ﰡ
في السورة تنويه بصفات المؤمنين ومصيرهم السعيد. وتوكيد بالبعث، وتذكير بقدرة الله في خلق الإنسان والأكوان وما فيها من منافع وحقه في الشكر والإخلاص. وسلسلة قصص بعض الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم في صدد التمثيل والإنذار للكفار وتثبيت النبي ﷺ والمؤمنين وتطمينهم. وحملة على الكفار لاغترارهم بما يتمتعون به في الدنيا. وتبكيت لهم على وقوفهم من النبي ﷺ موقف العناد والاتهام مع معرفتهم له ومع ما في مهمته من الخير المحض لهم المجرّد عن كل غرض. وحكاية لبعض أقوالهم في إنكار البعث وردود قوية عليهم من مشاهد قدرة الله وملكوته واعترافهم بذلك. وتصوير مصائر المؤمنين والكفار الأخروية بما فيه التطمين والبشرى للأولين والرعب والهول للآخرين.
وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة. وهذا يبرر القول أنها نزلت متتابعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ١١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
(٢) العادون: المتجاوزون للحدود بالعدوان.
في الآيات بشرى بأسلوب التوكيد بالفلاح والفوز للمؤمنين الذين يتصفون بالصفات المذكورة فيها. وتقرير بأن منازلهم الفردوس خالدين فيها، وعبارتها واضحة.
والسلسلة من الجوامع القرآنية في وصف المؤمن وأخلاقه وبيان ما يجب عليه تجاه ربّه وتجاه الناس وما يكون من الفلاح والنجاح والسعادة والطمأنينة وحسن العاقبة لأصحاب هذه الصفات التي هي جماع صفات الخير الروحية والأخلاقية والشخصية والاجتماعية. وتنطوي على حثّ على الاتصاف بها كما تنطوي على تقرير أثر الإيمان في نفس صاحبه حيث يجعله يخشع في صلاته لأنه أمام ربّه ويداوم على الصلاة لله فيظل يذكره ويمتنع نتيجة لذلك عن كل فحش وعبث ويؤتي الزكاة ويفعل كل ما هو حقّ وخير وبرّ وعدل وأمانة ووفاء. وهذه الصفات والحثّ على الاتصاف بها والتزامها مما تكرر في القرآن المكي والمدني بحيث تكون من أسس الدعوة الإسلامية.
ولقد روى الترمذي حديثا «١» في صدد هذه الآيات عن عمر رضي الله عنه قال: «كان النبيّ ﷺ إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهمّ زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنّا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنّا ثم قال أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم عشر آيات».
ولقد تعددت التعريفات التي أوردها أو رواها المفسرون للخشوع منها أنه خشوع القلب والأطراف. ومنها أنه التذلل والخضوع. ومنها أنه الاستشعار بالخوف والتواضع. ومنها أنه غضّ البصر وعدم الحركة والتلفّت. وكلّ من هذه الأقوال واردة ووجيهة. ولقد أورد البغوي بعض الأحاديث النبوية في هذا الصدد منها حديث عن عائشة (رض) قالت: «سألت رسول الله ﷺ عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد». وحديث عن أبي ذرّ (رض) قال: «قال النبيّ ﷺ لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه». وحديث عن أنس بن مالك قال: «قال النبيّ ﷺ ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتدّ قوله حتى قال لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم». وحديث لم يذكر راويه جاء فيه: «أنّ النبيّ ﷺ أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه».
وحديث عن أبي ذرّ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإنّ الرحمة تواجهه».
وجميع التعريفات الواردة وجيهة. والأحاديث وإن لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة فإن عبارتها وروحها تجعل احتمال صحتها قوية. ولقد روى أصحاب السنن حديثا فيه تأييد عن الفضل بن عباس عن النبيّ ﷺ قال: «الصلاة مثنى مثنى. تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع وتضرّع وتمسكن وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربّك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا ربّ يا ربّ ومن لم يفعل فهي
«ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلّي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلّا وجبت له الجنة» «٣». وواضح أن الأحاديث والتعريفات استهدفت تأديب المسلم ليكون في صلاته منصرفا عن كل شيء متفرغا في قلبه وجسمه إلى الله عز وجل.
على أننا نرجح أن الآيات انطوت في الوقت نفسه على التنويه بالمؤمنين في العهد المكي وتقرير كونهم متصفين بهذه الصفات. وإذا صحّ ترجيحنا إن شاء الله ففيها صورة واقعية رائعة لأثر الإيمان القوي في ذلك الرعيل الأول رضوان الله عليهم.
وقد يؤيد ترجيحنا آيات عديدة وردت في سور عديدة من السور السابقة فيها تنويه بالمؤمنين وأخلاقهم وصفاتهم وأثر الإيمان فيهم منها هذه الآيات في سورة الذاريات: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩).
وجملة وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ من الأدلة المؤيدة لما قررناه في سياق سورة المزمل من كون الزكاة كانت مفروضة وممارسة في العهد النبوي المكي مثل الصلاة. وكلام المفسرين متسق مع ذلك «٤».
(٢) المصدر نفسه. [.....]
(٣) المصدر نفسه.
(٤) انظر تفسير الآيات في تفسيري ابن كثير والبغوي.
وبمناسبة ورود الآية وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ضمن السلسلة نقول إن التنويه بالذين يرعون أماناتهم والتنديد بمن يخونونها والأمر بأداء الأمانات إلى أهلها قد تكرر في القرآن والسنّة مما يدل على ما أسبغ كتاب الله وسنّة رسوله على هذا الأمر الخطير المتّصل بصلات الناس ومعاملاتهم وحقوقهم ومعايشهم وثقتهم اتصالا شديدا والذي قد ينتج عن الإخلال به العداوة والبغضاء والنزاع في المجتمع الإسلامي. والذي يناقض الإخلال به في حدّ ذاته المعاني الجليلة المنطوية في الإيمان والإسلام.
ففي سورة المعارج آية مماثلة لهذه الآية فيها تنويه بالمؤمنين مثلها وهي الآية [٣٢] وفي سورة البقرة هذه الآية فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [٢٨٣] وفي سورة آل عمران آية فيها تنديد شديد باليهود لأنهم لا يؤدون الأمانات التي يؤتمنون عليها من غيرهم وهي: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وفي سورة النساء هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) وفي سورة الأنفال هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧).
ولقد أخرج ابن أبي حاتم حديثا عن سعيد بن جبير عن رسول الله ﷺ جاء فيه: «ما من شيء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدميّ هاتين إلّا الأمانة فإنّها مؤداة إلى البرّ والفاجر» «١». وأخرج الطبري بطرقه حديثا عن عبد الله بن مسعود عن
«من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» «٤». وأخرج الترمذي أيضا حديثا عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمّنه الناس على دمائهم وأموالهم» «٥». وهناك حديث لم يروه المفسرون وقد ورد في التاج ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» «٦».
وبعض هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكن هذا لا يمنع صحتها. وقد ورد بعضها في هذه الكتب. وواضح ما في الآيات والأحاديث من تلقين وتأديب وتعليم للمسلم يرتفع به إلى أعلى مراتب الأخلاق الفاضلة ويجعل الأمانة بخاصة من أمهات أخلاق المؤمن المخلص.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) النص من تفسير القاسمي للآية [٥٨] من سورة النساء.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) التاج ج ٥ ص ٤١.
تعليق على استفراش ملك اليمين
وبمناسبة ورود الإشارة إلى رفع الحظر عن استفراش ملك اليمين نقول إننا علقنا على موضوع الرقيق الذي كان يسمّى ملك اليمين في سياق سورة البلد تعليقا مختصرا مفيدا. غير أن الموضوع الذي جاء في هذه الآيات يتحمل تعليقا آخر لأنه صار من التشريعات الإسلامية وقد ذكر بعد هذه السورة في سور مكيّة ومدنيّة.
والموضوع هو إباحة استمتاع مالك الإماء بإمائه استفراشا بدون قيد وعقد.
وما قلناه في تعليقنا في سياق سورة البلد من أن الرقّ كان نظاما عاما مألوفا عند العرب وغيرهم قبل الإسلام ولم ينشئه الإسلام نقوله في صدد إباحة استفراش الإماء. حيث اقتضت حكمة التنزيل ذلك مماشاة للواقع الذي لا فحش فيه وفيه تخفيف وتيسير على المسلمين.
ولقد توسّع المسلمون في هذا الأمر فاعتبروا كلّ من أمكن خطفه أو شراؤه من السود وغير السود من غير المسلمين رقيقا واستباحوا استفراش النساء اللاتي ينالونهن بهذه الطريقة أو يولدون من آباء وأمهات نالوهم بهذه الطريقة في حين أن الشرع الإسلامي لا يعتبر رقيقا إلّا من كان رقيقا قبل الإسلام أو تولّد منه أو من استرقّه المسلمون من أسرى الحرب أو من الأعداء غير المسلمين أو تولّد منهم.
ولا يبيح استرقاق المسلمين أبدا. بل ولا غير المسلمين إذا لم يكونوا أعداء محاربين. ولا يعتبر كل غير مسلم عدوا محاربا، وإنما العدو المحارب هو المعتدي على المسلمين من غير المسلمين فقط. بل إن إباحته لاسترقاق أسرى الحرب من الأعداء المحاربين من غير المسلمين ليست واجبة بل ظلت في حدود
وبناء على هذا فاستفراش النساء بصفة ملك اليمين إذا لم يكن رقّهم في نطاق هذه الحدود ليس من الشرع الإسلامي في شيء.
ولما كان فحوى وتلقين القرآن والسنّة النبويّة متجهين إلى تحرير الرقّ وإلغائه بمختلف الوسائل فمن الممكن أن يقال إن إلغاء الرقّ المتفق عليه في العصر الحاضر بين معظم دول الأرض ومن جملتها الدول الإسلامية هو متّسق مع ذلك. وهذا يجعل استمرار بعض المسلمين على اعتبار الرقّ مشروعا برغم ذلك ثم برغم خروج جلّ صوره أو كلها من نطاق الحدود الشرعية الإسلامية واستباحة استفراش النساء بصفة ملك اليمين محلّ نظر وعجب وتساؤل بل ومحلّ استنكار شرعي.
هذا، ولقد نبّه بعض المفسرين إلى أن جملة ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ محصورة الدلالة في الإماء دون الغلمان وأن إتيان الغلمان من ملك اليمين محرّم كإتيان غيرهم وهذا حقّ لا محلّ فيه لتوهّم ولا مكابرة ومتسق مع نصّ العبارة وروحها ومقامها.
كذلك نبهوا إلى أن هذه الجملة هي في صدد إباحة الإماء لمالكيهم من الرجال وأنه لا يجوز للحرة أن تمكّن منها عبدها تأوّلا للجملة وهذا حق وصواب.
ومتسق مع نصّ العبارة وروحها ومقامها معا.
«سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاقلين ويدخلهم النار أوّل الداخلين إلّا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده والفاعل والمفعول به ومدمن الخمر والضارب والديه حتى يستغيثا والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه والناكح حليلة جاره». وقد علق ابن كثير على هذا الحديث قائلا إنه غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته. وهذا التعليق لا ينقض قول الشافعي وغيره من العلماء كما هو المتبادر حيث روي أن رأيهم استلهام من الآية.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٦]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
. تعليق على آية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ
والآيات الأربع التالية لها عبارة الآيات واضحة. وقد جاء مثلها أو شيء منها في سور سابقة مثل سور فاطر والزمر وغافر. وبعض العبارات الواردة هنا تتحمل بعض التعليقات.
فأولا: إن المفسرين قالوا في صدد تعبير سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إنه إشارة إلى
ولقد قال الذين يميلون إلى استنباط الأسرار والفنون من القرآن والتوفيق بينه وبين النظريات العلمية والفنية إن في الآيات ما يمكن الاستدلال به على كون الإنسان إنما صار إنسانا بعد سلسلة تحولات طويلة جدا بدأت من نشوء الحياة من الماء والطين، ونرى في هذا تكلفا وتحميلا للعبارة غير ما تتحمل.
والذي يتبادر أن هذه الآيات وأمثالها العديدة التي وردت في سور عديدة وذكر فيها خلق آدم أو الإنسان من طين ثم جعل نسله بطريق النطفة إنما سيقت في معرض التذكير والعظة والتدليل على قدرة الله بأسلوب يستطيع السامعون على اختلاف طبقاتهم فهمه ولمسه والاعتبار به والاستدلال منه على قدرة الله. وأن الأولى الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن مع ملاحظة هذا الهدف البارز فيها.
وأنه لا طائل من وراء التزيد والتخمين وتحميل العبارة غير ما تتحمل ونرى ذلك إخراجا للقرآن من نطاق قدسيته وأهدافه كما هو رأينا في كل الشؤون المماثلة.
وثانيا: لقد تعددت التفسيرات التي يرويها المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم لجملة ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (١٤) منها أنها عنت نفخ الروح فيه بعد ما كان جهادا ومنها أنها عنت استواء الشباب ونبات الشعر والأظافر والأسنان. ومنها أنها عنت الذكورة والأنوثة. ومنها أنها عنت تنقّله في أطوار الحياة بعد الولادة. ويلحظ أن هذه التفسيرات تصح أن ترد بالنسبة للإنسان وللحيوان وبخاصة ذوات الثدي منه على السواء كما لا يخفى. والذي يتبادر لنا أن الجملة قد قصدت التنويه بالإنسان الذي شاءت حكمة الله عز وجل أن يميزه عما سواه من الحيوان بتكامل العقل والتكليف وباختصاصه بالبعث بعد الموت لتوفيته
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٧ الى ٢٢]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
. (١) سبع طرائق: كناية عن السموات السبع وكون بعضها فوق بعض من التطارق. وفي سورة الملك جاء الوصف بعبارة أوضح الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً.
(٢) شجرة تخرج من طور سيناء: الجمهور على أنها شجرة الزيتون.
(٣) صبغ: بمعنى الإدام.
في هذه الآيات تقريرات أخرى عن مشاهد قدرة الله في الكون وعنايته بالخلق الذي خلقه وأفضاله على الناس فيما جعل لهم فيه من منافع ويسره من وسائل:
١- فقد خلق فوق الأرض سبع سموات بعضها فوق بعض.
٢- ولم يغفل عن تهيئة أسباب الحياة للخلق الذي خلقه على الأرض حيث ينزل الماء من السماء بقدر وحساب فيسكنه في الأرض لينتفع الناس به في حين أنه قادر على إفنائه، وحيث ينشىء لهم به شجر النخل والعنب وما يجني الناس منه من الفواكه الكثيرة ويأكلونها. وينشىء لهم به أيضا شجرة الزيتون التي تنبت في طور سيناء وتثمر الثمرة التي فيها الدهن والإدام. وحيث سخّر الله للناس الأنعام ليشربوا ألبانها ويأكلوا لحومها ويركبوا عليها ويحملوا أثقالهم وينتفعوا بها شتّى الانتفاعات.
وحيث سخّر الفلك لهم لتجري في البحر فيقوموا عليها بالرحلات البحرية
والآيات معطوفة على ما سبقها ومتصلة بموضوعها كما هو المتبادر وقصد التذكير والوعظ فيها واضح كما هو شأن ما سبقها أيضا.
وفي استمرار الخطاب للمخاطبين وهم من بني آدم وتذكيرهم بنعم الله عليهم مع أن من هذه النعم ما يستفيد منه غيرهم من الحيوانات توكيد وتدعيم لما قلناه قبل قليل في هدف ومدى جملة ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ كما هو المتبادر.
تعليق على تخصيص طور سيناء بشجرة الزيتون
وشجرة الزيتون ليست محصورة في طور سيناء كما هو معلوم. وكانت تنبت في بلاد كثيرة أخرى منها ما يجاور طور سيناء أي فلسطين ومنها ما لا يجاوره مثل سواحل شمال إفريقيا وسواحل جنوب أوروبا الشرقية وجزر الأبيض المتوسط. بل كانت تنبت في الحجاز على ما تلهمه آيات سورة الأنعام هذه: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) ووَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [١٤١].
والذي يتبادر لنا أن تخصيص طور سيناء بها آت من أن العرب الذين كانوا أول من يسمع القرآن يعرفون أن منطقة طور سيناء وما جاورها هي منابت الزيتون في الدرجة الأولى. ولعلهم أتوا منها بالغراس التي غرسوها في بلادهم حينما كانوا يرحلون رحلاتهم التجارية فيمرون في هذه المنطقة في طريقهم إلى مصر وعودتهم منها.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
. (١) يتفضّل عليكم: هنا بمعنى يتظاهر بالفضل والتفوّق عليكم.
(٢) بأعيننا ووحينا: بحراستنا وعنايتنا وإرشادنا.
(٣) وإن كنا لمبتلين: ولم نكن بما فعلنا إلّا مختبرين للناس.
هذه حلقة من سلسلة قصصية فيها ذكر بعض الأنبياء مع أقوامهم. ومع أنها لم تجىء عقب حكاية مواقف الكفار جريا على الأسلوب القرآني فإنها جاءت عقب التذكير بمشاهد قدرة الله وأفضاله على الناس. وهذا معنى غير منقطع عن ذلك.
والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها عقب ذلك لبيان مواقف بعض الأمم من نعم الله وأفضاله.
والقصة قد تكررت في سور عديدة مسهبة ومقتضبة وما جاء هنا قد جاء في سورة هود خاصة مع تفصيل أوسع. وهدف التذكير والوعظ والإنذار وهو هدف القصص القرآنية عامة بارز على هذه الحلقة. ويلفت النظر إلى ما في أقوال قوم نوح لنبيهم وما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها من أقوال الكفار العرب للنبي ﷺ مثل التحدي بالإتيان بالملائكة ومثل قولهم إن به جنة وتواصيهم بالتربص به حتى يموت إلخ من تماثل حيث استهدف بذلك تذكير كفار العرب بما كان من موقف قوم نوح من نبيهم المماثل لموقفهم وما كان من عاقبة هؤلاء وإنذارهم بعاقبة مماثلة إذا لم يرتدعوا ويرعووا.
والآية الأخيرة بمثابة تعقيب على القصة وهدف الإنذار فيها بارز أيضا. فالله يرسل رسله لاختبار الناس ويعاملهم بما يكون من نتائج هذا الاختبار.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ الى ٤٤]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
(٢) هيهات هيهات: ما أبعد ذلك.
(٣) الصيحة: كناية عن عذاب الله وهي عامة المعنى.
(٤) غثاء: ما يحمله السيل من الحشائش الجافة والأوراق الساقطة والأغصان المكسورة. والكلمة كناية عما صاروا إليه بعد عذاب الله من دمار وتحطيم.
(٥) تترى: واحدا بعد واحد.
(٦) جعلناهم أحاديث: جعلناهم عبرة يتحدث الناس عنهم بعدهم.
لم تتضمن هذه الآيات أسماء أنبياء وأقوام. ولكن عبارتها تلهم أنها تعني أقوام هود وصالح وشعيب وغيرهم ممن ذكرتهم سلاسل القصص في السور الأخرى.
وعبارتها واضحة. وهدف التذكير والعظة والتنديد والإنذار فيها بارز في جملتها ثم فيما احتوته من تماثل بين أقوال الأقوام لرسلهم وما حكته آيات عديدة من أقوال كفار العرب للنبي ﷺ مثل كونه بشرا مثلهم ومثل كون ما يعدهم من البعث بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما مستحيلا ومثل أنه يفترى على الله الكذب إلخ.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)
. (١) قوما عالين: بمعنى متعالين عن الرسل الذين جاءوهم.
وهذه الآيات حلقة من السلسلة. وعبارتها واضحة هي الأخرى. وفيها إشارة إلى رسالة موسى وهرون عليهما السلام لفرعون وقومه وما كان من إيتاء الله تعالى موسى الكتاب لعلهم يهتدون به. وما كان من استكبارهم واستعلائهم وتبجحهم باستبعاد قوم موسى وهرون وتكذيبهم لهما لأنهم بشر مثلهم فضلا عن ذلك وما كان من إهلاك الله لهم.
وقد استهدفت هي الأخرى التذكير والإنذار كما استهدفته الحلقات السابقة على ما هو باد من أسلوبها.
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٠]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
. (١) الربوة: المكان المرتفع النزه.
(٢) معين: نبع لا ينضب.
في هذه الآية إشارة إلى معجزة الله تعالى في عيسى وأمه المتمثلة في ولادته من أمّ لم يمسسها بشر. وما كان من عناية الله بهما وإيوائهما مأوى أمينا في ربوة ذات مياه لا تنضب.
والصلة ملموحة بين هذه الآية وسلسلة القصص على ضوء الآيات القرآنية التي ذكرت ولادة عيسى ورسالته وموقف الناس منهما حيث كانت تلك المعجزة اختبارا للناس فمنهم من كفر بها ومنهم من آمن ومنهم من أساء فهمها وتأويلها، وحيث كانت رسالة عيسى لقومه فمنهم من آمن بها ومنهم من كفر كذلك على ما حكته آيات قرآنية عديدة مرّت أمثلة عديدة منها.
ولقد تعددت الأقوال في مكان الربوة الموصوفة بالقرار والمعين فقيل عزوا إلى كعب الأحبار وبعض التابعين إنها الرملة وإنها بيت المقدس وإنها مصر وإنها
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
. المتبادر أن الآيتين قد جاءتا بمثابة تعقيب على السلسلة: فقد أمر الله فيهما الرسل أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا الصالحات وأن يثبتوا على الطريق الحقّ وأن لا يخشوا ويتقوا إلّا الله وأن يتيقنوا أن الذي دعوا إليه واحد والطريقة التي وصوابها واحدة وأنهما لا يتحملان تعددا ولا اختلافا.
وقد قال بعض المفسرين إن الخطاب في الآيتين موجه إلى النبي وإن جاء بصيغة الجمع «٣» وقد لا يخلو القول من وجاهة تؤيدها صيغة المخاطب. على أن توجيه الخطاب إلى الرسل جميعهم هو توجيه معنوي بقصد تقرير وحدة أهداف رسالات الأنبياء للناس وتقرير وحدة جوهر الشرائع الإلهية التي من جملتها إحلال
(٢) الإصحاح الثاني.
(٣) انظر تفسير البغوي. [.....]
ولقد روى المفسرون «١» في سياق هذه الآيات حديثا نبويا رواه مسلم والترمذي في فصل التفسير من كتابيهما في سياق تفسير سورة (المؤمنون) جاء فيه:
«إنّ أبا هريرة قال: قال رسول الله ﷺ يا أيّها الناس إن الله طيّب ولا يقبل إلّا طيبا وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١). وقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: ١٧٢] قال وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك». حيث ينطوي في الحديث تفسير وتوضيح نبويّان يفيدان أن الخطاب في الآيتين ليس قاصرا على الرسل وإنما هو موجّه إلى أممهم وبخاصة الذين آمنوا بهم وبنوع أخص أمة آخر الأنبياء محمد ﷺ الذي صار على جميع الأمم السابقة اتّباعه وإن الذين ينحرفون عن ذلك إلى الحرام وغير الطّيّب في المأكل والمشرب والملبس يكونون منحرفين عن طريق الله الحقّ مما احتوت تقريره آيات كثيرة مكيّة ومدنيّة مرّت أمثلة منها ومما فيه تلقين جليل مستمر المدى بالإضافة إلى ما في الآيتين من تلقين جليل في تقرير وحدة الطريقة التي سنّها الله تعالى لرسله والمرسلين إليهم وإيجابه التزام الصالحات والتقوى عليهم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
. (١) فتقطعوا: تفرقوا.
(٣) غمرتهم: جهالتهم أو غفلتهم أو حيرتهم.
في الآيات:
١- إشارة تنديدية إلى ما صار إليه الناس: فقد تفرقوا واختلفوا وتعددت كتبهم وأهواؤهم وفرقهم واعتدّ كل فريق بما هو عليه وظنّه الحقّ.
٢- وأمر للنبي بأن لا يبالي بذلك وأن يدع من لا يريد الارعواء مرتكسا في غفلته وجهالته إلى الحين الذي يعلمه الله.
٣- وسؤال تنديدي عمّا إذا كان هؤلاء يظنون أن ما يتمتعون به من كثرة المال والولد هو اختصاص تكريمي لهم من الله بإغداق نعمه وخيراته.
٤- واستدراك تبكيتي بأنهم مخطئون في هذا الظنّ وأنهم لا يعرفون حقيقة الأمر.
ولقد ورد في آيات أخرى أن الله تعالى يملي للكفار بما يمدهم به من مال وبنين ليستدرجهم وليكون لهم فتنة واختبارا وأن كيده متين كما جاء في آية سورة القلم [٤٣- ٤٤] وسورة الأعراف [١٨٢- ١٨٣] وسورة طه (١٣١) التي مرّ تفسيرها حيث يتبادر أن في هذه الآيات توضيحا لما احتواه الاستدراك التبكيتي في جملة بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) في الآية الأخيرة.
والآيات معقبة على ما قبلها أيضا. والضمير الغائب راجع إلى المنحرفين عن الأمة أو الطريقة الواحدة التي شرّعها الله للناس بواسطة أنبيائه وإلى الكفار
والأمر للنبي ﷺ بترك الكفار في غمرتهم تعبير أسلوبي تكرر في القرآن بمعناه. ولا يعني طبعا ترك إنذارهم كما قلنا في المناسبات السابقة. والراجح أنه ينطوي على تسلية النبي ﷺ عن عناد الكفار ومكابرتهم واستغراقهم في ضلالهم.
وفي الآيات صورة لما كان من مباهاة الكفار بأموالهم وأولادهم واعتدادهم بذلك وحسبانهم إياه دليلا على عناية الله بهم وادعائهم بأنهم على حقّ بما هم عليه. ولقد حكت ذلك عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها مما يدل على أنهم كانوا يسوقونه من حين إلى آخر في معرض الجدل والمماراة.
ولقد أورد ابن كثير على هامش هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رسول الله ﷺ إنّ الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم. وإنّ الله يعطي الدنيا لمن يحبّ ومن لا يحبّ. ولا يعطي الدين إلّا لمن أحبّ. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه. والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قالوا وما بوائقه يا رسول الله قال غشمه وظلمه. ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدّق به فيقبل منه. ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده النار.
إنّ الله لا يمحو السيّء بالسّيئ ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث».
وفي الحديث الرائع صورة من صور الوعظ والتنبيه النبوي متساوقة مع التلقين الجليل الذي انطوى في الآيات وبخاصة في بيان كون ما تيسر للإنسان من مال في الدنيا ليس دليلا على رضاء الله عنه وحظوته لديه إذا كان الإنسان منحرفا عن طريق الله الحق.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)
. (١) وهم لا يظلمون: الجملة في مقامها في معنى لا ينقص شيء مما يستحقه الإنسان على عمله.
عبارة الآيات واضحة. وهي بمثابة استدراك لما سبقها. فالوصف السابق هو للكفار المنحرفين عن دين الله الذي بعث الله به رسله والذين لا يرعوون ولا يرتدعون ويتمسكون بما هم فيه من باطل ويعتدون به ويظنون بالله غير الحق.
وهناك فريق من الناس اتبعوا دين الله الحق فآمنوا بالله وخافوا وفعلوا ما أمروا به من الخير. ولم يشركوا به شيئا. وتيقنوا بأنهم راجعون إليه. فهؤلاء هم السابقون إلى الخيرات النائلون لرضاء الله.
والمتبادر أن الآية الأخيرة بمثابة استدراك على ما في الآيات: فالله إذ يبين صفة المؤمنين المستحقين لرضائه بإيمانهم وأعمالهم الصالحة وخوفهم منه ويثني عليهم لا يكلف نفسا إلّا وسعها ولا يطلب من أحد إلّا ما هو قادر على فعله وهو مسجل لهم أعمالهم في كتاب ينطق بالحق دون أن ينقص لهم منهم شيئا.
وفي هذا توكيد للمبدأ القرآني المحكم الجليل الذي شرحناه في سياق سورة الأعراف.
هذا، ولقد روى الترمذي «١» حديثا عن عائشة رضي الله عنها: «أنها سألت رسول الله ﷺ عن الآية وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصدّيق، ولكنهم الذين يصومون
حيث ينطوي في الحديث توضيح نبوي متساوق مع التلقين الجليل المنطوي في الآيات لما للخوف من الله والمصير الأخروي من أثر في نفس المؤمن بالله واليوم الآخر فيجعله يبذل كل جهده في عمل الخير والتقرّب إلى الله بصالح العمل واتقاء غضبه بالابتعاد عن كل منكر وإثم. ويبدو من خلال ذلك الحكمة الربانية في تكرار التنبيه في القرآن على أن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يتورعون عن ارتكاب الآثام والفواحش في الدرجة الأولى وفي كون الإيمان بالله واليوم الآخر والترهيب من هوله والترغيب في النجاة فيه من أهم ما اهتمّ القرآن لتوكيده وتقريره.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
. (١) أعمال من دون ذلك: أعمال غير تلك الأعمال التي ترضي الله وذكرت فيما سبق.
(٢) هم لها عاملون: قال الطبري والبغوي في معناها: لا بد من أنهم لها عاملون. وقال الزمخشري الجملة بمعنى هم عليها معتادون ونحن نرجّح هذا لأنه متّسق مع روح الآيات وفحواها.
(٣) يجأرون: يضجون ويصيحون من البلاء.
(٤) سامرا: السمر تبادل الأحاديث وتمضية السهرة بلهو وفكاهة، والسامر هو الذي يسمر ويلهو.
(٥) تهجرون: من المفسرين من قال إنها من الهجر بمعنى الترك والإهمال.
في الآيات عودة إلى بيان حقيقة المنحرفين الكفار وأعمالهم وإنذار لهم:
١- فقلوبهم غافلة عن الاستشعار بخوف الله وما يجب عليهم نحوه.
٢- وأعمالهم غير تلك التي ترضي الله والتي سبق وصفها وسيظلون مرتكسين فيها لا يدعونها لأنهم معتادون عليها إلى أن يحلّ فيهم عذاب الله وحينئذ فقط يدركون خطأهم فيأخذون بالعويل والاستغاثة. وسيقال لهم حينئذ لا تضجوا ولا تصخبوا ولا تعولوا فلن يفيدكم ذلك شيئا. ولن يكون لكم ناصر من الله.
لأنكم كنتم كل ما تليت عليكم آياته ولّيتموها ظهوركم ونكصتم على أعقابكم استكبارا عن سماعها وعنادا.
أما الآية الأخيرة فقد اختلف في تأويلها بسبب الاختلاف في ضمير (به) حيث أرجعه بعضهم «١» إلى القرآن فقالوا إنها بصدد التنديد بالكفار لاستكبارهم عن القرآن وهجرهم إياه وتمضية أوقات السمر بالسخرية به. وحيث أرجعه بعضهم «٢» إلى النبي ﷺ وقالوا إنها بصدد التنديد بهم لاستكبارهم وهجرهم دعوة النبوة وتأليبهم عليه في أسمارهم ونبزهم إياه بالقول الفاحش وحيث أرجعه بعضهم إلى الحرم واعتدادهم بأنهم أهله وهجرهم النبي فيه.
وقد تبادر لنا تأويل آخر وهو التنديد بالكفار لهجرهم النبي وما يتلوه من القرآن استكبارا كأنما يهجرون سامرا يتحدث باللهو والأفاكيه. ولعل في الآيات التالية قرينة على وجاهة هذا التأويل إن شاء الله.
والاتصال قائم سياقا وموضوعا بين الآيات وبين سابقاتها كما يظهر من التمعّن فيها.
وقد قال بعض المفسرين إن العذاب الذي يجأر منه الكفار هو ما حلّ بزعماء
(٢) المصدر نفسه.
والمتبادر أن اختصاص المترفين بالعذاب في الآيات هو من باب تخصيص هؤلاء بالإنذار لأنهم هم الذين يضغطون على الناس ويجعلونهم يحذون حذوهم في الكفر والإعراض. وبخاصة أنهم موضوع الكلام في الآيات [٥٣- ٥٦].
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٨ الى ٧٤]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
. (١) ذكرهم: هنا بمعنى التذكير والتنبيه والعظة.
(٢) خرجا: بمعنى أجرا أو نفقة أو ضريبة.
(٣) ناكبون: منحرفون.
في هذه الآيات:
أولا: أسئلة تتضمن التنديد والتقريع عن أسباب موقف الكفار من النبي ودعوته:
١- فهل لم يترووا ويتدبروا فيما يسمعون من آيات الله وأقوال النبي فلم
٢- وهل رأوا أن ما جاءهم بدع لم يسبق أن أتى مثله لآبائهم فوقفوا منه موقف المستغرب المنكر.
٣- وهل لا يعرفون شخص نبيهم الذي يدعوهم معرفة قريبة وكافية حتى ينكروه ويتجاهلوه ويعرضوا عنه ويتهموه بالجنون أو الاتصال بالجنّ؟
٤- وهل طلب منهم أجرا أو ضريبة حتى يتهموه ويحملوا دعوته على محمل الغرض والمنفعة الشخصية؟.
وثانيا: ردود قارعة عليهم:
١- فليس النبي مجنونا ولا متصلا بالجنّ وإنما جاءهم بالحقّ من الله على التأكيد.
٢- وإن وقوفهم منه الموقف الذي وقفوه هو بسبب كراهية أكثرهم للحقّ وعدم اتساق الحق مع أهوائهم.
٣- وإن الله تعالى لا يمكن أن يجعل الحق خاضعا للهوى لأن في ذلك فسادا للكون أرضه وسمائه وما فيهما.
٤- وإن ما أنزله الله على رسوله هو ذكر وموعظة لهم وهم يستكبرون عن سماع الذكر والموعظة.
٥- وإن الله هو خير الرازقين وإن النبي ليعرف ذلك فلا يعقل أن يطلب منهم أجرا ولا جزاء لأنه يعرف أن أجر ربه هو خير.
٦- وإن النبي إنما يدعوهم إلى الطريق القويم الذي ينجو من يسير فيه ويسعد.
٧- وإن الكافرين بالآخرة لا يلبّون الدعوة، وينحرفون عن مثل ذلك الطريق لأنهم لا يحسبون حساب الوقوف بين يدي الله.
تعليقات على محتويات الآيات
١- لقد تعددت تخريجات المفسرين لمدى الآية الأولى منها أنها بسبيل استنكار كفر الكافرين لأن ما جاءهم ليس بدعا وأنه قد جاء لآبائهم من قبل.
ومنها أنها بسبيل استنكار كفرهم لأن الله قد اختصهم دون آبائهم بنعمته فأرسل إليهم رسوله لهدايتهم «١». والعبارة تتحمل التخريجين. ومع ذلك فإن في كل منهما إشكالا بسبب آيات في سور أخرى. ففي سورة يس هذه الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) وتكرر هذا في آيتي سورتي السجدة والقصص هاتين:
١- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة: ٣].
٢- وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: ٤٦].
هذا في حين أنه جاء في سورة النمل هذه الآية: لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [٦٨] وتكرر هذا في سورة (المؤمنون) على ما يأتي بعد قليل.
ونحن نرجّح التخريج الأول. وفي صدد الإشكال الوارد عليه يجوز أن يقال إن آيات سور يس والسجدة والقصص قد قصدت الزمن القريب بينما آيتا سورتي النمل والمؤمنون قد قصدتا الزمن البعيد. وفي الزمن البعيد الذي كانوا يتداولون أخباره جيلا بعد جيل أنبياء عديدون من جزيرة العرب أو حلّوا فيها وقد ذكروا في
إن الآية الثانية تلهم أن النبي ﷺ كان معروفا عند قومه بنبل الخلق ورجاحة العقل وكرم المنبت قبل البعثة وهو ما ثبت بالروايات الوثيقة ومنها قول خديجة رضي الله عنها الذي وجهته إليه في معرض تثبيته حينما أوحي إليه لأول مرة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها حيث قال لها: «لقد خشيت على نفسي فقالت له كلّا والله ما يخزيك الله أبدا. إنّك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحقّ» «١». ثم في الحديث الذي رواه الطبري عن عبد الله بن الزبير حيث قال لها إني خشيت أن أكون شاعرا أو مجنونا فقالت له: «إني أعيذك من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك» «٢».
حيث تضمنت استنكارا لموقفهم منه وهم يعرفونه حقّ المعرفة فيعرفون أنه لا يمكن أن يكذب أو يفتري أو يسخف أو يسفّ أو يلهو أو يتدخل فيما لا يعنيه أو يسعى وراء غرض ومنفعة ذاتية «٣». وفي تفسير البغوي قول لابن عباس في معنى الآية جاء فيه: «أليس قد عرفوا محمدا ﷺ صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود؟».
٣- وإن في أسلوب الآية الثالثة قرينة على أن نسبة الكفار الجنون إلى النبي هي نسبة أسلوبية إلى من يأتي بالشيء الجديد والرأي الغريب حيث تضمنت تصحيحا لوصف ما جاء به وهو الحقّ ولا يصحّ لمن جاء بالحق أن يوجه إليه الجنون أو يوقف منه موقف المستغرب.
(٢) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٧- ٤٨.
(٣) انظر أيضا تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي وابن كثير والطبري.
٥٧] فإنه يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تكرر نوعها في القرآن مثل وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [النحل: ٨٣] ووَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة: ١٠٣] وأَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: ٥٧] إلخ.
ونقول هنا أيضا إن جملة وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وما في بابها إنما كانت تسجيلا لواقع سامعي القرآن حين نزول الآيات بدليل أن أكثر من نعتوا بها قد آمنوا وحسن إسلامهم وحظوا برضا الله ورضوانه.
وجملة وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ جليلة المدى عامة التلقين في إيجاب التزام الحقّ واتباعه وعدم تغليب الهوى والميول والأنانية والمآرب الخاصة عليه لما في ذلك من فساد كون الله وأهله.
هذا، ولقد أورد ابن كثير على هامش الآية وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ حديثا رواه الحافظ أبو يعلى بطرقه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «قال رسول الله ﷺ إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني.
تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب. فأوشك أن أرسل حجزكم. وأنا فرطكم على الحوض فتردون عليّ معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال فأناشد فيكم ربّ العالمين أي ربّ قومي أي ربّ أمتي فيقال يا محمّد إنك لا تدري ما
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
. (١) لجّوا: تمادوا.
(٢) استكانوا: استذلوا وخضعوا.
وهذه الآيات استمرار للحملة الإنذارية والتنديدية السابقة على الكفار: فهم مصرون على عنادهم وجحودهم في حالتي سرائهم وضرائهم. فإذا كانوا في حالة اليسر والرغد حسبوا ذلك اختصاصا وتكريما من الله ودليلا على أنهم على حقّ في
وسيظلون على موقفهم إلى أن يفتح الله عليهم بابا ذا عذاب شديد. غير أن هذا الباب حينما يفتح عليهم يكون وقت الندم والتوبة قد فات وأصبحوا في موقف اليائس من رحمة الله.
وقد قال المفسرون «١» إن الآية الثانية تضمنت الإشارة إلى القحط والجوع الذي أصاب أهل مكة حتى أكلوا القدّ والعظام والذي كان بدعوة النبي ﷺ في ظرف اشتدّ غضبه عليهم لاشتداد عنادهم وأذاهم. ورووا أن أبا سفيان جاء إلى النبي فناشده الرحم وقال له: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى، قال: فادع الله أن يكشف عنّا هذا القحط. فدعا فكشف عنهم فظلوا على عنادهم وجحودهم فنزلت الآيات منددة بهم. وقد ذكروا وأوردوا الرواية في سياق سورة الدخان أيضا على ما شرحناه في سياق تفسير السورة المذكورة.
وصيغة الآية تلهم صحة رواية إصابة أهل مكة ببلاء رباني وكشفه عنهم. غير أننا نتوقف في رواية مجيء أبي سفيان إلى النبي ومناشدته الرحم وطلبه الدعاء لله بكشف البلاء لأن هذا يستلزم أن يكون مؤمنا بصحة نبوّة النبي وهو ما لم يكن.
على أن من الممكن أن يكون النبي قد رأف بقومه حين رأى ما أخذهم من جهد فدعا الله مؤملا أن يكونوا قد اتعظوا ورقّت قلوبهم فكشف عنهم البلاء، فلما ظلوا مصرّين على كفرهم وطغيانهم ندّد الله بهم هذا التنديد وأنذرهم بعذاب لا يكون لهم فيه باب رحمة وتوبة.
ولا نرى هذا متعارضا مع تقريرنا أن الآيات استمرار للحملة السابقة لأن ذلك ملموح بقوة. وعطف الآيات على ما سبقها واستعمال ضمير الجمع الغائب
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن باب العذاب الشديد الذي أنذرت به الآية الثالثة هو وقعة بدر. وهذا ما روي أيضا في سياق تفسير جملة يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى [١٦] في سورة الدخان. ولقد روى ذلك البغوي أيضا ثم قال وقيل إنه الموت وقيل إنه قيام الساعة. وقد قال ابن كثير إنه عذاب الآخرة. ونحن نرجّح هذا لأنهم يكونون يوم القيامة يائسين مبلسين. والله أعلم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٨ الى ٨٠]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)
. الآيات موجهة للسامعين بصيغة الجمع المخاطب في معرض التذكير والتنديد: فالله هو الذي أنشأ فيهم قوى السمع والبصر والعقل فكان ينبغي عليهم أن يشكروه على هذه النعم باستماع الحق ورؤية الحق وإدراكه بعقولهم. ولكنهم قلّ أن يفعلوا ذلك. وهو الذي خلقهم ونمّاهم في الدنيا وإليه مرجعهم في الآخرة.
وهو الذي يحيي ويميت وهو الذي قدّر الليل والنهار ليخلف أحدهما الآخر. فهلا تعقّلوا وأدركوا قدرته عليهم وانتهوا من غفلتهم وعدم حسبانهم العاقبة؟.
وأسلوب الآيات يسوغ القول إن الخطاب موجّه بخاصة إلى الكفار. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا في الحملة التنديدية والإنذارية السابقة لها.
وقد يلحظ أن مثل هذه الآيات قد تكرر أكثر من مرة حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرارها بأساليب متنوعة لتكرر المواقف المماثلة أو تجددها، شأن معظم القصص القرآنية بل وكثير من الفصول الحجاجية أو التي احتوت التنبيه على مشاهد عظمة الله وقدرته في خلقه وكونه.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨١ الى ٨٣]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣). في الآيات حكاية استدراكية لما كان الكفار يقولونه كلّما تكرر إنذارهم بالبعث والجزاء الأخرويين حيث كانوا يتساءلون بأسلوب المستنكر المرتاب كما كان يفعل الكافرون من الأمم السابقة عما إذا كانوا حقّا يبعثون بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما. ثم يتبعون تساؤلهم بقولهم إنهم أوعدوا بهذا هم وآباؤهم من قبل وليس هو إلّا من قصص الأولين وأساطيرهم.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو واضح. وبدء الآيات بحرف الاستدراك قد يلهم أن الآيات تحكي موقف مناظرة وجدل بين النبي ﷺ والكفار من نوع المواقف الكثيرة التي تكررت حكايتها في فصول عديدة.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٩]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
. (١) يجير: يحمي من يستجير به وينصره.
(٢) يجار عليه: لا يجرأ أحد على إجارة من غضب عليه وحمايته.
(٣) فأنّى تسحرون: فكيف تنخدعون وتتبعون الأوهام دون الحقائق.
في الآيات أوامر للنبي عليه السلام بتوجيه بعض الأسئلة الاستنكارية للكفار وحكاية لما سوف تكون أجوبتهم بقصد الإفحام والإلزام والتنديد بهم وإثبات أن الله تعالى قادر على بعثهم بعد الموت الذي ينكرونه. وعبارتها واضحة. وهي
والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها كذلك سياقا وموضوعا. ولعلها بسبيل استمرار لحكاية موقف المناظرة والجدل الذي تلهمه الآيات السابقة لها مباشرة.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
. في الآيات استدراك تقريري بمثابة ردّ آخر على الكفار:
١- فالقرآن إنما جاء بالحقّ وهو تقرير الربوبية لله وحده.
٢- وهم كاذبون في نسبة الولد والشريك له لأنه ليس في حاجة إلى ولد أولا، ولو كان معه شريك لتنازع معه الملك والخلق ولعلا أحدهما على الآخر وهو محال في العقل والمنطق ثانيا. فتقدّس الله وتنزّه عمّا يصفونه به وينسبونه إليه وهو المحيط علمه بكل شيء ما ظهر وما خفي، وما مضى وما حضر، وما هو في المستقبل الغائب، وتعالى عن كل ما يشركه معه المشركون.
والآيات متصلة بالسياق اتصالا وثيقا كما هو واضح. والردّ الذي احتوته على ما يفترض أن المشركين يقولونه من أنهم يعترفون بالله وقدرته وربوبيته ومن أنهم إذا أشركوا معه غيره فإنما يشركونه للشفاعة. وفي الردّ أسلوب برهاني منطقي من شأنه إفحام المكابر المجادل كما هو المتبادر.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٨]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
١- أمر للنبي ﷺ بأن يدعو الله أن يرزقه السلامة والنجاة وأن لا يجعله في القوم الظالمين إذا أبقاه حيّا حتى يريه تحقيق ما يوعد الله به الكفار.
٢- وتقرير رباني بأن الله قادر أن يريه تحقيق ذلك.
٣- وأمر ثان للنبي بأن لا يغتمّ لموقفهم وأن يقابله بالصبر والغضّ والدفع بالتي هي أحسن انتظارا لتحقيق وعد الله. فالله عليم كل العلم بحقيقة حالهم ومعتقداتهم.
٤- وأمر ثالث بأن يستعيذ بالله من وساوس الشياطين ونفثاتهم ومخالطتهم في أموره وأفكاره.
والمتبادر أن الآيات وبخاصة الأربع الأولى منها متصلة بالسياق وبخاصة بالآيات [٧٥- ٧٧] التي احتوت تنديدا بموقف الكفار بعد ما كشف الله عنهم البلاء وإنذارا لهم بالعذاب الأشدّ وأن الآيات التي جاءت بعدها جاءت في معرض الاستطراد مما جرى عليه أسلوب النظم القرآني.
والآيتان الأخيرتان غير منقطعتين عن الموضوع والموقف. وقد استهدفتا بثّ الطمأنينة والسكينة في قلب النبي ﷺ وحثّه على الالتجاء إليه كما ألمّت به الأزمات النفسية وساورته الهواجس والوساوس من جرّاء موقف قومه العنيد.
ولقد تكرر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان ونزغاته مما هو متصل بالحقيقة الإيمانية المغيبة عن الشيطان ووساوسه على ما شرحناه في مناسبات سابقة. ونرى أنه يجب الوقوف في هذا الأمر عند ما وقف القرآن دون تزيد مع ملاحظة أن الشيطان ودوره مما كان مفهوما مسلما به عند السامعين ومع ملاحظة ذلك الهدف الذي استهدفته وهو بثّ السكينة والطمأنينة في قلب النبي والمؤمنين
ولقد شرحنا مدى احتمال تعرض النبي ﷺ لهزات الشيطان ونزغاته التي أمر النبي ﷺ في الآية [٩٨] بالاستعاذة بالله منها في سورة الأعراف فلا نرى ضرورة للإعادة أو الزيادة.
وفي جملة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ توكيد للمبدأ القرآني المحكم في صدد الدعوة إلى سبيل الله وفي صدد معاملة الناس بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار.
ولقد قال بعض المفسرين إن هذه الجملة قد نسخت بآية القتال أو السيف «١» كما قالوا ذلك بالنسبة للجمل المكية المماثلة. ومع صواب ذلك بالنسبة للأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين على ما قلناه في المناسبات السابقة فإن هذا ليس من شأنه نقض ذلك المبدأ القرآني المحكم المنطوي في الجملة بالنسبة لسلوك المسلمين تجاه بني ملّتهم وتجاه غيرهم من الموادين المسالمين.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
. (١) برزخ: حاجز مانع.
(٢) لا يتساءلون: لا يستطيع أحد منهم أن يسأل أحدا معونة أو نصرا.
في الآيات تقرير في معرض الإنذار والتبكيت عما سوف يكون عند موت الكفار وبعده: فحينما يأتي الموت كافرا يستشعر بالخوف والندم ويلتمس من الله إعادته للحياة ليعمل صالحا ويتلافى فيها ما سبق منه. ولكن هذا لن يجديه نفعا.
ولن يكون إلّا كلمة تذهب في الهواء لأن بينه وبين العودة قام حاجز مانع إلى أن يبعث الله الناس من قبورهم وحينما ينفخ في الصور ويخرج الناس من قبورهم تنقطع بينهم دعوى الأنساب والعصبيات ولا يكون للناس إلّا أعمالهم. ولا يستطيع أحد أن يسأل نصرا مهما كانت روابط النسب والعصبية وشيجة بينهم. فالذين تثقل موازينهم بالإيمان والعمل الصالح هم الفائزون السعداء، والذين نخفّ موازينهم بالكفر وسيء العمل هم الخاسرون الخالدون في جهنم. تلفح وجوههم النار وتكلح من شدّتها.
وواضح أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. والإنذار للكفار فيها رهيب. وقد استهدفت فيما استهدفته حملهم على الارعواء قبل فوات الوقت كما هو المتبادر.
ولقد شرحنا مدى ثقل الموازين وخفتها يوم القيامة في مناسبات سابقة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد روى الترمذي في سياق تفسير الآية الأخيرة حديثا عن أبي سعيد الخدري (رض) عن النبي ﷺ قال: «وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال تشويه النار فتقلص شفته العالية حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرّته» «١».
وأورد ابن كثير حديثين آخرين في سياقها منهما حديث رواه ابن أبي حاتم بطرقه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «إنّ جهنّم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم سقط على العرقوب». وحديث رواه ابن مردويه
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٥ الى ١١١]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)
. في هذه الآيات حكاية لمحاورة مفروض وقوعها بين الله تعالى والكفار، حيث يخاطبهم الله بعد أن يصيروا إلى النار بأسلوب التقريع عمّا إذا لم يكونوا قد نالوا ما يستحقونه لأنهم كانوا يكذبون بآياته كلما كانت تتلى عليهم. ولسوف يجيبون بأن روح الإثم والشقاء قد تغلبت عليهم فضلوا عن طريق الهدى ثم يلتمسون إخراجهم من النار معلنين توبتهم على أن يكونوا إذا عادوا ظالمين مستحقين أشدّ العذاب. فيردّ الله عليهم أن اخسأوا ولا تراجعوني بكلام. فقد كان فريق من عبادي الصالحين المخلصين يتجهون إليّ ويطلبون مني وحدي الغفران والرحمة فاتخذتموهم موضوع هزء وسخرية وكنتم تضحكون منهم واستغرقتم في ذلك حتى نسيتم ذكري. ولقد جزيتهم اليوم بسبب ثباتهم على إيمانهم وعملهم الصالح وصبرهم على ما لحق بهم منكم من الأذى والسخرية فكانوا الفائزين السعداء.
والآيات استمرار في السياق والموضوع السابقين كما هو ظاهر. والإنذار والتنديد فيها قويان مفحمان، وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء وهم في فرصة الدنيا، مع الثناء على المؤمنين وتطمينهم وتبشيرهم وبخاصة الفقراء والمساكين منهم الذين كانوا
وبعض المفسرين «١» قالوا في صدد جملة قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا الشقاء الذي كتبه الله عليهم. وروح الآيات وفحواها لا تساعدان على هذا التأويل كما لا تساعد عليه التقريرات القرآنية المحكمة التي تتضمن أن الله هدى الناس إلى طريق الخير والشر وآتاهم قابلية التمييز والاختيار بينهما على ما شرحناه في مناسبات عديدة.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٦]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
. في الآيات استمرار في حكاية المحاورة المفروضة: فلسوف يسأل الله الكفار عن مقدار ما لبثوا في الدنيا فيجيبون أن ما لبثوه لم يكد يتجاوز يوما أو بعض يوم فيما يخيل إليهم وأن الأولى أن يسأل عن ذلك الموكلين بالعد والإحصاء. ولسوف يرد عليهم بأنهم لو عقلوا لعرفوا أنهم لم يلبثوا إلّا أمدا قصيرا حقّا. ولسوف يسألهم حينئذ عما كانوا يظنونه من ظنّ خاطئ بأنهم غير راجعين إليه ولا واقفين بين يديه. وبأن الله كان عابثا لا يستهدف غاية ولا حكمة من خلقهم في حين أن الله عز وجل تنزّه عن العبث وتعالى فهو الملك الحقّ الذي لا يقرر إلّا الحق ولا يفعل إلّا الحق ولا يتوخّى بفعله وقراراته إلّا الحق وهو ربّ العرش الكريم المتصرف المطلق في الكون.
والآيات استمرار في السياق والموضوع كما هو المتبادر. والمتبادر أن هذا القسم من المحاورة استهدف بيان تفاهة المدة التي يقضيها الكفار في الدنيا مغترين
ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال يا أهل الجنة لم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم. رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثم قال يا أهل النار لم لبثتم في الأرض عدد سنين. قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئس ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم.
ناري وسخطي امكثوا فيهما خالدين مخلّدين».
وينطوي في الحديث تبشير وإنذار نبويان متساوقان مع الهدف القرآني الذي نوّهنا به كما هو المتبادر.
ومع ما ذكرناه من صلة الآيات وهدفها ففيها وبخاصة في الآيتين الأخيرتين فيهما تلقين مستمرّ المدى موجه إلى الناس عامة في كل ظرف ومكان ليرعووا ويتّعظوا ويتجهوا نحو الله عز وجل مما تكرر وعرف منه أمثلة عديدة.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٧ الى ١١٨]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
. في الآية الأولى إنذار لكل من يدعو مع الله إلها آخر ويشركه معه في الاتجاه والعبادة بدون برهان. فحسابه عند ربه ولن يلقى فلاحا. وفي الآية الثانية أمر للنبي ﷺ بأن يطلب من الله الغفران والرحمة ويقرر له صفته الكمالية في الرحمة وكونه خير الراحمين.
وقد جاءت الآية الأولى كخاتمة للسياق السابق الذي حكى فيه مواقف الكفار
وطابع الختام المألوف في كثير من السور السابقة ظاهر عليهما أيضا. والآية الأخيرة ذات مغزى رائع في مقامها وإطلاقها.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن تعبير لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [١١٧] لا يمكن أن يعني أن هناك شركا قد يكون قائما على برهان وسائغا. وإنما هو تعبير أسلوبي يتضمن نفي قيام أي برهان على ذلك أولا والتشديد في التنديد لأن شرك المشركين لا يستند إلى أي تعليل في أية شبهة من حقّ ومنطق ثانيا. وقد تكرر هذا الأسلوب كثيرا ومرّت منه أمثلة عديدة.