تفسير سورة المؤمنون

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٢٣) سورة المؤمنون مكية وآياتها ثمانى عشرة ومائة
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
اللغة:
(اللَّغْوِ) : اللغو: كل من كان حراما أو مكروها أو مباحا لم تدع اليه ضرورة ولا حاجة، واللغو كل مالا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطراحه وكل مالا يعتد به.
(لِفُرُوجِهِمْ) : الفروج جمع فرج وهو من الإنسان العورة.
494
الإعراب:
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض والمؤمنون فاعل. (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الذين صفة للمؤمنون وهم مبتدأ وفي صلاتهم متعلقان بخاشعون، وخاشعون خبر «هم» والجملة صلة الذين، وقدم الجار والمجرور على متعلقه للاهتمام به وحسنه كون متعلقه فاصلة. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) والذين عطف على الذين وهم مبتدأ وعن اللغو متعلقان بمعرضون، ومعرضون خبر «هم» والجملة صلة الذين. (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) والذين عطف على الذين وهم مبتدأ وفاعلون خبر وللزكاة متعلقان بفاعلون وضمن فاعلون معنى مؤدون وقيل اللام زائدة في المفعول به لتقدمه على عامله.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) والذين عطف على ما تقدم وهم مبتدأ وحافظون خبر ولفروجهم متعلقان بحافظون. (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) إلا أداة استثناء وعلى أزواجهم في موضع الحال أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن قال الزمخشري: «من قولك كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان ونظيره كان زياد على البصرة أو واليا عليها ومنه قولهم: فلانة تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشا والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم أو تعلق «على» بمحذوف يدل عليه «غير ملومين» كأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه أو تجعله صلة لحافظين من قولك احفظ علي عنان فرسي على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك» وذهب الفراء الى أن «على» بمعنى «من» أي إلا من أزواجهم كما جاءت «من»
495
بمعنى «على» في قوله «ونصرناه من القوم»، وأو حرف عطف وما عطف على أزواجهم وجملة ملكت أيمانهم صلة وعبر بما دون «من» وان كان المقام لها لنقصهن لأنهن السراري والسرية: الأمة التي بوأتها بيتا وهي فعلية منسوبة الى السر وهو الجماع أو الإخفاء لأن الإنسان كثيرا ما يسرها ويسترها عن حرّته، وضمت السين لأن الأبنية قد تغير في النسب كما قالوا في النسب الى الدهر دهري والى الأرض السهلة سهلي بضم أولهما والجمع سراري وقال الأخفش هي مشتقة من السرور لأن الإنسان يسرّ بها، وعبارة المصباح: «والسرية فعلية قيل مأخوذة من السر بالكسر وهو النكاح فالضم على غير قياس فرقا بينها وبين الحرّة إذا نكحت سرا فإنه يقال لها سرية بالكسر على القياس وقيل من السر بالضم بمعنى السرور لأن مالكها يسر بها فهو على القياس».
(فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) الجملة تعليل للاستثناء وان واسمها وغير ملومين خبرها. (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وابتغى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ووراء الظرف متعلق بمحذوف صفة وهذا المحذوف مفعول ابتغى أي ابتغى شيئا كائنا وراء ذلك ولك أن تجعل وراء بمعنى خلاف فتنصبه على أنه مفعول به وذلك مضاف اليه والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان والعادون خبر أولئك أو هم ضمير فصل والعادون خبر والجملة خبر أولئك. (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) والذين عطف على ما تقدم وهم مبتدأ وراعون خبره ولأماناتهم متعلقان براعون وعهدهم عطف على أماناتهم.
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) تقدم اعرابها وهي عطف على ما تقدم. (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والوارثون خبر وقد تقدم انه يجوز اعراب هم مبتدأ ثانيا ولكن
496
الأحسن أن يكون للفصل للدلالة على التخصيص. (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الذين خبر ثان أو صفة للوارثون وجملة يرثون صلة والفردوس مفعول به وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون، وخالدون خبر هم وأنث الفردوس باعتبار المعنى أن الجنة وجملة هم فيها خالدون حال.
البلاغة:
١- التفصيل:
تميزت السورة ببراعة استهلالها لأنها ذكرت أحوال المؤمنين على جهة التفصيل، والتفصيل على قسمين: متصل ومنفصل، فالمتصل كل كلام وقع فيه أما أو ما كقوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» الى آخر الكلام، وأما المنفصل فهو ما يأتي مجمله في مكان ومفصله في مكان آخر كقوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» الى قوله تعالى «والذين هم لفروجهم حافظون» الى قوله تعالى «فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون» فإن قوله تعالى وراء ذلك إجمال المحرمات وقد تقدمت مفسّرة في سورة النساء بقوله تعالى:
«وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ» الى قوله تعالى «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» فإن هذه الآية اشتملت على خمسة عشر محرما من أصناف النساء، ذوات الأرحام ثلاثة عشر صنفا ومن الأجانب صنفان.
٢- الطباق:
وفي قوله تعالى «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» طباق إيجاب، فقد جمع سبحانه للمؤمنين في هذا
497
الوصف بين الفعل والترك إذ وصفهم بالخشوع في الصلاة وترك اللغو وهذا كله من طباق الإيجاب المعنوي، وقد حمدوا الخشوع كثيرا، روي عن النبي ﷺ أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: «لو خشع قلبه خشعت جوارحه» ونظر الحسن الى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوجني بالحور العين فقال:
بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٦]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
الإعراب:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الجملة لا محل نها من الاعراب لأنها جواب قسم محذوف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل والإنسان مفعول به ومن سلالة متعلقان بخلقنا، فمن للابتداء ومن طين صفة لسلالة أو متعلقان بسلالة لأنها بمعنى مسلولة، فمن للبيان، ولا تلتفت الى قول بعض المعربين ان الواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام فالكلام مستأنف لا علاقة له بما قبله. (ثُمَّ جَعَلْناهُ
498
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ)
ثم حرف عطف وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به ونطفة مفعول به ثان وفي قرار مفعول به ثالث ومكين صفة. (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ثم حرف عطف وخلقنا فعل وفاعل والنطفة مفعول به أول وعلقة مفعول به ثان لأن خلقنا متضمن معنى صيرنا. (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) الفاء حرف عطف وخلقنا فعل وفاعل والعلقة مفعول به أول ومضغة مفعول به ثان، فخلقنا فعل وفاعل والمضغة مفعول به أول وعظاما مفعول به ثان. (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) الفاء حرف عطف وكسونا فعل وفاعل والعظام مفعول به أول ولحما مفعول به ثان ثم حرف عطف وأنشأناه فعل وفاعل ومفعول به وخلقا حال وآخر صفة فتبارك الفاء استئنافية وتبارك فعل ماض والله فاعل وأحسن بدل من الله والخالقين مضاف اليه وليس بصفة لأنه نكرة وإن أضيف، لأن المضاف إليه عوض من «من» وهكذا جميع باب اسم التفضيل، ومميز أحسن محذوف للعلم به أي خلقا. (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وان واسمها وبعد ذلك الظرف متعلق بمحذوف حال أو بميتون، واللام المزحلقة وميتون خبر ان، ثم انكم عطف على ما تقدم وجملة تبعثون خبر ان.
البلاغة:
١- المخالفة في حروف العطف:
في حروف العطف المتتابعة في هذه الآيات أسرار لطيفة المأخذ دقيقة المعنى، فقد ذكر تعالى تفاصيل حال المخلوق في تنقله فبدأ بالخلق الاول وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثاني الذي هو
499
خلق النسل عطفه بثم لما بيتهما من التراخي وحيث صار الى التقدير الذي يتبع بعضه بعضا من غير تراخ عطفه بالفاء، ولما انتهى الى جعله ذكرا أو أنثى وهو آخر الخلق عطفه بثم، ونحن نعلم أن الزمن الذي تصير فيه النطفة علقة طويل ولكن الحالتين متصلتان فأحيانا ينظر الى طول الزمان فيعطف بثم وأحيانا ينظر الى اتصال الحالين ثانيهما بأولهما من غير فاصل بينهما بغيرهما فيعطف بالفاء، ومثل هذا تزوج محمد فولد له.
وشيء آخر، وهو ان صيرورة التراب نطفة أمر مستبعد في ظاهر الحال ومثل ذلك صيرورة النطفة علقة لاختلاف إحداهما عن الاخرى اختلافا ظاهرا ولكن صيرورة العلقة مضغة لا غرابة فيه لتقاربهما فلهذا الوجه عطف في قوله تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ» بثم، وفي الآية التي نحن بصددها لوحظت أطوار الخلق وتباعد الأوقات بين كل طورين. وفي حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي ما خلاصته:
اختلاف العواطف بالفاء وثم لتفاوت الاستحالات يعني ان بعضها مستبعد حصوله مما قبله وهو المعطوف بثم فجعل الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا وكذا جعل النطفة البيضاء ماء أحمر بخلاف جعل الدم لحما مشابها له في اللون والصورة وكذا تصليبها حتى تصير عظما لأنه قد يحصل ذلك بالمكث فيما يشاهد وكذا مد لحم المضغة عليه ليستره وذلك يقتضي عطف الجميع بثم إن نظر لآخر المدة وأولها، ويقتضي العطف بالفاء ان نظر لآخرها فقط.
٢- تشبيه الرحم بالقرار:
في قوله تعالى «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» استعارة تصريحية فقد حذف
500
المشبه وأبقى المشبه به، والمشبه هو الرحم وقد شبهه بالقرار أي موضع الاستقرار ثم وصفه بمكين بمعنى متمكن لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال أو لتمكن ما يحل فيه كقولهم طريق سائر أي يسار فيه. وبقي إيضاح قوله تعالى «خَلْقاً آخَرَ» وقد كثرت فيه الأقوال واضطربت، وخير ما يقال فيه انه عام والمراد مباينته للخلق الأول مباينة بعيدة جدا حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أعمى أكمه، وأودع باطنه وظاهره وكل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب لا توصف وغرائب لا تدرك.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٧ الى ٢١]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
اللغة:
(طَرائِقَ) : جمع طريقة وهي السيرة والحالة والمذهب والخط
501
في الشيء، وفي الأساس واللسان: «ووضع الأشياء طرقة طرقة وطريقة طريقة: بعضها فوق بعض وهي طرق وطرائق، وطرّق طريقا سهّله حتى طرقه الناس بسيرهم» وسميت السموات طرقا لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة.
(طُورِ سَيْناءَ) : وطور سنين قال الزمخشري: «لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور الى بقعة اسمها سيناء وسينون وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف اليه كامرىء القيس وكبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء فقد منع من الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث لأنها بقعة وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن فتح فلم يصرف لأن الألف للتأنيث كصحراء» هذا وسيناء شبه جزيرة يحدها البحر الأبيض المتوسط شمالا وقناة السويس وخليج السويس غربا وفلسطين وخليج العقبة شرقا تنتهي جنوبا عند رأس محمد في البحر الأحمر، وسيناء جبل واقع في شبه جزيرة سيناء جنوبا والمراد بالشجرة شجرة الزيتون وخصت بطور سيناء مع أنها تخرج في غيره لأن أصلها منه ثم نقلت الى غيره.
الإعراب:
(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) جملة مستأنفة مسوقة لذكر خلق السموات التي تعلو الإنسان بعد ذكر خلقه واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل وفوقكم ظرف متعلق بخلقنا وسبع طرائق مفعول خلقنا وطرائق مضاف لسبع، وما الواو حالية وما نافية وكان واسمها وعن الخلق متعلقان بغافلين وغافلين خبر كنا. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي
502
الْأَرْضِ)
وأنزلنا عطف على خلقنا ومن السماء متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به وبقدر صفة لماء أو حال من الضمير أي بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون الى المنفعة، فأسكناه عطف على أنزلنا وهو فعل وفاعل ومفعول به وفي الأرض متعلق بأسكناه. (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) الواو عاطفة وان واسمها وعلى ذهاب متعلقان بقادرون وبه متعلقان بذهاب وقادرون خبر إنا واللام المزحلقة. (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) الفاء عاطفة وأنشأنا فعل وفاعل ولكم متعلق بأنشأنا وبه متعلقان بأنشأنا أيضا أو بمحذوف حال فتكون الباء للملابسة وجنات مفعول به ومن نخيل صفة لجنات وأعناب عطف على نخيل. (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) لكم خبر مقدم وفيها حال وفواكه مبتدأ مؤخر وكثيرة صفة ومنها متعلقان بتأكلون، وتأكلون فعل مضارع وفاعل وجملة لكم فيها الآية حال من جنات أو صفة كما هي القاعدة. (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) الواو حرف عطف وشجرة عطف على جنات وجملة تخرج صفة لشجرة ومن طور سيناء جار ومجرور متعلقان بتخرج. (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) الجملة صفة ثانية لشجرة وبالدهن في موضع نصب على الحال أي ملتبسة بالدهن ومصحوبة به، والدهن عصارة كل شيء ذي دسم، وصبغ عطف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ به الخبز أي يغمس فيه للائتدام به، وللآكلين صفة لصبغ.
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) الواو حرف عطف وان حرف مشبه بالفعل ولكم خبرها المقدم وفي الأنعام حال واللام المزحلقة وعبرة اسم ان وجملة نسقيكم تفسيرية لعبرة أو مستأنفة والكاف مفعول به ومما متعلقان بنسقيكم وفي بطونها متعلقان بمحذوف
503
صلة ما. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) تقدم اعرابها قريبا فجدد به عهدا.
البلاغة:
في قوله تعالى «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» استعارة تصريحية شبه الادام من المائعات بالصبغ ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به بجامع التلون بلونه إذا غمس به.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٢ الى ٢٨]
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦)
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨)
504
الإعراب:
َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)
الواو عاطفة وعليها متعلقان بتحملون والضمير يعود على الإبل التي هي من جملة الانعام ولأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفن البر.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لرد خمس قصص أولاها قصة نوح، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به والى قومه متعلقان بأرسلنا. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) الفاء حرف عطف وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة واعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وإله مبتدأ مؤخر محلا مجرور بمن لفظا وغيره صفة لإله على المحل وقرىء بالجر على اللفظ وهو جائز وجملة مالكم من إله غيره مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة، والهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على مقدر أي أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم. (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) الفاء عاطفة وقال الملأ فعل وفاعل والذين صفة للملأ وجملة كفروا صلة ومن قومه حال وجملة ما هذا مقول القول وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلكم صفة وهذه هي الشبهة الأولى من الشبه الخمس التي ذكروها. (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) جملة يريد صفة وأن وما في حيزها مفعول يريد وعليكم جار ومجرور متعلقان بيتفضل والواو حالية أو استئنافية وشاء الله فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف يفهم من مضمون جواب لو أي لو
505
شاء إنزال رسول، واللام واقعة في جواب لو وجملة أنزل ملائكة لا محل لها لأنها جواب شرط جازم وهذه هي الشبهة الثانية.
(ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهتهم الثالثة وما نافية وسمعنا فعل وفاعل وبهذا متعلقان بسمعنا وفي آبائنا في محل نصب حال أي في قصص آبائنا والأولين صفة لآبائنا.
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) جملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهتهم الرابعة وإن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ورجل خبر هو وبه خبر مقدم وجنة أي جنون مبتدأ مؤخر والجملة صفة رجل فتربصوا الفاء الفصيحة أي إن أردتم أن تتبينوا حقيقته فتربصوا، ويجوز أن تكون استئنافية وهذه هي شبهتهم الخامسة، وتربصوا فعل أمر أي انتظروا والواو فاعل وبه متعلقان بتربصوا وحتى حرف غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بتربصوا أيضا أي اصبروا عليه واحتملوه الى زمان حتى ينجلي لكم أمره عن مغبته فإن أفاق من جنته وإلا قتلتموه. (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) كلام مستأنف مسوق لطلب الانتصاف منهم والانتصار عليهم من ربه بعد أن يئس من إيمانهم، ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وانصرني فعل أمر والفاعل مستتر والنون للوقاية والياء مفعول به والباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر مجرور بالباء أي بسبب تكذيبهم إياي فالباء للسببية ويجوز أن تكون للبدل أي انصرني بدل تكذيبهم إياي، كما تقول هذا بذاك أي بدل ذاك ومكانه، والجار والمجرور متعلقان بانصرني. (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) الفاء استئنافية وأوحينا فعل وفاعل واليه متعلقان بأوحينا وأن مفسرة لوقوعها بعد أوحينا وهو فعل فيه معنى القول دون حروفه واصنع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والفلك مفعول به وبأعيننا
506
حال من الضمير المستكن في اصنع أي بحفظنا وكلاءتنا، ووحينا عطف على أعيننا أي وأمرنا. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الفاء عاطفة لترتيب مضمون ما بعدها على تمام صنع الفلك والمراد بالأمر العذاب، وجملة جاء مضاف إليها الظرف وأمرنا فاعل وفار التنور عطف على جاء أمرنا وقد تقدم بحث هذا في سورة هود. فاسلك الفاء رابطة لجواب إذا واسلك فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفيها متعلقان باسلك ومن كل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لاثنين واثنين مفعول اسلك وقد تقدم اعراب هذا في هود أيضا. (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) وأهلك عطف على اثنين وإلا أداة استثناء ومن مستثنى متصل من موجب فهو واجب النصب وجملة سبق صلة وعليه متعلقان بسبق، والقول فاعل ومنهم حال أي بالإهلاك. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتخاطبني فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به وفي الذين متعلقان بتخاطبني أي بترك إهلاكهم وذلك بعد أن لزمتهم الحجة البالغة، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول، لم يبق إلا أن يجعلوا عبرة للمعتبرين، وجملة ظلموا صلة وجملة إنهم مغرقون تعليل للنهي عن المخاطبة بشأنهم وان واسمها وخبرها. (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل وجملة استويت في محل جر بالاضافة إليها وأنت تأكيد للتاء ومن عطف على التاء ومعك ظرف متعلق بمحذوف صلة لمن وعلى الفلك متعلقان باستويت أي اعتدلت عليه.
(فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء رابطة لجواب إذا وقل فعل أمر وأفرده بالأمر إظهارا لفضله واشعارا بأن في دعائه مندوحة عن دعائهم، والحمد مبتدأ ولله خبره والجملة مقول القول وجملة القول
507
لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والذي صفة لله وجملة نجانا صلة ومن القوم متعلقان بنجانا والظالمين صفة للقوم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٦]
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦)
الإعراب:
(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) الواو عاطفة وقل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وأنزلني فعل أمر للدعاء والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به ومنزلا اسم مكان
508
أو مصدر مفعول به ثان أو مفعول مطلق ومباركا صفة وأنت الواو حالية وأنت مبتدأ وخير المنزلين خبر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما ذكر وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم ولآيات اللام المزحلقة وآيات اسم إنّ، وإن مخففة من الثقيلة والغالب إهمالها وكنا كان واسمها واللام الفارقة ومبتلين خبر كنا ويجوز أن يكون اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها ويجوز أن تكون إن نافية واللام بمعنى إلا. (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) ثم حرف عطف للتراخي وأنشأنا فعل وفاعل ومن بعدهم حال وقرنا مفعول به أي قوما وآخرين صفة وهم قوم عاد. (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) الفاء حرف عطف وأرسلنا فعل وفاعل وفيهم متعلق بأرسل ورسولا مفعول به ومنهم صفة. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) أن مفسرة لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله ثم إن إرسال الرسل هو للتبليغ، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في موضع نصب بنزع الخافض أي بأن اعبدوا والجار والمجرور متعلقان بأرسلنا وما بقي تقدم إعرابه قريبا بنصه فجدد به عهدا. (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الواو عاطفة وقال الملأ فعل وفاعل، والجملة من كلامهم الباطل معطوفة على كلامه الحق فالعطف هنا لبيان المفارقة، وقد سبق مثل هذا التعبير في سورة الأعراف مجردا من الواو كأنه جواب سؤال مقدر فلم يحتج إليها، ومن قومه حال والذين صفة لقومه وجملة كفروا صلة وما بعدها عطف عليه داخل في حيزها، وأسهب في وصفهم لبيان فداحة ما ارتكبوه من كفران للنعم وجحود للنعم المترادفة عليهم ليورد بعد ذلك على لسانهم شبهتين من شبهات الملاحدة وبنوا عليها انكارهم البعث
509
والطعن في رسالته عليه السلام. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) ما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلكم صفة وجملة يأكل صفة ثانية ومما متعلقان بيأكل وجملة تأكلون صلة ولك أن تجعلها مصدرية أي من مأكولكم وكذلك قوله ويشرب مما يشربون، وحذف العائد من الثاني اكتفاء بالعائد الأول وهو منه والجملة كلها مقول القول وهي تتضمن الشبهة الاولى.
(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وأطعتم فعل وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وبشرا مفعول به ومثلكم صفة وإن واسمها واللام المزحلقة وخاسرون خبرها، وإذن: هذه ليست هي الناصبة للفعل المضارع وانما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف وعوض عنها التنوين كما في يومئذ ولهذا لا يختص دخولها على المضارع بل تدخل على الماضي وعلى الاسم وقد وردت في القرآن كثيرا مثل «إنكم إذن من المقربين» فقد دخلت هنا على الاسم ومن دخولها على الماضي قوله «وإذن لآتيناهم» وهذا تقرير عن شبهتهم الثانية. والجملة جواب القسم لأنه المتقدم حسب القاعدة. (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري الاستبعادي وجملة يعدكم مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه بانكار وقوع ما يدعوهم الى الايمان به واستبعاده. ويعدكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول به ثان وأن واسمها ومخرجون خبرها وإذا ظرف متعلق بمخرجون وجملة متم في محل جر باضافة الظرف إليها وكنتم ترابا وعظاما عطف على إذا متم وأنكم الثانية تأكيد للأولى لما طال الفصل بين اسم ان وهو الكاف وخبرها وهو مخرجون ولما كانت لمجرد التأكيد
510
اللفظي لم تحتج الى الخبر، وهذا أحد أوجه ذكرها النحاة وسنأتي على ذكرها في باب الفوائد لأنها كلها صحيحة وما ذكرناه أسهلها.
(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) هيهات اسم فعل ماض بمعنى بعد وسيأتي الكلام عليها مطولا في باب الفوائد والثانية تأكيد لفظي لها واللام زائدة وما اسم موصول فاعل لاسم الفعل وهو هيهات ومحله القريب الجر باللام الزائدة ومحله البعيد الرفع على أنه فاعل هيهات، ويجوز أن تكون ما مصدرية، والمصدر المؤول فاعل هيهات، وسيأتي مزيد من الأوجه في اعراب هذا التركيب في باب الفوائد.
الفوائد:
١- في قوله تعالى «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ» الآية: اختلفت آراء الأئمة النحاة والمفسرين في اعراب هذه الآية وقد ذكرنا في الاعراب ما رأيناه أقرب الى التناول وأدنى الى المنطق وسنورد لك هنا ما قالوه لوجاهته، ولترى ما تختار فقال سيبويه: إن خبر «أن» الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه تقديره «أنكم مخرجون» وهو العامل في الظرف و «أن» الثانية وما في حيزها بدل من الأولى.
وذهب الجرمي والمبرد والفراء: الى أن خبر «أن» الأولى هو مخرجون وهو العامل في «إذا» وكررت الثانية توكيدا لما طال الفصل وهذا هو الوجه الذي اخترناه.
واختار أبو البقاء أن اسم الأولى محذوف أقيم مقام المضاف اليه تقديره: أن إخراجكم، و «إذا» هو الخبر و «أنكم مخرجون» تكرير لأن «أن» وما عملت فيه للتوكيد أو للدلالة على المحذوف.
511
وقيل «أنكم مخرجون» مبتدأ وخبره الظرف مقدما عليه والجملة خبر عن «أنكم» الأولى والتقدير: أيعدكم انكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم، ولا يجوز أن يكون العامل في «إذا» مخرجون لأن ما في حيز «أن» لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها «متم» لأنه مضاف اليه، وانكم وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف حرف الجر إذ الأصل أيعدكم بأنكم، ويجوز أن لا يقدر حرف جر فيكون في محل نصب فقط نحو وعدت زيدا خيرا.
٢- هيهات:
في هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين ونذكر فيما يلي أشهرها وما قرىء به، فالمشهور هيهات بفتح التاء من غير تنوين بني لوقوعه موقع المبني أو لشبه الحرف وبها قرأ العامة وهي لغة الحجازيين، وهيهاتا بالفتح والتنوين، وهيهات بالضم والتنوين، وبالضم من غير تنوين، وهيهات بالكسر والتنوين، وبالكسر من غير تنوين، وهيهات بإسكان التاء، وهيهه بالهاء آخرا ووصلا ووقفا، وأيهات بابدال الهاء همزة مع فتح التاء. فهذه تسع لغات وقد قرىء بهن ولم يتواتر منهن غير الأولى، ويجوز ابدال الهمزة من الهاء الاولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة، وايهان بالنون آخرا وايها بالألف آخرا، ويقع الاسم بعدها مرفوعا بها ارتفاع الفعل بفعله لأنها جارية مجرى الفعل فاقتضت فاعلا كاقتضائه الفعل. قال جرير:
فهيهات هيهات العقيق ومن به وهيهات خلّ بالعقيق نواصله
والعقيق واد بالمدينة يقول فيه جرير ويبدع:
512
ولم أنس يوما بالعقيق تخايلت ضحاه وطابت بالعشي أصائله
رزقنا به الصيد العزيز ولم نكن كمن نبله محرومة وحبائله
وقال الزمخشري: «فان قلت ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أن يرتفع بهيهات كما ارتفع في قوله: «فهيهات هيهات العقيق وأهله» فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاج في تفسيره: البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن نوّن فنزله منزلة المصدر وفيه وجه آخر وهو أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به» وما اخترناه في الاعراب أسهل وأقرب.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣٧ الى ٤٣]
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)
513
اللغة:
(غُثاءً) : الغثاء: ما يحمله السيل ومثله الجفاء وهو ما تكسر وتهشّم أيضا من المرعى إذا يبس، ويجمع على أغثية كغراب وأغربة وعلى غثيان كغراب وغربان، وقال الزجاج هو البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل فخالط زبده، وقيل ما يلقيه السيل والقذر مما لا ينتفع به، ولامه واو لأنه من غثا الوادي يغثو غثوا وكذلك القدر، وأما غثيث نفسه تغثى غثيانا أي خبثت فهو قريب من معناه ولكنه من مادة الياء وقال الزمخشري: «شبههم في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي وأسود من بلي العيدان والورق».
الإعراب:
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير معتقدهم بأن العالم قديم بالطبع ولم يزل كذلك ولم يحدث باحداث محدث والناس كالنبات ينبتون ويعودون بالموت هشيما وهذا كفر صريح وضلال بعيد وسيأتي في باب الفوائد مزيد من معتقد الدهريين. وان نافيه وهي مبتدأ وإلا أداة حصر وحياتنا خبر والدنيا صفة وجملة نموت ونحيا حالية أو مفسرة لما ادعوه من أن حياتهم هي الحياة الدنيا أي يموت بعضنا وينقرض بعضنا الى انقراض العصر، والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وبمبعوثين الباء حرف جر زائد ومبعوثين مجرور بالباء لفظا خبر ما محلا. (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ان نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ورجل خبر وجملة افترى صفة وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا
514
مفعول به، والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وله متعلقان بمؤمنين ومؤمنين محله القريب مجرور بالباء الزائدة ومحله البعيد خبر ما. (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ورب منادى محذوف منه حرف النداء مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وانصرني فعل أمر معناه الدعاء والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت وبما الباء حرف جر وما موصولة أو مصدرية وكذبوني فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة ما والجار والمجرور متعلقان بانصرني. (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) عما قليل: عن حرف جر وما زائدة وقليل مجرور بعن والجار والمجرور متعلقان بيصبحن أو بنادمين أو بمحذوف تقديره عما قليل ننصر فحذف لدلالة ما قبله وهو رب انصرني، واللام موطئة للقسم ويصبحن فعل مضارع ناقص والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين اسمها وهو مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة ونادمين خبر يصبحن. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وأخذتهم الصيحة فعل ومفعول به وفاعل وبالحق حال من الصيحة، فجعلناهم عطف على فأخذتهم والهاء مفعول به أول وغثاء مفعول به ثان والفاء حرف عطف وبعدا مصدر يذكر بدلا من اللفظ بفعله فهو مفعول مطلق لفعل محذوف واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم والأصل بعدوا بعدا وللقوم صفة لبعدا ولا تتعلق به لأنه لا يحفظ حذف هذه اللام ووصول المصدر الى مجرورها البتة ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل. (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) ثم حرف عطف وتراخ وأنشأنا فعل وفاعل ومن بعدهم متعلقان بمحذوف حال وقرونا مفعول به وآخرين صفة. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ما نافية وتسبق فعل مضارع ومن حرف جر
515
زائد وأمة مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل تسبق وأجلها مفعول به وما يستأخرون عطف على ما سبق وذكر الضمير بعد تأنيثه لمراعات المعنى لأن أمة بمعنى قوم.
الفوائد:
في شرح النهج لابن أبي حديد: «قال قاضي القضاة: ان أحدا من العقلاء لم يذهب الى نفي الصانع للعالم ولكن قوما من الورّاقين اجتمعوا ووضعوا بينهم مقالة لم يذهب أحد إليها وهي أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه ولا إله للعالم ولا صانع له أصلا وإنما هو هكذا ما زال ولا يزال من غير صانع ولا مؤثر، ومن أشهر الذين أخذوا هذه المقالة من العرب ابن الراوندي وقد أخذ هذه المقالة ونصرها في كتابه المعروف بكتاب التاج» قلت: قد ذكر أبو العلاء المعري ابن الراوندي وتاجه هذا في رسالة الغفران ومما قاله: «وأما ابن الراوندي فلم يكن الى المصلحة بمهدي، وأما تاجه فلا يصلح أن يكون فعلا وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة أف وتف وجورب وخف». وفي هؤلاء يقول أبو العلاء في لزومياته:
ضل الذي قال البلاد قديمة بالطبع كانت والأنام كنبتها
وأمامنا يوم تقوم هجوده من بعد إبلاء العظام ورفتها
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٤ الى ٥٠]
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
516
اللغة:
(تَتْرا) سترد في باب الإعراب.
(رَبْوَةٍ) : الربوة والرباوة: الأرض المرتفعة وفي رائهما الحركات الثلاث وقد اختلف المفسرون في المراد بها فقيل بيت المقدس وقيل دمشق وغوطتها، وعن الحسن فلسطين والرملة.
(مَعِينٍ) : اسم مفعول من عان يعين كباع يبيع فهو معين كسبيع فالميم زائدة وأصله معيون كمبيوع وقد دخله الاعلال، والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلا أنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة، وقال الراغب: هو من معن الماء جرى وسمي مجرى الماء معيان، وأمعن الفرس تباعد في عدوه، وأمعن بحقي ذهب به، وفلان معن في حاجته أي سريع.
517
الإعراب:
(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) ثم حرف عطف وتراخ وأرسلنا فعل وفاعل ورسلنا مفعول به وتترى: التاء مبدلة من الواو وأصله وترى وهو مصدر كشبعى ودعوى فألفه للتأنيث وهو منصوب على الحالية أي متتابعين فهو مصدر واقع موقع الحال ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف تقديره إرسالا تترى اي متتابعا وفي ألفها ثلاثة أقوال:
١- هي للإلحاق بجعفر كالألف في أرطى ولذلك تؤنث في قول من صرفها.
٢- هي بدل من التنوين.
٣- هي للتأنيث مثل سكرى ولذلك لا تنون على قول من منع الصرف.
(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) كلما ظرف متضمن معنى الشرط وجملة جاء أمة إما مضاف إليها وإما لا محل لها وقد تقدم تفصيل البحث عن كلما، وأمة مفعول مقدم ورسولها فاعل مؤخر وجملة كذبوه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) الفاء عاطفة وأتبعنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به أول وبعضا به ثان وجعلناهم عطف على أتبعنا والهاء مفعول به أول وأحاديث مفعول به ثان، والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون جمعا للأحدوثة التي هي مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة وهي مما يتحدث به الناس تزجية للفراغ واجتلابا للسلوى ودفعا للملالة وتعجبا وتلهيا،
518
وفي القاموس «يقال صاروا أحاديث أي انقرضوا». (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) الفاء استئنافية وبعدا مصدر لفعل محذوف أي بعدوا بعدا وهذا دعاء عليهم ولقوم تقدم القول في هذه اللام قريبا فجدد به عهدا وجملة لا يؤمنون صفة لقوم. (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) ثم حرف عطف وتراخ وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وأخاه عطف عليه وهارون بدل أو عطف بيان وبآياتنا حال أي حال كونهما ملتبسين بآياتنا فالباء للملابسة وسلطان مبين عطف على آياتنا وهي الآيات التي جاء بها وإنما عطف سلطان على آياتنا لما تميزت به تلك الآيات المرهصة من الفضل حتى كأنها ليست منها والا فإن الشيء لا يعطف على نفسه ومن تلك الحجج القاطعة البينة اليد والعصا.
(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) الى فرعون متعلقان بأرسلنا وملئه عطف على فرعون فاستكبروا عطف على أرسلنا وكانوا قوما عالين كان واسمها وخبرها ومعنى عالين متكبرين أو متطاولين على الناس قاهرين لهم بالبغي والظلم، وقد أشار سبحانه الى ذلك في آية أخرى فقال: «وإن فرعون علا في الأرض». (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) الفاء عاطفة وقالوا فعل وفاعل والضمير يعود على فرعون وملئه والهمزة للاستفهام الانكاري ونؤمن فعل مضارع ولبشرين متعلقان بنؤمن، والبشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ومثلنا صفة وهي كغير في انه يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: «إنكم إذن مثلهم» وقال:
«ومن الأرض مثلهن» ويقال أيضا هما مثلاه وهم أمثاله. وقومهما الواو للحال وقومهما مبتدأ ولنا متعلقان بعابدون وعابدون خبر قومهما.
(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) الفاء عاطفة وكذبوهما فعل وفاعل ومفعول به فكانوا عطف على كذبوهما وكان واسمها ومن المهلكين
519
خبرها. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الواو استئنافية وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ولعل واسمها والضمير يعود الى قوم موسى لأن فرعون وقومه كانوا قد بادوا غرقا. (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل وابن مريم مفعول به أول وأمه عطف على ابن مريم وآية مفعول به ثان ولم يقل آيتين لأن الآية فيهما واحدة وهي الولادة من غير أب ولو قال آيتين لساغ لأن مريم ولدت من غير مسيس وعيسى روح الله ألقي إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيي الموتى مع معجزات أخرى فكان آية من غير وجه. (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) وآويناهما عطف على جعلنا أي أسكناهما، والى ربوة متعلقان بآويناهما وقد تقدم القول فيها وذات صفة لربوة وقرار مضاف اليه ومعنى القرار الاستقرار أي جعلناها صالحة للاستقرار فيها بما فيها من مغلّات وطاقات وثمار وماء، ومعين عطف على قرار.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
520
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) يا أيها الرسل تقدم اعرابها والنداء لجميع الأنبياء بحسب تفاوت الأزمنة المترامية بينهم، وكلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن الطيبات متعلقان بكلوا والمراد بالطيبات ما حل وطاب. (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) واعملوا عطف على كلوا وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وجملة إني تعليل للأمر وان واسمها وبما متعلقان بعليم وجملة تعملون صلة وعليم خبر إن. (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للتنبيه على انتظام أمر هذه الأمة وكمال سدادها. وان واسمها وأمتكم خبرها وأمة حال لازمة وواحدة صفة وأنا الواو عاطفة وأنا مبتدأ وربكم خبر، فاتقون الفاء الفصيحة واتقوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لرسم المصحف مفعول به. (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) الفاء استئنافية وتقطعوا فعل ماض والواو فاعل، وأمرهم تقدم اعرابها في الأنبياء وأنها إما نصب على إسقاط الخافض أي تفرقوا في أمرهم أو أنها مفعول به، وعدّى تقطعوا اليه لأنه بمعنى قطعوا، وبينهم ظرف متعلق بتقطعوا وزبرا حال من فاعل تقطعوا أي أحزابا متخالفين، والزبر جمع زبرة بمعنى القطعة أو جمع زبور بمعنى فريق ولها جمع آخر تقدم في الكهف وهو زبر بفتح الباء، وكل مبتدأ وحزب مضاف اليه وبما متعلقان بفرحون ولديهم ظرف متعلق بمحذوف صلة وفرحون خبر كل حزب. (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) الفاء الفصيحة وذرهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والخطاب لمحمد ﷺ والضمير
521
لكفار مكة وفي غمرتهم حال أي متخبطين في غمرتهم أو مفعول ثان لذر أي اتركهم متخبطين في غمرتهم، وحتى حرف غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بذرهم. (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريعي ويحسبون فعل مضارع وفاعل وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي يحسبون وأن وما اسمها وكان من حقها أن تكتب مفصولة ولكنها كتبت موصولة اتباعا لرسم المصحف وجملة نمدهم صلة وبه متعلقان بنمدهم ومن مال وبنين حال من الموصول. (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) الجملة خبر أن، نسارع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنسارع وفي الخيرات حال، بل حرف إضراب انتقالي عن الحسبان ولا نافية ويشعرون فعل وفاعل معطوف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلا كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور يتيح لهم التأمل فيعرفون أن ذلك الإمداد ما هو إلا استدراج لهم واستجرار الى زيادة الإثم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٣]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
522
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) الجملة ابتدائية مستأنفة مسوقة لذكر الأبرار الذين يشفقون من خشية ربهم، وان واسمها وهم مبتدأ ومن خشية ربهم متعلقان بمشفقون ومشفقون خبر هم والمصدر وهو خشية مضاف لمفعوله أي خائفون من عذابه وجملة هم من خشية ربهم مشفقون صلة الذين. وفي الإشفاق معنى يتضمن زيادة على معنى الخشية، هو معنى الرقة والضعف.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) عطف على الجملة السابقة وإعرابها مماثل لها وجملة يؤمنون خبرهم. (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) عطف أيضا على إن الذين وجملة يؤتون صلة الذين وما مفعول يؤتون وجملة آتوا صلة وقلوبهم الواو حالية وقلوبهم مبتدأ ووجلة خبره وأنهم أن وما بعدها نصب بنزع الخافض ويكون تعليلا لقوله وجلة والتقدير وجلة من أنهم أي خائفة من رجوعهم الى ربهم وأن واسمها والى ربهم متعلقان براجعون وراجعون خبر أنهم. (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) الجملة خبر إن الذين هم من خشية ربهم وما عطف عليه، فاسم إن أربعة موصولات وخبرها جملة أولئك، وأولئك مبتدأ وجملة يسارعون خبر المبتدأ وفي الخيرات متعلقان بيسارعون والواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها بمثابة تأكيد لها وهم مبتدأ ولها متعلقان بسابقون وسابقون خبرهم والضمير في لها يعود على الخيرات لتقدمها عليه في اللفظ وهو الظاهر من سياق الكلام وقيل على الجنة وليس ببعيد، ومفعول سابقون محذوف أي سابقون الناس لها ويقال سبق له واليه ويجوز أن تكون اللام للتعليل أي سابقون لأجلها. (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا
523
وُسْعَها)
الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على أن التكليف غير خارج عن حدود الطاقات والامكانيات، ولا نافية ونكلف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ونفسا مفعول نكلف الأول وإلا أداة حصر ووسعها مفعول به ثان. (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو عاطفة ولدينا ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وكتاب مبتدأ مؤخر وجملة ينطق صفة وبالحق حال أي ملتبسا بالحق وهم الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر. (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) بل حرف إضراب للانتقال الى أحوال الكفار المحكية وقلوبهم مبتدأ وفي غمرة خبر ومن هذا صفة لغمرة أي كائنة من هذا الذي وصف به المؤمنون. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم وأعمال مبتدأ مؤخر ومن دون ذلك صفة لأعمال وجملة هم صفة ثانية لأعمال وهم مبتدأ ولها جار ومجرور متعلقان بعاملون، وعاملون خبر هم أي مستمرون عليها ومعنى من دون ذلك أي متجاوزة متخطية لما وصف به المؤمنون.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٤ الى ٧٠]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠)
524
اللغة:
(مُتْرَفِيهِمْ) : أغنياءهم ورؤساءهم.
(يَجْأَرُونَ) : يضجون وفي القاموس: جأر كمنع جأرا وجؤارا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث، والبقرة والثور صاحا، والنبات طال، والأرض طال نبتها، والجؤار من النبت الغض والكثير والرجل الضخم» وقال في اللسان والأساس: الجؤار الصراخ باستغاثة.
(تَنْكِصُونَ) : في المختار ما يدل على انه من بابي جلس ودخل والمصدر نكوص.
(سامِراً) : السامر مأخوذ من السمر وهو سهر الليل وقال الراغب: السامر الليل المظلم وهو اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا، وسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(تَهْجُرُونَ) : هو بفتح التاء من الهجران وهو الترك أو من هجر هجرا هذى وتكلم بغير معقول لمرض أو نحوه، وقرىء بضمها من أهجر إهجارا: أفحش في كلامه.
الإعراب:
(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) حتى هنا ابتدائية يبتدأ بها الكلام وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه
525
منصوب بجوابه وهو يجأرون وجملة أخذنا في محل جر بإضافة الظرف إليها ونا فاعل ومترفيهم مفعول به وبالعذاب متعلقان بأخذنا وإذا الثانية حرف مفاجأة قائمة مقام فاء الجزاء في الربط والجملة بعدها جواب إذا الأولى لا محل لها كأنه قيل فهم يجأرون وقيل حتى حرف غاية وجر.
(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لا ناهية وتجأروا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل واليوم متعلق بتجأروا وإنكم تعليل للنهي وإن واسمها ومنا متعلقان بتنصرون ولا نافية وجملة تنصرون خبر إنكم والواو نائب فاعل. (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) قد حرف تحقيق وكانت آياتي كان واسمها وجملة تتلى خبرها وعليكم متعلقان بتتلى، فكنتم الفاء عاطفة وكان واسمها وعلى أعقابكم حال من فاعل تنكصون وجملة تنكصون خبر كنتم.
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) مستكبرين حال ثانية من فاعل تنكصون وبه متعلقان بمستكبرين أي بسببه والضمير في به للبيت العتيق والحرم وقيل عائد الى القرآن، وسامرا حال ثالثة وجملة تهجرون حال رابعة فهي أحوال متداخلة أي كل واحدة مما قبلها. (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أسباب ركوبهم متن الضلالة، وسيأتي أنها خمسة سنشير إليها في مواطنها، والهمزة للاستفهام الانكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويدبروا فعل مضارع مجزوم بلم والقول مفعول به والفاء عاطفة على محذوف دخلت عليه الهمزة أي فعلوا ما فعلوا مما سبق ذكره فلم يدبروا القول، وأم عاطفة بمعنى بل الانتقالية أي بل أجاءهم بل ألم يعرفوا بل أيقولون، وقوله أفلم يدبروا القول هو السبب الأول لإقدامهم على الضلالة واجترائهم على ارتكابها أي أنهم صدفوا عن التأمل في دلائل نبوته ﷺ وفي مقدمتها القرآن المعجز،
526
وجاءهم فعل ومفعول به ثان وما موصول فاعل وجملة لم يأت آباءهم الأولين صلة وهذا هو السبب الثاني وهو اعتقادهم أن بعثة محمد ﷺ أمر غريب لأنها لم تسمع عن الأمم السالفة.
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) عطف على ما تقدم كما ذكرنا وهذا هو السبب الثالث في إقدامهم على ركوب الغي وهو عدم علمهم بأمانة مدعي الرسالة وصدقه قبل أن يدعيها وليس الأمر بهذه المثابة بل أنهم سبروا غوره وعلموا حقيقته واكتنهوا صدقه ولقبوه بالأمين فكيف كذبوه بعد أن أجمعوا على جدارته باللقب الذي أطلقوه عليه. والفاء عاطفة وهم مبتدأ وله متعلقان بمنكرون ومنكرون خبرهم.
(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) عطف على ما تقدم أيضا وهذا هو السبب الرابع وهو اعتقادهم فيه الجنون وهذا الاعتقاد مناقض لما كانوا يعتقدون فيه من كمال الرجاحة وتمام الحصافة. وبه خبر مقدم وجنة أي جنون مبتدأ مؤخر بل حرف عطف وإضراب انتقالي، وجاءهم فعل ومفعول به وفاعل مستتر وبالحق متعلقان بجاءهم أو بمحذوف حال أي ملتبسا بالحق والواو حالية وأكثرهم مبتدأ وللحق متعلقان بكارهون وكارهون خبر أكثرهم.
الفوائد:
معنى وأكثرهم:
اعترض الزمخشري على نفسه فوجه إليها سؤالا وأجاب عليه وفيما يلي نص السؤال والجواب قال: «فإن قلت: قوله «وأكثرهم» فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق، قلت: كان فيهم من يترك الايمان
527
به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه لا كراهة للحق كما يحكى عن أبي طالب.
فإن قلت يزعم بعض الناس أن أبا طالب صح إسلامه قلت:
يا سبحان الله كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله ﷺ حتى يشتهر اسلام حمزة والعباس ويخفى إسلامه».
وهذا جميل من الزمخشري ولكن أولى من ذلك أن يكون الضمير في قوله «وأكثرهم» عائدا على الجنس للناس كافة ولما ذكر هذه الطائفة من الجنس بنى الكلام في قوله وأكثرهم على الجنس بجملته كقوله:
«إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين» وكقوله: «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين» ويدل على ذلك قوله تعالى «بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» والنبي ﷺ جاء الى الناس كلهم وبعث الى الكافة ويحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي، وأما قول الزمخشري إن من تمادى على الكفر وآثر البقاء عليه تقليدا لآبائه ليس كارها للحق فمردود فإن من أحب شيئا كره ضده فإذا أحبوا البقاء على الكفر فقد كرهوا الانتقال عنه الى الايمان ضرورة، ثم انجر الكلام الى استبعاد ايمان أبي طالب وتحقيق القول فيه أنه مات على الكفر ووجه ذلك بأنه أشهر عمومة النبي ﷺ فلو كان قد أسلم لاشتهر إسلامه كما اشتهر اسلام العباس وحمزة لأنه أشهر، وللقائل بإسلامه أن يعتذر عن عدم شهرته بأنه إنما أسلم قبيل الاحتضار فلم يظهر له مواقف في الإسلام يشتهر بها كما اشتهر لغيره من عمومته.
528

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧١ الى ٧٦]

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
اللغة:
(خَرْجاً) : أجرا وخراجا ويغلب في الخرج أن يكون مال العنق وفي الخراج مال العقار ونقيض الدخل وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه، والوجه أن الخرج أخص من الخراج، ومعنى الآية: أم تسألهم عن هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير.
(ناكبون) عادلون وزائفون ومائلون وكل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب.
(لجوا) : اللجاج وهو التمادي في العناد، وفي المصباح: لجّ في الأمر لججا من باب تعب ولجاجا ولجاجة فهو لجوج ولجوجة مبالغة إذا لازم الشيء وواظبه ومن باب ضرب لغة.
529
(يَعْمَهُونَ) : في المصباح: «عمه في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردّد متحيرا، وتعامه مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة فهو عمه وأعمه.
(اسْتَكانُوا) : يقال: استكان أي انتقل من كون الى كون كاستحال إذا انتقل من حال الى حال وأصله استكون نقلت حركة الواو الى ما قبلها ثم قلبت ألفا، هذا ما قاله علماء اللغة ولكن اعترض بعضهم على هذا التنظير وحجته أن استكان على تأويله أحد أقسام استفعل الذي معناه التحول كقولهم استحجر الطين واستنوق الجمل، وأما استحال فثلاثيه حال إذا انتقل من حال الى حال وإذا كان الثلاثي يفيد التحول لم يبق لصيغة استفعل فيها أثر فليس استحال من استفعل للتحول ولكنه من استفعل بمعنى فعل وهو أحد أقسامه إذا لم يزد السداسي فيه على الثلاثي معنى.
ثم نعود الى تأويله فنقول: المعنى عليه فما انتقلوا من كون التكبر والتجبر والاعتياض الى كون الخضوع والضراعة الى الله تعالى، ولقائل أن يقول: استكان يفيد على التأويل المذكور الانتقال من كون الى كون فليس حمله على أنه انتقال عن التكبر الى الخضوع بأولى، وترى هذه الصيغة لا تفهم إلا أحد الانتقالين، فلو كانت مشتقة من مطلق الكون لكانت مجملة محتملة للانتقالين جميعا والجواب أن أصلها كذلك على الإطلاق ولكن غلب العرف على استعمالها في الانتقال الخاص كما غلب في غيرها.
ولما دخل أحمد بن فارس اللغوي الوزير بغداد في زمن الامام الناصر جمع له جميع علماء بغداد وعقد بهم محفلا للمناظرة فانجر
530
الكلام الى هذه الآية فقال: الأصل اللغوي هو مشتق من قول العرب:
كنت لك إذا خضعت، وهي لغة هذلية فاستحسن ابن فارس ذلك منه، وعلى هذا يكون من استفعل بمعنى فعل كقولهم استقر واستعلى وحال واستحال على ما مر وانما لم يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استحسر واستعصم من حسر وعصم لأن المعنى يأباه وذلك أنها جاءت في النفي والمقصود منها ذم هؤلاء بالجفوة والقسوة وعدم الخضوع مع ما يوجب نهاية الضراعة من أخذهم بالعذاب، فلو جعلت للمبالغة أفادت نقص المبالغة لأن نفي الأبلغ أدنى من نفي الأدنى وكأنهم على ذلك ذموا بنفي الخضوع الكثير وأنهم ما بلغوا في الضراعة نهايتها وليس الواقع فانهم ما اتسموا بالضراعة ولا بلحظة منها فكيف تنفى عنهم النهاية الموهمة لحصول البداية؟
ووزن استفعل على ضربين متعد وغير متعد فالمتعدي قولهم استحقه واستقبحه وغير المتعدي استقدم واستأخر ويكون فعل منه متعديا وغير متعد فالمتعدي نحو علم واستعلم وفهم واستفهم وغير المتعدي نحو قبح واستقبح وحسن واستحسن، وله معان أحدها الطلب والاستدعاء كقولك استعطيت أي طلبت العطية واستعتبته أي طلبت اليه العتبى ومنه استفهمت واستخبرت، والثاني أن يكون للاصابة كقولك استجدته واستكرمته أي وجدته جيدا وكريما، وقد يكون بمعنى الانتقال والتحول من حال الى حال نحو قولهم استنوق الجمل إذا صار على خلق الناقة واستتيست الشاة إذا أشبهت التيس ومنه استحجر الطين إذا تحول الى طبع الحجر في الصلابة، وقد يكون بمعنى تفعل لتكلف الشيء وتعاطيه نحو استعظم بمعنى تعظم واستكبر بمعنى تكبر كقولهم تشجّع وتجلّد وربا عاقب فعل قالوا: قرّ في المكان واستقرّ وعلا
531
قرنه واستعلاه، قال الله تعالى: «وإذا رأوا آية يستسخرون» والغالب على هذا البناء الطلب والإصابة وما عدا ذينك فانه يحفظ حفظا ولا يقاس عليه.
الإعراب:
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) الواو استئنافية ولو شرطية واتبع الحق فعل وفاعل وأهواءهم مفعول به واللام واقعة في جواب الشرط وفسدت السموات والأرض فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن عطف على السموات والأرض وفيهن متعلقان بمحذوف صلة من. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)
بل حرف إضراب انتقالي وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به وبذكرهم متعلقان بآتيناهم، والمعنى كيف يكرهون الحق مع أن القرآن أتاهم بتشريفهم والتنويه بذكرهم. والفاء عاطفة وهم مبتدأ وعن ذكرهم متعلقان بمعرضون ومعرضون خبر هم.
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) عطف انتقالي على «أم به جنة» وهو السبب الخامس من أسباب ركوبهم متن الضلالة العمياء وتسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به أول وخرجا مفعول به ثان والفاء تعليلية أو فصيحة وردت مورد التعليل للسؤال المستفاد من الإنكار، وخراج مبتدأ وربك مضاف اليه وخير خبر، وهو الواو حرف عطف وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر.
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الواو حرف عطف وان واسمها واللام المزحلقة وتدعوهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والى صراط متعلقان بتدعوهم ومستقيم صفة. (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
532
بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ)
الواو عاطفة وان واسمها وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون وعن الصراط متعلقان بناكبون واللام المزحلقة وناكبون خبر إن. (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الواو استئنافية مسوقة لبيان أصابتهم بعد خروج النبي ﷺ الى المدينة بالقحط حتى روي أنهم أكلوا العلهز وهو كما في الصحاح طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة وسيأتي تفصيل هذه الحادثة في باب الفوائد. ولو شرطية ورحمناهم فعل وفاعل ومفعول به وكشفنا عطف على رحمناهم وما مفعول به وبهم متعلقان بمحذوف صلة ما ومن ضر حال، للجّوا اللام رابطة لجواب لو وجملة لجوا لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وفي طغيانهم متعلقان بيعمهون وجملة يعمهون حالية. (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وبالعذاب متعلقان بأخذناهم، فما استكانوا عطف على أخذناهم وما نافية واستكانوا فعل وفاعل ولربهم متعلقان باستكانوا، والواو حرف عطف وما نافية ويتضرعون فعل مضارع وفاعل وسيأتي سر عطف المضارع على الماضي في باب البلاغة.
البلاغة:
عطف المضارع على الماضي لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه، وهو بالاستكانة أحق بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال.
533
الفوائد:
قوله تعالى: «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ» الآية والآية التي تليها، هاتان الآيتان مدنيتان فإن أصابتهم بالقحط إنما كانت بعد خروجه ﷺ من بينهم، روى التاريخ أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز- وقد قدمنا تفسيره- جاء أبو سفيان الى رسول الله ﷺ فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال بلى، فقال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١)
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
534
اللغة:
(مُبْلِسُونَ) : في المصباح: «البلاس مثل سلام هو المسح، وهو فارسي معرب والجمع بلس بضمتين مثل عناق عنق، وأبلس الرجل ابلاسا سكت، وأبلس أيس، وفي التنزيل فإذا هم مبلسون».
(ذَرَأَكُمْ) : خلقكم وبثكم بالتناسل.
الإعراب:
(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) حتى حرف تبتدأ به الجمل وقد تقدم نظيره قريبا وقيل هي غاية وجر، إذا شرطية ظرفية متعلقة بمبلسون وجملة فتحنا في محل جر باضافة الظرف إليها وعليهم متعلقان بفتحنا وبابا مفعول به وذا عذاب صفة لبابا وإذا الثانية حرف مفاجأة قائمة مقام فاء الجزاء في الربط والجملة بعدها جواب إذا الأولى كأنه قيل فهم فيه مبلسون، وهم مبتدأ وفيه متعلقان بمبلسون، ومبلسون خبر هم. (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقريع الكافرين وتذكير المؤمنين فهو خطاب عام، وهو مبتدأ والذي خبر وجملة أنشأ صلة ولكم متعلقان بأنشأ والسمع مفعول به والأبصار والأفئدة عطف عليه وقليلا منصوب على أنه مفعول مطلق صفة لمحذوف هو المفعول المطلق في الحقيقة تقديره شكرا قليلا وما زائدة للتوكيد بمعنى حقا وإنما خص هذه الأعضاء لأنه يناط بها من المنافع مالا يناط بغيرها، هذا من جهة ومن جهة ثانية من لم يعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، وسيأتي مزيد بسط في هذا الصدد في باب البلاغة. (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)
535
عطف على ما تقدم وإعرابه ظاهر. (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وهو الذي عطف على ما تقدم وله خبر مقدم واختلاف الليل والنهار مبتدأ مؤخر والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدر ولا نافية وتعقلون فعل مضارع وفاعل. (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) بل حرف إضراب انتقالي وقالوا فعل وفاعل ومثل صفة لمصدر محذوف أي قولا مثل قول الأولين وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مضاف لمثل والأولون فاعل. (قالُوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الجملة بدل من الجملة قبلها أي مستأنفة، والهمزة للاستفهام الاستبعادي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة متنا في محل جر باضافة إذا إليها وكنا عطف على متنا وكان واسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام الاستبعادي أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها. (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) اللام جواب للقسم المحذوف ووعد فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل ونحن تأكيد للضمير وآباؤنا معطوف على الضمير المتصل وسوغ العطف الفصل بالمنفصل ومن قبل متعلقان بوعدنا أو بمحذوف صفة لقوله آباؤنا أي الكائنون من قبل والمعنى على الجميع لقد وعدنا وآباؤنا بالبعث فلم نر هذا الوعد صدقا وانما رأيناه أساطير الأولين.
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وأساطير الأولين خبر هذا.
البلاغة:
١- وحد السمع في قوله تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لوحدة المسموع دون الابصار والأفئدة أو لأنه
536
مصدر في الأصل والمصادر لا تجمع فلمح الى الأصل وقد تقدمت الاشارة الى ذلك في البقرة فجدد به عهدا.
٢- في قوله «بل قالوا مثل ما قال الأولون» الفصل أي قطع احدى الجملتين عن الأخرى للاتحاد فقد فصل: قالوا أئذا متنا وكنا ترابا إلخ غما قبله لقصد البدل لكونه أوفى بالمقصود من لأول لأن ما قال الأولون أقوال كثيرة ولا يدرى أي قول يراد من تلك الأقوال والأحسن أن يقال إن أريد بقوله مثل ما قال الأولون ما نقل عنهم من قولهم أئذا متنا إلخ وهو الظاهر كان بدل كل من كل.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٤ الى ٩٦]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣)
رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦)
537
الإعراب:
(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة استئنافية، ولمن خبر مقدم ومن استفهامية والأرض مبتدأ مؤخر ومن عطف على الأرض ومن موصولية وعبر عنهم بمن تغليبا للعقلاء كما تقرر وفيها متعلقان بمحذوف صلة من وان شرطية وكنتم تعلمون كان واسمها وجملة تعلمون خبرها وكنتم فعل الشرط والجواب محذوف أي فأخبروني بخالقهما، وفي هذا تلويح بغباوتهم.
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للاخبار من الله تعالى عما يقع منهم في الجواب قبل وقوعه ولله متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، والجملة مقول القول، قل فعل أمر والمراد بالأمر التوبيخ والتأنيب والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف ولا نافية وتذكرون فعل مضارع بحذف إحدى التاءين والأصل تتذكرون. (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) من اسم استفهام مبتدأ ورب السموات السبع خبره
538
ورب العرش العظيم عطف عليه. (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) لله خبر لمبتدأ محذوف أي لا بد لهم أن يقولوا ذلك وأتى باللام نظرا الى معنى السؤال، فإن قولك من ربه ولمن هو في معنى واحد كقولك من رب هذه الدار فيقال زيد ويقال لزيد. (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) من اسم استفهام مبتدأ ويده خبر مقدم وملكوت كل شيء مبتدأ مؤخر والجملة خبر من والتاء والواو في ملكوت زائدتان للمبالغة كزيادتهما في الرحموت والرهبوت من الرحمة والرهبة، والملكوت الملك العظيم والعز والسلطان، والملكوت السماوي هو محل القديسين في السماء، والواو عاطفة أو حالية وهو مبتدأ وجملة يجير خبر والواو عاطفة وجملة لا يجار عطف على يجير والمعنى يغيث من يشاء ويحرسه ولا يغاث أحد منه وعدي بعلى لتضمنه معنى النصر.
(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن شرطية وكنتم فعل الشرط والجواب محذوف كما تقدم أي فأخبروني. (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) لله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وفيه نظر الى أن المعنى من له ما ذكر والتقدير في الأولى قل من له السموات السبع وفي الثاني قل من له ملكوت كل شيء فلام الجر مقدرة في السؤال فظهرت في الجواب نظرا للمعنى وقد قرىء بإسقاطها مع رفع الجلالة جوابا على اللفظ لقوله من لأن المسئول به مرفوع المحل وهو من فجاء جوابه مرفوعا مطابقا له في اللفظ. فأنى الفاء الفصيحة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف وهي في محل نصب على الحال وتسحرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)
بل حرف إضراب وعطف وأتيناهم فعل وفاعل ومفعول به وبالحق حال والواو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبر إن.
539
(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) ما نافية واتخذ الله فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وولد مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول به والواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وإله مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه اسم كان. (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) إذن حرف جواب وجزاء مهمل والى هذا ذهب الفراء وقد تقدم القول فيه في الاسراء واليه جنح الزمخشري قال: «فإن قلت إذن لا تدخل إلا على كلام هو جواب وجزاء فكيف وقع قوله: إذن لذهب جوابا وجزاء ولم يتقدم شرط ولا سؤال سائل؟ قلت: الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة فحذف لدلالة: وما كان معه من إله» واختار غير الفراء والزمخشري أن تكون إذن بمعنى لو الامتناعية وعليه جرى البيضاوي قال: «أي لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كل واحد منهم بما خلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين ووقع بينهم التحارب والتغالب كما هو حال ملوك الدنيا فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء واللازم باطل بالإجماع والاستقراء وقيام البرهان على استناد جميع الكائنات الى واجب واحد» واللام واقعة في جواب الشرط على كلا القولين، وذهب كل إله فعل وفاعل والجملة لا محل لها وبما خلق متعلقان بذهب وجملة خلق صلة ولعلا بعضهم على بعض عطف على ما تقدم. (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان الله نصب على المصدر وعما متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي عن وصفهم. (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عالم الغيب بالجر على البدلية من الجلالة أو صفة له وقرىء بالرفع على القطع فهو خبر لمبتدأ محذوف، فتعالى الفاء عاطفة كأنه قال علم الغيب فتعالى،
540
وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة. (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وإما أدغمت إن الشرطية بما الزائدة وتريني فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط والنون للوقاية والياء مفعول به وما مفعول به ثان فهي بصرية تعدت لمفعولين بواسطة الهمزة لأنه من أرى الرباعي وجملة يوعدون صلة ما والعائد محذوف أي يوعدون به من العذاب (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هذا جواب الشرط والفاء رابطة وأعيد لفظ رب منادى مبالغة في التضرع والابتهال ولا ناهية وتجعلني فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والياء مفعول به أول وفي القوم مفعول به ثان والظالمين صفة.
(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) الواو عاطفة على ما تقدم وان واسمها وعلى أن نريك متعلقان بقادرون وأن حرف مصدري ونصب ونرى مضارع منصوب بأن والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به أول وما مفعول به ثان وقد تقدم القول في أرى البصرية، واللام المزحلقة وهي لام الابتداء زحلقت الى الخبر وقادرون خبر إنا.
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) كلام مستأنف مسوق لحث النبي ﷺ على الصفح عن مساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان. وادفع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبالتي جار ومجرور متعلقان بادفع والتي نعت لمحذوف أي الخصلة، وهي أحسن مبتدأ وخبر والجملة الاسمية صلة التي، والسيئة مفعول به وجملة نحن أعلم حالية ونحن مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يصفون صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بوصفهم لك وسوء ذكرهم.
541
البلاغة:
في قوله تعالى «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ» عدول عن مقتضى السياق لسرّ بليغ فالظاهر أن يقول ادفع بالحسنة السيئة ولكنه عدل عن مقتضى الكلام لما فيه من التفصيل، والمعنى: ادفع السيئة بما أمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة، ولمعترض أن يقول كيف تسوغ هذه المفاضلة التي هي اشتراك في أمر والتميز بغيره وليس ثمة أي اشتراك بين الحسنة والسيئة فانهما ضدان متقابلان فما وجه هذه المفاضلة اذن؟
والجواب: ان الحسنة من باب الحسنات أزيد من السيئة من باب السيئات فتجيء المفاضلة مما هو أعم من كون هذه حسنة وهذه سبئة وذلك شأن كل مفاضلة بين ضدين كقولك العسل أحلى من الخل يعني أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة وليس لأن بينهما اشتراكا خاصا، ومن هذا الوادي ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال: نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا بمعنى أنهما استويا في بلوغ كل منهما الغاية: أشعب بلغ الغاية على السفلة والأعمش بلغ الغاية على العلية.
هذا ويجوز أن يراد وجه آخر وهو أن تكون المفاضلة بين الحسنات التي تدفع بها السيئة فانها قد تدفع بالصفح والإغضاء ويقنع في دفعها بذلك وقد يزاد على الصفح الإكرام وقد تبلغ غايته ببذل الاستطاعة فهذه الأنواع من الدفع كلها دفع بحسنة ولكن أحسن هذه الحسنات في الدفع هي الأخيرة لاشتمالها على عدد من الحسنات، فأمر النبي ﷺ بأحسن الحسنات في دفع السيئة وعندئذ تجري المفاضلة على حقيقتها من غير تأويل.
542

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٧ الى ١٠٤]

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
اللغة:
(هَمَزاتِ) : جمع همزة وهي النخسة والدفعة بيد وغيرها وفي الأساس واللسان: «همز رأسه عصره وهمز الجوزة بكفه، ومن المجاز: همز الرجل في قفاه: غمز بعينه ورجل همزة وهمّاز والشيطان يهمز الإنسان: يهمس في قلبه وسواسا ويقال: أعوذ بالله من همسه وهمزه ولمزه و «أعوذ بك من همزات الشياطين» وفي المختار: «وهمزات الشيطان: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان» قلت: وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض، شبّه حثهم الناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على المشي والجمع للمرّات أو لتنوع الوساوس.
543
(بَرْزَخٌ) : حاجز يصدهم عن الرجوع الى الدنيا، والبرزخ هو الحاجز بين المتنافيين، وقيل الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما الى الآخر، وقال الراغب: أصله برزه فعرّب وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة، والبرزخ قيل هو الحائل بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.
(تَلْفَحُ) اللفح أشد النفح لأنه الإصابة بشدة والنفح الاصابة مطلقا كما في قوله تعالى: «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ» وفي القاموس لفح يلفح من باب فتح فلانا بالسيف ضربه به، ولفحت النار لفحا ولفحانا أو السموم بحرها فلانا أصابت وجهه وأحرقته.
(كالِحُونَ) : الكلوح أن تتقلص الشفتان وتتشمرا عن الأسنان كما ترى الرؤوس المشوية، وعن مالك بن دينار: كان سبب نوبة عتبة الغلام أنه مرّ في السوق برأس قد أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» وفي المختار: «الكلوح تكشّر في عبوس وبابه خضع» قلت: ومنه كلوح الأسد أي تكشيره عن أنيابه ودهر كالح وبرد كالح أي شديد.
الإعراب:
(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ولك أن تعطفها على ما تقدم ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وأعوذ فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا، وبك
544
متعلقان بأعوذ وكذلك قوله من همزات الشياطين. (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) عطف على ما تقدم وأعيد كل من العامل والنداء مبالغة وزيادة اعتناء بهذه الاستعاذة، وأن حرف مصدري ونصب ويحضرون منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والنون للوقاية والواو فاعل وياء المتكلم المحذوفة في محل نصب مفعول به. (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) يجوز أن تكون غاية ليصفون متعلقة بها أي لا يزالون على سوء الذكر الى هذا الوقت، ويجوز أن تكون ابتدائية، وإذا ظرف مستقبل متعلق بقال وجملة جاء مضاف إليها الظرف وأحدهم مفعول به مقدم والموت فاعل مؤخر وجملة قال لا محل لها ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وارجعون فعل أمر مبني على حذف النون وواو الجماعة فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لرسم المصحف مفعول به وإنما جمع والمخاطب واحد وهو الله تعالى للتعظيم وقال أبو البقاء: «فيه ثلاثة أوجه أحدها انه جمع على التعظيم كما قال تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر» وكقوله تعالى:
«ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا» والثاني أنه أراد يا ملائكة ربي ارجعون والثالث أنه دل بلفظ الجمع على تكرير القول فكأنه قال ارجعني ارجعني» وما ذكرناه أولى ولعل واسمها وجمل اعمل خبرها وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وفيما صفة لصالحا أو متعلقان باعمل وجملة تركت صلة أي ضيعت من عمري من دون جدوى أو فائدة. (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) كلا حرف ردع وزجر وسيأتي القول فيها مفصلا أي لن تكون له رجعة وإن واسمها وكلمة خبرها وسيأتي بحث مفيد عن الكلمة في باب الفوائد وهو مبتدأ وقائلها خبر والجملة الاسمية صفة لكلمة والواو إما عاطفة وإما حالية ومن ورائهم خبر مقدم وبرزخ مبتدأ والى يوم صفة
545
لبرزخ وجملة يبعثون مضاف إليها الظرف، وليس المراد انهم يرجعون يوم البعث ولكنه اقناط كلي عن الرجوع الى الدنيا فليست الغاية داخلة في المغيا وانما المراد أنه غيا رجوعهم بالمحال فهو يشبه قوله تعالى:
«حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ».
(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متعلق بما في الجواب من معنى النفي أي انتفى ذلك، وجملة نفخ مضاف إليها الظرف وفي الصور متعلقان بنفخ والفاء رابطة لجواب إذ ولا نافية للجنس وأنساب اسمها مبني على الفتح وبينهم ظرف متعلق بمحذوف خبرها ويومئذ ظرف متعلق بمحذوف صفة لأنساب أو بالمحذوف الذي تعلق به الخبر والتنوين في يومئذ عوض عن جملة تقديرها يوم نفخ الصور، وسيأتي معنى نفي الأنساب في باب البلاغة، ولا يتساءلون عطف على ما سبق ويتساءلون فعل مضارع وفاعل أي لا يسأل بعضهم بعضا عنها كما سيأتي.
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفاء للتفريع والجملة معطوفة أو مستأنفة ومن شرطية مبتدأ وثقلت فعل الشرط وموازينه فاعل فأولئك الفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والمفلحون خبر أولئك أو خبر هم والجملة خبر أولئك. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) الجملة معطوفة على سابقتها ومثيلتها وفي جهنم متعلقان بخالدون وخالدون خبر لمبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر لأولئك وارتأى الزمخشري أن يكون بدلا من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن صلة الموصول لا محل لها. (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) الجملة مستأنفة أو خبر ثان أو حال ووجوههم مفعول به
546
مقدم والنار فاعل مؤخر والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وفيها متعلقان بكالحون أو بمحذوف حال من هم وكالحون خبر.
البلاغة:
في قوله تعالى «فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ» فن التنكيت وقد تقدم بحثه فقد قصد بنفي الأنساب وهي موجودة أمرا آخر لنكتة فيه، فإن الأنساب ثابتة لا يصح نفيها وقد كان العرب يتفاخرون بها في الدنيا ولكنه جنح الى نفيها إما لأنها تلغو في الآخرة إذ يقع التقاطع بينهم فيتفرقون معاقبين أو مثابين، أو أنه قصد بالنفي صفة للأنساب محذوفة أي يعتد بها حيث تزول بالمرة وتبطل لزوال التراحم والتعاطف من فرط البهر والكلال واستيلاء الدهشة عليهم.
الفوائد:
تطلق الكلمة في اللغة على الكلام، وهذا الإطلاق اختلف فيه العلماء فذهب السنهوري في شرح الأجرومية وابن هشام في شذور الذهب الى أن الإطلاق حقيقي كائن في أصل اللغة، قال صاحب القاموس «الكلمة وجمعها كلم وكلمات: اللفظة وما ينطق به الإنسان مفردا كان أو مركبا» وقيل إن الإطلاق المذكور من قبيل الاستعارة وان أجزاء الكلام لمّا ارتبط بعضها ببعض حصلت له بذلك وحدة فشابه بذلك الكلمة فأطلق لفظها عليه، والآية صريحة في تأكيد هذا الإطلاق، ونحوها قوله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكلّ نعيم لا محالة زائل
وقولهم كلمة الشهادة يريدون: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
547

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٥ الى ١١٠]

أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
اللغة:
(شِقْوَتُنا) : أحد مصادر شقي، وفي المختار: «الشقاء والشقاوة بالفتح ضد السعادة وقرأ قتادة شقاوتنا بالكسر وهي لغة وقد شقي بالكسر شقاء وشقاوة أيضا وأشقاه الله فهو شقي بيّن الشقوة» وفي القاموس وشرحه «شقي يشقى من باب تعب شقا وشقاوة وشقاوة وشقوة وشقوة ضد سعد فهو شقي والجمع أشقياء».
(اخْسَؤُا) : ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت وفي الصحاح: «خسأت الكلب وخسأ بنفسه يتعدى ولا يتعدى» وفي المختار: «خسأ الكلب طرده من باب قطع وخسأ هو بنفسه خضع» وللخاء مع السين فاء وعينا خاصة واحدة وهي أن الكلمة تدل على المهانة والمذلة وقد تقدم القول في خسأ، وخسر التاجر في بيعه خسرانا وخسرا وتاجر خاسر وأخسر الميزان وخسّره نقصه وميزان مخسور وأخسر فلان وأكسد وقع في الخسران والكساد وأخسرت الرجل نقيض
548
أربحته وقيل لسلم الخاسر لأنه باع مصحفا ورثه واشترى بثمنه عودا يضرب به، والخسة معروفة وهي النذالة، تقول: خسست يا رجل تخس مثل مسست تمس خسة وخساسة ورجل خسيس وقوم أخسة وما رأيت أخسّ منه والخس ترياق ويقال: أين نبت الخس، من فصاحة قسّ وكلاهما من إياد، ولكن أين الأخامص من الأجياد، وخسف القمر وخسفت الأرض وانخسفت ساخت بما عليها وخسف الله بهم الأرض ومن المجاز سامه خسفا أي ذلا وهوانا ورضي بالخسف وبات على الخسف: على الجوع وشربوا على الخسف على غير ثقل وعين خاسفة فقئت حتى غابت حدقتها في الرأس وخسفت عينه وانخسفت وخسف بدنه: هزل، وفلان بدنه خاسف ولونه كاسف قال يصف صائدا:
أخو قترات قد تبين أنه... إذا لم يصب لحما من الوحش خاسف
وخسفت إبلك وغنمك وأصابتها الخسفة وهي تولية الطرق وإن للمال خسفتين: خسفة في الحر وخسفة في البرد، وهو مخسول ومخسّل: وقد خسله وخسّله. وقال:
ونحن الثريا وجوزاؤها... ونحن الذراعان والمرزم
وأنتم كواكب مخسولة... ترى في السماء ولا تعلم
وقولهم أخسا أم زكا أي أوتر أم شفع، وتخاسى الصبيان تلاعبوا بذلك، وقال الممزق:
تخاس يداها بالحصى وترضّه... بأسمر صرّاف إذا جمّ مطرق
وفي هذا القدر ما يكفي.
549
(سِخْرِيًّا) : بالكسر والضم مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة في قوة الفعل كما قيل الخصوصية في الخصوص وعن الكسائي والفراء أن المكسور من الهزء والمضموم من السخرة والعبودية والأول مذهب الخليل وسيبويه والمراد بهم الصحابة وقيل أهل الصفّة خاصة وفي المصباح: «سخرت منه سخرا من باب تعب هزئت به والسخري بالكسر لغة فيه والسخرة وزان غرفة ما سخرت من خادم أو دابة بلا أجر والسخري بالضم بمعناه وسخرته في العمل بالتثقيل استعملته مجانا وسخر الله الإبل ذللها وسهلها».
الإعراب:
(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري والتوبيخي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وآياتي اسمها وجملة تتلى خبرها وعليكم متعلقان بتتلى، فكنتم الفاء عاطفة وكان واسمها وبها متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم. (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) قالوا فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بالواو والواو فاعل وربنا منادى مضاف وغلبت فعل ماض والتاء للتأنيث وعلينا متعلقان بغلبت وشقوتنا فاعل غلبت، وكنا الواو عاطفة وكان واسمها وقوما خبرها وضالين صفة. (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) ربنا منادى مضاف وكرره للعناية به وأخرجنا فعل أمر معناه الدعاء ومنها متعلقان بأخرج والفاء عاطفة وإن شرطية وعدنا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والضمير فاعل والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وان واسمها وظالمون خبرها والجملة في محل جزم جواب الشرط.
550
(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) جملة اخسئوا مقول القول وهو فعل آمر والواو فاعل وفيها متعلقان باخسئوا ولا الواو عاطفة ولا ناهية وتكلمون فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والياء المحذوفة مفعول به. (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) جملة تعليلية لما قبلها من الزجر، وإن واسمها وجملة كان خبرها وفريق اسم كان ومن عبادي صفة لفريق وجملة يقولون خبر كان وربنا منادى مضاف وجملة آمنا مقول القول، فاغفر لنا الفاء عاطفة واغفر فعل أمر معناه الدعاء وارحمنا عطف عليه، وأنت الواو استئنافية وأنت مبتدأ وخير الراحمين خبر. (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) الفاء عاطفة واتخذتموهم فعل وفاعل ومفعول به والميم علامة جمع الذكور والواو لاشباع ضمة الميم وسخريا مفعول به ثان ومن هؤلاء المهاجرين بلال وصهيب وعمار وخباب وحتى حرف غاية وجر وأنسوكم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وذكرى مفعول به ثان وكنتم كان واسمها ومعهم متعلقان بتضحكون وجملة تضحكون خبر كنتم والمعنى لم يعد لكم شغل إلا الهزء بهم والضحك منهم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١١ الى ١١٨]
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
551
اللغة:
(الْعادِّينَ) : بتشديد الدال جمع عاد من عدّ الشيء يعدّه بضم العين في المضارع إذا أحصاه وحسبه.
(عَبَثاً) العبث بفتحتين: اللعب ومالا فائدة فيه وكل ما ليس فيه غرض صحيح يقال عبث يعبث عبثا إذا خلط عمله بلعب وأصله من قولهم عبثت الأقط أي خلطته والعبث طعام مخلوط ومنه العوبثاني لتمر وسويق وسمن مختلط.
الإعراب:
(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حسن حالهم أنهم انتفعوا بإذايتهم إياهم. وان واسمها وجملة جزيتهم خبر إن وجزيتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول واليوم ظرف لجزيتهم وبما متعلقان بجزيتهم والباء للسببية أي بسبب صبرهم وما مصدرية وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ثان
552
لجزيتهم أي جزيتهم فوزهم وأن واسمها وهم ضمير فصل والفائزون خبر ان. (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) كم استفهامية في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو متعلق بلبثتم، وفي الأرض متعلقان بلبثتم أو بمحذوف حال وعدد سنين تمييز كم وسنين مضاف اليه والمعنى كم لبثتم عددا من السنين. (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) جملة لبثنا مقول القول ويوما ظرف متعلق بلبثنا وأو حرف عطف وبعض يوم معطوف على يوما، فاسأل الفاء الفصيحة واسأل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والعادين مفعول به وقد قالوا هذا لأنهم- وقد غشيهم العذاب وأحاطت بهم أهواله- لم يعد بوسعهم أن يحصوا ذلك أو يذكروا فقالوا إن أردت معرفة الحقيقة فاسأل العادين أما نحن ففي معزل عن ذلك. (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال فعل وفاعله مستتر يعود على الله سبحانه وإن نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر وقليلا صفة لظرف محذوف أي زمنا قليلا ولو حرف امتناع لامتناع وان واسمها وجملة كنتم خبرها وجملة تعلمون خبر كنتم ومفعول تعلمون محذوف أي مقدار لبثكم ويجوز اعراب قليلا صفة لمصدر محذوف أي لبثا قليلا. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وحسبتم فعل وفاعل والجملة مستأنفة مسوقة لتوبيخهم على تماديهم في الغفلة وصدوفهم عن النظر الصحيح، وأنما كافة ومكفوفة وهي وما بعدها في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي حسبتم وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به وعبثا يجوز إعرابه نصبا على أنه مصدر واقع موقع الحال أي عابثين ويجوز إعرابه نصبا أيضا على المصدرية أو انه مفعول لأجله أي لأجل العبث وأنكم يجوز أن يكون معطوفا على أنما
553
خلقناكم فيكون الحسبان منسحبا عليه وأن يكون معطوفا على عبثا أي للعبث وأن واسمها ولا نافية وجملة ترجعون خبر ان وهو فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لاستعظام الله تعالى، وتعالى فعل ماض والله فاعله والملك الحق صفتان له وجملة لا إله إلا هو حال وقد تقدم اعرابها كثيرا ورب العرش صفة ثالثة والكريم نعت للعرش. (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويدع فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة ومع الله ظرف متعلق بيدع وإلها مفعول به ليدع وآخر صفة ولا نافية للجنس وبرهان اسمها مبني على الفتح وله خبر لا والجملة صفة ثانية لإلها وهي صفة لازمة نحو قوله يطير بجناحيه وجيء بها للتوكيد، ويجوز أن تكون جملة معترضة بين فعل الشرط وجوابه فإن كانت صفة فالمقصود بها التهكم بمدعي إله مع الله كقوله «بل أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا» فنفى إنزال السلطان به وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان لا منزّل ولا غير منزّل، ومن جنس مجيء الجملة بعد النكرة وصرفها عن أن تكون صفة لها ما تقدم عند قوله تعالى «فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت» فارجع اليه إن شئت.
فانما الفاء رابطة لجزاء الشرط لأن الجملة اسمية وإنما كافة ومكفوفة وحسابه مبتدأ وعند ربه الظرف متعلق بمحذوف خبر حسابه والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) الجملة تعليلية لا محل لها وان واسمها وجملة
554
لا يفلح خبر انه والكافرون فاعل. (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) الواو استئنافية ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة واغفر فعل أمر والمقصود منه الدعاء وارحم عطف عليه وأنت الواو استئنافية وأنت مبتدأ وخير الراحمين خبر.
البلاغة:
في خاتمة سورة «المؤمنون» قوله: «إنه لا يفلح الكافرون» وفي فاتحتها «قد أفلح المؤمنون» فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
555
Icon