴿ شيء ﴾ من العفو ليعم أنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفي عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية. وأخوه هو ولي المقتول وإنما قيل لهم إخوة لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به... أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. وقد يستدل بهذا على أن الفاسق مؤمن لأنه تعالى أثبت الأخوة بسبب الدين ﴿ إنما المؤمنون إخوة.. ﴾٣ مع أن قتل العمد العدوان بالإجماع من الكبائر ]٤.
٢ ما بين العارضتين من جامع البيان..
٣ من سورة الحجرات من الآية ١٠..
٤ ما بين العلامتين [ ] من تفسير غرائب القرآن..
﴿ يا أولي الألباب ﴾ جعل هذا الخطاب موجها إلى أولي الألباب لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ويتحامون ما فيه الضرر الآجل، وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة... -١.
﴿ لعلكم تتقون ﴾ قال ابن زيد لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به. ١ه
﴿ الوصية ﴾ العهد وفي أصل معناها الصلة.
عهد الله تعالى إلى المؤمنين الذين تظهر فيهم علامات الموت ولهم مال يبلغ حدا فوق القلة والكفاف أن يوصوا١ بشيء من هذا الذي سيتركونه ويرتحلون عنه إلى أبويهم وقرابتهم دون تضييق على بعض مقابل الإغداق على الآخرين، فذلك الإيصاء على هذا النحو من الحقوق التي يرعاها أهل الخشية من الله العظيم وتقواه ؛ روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) وجواب ﴿ إن ترك ﴾ ﴿ الوصية ﴾ بتقدير فاء محذوفة أي إن ترك خيرا فالوصية، والعامل في ﴿ إذا ﴾ ﴿ كتب ﴾ والمعنى توجب إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر.. ويمكن أن يقدر المعنى ههنا كما قدر في آية ﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ فكما أن التقدير هناك كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه يقال هنا كتب عليكم إذا أردتم الوصية وعندكم مال كثير أن توصوا قبل حلول الموت واحتج من لم يوجب الوصية بأن قال : لو كانت واجبة لما جعلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى إرادة الموصي حيث قال في الحديث الذي أورده آنفا ( يريد أن يوصي ) ولكان ذلك لازما على كل حال وعن قتادة وغيره الآية عامة تقرر الحكم بها برهة من الدهر ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض٢ ؛ وكذا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد نزول آيات المواريث :﴿ ليس لوارث وصية ﴾٣.
٢ في البخاري عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والربع وللزوج الشطر والربع.
وقيل إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى وهي قوله عليه السلام (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) مما يقول بعض علماء الأحكام: ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية وبالميراث إن لم يوصى أو ما بقي بعد الوصية لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع والشافعي وأبو الفرج وإن كان منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم الله تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت الأسماء وإجماع المسلمين على أنه لا تجوز وصية لوارث وأقول: لقد روى البخاري في صحيحه -وبحسبك هو- الحديث الشريف ﴿ليس لوارث وصية﴾ فالنسخ إذن بالسنة الصحيحة ونقل عن ابن عمر وابن عباس وابن زيد الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندبا ونحو هذا قول مالك رحمه الله وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي وقال الربيع: لا وصية. قال عروة قلت للربيع أوصي لي بمصحفك فنظر إلى ولده وقال ﴿... وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه..
٣ أخرج الترمذي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) قال الترمذي حديث حسن صحيح..
﴿ فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ﴾ في هذا تحذير للوصي والشاهد أن ينكر أحدا منهما الوصية أو ينقص فيها أو يبدل صفتها ﴿ فإنما إثمه على الذين يبدلونه ﴾ فما إثم التبديل في الإيصاء وما وزره إلا على من افترى وغير الإيصاء عن وجهه الذي أؤتمن عليه ؛ ﴿ إن الله سميع عليم ﴾ فيسمع أقوال المبدلين والموصين ويعلم بنياتهم فيجازيهم على وفقها، وفي هذا وعيد للمبدلين ووعد للموصين..
﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما ﴾ الجنف.. الميل والجور والمراد به الميل في الوصية من غير قصد بقرينة مقابلته بالإثم فإنه إنما يكون القصد ومعنى ﴿ خاف ﴾ توقع.. ﴿ فأصلح بينهم ﴾ أي بين الموصى لهم من الوالدين والأقربين بإجرائهم على نهج الشرع وقيل المراد فعل ما فيه الصلاح بين الموصي والموصى له بأن يأمر بالعدل والرجوع عن الزيادة وكونها للأغنياء.. ﴿ فلا إثم عليه ﴾ في ذلك التبديل لأنه تبديل باطل إلى الحق ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ تذييل أتي به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه وذكر المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات، وهي إنما تليق من فعل ما لا يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة... وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه يعني أنه تعالى غفور للآثام فلأن يكون رحيما من أطاعه من باب الأولى١.
٢ متفق عليه أي اتفق البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى على روايته..
﴿ الفرقان ﴾ يبين بين الرشد والغي.
﴿ شهد ﴾ حضر.
﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ﴾... بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمي بذلك لشدة الحر الذي كان يكون فيه حتى تمرض الفصال... وأما قوله ﴿ الذي أنزل فيه القرآن ﴾ فإنه ذكر أنه أنزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.. ثم أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله عليه.. وأما قوله ﴿ هدى للناس ﴾ فإنه يعني رشادا للناس إلى سبيل الحق وقصد المنهج، وأما قوله ﴿ وبينات ﴾ فإنه يعني وواضحات ﴿ من الهدى ﴾ يعني من البيان الدال على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه وقوله ﴿ والفرقان ﴾ يعني الفصل بين الحق والباطل ؛ ﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ يريد إذا أهل وهو مقيم... وقال آخرون فمن شهده عاقلا بالغا مكلفا فليصمه ؛ الصحيح من التأويل هو الثالث وهو قول من قال فمن شهد منكم الشهر فليصمه جميع من شهد منه مقيما ﴿ ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾.. ومن كان مريضا أو على سفر في الشهر فأفطر فعليه صيام عدة الأيام التي أفطرها من أيام أخر غير أيام شهر رمضان -١ ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ ما يريد الله تعالى ليجعل علينا في الدين من حرج وإنما يريد ٢ بنا ما لا يعنتنا ولا يشق علينا يريد الشيء اليسير ؛ واليسر لغة السهولة ومنه اليسار للغنى لأنه يتسهل به الأمور وتتسنى المقاصد والعسر نقيضه – أوجب الصوم على سبيل السهولة لأنه ما أوجب إلا في مدة قليلة من السنة ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض والمسافر وههنا يتحقق صدق قوله صلى الله عليه وسلم ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ).. فيمكن أن يستدل به على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق ﴿ ولتكملوا العدة ﴾ قال ابن زيد كمال العدة أن يصوم ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض أن يتمه، فإذا أتمه فقد أكمل العدة ؛ ﴿ ولتكبروا الله على ما هداكم ﴾ هذا كأنه في معنى الطلب أي اذكروا الله شاكرين له أن هداكم لطاعته وإتمام عبادة صوم رمضان كما قال تعالى ﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا... ﴾٣ وقال تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه ﴿ فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾٤ – ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد صلوات المكتوبات.. ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر في هذه الآية ﴿ ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ﴾ وقوله ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه وحفظ حدوده فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك-٥.
٢ مما نقل النيسابوري والمعتزلة تمسكوا بالآية أنه قد يقع من العبد ما لا يريد الله تعالى فإن المريض لو حمل على نفسه على الصوم حتى أجهده فقد فعل ما لم يرد الله منه إذ كان لا يريد العسر، وأجيب بأنا نحمل اللفظ على أنه تعالى لا يأمره بالعسر، وإن كان قد يريد منه العسر فإن الأمر عندنا قد يثبت بدون الإرادة فكما أنه يجوز أنه يأمر ولا يريد جاز أن يريد ولا يأمر. ١هـ. ومما أورد أبو جعفر ﴿ولا يريد بكم العسر﴾ يقول ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم فيكلفكم صوم الشهر في هذه الأحوال مع علمه شدة ذلك عليكم وثقل حمله لو حملكم صومه. ١هـ..
٣ سورة البقرة من الآية ٢٠٠...
٤ سورة الجمعة الآية١٠..
٥ ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي رحمه الله..
﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾ روى الشيخان وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فجعلنا لا نصعد شرفا ولا نهبط واديا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير قال فدنا منا فقال ( يا أيها الناس اربعوا ١ على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله ) وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل ) قيل يا رسول الله وما الاستعجال قال ( يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ) ؛ وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر كما روي عن عبد الله بن عمر وهو يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد ﴾٢ مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن : قوله تعالى ﴿ فإني قريب ﴾ أي بالإجابة وقيل بالعلم وقيل قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام.. فإن قيل فما للداعي٣ قد يدعو فلا يجاب ؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين ﴿ أجيب ﴾ و.. ﴿ أستجب ﴾ لا يقتضي الاستجابة مطلقا.. وقال بعض العلماء أجيب إن شئت كما قال ﴿ ... فيكشف ما تدعون إليه إن شاء.. ﴾٤ فيكون هذا من باب المطلق والمقيد ﴿ لعلهم يرشدون ﴾ قال الهروي الرشد الهدى والاستقامة.
٢ ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم..
٣ مما أورد النيسابوري صاحب تفسير غرائب القرآن في معنى الآية الكريمة عن قتادة أن الصحابة قالوا يا نبي الله كيف ندعو ربنا فنزلت قال العلماء ليس بالقرب ههنا بالمكان.. وأيضا هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب ليس بالجهة لأنه لو كان في المكان لما كان قريبا من الكل بل لو كان قريبا من حملة العرش يكون بعيدا عن غيرهم ولو كان قريبا من المشرق كان بعيدا عن المغرب قالوا فثبت أن المراد بالقرب قربه بالتدبير والحفظ والكلاءة.. واعلم ان الدعاء مصدر دعوت ادعوا وقد يكون اسما كما تقول سمعت صوتا وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية والاستمداد والمعونة قال جمهور العقلاء إن الدعاء من أعظم مقامات العبودية وإنه من شعار الصالحين ودأب الأنبياء والمرسلين والقرآن ناطق بصحته عن الصديقين والأحاديث مشحونة بالأدعية المأثورة والحاصل أن الأسباب والوسائط والروابط معتبرة في جميع أمور هذا العالم ومن جملة الوسائط في قضاء الأوطار الدعاء والالتماس.. ولم يكن شيء من ذلك خارجا عن قانون القضاء السابق وناسخا للكتاب المسطور ومن فوائد الدعاء شعار الذل والانكسار والإقرار بسمة العجز والانكسار وتصحيح نسبة العبودية وأما وقت الدعاء ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ﴿ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له﴾ وعن أبي أمامة قال يا رسول الله أي الدعاء أسمع قال ﴿جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات﴾... ومن لطائف الآية أنه قال تعالى ﴿فإني قريب﴾ دون أن يقول: فقال إني قريب كما قال في سائر الأسئلة والأجوبة،... ﴿ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي﴾... ﴿يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله..﴾ وهذه الأسئلة أصولية ﴿يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين..﴾... ﴿يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول﴾...﴿فليستجيبوا لي﴾ أجاب واستجاب بمعنى أي فليمتثلوا أمري إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة ﴿وليؤمنوا بي﴾وليستقيموا وليعزموا على الاستجابة وليؤمنوا كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم إشارة أن يكونوا من الراشدين المهتدين إلى مصالح دينهم ودنياهم فإن طاعة الله تعالى هي المستتبعة للخيرات عاجلا وآجلا ﴿من عمل صالحا من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحييه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ وقيل الدعاء في الآية هو العبادة لما روي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ﴿الدعاء هو العبادة وقرأ(ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)﴾ وعلى هذه فالإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كقوله تعالى ﴿ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله..﴾.
٤ سورة الأنعام من الآية ٤١..
﴿ هن لباس لكم ﴾ نسائكم سكن لكم.
﴿ تختانون أنفسكم ﴾ تنقصونها وتحرمونها الثواب.
﴿ باشروهن ﴾ خالطوهن وأفضوا إليهن. ﴿ ابتغوا ﴾ اطلبوا.
﴿ ما كتب ﴾ ما قدر ﴿ الخيط الأبيض ﴾ أول ما يظهر من البياض والضوء المستعرض في الأفق عند طلوع الصبح.
﴿ حدود الله ﴾ الأحكام التي تحجز بين الحلال والحرام.
﴿ فلا تقربوها ﴾ فلا تتعرضوا لها بالتغيير.
﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ ( هذه رخصة من الله للمسلمين ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة.. ﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ قال ابن عباس يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن.. ولفظ البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله ﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ﴾.. ﴿ فالآن باشروهن ﴾ يعني جامعوهن ﴿ وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ يعني الولد.. واختار ابن جرير أن الآية أعم... ﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾ أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح١ من سواد الليل وعبر من ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله ﴿ من الفجر ﴾ )٢ روى البخاري عن سهل بن سعد قال كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد ﴿ من الفجر ﴾ فعلموا أنما يعني الليل والنهار وأخرج البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال لما نزلت﴿ حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ﴾ عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر من الليل فلا يستبين لي فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال :( إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار ) وفي رواية للبخاري قال أخذ عدي عقالا أبيض وعقالا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا فلما أصبح قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت تحت وسادتي خيطا أبيض وخيطا أسود قال ( إن وسادك لعريض٣ أن كان الخيط الأبيض والخيط الأسود تحت وسادك ) وفي أخرى له قال قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان ؟ قال ( إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين ) ثم قال ( لا بل هما سواد الليل وبياض النهار )٤ وأمر الله تعالى في الآية الكريمة ﴿ باشروهن وابتغوا ﴾ و﴿ كلوا ﴾ و﴿ اشربوا ﴾ ليس للوجوب وإنما يدل على الاستحباب وقد بينت ذلك السنة المطهرة ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تسحروا فإن السحور بركة ) ويستحب تأخير السحور كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قال أنس قلت لزيد كم كان بين الآذان والسحور قال قدر خمسين آية وفي صحيح مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( لا يغرنكم من سحوركم آذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى٥ يستطير هكذا ) وحكاه حماد٦ بيديه قال يعني معترضا٧. [ ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام يستدل على أنه من أصبح جنبا فليغتسل وليتم صومه فلا حرج عليه وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفا وخلفا لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم وفي حديث أم سلمة عندهما ثم لا يفطر ولا يقضي وقوله تعالى ﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾ يقضي الإفطار عند غروب الشمس كما جاء في الصحيحين ( إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم ) وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ) ؛ ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال، وهو أن يصل يوما يوم آخر ولا يأكل بينهما شيئا ؛ روى البخاري ومسلم وغيرهما- عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تواصلوا ) قالوا يا رسول الله إنك تواصل قال ( فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ) قال فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال فقال ( لو تأخر الهلال لزدتكم ) كالمنكل لهم.. وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ) قالوا فإنك تواصل يا رسول الله قال ( إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني ) أخرجاه في الصحيحين.. ﴿ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ﴾ أي لا تقربوهن مادمتم عاكفين في المسجد لا في غيره... المعتكف يحرم عليه النساء مادام معتكفا في مسجده ولو ذهب إلى منزله في حاجة لابد له منها فلا يحل له فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الأكل وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه.. وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام كما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها وكان ذلك ليلا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا[ وفي رواية ] تواريا أي حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم ( على رسلكما إنها صفية بنت حيي ) أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو قال شرا ) قال الشافعي رحمه الله أراد عليه السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها لئلا يقعا في محذور وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا والله أعلم.. ﴿ تلك حدود الله ﴾ أي هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه ﴿ حدود الله ﴾ أي شرعها الله وبينها بنفسه ﴿ فلا تقربوها ﴾أي لا تجاوزوها وتتعدوها.. ﴿ كذلك يبين الله آياته للناس ﴾ أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ للناس لعلهم يتقون ﴾ أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما قال تعالى ﴿ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم ﴾٨ ]٩.
٢ ما بين العلامتين () من تفسير القرآن العظيم بتصرف..
٣ قال الخطابي فيه قولان أحدهما يريد إن نومك لكثير وكنى بالوسادة عن النوم لأن النائم يتوسد أو أراد إن ليلك لطويل إذا كنت لا تمسك عن الأكل حتى يتبين لك العقال والقول الآخر كنى بالوسادة عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه على الوسادة إذا نام..
٤ رواه البخاري في الصوم وفي التفسير باب قوله ﴿وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود﴾ وأخرجه مسلم في الصوم باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر..
٥ يستطير أي ينتشر ضوءه ويعترض في الأفق بخلاف المستطيل والاستطارة هذه تكون بعد غيبوبة ذلك المستطيل..
٦ حماد هذا هو حماد بن زيد أحد رجال سند هذا الحديث..
٧ عن عطاء سمعت ابن عباس يقول هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب وقال عطاء فأما إذا سطع سطوعا في السماء وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا يفوت به الحج ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام وفات الحج وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء..
٨ من سورة الحديد الآية ٩..
٩ ما بين العلامتين () مما أورد ابن كثير بتصرف..
﴿ لا تأكلوا ﴾ قد يراد به لا تأخذوا ولا تستولوا
﴿ بالباطل ﴾ في اللغة الذاهب الزائل واتباع اللهو وإبليس كما في الآية الكريمة ﴿ لا يأتيه الباطل.. ﴾ إبليس لا يزيد في القرآن ولا ينقص. والشرك كما في قوله تعالى ﴿ ويمح الله الباطل.. ﴾ والبطلة السحرة. وفي الشرع كل ما لم يؤذن بأخذه فهو باطل وحرام كالسرقة والغصب والرشوة ونحوها. ﴿ تدلوا ﴾ الأصل فيه إرسال الحبل في البئر ثم استعير للتوصل إلى الشيء. ﴿ فريقا ﴾ قطعة وجملة ﴿ بالإثم ﴾ بما وقع في الذنب كالزور والخيانة.
نهى الله تعالى عن أخذ الأموال والاستيلاء عليها أو الأكل أوالانتفاع بها إن كانت مما لم يأذن به شرع الله كما نهى سبحانه عن الإدلاء بالأموال إلى الحكام رشوة أو إلقاء أمر الأموال المتنازع عليها وإسناد ذلك تحاكما إليهم بغية اقتطاع شيء من أموال الغير بغيا بشهادة زور أو بيمين كاذبة أو بصلحن مع العلم بأن المقضى له ظالم، والفرق بين الوجهين أن الحكام على الأول حكام السوء الذين يقبلون الرشا، فبها يصير المقصود البعيد قريبا، وإذا أخذها حاكم السوء مضى في الحكم من غير ثبت.. وعلى الثاني قد يكون الحاكم عادلا ولكن قد يشتبه عليه الحق١ ؛ روى البخاري ومسلم عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال ( إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها ) ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنكم على الباطل وارتكاب المعاصي مع العلم بقبحها أقبح وهذا أشد لعقابهم.
﴿ الأهلة ﴾ جمع هلال وهو ما يبدو من القمر في أول الشهر
﴿ مواقيت ﴾ يوقت الناس عباداتهم ومعاملاتهم بها
﴿ البر ﴾ فعل الخير وما يتقرب به إلى الله تعالى.
أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت ﴿ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ﴾ وفي رواية لهما١ قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله ﴿ ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ﴾ ؛ مما أورد أبو جعفر في معنى مفتتح الآية قل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها واستسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه وتصرم عدة نسائكم ووقت صومكم وإفطاركم فجعلها مواقيت للناس وأما قوله ﴿ والحج ﴾ فإنه يعني وللحج يقول وجعلها أيضا ميقاتا لحجكم تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم ؛ ﴿ ولكن البر من اتقى ﴾ كأن في الكلام حذفا والتقدير ولكن البر من اتقى فخافه وأطاعه أو اتقى المحارم والفواحش والمنكرات.
﴿ لا تعتدوا ﴾ لا تتجاوزوا.
هذا أمر الله تعالى أن يحاربوا ويقاتلوا من يتهيأ لقتالهم أومن يتصدى لحربهم. والخطاب لجميع المسلمين لأن قوله ﴿ الذين يقاتلونكم ﴾ إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله ؛ أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم-١ وفي صحيح مسلم عن بريدة أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يقول ( اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع( ﴿ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ﴾ [ لا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتالهم غير المستعدين كالنساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد، أو بالمثلة والمفاجأة من غير دعوة الإسلام.. ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾ المتجاوزين عما شرع الله لهم ]٢ عن ابن عباس يقول ( لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتهم هذا فقد اعتديتم ) ١ه. مما يقول علماء الأحكام. وللمرأة آثار عظيمة في القتال منها الإمداد بالأموال ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال ؛ والرهبان لا يقتلون ولا يسترقون بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ؛ وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر لقول أبي بكر لزيد٣ : وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ؛ والشيوخ من الكفار لا يقتلون إن كانوا لا يطيقون القتال ولا ينتفع بهم في رأي، وأما مما كان تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء : القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية ؛ والعسفاء٤ لا يقتلون، قال عمر بن الخطاب : اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. ١ ه.
٢ ما بين العلامتين [] من تفسير غرائب القرآن..
٣ هو يزيد بن أبي سفيان بن حرب أسلم يوم الفتح وعقد له أبو بكر رضي الله عنه سنة ١٣ه مع أمراء الجيوش إلى الشام وكان أول الأمراء الذين خرجوا إليها وتبعه أبو بكر راجلا وقال له... وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تغبن..
٤ هم الأجراء والفلاحون لما روي مرفوعا (الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا).
﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ﴾ في هذه الآية الكريمة زيادة في التكليف على ما في سابقتها فكان في الأولى الأمر بالجهاد معهم حيثما صادفناهم ووجدناهم وأدركناهم وأمر بإخراج أعداء الإسلام من مكة حيث أخرجوا أهل الإيمان السابقين الأولين منها والفتنة في الدين أشد من قتل من فعلوها أو أشق على نفوس المعروضين على الفتنة من أن يقتلوا فيستريحوا وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه أشد عليه وأضر من أن يقتل مقيما على دينه.. -١ مما قال مجاهد فالقتل أخف عليه من الفتنة وقال غيره شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به وهذا دليل على أن الآية في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله بن واقد بن عبد الله التميمي في آخر يوم من رجب الشهر الحرام ؛ وسيأتي مزيد تفصيل لما حدث في سرية عبد الله بن جحش حين نعرض إن شاء الله لتفسير قول ربنا الحكيم ﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه.. ﴾ الآية ٢١٧. من سورة البقرة.
﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ﴾ روى البخاري ومسلم٢ في صحيحهما عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه حديثا ومنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرة فإن أحدا ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ليبلغ الشاهد الغائب ) ومن رواية ابن عباس فيهما ( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.. ) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل لأحدكم أن يحمل السلاح بمكة )٣ قال مجاهد الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل وقال قتادة الآية منسوخة ٤ بقوله تعالى ﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.. ﴾٥.
لكن إن قاتلنا عدو عند المسجد الحرام وجب قتاله ؛ مما يقول بن خويز منداد : الإجماع قد تقرر بأن عدوا لو استولى على مكة وقال : لا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بقتال، فمكة وغيرها من البلاد سواء.
٢ كما رواه الترمذي والنسائي..
٣ أخرجه في الحج باب النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة..
٤ وجمهور من العلماء أن هذه الآية عامة في الأماكن أما آية سورة البقرة فخاصة ومن المسلم به عند الأصوليين أن العام لا ينسخ الخاص. .
٥ من سورة التوبة براءة من الآية ٥..
﴿ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ﴾ لكأن معنى هذه الآية يقارب معنى قول مولانا تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه ﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾١ أي فإن انتهوا عن كفرهم فلا قتال بينكم وبينهم وسيتجاوز الله عن آثامهم وأوزارهم وما كان من شر فعلوه في حال كفرهم.
﴿ فاعتدوا ﴾ فردوا عدوانه
﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾- سبب نزولها ما روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم قالوا نزلت في عمرة القضية وعام الحديبية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية في ذي القعدة سنة ست فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف ووعده الله سبحانه أنه سيدخله فدخله سنة سبع وقضى نسكه فنزلت هذه الآية...
﴿ والحرمات قصاص ﴾.. وإنما جمعت الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام والحرمة ما منعت من انتهاكه، والقصاص المساواة.. ﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ عموم متفق عليه إما بالمباشرة إن أمكن وإما بالحكام... ولا يحل لأحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان -١ وسمي جزاء المعتدى عدوانا للمشاكلة، كما في قول الله عز وجل شأنه ﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها.. ﴾٢ فإن جزاء المسيء حق وعدل لا إساءة فيه وإنما جعلت مقابلتها بما يساوي سيئة مشاكلة٣ ؛ ﴿ واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ أمر بطاعة الله تعالى وتقواه لنتقيه سبحانه في الإفراط والتفريط وفي الانتصار لأنفسنا وترك الاعتداء بما لم يرخص لنا فيه ؛ وبشرى بأنه جل وتقدس مع الذين يتقونه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه معنا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.
٢ من سورة الشورى من الآية ٤٠..
٣ وعلماء القرآن واللغويون مختلفون في المكافأة على الفعل هل يسمى عدوانا أم لا فمن قال ليس في القرآن مجاز، قال: المقابلة عدوان وهو عدوان مباح كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح لأن قول القائل فقالت له العينان سمعا وطاعة.
وكذلك امتلأ الحوض وقال قطني
وكذلك شكا إلي جملى طول السرى
ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق وحد الكذب إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به ومن قال في القرآن مجاز سمي هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله كما قال عمرو بن كلثوم
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم | ولي فرس للجهل بالجهل مسرج |
فمن رام تقويمي فإني مقوم | ومن رام تعويجي فإني معوج |
.
﴿ التهلكة ﴾ الهلاك. ﴿ المحسنين ﴾ الذين يعبدون الله كأنهم يرونه.
﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾روى البخاري١ عن حذيفة قال نزلت في النفقة أي لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة٢ وسبيل الله هنا الجهاد واللفظ يتناول بعد جميع سلبه قال المبرد ﴿ بأيديكم ﴾ بأنفسكم فعبر بالبعض عن الكل كما جاء في قول ربنا تبارك اسمه ﴿ ذلك بما قدمت يداك ﴾٣ وقال الزجاج وغيره التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم كما تقول لا تفسد حالك برأيك أي لا تأخذوا فيما لا يهلككم أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم.
﴿ وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ﴾ أمر بالإحسان وهو أعلى مقاما ت الطاعة كما جاء في الحديث الصحيح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام إذ جاءه يسأله عن أمور -تعليما للأمة- :( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وربما يكون معنى الأمر أحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم ما تنفقونه في سبيله تعالى تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه وبشرى للمحسنين بأنه وهو الشكور يحب من أحسن في كل شأن تيسر له واستصحب الإتقان في كل ما يقول ويعمل، استجابة لهدى الكتاب العزيز﴿ ... وأحسن كما أحسن الله إليك.. ﴾٤.
٢ العيلة الفقر.
٣ سورة الحج من الآية ١٠..
٤ سورة القصص من الآية ٧٧..
﴿ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ﴾- معطوف على قوله ﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾.. لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حالة الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق ﴿ حتى يبلغ الهدي محله ﴾ ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارنا أو من فعل أحدهما إن كان مفردا أو متمتعا كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك فقال ( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )-٣
﴿ فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ﴾ روى البخاري عن عبد الله بن معقل قال قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة فسألته عن فدية من صيام فقال : حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال ( ما كنت أرى أن الجهد بلغ هذا أما تجد شاة } قلت : لا، قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع واحلق رأسك ) فنزلت في خاصة وهي لكم عامة ؛ ﴿ فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ﴾ فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج فليذبح ما قدر عليه من الهدي وأقله شاة وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة ٤ في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء، قال البخاري : يقال إنه عمر وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول : إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام يعني قوله ﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾- وفي نفس الأمر لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها محرما لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه -٥
﴿ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ﴾ مما روى البخاري عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله )، ﴿ ذلك ﴾ [ قيل : هي راجعة إلى التمتع فتدل على أنه لا متعة لحاضري المسجد الحرام كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه قالوا ومن تمتع منهم كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه وقيل إنها راجعة إلى الحكم وهو وجوب الهدي والصيام فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام كما يقوله الشافعي ومن وافقه ]٦، ﴿ واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾- واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه... ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه يتم الانتظام ﴿ واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ لمن لم يتقه أي... استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان-٧
٢ ثم أي هناك.
٣ ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم..
٤ يريد التمتع الذي هو الإحرام بالعمرة ثم التحلل بعد الفراغ منها إلى أن يدخل يوم التروية ويدنو يوم عرفة فيحرم بالحج وليس المراد بهذه العبارة المتعة التي هي الزواج إلى أجل كما ظن بعض أدعياء العلم..
٥ ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم..
٦ ما بين العلامتين [ ] من فتح القدير. للشوكاني رحمه الله..
٧ ما بين العارضتين من روح المعاني بتصرف يسير..
﴿ ولا جدال في الحج ﴾ عن عبد الله بن مسعود قال أن تماري صاحبك حتى تغضبه ﴿ وما تفعلوا من خير يعلمه الله ﴾ [ لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم بهم وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة ﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ﴾ عن عكرمة أن أناسا كانوا يحجون بغير زاد فأنزل الله ﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ﴾.
[ لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا فأرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى إليها وقوله ﴿ واتقون يا أولي الألباب ﴾ يقول : واتقوا عقابي ونكالي وعذابي لمن خالفني ولم يأتمر بأمري يا ذوي العقول والأفهام ]٣.
٢ سورة الحج من الآية ٢٥..
٣ ما بين العلامتين [] من تفسير القرآن العظيم..
﴿ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ﴾ فإذا دفعتم بكثرة من المكان المعلوم المكرم وعدتم من حيث بدأتم وكررتم راجعين نحو البيت فيما بين عرفة ومنى فصلوا وادعوا عند المشعر الذي بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة على محسر وليس مأزما عرفة من المشعر، وعن إبراهيم قال رأى ابن عمر الناس يزدحمون على الجبيل بجمع أي بمزدلفة فقال يا أيها الناس إن جمعا كلها مشعر وعن سعيد ابن جبير : المشعر الحرام ما بين المزدلفة فعرفة كلها موقف إلا عرنة ومزدلفة كلها مشعر إلا وادي محسر. ﴿ واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ﴾ وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره والطاعة له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمي عن طريق الحق وبعد الضلالة، كذكره إياكم بالهدى حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها فنجاكم...
٢ من سورة الجمعة من الآية ١٠..
هم قريش ومن ولدته قريش ولو من جهة إناثها..
٢ سورة آل عمران من الآية ١٩٣..
﴿ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ﴾ نقل عن السدي قال : كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقاموا بمنى يقوم الرجل فيسأل الله ويقول اللهم إن أبي كان عظيما الجفنة، عظيم القبة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيت أبي ليس يذكر الله، إنما يذكر آباءه ويسأل أن يعطى في الدنيا وهذا نهي عن الدعاء المخصوص بأمر الدنيا وإن جاء في صيغة الخبر عنهم والخلاق النصيب ؛ [ ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا وعلى هذا ف ﴿ ما له في الآخرة من خلاق ﴾ أي كخلاق الذي يسأل الآخرة
٢ أخرج الترمذي عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال يا رسول الله إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها فأخبرني بشيء لأتشبث به ولا تكثر علي فأنسى وفي رواية أن شرائع الإسلام قد كثرت وأنا قد كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى قال (لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى) وإسناده صحيح وصححه الحاكم ووافقه الذهبي..
٣ سورة الأحزاب من الآية ٣٥..
٤ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن.
﴿ والله سريع الحساب ﴾ لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إعمال فكر كما يفعله الحساب، قال الحسن حسابه أسرع من لمح البصر... ]١ ؛ روى البخاري عن أنس بن مالك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة.
﴿ في أيام معدودات ﴾ هي أيام التشريق -ثلاثة أيام بعد النحر- والتكبير المقيد... يستحب في الأضحى، وتقييده هو أن يؤتى به في أدبار الصلوات خاصة واختلفوا في ابتدائه وانتهائه.. والقول الرابع يبتدأ به في صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق وهو قول أكابر الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم.. كما روى ابن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا وقال الله أكبر ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق١...
﴿ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ﴾... رفع الحرج في الاستعجال والتأخر دلالة على أن الحاج مخير بين الأمرين أو بأن أهل الجاهلية كانوا فريقين منهم من يجعل التعجل إثما ومنهم من يجعل المتأخر آثما مخالفا لسنة الحج فبين الله تعالى أن لا إثم على كل واحد منهما...
﴿ لمن اتقى ﴾ أي ذلك التخيير ونفي الإثم عن التعجل والتأخر لأجل الحاج المتقي كيلا يتخالج في قلبه إثم منها فإن ذا التقوى متحرز من كل ما يريبه...
﴿ واتقوا الله ﴾ أي : فيما يستقبل، فيه حث على ملازمة التقوى فيما بقي من عمره وتنبيه على مجانبة الاغترار بالحج السابق، كما أن قوله ﴿ واعلموا أنكم إليه تحشرون ﴾ توكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه لأن الحشر وهو اسم يقع على ابتداء خروج الناس من الأجداث إلى انتهاء الموقف يوجب تصوره لزوم سيرة الانتقاء عن ترك الواجبات وفعل المحظورات ؛ والمراد من قوله ﴿ إليه ﴾ أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ ولا مستعان إلا هو ﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾٢- ٣.
٢ سورة الانفطار الآية ١٩..
٣ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن..
﴿ يعجبك ﴾ يروقك ويعظم في نفسك
﴿ ألد الخصام ﴾ أشد الخصوم خصومة
﴿ تولى ﴾ أدبر وأعرض قاله الحسن أو غلب وصار وليا قاله الضحاك
﴿ سعى ﴾ أسرع وعمل وقصد. ﴿ الحرث ﴾ الزرع
﴿ النسل ﴾ كل ذات روح.
﴿ لا يحب الفساد ﴾ لا يرضى به.
﴿ أخذته العزة ﴾ أحاطت به الأنفة.
﴿ بالإثم ﴾ بسبب إقامته على الذنب.
﴿ فحسبه ﴾ كافيه عقوبة. ﴿ المهاد ﴾ الفراش.
﴿ وإذا قيل له اتق الله ﴾ في ارتكاب شيء من هذه المنهيات [ والقائل إما الرسول صلى الله عليه وسلم قولا خاصا أو عاما لجميع المكلفين فيدخل المنافق فيه وإما كل واعظ وناصح ﴿ أخذته العزة بالإثم ﴾ أي أخذته الغلبة والاستيلاء والأنفة وحمية الجاهلية أن يعمل الإثم وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الوعظ وعدم الإصغاء إليه أو من قولهم أخذته الحمى أي لزمته وأخذه الكبر أي اعتراه ذلك لمعنى لزمته غرة العزة الحاصلة بسبب الإثم الذي في قلبه، وذلك الإثم هو الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل ﴿ فحسبه جهنم ﴾ كافية هي جزاء له.. سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب والعقاب ﴿ ولبئس المهاد ﴾ أي ما يمهد لأجله ]١.
﴿ ابتغاء مرضاة الله ﴾ طلبا لرضاه سبحانه.
﴿ رؤوف ﴾ كثير الرفق والبر بهم.
﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ﴾ وبعد التحذير من سبيل المجرمين الذين يقولون ما لا يفعلون ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ولا يرقبون إلا ولا ذمة في مال أو دماء لقوم يؤمنون، وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا دعوا إلى الحق تولوا وهم معرضون مستكبرون، جاءت الآية المباركة بعد الثلاث السابقة تدعوا إلى الهدى والصراط المستقيم وتشكر لمن بذل نفسه مجاهدا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر طالبا لرضوان مولانا البر الرحيم ؛ ﴿ والله رؤوف بالعباد ﴾ [ فمن رأفته جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل... ومن رأفته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط عقابه وأعطى ثوابه ومن رأفته أن النفس له والمال له ثم إنه يشتري ملكه بملكه فضلا منه وامتنانا ورحمة وإحسانا ]١.
﴿ خطوات الشيطان ﴾ أعماله ومعاصيه. ﴿ مبين ﴾ مظهر.
لكأن هذه دعوة إلى الثبات على الإسلام والوفاء بأماناته كافة١ والحذر من متابعة الشيطان والانقياد لوسواسه -يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من أيامكم ولا تخرجوا منه ولا من شيء من شرائعه ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أهل الغواية، والكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجا منها لا يمتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالا بعد حال... أو أمرهم بأن يكونوا مجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه، ولا تتبعوا آثار الشيطان بالإقبال على الدنيا والجبن والخور في أمر الدين مثل ﴿ .. ولا تنازعوا فتفشلوا... ﴾٢- ٣ ؛ ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ حذرنا البر الرحيم الخلاق العليم من إبليس اللعين وقبيله إنسا وجنا فإنهم يدعون إلى الخسار والبوار وعذاب النار وقد أخذوا على أنفسهم أن يضلوا من انخدع بوسوستهم ضلالا بعيدا وإبليس حلف ليغوين البشر أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
٢ من سورة الأنفال من الآية ٤٦..
٣ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن..
﴿ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾ [ فإن أخطأتم الحق فضللتم عنه وخالفتم الإسلام وشرائعه من بعدما جاءتكم حججي وبينات هداي واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون فاعلموا أن الله ذو عزة لا يمنعه من الانتقام منكم مانع ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكم أمره ومعصيتكم إياه دافع ﴿ حكيم ﴾ فيما يفعل بكم من عقوبة على معصيتكم إياه بعد إقامة الحجة عليكم، وفي غيره من أموره ]١.
﴿ قضي الأمر ﴾ فرغ منه.
﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ﴾ ما ينتظرون إلا أن يجيئهم المولى سبحانه فالاستفهام ب﴿ هل ﴾ هنا قد يراد بها النفي ﴿ ينظرون ﴾ بمعنى ينتظرون وقيل : المأتي به محذوف. والمعنى إلا أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته وفائدة الحذف كونه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم وذهاب فكرتهم في كل وجه ؛ اليهود كانوا على اعتقاد التشبيه ويجوزون المجيء والذهاب على الله تعالى ويقولون إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ضلل الغمام فطلبوا مثل ذلك في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود ولا يبقى إشكال فإن الآية لا تدل إلا على أن قوما ينتظرون إتيان الله وليس فيها دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أم مبطلون -١. ومما أورد صاحب الجامع٢ لأحكام القرآن :﴿ هل ينظرون ﴾ يعني التاركين للدخول في السلم و﴿ هل ﴾ يراد بها هنا الجحد.. وقال الزجاج : التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا، وأفعاله بلا آلة ولا علة سبحانه ؛... ولا يجوز أن يحمل هذا وما أشبهه مما جاء في القرآن والخبر على وجه الانتقال والحركة والزوال لأن ذلك من صفات الأجرام والأجسام، تعالى الكبير المتعال ذو الجلال والإكرام عن مماثلة الأجسام علوا كبيرا، والغمام السحاب الرقيق الأبيض سمي بذلك لأنه يغم أي يستر.
﴿ وقضي الأمر ﴾... وقع الجزاء وعذب أهل العصيان.. ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ والأمور كلها راجعة إلى الله قبل وبعد وإنما نبه بذكر ذلك يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا. ١ه.
٢ لكن صاحب جامع البيان -أبو جعفر محمد بن جرير الطبري- أورد ما نصه عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (توقفون موقفا واحدا يوم القيامة مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم قد حصر عليكم فتبكون حتى ينقطع الدمع ثم تدمعون دما وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان أو يلجمكم فتصيحون ثم تقولون من يشفع لنا إلى ربنا فيقضى بيننا فيقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم فيطلب ذلك إليه فيأبى ثم يستقرءون الأنبياء نبيا نبيا كلما جاؤوا نبيا أبى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتوني فإذا جاؤوني خرجت حتى آتي الفحص، قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الفحص؟ قال قدام العرش فأخر ساجدا حتى يبعث الله إلي ملكا فيأخذ بعضدي فيرفعني ثم يقول الله لي يا محمد فأقول نعم وهو أعلم فيقول ما شأنك فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم فيقول قد شفعتك أنا آتيكم فأقضي بينكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف حتى وقف مع الناس فبينما نحن وقوف سمعنا حسا من السماء شديدا فهالنا فنزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم فقلنا أفيكم ربنا قالوا لا وهو آت ثم نزل أهل السماء الثانية بمثل ما نزل من الملائكة وبمثل ما فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم فقلنا لهم أفيكم ربنا قالوا لا وهو آت ثم نزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة وبمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم فقلنا لهم أفيكم ربنا قالوا لا وهو آت ثم نزل أهل السموات على عدد ذلك من التضعيف حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة ولهم زجل من تسبيحهم يقولون سبحان ذي الملك والملكوت سبحان رب العرش ذي الجبروت سبحان الذي لا يموت الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح القدوس سبحان ربنا الأعلى سبحان ذي السلطة والعظمة سبحانه أبدا أبدا فينزل تبارك وتعالى يحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والسموات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم فوضع الله عز وجل عرشه حيث يشاء من الأرض ينادي مناد يسمع الخلائق فيقول يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع كلامكم وأبصر أعمالكم فأنصتوا إلي فإنما هي صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن والإنس والبهائم فإنه ليقتص يومئذ للجماء من ذات القرن).
بينما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن: وأما إتيان الله فلقد أجمع المفسرون على أنه سبحانه منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات ولأنه تعالى أزلي فرد في ذاته وصفاته فذكروا في الآية وجهين الأول هو مذهب السلف الصالح -السكوت في مثل هذه الألفاظ عن التأويل.. من التأويل. الثاني.. جعل مجيء الآيات مجيئا له وقيل المراد إتيان أمره وبأسه فحذف المضاف. ١ هـ.
.
﴿ سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ﴾ اسأل أبناء يعقوب عليه السلام والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل واحد وهو السؤال سؤال تقريع فكم من علامة وبرهان تقوم بها الحجة والسلطان على وجه اليقين والإيمان والتصديق والإذعان لحقائق دين الإسلام أنزلنا هذه العلامات الواضحات على أنبياء بني إسرائيل فمنهم من صدق ما جاءت به الأنبياء ومنهم من جحد وحرف ﴿ ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ﴾ فتحريف ما نزل من الحق وكتمانه وتبديلهم الهدى من بعد ما عقلوه استوجبوا بها حلول عذاب الله بهم جزاء لهم على جرمهم ومهما كان سبب النزول فإن الوعيد يتناول كل نعمة أنعم الله تعالى بها على عبد من عباده كائنا من كان فوقع منه التبديل لها وعدم القيام بشكرها.
﴿ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ﴾ خلق الله تعالى الكون وأودعه زينة وجمالا وبهجة وزخرفا فأما البررة العقلاء السعداء فإنهم يستمتعون بالزينة الطيبة الحلال ويترقبون أبرك وأدوم منها حيث يردون على مولانا ذي الإكرام الجلال لكن الكفرة والفجرة الأشقياء تستعبدهم الشهوات والزخارف والأهواء حتى يظنوا أنها مخلدتهم ويحسبوا أنه لا بعث ولا جزاء.
﴿ ويسخرون من الذين آمنوا ﴾ جملة في موقع الحال فهم مع كونهم لا يرجحون لقاء الله يهزؤون ممن اهتدى بهداه وقد فصل تمادي المستهزئين في آيات من كتاب الله :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين. وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ﴾١. بل لقد سخروا -عليهم لعنة الله- من صفوة البشر محمد خاتم الأنبياء كما أخبره مولاه جل علاه ﴿ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا.. ﴾٢.
﴿ والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ﴾ إما بالمكان وذلك لأنهم يكونون في عليين والكفار والذين أجرموا في سجين، وإما بالرتبة فإن المتقين في جنات ونهر ﴿ في مقعد صدق عند مليك مقتدر ﴾٣. والذين كفروا في الذل والخزي والعذاب المهين ﴿ .. ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ﴾٤.
﴿ والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ يرزق من يشاء من مؤمن وكافر بغير حساب يكون لأحد عليه ولا مطالبة، ولا سؤال سائل، فالأمر أمره والحكم حكمه ولا يسأل عما يفعل.. ويحتمل أن يخص الرزق في الآية بالمؤمنين في الآخرة وعلى هذا يكون معنى ﴿ بغير حساب ﴾ أي رزقا واسعا وغذاء لا فناء له ولا انقطاع ولا حصر كقوله :﴿ ... يرزقون فيها بغير حساب ﴾٥- ٦.
٢ من سورة الأنبياء من الآية ٣٦..
٣ من سورة القمر الآ ية٥٥.
٤ من سورة النبأ الآية ٤٠.
٥ من سورة المؤمن ﴿غافر﴾ من الآية٤٠.
٦ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن.
﴿ منذرين ﴾ محذرين من سوء عاقبة الأشقياء. ﴿ بغيا ﴾ ظلما وتعديا.
﴿ صراطا ﴾ طريق.
﴿ كان الناس أمة واحدة ﴾ يمكن أن يكون هذا خبرا عن البشر بعد الطوفان الذي أهلك الله تعالى به من كذب رسوله نوحا عليه الصلاة والسلام فقد عمر الأرض إذ ذاك أهل الإيمان على قلتهم لكنهم كانوا متوحدين على الحق.
﴿ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ﴾ لعل هنا محذوفا تقديره : فاختلفوا فبعث الله النبيين إذ بعد موت نوح عليه السلام دب الخلاف في الناس فمنهم من آمن ومنهم من كفر فأرسل الله تعالى الرسل تدعو إلى التوحيد والإسلام الذي دعا إليه نوح وبشروا من آمن بالخير وحسن المآب وجزيل الثواب وأنذروا من كفر بالخزي والهزيمة وأليم العذاب.
﴿ وأنزل معهم الكتاب ﴾ مع ما حملت الرسل عن الله من تبشير وإنذار أوحي إليهم من كتب ربنا ما شاء أن ينزله سبحانه عليهم أو ما وصاهم به من الدعوة إلى كتب إخوانهم النبيين ﴿ بالحق ﴾ فإن إنزال الكتب يكون متلبسا بالحق شاهدا به كما قال ربنا في محكم القرآن ﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل... ﴾١.
﴿ ليحكم بين الناس ﴾ [ علة للإنزال المذكور أوله وللبعث وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الاختلاف فلا يضر تقدم بعثة آدم أي ﴿ فيما اختلفوا فيه ﴾ في الحق الذي اختلفوا فيه... ﴿ وما اختلف فيه ﴾ أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو في الكتاب المنزل متلبسا به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات زائغة والواو حالية، ﴿ إلا الذين أوتوه ﴾ أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق، أي : عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف سببا لرسوخه واستحكامه... وقيل عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم، ولأن غيرهم تبع لهم ؛ ﴿ من بعد ما جاءتهم البينات ﴾ أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق وفيه إيذان بتمكنهم من ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه... ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها ﴿ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ﴾ أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره و﴿ من ﴾ بيان ﴿ لما ﴾ والمراد : للحق الذي اختلف الناس فيه -فالضمير عام شامل للمختلفين السابقين واللاحقين وليس راجعا إلى ﴿ الذين أوتوه ﴾ كالضمائر السابقة والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين على اختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد اختلافهم ]٢.
﴿ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ يسدد مولانا سبحانه ويرشد من شاء من عباده إلى سبيل الحق الذي لا يضل سالكه ويعرفه ما يتوصل به إلى سعادة الدارين ويثبته على الحق والصواب والطريق التي لا اعوجاج فيها في الصحيحين صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي ويقول ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل مالك السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ).
٢ ما بين العلامتين [] من روح المعاني..
﴿ الضراء ﴾ المصائب في الأبدان. ﴿ زلزلوا ﴾ خوفوا.
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ﴾ أظننتم أن تدركوا نعيم الآخرة وثوابها دون أن تختبروا كما اختبر الذين من قبلكم من أتباع الأنبياء ؟ كلا فإن سنة الله تعالى في السابقين والتي لا تتحول إلى يوم الدين أن يبتلى من ينتسب إلى الإيمان ليميز الخبيث من الطيب وهذا كقول المولى تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾١، وقوله جل ثناؤه ﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ﴾٢، وكما في الآية الكريمة ﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ﴾٣، يقول اللغويون :﴿ أم ﴾ هنا منقطعة بمعنى بل و﴿ حسبتم ﴾ تطلب مفعولين فأن وما دخلت عليه في﴿ أن تدخلوا ﴾ في تأويل مصدر سد مسد المفعولين وقيل المفعول الثاني محذوف والتقدير أحسبتم دخولكم الجنة واقعا و﴿ لما ﴾ بمعنى لم أي ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا ؛ ﴿ مستهم البأساء ﴾ المصائب في الأموال ﴿ والضراء ﴾ البلايا في الأبدان ﴿ وزلزلوا ﴾ خوفوا من الأعداء، روى البخاري عن خباب بن الأرث قال : قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا قال :( إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع الميشار -وفي رواية المنشار- على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه فلا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ) ثم قال :( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون ). ﴿ حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه ﴾- أي انتهى أمرهم من البلاء إلى حيث اضطروا إلى أن يقول الرسول وهم أعلم الناس بما يليق به تعالى وما تقتضيه حكمته والمؤمنون المقتدون بآثاره المهتدون بأنواره ﴿ متى ﴾ يأتي ﴿ نصر الله ﴾ طلبا وتمنيا له، واستطالة لمدة الشدة -لا شكا ولا ارتيابا-... ﴿ ألا إن نصر الله قريب ﴾... أي فقيل لهم حينئذ تطييبا لأنفسهم بإسعافهم بمرامهم.. وليس التزلزل والانزعاج أعظم من الخوف وقد عرى الرسل صلوات الله عليهم وسلامه وأخرجه الحاكم وصححه عن أبي مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيئات ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن )- ٤.
٢ من سورة العنكبوت الآية ١٠..
٣ من سورة القتال أو "محمد" عليه السلام الآية ٣١...
٤ ما بين العارضتين من روح المعاني..
٢ من سورة الحجرات الآية ١٥..
سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال الذي يحدث في أيام من شهر حرام -وهي أربعة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب- هل يحل لأحد أن يقاتل فيها فأجاب الوحي عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المولى جل علاه أن استحلال الأشهر الحرم بالقتال فيها خطيئة لكن صد الناس عن الإسلام والكفر بالملك العلام واستحلال حرمة البيت الحرام وإخراج النبي ومن آمن به وإقصائهم عن بيت ربهم وكعبته أعظم جرما وأكبر خطئا من الذي سألوا عنه والسائلون هم قريش والمشركون -على ما روي عن أبي اليسار عن جندب بن عبد الله- أو هم المسلمون على ما روى ابن عباس وأكثر الروايات على ذلك وهو اختيار أكثر المفسرين، أما البيهقي فقد صحح رواية جندب١ رضي الله تعالى عنه ؛ قال الزجاج المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ﴿ قتال فيه ﴾ ربما يكون الخفض هنا على نية تكرار العامل وهو﴿ عن ﴾ أي عن الشهر الحرام عن قتال فيه أو هو بدل اشتمال من الشهر، ولما كان النكرة موصوفة أو عاملة صح في إبدالها عن المعرفة ؛ ﴿ قل قتال فيه كبير ﴾ مبتدأ وخبر ﴿ وصد عن سبيل الله ﴾ مبتدأ ﴿ وكفر به ﴾ معطوف على صد ﴿ والمسجد الحرام ﴾ عطف على ﴿ سبيل الله { وإخراج أهله منه ﴾ عطف على صد وخبر الابتداء ﴿ أكبر عند الله ﴾ أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام ﴿ والفتنة أكبر من القتل ﴾ أي فتنتهم المسلمين عن دينهم أي أن ذلك أشد جرما من قتلكم في الشهر الحرام.
﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ﴾ تحذير من الله تعالى للمؤمنين من خبث وضغن الكافرين، عن عروة بن الزبير : هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين يعني على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردوهم إلى الكفر كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة، و﴿ حتى ﴾ هنا بمعنى كي أو بمعنى إلى ﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ وعيد لمن يتبدل الكفر بالإيمان إلا من أكره ثم رجع مسلما فإن القرآن المجيد إذ توعد الذين كفروا بعد إيمانهم بأن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين، قال مستثنيا ﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾٢ وحبوط الأعمال -أعاذنا الله منه- هو بطلانها وأن يذهب ويضيع ثوابها.
٢ من سورة آل عمران الآية ٨٩ وقبلها ثلاث آيات متتابعات. .
٢ ما بين العارضتين مما أورد النيسابوري..
٣ روي عن لقمان أنه قال لابنه: خف الله تعالى خوفا لا تأمن فيه مكره، وارجه رجاء أشد من خوفك، قال فكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟ قال: أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر، وهذا لأنهما من حكم الإيمان وهما للمؤمن كالجناحين للطائر، إذا استويا استوى الطير طيرانه ومن هنا قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا..
﴿ الخمر ﴾ ما خامر العقل وغطاه وستره.
﴿ الميسر ﴾ القمار. ﴿ العفو ﴾ فضل المال.
قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات : نزلت بمكة ﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا.. ﴾١ فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من أصحابه قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ ﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ أعبد ما تعبدون فنزلت ﴿ ... لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون... ﴾٢ فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه أعرابي بلحى بعير فشجه شجة موضحة٣، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت ﴿ .. إنما الخمر والميسر والأنصاب... ﴾ إلى قوله ﴿ .. فهل أنتم منتهون... ﴾٤ فقال عمر انتهينا يا رب، والحكمة في وقوع التحريم على هذا الوجه أن القوم قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرا فلوا منعوا دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدرج والرفق وكل ما خامر العقل وخالطه فهو خمر وفيه ملحظ للستر ومنه خمار المرأة ؛ ﴿ والميسر ﴾ القمار قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله، فنزلت الآية وقال أيضا : كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق، ﴿ قل فيهما إثم كبير ﴾ إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقة وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله إلى غير ذلك.... وأما القمار فيورث العداوة والبغضاء لأنه أكل مال الغير بالباطل ؛.. ﴿ ومنافع للناس ﴾ أما في الخمر فربح التجارة.. ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب.. وقيل منفعته التوسعة على المحاويج.. ﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة-٥.
﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾ كأنما سألوا في الآية الكريمة السابقة رقم ٢١٥ من هذه السورة المباركة سألوا عن مصارف النفقة إلى من تصرف فأجيبوا ﴿ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين... ﴾ وفي هذه سألوا كم ينفقون فأجيبوا ما يفضل عن حاجاتهم ؛ روى الشيخان٦ وغيرهما٧ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول ). ﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ﴾ قال ابن عباس يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
٢ من سورة النساء الآية ٤٣.
٣ الموضحة هي الشجة الجرح في الرأس إذا أبدت بياض العظم..
٤ من سورة المائدة الآيتان ٩٠-٩١..
٥ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن..
٦ الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى..
٧ أخرج ابن سعد عن جابر قال قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم آتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته فقال (يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول).
﴿ تخالطوهم ﴾ تخلطوا أموالهم بأموالكم.
﴿ أعنتكم ﴾ جهدكم وشق عليكم.
﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ﴾ قال ابن عباس يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ عن ابن عباس قال : لما أنزل تعالى ﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾١ وقوله ﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا.. ﴾٢، انطلق من كان عنده مال اليتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه وجعل يحبس له ما يفضل من طعامه حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ قل إصلاح لهم خير ﴾ وهو كلام جامع لمصالح اليتيم والولي، أما لليتيم فلأنه يتضمن صلاح نفسه بالتقويم والتأديب وصلاح ماله بالتبقية والتثمير لئلا تأكله النفقة عليه والزكاة منه وأما الولي فلأن إحراز الثواب خير له من التحرز عن مال اليتيم حتى تختل مصالحه وتفسد معيشته-٣.
﴿ وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ قال أبو عبيد : مخالطة اليتامى أن يكون لأحده المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه، قال أبو عبيد : وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس.
﴿ والله يعلم المفسد من المصلح ﴾ فيه تخويف، فإن التذكير بأن الملك المهيمن سبحانه خبير بمن يفسد أموال اليتامى ممن يصلحها ويجازي كلا بما عمل مما يحمل على التوجه للإصلاح والحذر من الإفساد ؛ ﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ من رحمته سبحانه أن شرع لكم الشرعة السمحة ولم يشرع لكم ما يشق عليكم أداؤه. ﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ غالب لا يمانع ولا يدافع ﴿ حكيم ﴾ يقضي بما هو صواب وحق.
٢ سورة النساء من الآية ١٠..
٣ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن..
﴿ تنكحوا ﴾ تتزوجوا.
﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ﴾ اختلف أهل التأويل في المراد بالمشركة في هذه الآية فقال بعضهم : كل مشركة عابدة وثن أو يهودية أو نصرانية أو مجوسية، وعن قتادة ما حاصله : أهل الكتاب غير داخلات في النهي، يقول ابن جرير : فمعنى الكلام إذن ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركات غير أهل الكتاب حتى يؤمن فيصدقن بالله ورسوله وما أنزل عليه والمراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد١ أي لا تعقدوا على المشركات. ﴿ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ﴾ اللام مؤكدة تشبه لام القسم والأمة ربما يراد بها الرقيقة المؤمنة أو المرأة المؤمنة حرة كانت أو مملوكة لأن النساء كلهن إماء الله سبحانه ؛ [ وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب٢ في الجمال والحسب والمال فلا تنكحوها فإن الأمة المؤمنة خير عند الله منها ]٣، مما نقل النيسابوري رحمه الله : لأن الإيمان يتعلق بالدين والمال والجمال والنسب يتعلق بالدنيا، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يتيسر الجمع بينهما، وقد تحصل المحبة والتآلف عند التوافق في الدين فتكمل منافع الدنيا أيضا من حسن الصحبة والعشرة وحسن الغيب وضبط الأموال والأولاد وأما عند اختلاف الدين فتنعكس هذه القضايا وقد يراد أضداد ما توقع منها.
﴿ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ﴾ ولا فرق هنا بين مشرك وكتابي فلا يحل تزويج مسلمة من كافر أيا ما كان نوع كفره، ﴿ أولئك يدعون إلى النار ﴾ هؤلاء الذين حرم الله تعالى على المسلمين مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم يدعون بأعمالهم إلى ما يدخل النار وأقوالهم ليست بأقل فحشا ولا نكرا ولا خطرا، ﴿ والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه [ اقبلوا من الله ما أمركم به فاعملوا به وانتهوا عما نهاكم عنه فإنه يدعوكم إلى الجنة يعني بذلك يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم فيعفو عنها ويسترها عليكم، أما قوله { بإذنه ﴾ فإنه يعني أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيله وطريقه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة.. ويوضح حججه وأدلته في كتابه.. ليتذكروا فيعتبروا ويميزوا بين... دعاء إلى النار والآخر دعاء إلى الجنة وغفران الذنوب فيختاروا خيرهما لهم ]٤.
٢ لا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى أو عبد من عباد الله..
٣ ما بين العلامتين [] من جامع البيان..
٤ ما بين العلامتين[] من جامع البيان..
﴿ فاعتزلوا النساء في المحيض ﴾ اجتنبوا جماع الزوجات حال حيضهن.
﴿ من حيث أمركم الله ﴾ من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتى.
﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ﴾ في صحيح مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم ( جامعهن١ في البيوت وصانعوا كل شيء إلى النكاح )٢. نبأنا العليم الخبير أن الحيض يتأذى منه وتكره لونه ورائحته الفطرة السليمة ونهانا عن الاستمتاع بالزوجة حال خروج هذا الحيض منها، ولا إذن في أن يتمتع الرجل بامرأته إلا بعد طهرها من حيضها ﴿ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾ أي فجامعوهن وهو أمر إباحة وكني بالإتيان عن الوطء... و﴿ من ﴾ بمعنى في أي في حيث أمركم الله وهو القبل ونظيره قوله تعالى ﴿ ... أروني ماذا خلقوا من الأرض ﴾٣ أي في الأرض، وقوله ﴿ ... إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة.. ﴾٤ أي في يوم الجمعة وقيل المعنى أي من الوجه الذي أذن لكم فيه.. وقال محمد ابن الحنفية : المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى ]٥. ﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾ قال مجاهد من إتيان النساء في أدبارهن وعنه من الذنوب وقيل المتطهرون الذين لم يذنبوا فإن قيل كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب قيل قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه كما ذكر في آية أخرى :﴿ .. فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات.. ﴾٦.
٢ زاد بعضهم فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه قد وجد -أي غضب- عليهما فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما..
٣ من سورة الأحقاف من الآية ٤..
٤ سورة الجمعة من الآية ٩..
٥ ما بين العلامتين ([] من الجامع لأحكام القرآن..
٦ من سورة فاطر الآية ٣٢..
﴿ حرث ﴾ مزدرع. ﴿ أنى شئتم ﴾ كيف شئتم وأي وجه أحببتم.
﴿ وقدموا لأنفسكم ﴾ قدموا الخير والعمل الصالح ليوم معادكم لربكم.
﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ﴾ روى البخاري ومسلم -واللفظ لمسلم- عن جابر بن عبد الله قال كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت الآية ﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم.. ﴾ زاد في رواية عن الزهري إن شاء مجبية١ وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد، وذكر الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم٢، و﴿ حرث ﴾ تشبيه، لأنهن مزدرع الذرية. ﴿ وقدموا لأنفسكم ﴾ لعل المعنى اعملوا الذي تجدونه منجيا لكم من كربات الآخرة ﴿ واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ﴾ واتقوه في معاصيه أن ترتكبوها وفي حدوده أن تضيعوها فإنكم على ربكم تعرضون وبين يديه تحاسبون وبأعمالكم مجزيون، وعهد البر الرحيم سبحانه إلى رسوله وخاتم أنبيائه أن يبشر أهل التقوى واليقين بما أعد الله للأبرار من الدرجات العلى في جنات النعيم.
﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور رحيم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ﴾.
٢ لكن من فسر أنى ب﴿من أين﴾ ذهبوا إلى أن الوطء في الدبر مباح للرجل من امرأته وأطال الطبري رحمه الله تعالى في نقل روايات عمن ذهبوا إلى ذلك ونقل القرطبي قريبا من هذا ومما روى عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا ويتأول فيه قول الله عز وجل ﴿أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم..﴾وقال فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم ولو لم يبح لكم مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك لكنه نقل عن ابن عبد البر أن العلماء لم يختلفوا في الرتقاء التي لا يوصل وطئها أنه عيب ترد به وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء..
٢ من سورة المائدة من الآية ٨٩..
﴿ بعولتهن ﴾ أزواجهن. ﴿ درجة ﴾ فضيلة ومنزلة.
﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ هذا هو الحكم الثامن سبقته أحكام سبعة في ثمان آيات متتابعات تشرع للبيت المسلم : النفقة ومن يتزوج ومتى تعزل الزوجة وماذا يحل منها للزوج وأخيرا : الحلف والإيلاء قضى الله الحكيم أن تنتظر من طلقت دون زواج حتى تتم لها ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض – على خلاف في ذلك بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء تتزوج إن شاءت وهذا في ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهن إذ لا عدة على غير المدخول بها وأن عدة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل، وعدة الأمة قرآن أو شهران لأنها على النصف من الحرة والقرء ولا يتبعض، وعن ابن عمر رضي الله عنهما : عدة الأمة حيضتان ﴿ ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ لم يؤذن الله تعالى لمطلقة أن تكتم ما يحدثه الله تعالى في رحمها من حيض أو حمل ما دامت تؤمن بما يجب الإيمان به من جوانب اليقين بالله وملائكته وكتبه ورسله والآخرة ؛ عن مجاهد : لا يحل للمطلقة أن تقول إني حائض وليست بحائض ولا تقول إني حبلى وليست بحبلى ولا تقول لست حبلى وهي حبلى، فإن ذلك ليس من فعل من يؤمن بالله واليوم الآخر ولا من أخلاقه، بل من أخلاق النساء الكوافر فلا تتخلقن أيتها المؤمنات بأخلاقهن-١ ؛ ﴿ وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ﴾ وأزواج المطلقات أولى٢ بمراجعتهن خلال عدتهن إذا أراد المصالحة والرجعة. ﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ﴾ في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع ( فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهم أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ). وقال ابن عباس : إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي – كأنه قيل ولهن عليهم مثل الذي لهم عليهن والمراد بالمماثلة -المماثلة في الوجوب- لا في جنس الفعل- فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال، أخرج الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون إلا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن }... وجعلوا مما يجب لهن عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها.. ﴿ وللرجال عليهن درجة ﴾ زيادة في الحق لأن حقوقهم في أنفسهن... أو شرف فضيلة لأنهم قوام عليهن وحراس لهن يشاركوهن في غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش ويخصونه بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن.. وقال الراغب الدرجة نحو المنزلة.. ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة ومنه الآية فهي على التوجيهين مجاز.. ؛ ﴿ والله عزيز ﴾ غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام ﴿ حكيم ﴾ عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها-٣.
٢ مما أورد النيسابوري: فإن قيل كيف جعلوه أحق بالرجعة كأن للنساء حقا فيها فالجواب أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها فهذا هو المعنى بالأحقية. ١هـ..
٣ ما بين العارضتين من روح المعاني..
﴿ مما آتيتموهن ﴾ مما أعطيتموهن من الأصدقة والمهور.
﴿ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ﴾ يرى الزوجان عجزهما أو أحدهما عن رعاية الحقوق الزوجية التي شرع الله.
﴿ لا جناح عليهما فيما افتدت ﴾ لا إثم على الزوج فيما يقبض ولا عليها فيما تبذل لحل روابط عشرة فيها أذى.
﴿ تعتدوها ﴾ تتجاوزوها.
﴿ الطلاق١ مرتان ﴾ التطليق الرجعي يملكه الرجل مرتين عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال : كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم قال : لا والله لا آويك إلي ولا تحلين أبدا فأنزل الله ﴿ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أوتسريح بإحسان ﴾ فاستقبل الناس الطلاق جديدا من ذلك، من كان طلق أو لم يطلق٢، وعن ابن عباس : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك أي في الثالثة فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا ؛ ﴿ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ﴾ – أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى ﴿ .. ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة... ﴾٣، فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طيب نفس منها فقد قال تعالى ﴿ ... فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾٤وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليها في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك منها ولهذا قال تعالى ﴿ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ الآية، فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ أيما امرأة سألت زوجها طلاقا في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ﴾٥. ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية بطريق الأولى والأحرى -٦. روى البخاري عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله، ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتردين عليه حديقته ) قالت نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ) ؛ ﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ﴾ شرائع المولى الحكيم التي شرعها حدود الله تمنع من الاجتراء على الفواحش فلا تتجاوزوها، صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تضيعوها وحرم محارم فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها )، يبين المولى لكم فصول ما بين حلاله وحرامه وأمره ونهيه ؛ ومن يقتحم ما أحل ربنا إلى ما حرم فهو ظالم والظلم وصف قبيح من اتصف به بخس نفسه حقها وجار عن القصد فبغى على غيره واستوجب نقمة العزيز سبحانه فشقى في عاجله وساءت عاقبة أمره وفيه معنى التحذير والوعيد.
٢ أخرجه الموطأ في الطلاق قال علماء السنة وإسناده صحيح..
٣ سورة النساء من الآية ١٩..
٤ سورة النساء من الآية ٤.
٥ رواه أحمد وأبو داود وغيرهما..
٦ نقل هذا عن صاحب تفسير القرآن لعظيم..
﴿ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ﴾ من طلق امرأته مرتين ثم عاد فطلقها طلقة ثالثة فليس له أن يراجعها إذ بالطلقة الثالثة بانت منه بينونة كبرى لا يحل له أن يراجعها ولا أن يتزوجها إلا إذا تزوجها آخر بعد انقضاء عدتها منه فإن طلقها الثاني بعد دخوله بها وجماعه إياها ثم انتهت عدتها من المطلق الثاني حل للأول أن يتزوجها بعقد ومهر جديدين ولهذا قال الحق تقدست أسماؤه ﴿ فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ﴾ أي فإن طلقها الثاني فلا حرج عليها أن ترجع إلى الأول على نحو ما تقدم وبزواجها من الثاني وانفصالها عنه إن حدث وانقضاء عدتها منه تحل للأول، ولهذا يسمى الثاني محللا لأنه لولاه لما حلت للأول، وخشية أن يكون الاتصال بالثاني مجرد حيلة يتوصل بها إلى عودتها إلى الأول بينت الآية الكريمة أن رجعتها تحل ﴿ إن طلقها ﴾ أي الثاني، وجاءت ب﴿ إن ﴾ التي لا تفيد إلا مجرد الاحتمال وعدم القطع فأما إن اشترط على الثاني أن يطلق ورضي فقد شارك في الإثم والسخط، روى البخاري رحمه الله تعالى عنه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : لعن رسول الله الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله ؛ ﴿ إن ظنا أن يقيما حدود الله ﴾ إن عزما أن يتعاشرا بالمعروف ورجح عندهما أو علما أن نكاحهما على غير دلسة -لم يدلسا فيه- ﴿ وتلك حدود الله ﴾ فواصل ربنا التي تميز الحلال من الحرام﴿ يبينها ﴾ يوضحها، ﴿ لقوم يعلمون ﴾ لأن غير العلماء قد لا يستبينون، وربما يستبينون ولكنهم يضيعون، أما العالم فإنه يحفظ ويتعاهد ولهذا خاطب العلماء١.
﴿ ضرار ﴾ لإيقاع الضرر. ﴿ الكتاب ﴾ القرآن.
﴿ والحكمة ﴾ السنة. ﴿ يعظكم ﴾ يأمركم وينهاكم ويذكركم.
﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ﴾ لكأن المعنى وإن طلقتم الزوجات فقاربت١ العدة الانتهاء فإما أن تردوهن وتراجعوهن بقصد حسن المعاشرة والقيام بحقوق الزوجية وإما أن تتركوهن يقضين عدتهن، ﴿ ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ﴾ نهى الله جل علاه أن تراجع المطلقة لا عن حاجة ولا عن محبة ولكن لقصد تطويل العدة وتوسيع مدة الانتظار ولقصد الاعتداء على حريتهن وتضييع حقوقهن ؛ ﴿ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ﴾ إخبار في معنى النهي فإن الله جل ثناؤه ينهى عن البغي ويأمر بالعدل والإحسان وما أكرم النساء إلا كريم ؛ ﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ﴾ نهى الله تعالى أن تتخذ فصوله بين حلاله وحرامه ودلائله وأمره ونهيه وأن تتخذ أحكامه لعبا وسخريا أو يسير بها في طريق الهزو بالهزو فإنها جد كلها، فمن هزل فيها لزمته ويقال هزئ بالشيء إذا طرحه ولم يأخذ به وعمل بغيره وقيل المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا وكذا كل ما كان في هذا المعنى- ٢.
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ﴾ ولا تنسوا فضل ربكم عليكم في أن هداكم إلى هذا الدين وتذكروا تمام نعمته عليكم بما أنزل على نبيكم من قرآن حكيم وما أوحي إليه من السنة المطهرة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب، يأمركم بذلك وينهاكم ويتوعد من ارتكب المحارم قابلوا هذا بالشكر والقيام بحق هذا الشرع العظيم والمنهاج القويم مما يقول صاحب روح المعاني :﴿ وما أنزل عليكم ﴾.. من عطف الخاص على العام.. و﴿ ما ﴾ موصولة لحذف عائدها من الصلة و﴿ من ﴾ في قوله تعالى ﴿ من البيان والحكمة ﴾ بيانية.. والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهارا للفضل وإيماء إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج وذاك من قبيل :
فإن تفق الآنام وأنت منهم | فإن المسك بعض دم الغزال |
٢ ما بين العارضتين عن الجامع لأحكام القرآن..
٣ من جامع البيان للطبري..
﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ﴾ أخرج البخاري وغيره عن معقل بن يسار قال كانت لي أخت فأتاني بن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له يالكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها والله لا ترجع إليك أبدا وكان رجل لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى هذه الآية قال ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه، وبلوغ الأجل ههنا على الحقيقة وليس مجازا عن القرب كما في الآية السابقة فكأن المعنى : إذا طلقتم من كن لكم زوجات ثم انقضت عدتهن ورغب الذي كان زوجا لها أن يقترن بها على نحو لا يكون مستنكرا شرعا ولا مروءة ورضيت هي بذلك فليس لوليها أن يمنعها ويحول بينها وبين أمر شرعه الله تعالى ورضيه لهما وعلى هذا فالمخاطب في مستهل الآية ﴿ وإذا طلقتم ﴾ الأزواج، وفي قول المولى تقدست أسماؤه ﴿ فلا تعضلوهن ﴾ الأولياء ولا يضر تشتت الضمائر لأن المعنى على هذا النحو ظاهر [ الخطاب في هذه الآية بقوله ﴿ وإذا طلقتم ﴾ وبقوله ﴿ ولا تعضلوهن ﴾ إما أن يكون للأزواج ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهن من أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن لحمية الجاهلية كما يقع كثيرا من الخلفاء والسلاطين غيرة على من كن تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم لأنهم لما نالوه من رياسة الدنيا وما صاروا فيه من النخوة والكبرياء يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلى من عصمه الله منهم بالورع والتواضع ]١. ﴿ ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ ما فصلته لكم من الأحكام نصح وتذكير بما أعددت للمطيعين أمري من الثواب وللخارجين عليه من العقاب، وإنما ينتهي عن الدخول فيما منعه الله منه وحرمه عليه من كان مستيقنا بالله تعالى وبلقائه وحسابه وجزائه وخص هؤلاء بالذكر لأنهم الممتثلون لأمر الله تعالى المسارعون إلى طاعته وإجلالا لمقامه تبارك وتعالى وحذرا من الآخرة ﴿ ذلكم أزكى لكم وأطهر ﴾ ذلكم الاتعاظ والامتثال أنمى لكم وأنفع وأبعد لكم من الخوض فيما يسخط الملك الكبير جل علاه. ﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ ربكم المعبود بحق يعلم من سرائركم وخفيات أمورهم ما لا يعلمه بعضكم من بعض – فقد تخفى المصلحة والعاقبة علينا أو تشتبه المصلحة بالمفسدة فلا صلاح للمكلف إلا في طاعة علام الغيوب ليحوز سعادة الدارين والله ولي التوفيق-٢.
٢ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن..
﴿ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ وعلى الآباء رزق الوالدات المرضعات بما يقوتهن ويغذيهن وبما يلبسن من ثياب تقيهن الحر والبرد وتسترهن- ويعني بقوله ﴿ بالمعروف ﴾ بما يجب لمثلها على مثله إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته كما قال تعالى ذكره ﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها... ﴾٣. ﴿ لا تكلف نفس إلا وسعها ﴾.. لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات عنهم إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل -٤. ﴿ لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ﴾ قال ابن شهاب والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطي غيرهن من الأجر وليس للوالدة أن تضار بولدها فتأبى رضاعه مضارة وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها من الأجر وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها وعن ابن زيد لا ينزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها ولا تطرحه عليه وهولا يجد من ترضعه ولا يجد ما يسترضعه به. وعن الضحاك لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا أو إلى عصبته إذا كان الأب ميتا ولا يضار الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه ؛ ﴿ وعلى الوارث مثل ذلك ﴾ عن الحسن إذا توفي الرجل وامرأته حامل فنفقتها من نصيبها ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إذا كان له مال فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته وكان يتأول قوله :﴿ وعلى الوارث مثل ذلك ﴾ على الرجال. وعن قتادة : على وارث المولود ما كان على الوالد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له على الرجال والنساء على قدر ما يرثون.
﴿ فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ﴾ [ ﴿ فصالا ﴾ أي فطاما وليس من باب المفاعلة وهي صدور الفعل من فاعلين كقتال وخصام وإنما هو تلاقي على فعال، كالعثار والإباق وذلك أن الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات ؛ وعن أبي مسلم يحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأم إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ولم يرجع ضرر إلى الولد وليكن الفصال صادرا عن تراضي منهما وتشاور٥ مع أرباب التجارب وأصحاب الرأي فلا جناح عليهما في ذلك، زادا على الحولين لضعف في تركيب الصبي أو نقصا وهذه أيضا توسعة بعد التحديد وذلك أن الأم قد تمل من الإرضاع فتحاول الفطام والأب أيضا قد يمل إعطاء الأجرة على الإرضاع فيطلب الفطام دفعا لذلك لكنهم قد يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس فلهذا اعتبرت المشاورة مع غيرهما وحينئذ يبعد موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد وإن اتفقوا على الفطام قبل الحولين وهذا غاية العناية من الرب بحال الطفل الضعيف ومع اجتماع الشروط لم يصرح بالإذن بل رفع الحرج فقط ]٦.
﴿ وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ﴾ رفع الله تعالى الضيق والإثم عمن يريد أن يطلب لولده الرضيع مرضعة بدلا من أمه وكان التقدير أن تسترضعوا لأولادكم فحذف اللام للعلم به كقول المولى سبحانه ﴿ وإذا كالوهم أو وزنوهم... ﴾٧، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم. ﴿ إذا سلمتم ما آتيتم ﴾ [ ما أتيتموه المرأة أي ما أردتم إيتاءه مثل ﴿ ... إذا قمتم إلى الصلاة.. ﴾٨ - أي إذا أردتم القيام لها – ومن قرأ ما آتيتم بالقصر فهو من آتى إليه إحسانا إذ فعله لقوله تعالى ﴿ .. إنه كان وعده مأتيا.. ﴾٩ أي مفعولا.. وليس التسليم شرطا للجواز والصحة وإنما هو ندب إلى الأولى وفيه حث على أن الذي يعطي المرضعة يجب أن يكون يدا بيد حتى يكون أهنأ وأطيب لنفسها لتحتاط في شأن الصبي ولهذا قيد التسليم بأن يكون بالمعروف، وهو أن يكونوا حينئذ مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن قطعا لمعاذرهن ]١٠. ﴿ واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ﴾ وعهد الله إلينا أن نستصحب تقواه في كل ما نأتي ونذر، ومنه رعاية الصغار والحرص على ما فيه سلامتهم وإكرام من تقوم على شؤونهم -واعلموا أن الله بما تعملون أيها الناس سرها وعلانيتها وخفيها وظاهرها وخيرها وشرها بصير يراه ويعلمه فلا يخفى عليه شيء ولا يغيب عنه من شيء فهو يحصي ذلك كله عليكم حتى يجازيكم بخير ذلك وشره ومعنى ﴿ بصير ﴾ ذو إبصار وهو في معنى مبصر-١١.
٢ بدليل قول المولى تقدست أسماؤه ﴿فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن﴾..
٣ من سورة الطلاق الآية ٧..
٤ ما بين العارضتين من جامع البيان..
٥ إنه من تمام نعمة الله تعالى علينا بهذا الدين أن شرع سبحانه لنا فيه منهاجا حكيما لا تزيغ به السبل ولا تعوج به الأهواء ومن ذلك عهده إلى نبيه ومصطفاه سيدنا ومولانا خاتم النبيين محمد أن يستصحب الشورى فقال تقدست أسماؤه ﴿.. وشاورهم في الأمر﴾ (من سورة آل عمران من الآية ١٥٩) كما جعل على أهل الإيمان الصادقين أن يستجيبوا لأمره ولا يبرموا أمرا حتى يدلي كل برأيه فقال عز ثناؤه ﴿والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم﴾ (من سورة الشورى الآية ٣٨). وهكذا في يسير الأمور وعظيمها من طلب نفعا لطفل إلى ابتغاء أمن وعزة لأمة، استحفظ الله المؤمنون أمانة التناصح والتشاور وليكونوا من المفلحين في هذه الدنيا ويوم الدين..
٦ ما بين العلامتين[] مقتبس مما نقل النيسابوري بتصرف..
٧ من سورة المصطفين من الآية ٣..
٨ من سورة المائدة من الآية ٦..
٩ من سورة مريم من الآية ٦١..
١٠ ما بين العلامتين [] مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن بتصرف..
١١ من جامع البيان..
﴿ بلغن أجلهن ﴾ انقضت مدة عدتهن. ﴿ يتربصن ﴾ ينتظرن. ﴿ فيما فعلن في أنفسهن ﴾ من التزين والتعرض للخطاب.
﴿ بالمعروف ﴾ بالذي لا يخالف ولا عادة مستحسنة.
في آيات كريمة سبقت بين الكتاب العزيز بعض أحكام المعتدة من طلاق، وفي هاتين الآيتين المحكمتين بيان لما شرع للمعتدة من وفاة زوجها وأن عليها أن تتأنى وتتصبر عن الزواج وتنتظر أربعة أشهر وعشرا فإنها المدة التي تنقضي بها العدة- وظاهرها العموم ومعناها الخصوص فإن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، وضع حملها عند جمهور العلماء- فإذا انقضت مدة عدة المتوفى فلا إثم ولا ضيق فيما تفعله من ترك إحداد، ومن تعرض للخطاب بما أذن فيه الشرع ولم ينكره الطبع واذكروا أن المعبود بحق سبحانه يعلم ما تفعلون فلا تخالفوا عن أمره فإنه خبير بكل قول وبكل عمل ومثيب على ذلك، فافعلوا ما تدركون به جميل الثواب وحسن المآب.
بالسند المتصل عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها ولا تلبس ثوبا مصبوغا ولا معصفرا ولا تكتحل بالإثمد ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها ولكن تكتحل بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس فيه طيب ولا تلبس حليا وتلبس البياض ولا تلبس السواد، بينما ذهب بعض الفقهاء إلى أن المتوفى عنها زوجها تربص بنفسها عن الأزواج خاصة فأما عن الطيب والزينة والمبيت بعيدا عن المنزل فلم تنه عن ذلك، ولم تأمر بالتربص بنفسها عنه. مما يقول الطبري رحمه الله وأما الذين أوجبوا الإحداد على المتوفى عنها زوجها فإنهم اعتلوا بظاهرة التنزيل وقالوا أمر الله المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى في التنزيل بعينه بل عم بذلك معاني التربص، قالوا فالواجب عليها التربص بنفسها عن كل شيء إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسليم لها، قالوا فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة مما هو داخل في عموم الآية كما أن التربص عن الأزواج داخل فيها قالوا وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بالذي قلنا في الزينة والطيب... ١ه.
وفي البخاري ومسلم عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ولا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب١ ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة٢ من قسط أو أظفار٣ ) وفي الصحيحين عن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) وعرفوا الإحداد بأنه ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلي والكحل والخضاب بالحناء ما دامت في عدتها.
٢ نبذة شيء يسير..
٣ القسط والأظفار: نوعان من البخور..
﴿ أكننتم ﴾ سترتم.
﴿ حتى يبلغ الكتاب أجله ﴾ حتى ينتهي أمد العدة.
﴿ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ﴾ روى البخاري١ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله تعالى ﴿ فيما عرضتم به من خطبة النساء ﴾ هو أن يقول إني أريد التزوج ولوددت أن تيسر لي امرأة صالحة وأورد النيسابوري أن النساء على ثلاثة أقسام أحدهما من تجوز خطبتها تعريضا وتصريحا وهي الخالية عن الزوج والعدة إلا إذا كان قد خطبها آخر وأجيبت إليه وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ).. ثانيا ما لا يجوز خطبتها تعريضا ولا تصريحا وهي المحصنة.. وثالثها ما يفصل في حقها من التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية سواء كانت معتدة عن وفاة أو عن طلقات ثلاث أو عن طلقة بائنة كالمختلعة أو عن فسخ وسبب التحريم أنها مستوحشة بالطلاق فربما كذبت في انقضاء عدتها بالإقرار مسارعة إلى مكافأة الزوج، وأما المعتدة عن وفاة فظاهر الآية يدل على أنها في حقها لأنها ذكرت عقب آية عدة المتوفى عنها زوجها ثم إنه خص التعريض بعدم الجناح فوجب أن يكون التصريح بخلافه.. وعن أبي جعفر محمد بن علي أنها دخلت عليه امرأة وهي في العدة فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي علي وقدمي في الإسلام، فقالت غفر الله لك أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال إنما أخبرتك بقرابتي من نبي الله قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يديه حتى أثر الحصير في يده فما كانت تلك خطبة ﴿ أو أكننتم في أنفسكم ﴾ أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين، أباح التعريض في الحال أولا ثم أباح أن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء العدة ﴿ علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ﴾ عن مجاهد قال ذكرك إياها في نفسك، قال : فهو قول الله ﴿ علم الله أنكم ستذكرونهن ﴾، وعن ابن عباس ﴿ لا تواعدوهن سرا ﴾ يقول لا تقل لها إني عاشق وعاهديني ألا تتزوجي غيري ونحو هذا. عن قتادة هذا في الرجل يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها ألا تنكح غيره فنهى الله تعالى عن ذلك وقدم فيه وأحل الخطبة والقول بالمعروف ونهى عن الفاحشة والخضع من القول ﴿ إلا أن تقولوا قولا معروفا ﴾ لعل الأرجح أن ﴿ إلا ﴾ في هذا الاستثناء بمعنى لكن فكأن المراد لكن قولوا قولا معروفا، عن مجاهد يعني التعريض ﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ﴾ عن مجاهد : حتى تنقضي العدة وعن الضحاك لا يتزوجها حتى يخلوا أجلها.
﴿ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم ﴾- فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا مما نهاكم عنه من عزم عقدة نكاحهن أو مواعدتهن في السر في عددهن وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هن معتدات وفي غير ذلك ﴿ واعلموا أن الله غفور رحيم ﴾ يعني أنه ذو ستر لذنوب عباده وتغطية عليها فيما تكنه نفوس الرجال من خطبة وذكرهم إياهن في حال عددهن وفي غير ذلك من خطاياهم وقوله ﴿ حليم ﴾ يعني أنه لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم-٢.
٢ من جامع البيان الطبري..
فإن ﴿ أو ﴾ في قوله سبحانه ﴿ أو تفرضوا ﴾ بمعنى الواو. إذ الآية الثانية فيمن طلقت قبل الدخول وسمي لها مهر فالأولى ليس لها حق في مهر لكن لها المتعة وهي شيء يعطى للمطلقة مواساة لها فيما لحقها من أذى بالطلاق قبل الدخول ودون أن تأخذ صداقا والجمهور من العلماء على أن الأمر في قول المولى جل ثناؤه ﴿ ومتعوهن ﴾ للوجوب وقد شرع الله الحكيم أن تكون المتعة المعطاة على قدر حال المعطى وجعلها ربنا مما يستحق على من أحسن في طاعة مولاه واتقاه مما نقل الشوكاني-رحمه الله- واعلم أن المطلقات أربع : مطلقة مدخول بها مفروض لها وهي التي تقدم ذكرها قبل هذه١ الآية، وفيها نهى الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهن شيئا وأن عدتهن ثلاثة قروء ٢، ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها وهي المذكورة هنا فلا مهر لها بل المتعة، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها – إذا طلقت فلا عدة ٣ عليها، ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها فلها نصف المهر ولا عدة عليها وهي المذكورة بقوله سبحانه هنا :﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم.. ﴾، ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها وهي المذكورة في قوله تعالى ﴿ .. فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة.. ﴾٤ ؛ والمراد بقوله ﴿ ما لم تمسوهن ﴾ ما لم تجامعوهن. ١ ه٥ ؛ ﴿ متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ﴾ فكأن المعنى ومتعوهن متاعا بما عرف في الشرع من الاقتصاد يحق ذلك عليهم حقا فكلكم مطالب بأن يكون محسنا في عبادته ومعاملاته.
٢ وأما التي نهى فيها الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهن شيئا فهي برقم ٢٢٩ من السورة ذاتها..
٣ وذلك قول ربنا تباركت آلاؤه ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتكم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها..﴾.
٤ من سورة النساء الآية ٢٤..
٥ انتهى بتصرف..
﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ﴾ من طلق زوجته قبل أن يستمتع بها وكان قد حدد لها مهرا فالواجب لها نصف المهر إلا أن تعفو فتترك وتتسامح في قدر ما استحقت أو يعفو وليها وجمهور المفسرين على أن النون لم تسقط مع أن في قول الله سبحانه ﴿ إلا أن يعفون ﴾ لكونها ضمير وليست بعلامة إعراب كما في المذكر فإنها فيه علامة إعراب ولهذا تسقط مع أن، كما في قوله جل ثناؤه ﴿ وأن تعفو أقرب للتقوى ﴾ والخطاب فيه للرجال والنساء وغلب أحدهما، غلب الرجال لأصالتهم ؛ -وإنما كان عفو البعض أقرب إلى حصول معنى الاتقاء لأن من سمح بترك حقه تقربا إلى ربه فهو من أن يأخذ حق غيره أبعد، ولأنه إذا استحق بذلك الصنع الثواب فقد اتقى العقاب واحترز عنه، ﴿ ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾ لا تتركوا التفضل والتسامح فيما بينكم وليس نهيا عن النسيان فإن ذلك غير مقدور بل المراد منه الترك.. ندب الله تعالى كلا منهما إلى تطييب قلب الآخر ببذل كل المهر أو تركه وإلا فالتصنيف١. ﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾ إخبار فيه الوعد والوعيد.
﴿ قانتين ﴾. خاضعين مطيعين ساكتين
عهد المولى إلينا أن نداوم ونواظب على الصلوات وأن نلزم الصلاة الأخير الأفضل وهي صلاة العصر- على الأرجح١ - وأن نقف لله تعالى في صلاتنا طائعين٢ ساكتين روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي٣ سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال ( إن في الصلاة شغلا ) ؛ ونقل ابن كثير عن صحيح ومسلم ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله ) وصحت الأحاديث التي تشهد أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب – وفي رواية يوم الخندق – ( ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس )، وفي رواية : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، وذكر نحوه، وزاد في أخرى : ثم صلاها بين المغرب والعشاء ؛ ولمسلم –في المساجد ومواضع الصلاة- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا ).
٢ والمراد بمحافظتها رعاية جميع شرائطها من طهارة البدن والثوب والمكان ومن ستر العورة واستقبال القبلة والإتيان بأركانها وهيأتها والاحتراز عن مفسداتها من أعمال القلب وأعمال اللسان والجوارح ومعنى المفاعلة في المحافظة إما لأنها بين العبد والرب كأنه قيل احفظ الصلاة يحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة كقوله عز من قائل فاذكروني أذكركم... وفي الحديث ﴿احفظ الله يحفظك﴾ وإما لأنها بين المصل والصلاة فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن المناهي وصدق الله العظيم ﴿.. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر..﴾ وحفظته عن الفتن والمحن كما في الآية ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة..﴾ مقتبس مما أورد النيسابوري بتصرف..
٣ أي عادوا بعد أن كانوا قد هاجروا إلى الحبشة وكانت عودتهم بعد سبع سنين من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة..
﴿ أو ركبانا ﴾ حال ركوبهم. ﴿ فإذا أمنتم ﴾ زال الخوف وانهزم العدو.
﴿ فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ﴾ – فإن خفتم من عدو لكم أيها الناس تخشونهم على أنفسكم في حال التقائكم معهم أن تصلوا قياما على أرجلكم بالأرض قانتين لله فصلوا رجالا مشاة على أرجلكم وأنتم في حربكم وقتالكم وجهاد عدوكم أو ركبانا على ظهور دوابكم فإن ذلك يجزيكم.. قال أبو جعفر : والخوف الذي للمصلي أن يصلي من أجله المكتوبة ماشيا راجلا، وراكبا جائلا : الخوف على المهمة عند السلمة والمسايفة في قتال من أمر بقتاله من عدو للمسلمين أو محارب أو طلب سبع أو جمل صائل أو سيل سائل فخاف الغرق فيه وكل ما الأغلب من شأنه هلاك المرء إن صلى صلاة الأمن فإنه إذا كان ذلك كذلك فله أن يصلي صلاة شدة الخوف - ١. ﴿ فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ قال ابن زيد : فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم، إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة، والصلاة قد تسمى ذكرا كما جاء في محكم القرآن ﴿ .. فاسعوا إلى ذكر الله.. ﴾٢ وقيل المعنى فاشكروا الله لأجل إنعامه عليكم، وما في ﴿ كما علمكم ﴾ مصدرية أو كافة.
٢ سورة الجمعة من الآية ٩..
- عود إلى بيان بقية الأحكام السابقة أحكام العدة- عدة المتوفى عنها زوجها وفي ﴿ يتوفون ﴾ مجاز المشارفة. ﴿ وصية لأزواجهم ﴾.. التقدير ليوصوا أو يوصون ﴿ وصية ﴾ أو كتب الله تعالى عليهم أو ألزموا ﴿ وصية ﴾.. ﴿ متاعا إلى الحول ﴾.. ﴿ غير إخراج ﴾ بدل منه بدل اشتمال.. المتاع عام شامل الإنفاق والإسكان جميعا والمعنى يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالنفقة والسكنى وكان ذلك على الصحيح في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله ﴿ أربعة أشهر وعشرا.. ﴾ وهو وإن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول -﴿ فإن خرجن ﴾ بعد الحول ومضى العدة وقيل في الأثناء باختيارهن ﴿ فلا جناح عليكم ﴾ يا أولياء الميت أو أيها الأئمة ﴿ فيما فعلن في أنفسهن من معروف ﴾ لا ينكره الشرع كالتطيب والتزيين وترك الحداد والتعرض للخطاب أو في ترك منعهن من الخروج أو قطع النفقة عنهن كن مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها ﴿ والله عزيز ﴾ غالب على أمره ينتقم ممن خالف أمره في الإيصاء وإنفاذ الوصية وغير ذلك ﴿ حكيم ﴾ يراعي في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه-١. عن قتادة قال كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها ما لم تخرج ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء فجعل لها فريضة معلومة الثمن إن كان له ولد وعدتها أربعة أشهر وعشرا فقال تعالى ذكره ﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ﴾ فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول ؛ وعن ابن عباس إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال في ميراثها ﴿ .. ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن.. ﴾٢ فبين الله ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة. وبعض من السلف ذهب إلى أن هذه الآية ثابتة الحكم لم ينسخ منها شيء وممن رأى ذلك مجاهد رحمه الله حيث قال في قوله تعالى ﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ﴾ قال : كانت هذه المعتدة تعتد عند أهل زوجها واجبا ذلك عليها فأنزل الله ﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ﴾ إلى قوله ﴿ من معروف ﴾ قال جعل الله لهم تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت وهو قوله تعالى ذكره ﴿ غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم ﴾٣ قال والعدة كما هي واجبة. ١ه.
٢ من سورة النساء من الآية ١٢..
٣ مما أورد الطبري رحمه الله تعالى المتاع الذي جعله الله لهن إلى الحول في مال أزواجهن بعد وفاتهم وفي مساكنهم ونهى ورثته عن إخراجهن إنما هو لهن ما أقمن في مساكن أزواجهن وأن حقوقهن من ذلك تبطل بخروجهن إن خرجن من منازل أزواجهن قبل الحول من قبل أنفسهن بغير إخراج من ورثة الميت. ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا حرج على أولياء الميت من خروجهن وتركهن الحداد على أزواجهن لأن المقام حولا في بيوت أزواجهن والحداد عليه تمام حول كامل لم يكن فرضا عليهن، وإنما كان ذلك إباحة من الله تعالى لهن إن أقمن تمام الحول محدات، فأما إن خرجن فلا جناح على أولياء الميت ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف وذلك ترك الحداد يقول: فلا حرج عليكم في التزين إن تزين وتطيبن وتزوجن لأن ذلك لهن وإنما قلنا: لا حرج عليهن في خروجهن- وإن كان ذلك إنما قال تعالى ذكره جناح عليكم لأن ذلك لو كان عليهن فيه جناح لكان على أولياء الرجل فيه جناح بتركهم إياهن والخروج مع قدرتهن على منعهن من ذلك ولكن لما لم يكن عليهن جناح في خروجهن وترك الحداد وضع عن أولياء الميت وغيرهم الحرج فيما فعلن من معروف وذلك في أنفسهن. ١هـ..
وهكذا شرع الله تعالى لنا منهاجا فصله سبحانه وأحكمه وما فرط فيه من شيء، ففي اثنتين وعشرين آية من هذه السورة المباركة – من الآية ٢١٩. وحتى الآية رقم ٢٤١. أكثر من اثنين وعشرين حكما نصفها في الطلاق والخلع والعدة والرجعة والمتعة فمن عقل عن ربنا البر الرحيم ما جاءنا من البينات والهدى واستقام على هذا وتزكى به فقد فاز وأفلح.
﴿ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾ تذكير بحق الجواد الكريم الوهاب سبحانه وتوكيد لأنه صاحب المن والعطاء والإفضال ﴿ .. وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها.. ﴾٣ فهو الذي أصبغ ما ظهر منها وما بطن، خلق فسوى وقدر فهدى وأغنى وأقنى وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دينياهم ودينهم وأنفسهم وأموالهم كما أحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم وعبرة يعتبرون بهم وليعلموا أن الأمور كلها بيده فيستسلمون لقضائه ويصرفون الرغبة كلها والرهبة إليه-٤. ﴿ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾ ومع أن شكر المنعم واجب فقليل من الناس من يقر بالفضل ويثني على المتفضل الوهاب كما بين المولى في محكم آيات الكتاب ﴿ .... وقليل من عبادي الشكور ﴾٥، بل يزداد البعض جحودا كلما بسط لهم في الرزق وصدق الله العظيم ﴿ .. إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى ﴾٦ ؛ أكثر من ينعم عليهم من عباده بنعمه الجليلة ويمن عليه بمننه الجسيمة يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره ويتخذ إلها من دونه كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ومن الحمد ما يثقله ؛ لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم وفضلي الذي تفضلت به عليهم بعبادتهم غيري وصرفهم رغبتهم ورهبتهم على من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا-٧.
٢ وأخرج بن جرير رحمه الله تعالى بسنده عن ابن جرير قال: قال ابن عباس كانوا أربعين ألفا أو ثمانية آلاف حظر عليهم حظائر وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله فأماتهم الله ثم أحياهم فأمرهم بالجهاد فذلك قوله فقاتلوا في سبيل الله الآية. وفي رواية عنه بزيادة وهم الذين قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله..
٣ سورة إبراهيم من الآية ٣٤..
٤ من جامع البيان..
٥ سورة سبأ من الآية ١٣..
٦ سورة العلق من الآية ٦. والآية ٧..
٧ من جامع البيان..
﴿ هل عسيتم ﴾ هل أنتم قريب من التولي ؟
﴿ وما لنا ﴾ وما منعنا وأي شيء لنا في أن لا نقاتل ؟
﴿ أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ﴾ طردنا وحيل بيننا وبين الأموال والأبناء والآل.
﴿ كتب ﴾ فرض.
﴿ تولوا ﴾ اضطربت نياتكم وفترت عزائمكم وجبنوا وأعرضوا.
﴿ ألم تر ﴾ أي ألم تعلم ؟ وهو استفهام ربما يراد به التقرير والتعجيب، والمخاطب إما النبي صلى الله عليه وسلم ينبئه الله تعالى ويقص عليه من أنباء ما سبق تثبيتا للفؤاد، وترسيخا لليقين والخطاب للنبي خطاب للأمة ﴿ إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ﴾ إلى القوم والجماعة ١ من أبناء يعقوب عليه السلام ومن ذريته الذين جاءوا من بعد موت موسى صلى الله عليه وسلم، ﴿ إذ قالوا لنبي الله لهم ابعث ملكا نقاتل في سبيل الله ﴾ جائز أن يكونوا هم الذين قال لهم الله موتوا ثم أحياهم وأن يكون النبي هو حزقيل وجائز أن يكونوا أقواما غيرهم ونبيا يسمى سمعون أو شمعون لكن لم يحصل العلم بذلك النبي وبأولئك الملأ من الخبر المتواتر، وخبر الواحد٢ لا يفيد إلا الظن، أما العبرة فالتحريض على الجهاد. سألوا نبيهم أن يقيم لهم ملكا وأميرا قائدا يقاتلون معه أعداءهم، وكان الملك فيهم -كما روى- في سبط يهودا والنبوة في سبط لاوى. ﴿ قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ﴾ ولما أنبأ العليم الخبير أن اليهود أحرص الناس على الحياة وأن الواحد منهم يود لو يعمر ألف سنة وأنهم يخشون ملاقاة أهل الصدق في اللقاء وجاء في محكم التنزيل ﴿ لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون. لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر.. ﴾٣، فكان نبيهم على علم بقعودهم على ملاقاة عدوهم، وكيف لا وقد قال آباؤهم لكليم الله موسى ولأخيه نبي الله هارون عليهما السلام ﴿ ... فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ﴾٤ فقال النبي الذي طلبوا إليه أن يبعث لهم ملكا وأن ينصب عليهم أميرا وقائدا يجاهدون معه عدوهم قال : هل أنتم قريب من التولي والفرار ؟ يعني أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم من الجهاد في سبيله فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون-٥.
﴿ قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ﴾ في الكلام مقدر محذوف يعني لما سألوا نبيهم سأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله فبعث المولى لهم ملكا وفرض عليهم الجهاد فلما جاءهم ما تمنوا أعرضوا واضطربت نياتهم وفترت عزائمهم وجبنوا عن الخروج للقاء العدو وكذلك كان أكثرهم، لكن قليلا صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ [ وعيد لهم ولكل مكلف في الإسلام على القعود عن القتال وأي وعيد أبلغ من أن وضع الظالمين موضع الضمير العائد إليهم ] ٦ مما أورد القرطبي رحمه الله وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا ) رواه الأئمة. ١ه.
وقال لها الأملاء من كل معشر | وخير أقاويل الرجال سديدها |
٢ مما نقل محمد ابن إسحق عن وهب بن منبه قال: خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى ثم خلف فيهم حزقيل بن بوزي وهو ابن العجوز ثم إن الله قبض حزقيل وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ونسوا ما كان من عهد الله إليهم.. وخلفت فيهم الخلوف وعظمت فيهم الخطايا وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون وكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو... فلما عظمت أحداثهم وتركوا عهد الله إليهم نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه ثم زحفوا به فقوتلوا حتى استلب من أيديهم. فأتى ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب فمالت عنقه فمات كمدا عليه فمرج أمرهم عليهم ووطئهم عدوهم حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم فكانوا لا يقبلون منه شيئا يقال له شمويل وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد ﴿الم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله﴾ إلى قوله ﴿وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا﴾ يقول الله ﴿فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم﴾ إلى قوله ﴿إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين﴾ قال ابن إسحق: فكان من حديثهم... فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله فقال لهم إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد، فقالوا إنما كنا نهاب من الجهاد ونزهد فيه إنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد فلا يظهر علينا فيها عدو فأما إذا بلغ ذلك فإنه لابد من الجهاد فنطيع ربنا في جهاد عدونا ونمنع آبناءنا ونساءنا وذرارينا..
٣ سورة الحشر الآية ١٣ ومن الآية ١٤..
٤ سورة المائدة من الآية ٦٤. إلى الآية ٢٥..
٥ من جامع البيان..
٦ ما بين العلامتين [] مما أورد النيسابوري..
﴿ اصطفاه ﴾ اختاره. ﴿ بسطة ﴾ فضيلة وزيادة. ﴿ يؤتى ﴾ يعطى.
﴿ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ﴾ لما سألوا نبيهم تنصيب قائد يقاتلون العدو تحت إمرته أخبرهم أن المولى الحكيم سبحانه قد ارتضى لهم طالوت أميرا لهم فتأنفوا عن الخضوع له إذ هو من الأجناد وليس من سبط يهودا الذي من بيته تكون الملوك واعترضوا بأنه ليس من ذوي الأحساب، ولا من أرباب الثراء وذهب بعض المفسرين إلى أنهم سألوا نبيهم من أين يكون أو كيف يكون له الملك علينا والاستفهام حقيقي للتعجيب لا لتكذيب نبيهم والإنكار عليه ؛ ﴿ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ﴾ رد عليهم بأبلغ وجه وأكمله كأنه قيل : لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره وانحطاط نسبه عنكم، أما أولا فلأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اصطفاه واختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح منكم وأما ثانيا فلأن العمدة وفور العلم، ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب لا من ذكرتم، وقد خصه الله تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من شاء من التصرف في ملكه بإذنه ؛ وأما رابعا فلأنه سبحانه واسع الفضل يوسع على الفقير فيغنيه ﴿ عليم ﴾ بما يليق بالملك من النسيب وغيره.
﴿ سكينة ﴾ وقار ورحمة.
﴿ وقال لهم نبيهم ﴾ عطف على مثله مما تقدم وروايات القصاص متضافرة على أنهم قالوا لنبيهم ما آية ملكه واصطفائه علينا ؟ فقال ﴿ إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ﴾... والتابوت الصندوق.. والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم.. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صندوق التوراة.. تغلب عليه العمالقة حتى رده الله تعالى... ﴿ وفيه سكينة من ربكم ﴾ أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة... و﴿ من ﴾ لابتداء الغاية أو للتبعيض أي من سكينات ربكم ؛ ﴿ وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ﴾ هي رضاض الألواح وثياب موسى وعمامة هارون... وآلهما أتباعهما.. ﴿ تحمله الملائكة ﴾ حال من التابوت والحمل إما حقيقة أو مجاز.. ؛ ﴿ إن في ذلك ﴾ إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت فهو من كلام النبي لقومه.. ﴿ لآية ﴾ عظيمة كائنة ﴿ لكم ﴾ دالة على جعل طالوت ملكا عليكم... ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي مصدقين بتمليكه عليكم.. -١.
﴿ مني ﴾ من أتباعي وأصحابي. ﴿ يطعمه ﴾ يذق طعمه.
﴿ فشربوا ﴾ فكرعوا. ﴿ جاوزه ﴾ تخطاه وتركه. ﴿ طاقة ﴾ قدرة.
﴿ يظنون ﴾ تعني هنا يوقنون. ﴿ فئة ﴾ جماعة وطائفة
﴿ بإذن ﴾ بتيسيره.
﴿ فلما فصل طالوت بالجنود ﴾ كان بين هذه الآية والتي سبقتها كلاما مقدرا إذ قد يكون المعنى آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين، فآتاهم التابوت فأذعنوا لطالوت وأجابوا على المسير تحت رايته، -فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة- فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم وأذعنوا له بذاك ؛ يدل على ذلك قوله ﴿ فلما فصل طالوت بالجنود ﴾ وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها-١. انفصل طالوت وخرج تاركا محلتهم متجها نحو عدوهم وتحت إمرته من أسلموه قيادهم فقال لجنده إن الله تعالى مختبركم بنهر٢ ومعاملكم سبحانه معاملة الممتحن٣ بنهر سيصادفكم في طريقكم إلى عدوكم. ﴿ قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ﴾ ليس من أهل طاعتي من شرب من هذا الماء الذي أخبرتكم به ليظهر من هو المطيع له ومن هو الخارج على طاعته ﴿ ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ﴾ ومن لم يذق ماء هذا النهر فإنه مني وممن يصلح لمصاحبتي والقتال معي إذ من أطاع في ذلك الأمر أطاع فيما عداه ومن عصى فيه فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى ؛ [ ورخص لهم في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال وفيه أن الغرفة تكف سورة العطش عند الصابرين على شظف العيش، الدافعين أنفسهم عن الرفاهية فالمراد بقوله ﴿ فمن شرب منه ﴾ أي كرع ولم يقتصر على الغرفة ]٤. نقل الأزهري عن الليث طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا ؛ ﴿ فشربوا منه إلا قليلا منهم ﴾ عطف على مقدر أي فبلغوا النهر فشربوا من مائه بإفراط إلا عددا يسيرا منهم لم يفرطوا في الشرب منه بل اقتصروا على ما رخص لهم فيه من الغرفة باليد ؛ ﴿ فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ﴾ وبعد أن تخطى طالوت النهر ومعه القلة التي صبرت على الابتلاء ورضيت بالقضاء واستحقت واستأهلت صفة الإيمان قال بعضهم لبعض حين شاهدوا كثرة عدد عدوهم لا قدرة لنا على مواجهة هؤلاء الجنود الكثيفة وعلى رأسها الطاغية جالوت [ والقائل بعض المؤمنين لبعض وهو إظهار ضعف لا نكوص.. ﴿ قال ﴾ على سبيل التشجيع لذلك البعض وهو استئناف بياني ﴿ الذين يظنون ﴾ أي يتيقنون ﴿ أنهم ملاقوا الله ﴾ بالبعث والرجوع إلى ما عنده وهم الخلص من أولئك والأعلون إيمانا فلا ينافي وصفهم بذلك إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة... ﴿ كم من فئة ﴾ أي قطعة من الناس وجماعة.. و﴿ كم ﴾ هنا خبرية ومعناها كثير.. ﴿ قليلة ﴾ نعت لفئة على لفظها ﴿ غلبت ﴾ أي قهرت عند المحاربة ﴿ فئة كثيرة ﴾ بالنسبة إليها ﴿ بإذن الله ﴾ أي بحكمه وتيسيره.. ﴿ والله مع الصابرين ﴾ والمراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك... ]٥.
٢ نقل أنه بين فلسطين والأردن ويسمى الشريعة..
٣ مما أورد النيسابوري: ولما كان الابتلاء من الناس إنما يكون بظهور الشيء وثبت أن الله لا يثيب ولا يعاقب على علمه وإنما بظهور من الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف لا جرم سمى التكليف ابتلاء..
٤ ما بين العلامتين [] من تفسير غرائب القرآن..
٥ ما بين العلامتين[] من روح المعاني..
﴿ أفرغ ﴾ صب. ﴿ ثبت أقدامنا ﴾ لا تزلزلنا كيلا نتزحزح عن طريق الحق.
﴿ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ﴾ وحين تلاقى الجمع المؤمن والجنود العادون على متسع من الأرض ومنفسح في ساحة الوغى وتهيأ المؤمنون للحملة على الكافرين وقتالهم فزعوا إلى ربنا القوي القدير الولي النصير يسألونه فيضا من الصبر حين البأس وأن يهبهم كمال القوة حتى لا يتزلزلوا وأن يعينهم على قهر عدوه وعدوهم، وإنه لهدى الكتاب الحكيم أن نتضرع حين البأس، يقول مولانا تبارك وتعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾١ ويقول تقدست أسماؤه ﴿ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا والآخرة.. ﴾٢- هكذا يجب علينا نحن أن نفعل لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدد وذلك بما كسبت أيدينا، وفي البخاري : وقال أبو الدرداء إنما تقاتلون بأعمالكم وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( هل ترزقون وتنصرون إلا بضعافكم ) فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة قال الله تعالى ﴿ ... اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله ﴾٣ وقال ﴿ .. وعلى الله فتوكلوا.. ﴾٤ وقال ﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾٥ وقال﴿ .. ولينصرن الله من ينصره.. ﴾٦، فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة٧ عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا.
٢ من سورة آل عمران الآيتان ١٤٦-١٤٧ ومن الآية ١٤٨..
٣ من سورة آل عمران من الآية ٢٠٠.
٤ من سورة المائدة من الآية ٢٣..
٥ من سورة النحل الآية ١٢٨..
٦ من سورة الحج من الآية ٤٠..
٧ لعله يرحمه الله عاين ما أصاب المسلمين في الأندلس فردوس الإسلام المفقود فقال ما قال لكن الخير في الأمة المؤمنة إلى يوم القيامة وقد صح الحديث عن سيدنا محمد خاتم النبيين عليه الصلوات والتسليم أنه لا تزال طائفة من الأمة قائمة بالحق ظاهرة على أمر الله لا يضرهم من خذلهم..
﴿ ذو فضل ﴾ صاحب مزيد من العطاء.
﴿ العالمين ﴾ أصناف الخلق كل صنف منها عالم.
﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ استعانوا بالله تعالى فأعانهم وربط على قلوبهم وثبتها فلم يرهبوا عدوهم وأيدهم عليهم ونصرهم وهي سنته التي لا تتبدل يؤيد أهل التقى ويخزي من كفر وطغى ويجعل العاقبة لجند الحق مهما تعاظم الباطل عدة وعددا وبهذا جاء محكم التنزيل. ﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ﴾١. قتل المؤمنون الجند الباغي وكسروهم بقضاء الله تعالى وقدره وتيسيره وتوفيقه ؛ ﴿ وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ﴾ وأراد ربنا العزيز أن يجعل مصرع الجبار العنيد جالوت قائد الجيش الباغي في ذلك اللقاء على يدي جندي مؤمن هو داود٢ عليه السلام، وزاد الله تعالى عبده داود عزا وتكريما فأعطاه الملك على قومه والنبوة٣ فيهم وعلمه سبحانه ما شاء أن يعلمه والغرض منه التنبيه على أن العبد لا ينتهي قط إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبيا أو لم يكن ولهذا قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ... وقل ربي زدني علما ﴾٤ ؛ ﴿ ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾ عمران الكون يتأتى بفعل الخير ودرء الشر ولو استشرى البغي وإهلاك الحرث والنسل لبطلت منافع الأرض وتعطلت مصالحها وفي مثل هذا المعنى جاءت الآية الكريمة ﴿ .. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا.. ﴾٥ ؛ ﴿ ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾ بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة-٦.
٢ أكثر الناس في نقل قصص عن أنباء داود سلام الله عليه إذ عزم على قتل جالوت فمن قائل قدمه طالوت لمبارزة الطاغية ومن قائل كان يرعى غنما فذهب إلى ساحة الحرب ليعاين ما يجري فيها ومن قائل أرسله أبوه ليتعرف أحوال إخوته السبعة الذين كانوا في جند طالوت وبينما تنطق له بعض القصص الحجر تتناوله في البداية بنعوت منفرة ومنها كان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصفر أزرق ولعلهم -يرحمنا الله وإياهم ويغفر لنا ولهم- قد فاتهم أن هذا مما كتب الإسرائيليون وهم من هم افتراء وإفكا على أن الآية الكريمة السابقة بينت أن من علامة اصطفاء الله لملك أن يزيده بسطة في العلم والجسم..
٣ مما أورد كثير من المفسرين ولا ممتنع في جعل النبوة جزاء على بعض الطاعات كما قال تعالى ﴿ولقد اخترناهم على علم على العالمين﴾وقال ﴿.. الله أعلم حيث يجعل رسالته..﴾ ولهذا ذكره بعد حديث الهزيمة والقتل وترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية وقال آخرون عن النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ولكنها محض عناية الله تعالى ببعض عبيده كما قال ﴿.. الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس..﴾ فإن قيل لم يقدم الملك على النبوة والحكمة مع أنه أدون منها؟ فالجواب أنه تعالى أراد أن يذكر كيفية ترقي داود عليه السلام في معارج السعادات والتدرج في مثل هذا المقام من الأدون إلى الأشراف هو الترتيب الطبيعي..
٤ من سورة طه من الآية ١٤..
٥ من سورة الحج من الآية ٤٠..
٦ ما بين العارضين من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي..
﴿ وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ﴾ أعطي المسيح عيسى بن مريم عليه السلام مع النبوة الحجج والأدلة المثبتة صدق دعواه فكان يبرئ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله كما منحه مولانا آيات وعلامات أخر في كل منها برهانا على أن ربنا العظيم اصطفاه وارتضاه رسولا، ومنح الإنجيل الذي بينت آياته ما فرض عليه وعلى قومه، وأعانه الله وقواه بروح الله جبريل عليه السلام أمين الملائكة الكرام وملك الوحي ومع ذلك قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك.. -وسبب تخصيص موسى وعيسى بالذكر هو أن أمتهما موجودون حاضرون فنبه على أن هذين الرسولين مع علو درجتهما، وتبين معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما، بل نازعوا وخالفوا، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا، ثم إن الرسل بعد مجيء البينات ووضوح الدلائل اختلف أقوامهم فمنهم من آمن ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا فلهذا قال تعالى ﴿ ولو شاء الله ﴾ أي أن لا يقتتلوا ﴿ ما اقتتل الذين من بعدهم ﴾ لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضا ﴿ ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ﴾ لالتزامه دين الأنبياء ﴿ ومنهم من كفر ﴾ بإعراضه عنه ﴿ ولو شاء الله ما اقتتلوا ﴾ كرر الكلام تكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ﴿ ولكن الله يفعل ما يريد ﴾ وفي الآية دلالة على صحة مسألة خلق الأعمال، ومسألة إرادة الكائنات وأن الكل بقضاء الله وقدره... ٥.
٢ إذ قد بدأت الآية الكريمة بضمير التعظيم ﴿نا﴾ العائد على الحق سبحانه ولم يجيء الضمير هنا كلمتهم بل ذكر لفظ الجلالة فانتقل الكلام من طريق إلى طريق وهذا ما يعبر عنه بالالتفات ولعل ذلك للتذكير بأن فاعل ﴿فضل﴾ و﴿كلم﴾ هو الله جل علاه..
٣ مما أورد النيسابوري قيل إن درجات نصب بنزع الخافض. وقيل حال من بعضهم أي ذا درجات (وقيل مصدر في وضع الحال) وقيل انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قال ورفعنا بعضهم رفعات.
ومما أورد الألوسي: ومنهم من رفعه الله تعالى على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة.. والمراد ببعضهم هنا النبي.. فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الأماني حسرى وامتاز بخواص... لا يستطيع اللسان لها حصرا فهو المبعوث رحمة للعالمين والمنعوت بالخلق العظيم.. والمنزل عليه قرآن مجيد ﴿... لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد﴾. ا هـ..
٤ وأورد ابن جرير هكذا (أعطيت خمسا لم يعطهن أحدا قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي وقيل لي سل تعطه فأختبأتها شفاعة لأمتي فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا}.
٥ ما بين العارضتين من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان..
٢ سورة الإنسان الآيتان من ١١-١٤..
٣ سورة الحديد الآية ١١ ومن الآية ١٢..
٤ من سورة الزخرف الآية ٢٧..
٥ من سورة الشعراء الآيتان ١٠٠-١٠١..
٦ ما بين العارضتين من جامع البيان..
﴿ القيوم ﴾ لا يفتقر في قوامه إلى غيره وغيره يفتقر في قوامه إليه. كما أنه القائم على كل نفس بما كسبت. عن مجاهد : القائم على كل شيء وعن الربيع : قيم كل شيء يكلؤه ويرزقه ويحفظه.
﴿ لا تأخذه سنة ولا نوم ﴾ لا يدركه نعاس ولا يعتريه نوم فهو منزه عن خفيف النوم وثقيله، عن الضحاك السنة الوسنة وهو دون النوم، والنوم الاستثقال. وقال ابن زيد الوسنان هو الذي يقوم من النوم لا يعقل، وقال ابن جرير : لا تحله الآفات ولا تناله العاهات وذلك أن السنة والنوم معنيان يغمران فهم ذي الفهم ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا : الله لا إله إلا هو﴿ الحي ﴾ الذي لا يموت ﴿ القيوم ﴾ على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال على حال. ﴿ لا تأخذه سنة٣ ولا نوم٤ ﴾.. لو نام لكان مغلوبا مقهورا لأن النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السماوات والأرض وما فيهما دكا لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته والنوم شاغل المدبر عن التدبير والنعاس يمانع المقدر عن التقدير بوسنه. ١ه. ﴿ له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ لله الأحد علوي الكون وسفليه فهو خالق كل شيء وما لله شريك أو ند أو ضد، فلا ينبغي أن نعبد غيره ولا يشفع عنده أحد لأحد إلا أن يمكنه الواحد القهار من الشفاعة لديه جل علاه ؛ والاستفهام في القول الكريم ﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ يعني النفي أي لا أحد يشفع لديه إلا من شفعه سبحانه وفي هذا رد على الذين زعموا أن ما أشركوا بالله إنما يتخذ شفيعا لديه ﴿ ... ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله.. ﴾٥ فأبطل المولى الحكيم زعمهم كما أن الآية المباركة قررت أن الكبير المتعال جل ثناؤه يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن شرفهم عز ثناؤه وأكرمهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، فمن حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم في صحيحه ( حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فينا أحد مما أمرتنا به فيقول عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فينا أحد ممن أمرتنا به يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خير ) وكان أبو سعيد يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾٦- ( فيقول الله تعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما )٧ ؛ ﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ قال مجاهد :﴿ ما بين أيديهم ﴾ الدنيا ﴿ وما خلفهم ﴾ الآخرة. ولا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه. ﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم ﴾ نقل ابن جرير -رحمه الله تعالى- بسنده عن سعيد ابن جبير رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :﴿ كرسيه ﴾ علمه. كما نقل أقوالا عدة ثم قال : وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس... وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره :﴿ ولا يؤوده حفظهما ﴾ على أن ذلك كذلك فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السماوات والأرض وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم ﴿ .. ربنا وسعت كل شيء وعلما... ﴾٨، فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء فكذلك قوله ﴿ وسع كرسيه السموات والأرض ﴾ وأصل الكرسي العلم ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب : كراسة... ومنه يقال للعلماء كراسي.. يعني بذلك أنهم العلماء الذين تصلح بهم الأرض ومنه قول الشاعر :
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب
وقيل : إنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وما فيهما ومن فيهما ﴿ وهو العلي ﴾ ذو العلو عن النظير والأشباه علي على خلقه، ﴿ العظيم ﴾ المعظم الموصوف بالعظمة وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه٩ -هذا وقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فآتاني آت فجعل يحثوا من الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال فخليت عنه فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ) قال قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال :( أما إنه قد كذبك وسيعود ) فعرفت أنه سيعود فرصدته فجاء يحثوا من الطعام فأخذته، فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ) قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال ( أما إنه كذبك وسيعود ) فرصدته الثالثة فجاء يحثوا من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود فقال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ومن هي قال إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظا ولا يقربك الشيطان حتى تصبح فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما فعل أسيرك البارحة ) قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال وما هي قلت قال لي إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح -وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أما إنه صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة ) قلت لا قال ( ذاك الشيطان ).
٢ ما بين العلامتين [] من جامع البيان لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى..
٣ في الصحيح عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال ﴿إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه﴾ أخرجه ابن كثير في تفسيره..
٤ فسر بعضهم السنة بأنها: فتور يتقدم النوم وليس بنوم يقول عدي بن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنفت في عينه سنة وليس بنائم.
٥ من سورة يونس من الآية ١٨..
٦ من سورة النساء الآية ٤٠..
٧ أي فحما..
٨ من سورة غافر من الآية ٧..
٩ ما بين العارضتين من روح المعاني..
٢ من تفسير القرآن العظيم لابن كثير..
٣ من روح المعاني..
٤ من جامع البيان..
٢ من جامع البيان..
﴿ آتاه ﴾ أعطاه. ﴿ يأتي بالشمس ﴾ يطلعها. ﴿ بهت ﴾ تحير وغلبه البرهان.
﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ﴾ الاستفهام تقريري تعجيبي فكأن المعنى ألم ينته علمك -والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفى- إلى أول من تجبر وادعى الربوبية إذ جادل بالباطل وخاصم إبراهيم عليه السلام وغالبه طمعا في الظفر عليه ودافع عن زيفه وزيغه في ادعاء الألوهية كبرا وبطرا بالنعمة التي أعطاها الله إياها، نعمة الملك، قال قتادة : كنا نتحدث أنه ملك يقال له النمرود وهو أول ملك تجبر في الأرض وهو صاحب الصرح ببابل. وأصل المحاجة المغالبة بالحجة لكن ذاك المفتون لم تكن له حجة إنما كان يجادل بالباطل فسمي مراؤه حجة تجوزا ؛ إبراهيم عليه السلام ينادي الناس ليعلموا أنهم إنما يعبدون من دون الله أوثانا لا تملك نفعا ولا ضرا ولا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا لكن الذي يملك الموت والحياة هو ربنا القدير جل علاه فكبر على هذا الأفاك ما دعي إليه وادعى زورا أنه يحيي ويميت ﴿ إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ﴾ ألقى اللعين هذه الشبهة ليلبس على الناس الحق بالباطل، ﴿ قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ فنقله إبراهيم عليه السلام إلى أمر لا يحتمل المغالطة وهو إطلاعه الشمس من مغربها إن كان يزعم لنفسه قدرة على شيء فتحير اللعين وانقطع عن جدله وأخرسه ما ساق إبراهيم من برهان. وهكذا لا يصلح الله عمل المفسدين ولا يهدي كيد الخائنين ولا يشرح للحق صدور الجبارين المتكبرين.
﴿ أنى ﴾ كيف ومن ومتى ؟ ﴿ عام ﴾ سنة. ﴿ لبثت ﴾ مكثت وبقيت.
﴿ يتسنه ﴾ يتغير. ﴿ ننشزها ﴾ نرفعها.
﴿ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه ﴾ قال المبرد.. ألم تر من هو كالذي مر على قرية ١ ؛ وقيل المراد بالقرية أهلها، وعن علي بن أبي طالب أنه قال هو عزير. يقول البعض خاوية من الناس وهي قائمة بلا عامر يعمرها وقيل ساقطة منهدمة، سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها، أو سقطا على عرصاتها. فسأل متعجبا من أي طريق وبأي سبب تعمر هذه بعد خرابها وهذا السؤال مشعر بأنه يعلم قدرة الله سبحانه على الإماتة والإحياء، ﴿ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ﴾ ظاهر الإماتة إخراج الروح من الجسد والبعث رد الروح إليه وإحياؤه. والعام السنة ﴿ قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ﴾ ربما يكون القائل له ﴿ كم لبثت ﴾ يسأله كم بقيت ميتا ؟ ملك جاءه أو معمر عاينه عندما مات وشاهده حين ردت إليه روحه وجائز أن يكون الله جل وعلا. ﴿ قال لبثت يوما أو بعض يوم ﴾ أي مكثت وبقيت ميتا ربما بعض يوم. قال قتادة : ذكر لنا أنه مات ضحى وبعث عصرا فظن أنه لم يكمل يوما ﴿ قال بل لبثت مائة سنة فمد بصرك إلى الطعام والشراب الذي كان معك فستجده أنه على حاله لم يتغير حتى تعرف أن الذي حفظه من التغير قادر على أن يحيي الموتى { وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ﴾ ربما ليطلعه الله تعالى على مزيد من برهان القدرة أطلعه على بقايا حماره وهي تجمع بقدرة من لا يعجزه شيء، يجمع العظم إلى العظم ثم يكسى باللحم وما فوق اللحم من جلد وشعر وما دونه من عرق وعصب. ﴿ فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ فلما اتضح له كيف تكون إعادة الحياة إلى من فارق الحياة وصار رميما قال أنا قد علمت من أمر الاقتدار على البعث علم مشاهدة وإني على مزيد من اليقين أن ربي على كل شيء يريده مقتدر.
﴿ فصرهن ﴾ قطعهن واضممهن.
﴿ يأتينك ﴾ يجئن إليك. ﴿ سعيا ﴾ ساعيات متحركات.
﴿ وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾ ليرى عيانا ما كان عنده من علم ذلك خبرا فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا وعلى هذا يفهم الحديث الصحيح الذي خرجه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ). و﴿ كيف ﴾ في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد فكأن المعنى : ليسكن قلبي إلى المعاينة بعد الإيمان بالغيب١ ؛ [ ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحشاه شكا.. قطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر هذا الوهم بقوله على سبيل التواضع ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى.. ﴿ قال ﴾ أي الرب ﴿ فخذ ﴾ الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ ]٢ ﴿ أربعة من الطير فصرهن إليك ﴾ عن ابن عباس : هن طاوس ونسر وغراب وديك ﴿ فصرهن إليك ﴾ قطعهن واضممهن إليك، روى أنه أمر بذبحها ونتف ريشها وأن يقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال التي بحضرته وفي أرضه على كل جبل ربعا ثم يصيح بها : تعالين بإذن الله فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها ؛ وهذا حاصل ما نقل عن مجاهد ﴿ واعلم أن الله عزيز حكيم ﴾ عن الربيع : واعلم أن الله عزيز في نقمته حكيم في أمره.
٢ ما بين العلامتين [] من روح المعاني..
٢ من جامع البيان..
٣ ما بين العلامتين [] مما أورد النيسابوري بتصرف يسير..
٢ جاء في الحكم: صنوان من منح سائله ومن منع نائله وضن..
٣ ما بين العلامتين [] من تفسير غرائب القرآن..
٢ نقل عن شاعر قوله:
حفظت لي ماء وجهي أو حفظت دمي
يعني صيانتك لكرامتي تساوي حفاظك على حياتي ولهذا روى أن عليا رضي الله عنه إذا رأى مكروبا وباكره أن يخبره بلسانه حاجته فيقول حط حاجتك على الأرض فإني أرى على وجهك الضر..
٣ رواه البخاري في التوحيد ورواه مسلم في الإمارة..
٤ من سورة يونس من الآية ٢٢..
٥ ما بين العلامتين [] أورده النيسابوري..
﴿ وأصابه الكبر ﴾ لحقه ضعف المشيب. ﴿ إعصار ﴾ ريح عاصف.
﴿ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ﴾ روى البخاري في صحيحه عن عبيد ابن عمير قال : قال عمر ابن الخطاب يوما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن ترون هذه الآية نزلت ﴿ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب.. ﴾ قالوا الله أعلم فغضب عمر فقال قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين قال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس ضربت مثلا لعمل، قال عمر : أي عمل قال ابن عباس : لعمل، قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله عز وجل له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله، وقال السدي : هذا مثل آخر لنفقة الرياء أنه ينفق ماله يرائي الناس به فيذهب ماله منه وهو يرائي فلا يأجره الله فيه فإذا كان يوم القيامة واحتاج إلى نفقته وجدها قد أحرقها الرياء فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سموم فأحرقت جنته فلم يجد منها شيئا فكذلك المنفق رياء ؛ زاد مجاهد : كذلك المفرط بعد الموت كل شيء عليه حسرة. ﴿ أيود ﴾ أي أيحب ؟ والاستفهام يراد به النفي والجنة البستان ذو الشجر العظيم وخص النخيل والأعناب مع أنه جاء بعد ذلك ﴿ له فيها من كل الثمرات ﴾ ربما لفضلها على سائر الثمرات ﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ﴾ عن ابن عباس يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقاءها.
﴿ الخبيث ﴾ الرديء. ﴿ تغمضوا ﴾ تطبقوا أجفان أعينكم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ﴾ عهد الله تعالى إلى أهل الإيمان أن يزكوا ويتصدقوا من جياد وحلال ما جمعوا من رزق من نقد وعروض تجارة وأجر صنعة ومواش مثلما أمرهم في آية سبقت من هذه السورة أن يطعموا ويلبسوا ويمتلكوا الحلال الخير فقال تقدست أسماؤه ﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم... ﴾١، ﴿ ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾ فكأن المعنى وأنفقوا أيها المؤمنون وزكوا وتصدقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض من حب وثمرات ومعادن وركاز وغير ذلك ؛ والأمر ﴿ أنفقوا ﴾ قد يحمل على الوجوب فينصرف إلى ما يخرج في الزكاة والنفقات الواجبة لا يقبل فيها إلا ما كان سليما من العيوب وقيل محمول على الندب رغبنا سبحانه في تحري الجيد حين نبذل قال بالرأي الأول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإلى الثاني ذهب البراء والحسن وقتادة، مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن : والآية تعم الوجهين لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب ولأنه نهى عن الرديء، وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم خير من تمرة ؛ تمسك أصحاب الندب بأن لفظة افعل صالح للندب صلاحيته للفرض، والرديء منهي عنه في النفل كما هو منهي عنه في الفرض والله أحق من اختبر له. ١ه. ﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ٢ ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ﴾ عن البراء رضي الله تعالى عنه : لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء، ومما أورد ابن جرير : فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه... والصدقة قربان المؤمن فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد لأن مادون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته أو لعظم خطره وأحسن موقعا من المسكين وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل من الجيد لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه.. ﴿ واعلموا أن الله غني حميد ﴾... غني عن صدقاتكم وعن غيرها إنما أمركم بها وفرضها في أموالكم رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم ويقوي بها ضعيفكم ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم لا من حاجة به فيها إليكم، ويعني بقوله ﴿ حميد ﴾ أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه وبسط لهم من فضله...
٢ روى الترمذي عن البراء بن عازب قال: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام [أهل الصفة: فقراء من الصحابة كانوا يسكنون صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزلون الصفة فور قدومهم مهاجرين ريثما يتخذون المنزل فيتحولون، فكأن الصفة كالنزل في المدينة، ومنهم من يتفرغ لطلب العلم وللجهاد في سبيل الله، ولم يكونوا كما قال البعض: كانوا ينتظرون من يتصدق عليهم]. فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فسقط البسر والتمر فيأكل وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله تبارك وتعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه﴾ قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء قال فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده..
﴿ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾.. يؤتي –يعطي- الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده ومن يؤت الإصابة منهم فقد أوتي خيرا كثيرا... جميع الأقوال التي قالها القائلون.. داخل فيها قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة وإذا كان ذلك كذلك كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره فهما خاشيا لله فقيها عالما وكانت النبوة من أقسامه، لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في الأمور، والنبوة بعض معاني الحكم ؛.. ﴿ وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾.. وما يتعظ بما وعظ به ربه.. إلا أولوا العقول.. والمواعظ غير النافعة إلا أولي الحجا والحلول...
﴿ إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ قال الحسن : إظهار الزكاة أحسن وإخفاء التطوع أفضل ؛ وقال ابن عباس جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها.. وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها.. قال وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها من حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ) وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ). ﴿ ويكفر عنكم من سيئاتكم ﴾ لعل المعنى : والله يجزي المتصدقين فيرفع لهم الدرجات ويمحو عنهم الخطيئات، ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ لا يغيب عنه شيء مما يعمل العاملون وهو ذو خبرة بما يسرون وبما يعلنون وسيجزي أهل البر ببرهم لا يبخسون.
٢ من سورة النساء من الآية ٤٠..
﴿ سيماهم ﴾ علامتهم.
﴿ إلحافا ﴾ إلحاحا.
﴿ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ﴾ من مصارف الصدقات التي يعظم أجرها إعطاء الفقراء الذين منعوا من السعي في طلب الرزق كالذين انقطعوا للعلم والجهاد فهم لا يتيسر لهم التنقل في البلاد بحثا عما يسد حاجتهم وهم مع عوزهم يتركون سؤال الغير وإن سألوا كنوا وتلطفوا ولم يلحوا وإن علامات الضر والمسكنة لترى في وجوههم لكنهم يتجملون بالصبر ويترقبون من الله تعالى كشف الضر وهؤلاء هم المساكين على الحقيقة فقد روى البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف اقرءوا إن شئتم يعني قوله ﴿ لا يسألون الناس إلحافا ﴾ ). وفي رواية أخرجها عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس المسكين بهذا الطواف التي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا ). ﴿ وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ﴾- فيه أن ثواب هذا الإنفاق الذي هو أعظم المصارف لا يكتنه كنهه فلذلك وكل إلى علم الله تعالى... ثم أرشد في خاتمة الآيات إلى أكمل وجوه الإنفاقات بقوله ﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
وذلك أن الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة يكون ذلك منهم دليلا على الحرص البالغ والاهتمام التام كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه متعللين بوقت وحال ؛ والباء بمعنى في أي في الليل والنهار. و﴿ سرا وعلانية ﴾ منصوبان على الظرفية أيضا أي في أوقات السر والعلن -١.
﴿ يأكلون ﴾ ينتفعون بأكل أو شرب أو لبس أو ركوب أو تملك.
﴿ الربا ﴾ الزيادة والكسب الحرام والنساء والقرض الذي يجر نفعا للمقرض.
﴿ يقومون ﴾ يبعثون. ﴿ يتخبطه الشيطان من المس ﴾ يحركه حركة مضطربة جنونية. ﴿ سلف ﴾ تقدم ومضى.
وبدأت آيات الربا بقول مولانا الملك الحق المبين ﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ﴾ -والربا في اللغة معناه الزيادة، والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان : تحريم النساء٢ والتفاضل في النقود وفي المطعومات -٣. روى الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الذهب بالورق ربا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء ) وفي رواية ( الورق بالورق ربا إلا هاء وهاء والذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ) ؛ وهاء وهاء : هو أن يقول كل واحد من المتبايعين هاء فيعطيه ما في يده وقيل معناه هاك وهات أي خذ وأعط مثل الحديث الآخر ( إلا يدا باليد ) ومثل الذي يأخذ الأموال المكتسبة بتعامل ربوي مثله في تخبطه واضطرابه واختلال مسيره يوم يبعث كمثل الذي يصرع وقد خالطه الجنون وقيل من عادة الناس إذا أرادوا تقبيح شئ أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى ﴿ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ﴾٤ فرد القرآن على ذلك -وأكثر المسلمون على أن الشيطان لا يبعد أن يكون قويا على الصرع والقتل والإيذاء بتقدير الله تعالى وللمفسرين في الآية أقوال : أحدهما أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف، وقوله ﴿ من المس ﴾ يتعلق ب ﴿ لا يقومون ﴾ أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع من المس ﴿ ذلك ﴾ العقاب ﴿ بأنهم قالوا ﴾ بسبب قولهم ﴿ إنما البيع مثل الربا ﴾ وذلك أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أن جعلوه أصلا٥.. وأجاب الله تعالى.. بحرف واحد وهو قوله ﴿ وأحل الله البيع وحرم الربا ﴾ وحاصله إنكار التسوية وأن النص لا يعارض بالقياس ٦... ثم ظاهر الآية يدل على أن الوعيد إنما لحقهم باستحلالهم الربا دون إقدام على أكله مع اعتقاد التحريم٧.. إطلاق اللفظ المستغرق على الأغلب عرف مشهور-٨.
﴿ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ﴾ قال السدي أما الموعظة فالقرآن وأما ما سلف فله ما أكل من الربا وهكذا لا يؤاخذ الله تعالى بذنب اقترفه مذنب قبل أن يعلم حرمته ويشهد لذلك قول المولى تقدست أسماؤه ﴿ .. إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف.. ﴾٩ عن الزجاج : فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم ﴿ وأمره إلى الله ﴾ لأنه انتهى عن أكل الربا كما انتهى عن استحلاله فهو المقر بدين الله العامل بتكاليفه فيستحق المدح والثواب وإن انتهى عن الاستحلال دون الأكل فإن شاء غفر له لقوله ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾١٠، ﴿ ومن عاد ﴾ إلى استحلال الربا وأنه مثل البيع ﴿ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ لأنه كفر باستحلال ما هو محرم إجماعا...
ذكر ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الربا وفعل الصدقة فقال ﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾
٣ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي..
٤ من سورة الصافات الآية ٦٥..
٥ كانوا يعولون في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوبا بعشرة ثم باعه بأحد عشر نقدا أو نسيئة -بمعنى أجل دفع الثمن- فهذا حلال فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشرة -لا فرق بين الصورتين إذا حصل التراضي من الجانبين والبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات ولعل الإنسان يكون صفر اليدين في الحال وسيحصل له أموال كثيرة في المآل فإعطاؤه الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال والحق ما قال الحق سبحانه أن المربي سيمحق ماله والمربي معه يطعم سحتا وعليهما لعنة الله ﴿لعن الله آكل الربا ومؤكله﴾.
٦ مما قال العلماء: إن القياس مع وجود النص من عمل إبليس أمره الله تعالى بالسجود فعارض النص بالقياس وقال أنا خير منه..
٧ جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد..
٨ من تفسير غرائب القرآن..
٩ سورة الأنفال من الآية ٣٨..
١٠ سورة النساء من الآية ٤٨..
﴿ يمحق ﴾ يذهب البركة. ﴿ كفار ﴾ مبالغ في الكفر. ﴿ أثيم ﴾ مبالغ في الذنب.
﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾ والمحق نقص الشيء حالا بعد حال ومنه محاق القمر وكل من محق الربا وإرباء الصدقات إما في الدنيا وإما في الآخرة وذلك أن الغالب في المربي وإن كثر ماله أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله وذلك لدعاء الناس عليه وبغضهم إياه لسقوط عدالته وشهرته بالفسق والعدوان-١.. وعن ابن عباس في تفسير هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حجا ولا صلة،
﴿ والله لا يحب كل كفار أثيم ﴾ إن المصر على استحلال الحرام واستمرار الربا والسحت مبالغ في الكفر لا يحبه المولى سبحانه وكذا من تمادى في اقتراف الأوزار وأكل الربا فإنه مبالغ فيه في الإثم موغل في الفسوق والله لا يحب الكافرين ولا الفاسقين فكيف بالمبالغين في الغي والكفران.
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ [ الذين صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء من عند ربهم من تحريم الربا وأكله وغير ذلك من سائر شرائع دينه، وعملوا الصالحات التي أمرهم الله عز وجل بها والتي ندبهم إليها وأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأدوها بسننها وآتوا –أعطوا- الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم بعد الذي سلف منهم من أكل الربا قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم ﴿ لهم أجرهم ﴾ يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصدقهم ﴿ عند ربهم ﴾ يوم حاجتهم إليه في معادهم ﴿ ولا خوف عليهم ﴾ يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة ربهم، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا بما كانوا من إنابتهم وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم وتصديقهم بوعد الله ووعيده ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى وهم على تركهم ما تركوا من ذلك في الدنيا ابتغاء رضوان الله في الآخرة فوصلوا إلى ما وعدوا على تركه ]١.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ﴾ -لما بين سبحانه أنه من انتهى عن الربا فله ما سلف كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم ١- فقال تقدست أسماؤه ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ﴾ دعوا واتركوا ما بقي من المقترضين زائدا على ما أقرضتموهم إياه ( إن كنتم محقين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم بأفعالكم ) عن قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح " ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب " لكن الذي رواه أبو داود عن سليمان بن عمر عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع ( ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) وذكر الحديث.
﴿ فأذنوا بحرب ﴾ فاستيقنوا بحرب.
﴿ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ نقل عن ابن عباس : من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه وقيل المعنى إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله : أي أعداء. ﴿ وإن تبتم ﴾ عن الربا ﴿ فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ ( ﴿ لا تظلمون ﴾ بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل ﴿ ولا تظلمون ﴾ يقول والغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه، قال ابن زيد.. لا تنقصون من أموالكم ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم.
﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ﴾ وإن كان معسرا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء فأنظروهم )١، عن ابن عباس : إنما أمر في الربا أن ينظر معسر وليست النظرة في الأمانة ولكن يؤدي الأمانة إلى أهلها ﴿ وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ إن كنتم علمتم جزاء المتصدقين ورغبتهم في أن تدعوا لمن أعسر رأس المال الذي لكم عنده فلذلك أحسن عاقبة لمن تصدق على غريم معسر مما روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزا عنه لعل الله يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه ) وفي صحيح مسلم ( من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله ).
﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ يعظ الله تعالى عباده ويحذرهم الآخرة ﴿ يوما ﴾ هو يوم القيامة وتنكيره للتهويل، [ وقوله ﴿ إلى الله ﴾ فيه مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله ]١. ﴿ ثم توفى ﴾ تعطى كاملا ﴿ كل نفس ﴾ مكلفة ﴿ ما كسبت ﴾ ما عملت أي جزاء ما عملت ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ واحذروا أيها الناس يوما ترجعون فيه إلى الله فتلقونه فيه أن تردوا عليه بسيآت تهلككم أو بمخزيات تخزيكم أو بفضحات تفضحكم فتهتك أستاركم أو بموبقات توبقكم فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به وإنه يوم مجازاة الأعمال لا يوم استيعاب ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، كيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها وبالحسنة عشر أمثالها ؟ كلا بل عدل عليك أيها المسيء وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن فاتقى امرؤ ربه فأخذ منه حذره وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل ومن صالحات الأعمال خفيف وإنه عز وجل حذر فأعذر ووعظ فأبلغ عن ابن عباس : آخر آية عن النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾، وعن ابن جرير : يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال وبدا يوم السبت ومات يوم الاثنين، عن عامر أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم وإنه كان من آخر القرآن تنزيل آيات الربا فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لكم فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، وفي رواية سعيد ابن المسيب عنه بزيادة فدعوا الربا والريبة.
﴿ أجل مسمى ﴾ وقت معلوم محدد.
﴿ لا يأب ﴾ لا يمتنع. ﴿ سفيها ﴾ ضعيف العقل. ﴿ وليملل ﴾ وليمل على الكاتب ليكتب.
﴿ تضل ﴾ تنسى. ﴿ تسأموا ﴾ تضيقوا.
﴿ أجله ﴾ الوقت المؤجل له. ﴿ أقسط ﴾ أعدل.
﴿ أقوم ﴾ أكثر استقامة. ﴿ وأدنى ﴾ وأقرب.
﴿ ترتابوا ﴾ تشكوا. ﴿ فسوق ﴾ خروج عن الطاعة.
في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم ) وروى البخاري عن ابن عباس : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ثم قرأ ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ﴾ نقل عن بعض الصحابة أن الآية في السلم خاصة لكن الإجماع على أنها ربما تكون نزلت بسبب السلم ثم هي تتناول جميع المداينات وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة، والعين عند العرب ما كان حاضرا ويقابله الدين وهو ما كان غائبا ومنه قول الشاعر :
وعدتنا بدرهمينا طلاء | وشواء معجلا غير دين |
﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ﴾ ؛ ندب الله تعالى المتبايعين بالدين أو عامة المتعاملين إلى أن يشهدوا على تعاملهم وأن يلي هذا رجلان مسلمان حران فإن لم نجد رجلين يشهدان فلنستشهد برجل وامرأتين من العدول المرتضين، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة فإذا نسيت واحدة الشهادة ذكرتها الثانية بما وقع. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار )، فقالت امرأة منهن جزلة -تامة الخلق جيدة الرأي- ومالنا يا رسول الله أكثر أهل النار ؟ قال :( تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن ) قالت : يا رسول الله ما نقصان العقل والدين ؟ قال :( أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين ).
﴿ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ﴾ الجمهور من الفقهاء على أن الشاهد إذا دعي لأداء الشهادة فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية. روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادة قبل أن يسألها )، وفي الصحيحين ( ألا أخبركم بشر الشهداء الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا ) وكذا الحديث ( ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ) فهؤلاء شهود الزور.
﴿ ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ﴾ ذلكم الذي وصاكم الله تعالى به -من كتابة الدين- أو التعامل وكذا الإشهاد عليهما- لا ينبغي أن نتركه مهما كان المال المتعامل به صغيرا أو كبيرا وأيا ما كانت المدة لهذا الشيء قريبة أو بعيدة فإن الكتابة والاستشهاد أعدل في ميزان الشرع وأثبت للشاهد فقد ينسى، وأقرب إلى عدم الريبة والشك إذ حين التنازع يرجع إلى الكتاب الذي كتب فيفصل دون أن يرتاب أحد ؛ ﴿ إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾ إلا أن تكون المعاملة تجارة تتقابضونها وتتفاصلون فيها ويذهب كل منكما بما اشترى من صاحبه فلا حرج عليكم ولا ضيق في ترك الكتابة، وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد وإذا باع بنسيئة بتأجيل كتب. وقال الطبري : لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد وإلا كان مخالفا كتاب الله عز وجل وكذا إذا كان أجل فعليه أن يكتب ويشهد إن وجد كاتبا ؛ وذهب الشعبي والحسن إلى أن ذلك على الندب والإرشاد لا على الحتم ومما قال عطية وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستئلاف -زرع الألفة- بترك الإشهاد وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحيي من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه فيدخل ذلك في الائتمان يشير إلى قول الله تباركت آلاؤه وتقدست أسماؤه ﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ﴾ ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنعه منه.. ١ه.
﴿ ولا يضار كاتب ولا شهيد ﴾ عن الحسن وقتادة : لا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها، وعن ابن عباس وعطاء : لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد، وعن الضحاك ومجاهد : بأن يدعى الشاهد إلى الشهادة والكاتب إلى الكتب وهما مشغولان فإذا اعتذرا بعذرهما أخرجهما وآذاهما ؛ ﴿ وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ﴾ عن سفيان الثوري : من أوقع المضارة فقد وقع في المعصية وابن كثير يقول : فإنه فسق كائن بكم أي لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه... ؛ ﴿ واتقوا الله ﴾ أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره، ﴿ ويعلمكم الله ﴾ كقوله ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا... ﴾٥ وكقوله ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتيكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به... ﴾٦، أي هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء بل علمه محيط بجميع الكائنات.
٢ من سورة المائدة من الآية ٤١..
٣ من الجامع لأحكام القرآن..
٤ ما بين العارضتين من جامع البيان..
٥ من سورة الأنفال من الآية ٢٩..
٦ من سورة الحديد من الآية ٢٨..
﴿ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ﴾ حين يتداين المسافرون لهم أن يجعلوا بين المدين والدائن رهنا وشيئا يبقى لدى الدائن حتى يرد المدين ما أخذ فسيرد الرهن، فإن تساهل الدائن واطمأن إلى أمانة المدين فلم يكتب ولا ارتهن فعلى المدين أن يؤدي الأمانات إلى أهلها فإن المؤمن التقي إذا اؤتمن أدى بخلاف المنافق أعاذنا الله تعالى من النفاق فإنه إذا اؤتمن خان ونهى المولى الكبير المتعال أن تخفى الشهادة وأن يمتنع الشاهد عن أدائها أو يؤديها على غير وجهها فإن ذلك يستوجب مقت الله كقوله تعالى :﴿ .. ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ﴾١، وربما محيط علمه بكل قول وعمل وبكل سر ونجوى فإن أضمر متعامل شرا أو غير كاتب أمرا أو كتم شاهد أو خان مؤتمن فما ربح ولا أفلح بل خاب وخسر لأن الذي يجزي –سبحانه- يعلم ما ظهر وما بطن ويجزي الذين أساءا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
﴿ تبدوا ﴾ تظهروا.
﴿ لله ما في السموات وما في الأرض ﴾ ربنا الواحد المعبود مالك السماوات والأرض وملكهما وما فيهما ﴿ وإن تبدوا ﴾ تظهروا ﴿ ما في أنفسكم أو تخفوه ﴾ ما تتحدث به النفس وما تنطوي عليه الجوانح أو تبقوه مستترا في صدوركم ﴿ يحاسبكم به الله ﴾ يسألكم عنه ويجزيكم به عاجلا وآجلا ﴿ فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ﴾ في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال الله إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة وإن هم بحسنة فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا ) إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده سيئة واحدة ). ونقل عن طائفة من المفسرين والمأثور أنها محكمة لم تنسخ إذ لا يلزم من المحاسبة المعاقبة، وقد يحاسب سبحانه ويغفر ويشهد لهذا ما رواه قتادة عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول في النجوى ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول٢ :( يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف كذا فيقول رب أعرف مرتين حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم قال فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه أما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الأشهاد ﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾٣(. ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ تذييل مقر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب-٤. قال الزجاج لما ذكر الله تعالى عز وجل في هذه السورة الجلية الشأن، الواضحة البرهان فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة، والحيض والطلاق والإيلاء، والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدين والربا ختمها بهذا ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾.
٣ من سورة هود من الآية ٣٨..
٤ ما بين العارضتين من روح المعاني..
﴿ آمن ﴾ صدق واستيقن.
﴿ غفرانك ﴾ سترك وعفوك وصفحك. ﴿ المصير ﴾ الرجوع.
﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾ تعظيما لنبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بذلك الفعل.. ١ه.
﴿ وسعها ﴾ ما تقدر عليه. ﴿ إصرا ﴾ قيدا وثقلا وعهدا.
﴿ مولانا ﴾ مطاعنا ومصلحنا وولينا.
﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ بشر المولى سبحانه بأنه شرع لنا شرعة سمحة يريد بها اليسر لأهل الدين والرحمة للعالمين يقول ابن عطية : نص الله تعالى على أنه لم يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر ﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ وهو كقوله تعالى ﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾١ وقوله جل ثناؤه ﴿ .. كل امرئ بما كسب رهين ﴾٢، وكذا القول الرباني الحكيم ﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾٣، فلكل عبد ثواب ما عمل من خير وعليه عقاب ما ارتكب من إثم وزور، ﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾ كأن في الكلام مقدارا أي قولوا ربنا لا تؤاخذنا، يعلمنا مولانا كيف نتضرع إليه قال ابن زيد : إن نسينا شيئا مما افترضته علينا أو أخطأنا شيئا مما حرمته علينا، ويقول ابن جرير : لا تؤاخذنا إن نسينا شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله أو أخطأنا في فعل شيء نهيتنا عن فعله على غير قصد منا إلى معصيتك ولكن على جهالة منا بخطأ... إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطئوا فليسألوه أن يؤاخذكم بذلك ؟ قيل إن النسيان على وجهين أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط والآخر على وجه عجز الإنسان عن حفظ ما استحفظ ووكل به وضعف عقله عن احتماله، فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط فهو ترك منه بفعله فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به وهو النسيان الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ﴾٤، وهو النسيان الذي قال جل ثناؤه ﴿ .. فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا.. ﴾٥، فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه... وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنيته عن حفظه وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته فإن ذلك من العبد غير معصية وهو به غير آثم.. وكذلك للخطأ وجهان... ؛
﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ﴾... يعني بالإصر العهد.. عنى بقوله :﴿ ولا تحمل علينا إصرا ﴾ ولا تحمل علينا فنعجز عن القيام به ولا نستطيع ﴿ كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ يعني على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها فلم يقوموا بها فعجلوا بالعقوبة... عن قتادة يقول : كما غلظ على من قبلنا... ﴿ ربنا ولا تحملنا ما طاقة لنا به ﴾.. عن الضحاك.. لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.. وعن السدي :.. التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم.. ﴿ واعف عنا واغفر لنا ﴾.. قال ابن زيد :.. واستر علينا زلة إن أتيناها فيما بيننا فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها..
﴿ وارحمنا ﴾ لا ننال العمل بما أمرتنا به ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك ؛ قال : ولم ينج أحد إلا برحمتك...
﴿ أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ﴾ عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ﴾ قال قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله ﴿ غفرانك ربنا ﴾ قال الله عز وجل : قد غفرت لكم فلما قرأ ﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾ قال الله عز وجل لا أحملكم، فلما قرأ﴿ واغفر لنا ﴾ قال الله تبارك وتعالى : قد غفرت لكم، فلما قرأ و﴿ وارحمنا ﴾ قال الله عز وجل : قد نصرتكم عليهم. ١ه.
٢ من سورة الطور من الآية ٢١..
٣ من سورة الزلزلة الآيتان ٧-٨..
٤ سورة طه الآية ١١٥..
٥ سورة الأعراف من الآية ٥١..