تفسير سورة المؤمنون

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

الجزء الثامن عشر
سورة المؤمنون
مكية
وآياتها مائة وثماني عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)
شرح الكلمات:
قد أفلح المؤمنون: أي فاز قطعاً بالنجاة من النار ودخول الجنة المؤمنون.
في صلاتهم خاشعون: أي ساكنون متطامنون لا يلتفتون بعين ولا قلب وهم بين يدي ربهم.
عن اللغو معرضون: اللغو كل ما لا رِضىً فيه لله من قول وعمل وتفكير، معرضون أي منصرفون عنه.
للزكاة فاعلون: أي مؤدون.
لفروجهم حافظون: أي صائنون لها عن النظر إليها لا يكشفونها وعن إتيان الفاحشة.
أو ملكت إيمانهم: من الجواري والسَّراري إن وجدن.
504
فمن ابتغى وراء ذلك: أي طلب ما دون زوجته وجاريته المملوكة شرعياً.
فأولئك هم العادون: أي الظالمون المعتدون على حدود الشرع.
راعون: أي حافظون لأماناتهم وعهودهم.
الفردوس١: أعلى درجة في الجنة في أعلى جنة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿قد أفلح المؤمنون﴾ ٢ يخبر تعالى وهو الصادق الوعد بفلاح المؤمنين وقد بين تعالى في آية آل عمران معنى الفلاح وهو الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة ووصف هؤلاء المؤمنين المفلحين بصفات من جمعها متصفاً بها فقد ثبت له الفلاح وأصبح من الوارثين الذين يرثون الفردوس يخلدون فيها وتلك الصفات هي:
(١) الخشوع في الصلاة بأن يسكن فيها المصلي فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ولا بقلبه مع رقة قلب ودموع عين وهذه أكمل حالات الخشوع في الصلاة، ودونها أن يطمئن ولا يلتفت برأسه ولا بعينه ولا بقلبه في أكثرها. هذه الصفة تضمنها قوله تعالى: ﴿الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾ ٣.
(٢) إعراضهم عن اللغو وهو كل قول وعمل وفكر لم يكن فيه الله تعالى إذن به ولا رضى فيه ومعنى إعراضهم عنه: انصرافهم عنه وعدم التفاتهم إليه، وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: ﴿والذين هم عن اللغو معرضون﴾.
(٣) فعلهم الزكاة أي أداؤهم لفريضة الزكاة الواجبة من أموالهم الناطقة كالمواشي والصامتة كالنقدين والحبوب والثمار، وفعلهم لكل ما يزكي النفس من الصالحات وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: ﴿والذين هم للزكاة فاعلون﴾.
(٤) حفظ فروجهم من كشفها ومن وطء غير الزوج أو الجارية المملوكة بوجه شرعي وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: ﴿والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غاير ملومين﴾ في إتيان أزواجهم وما ملكت أيمانهم، ولكن اللوم
١ أخرج مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة".
٢ روى أحمد والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب قوله: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل عليه الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ثم قال: لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة: ﴿قد فلح المؤمنون﴾ حتى ختم العشر.
٣ كان السلف الصالح إذا قام أحدهم في صلاته يهاب الرحمن أن يمدّ بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا، وأبصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" والجمهور على أن الخشوع في الصلاة أحد فرائضها.
505
والعقوبة على من طلب هذا المطلب من غير زوجه وجاريته ﴿فأولئك هم العادون﴾ أي الظالمون المعتدون حيث تجاوزوا ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.
(٥) مراعاة الأمانات والعهود بمعنى محافظتهم على ما ائتمنوا عليه من قول أو عمل ومن ذلك سائر التكاليف الشرعية حتى الغسل من الجنابة فإنه من الأمانة وعلى عهودهم وسائر عقودهم الخاصة والعامة فلا خيانة ولا نكث ولا خُلْف وقد تضمن هذا قوله تعالى: ﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾ أي حافظون.
(٦) المحافظة على الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها المحددة لها فلا يقدمونها ولا يؤخرونها مع المحافظة على شروطها من طهارة الخبث وطهارة الحدث وإتمام ركوعها وسجودها واستكمال أكثر سننها وآدابها وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: ﴿والذين هم على صلاتهم يحافظون﴾.
فهذه ست صفات إجمالاً وسبع صفات تفصيلاً فمن اتصف بها كمل إيمانه وصدق عليه اسم المؤمن وكان من المفلحين الوارثين للفردوس الأعلى جعلنا الله تعالى منهم.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
١- وجوب الخشوع في الصلاة.
٢- تحريم نكاح المتعة لأن المتمتع منها ليست زوجة لأنها لا ترث ولا تورث بخلاف الزوجة فإنها لها الربع والثمن، ولزوجها النصف والربع، لأن نكاح المتعة هو النكاح إلى أجل معين قد يكون شهراً أو أكثر أو أقل.
٣- تحريم العادة السرية وهي نكاح اليد وسحاق المرأة لأن ذلك ليس بنكاح زوجة ولا جارية مملوكة.
٤- وجوب أداء الزكاة ووجوب حفظ الأمانات ووجوب الوفاء بالعهود ووجوب المحافظة على الصلوات.
٥- تقرير حكم التوارث بين أهل الجنة وأهل النار فأهل الجنة يرثون منازل أهل النار وأهل النار يرثون منازل أهل الجنة اللهم اجعلنا من الوارثين الذين يرثون الفردوس.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (١٣) ثُمَّ
506
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
شرح الكلمات:
من سلالة: السلالة ما يستل من الشيء والمراد بها هنا ما استل من الطين لخلق آدم.
نطفة في قرار مكين: النطفة قطرة الماء أي المني الذي يفرزه الفحل، والقرار المكين الرحم المصون.
العلقة: الدم المتجمد الذي يعلق بالإصبع لو حاول أحد أن يرفعه بإصبعه كمح البيض١.
والمضغة: قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل.
خلقاً آخر: أي غير تلك المضغة إذ بعد نفخ الروح فيها صارت إنساناً.
أحسن الخالقين: أي الصانعين فالله يصنع والناس يصنعون والله أحسن الصانعين.
معنى الآيات:.
يخبر تعالى عن خلقه الإنسان آدم وذريته وفي ذلك تتجلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته والتي أوجبت عبادته وطاعته ومحبته وتعظيمه وتقديره فقال: ﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ ٢ يعني آدم عليه السلام ﴿من سلالة من طين﴾ أي من خلاصة طين جمعه فأصبح كالحمإ المسنون فاستل منه خلاصته ومنها خلق آدم ونفخ فيه من روحه فكان بشراً سويا ولله الحمد والمنة
١ هذه الجملة معطوفة على جملة: ﴿قد أفلح﴾ فهي من عطف جملة ابتدائية على مثلها: وهي كعطف قصة على أخرى، وهذا شروع في الاستدلال على التوحيد والبعث والجزاء بمظاهر القدرة والعلم والحكمة، وهي مقتضية لعقيدة كل من التوحيد والبعث الآخر حيث أنكرهما وكذّب بهما المشركون.
٢ جائز أن يكون المراد بالإنسان آدم، وأن يكون أحد ذريته إذ السلالة: الشيء المستل أي: المنتزع من غيره فالطينة مستلة من مادة الطين.
والمنيّ مستل كذلك من مادة ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دماً، وهذه السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية، والأغذية أصلها من الأرض وقوله تعالى: ﴿ثم جعلناه نطفة في قرار مكين﴾ هذا طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السلالتين في الرحم، وسميت النطفة نطفة: لأنها تنطف أي: تقطر في الرحم في قناة معروفة وهي القرار المكين.
507
قوله: ﴿ثم جعلناه نطفة في قرار مكين﴾ أي ثم جعلنا الإنسان الذي هو ولد آدم نطفة من صُلْبِ آدم ﴿في قرار مكين﴾ هو رحم حواء ﴿ثم خلقنا النطفة﴾ المنحدرة من صلب آدم ﴿علقة﴾ أي قطعة دم جامدة تعلق بالإصبع لو حاول الإنسان أن يرفعها بإصبعه، ﴿خلقنا العلقة مضغة﴾ وهي قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل، ﴿فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام١ لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر٢﴾ أي إنساناً آخر غير آدم الأب، وهكذا خلق الله عز وجل آدم وذريته، ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾. وقد يصدق هذا على كون الإنسان هو خلاصة عناصر شتى استحالت إلى نطفة الفحل ثم استحالت إلى علقة فمضغة فنفخ فيها الروح فصارت إنساناً آخر بعد أن كانت جماداً لا روح فيها وقوله تعالى: ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ فأثنى الله تعالى على نفسه بما هو أهله أي تعاظم أحسن الصانعين، إذ لا خالق إلاّ هو ويطلق لفظ الخلق على الصناعة فحسن التعبير بلفظ أحسن الخالقين.
وقوله تعالى: ﴿ثم إنكم بعد ذلك لميتون﴾ أي بعد خلقنا لكم تعيشون المدة التي حددناها لكم ثم تموتون، ﴿ثم إنكم يوم القيامة تبعثون﴾ أحياء للحساب والجزاء لتحيوا حياة أبدية لا يعقبها موت ولا فناء ولا بلاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته.
٢- بيان خلق الإنسان والأطوار التي يمر بها.
٣- بيان مآل الإنسان بعد خلقه.
٤- تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها الملاحدة والمشركون.
١ وقد أثبت علم الأجنة والشريح أن النطفة في طورها الثاني تعلق بجدار الرحم طيلة طورها الثاني فهي بمعنى عالقة ولا منافاة بين كونها علقة وعالقة.
٢ في الحديث الصحيح: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح..} الحديث فإذا نفخ فيه الروح تهيأ للحياة والنماء وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر﴾ وروي أن يهود يزعمون أن العزل هو الموؤدة الصغرى، وأن عليّا رد هذا وقال: لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع أي: الأطوار التي في هذه الآية.
508
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
شرح الكلمات:
سبع طرائق: أي سبع سموات كل سماء يقال لها طريقة لأن بعضها مطروق فوق بعض.
ماء بقدر: أي بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص.
من طور سيناء: جبل يقال له جبل طور سيناء.
تنبت بالدهن: أي تنبت بثمر فيه الدهن وهو الزيت.
وصبغ للآكلين: أي يغمس الآكل فيه اللقمة ويأكلها.
في الأنعام لعبرة: الأنعام الإبل والبقر والغنم والعبرة فيها تحصل لمن تأمل خلقها ومنافعها.
مما في بطونها: أي من اللبن.
منافع كثيرة: كالوبر والصوف واللبن والركوب.
ومنها تأكلون: أي من لحومها.
تحملون: أي تركبون الإبل في البر وتركبون السفن في البحر.
509
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر نعمه١ تعالى على الإنسان لعل هذا الإنسان يذكر فيشكر فقال تعالى: ﴿ولقد خلقنا فوقكم سبع٢ طرائق﴾ أي سموات سماء فوق سماء أي طريقة فوق طريقة وطبقاً فوق طبق وقوله تعالى: ﴿وما كنا عن الخلق غافلين﴾ أي ولم نكن غافلين عن خلقنا وبذلك انتظم الكون والحياة، وإلاّ لخرب كل شيء وفسد وقوله تعالى: ﴿وأنزلنا من السماء ماءً بقدر﴾ هو ماء المطر أي بكميات على قدر الحاجة وقوله ﴿فأسكناه في الأرض٣ وإنا على ذهاب به لقادرون، فأنشأنا لكم به جنات﴾ أي أوجدنا لكم به بساتين من نخيل وأعناب ﴿لكم فيها﴾ أي في تلك البساتين ﴿فواكه٤ كثيرة ومنها تأكلون﴾ أي ومن تلك الفواكه تأكلون وذكر النخيل والعنب دون غيرهما لوجودهما بين العرب فهم يعرفونهما أكثر من غيرهما فالنخيل بالمدينة والعنب بالطائف.
وقوله: ﴿وشجرة٥ تخرج من طور سيناء﴾ أي وأنبت لكم به شجرة الزيتون وهي ﴿تنبت بالدهن٦ وصبغ للآكلين﴾ فبزيتها يدهن ويؤتدم فتصبغ اللقمة به وتؤكل. وقوله: ﴿وإن لكم في الأنعام لعبرة﴾ فتأملوها في خلقها وحياتها ومنافعها تعبرون بها إلى الإيمان والتوحيد والطاعة. وقوله: ﴿نسقيكم٧ مما في بطونها﴾ من ألبان تخرج من بين فرث ودم، وقوله: ﴿ولكم فيها منافع كثيرة﴾ كصوفها ووبرها ولبنها وأكل لحومها. وقوله: ﴿وعليها وعلى الفلك تحملون﴾ وعلى بعضها كالإبل تحملون في البر وعلى السفن في البحر. أفلا تشكرون لله هذه النعم فتذكروه وتشكروه أليست هذه النعم موجبة لشكر المنعم بها فيُعبد ويوحد في عبادته؟.
١ وفي ذكر أدلة التوحيد إذ تقدم الاستدلال على التوحيد بخلق الإنسان وهذا استدلال بخلق العدالة العلوية.
٢ الطرائق: جمع طريقة، وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث فهل المراد بها هنا طرق الملائكة أو طرق سير الكواكب وهو سمتها وما تجري فيه أو هي السبع السموات، ومعنى طرائق: أن بعضها فوق بعض من قولهم طارق بين ثوبين جعل أحدهما فوق الثاني، ويكون المعنى طباقا وهذا هو الراجح. والله أعلم.
٣ ﴿أسكناه في الأرض﴾ منه ما هو ظاهر كماء الأودية، والأنهار، ومنه ما هو باطن، وهو المياه الجوفية، وإن الله تعالى على ذهابه من ظاهر الأرض كباطنها قدير، ويومها تهلك البشرية، وهذه الآية كقوله: ﴿قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين﴾.
٤ جمع فاكهة وهي: ما يؤكل تفكّهاً بآكله أي: تلذّذا بطعمه من غير قصد القوت، وما يؤكل لأجل الطعام يقال له: طعام ولا يقال له فاكهة.
٥ وشجرة: معطوفة على جنات أي: وأخرجنا لكم به شجرة.
٦ الباء في ﴿بالدهن﴾ للمصاحبة نحو: خرج زيد بسلامة أي: مصحوباً بسلامة.
٧ قرىء ﴿نسقيكم﴾ بضم النون من أسقاه، وبفتحها من سقاه كذا.
510
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان قدرة الله تعالى وعظمته في خلق السموات طرائق وعدم غفلته عن سائر خلقه فسار كل شيء لما خلق له فثبت الكون وانتظمت الحياة.
٢- بيان افضال الله تعالى في إنزال الماء بقدر وإسكانه في الأرض وعدم إذهابه مما يوجب الشكر لله تعالى على عباده.
٣- بيان منافع الزيت حيث١ هو للدهن والائتدام والاستصباح.
٤- فضل الله على العباد في خلق الأنعام والسفن للانتفاع بالأنعام في جوانب كثيرة منها، وفي السفن للركوب عليها وحمل السلع والبضائع من إقليم إلى إقليم.
٥- وجوب شكر الله تعالى على إنعامه وذلك بالإيمان به وعبادته وتوحيده فيها.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ لأنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٢٦)
شرح الكلمات:
اعبدوا الله: أي وحدوه بالعبادة إذ ليس لكم من إله غيره.
أفلا تتقون: أي أتعبدون معه غيره فلا تخافون غضبه وعقابه.
الملأ: أي أعيان البلاد وكبراء القوم.
١ في الآية إشارة إلى أن شجر الزيتون أول ما وجد على الأرض وُجد بطور سيناء ثم تناقله الناس من إقليم إلى آخر، فقوله ﴿تخرج من طور سيناء﴾ إعلام بأول منبت لها.
511
ما هذا إلاّ بشر مثلكم: أي ما نوح إلاّ بشر مثلكم فكيف تطيعونه بقبول ما يدعوكم إليه.
أن يتفضل عليكم: أي يسودكم ويصبح آمراً ناهياً بينكم.
ولو شاء الله لأنزل ملائكة: أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رسلا.
رجل به جنة: أي مصاب بمس من جنون.
فتربصوا به حتى حين: أي فلا تسمعوا له ولا تطيعوه وانتظروا به هلاكه أو شفاءه.
معنى الآيات:
هذا السياق بداية عدة قصص ذكرت على إثر قصة بدأ خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام فقال تعالى: ﴿ولقد أرسلنا نوحاً﴾ ١ أي قبلك يا رسولنا فكذبوه كما كذبك قومك وإليك قصته إذ قال يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في العبادة، ولا تعبدوا معه عيره ﴿مالكم من إله غيره٢﴾ أي إذ ليس لكم من إله غيره يستحق عبادتكم. وقوله: ﴿أفلا تتقون﴾ أي أتعبدون معه غيره أفلا تخافون غضبه عليكم ثم عقابه لكم؟.
فأجابه قومه المشركون بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: ﴿فقال الملأ الذين كفروا من قومه﴾ أي فرد عليه قوله أشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم من أغنياء وأعيان ممن كفروا من قومه ﴿ما هذا﴾ أي نوح ﴿إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم﴾ أي يسود٣ ويشرف فادعى أنه رسول الله إليكم. ﴿ولو شاء الله﴾ أي أن لا نعبد معه سواه ﴿لأنزل ملائكة﴾ تخبرنا بذلك ﴿ما سمعنا بهذا﴾ أي بالذي جاء به نوح ودعا إليه من ترك عبادة آلهتنا ﴿قي آبائنا الأولين﴾ أي لم يقل به أحد من أجدادنا السابقين ﴿إن هو إلاّ رجل به جنة﴾ أي ما نوح إلاّ رجل به مس من جنون، وإلاّ لما قال هذا الذي يقول من تسفيهنا وتسفيه آبائنا ﴿فتربصوا٤ به حتى حين﴾ أي انتظروا به أجله حتى يموت، ولا تتركوا دينكم لأجله وهنا وبعد قرون طويلة بلغت ألف سنة إلاّ خمسين شكا نوح إلى ربه وطلب النصر منه فقال ما أخبر تعالى به عنه ﴿قال ربّ انصرني٥ بما كذبون﴾ أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وانصرني عليهم.
١ فوائد سرد القصص كثيرة منها: تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر مما يلقى من قومه، ومنها: العظة والاعتبار بما جرى من أحداث، ومنها تقرير التوحيد وإثبات النبوة المحمدية واللام في: ﴿ولقد أرسلنا﴾ موطئة للقسم أي: وعزّتنا لقد أرسلنا نوحاً.
٢ قرأ الجمهور بجرّ ﴿إله﴾ ورفع ﴿غيره﴾ وقرأ بعضهم: بجر ﴿غيره﴾ لأنه نعت لإله المجرور بحرف الجر الزائد ورفع ﴿غيره﴾ هو على المحل إذ محل ﴿إله﴾ الرفع وإنما منع منه حرف الجر الزائد.
٣ قولهم: هذا ناتج عن نفسياتهم المتهالكة على حب الرئاسة والشر الموهوم.
٤ التربص: التوقف على عمل يراد عمله، والتريث فيه لما قد يغني عنه.
٥ ﴿قال ربّ انصرني﴾ هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها واقعة جواباً لسؤال مقدّر تقديره: لما كذب قومه ماذا فعل؟ والجواب: دعا عليهم: ﴿قال ربّ انصرني﴾.
512
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إثبات النبوة المحمدية بذكر أخبار الغيب التي لا تعلم إلاّ من طريق الوحي.
٢- تقرير التوحيد بذكر دعوة الرسل أقوامهم إليه.
٣- بيان سنة من سنن البشر وهي أن دعوة الحق أول من يردها الكبراء من أهل الكفر.
٤- بيان كيف يرد الظالمون دعوة الحق بإتهام الدعاة بما هم براء منه كالجنون وغيره من الاتهامات كالعمالة لفلان والتملق لفلان.
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
شرح الكلمات:
فأوحينا إليه أن أصنع: أي أعلمناه بطريق سريع خفي أي اصنع الفلك.
بأعيننا ووحيينا: أي بمرأى منا ومنظر، وبتعليمنا إياك صنعها.
وفار التنور: تنور الخباز فار منه الماء آية بداية الطوفان.
فاسلك فيها: أي أدخل في السفينة.
وأهلك: أولادك ونساءك.
ولا تخاطبني في الذين ظلموا: أي لا تكلمني في شأن الظالمين فإني حكمت بإغراقهم.
وقل رب: أي وادعني قائلاً يا رب أنزلني منزلاً مباركاً من الأرض.
إن في ذلك لآيات: أي لدلائل وعبر.
513
وإن كنا لمبتلين: أي لمختبرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه فقد جاء في الآيات السابقة أن نوحاً عليه السلام دعا ربه مستنصراً إياه لينصره على قومه الذين كذبوه قائلاً: ﴿رب انصرني١ بما كذبون﴾ فاستجاب الله تعالى دعاءه فأوحى إليه أي أعلمه بطريق الوحي الخاص ﴿أن اصنع الفلك﴾ أي السفينة ﴿بأعيننا ووحينا﴾ أي بمرأى منا ومنظر وبتعليمنا إياك وجعل له علامة على بداية هلاك القوم أن يفور التنور تنور طبخ الخبز بالماء وأمره إذا راى تلك العلامة أن يدخل في السفينة من كل زوج أي ذكر وأنثى اثنين من سائر الحيوانات التي أمكنه ذلك منه وأن يركب فيها أيضاً أهله من زوجة وولد إلاّ من قضى الله بهلاكه ونهاه أن يكلمه في شأن الظالمين لأنهم مغرقون قطعاً. هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٧) ﴿فأوحينا إليه أن أصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا﴾ أي بإهلاك الظالمين المشركين ﴿وفار التنور، فاسلك فيها﴾ أي في السفينة ﴿من كل زوجين٢ اثنين٣، وأهلك﴾ أي أزواجك وأولادك ﴿إلاّ من سبق عليه القول منهم﴾ أي بإهلاكهم كامرأته، ﴿ولا تخاطبني في الذين٤ ظلموا﴾ أي لا تسألني عنهم فإني مهلكهم.
وقوله تعالى: ﴿فإذا استويت٥ أنت ومن معك على الفلك﴾ أي إذا ركبت واستقررْت على متن السفينة أنت ومن معك من المؤمنين فاحمدنا فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين٦ وادعنا ضارعاً إلينا قائلاً ﴿رب أنزلني منزلاً مباركاً٧﴾ أي من الأرض، وَأَثْن علينا
١ الباء سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ في فعل الدعاء، وجملة ﴿أن اصنع﴾ جملة مفسرة لجملة: ﴿أوحينا﴾ لأنّ الوحي فيه معنى القول دون حروفه، فأن تفسيرية قطعاً.
٢ الزوج: اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شفعا في حالة ما، والمراد به هنا: أزواج الحيوانات لحفظ نوعها حتى لا تنقرض بالطوفان.
٣ قرأ حفص ﴿من كلٍّ﴾ بتنوين كل، وقرأ نافع وغيره بلا تنوين أي: بإضافة اثنين إلى كل، وتنوين كل تنوين عوض أي: من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة.
٤ أي: في شأنهم فإنهم قد قضى بإهلاكهم ولا رادٌ لقضائه تعالى.
٥ استويت: أي علوت فوقها واستقررت فيها، وحرف الجر ﴿على﴾ مؤذن بالاستقرار والتمكن منه.
٦ الظالمين: أي المشركين، لأن الظلم هو الشرك، والتنجية: الإنجاء من شرهم وأذاهم وشركهم وكفرهم.
٧ المنزل بضم الميم: وفتح الزاي: مصدر الذي هو الإنزال، وبفتح الميم وكسر الزاي هو مكان النزول أي: أنزلني موضعاً مباركاً، والمنزل بفتح الميم والزاي معاً: مصدر نزل نزولا ومنزلاً.
514
خيراً فقل ﴿وأنت خير المنزلين﴾ ١، وقوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآيات﴾ أي المذكور من قصة نوح لدلائل على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته ووجوب الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله: ﴿وإن كنا لمبتلين﴾ أي مختبرين عبادنا بالخير والشر ليرى الكافر من المؤمن، والمطيع من العاصي ويتم الجزاء حسب ذلك إظهاراً للعدالة الإلهية والرحمة الربانية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- إثبات الوحي الإلهي وتقرير النبوة المحمدية.
٢- تقرير حادثة الطوفان المعروفة لدى المؤرخين.
٣- بيان عاقبة الظلم وأنه هلاك الظالمين.
٤- سنية قول بسم الله والحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون عند ركوب الدابة أو السفينة ونحوها كالسيارة والطيارة.
٥- استحباب الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه من خير الدنيا.
٦- بيان سر ذكر قصة نوح وهو ما فيها من العظات والعبر.
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقَالَ الْمَلا مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ
١ في الآية تعليم للمؤمنين إذا ركبوا أو نزلوا أن يدعوا بهذا الدعاء بل حتى إذا دخلوا بيوتهم وسلموا فقد كان عليّ رضي الله عنه إذا دخل المسجد دعا بهذا الدعاء: ﴿ربّ أنزلني..﴾ الخ.
515
(٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨)
شرح الكلمات:
ثم أنشأنا من بعدهم قَرْناً آخرين: أي خلقنا من بعد قوم نوح الهالكين قوماً آخرين هم عاد قوم هود.
رسولاً منهم: هو هود عليه السلام.
أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره: أي قولوا لا إله إلاّ الله فاعبدوا الله وحده.
وأترفناهم: أي أنعمنا عليهم بالمال وسعة العيش.
أنكم مخرجون: أي أحياء من قبوركم بعد موتكم.
هيهات هيهات: أي بَعُدَ بُعْداً كبيراً وقوعُ ما يعدكم.
إن هي إلاّ حياتنا الدنيا: أي ما هي إلاّ حياتنا الدنيا وليس وراءها حياة أخرى.
إن هو إلاّ رجل: أي ما هو إلاّ رجلٌ افترى على الله كذباً أي كذب على الله تعالى.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة هود عليه السلام بعد قصة نوح عليه السلام أيضاً فقال تعالى: ﴿ثم أنشأنا من بعدهم﴾ أي خلقنا وأوجدنا من بعد قوم نوح الهالكين قوماً آخرين هم١ عاد قوم هود ﴿فأرسلنا فيهم٢ رسولاً منهم﴾ هو هود عليه السلام بأن قال لهم: ﴿أن اعبدوا الله ما
١ وقيل هم قوم صالح بقرينة قوله تعالى: {فأخذتهم الصيحة﴾ وهي التي أهلك الله تعالى بها ثمود قوم صالح إذ قال تعالى: ﴿فأخذتهم الصيحة مصبحين﴾ من سورة الحجر. ورشح هذا لأنّ فيها العبرة أكثر لوجود آثارهم في ديارهم شمال الحجاز إلاّ أن ذكر عاد بعد قوم نوح هو الوارد في كل قصص القرآن وبترجيح الزمان إذ عاد أوّل أمّة أهلكت بعد قوم نوح. والله أعلم.
٢ قوله: ﴿فيهم﴾ بدل إليهم: لأن هوداً أو صالحاً كان المرسل من أهل البلاد وفرداً من أفرادهم فلا يحسن أن يقال: إلى إلاّ إذا كان خارجاً عنهم ليس من أفرادهم، وذلك كما في أهل سدوم، ونينوي والقبط فجاء التعبير بإلى نحو: ﴿إلى فرعون وملئه﴾.
516
لكم من إله غيره} أي اعبدوا الله بطاعته وإفراده بالعبادة إذ لا يوجد لكم إله غير الله تصح عبادته إذ الخالق لكم الرازق الله وحده فغيره لا يستحق العبادة بحال من الأحوال وقوله: ﴿أفلا تتقون﴾ يحثهم على الخوف من الله ويأمرهم به قبل أن تنزل بهم عقوبته.
وقوله تعالى: ﴿وقال الملأ من قومه الذين كفروا﴾ أي وقال أعيان البلاد وأشرافها من قوم هود ممن كفروا بالله ورسوله وكذبوا بالبعث والجزاء في الدار الآخرة وقد أترفهم١ الله تعالى: بالمال وسعة الرزق فأسرفوا في الملاذ والشهوات: قالوا: وماذا قالوا؟: قالوا ما أخبرنا تعالى به عنهم بقوله: ﴿ما هذا إلاّ بشر مثلكم﴾ أي ما هذا الرسول إلاّ بشر مثلكم ﴿يأكل مما تأكلون منه﴾ من أنواع الطعام ﴿ويشرب مما تشربون﴾ من ألوان الشراب٢ أي فلا فرق بينكم وبينه فكيف ترضون بسيادته عليكم يأمركم وينهاكم. وقالو: ﴿ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون﴾ أي خاسرون حياتكم ومكانتكم، وقالوا ﴿أيعدكم٣ أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً﴾ أي فنيتم وصرتم تراباً ﴿أنكم مُخْرجِون﴾ أي أحياء من قبوركم. وقالوا: ﴿هيهات٤ هيهات﴾ أي بَعُد بُعْداً كبيراً ما يعدكم به هود إنهاما ﴿هي إلاّ حياتنا الدنيا﴾ أي ﴿نموت ونحيا﴾ جيل٥ يموت وجيل يحيا ﴿وما نحن بمبعوثين﴾ وقالوا: ﴿إن هو إلاّ رجل أفترى٦ على الله كذباً﴾ أي اختلق الكذب على الله وقال عنه أنه يبعثكم ويحاسبكم ويجزيكم بكسبكم. ﴿وقالوا ما نحن بمبعوثين﴾ هذه مقالتهم ذكرها تعالى عنهم وهي مصرحة بكفرهم وتكذيبهم وإلحادهم وما سيقوله هود عليه السلام سيأتي في الآيات بعد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل، وما تبتدىء به دعوتهم وهولا إله إلاّ الله.
١ أي: وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا، وصاروا يؤتون بالترفة وهي كالتحفة، يقال: أترفه المال: إذا أبطره وأفسده.
٢ في قولهم: يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون. هذه الجملة وإن كانت تعليلا لبشرية الرسول فإنها دالة على أنهم حقاً مترفون منعّمون في ملاذ الأكل والشرب كأنّه لا هم لهم إلاّ ذاك، كما قيل: من أحب شيئاً أكثر من ذكره كما هي مجالس المترفين اليوم جل لأحاديثهم حول الأكل والشرب ونحوهما.
٣ الاستفهام للتعجيب، والكلام انتقال من تكذيبهم بكونه رسولاً إليهم إلى التكذيب بما أرسل به من الدين الحق.
٤ الجمهور من النّحاة واللغويين: أن هيهات اسم فعل ماضٍ بمعنى بَعُدَ وهي مبنية على الفتح والكسر أيضاً ولا تُقال إلاّ مكررة، قال الشاعر:
فهيهات هيهات العقيق وأهله
هيهات خلّ بالعقيق نواصله
٥ إن قيل: كيف قالوا: نموت ونحيا وهم منكرون للبعث؟ قيل في الجواب: إما أن يكون مرادهم نكون نطفاً ميتة ثم نحيا، وإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي: نحيا فيها ونموت نحو ﴿واسجدي واركعي﴾ وإما بموت الآباء وحياة الأبناء.
٦ الافتراء: الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبر، وهو الاختلاق.
517
٢- أهل الكفر لا يصدر عنهم إلا ما هو شر وباطل لفساد قلوبهم.
٣- الترب سِبب كثيراً من المفاسد والشرور، ولهذا يجب أن يُحْذَرْ بالاقتصاد.
٤- تقرير عقيدة البعث والجزاء وإثباتها وهي ما ينكره الملاحدة هروباً من الاستقامة.
٥- تُكأة عامة المشركين وهي كيف يكون الرسول رجلاً من البشر، دفعاً للحق وعدم قبوله.
قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٣٩) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
شرح الكلمات:
عما قليل: أي عن قليل من الزمن.
ليصبحن نادمين: ليصيرن نادمين على كفرهم وتكذيبهم.
فأخذتهم الصيحة: أي صيحة العذاب والهلاك.
فجعلناهم غثاء: كغثاء السيل وهو ما يجمعه الوادي من العيدان والنبات اليابس.
فبعداً: أي هلاكاً لهم. ا
ثم أنشأنا: أي أوجدنا من بعدهم أهل قرون آخرين كقوم صالح وإبراهيم ولوط وشعيب.
تترا: أي يتبع بعضها بعضاً الواحدة عقب الأخرى.
وجعلناهم أحاديث: أي أهلكناهم وتركناهم قصصاً تقص وأخباراً تتناقل.
518
معنى الآيات:
هذا ما قال هود١ عليه السلام بعد الذي ذكر تعالى من أقوال قومه الكافرين ﴿قال رب﴾ أي يا رب ﴿انصرني بما كذبون٢﴾ أي بسبب تكذبيهم لي وردهم دعوتي وإصرارهم على الكفر بك وعبادة غيرك فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله: ﴿عما قليل ليصبحن نادمين﴾ أي بعد قليل من الوقت وعزتنا وجلالنا ليصبحن نادمين أي ليصيرن نادمين على كفرهم بي وإشراكهم في عبادتي وتكذيبهم إياك ولم يمض إلاّ قليل زمن حتى أخذتهم الصيحة صيحة الهلاك ضمن ريح صرصر في أيام نحسات فإذا هم غثاء كغثاء السيل لا حياة فيهم ولا فائدة ترجى منهم ﴿فبعداً للقوم الظالمين﴾ أي هلاكاً للظالمين بالشرك والتكذيب والمعاصي وقوله تعالى: ﴿ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين٣﴾ أي ثم أوجدنا بعد إهلاكنا عاداً أهل قرون آخرين كقوم صالح وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب. وقوله تعالى: ﴿ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون﴾ أي إن كل أمة حكمنا بهلاكها لا يمكنها أن تسبق أجلها أي وقتها المحدود لها فتتقدمه كما لا يمكنها أن تتأخر عنه بحال.
وقوله تعالى: ﴿ثم أرسلنا رسلنا تترا٤﴾ أي يتبع بعضها بعضاً ﴿كلما جاء أمة رسولها كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضاً﴾ أي في الهلاك فكلما كذبت أمة رسولها ورفضت التوبة إلى الله والإنابة إليه أهلكها، وقوله تعالى ﴿وجعلناهم أحاديث٥﴾ أي لمن بعدهم يذكرون أحوالهم ويروون أخبارهم ﴿فبعداً﴾ أي هلاكاً منا ﴿لقوم لا يؤمنون﴾ في هذا تهديد قوي لقريش المصرة على الشرك والتكذيب والعناد. وقد مضت فيهم سنة الله فأهلك المجرمين منها.
١ دَرَج الجمهور من المفسرين على أن القصص المذكور هنا كما هو في سائر السور هو قصص هود عليه السلام، وذهب ابن جرير وبعضٌ آخر إلى أنه قصة صالح لقرينة ﴿فأخذتهم الصيحة﴾ وقال الجمهور: يمكن أن تكون الصيحة ضمن عواصف الريح العقيم التي أرسلها تعالى على عاد قوم هود فأخذتهم فهلكوا بها والرياح عصفت بهم فمزقت وشتتت شملهم وتركتهم كأعجاز نخل خاوية ثم تفتتوا وصاروا كالغثاء وهذا الجمع أحسن.
٢ في الكلام حذف اقتضاه الإيجاز غير المخل وهو: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم ثم أنشأنا.
٣ من في قوله ﴿من أمة﴾ صلة زيدت لتقوية النفي وتوكيده، والأصل ما تسبق أمّة.
٤ ﴿تترى﴾ على وزن فعلى كدعوى وسلوى، والألف فيه للتأنيث، وأصله وترى من الوتر، الذي هو الفرد أبدلت الواو تاء كما أبدلت في تراث من الورث، وتجاه من الوجه، ولا يقال: تترى إلاّ إذا كان هناك تعاقب وانقطاع، وقرىء منوناً تترىً، وهو منصوب على الحال في القراءتين معاً.
٥ جمع أحدوثة وهو ما يتحدّث به كأعاجيب جمع أعجوبة، وعي ما يتعجب منه، ومثل هذا التعبير: أحاديث: لا يقال في الخير وإنما يقال في الشر لا غير لقوله تعالى: ﴿فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كلّ ممزق﴾ رقد يقال في الخير إذا كان مقيّداً بذكره نحو قول ابن دريد:
إنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى
519
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- استجابة الله دعوة المظلومين من عباده لاسيما إن كانوا عباداً صالحين.
٢- الآجال للأفراد أو الأمم لا تتقدم ولا تتأخر سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
٣- تقرير حقيقة تاريخية علمية وهي أن الأمم السابقة كلها هلكت بتكذيبها وكفرها ولم ينج منها عند نزول العذاب بها إلاّ المؤمنون مع رسولهم.
٤- كرامة هذه الأمة المحمدية أن الله تعالى لا يهلكها هلاكاً عاماً بل تبقى بقاء الحياة تقوم بها الحجة لله تعالى على الأمم والشعوب المعاصرة لها طيلة الحياة.
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٤٥) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
شرح الكلمات:
بآياتنا وسلطان مبين: الآيات هي التسع الآيات وهي الحجة والسلطان المبين.
وكانوا قوماً عالين: أي علوا أهل تلك البلاد قهراً واستبداداً وتحكماً.
وقومهما لنا عابدون: أي مطيعون ذليلون نستخدمهم فيما نشاء وكيف نشاء.
ولقد آتينا موسى الكتاب: أي التوراة.
وجعلنا ابن مريم: أي عيسى حجة وبرهاناً على وجود الله وقدرته وعلمه ووجوب توحيده.
إلى ربوة ذات قرار ومعين: إلى مكان مرتفع ذي استقرار وفيه ماء جار عذب وفواكه وخضر.
520
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر نبذ من قصص الأولين للعظة والاعتبار، ولإقامة الحجة على مشركي قريش فقال تعالى: ﴿ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين﴾ أي بعد تلك الأمم الخالية أرسلنا موسى بن عمران وأخاه هارون بسلطان مبين أي بحجج وبراهين بينة دالة على صدق موسى وما يدعو إليه من عبادة الله وتوحيده فيها والخروج ببني إسرائيل إلى الأرض المباركة أرض الشام إلى فرعون ملك مصر يومئذ وملئه من أشراف قومه وعليتهم فاستكبروا عن قبول دعوة الحق وكانوا عالين على أهل تلك البلاد فاهرين لها مستبدين بها وقالوا رداً على دعوة موسى وهارون ما أخبر تعالى به في قوله: ﴿فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون﴾ أي خاضعون مطيعون. هكذا أعلنوا متعجبين من دعوة موسى وهارون إلى الإيمان برسالتهما فقالوا: أنؤمن لبشر من مثلنا أي كيف يكون هذا أنتبع رجلين مثلنا فنصبح نأتمر بأمرهما وننتهي بنهيهما وكيف يتم ذلك وقومهما يعنون بني إسرائيل لنا عابدون. أي خاضعون لنا ومطيعون لأمرنا ونهينا. قال تعالى: ﴿فكذبوهما﴾، فيما دعواهما إليه من الإيمان والتوحيد وإرسال بني إسرائيل معهما إلى أرض الميعاد فترتب على تكذيبهم لرسولي الله موسى وهارون هلاكهم فكانوا من المهلكين حيث أغرقهم الله أجمعين، وقوله تعالى: ﴿ولقد آتينا موسى١ الكتاب لعلهم يهتدون﴾، ويخبر تعالى أنه بعد إهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل آتى موسى التوراة من أجل هداية بني إسرائيل عليها لأنها تحمل النور والهدى. هذه أيادي الله على خلقه وآياته فيهم فسبحانه من إله عزيز رحيم.
وقوله تعالى: ﴿وجعلنا ابن مريم٢ وأمه﴾ أي جعل عيسى ووالدته مريم ﴿آية﴾ حيث ونجاة بني إسرائيل آتى موسى التوراة من أجل هداية بني إسرائيل عليها لأنها تحمل النور والهدى. هذه أيادي الله علىخلقه وآياته فيهم فسبحانه من إله عزيز رحيم. وقوله تعالى: ﴿وجعلنا ابن مريم وأمه﴾ أي جعل عيسى ووالدته مريم ﴿آية﴾ حيث خلق عيسى من غير أب فهي آية دالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته وهذه موجبة الإيمان به عبادته وتوحيده والتوكل عليه والإنابة والتوبة إليه. قوله تعالى: ﴿وآويناهما إلى ربوة ذات قرار وَمعين﴾ أي أنزلنا مريم وولدها بعد اضطهاد اليهود لهما ربوة عالية صالحة للإستقرار عليها بها فاكهة وماء عذب جار إكرام الله تعالى له ولوالدته فسبحان المنعم على عباده المكرم لأوليائه.
١ خصّ موسى بإيتائه الكتاب دون هارون لأنّ هارون يوم إعطاء موسى الكتاب ﴿التوراة﴾ كان مع قومه، وموسى كان وحده في الطور للمناجاة.
٢ أدمج أمّه في الذكر لتسفيه اليهود في قولهم في مريم بهتاناً عظيماً.
٣ الربوة: المكان المرتفع من الأرض، وهي مثلثة الراء تضم وتفتح وتكسر، وهي بفلسطين أو مدينة الرملة وهي من أرض فلسطين.
٤ المعين: هو الماء الجاري على ظهر الأرض ظاهر للعيون.
521
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير نبوة كل من موسى وأخيه هارون عليهما السلام.
٢- التنديد بالاستكبار، وأنه علة مانعة من قبول الحق.
٣- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته في إرسال الرسل بالآيات وفي إهلاك المكذبين.
٤- آية ولادة عيسى من غير أب مقررة قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وبعث الناس من قبورهم للحساب والجزاء.
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
شرح الكلمات:
كلوا من الطيبات: أي من الحلال.
واعلموا صالحاً: أي بأداء الفرائض وكثير من النوافل.
وإن هذا أمتكم: أي ملتكم الإسلامية.
فاتقون: أي بامتثال أمري واجتناب نهيي.
فتقطعوا أمرهم: أي اختلفوا في دينهم فأصبحوا طوائف هذه يهودية وتلك نصرانية.
في غمرتهم: أي في ضلالتهم.
نسارع لهم: أي نعجل.
بل لا يشعرون: أن ذلك استدراج منا لهم.
معنى الآيات:
بعد أن أكرم الله تعالى عيسى وَوالدته بما أكرمهما به من إيوائهما إلى ربوة ذات قرار ومعين
522
خاطب١ عيسى عبده ورسوله قائلاً: ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات﴾ أي الحلال فكان عيسى عليه السلام يأكل من غزل أمه إذ كانت تغزل الصوف بأجرة فكانا يأكلان من ذلك أكلا من الطيب كما أمرهما الله تعالى وقوله: ﴿واعملوا صالحاً﴾ كلوا من الحلال واعملوا صالحاً بأداء الفرائض والإكثار من النوافل، وقوله: ﴿إني بما تعملون عليم﴾ فيه وعد بأن الله تعالى سيثيبهم على ما يعلمون من الصالحات. وقوله: ﴿وأن٢ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾ أعلمهم أن ملتهم وهي الدين الإسلامي دين واحد فلا ينبغي الاختلاف فيه وأعلمهم أيضاً أنه ربهم أي مالك أمرهم والحاكم عليهم فليبتغوه بفعل ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، لينجوا من عذابه ويظفروا برحمته ودخول جنته.
وقوله تعالى: ﴿فتقطعوا أمرهم بينهم٣﴾ أي دينهم ﴿زبراً كل حزب بما لديهم فرحون﴾ أي فرقوا دينهم فرقاً فذهبت كل فرقة بقطعة منه وقسموا الكتاب إلى كتب فهذه يهودية وهذه نصرانية واليهودية فرق والنصرانية فرق والإنجيل أصبح أناجيل متعددة وصارت كل جماعة فرحة بما عندها مسرورة به لا ترى الحق إلاّ فيه.. ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ وهنا أمر الله رسوله أن يتركهم في غمرة ضلالتهم إلى حين أن ينزل بهم ما قضى به الرب تعالى على أهل الاختلاف في دينه ﴿فذرهم في غمرتهم حتى حين﴾ إذ قال له في سورة الأنعام ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، لست منهم في شيء﴾ وفيه من التهديد ما فيه. وهذا الذي نعاه تعالى على تلك الأمم قد وقعت فيه أمة الإسلام فاختلفوا في دينهم مذاهب وطرقاً عديدة، وياللأسف وقد حلت بهم المحن ونزل بهم البلاء نتيجة ذلك الخلاف. وقوله: ﴿أيحسبون أنما نمدهم٤ به من مال
١ اختلف في هذا الخطاب هل هو لعيسى عليه السلام نظراً لسياق الحديث أو هو لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو هو عام لكل الرسل، أي: ما من رسول إلاّ وأمره بما في هذا السياق، وأمّة كل رسول تابعة له، وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في مثل هذا فلا داعي إلى الترجيح وعدمه ويشهد للعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "يا أيها الناس إن الله طيّب لا يقل إلاّ طيبا، وإن الله أمر المرسلين بما أمر به المؤمنين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم﴾ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك" والشاهد في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بما أمر به المرسلين".
٢ قرىء: ﴿وانّ﴾ بكسر إن على القطع أي: الابتداء وعلى تقدير قول أو قلنا لهم: ﴿إن هذه﴾.. الخ وقرىء بفتحها، وهي قراءة الأكثرين على تقدير واعلموا ﴿أن هذه أمتكم﴾.. الخ.
٣ كأن هذه الآية تنظر إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا إن أهل الكتاب قبلكم افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة" الحديث أخرجه أبو داود ورواه الترمذي وزاد: "قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي" وقوله: ﴿ملة﴾ فيه دليل على أن الاختلاف في الفروع غير مقصود وإنما المقصود هو ما كان في أصول الدين وقواعده.
٤ ﴿إنما﴾ : ما: موصولة بمعنى الذي أي: أيحبسبون يا رسولنا إن الذي نعطيهم في الدنيا من مال وولد هو ثواب لهم على شركهم وكفرهم إنما هو استدراج وإملاء ليس إسراعاً في الخيرات واختلف في خبر إنّ فقيل: إنه محذوف وتقدير الكلام: إنما نسارع لهم به في الخيرات، والاستفهام في أيحسبون: إنكاري.
523
وبنين} مع اختلافهم وانحرافهم مسارعة لهم منا في الخيرات١ لا بل ذلك استدراج لهم ليهلكوا ولكنهم لا يشعرون بذلك. لشدة غفلتهم واستيلاء غمرة الضلالة عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الأكل من الحلال، ووجوب الشكر بالطاعة لله ورسوله.
٢- الإسلام دين البشرية جمعاء ولا يحل الاختلاف فيه بل يجب التمسك به وترك ما سواه.
٣- حرمة الاختلاف في الدين وأنه سبب الكوارث والفتن والمحن.
٤- إذا انحرفت الأمة عن دين الله، ثم رزقت المال وسعة العيش كان ذلك استدراجاً لها، ولم يكن إكراماً من الله لها دالاً على رضى ربها عنها بل ما هو إلاّ فتنة ليس غير.
إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)
شرح الكلمات:
مشفقون: أي خائفون.
لا يشركون: أي بعبادته أحداً.
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة: أي خائفون أن لا يقبل منهم ذلك.
أنهم إلى ربهم راجعون: أي لأنهم إلى ربهم راجعون فيحاسبهم ويسألهم ويجزيهم.
وهم لها سابقون: أي بإذن الله وفي علمه.
ولا نكلف نفساً إلاَّ وسعها: إلا طاقتها وما تقدر عليه.
ولدينا كتاب ينطق بالحق: وهو ما كتبه الكرام الكاتبون فإنه ناطق بالحق.
وهم لا يظلمون: أي ينقض حسنة من حسناتهم ولا بزيادة سيئة على سيآتهم.
١ الخيرات: جمع خير وهو من الجموع النادرة مثل: سرادقات جمع سرداق.
524
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال الذين فرقوا دينهم فذهبت كل فرقة منهم بكتاب ومذهب ولقب ونعى عليهم ذلك التفرق وأمر رسوله أن يتركهم في غمرة خلافاتهم ويدعهم إلى حين يلقون جزاءهم عاجلاً أو آجلاً: أثنى تبارك وتعالى على عباده المؤمنين من أهل الخشية، فقال وقوله الحق: ﴿إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون﴾ أي من عذابه خائفون من الوقوف بين يديه فهذه صفة لهم وآخرى ﴿والذين هم بآيات ربهم يؤمنون﴾ أي بحجج الله تعالى التي تضمنتها آياته يؤمنون أي يوقنون وثالثة: ﴿والذين هم بريهم لا يشركون﴾ أي في ذاته ولا صفاته ولا عباداته فيعبدونه بما شرع لهم موحدينه في ذلك ورابعة: ﴿والذين١ يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم٢ راجعون﴾. أي يؤتون٣ الزكاة وسائر الحقوق والواجبات وقلوبهم خائفة من ربهم أن يكونوا قد قصروا فيما أوجب عليهم وخائفة أن لا يقبل منهم عملهم، وذلك ناجم لهم من قوة إيمانهم برجوعهم إلى ربهم ووقوفهم بين يديه ومساءلته لهم: لم قدمت؟ لم أخرت؟ وقوله تعالى: ﴿أولئك يسارعون٤ في الخيرات وهم لها سابقون﴾ في هذا بشرى لهم إذ أخبر تعالى أنهم يسارعون في الخيرات، وأنهم سبق ذلك لهم في الأزل فهنيئاً لهم. وقوله تعالى: ﴿ولا نكلف نفساً إلاّ وسعها﴾ فيه قبول عذر من بذل جهده في المسارعة في الخيرات ولم يلحق بغيره أعذره ربه فإنه لا خوف عليه ما دام قد بذل جهده إذ هو تعالى ﴿لا يكلف نفساً إلاّ وسعها﴾ أي طاقتها وما يتسع له جهده.
وقوله: ﴿ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون﴾ فيه وعدّ لأولئك المسارعين بالخيرات بأنّ أعمالهم مكتوبة لهم في كتاب ينطق بالحق لا يخفى حسنة من حسناتهم ويستوفونها كاملة وفيه وعيد لأهل الشرك والمعاصي بأن أعمالهم محصاة عليهم قد ضمها كتاب صادق وسوف يجزون بها وهم لا يظلمون فلا تكتب عليهم سيئة لم يعملوها قط ولا يجزون إلاّ بما كانوا يكسبون.
١ روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية: ﴿والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة﴾ أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات".
٢ أي: لأنهم: أو من أجل أنهم إلى ربهم راجعون. وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبرة بما يختم به للعبد، وفي البخاري: "وإنما الأعمال بالخواتيم".
٣ قرىء: ﴿يأتون﴾ من الإتيان، ولا يختلف المعنى إذ هم يأتون الأعمال الصالحة ويفعلونها، وقلوبهم خائفة. كما يعطون ما يعطون من الزكاة والنفقات وقلوبهم وجلة أو يعطون الملائكة أعمالهم التي يكتبونها وقلوبهم وجلة.
٤ ﴿يسارعون في الخيرات﴾ أي: في الطاعات كي ينالوا بها أعلى الدرجات والغرفات ولم يقل يسارعون إلى الخيرات إذ هم في الخيرات لم يخرجوا من دائرتها أبداً فهم فيها يسارعون. في الآية إشارة إلى أن الصلاة في أول وقتها أفضل، وهكذا السبق في كل خير قبل الغير خير.
525
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضيلة الخشية والإيمان والتوحيد والتواضع والمراقبة لله تعالى.
٢- بشرى الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى.
٣- تقرير قاعدة رفع الحرج في الدين.
٤- تقرير كتابة أعمال العباد وإحصاء أعمالهم ومجازاتهم العادلة.
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ (٦٥) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠)
شرح الكلمات:
في غمرة من هذا: أي جهالة من القرآن وعمى.
ولهم أعمال من دون ذلك: أي من دون أعمال المؤمنين التي هي الخشية والإيمان بالآيات والتوحيد والمراقبة.
هم لها عاملون: أي سيعملونها لتكون سبب نهايتهم حيث يأخذهم الله تعالى بها.
إ ذا هم يجأرون: أي يصرخون بأعلى أصواتهم ضاجيّن مستغيثين ممَّا حلَّ بهم من العذاب.
تنكصون: أي ترجعون على أعقابكم كراهة سماع القرآن.
526
مستكبرين به: أي بالحرم أي كانوا يقولون: لا يظهر علينا فيه أحد لأنّا أهل الحرم.
سامراً تهجرون: أي تسمرون بالحرم ليلا هاجرين الحق وسماعه على قراءة فتح التاء وعلى قراءة ضمها تهجرون أي تقولوا الهجر من القول كالفحش والقبح.
رسولهم: أي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
به جنّة: أي مجنون.
معنى الآيات:
﴿بل قلوبهم في غمرة من هذا﴾ أي ليس الأمر كما يحب فهؤلاء المشركون أنّا نمدهم بالمال مسارعة منا لهم في الخيرات لرضانا عنهم لا بل إن قلوبهم في غمرة وعمى من القرآن، ﴿ولهم أعمال من دون ذلك١﴾ أي دون عمل المؤمنين. ﴿هم لها عاملون﴾ حتى تنتهي بمترفيهم إلى هلاكهم ودمارهم وقوله تعالى: ﴿حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون﴾ أي استمرت الأعمال الشركية الإجرامية حتى أخذ الله تعالى مترفيهم في بدر بعذاب القتل والأسر ﴿إذا هم يجأرون٢﴾ يضجون بالصراخ مستغيثين، والله تعالى يقول لهم: ﴿لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون﴾ وذكر تعالى لهم ما كانوا عليه من التكذيب والاستكبار وقول الهجر موبخاً إياهم ﴿قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون٣﴾ هروباً من سماعها حال كونكم ﴿مستكبرين به﴾ أي بالحرم زاعمين أنكم أهل الحرم، وأن أحداً لا يظهر عليكم فيه لأنكم أهله وقوله: ﴿سامراً٤ تهجرون﴾ أي تسمرون بالليل تهجرون بذلك سماع الحق ودعوة الحق التي تُتلى بها عليكم آيات الله. وقد قرىء
١ عن ابن عباس رضي الله عنهما دون ذلك أي: دون الشرك من كبائر الذنوب هم عاملوها لا محالة إذ كتبت عليهم ليدخلوا بها النار، وما كان دون عمل المؤمنين قطعاً هو الشرك والمعاصي، فلا منافاة بين ما في التفسير وما روي عن ابن عباس.
٢ الجؤار: كالخوار يقال: خار الثور يخأر: إذا صاح، وجأر الرجل بالدعاء: تضرع به، قال قتادة: يصرخون بالتوبة فلا تقبل منهم، وجأروا كذلك يوم أصابهم القحط والجدب فجاعوا حتى كادوا يهلكون بدعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣ ﴿تنكصون﴾ : ترجعون وراءكم، وأصله الرجوع إلى الوراء القهقري. قال الشاعر:
زعموا أنهم على سبل النجا
ةِ وإنما نكصوا على الأعقاب
٤ سامراً معناه سمّاراً أي: جماعة تتحدّثون بالليل، والسمر مأخوذ من السّمر الذي هو ظل القمر، ومنه سمرة اللون وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سمرة القمر فسمي التحدّث به، وقرى ﴿سُمّاراً﴾ جمع سامر. يقال: جاء من السامر يريد: من القوم الذين يسمرون، وفي الحديث: كراهة النوم قبل العشاء، والحديث أي السمر بعدها، وروي أن عمر رضي الله عنه كان يضرب الناس على الحديث بعد العشاء ويقول: أسمراً أول الليل ونوماً آخره؟!!
527
تُهجرون بضم التاء وكسر الجيم أي تقولون أثناء سمركم في الليل الهجر من القول كالكفر وقول الفحش وما لا خير فيه من الكلام، وكانوا كذلك.
وقوله تعالى: ﴿أفلم يدبروا١ القول﴾ الذي يسمعونه من نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعرفوا أنه حق وخير وأنه فيه صلاحهم ﴿أم جاءهم٢﴾ من الدين والشرع ﴿ما لم يأت أباءهم الأولين﴾ فقد جاءت رسل ونزلت كتب وهم يعرفون ذلك. أم لم يعرفوا رسولهم محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم له منكرون إنهم يعرفونه بصدقه وطهارته وكماله منذ نشأته وصباه إلى يوم أن دعاهم إلى الله ﴿أم يقولون به جنَّة﴾ أي جنون وأين الجنون من رجل ينطق بالحكمة ويعمل بها ويدعو إليها ﴿بل جاءهم بالحق وأكثرهم٣ للحق كارهون﴾، وهذا هو سرُّ إعراضهم واستكبارهم إنه كراهيتهم للحق لطول ما ألفوا الباطل وعاشوا عليه، وهذه سنة البشر في كل زمان ومكان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- غمرة الجهل والتعصب وعمى التقليد هي سبب إعراض الناس عن الحق ومعارضتهم له.
٢- لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب أو نزوله.
٣- بيان الذنوب التي أخذ بها مترفو مكة ببدر وهي هروبهم من سماع القرآن ونكوصهم عند سماعه على أعقابهم حتى لا يسمعوه واستكبارهم بالحرم واعتزارهم به جهلاً وضلالاً واجتماعهم في الليالي الطوال يسمرون على اللهو وقول الباطل هاجرين سماع القرآن وما يدعو إليه من هدى وخير.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٧٣)
١ وقيل: القول: القرآن: وسمي قولاً لأنهم خوطبوا به، والاستفهام إنكاري يحمل التقريع والتأنيب.
٢ ﴿أم جاءهم﴾ الخ.. أي: فأنكروه وأعرضوا عنه. وقيل: أم بمعنى بل الانتقالية بل جاءهم مالا عهد لآبائهم به فلذا أنكروه وتركوا التديُّن به، والفاء في: أفلم يدّبروا: للتفريع إذ هذا الكلام متفرع عما سبقه، والتدبر معناه إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له، وأصله النظر في دبر الأمر أي: فيما لا يظهر منه للمتأمل بادئ ذي بدء.
٣ في قوله ﴿بل أكثرهم﴾ احتراس عرف في القرآن حتى لا ينقض ببعض الأفراد وهو من اعجاز القرآن وبالغ كماله في البلاغة والبيان.
528
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
شرح الكلمات:
لو اتبع الحق أهواءهم: أي ما يهوونه ويشتهونه.
أتيناهم بذكرهم: أي بالقرآن العظيم الذي بذكرهم فيه يذكرون ويُذكرون.
أم تسألهم خرجاً: أي مالاً مقابل إبلاغك لهم دعوة ربهم.
فخراج ربك خير: أي ما يرزقكه الله خير وهو خير الرازقين.
إلى صراط مستقيم: أي إلى الإسلام.
عن الصراط لناكبون: أي عن الإسلام أي متنكبونه جاعلوه على منكب أي جانب عادلون عنه.
للجوَّا في طغيانهم يعمهون: لتمادوا في طغيانهم مصرين عليه.
فما استكانوا: أي ما ذلوا ولا خضعوا.
إذا هم فيه مبلسون: أي آيسون قنطون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقوله تعالى: ﴿ولو اتبع١ الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن﴾ هذا كلام مستأنف لبيان حقائق أخرى منها أن هؤلاء المشركين لو اتبع الحقُّ النازل من عند الله والذي يمثله القرآن أهواءهم أي ما يهوونه ويشتهونه فكان يوافقهم عليه لأدى ذلك إلى
١ اختلف في المراد بالحق فقيل: هو الله تعالى قاله مجاهد وغيره، وقيل معناه ولو اتبع صاحب الحق، وقيل: هو مجاز أي: لو وافق الحق أهواءهم فجعل موافقته إتباعاً، وما في التفسير أظهر، وقد استظهره ابن جرير الطبري.
529
فساد الكون كله علويه١ وسفليه، وذلك لأنهم أهل باطل لا يرون إلاّ الباطل ويصبح سيرهم معاكساً للحق فيؤدي حتما إلى خراب الكون وقوله تعالى: ﴿بل أتيناهم بذكرهم﴾ أي جئناهم بذكرهم الذي هو القرآن الكريم إذ به يذكرون وبه يُذكرون لأنه سبب شرفهم، وقوله: ﴿فهم عن ذكرهم معرضون﴾، فهم لسوء حالهم وفساد قلوبهم معرضون عما به يذكرون ويذكرون٢، وقوله تعالى: ﴿أم تسألهم خرْجاً﴾ أي٣ أجراً ومالاً ﴿فخراج ربّك خير﴾ أي ثواب ربّك الذي يثيبك به خير وهو تعالى خير الرازقين وحاشا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسألهم عن التبليغ أجراً وقوله تعالى: ﴿وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم﴾ أي إلى الإسلام طريق السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: ﴿وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط٤ لناكبون﴾ أي علة تنكبّهم أي ابتعادهم عن الإسلام هو عدم إيمانهم بالآخرة، وهو كذلك فالقلب الذي لا يعمره الإيمان بلقاء الله والجزاء يوم القيامة صاحبه ضد كل خير ومعروف ولا يؤمل منه ذلك لعلة كفره بالآخرة.
وقوله تعالى: ﴿ولو٥ رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون﴾ يخبر تعالى أنه لو رحم أولئك المشركين المكذبين بالآخرة، وكشف ما بهم من ضر أصابهم من قحط وجدب وجوع ومرض لا يشكرون الله، بل يتمادون في عتوهم وضلالهم وظلمهم يعمهون حيارى يترددون، وقوله تعالى: ﴿ولقد أخذناهم٦ بالعذاب﴾ وهي سنوات الجدب والقحط بدعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أصابهم من قتل وجراحات وهزائم في بدر. وقوله: ﴿فما استكانوا٧ لربهم وما يتضرعون﴾ فما ذلوا لربهم وما دعوه ولا تضرعوا إليه بل بقوا على طغيانهم في ضلالهم ومرد هذا ظلمة النفوس الناتجة عن الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: ﴿حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد﴾ وهو معركة بدر وما أصاب
١ وما في الكون العلوي من الملائكة، والسفلي من الجن والإنس، وإلى هذا الإشارة بِمَنْ في قوله: ﴿ومن فيهن﴾.
٢ الأولى يذكرون بفتح الياء، مبنى للفاعل، والثانية يذكرون بضم الياء مبنيٌ للمفعول.
٣ قرىء خراجاً أيضاً والمعنى واحد، والمعنى: أتسألهم رزقاً فرزق ربك خير، وقيل: الخرج: الجعل والخراج: العطاء، والخرج: المصدر، والخراج: الاسم.
٤ الصراط في اللغة: الطريق، يسمي الدين طريقاً لأنه طريق إلى الجنة والناكب: العادل عن الشيء المعرض عنه، وهو مشتق من المنكب وهو جانب الكتف.
٥ ﴿ولو رحمناهم﴾ معطوف على جملة: ﴿حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب﴾ وما بينهما: اعتراض باستدلال عليهم وتنديم لهم وقطع لمعاذيرهم أي: أنهم ليسوا بحيث لو استجاب الله جؤارهم ﴿دعاءهم﴾ عند نزول العذاب بهم وكشفه عنهم لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والشرك والأعمال السيئة. وهذا كقوله: ﴿إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون﴾.
٦ هذا استدلال على مضمون ما في قوله: ﴿ولو رحمناهم﴾ الخ، و ﴿ال﴾ في العذاب للعهد أي: بالعذاب المذكور آنفاً في قوله: ﴿حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب﴾.
٧ الاستكانة: مصدر بمعنى الخضوع، مشتقة من السكون، لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من يخضع له.
530
المشركين من القتل ﴿إذا هم فيه مبلسون١﴾ أي آيسون من كل خير حزنون قنطون وذلك لظلمة نفوسهم بالشرك والمعاصي.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
١- خطر إتباع الهوى وما يفضي إليه من الهلاك والخسران.
٢- الصراط المستقيم الموصل إلى السعادة والكمال هو الإسلام لا غير.
٣- التكذيب بيوم القيامة وما يتم فيه من حساب وجزاء هو الباعث على كل شر والمانع من كل خير.
٤- من آثار ظلمة النفس نتيجة الكفر اليأس والقنوط والتمادي في الشر والفساد.
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ (٨١) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (٨٣)
شرح الكلمات:
أنشأ لكم السمع: أي خلق وأوجد لكم الأسماع والأبصار.
والأفئدة: جمع فؤاد وهو القلب.
قليلا ما تشكرون: أي ما تشكرون إلاّ قليلاً.
ذرأكم: أي خلقكم.
١ الإبلاس: شدة اليأس من النجاة، وجائز أن يكون العذاب الذي أبلسهم عذاب القحط والمجاعة التي أصابتهم، وجائز أن يكون عذاب يوم القيامة.
531
وإليه تحشرون: أي تجمعون إليه بعد إحيائكم وخروجكم من قبوركم.
وله اختلاف الليل والنهار: أي إليه تعالى إيجاد الليل والنهار وظلمة الليل وضياء النهار.
أفلا تعقلون: فتعرفوا أن الله هو المعبود الحق إذ هو الرب الحق.
إلاّ أساطير الأولين: أي ما تقولون من البعث والحياة الثانية ما هو إلاّ حكايات وأساطير وأخبار الأولين، والأساطير جمع أسطورة أي حكاية مسطرة مكتوبة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإيمان به بعرض الأدلة العقلية عليهم لعلهم يؤمنون فقال تعالى لهم: ﴿وهو الذي أنشأ لكم١ السمع٢ والأبصار والأفئدة﴾ أي الله الذي خلق لكم أسماعكم وأبصاركم وقلوبكم قادر على إحيائكم بعد موتكم وحشركم إليه تعالى ليحاسبكم ويجزيكم، وقوله: ﴿قليلاً ما تشكرون٣﴾ يوبخهم تعالى على كفرانهم نعمه عليهم، إذ أوجد لهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ولم يحمدوه على ذلك ولم يشكروه بالإيمان به وبطاعته. وقوله تعالى: ﴿وهو الذي ذرأكم في الأرض﴾ أي خلقكم في الأرض، ﴿وإليه تحشرون﴾ إذ الذي قدر على خلقكم في الأرض قادر على خلقكم في أرض أخرى بعد أن يميتكم ويحشركم أي يجمعكم إليه ليحاسبكم ويجزيكم. وقوله: ﴿وهو الذي يحيى٤ ويميت﴾ أي يحيي النطفة بجعلها مضغة لحم ثم ينفخ فيها الروح فتكون بشراً، ويميتكم بعد انقضاء آجالكم أليس هذا قادراً على إحيائكم بعد موتكم.
وقوله تعالى: ﴿وله اختلاف٥ الليل والنهار أفلا تعقلون﴾ أي ولله تعالى اختلاف الليل والنهار بإيجادهما وتعاقبهما وإدخال أحدهما في الآخر أفلا تعقلون٦ أن من هذه قدرته وتصاريفه في خلقه قادر على بعثكم بعد إماتتكم وقوله تعالى: ﴿بل قالوا مثل٧ ما قال الأولون﴾ أي بدل
١ هذا الكلام الإلهي، استدلال وامتنان فقد عرّفهم بكمال قدرته وعظيم مننه.
٢ جائز أن يكون لهم شكر قليل، وجائز أن يكون لا شكر لهم البتة، وإنما هو من باب الاحتراس كيلا ينقض الخبر. بأدنى شكر منهم.
٣ جمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد الأفراد، ووحد السمع لأنه مصدر فجرى على الأصل.
٤ هذه بعض مظاهر القدرة الإلهية الموجبة لعبادته وحده، والموجبة لتصديقه فيما واعد به وأوعد، من نعيم الآخرة وعذابها.
٥ ﴿وله اختلاف الليل والنهار﴾ هذه اللام: لام الاختصاص إذ لا قدرة لكائن سواه على اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر، والضياء والظلام، وما يجري فيهما من تصاريف الكائنات على اختلافها وتنوعها.
٦ الاستفهام إنكاري ينكر عليهم عدم تعقلهم وفهمهم لدلائل التوحيد والبعث والجزاء، والفاء: للتفريع إذ هذا الكلام متفرع على ما تقدم من الأدلة في السياق.
٧ في هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة لأنّ الكلام انتقل من التقريع إلى حكاية ضلالهم، وبل: للإضراب الإبطالي أي: أبطل كونهم يعقلون مع إثبات إنكارهم للبعث مع علّة الإنكار وهي: تقليدهم لآبائهم.
532
أن يؤمنوا باليوم الآخر لِما دَلَّ عليه من هذه الأدلة التي لا يردها عاقل ولا ينكرها عقل عادوا فقالوا قولة المنكرين من الأمم قبلهم: ﴿قالوا١ إذا متنا وكنا تراباً أءنا لمبعثون﴾ وهو إنكار صريح منهم للعبث الآخر. وقالوا أيضاً ما أخبر تعالى عنهم، وهم يعلنون تكذيبهم لله تعالى ورسوله: ﴿لقد وعدنا نحن وأباؤنا هذا من٢ قبل إن هذا إلاّ أساطير الأولين﴾ أي لقد وعد هذا آباؤنا من قبل ولم يحصل ما هذا الذي يقال إلاّ أساطير أي حكايات سطرها الأولون في كتبهم فهي تروى ويتناقلها الناس ولا حقيقة لها ولا وجود.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الشكر لله تعالى بطاعته على نعمه ومن بينها نعمة السمع والبصر والقلب.
٢- تقرير عقيدة البعث والجزاء بما تضمنت الآيات من الأدلة العديدة على ذلك.
٣- سوء التقليد وآثاره في السلوك الإنساني بحيث ينكر المقلد عقله.
قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عَالِمِ
١ قرأ الجمهور بهمزتين: الأولى. همزة الاستفهام، والثانية: همزة إذ الشرطية وكذلك مع ﴿إنا لمبعوثون﴾ إلاّ نافعاً وأبا عمرو فقد قرءا بهمزة واحدة اكتفاء بهمزة الاستفهام الأولى: الدالة على الشرط عن همزة الجواب. والاستفهام إنكاري.
٢ من قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجملة: "إن هذه لأساطير الأولين جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لمن قال: كيف رد الأولون والآخرون على هذا القول؟
533
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
شرح الكلمات:
قل أفلا تذكرون: فتعلمون أن من له الأرض ومن فيها خلقاً وملكاً قادر على البعث وأنه لا إله إلاّ هو.
قل أفلا تتقون: أي كيف لا تتقونه بالإيمان به وتوحيده وتصديقه في البعث والجزاء.
من بيده ملكوت كل شيء: أي ملك كل شيء يتصرف فيه كيف يشاء.
وهو يجير ولا يجار عليه: يحفظ ويحمي من يشاء ولا يُحمى عليه ويحفظ من أراده بسوء.
فأنى تسحرون: أي كيف تخدعون وتصرفون عن الحق.
بل أتيناهم بالحق: أي بما هو الحق والصدق في التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.
ولعلا بعضهم على بعض: أي قهراً وسلطاناً.
عما يصفون: أي من الكذب كزعمهم أن لله ولداً وأن له شريكاً وأنه غير قادر على البعث.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقال تعالى لرسوله قل١ لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث والجزاء ﴿لمن الأرض ومن فيها﴾ من المخلوقات ﴿إن كنتم تعلمون﴾ من هي له فسموه. ولما لم يكن لهم من بُدًّ أن يقولوا ﴿لله﴾ أخبر تعالى أنهم سيقولون لله. إذاً قل لهم: ﴿أفلا تذكرون٢﴾ فتعلموا أن من له الأرض ومن فيها خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يصلح أن يكون له شريك من عباده، وهو رب كل شيء ومليكه. وقوله: ﴿قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم﴾ أي سَلْهُمْ من هو رب السموات السبع وربّ العرش العظيم. الذي أحاط بالملكوت كله، أي من هو خالق السموات السبع، ومن فيهن ومن خالق العرش العظيم ومالك ذلك كله والمتصرف فيه، ولما لم يكن من جواب سوى الله أخبر تعالى أنهم سيقولون لله أي خالقها وهي لله ملكاً وتدبيراً وتصريفاً إذا قل لهم يا رسولنا ﴿أفلا تتقون﴾ أي الله وأنتم تنكرون عليه قدرته في إحياء الناس بعد موتهم وتجعلون له أنداداً تعبدونها معه٣، أما تخافون عقابه أما
١ قل يا رسولنا جواباً لهم عما قالوه: ﴿لمن الأرض..﴾ الخ.
٢ أي: تتعظون فتعلموا.. الخ.
٣ وتجعلون لله البنات وأنتم تكرهون ذلك لأنفسكم فكيف ترضونه لربكم؟
534
تخشون عذابه وقوله تعالى: ﴿قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه١﴾ أي سلهم يا رسولنا فقل لهم من بيده ملكوت كل شيء أي ملك كل شيء وخزائنه؟ وهو يجير من يشاء أي يحمي ويحفظ من يشاء فلا يستطيع أحد أن يمسه بسوء ولا يجار عليه، أي ولا يستطيع أحد أن يجير أي يحمي ويحفظ عليه أحداً أراده بسوء وقوله: ﴿إن كنتم تعلمون﴾ أي إن كنتم تعلمون أحداً غي الله بيده ملكوت. كل شيء ويجير ولا يجار عليه فاذكروه، ولما لم يكن لهم أن يقولوا غير الله، أخبر تعالى أنهم سيقولون الله أي٢ هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهي لله خلقاً وملكاً وتصرفاً إذاً قل لهم ﴿فأنى تسحرون؟﴾ أي كيف تخدعون فتصرفون عن الحق فتعبدون غير الخالق الرازق، وتنكرون على الخالق إحياء الأموات وبعثهم وهو الذي أحياهم أولاً ثم أماتهم ثانياً فكيف ينكر عليه إحياءهم مرة أخرى وقوله تعالى: ﴿بل أتيناهم بالحق﴾ ٣ أي ليس الأمر كما يتوهمون ويخيل إليهم بل أتيناهم بذكرهم الذي هو القرآن به يذكرون لأنه ذكرى وذكر، وبه يذكرون لأنه شرف لهم وإنهم لكاذبون في كل ما يدعون ويقولون. ﴿ما٤ اتخذ الله من ولد﴾ ولا بنت، ﴿وما كان معه من إله﴾ ولا ينبغي ذلك، والدليل المنطقي العقلي الذي لا يرد هو أنه لو كان مع الله إله آخر لقاسمه الملك وذهب كل إله بما خلق، ولحارب بعضهم بعضاً وعلا بعضهم على بعض غلبة وقهراً وقوله تعالى: ﴿سبحان الله﴾ تنزيهاً لله تعالى عما يصفه به الواصفون من صفات العجز كاتخاذ الولد والشريك، والعجز عن البعث. وقوله تعالى: ﴿عالم الغيب٥ والشهادة﴾ أي ما ظهر وما بطن، وما غاب وما حضر فلو كان معه آلهة أخرى لعرفهم وأخبر عنهم ولكن هيهات هيهات أن يكون مع الله إله آخر وهو الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء ﴿فتعالى عما يشركون﴾ ٦
١ الملكوت: من صفات المبالغة كالجبروت، والرهبوت، والمراد: ملك كل شيء، وهذا كله احتجاج على العرب لأنهم مقرّون بالله ربّا، والاستفهام فيه وفي الذي قبله: تقريري لأنهم مقرّون أن الله هو ربّ السموات وأنه الذي بيده ملكوت كل شيء.
٢ قرأ أبو عمرو: ﴿سيقولون الله﴾ في الموضعين الأخيرين، ولا خلاف في الموضع الأول لأنه سؤال بـ لمن المَلك؟ ومن قرأ في الأخيرين بلفظ: الله فلأنّ السؤال بغير اللام فجاء الجواب على لفظه. ومن أجاب بـ الله، فإنه راعى المعنى إذ رب السموات: مالكها فهي له وملكوت كل شيء لله.
٣ ﴿بل أتيناهم بالحق﴾ : إضراب لإبطال كونهم مسحورين. أي: ليس الأمر كما يخيّل إليهم، وإنما أتيناهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون، فهذه علّة إعراضهم وعدم قبولهم لدعوة الحق، وقولهم فيه ﴿إن هذا إلاّ أساطير الأولين﴾.
٤ نفى عنه تعالى اتخاذ الولد كما نفى أن يكون له شريك في الألوهية بالبرهان العقلي وهو: أنه لو كان معه آلهة لاقتسموا الكون وذهب كل إله بما خلق، وقد يحارب بعضهم بعضاً ويعلو من يغلب ولم يكن من مظاهر هذا شيء البتة فثبتت النتيجة وهي المذكورة أولا: ﴿ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله﴾.
٥ هذا من جملة أدلة نفي الشريك له تعالى إذ العالم بكل شيء كيف يكون له شريك ولا يعرفه، وقرأ حفص عالِم بالجر على أنه نعت لاسم الجلالة في قوله ﴿سبحان الله﴾، وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر لمحذوف أي: هو عالم.
٦ ﴿عما يشركون﴾ ما مصدرية، والمعنى: تعالى عن إشراكهم. أي: هو منزه عن أن يكون له شريك.
535
علواً كبيراً وتنزه تنزهاً عظيماً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية توبيخ المتغافل المتجاهل وتأنيب المتعامي عن الحق وهو قادر على رؤيته.
٢- تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته.
٣- تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد وإبطال ترهات المفترين.
٤- الاستدلال العقلي ومشروعيته والعمل به لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
شرح الكلمات:
إما تريني ما يوعدون: أي إن تُريني من العذاب.
ادفع بالتي هي أحسن: أي ادفع بالخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض عنهم.
من همزات الشياطين: أي من وساوسهم التي تخطر بالقلب فتكاد تفسده.
أن يحضرون: أي في أموري حتى لا يفسدوها علي.
536
جاء أحدهم الموت: أي رأى علاماته ورآه.
برزخ: أي حاجز يمنع وهو مدة الحياة الدنيا، وإن عاد بالبعث فلا عمل يقبل.
معنى الآيات:
في هذا السياق تهديد للمشركين الذين لم ينتفعوا بتلك التوجيهات التي تقدمت في الآيات قبل هذه، فأمر الله تعالى رسوله أن يدعوه ويضرع إليه إن هو أبقاه حتى يحين هلاك قومه، أن لا يهلكه معهم فقال: ﴿قل رب إما تريني١﴾ أي أن تريني ﴿ما يوعدون﴾ أي من العذاب، ﴿رب فلا تجعلني في القوم الظالمين﴾ أي أخرجني منهم وأبعدني عنهم حتى لا أهلك معهم. وقوله تعالى: ﴿وإنا على أن نريك٢ ما نعدهم لقادرون﴾ يخبر تعالى رسوله بأنه قادر على إنزال العذاب الذي وعد به المشركين إذا لم يتوبوا قبل حلوله بهم.
وقوله: ﴿ادفع بالتي٣ في أحسن﴾ هذا قبل أمره بقتالهم: أمره بأن يدفع ما يقولونه له في الكفر والتكذيب بالخُلَّة والخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض عنهم وعدم الإلتفات إليهم. وقوله: ﴿نحن أعلم بما يصفون﴾ أي من قولهم لله شريك وله ولد، وأنه ما أرسل محمداً رسولاً، وأنه لا بعث ولا حياة ولا نشور يوم القيامة وقوله: ﴿وقل رب أعوذ بك من همزات٤ الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون﴾ لما علمه الاحتراز والتحصُّن من المشركين بالصفح والإعراض أمره أن يتحصن من الشياطين بالاستعاذة بالله تعالى فأمره أن يقول ﴿رب﴾ أي يا رب ﴿أعوذ٥ بك﴾ أي استجير بك من همزات الشياطين أي وساوسهم حتى لا يفتنوني عن ديني وأعوذ بك أن يحضروا أمري فيفسدوه على.
وقوله تعالى: ﴿حتى إذا جاء أحدهم الموت﴾ أي إذا حضر أحد أولئك المشركين الموت.
١ أصل إما: إن ما، إن شرطية، وما: صلة لتقوية الشرط، وجواب الشرط فلا تجعلني مع القوم الظالمين، علمه ربه هذا الدعاء ليدعو به. أي: إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم وأبعدني عنهم. وفي الآية تهديد عظيم للمشركين.
٢ الجملة تحمل وعيداً آخر مؤكداً للأول الذي تضمنته جملة ﴿ربّ إما تريني ما يوعدون﴾.
٣ هذا بالنسبة إلى الأمة فهو محكم باق، وهو الصفح وعدم المؤاخذة فيما بينهم وأمّا بالنسبة للمشركين والكافرين، فهو موادعة لهم لا غير إلى أن يؤمر بقتالهم، وقد أمر به فيما بعد.
٤ جمع همزة، والهمزة في اللغة النخس والدفع، يقال: همزه ونخسه ودفعه، قال الليث: الهمز: كلام من وراء القفا، واللمز: مواجهة والشيطان يوسوس بوساوسه في صدر ابن آدم، الهمس لغة: الكلام الخفي يقال: همس في أذنه بكذا: أسرّ به إليه.
٥ هذا التعوذ، وإن خوطب به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو لأمته معه معه بل هي أحوج منه إليه، وهمزات الشيطان: هي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان بها نفسه وقد شكا خالد بن الوليد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن كان يؤرق من الليل فأمره أن يقول: "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون".
537
أي رأى ملك الموت وأعوانه وقد حضروا لقبض روحه ﴿قال رب ارجعون١﴾ أي أخروا موتي كي أعمل صالحاً فيما تركت العمل فيه بالصلاح، وفيما ضيعت من واجبات قال تعالى رداً عليه ﴿كلا﴾ ٢ أي لا رجوع أبداً، ﴿إنها كلمة هو قائلها﴾ لا فائدة منها ولا نفع فيها، ﴿ومن ورائهم برزخ﴾ أي حاجز مانع من العودة إلى الحياة وهو أيام الدنيا كلها حتى إذا انقضت عادوا إلى الحياة، ولكن ليست حياة عمل وإصلاح ولكنها حياة حساب وجزاء هذا معنى قوله: ﴿ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون﴾ ٣.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية الدعاء والترغيب فيه وإنه لذو جدوى للمؤمن.
٢- استحباب دفع السيء من القول أو الفعل بالصفح والإعراض عن صاحبه.
٣- مشروعية الاستعاذة بالله تعالى من وساوس الشياطين ومن حضورهم أمر العبد الهام حتى لا يفسدوه عليه بالخواطر السيئة.
٤- موعظة المؤمن بحال من يتمنى العمل الصالح عند الموت فلا يُمكن منه فيموت بندمه وحسرته ويلقى جزاء تفريطه حرماناً وخسراناً في الدار الآخرة.
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ (١٠١) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤)
١ ﴿ربّ ارجعون﴾ هذا تمنّ للحياة الدنيا بعد ذهابها، وهيهات هيهات أن تعود!! وقوله: ﴿ارجعون﴾ : خاطب الربّ تعالى بضمير التعظيم وتعظيم المخاطب شائع في كلام العرب.
٢ كلا: ردع للسامع ليعلم يقينا إبطال ما يطلبه الكافر من الرجوع.
٣ البرزخ: هو ما بين الدنيا والآخرة إذ كل ما حجز بين شيئين قيل فيه: برزخ.
538
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧)
شرح الكلمات:
في الصور: أي في القرن المعبر عنه بالبوق نفخة القيام من القبور للحساب والجزاء.
المفلحون: أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
تلفح وجوههم النار: أي تحرقها.
وهم فيها كالحون: الكالح من أحرقت النار جلدة وجهه وشفتيه فظهرت أسنانه.
ألم تكن آياتي تتلى عليكم: أي يوبخون ويذكرون بالماضي ليحصل لهم الندم والمراد بالآيات آيات القرآن.
غلبت علينا شقوتنا: أي الشقاوة الأزلية أي تكتب على العبد في كتاب المقادير قبل وجوده.
أخرجنا منها فإن عدنا: أي من النار فإن عدنا إلى الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والدعوة إلى ذلك وعرض الأدلة وتبيينها وتنويعها، إذ لا يمكن استقامة إنسان قي تفكيره وخلقه وسلوكه على مناهج الحق والخبر إلاّ إذا آمن إيماناً راسخاً بوجود الله تعالى ووجوب طاعته وتوحيده في عباداته، وبالواسطة في ذلك وهو الوحي والنبي الموحي إليه، وبالبعث الآخر الذي هو دور الحصاد لما زرع الإنسان في هذه الحياة من خير وشر فقوله تعالى: ﴿فإذا نفخ١ في الصور فلا أنساب٢ بينهم يومئذ ولا يتساءلون﴾ هذا عرض لما يجرى في الآخرة فيخبر تعالى أنه إذا نفخ إسرافيل بإذن الله في الصور الذي هو القرن أي كقرن الشاة لقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور فذلك
١ هذه النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، والحشر والتي قبلها هي نفخة الفناء، والتي بعد نفخة الصعق، والأخيرة نفخة الحساب والجزاء.
٢ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا: من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم!!
539
يومئذ يوم عسير} فلشدة الهول وعظيم الفزع لم يبق نسب١ يراعى أو يلتفت إليه بل كل واحد همه نفسه فقط، ولا يسأل حميم حميماً وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: هل تذكرون أهليكم يا رسول الله يوم القيامة فقال أما عند ثلاثة فلا: إذا تطايرت الصحف، وإذا وضع الميزان وإذا نصب الصراط ومعنى هذا الحديث واضح والشاهد منه ظاهر وهو أنهم لا يتساءلون.
وقوله تعالى: ﴿فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون﴾ أي من رجحت كفة حسناته على كفة سيئآته أفلح أي نجا من النار وأدخل الجنة ومَن خفت موازينه بأن حصل العكس فقد خسر وَأبعد عن الجنة وأدخل النار وهذا معنى قوله تعالى ﴿ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح٢ وجوههم النار وهم فيها كالحون٣﴾ أي تحرق وجوههم النار فيكلحون باحتراق شفاههم وتظهر أسنانهم وهو أبشع منظر وأسوأه وقوله تعالى: ﴿ألم تكن٤ آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون؟﴾ هذا يقال لهم تأنيباً وتوبيخاً وهم في جهنم وهو عذاب نفساني مع العذاب الجثماني ﴿ألم تكن آياتي تتلى عليكم﴾ أما كان رسلنا يتلون عليكم آياتنا ﴿فكنتم بها تكذبون﴾ بأقوالكم وأعمالكم أو بأعمالكم دون أقوالكم فلم تحرموا ما حرم الله ولم تؤدوا ما أوجب الله، ولم تنتهوا عما نهاكم عنه. وقوله تعالى: ﴿قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا٥﴾ هذا جوابهم كالمعتذرين بأن شقاءهم كان بقضاء وقدر فلذا حيل بينهم وبين الإيمان والعمل الصالح. وقوله تعالى: ﴿وكنا قوماً ضالين﴾ هذا قولهم أيضاً وهو اعتراف صريح بأنهم كانوا ضالين. ثم قالوا ما أخبر تعالى به عنهم بقوله: ﴿ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون﴾ هذا دعاؤهم وهم في جهنم يسْألون رجهم أن يردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويستقيموا٦ على صراط الله المستقيم الذي هو الإسلام وسوف ينتظرون جواب الله تعالى ألف سنة وهو ما تضمنته الآيات التالية
١ ورد ما يخصص هذا العموم وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي" رواه الطبراني فإنه إن صح يكون مخصصا لعموم الآية. والله أعلم.
٢ ﴿تلفح﴾ وتنفح بمعنى واحد لقوله تعالى: ﴿ولإن مستهم نفحة من عذاب ربك﴾ إلاّ أن تلفح أبلغ من تنفح وأشد.
٣ الكلوح: تكشر في عبوس، والكالح الذي تشمّرت شفتاه وبدت أسنانه قال ابن مسعود: أرأيت الرأس المشتط بالنار وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه.
٤ الاستفهام للتقريع والتأنيب، والتذكير بما يزيد في حسرتهم وعظيم محنتهم وبلائهم.
٥ قرأ ابن مسعود وبها قرأ الكوفيون إلاّ حفصاً شقاوتنا وقرأ الجمهور شقوتنا.
٦ وما يستقيمون لو ردوا لعلم الله تعالى بهم إذ قال عز وجل: ﴿ولو ردوا لعادوا لما نُهوا عنه، وإنهم لكاذبون﴾.
540
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء من خلال عرض أحداثها في هذه الآيات.
٢- تقرير أن وزن الأعمال يوم القيامة حق وإنكاره بدعة مكفرة.
٣- تقرير أن إسرافيل ينفخ في الصور وإنكار ذلك وتأويله بلفظ الصور كما فعل المراغي عند تفسيره هذه الآية مع الأسف بدعة من البدع المنكرة ولذا نبهت عليها هنا حتى لا يغتر بها المؤمنون.
٤- الاعتذار بالقدر لا ينفع صاحبه، إذ القدر مستور فلا ينظر إليه والعبد مأمور فليؤتمر بأمر الله ورسوله ولينته بنهيهما ما دام العبد قادراً على ذلك فإن عجز فهو معذور.
قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١)
شرح الكلمات:
إخسأوا: أي أبعدوا في النار أذلاء مخزيين.
فريق من عبادي: هم المؤمنون المتقون.
فاتخذتموهم سخرياً: أي جعلتموهم محط سخريتكم واستهزائكم.
بما صبروا: أي على الإيمان والتقوى.
هم الفائزون: أي الناجون من النار المنعمون في الجنة.
541
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿قال اخسأوا فيها ولا تكلمون١﴾ هذا جواب سؤالهم المتقدم حيث قالوا: ﴿ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون٢﴾ وعلل تعالى لحكمه فيهم بالإبعاد في جهنم أذلاء مخزيين يقوله: ﴿إنه كان فريق من عبادي﴾ وهو فريق المؤمنين المتقين٣ يقولون ﴿ربنا آمنا فاغفر لنا﴾ ذنوبنا ﴿وارحمنا وأنت خير الراحمين﴾ أي يعبدوننا ويتقربون إلينا ويتوسلون بإيمانهم وصالح إعمالهم ويسألوننا المغفرة والرحمة وكنتم أنتم تضحكون من عبادتهم ودعائهم وضراعتهم إلينا وتسخرون منهم٤ إني جزيتهم اليوم بصبرهم على طاعتنا مع ما يلاقون منكم من اضطهاد وسخرية. ﴿أنهم٥ هم الفائزون﴾ برضواني في جناتي لا غيرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان مدى حسرة أهل النار لما يجابون بكلمة: ﴿اخسأوا فيها ولا تكلمون﴾.
٣- فضيلة التضرع إلى الله تعالى ودعائه والتوسل إليه بالإيمان وصالح الأعمال.
٣- حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به والضحك منه.
٤- فضيلة الصبر ولذا ورد أن منزلة الصبر هن الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد.
١ أي: ابعدوا في جهنم كما يقال لكلب: اخسأ أي: أبعد، يقال: خسأ الكلب وأخساه لازم ومتعدّ. يروي عن ابن المبارك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثمّ يرد عليهم ﴿إنكم ماكثون﴾ والصحيح أنه يجيبهم بعد ألف سنة، وعندها ينقطع رجاؤهم ودعاؤهم ويقبل بعضهم على بعض فيتنابحون كالكلاب وقد أطبقت عليهم النار.
٢ الظلم: وضح الشي في غير موضعه وعابد غير الله تعالى واضع العبادة في غير موضعها فلذا هو ظالم. والشرك: ظلم عظيم.
٣ كبلال وصهيب وعمّار وخباب من فقراء المسلمين الذين كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم ويسخرون منهم.
٤ في الآية دليل على حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به.
٥ قرىء بفتح الهمزة أي: لأنهم هم الفائزون وقرىء بكسرها على الابتداء.
542
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (١١٣) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
شرح الكلمات:
كم لبثتم في الأرض: أي كم سنة لبثتموها في الأرض أحياءً وأمواتاً في قبوركم؟.
فاسأل العادين: يريدون الملائكة التي كانت تعد، وهم الكرام الكاتبون أو من يعد أما نحن فلم نعرف.
خلقتم عبثاً: أي لا لحكمة بل لمجرد العيش واللعب كلا.
فتعالى الله الملك الحق: أي تنزه الله عن العبث.
لا برهان له: الجملة صفة لـ "إلهاً آخر" لا مفهوم لها إذ لا يوجد برهان ولا حجة على صحة عبادة غير الله تعالى إذ الخلق كله مربوب لله مملوك له.
حسابه عند ربه: أي مجازاته عند ربه هو الذي يجازيه بشركه به ودعاء غيره.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم ومع أهل النار المنكرين للبعث والتوحيد بقوله تعالى: {قال كم
543
لبثتم في الأرض عدد سنين؟} هذا سؤال طرح عليهم أي سألهم ربهم وهو أعلم بلبثهم كم لبثتم من سنة في الدنيا مدة حياتكم فيها ومدة لبثكم أمواتاً في قبوركم؟ فأجابوا قائلين ﴿لبثنا يوماً أو بعض١ يوم فاسأل٢ العادين﴾ أي من كان يعد من الملائكة أو من غيرهم، وهذا الاضطراب منهم عائد إلى نكرانهم للبعث وكفرهم في الدنيا به أولاً وثانياً أهوال الموقف وصعوبة الحال وآلام العذاب جعلتهم لا يعرفون أما أهل الإيمان فقد جاء في سورة الروم أنهم يجيبون إجابة صحيحة إذ قال تعالى: ﴿ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون﴾. وقوله تعالى: ﴿إن لبثتم إلاّ قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون٣﴾ هذا بالنظر إلى ما تقدم من عمر الدنيا، فمدة حياتهم وموتهم إلى بعثهم ما هي إلاّ قليل وقوله تعالى: ﴿أفحسبتم٤ أنما خلقناكم٥ عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون﴾، هذا منه تعالى توبيخ لهم وتأنيب على إنكارهم للبعث أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم لم يحلقوا للعبادة وإنما خلقوا للأكل والشرب والنكاح كما هم ظن كل الكافرين وأنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ولا يجزون بأعمالهم. وقوله تعالى: ﴿فتعالى٦ الله الملك الحق﴾ أي عن العبث وعن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وقوله: ﴿لا إله إلاّ هو رب العرش الكريم﴾ أي لا معبود بحق إلاّ هو ﴿رب العرش الكريم﴾ أي مالك العرش الكريم ووصف العرش بالكرم سائغ كوصفه بالعظيم والعرش سرير الملك وهو كريم لما فيه من الخير وعظيم إذ هو أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات والأرض، ولم لا يكون العرش كريماً وعظيماً ومالكه جل جلاله هو مصدر كل كرم وخير وعظمة.
١ هذا السؤال موجه للمشركين في عرصات القيامة، والسؤال عن ليثهم في قبورهم وجائز أن يكون عن مدة حياتهم في الدنيا.
٢ قيل: أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في قبورهم، وقيل: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده.
٣ هذا بالنظر إلى الدار الآخرة لا يعتبر شيئاً يذكر.
٤ روي بضعف أن ابن مسعود مرّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه: ﴿أفحسبتم﴾ الآية إلى ﴿رحيم﴾ فبرأ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ماذا قرأت في أذنه؟ فأخبره فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقنا قرأها على جبل لزال".
٥ أي: مهملين كما خلق البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها كقوله تعالى ﴿أيحسب الإنسان أن يترك سدى﴾.
٦ ﴿فتعالى الله﴾ : أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئاً عبثاً أو سفهاً.
544
وقوله تعالى: ﴿ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له﴾ أي ومن يعبد مع الله إلهاً آخر بالدعاء أو الخوف أو الرجاء أو النذر والذبح، وقوله: لا برهان له أي لا حجة له ولا سلطان على جواز عبادة ما عبده، ومن أين يكون له الحجة والبرهان على عبادة غير الله والله رب كل شيء ومليكه وقوله تعالى: ﴿فإنما حسابه عند ربه﴾ أي الله تعالى ربه يتولى حسابه ويجزيه بحسب عمله وسيخسر خسراناً مبيناً لأنه كافر والكافرون لا يفلحون أبداً فلا نجاة من النار ولا دخول للجنة بل حسبهم جهنم وبئس المهاد. وقوله تعالى: ﴿وقل رب اغفر وارحم١﴾ أي أمر الله تعالى رسوله أن يدعو بهذا الدعاء: رب اغفر لي وارحمني واغفر لسائر المؤمنين وارحمهم أجمعين أنت خير الغافرين والراحمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عظم هول يوم القيامة وشدة الفزع فيه فليتق ذلك بالإيمان وصالح الأعمال.
٢- تنزه الله تعالى عن العبث واللهو واللعب.
٣- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٤- كفر وشرك من يدعو مع الله إلهاً آخر.
٥- الحكم بخسران الكافرين وعدم فلاحهم.
٦- استحباب الدعاء بالمغفرة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات.
١ نظرت إلى حذف المفعول في: اغفر وارحم فانقدح في نفسي أن لجذفه سراً وهو: أن يكون عاماً في المؤمنين والمؤمنات لقوله تعالى: ﴿واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات﴾.
545
Icon