تفسير سورة الفرقان

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

تعالى وتقدس وتنزه أو هو من البركة، وهي الخير كل الخير ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ القرآن، وسمي فرقاناً: لأنه يفرق بين الحق والباطل ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ﴾ الجن والإنس؛ و «العالمين» جمع العالم. والعالم: الخلق كله
﴿وَلَمْ﴾ كما تزعم النصارى ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ﴾ كما زعم المشركون ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ بحيث لا يزيد عن الحاجة، ولا ينقص عنها (انظر آية ٥٠ من سورة طه)
﴿وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ هي الأصنام ﴿وَلاَ نُشُوراً﴾ أي بعثاً للأموات؛ وهذه جميعها يملكها مبدع الأرض والسموات؛ فهو تعالى وحده خالق الخلق ومالكهم، وهو جل شأنه القادر على إيقاع الضر، وإيصال النفع، وإحداث الموت والحياة والنشور
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا﴾ ما هذا القرآن ﴿إِلاَّ إِفْكٌ﴾ كذب ﴿افْتَرَاهُ﴾ اختلقه محمد ﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ﴾ ساعده على اختلاقه ﴿قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ زعم المشركون أن بعض من آمن بمحمد من اليهود كانوا يعاونونه في اختلاق القرآن ﴿فَقَدْ جَآءُوا﴾ بقولهم هذا ﴿ظُلْماً وَزُوراً﴾ كفراً وكذباً؛ إذ كيف يؤمن به قوم يعلمون علم اليقين كذبه وافتراءه؟ وكيف يعقل أن هذا القرآن المعجز من صنع البشر، ومن جنس كلامهم؟ (انظر آية ٢٣ من سورة البقرة)
﴿وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ﴾ أكاذيب ﴿الأَوَّلِينَ﴾ المتقدمين ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ طلب من غيره كتابتها له ﴿فَهِيَ تُمْلَى﴾ تقرأ ﴿عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ أول النهار وآخره. أي صبحاً ومساء
﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي الذي يعلم ما خفي فيهما. ولما كان القرآن الكريم حاوياً لكثير من المغيبات؛ التي يستحيل على البشر علمها؛ كان ذلك دليلاً على نزوله من لدن عالم السر والنجوى
﴿وَقَالُواْ﴾ من جهلهم وغبائهم ﴿مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ﴾ كما نأكل ﴿وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ﴾ طلباً للمعايش؛ كما نمشي ﴿لَوْلاَ﴾ هلا ﴿أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ﴾ من السماء ﴿فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً﴾ يصدقه فيما يبلغه عن ربه
﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ﴾ يغنيه عن المشي في الأسواق، ويجعله من الأغنياء الذين ينظر إليهم بعين الإكبار والاعتبار ﴿أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ﴾ بستان ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ﴾ الكافرون ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ مخدوعاً، مغلوباً على عقله
﴿انظُرْ﴾ يا محمد ﴿كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ﴾ فوصفوك بالمسحور، والمحتاج إلى مال ينفقه، وإلى ملك يؤيده؛ وهذه الأمثال التي ضربوها، والأكاذيب التي اخترعوها؛ ما أرادوا بها إلا التوصل إلى تكذيبك، والحط من شأنك ﴿فَضَلُّواْ﴾ عن الهدى ﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً﴾ إلى الإيمان؛ وكيف يهديهم الله تعالى وقد ضلوا وأضلوا ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ أعددنا وهيأنا
﴿سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً﴾ غلياناً؛ كما يغلي صدر المغضب المغيظ ﴿وَزَفِيراً﴾ صوتاً شديداً. أو المعنى: رأوا لها تغيظاً، وسمعوا لها زفيراً؛ لأن التغيظ لا يسمع؛ أو هو وصف لخزنتها
﴿وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً﴾ أي إذا ألقوا في مكان ضيق منها؛ وجهنم تضيق على وارديها - رغم سعتها، وقولها ﴿هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ - ليكون ذلك الضيق من جملة العقاب الواقع بهم ﴿مُّقَرَّنِينَ﴾ مسلسلين في الأغلال؛ قرنت أيديهم وأرجلهم ﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ أي هلاكاً؛ كقول المصاب: وامصيبتاه؛ فيقال لهم:
﴿لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً﴾ لأن الهلاك قد أحاط بكم من كل جانب
﴿قُلْ﴾ للمشركين يا محمد - بعد وصف ما أعده الله تعالى لهم من عذاب أليم - ﴿أَذلِكَ﴾ العذاب ﴿خَيْرٌ﴾ لمن يحل به ﴿أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ بها، وأعدها الله تعالى لهم ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً﴾ ثواباً على أعمالهم ﴿وَمَصِيراً﴾ مرجعاً يصيرون إليه؛ فضلاً من ربهم ورضواناً
﴿كَانَ﴾ ذلك الجزاء ﴿وَعْداً﴾ وعده الله تعالى عباده المتقون ﴿مَّسْئُولاً﴾ يسأله من وعد به: «ربنا وآتنا ما وعدتنا» ويسأله الملائكة «ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم»
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ أي يحشر المشركين ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ من الأصنام، أو من الملائكة، والإنس والجن ﴿فَيَقُولُ﴾ تعالى للمعبودين
﴿قَالُواْ﴾ أي الأصنام؛ ينطقها الله الذي أنطق كل شيء. أو المراد بما يعبدون: ما يعقل: كالملائكة، وعيسى، وعزير ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تعاليت وتقدست عما قالوا، وما فعلوا (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ﴿مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ﴾ ونحن المعبودون لهم نواليهم ونركن إليهم؛ فكيف نضلهم، ونطلب منهم أن يعبدونا من دونك؟ ﴿وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ﴾ بسعة الرزق، وطول العمر
-[٤٣٧]- ﴿حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ﴾ تركوا شكر نعمتك؛ حتى استوجبوا نقمتك ﴿وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً﴾ هلكى؛ أو هو كالأرض البور: الفاسدة التي لا تجود بالنبات
﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ أي كذبتكم الآلهة التي تزعمونها، وتبرأت منكم ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً﴾ دفعاً للعذاب عنكم ﴿وَلاَ نَصْراً﴾ ولا أحداً ينصركم علىالله، ويمنعكم عذابه الذي قضاه لكم ﴿وَمَن يَظْلِم﴾ يشرك
﴿لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ كما تأكل ﴿وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ﴾
كما تمشي؛ فلست بدعاً من الرسل؛ بل أنت واحد منهم ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ أي بلية: ابتلى الفقير بالغني، والمريض بالصحيح، والوضيع بالشريف؛ فيقول الفقير: ما لي لا أكون غنياً؟ ويقول المريض: ما لي لا أكون صحيحاً؟ ويقول الوضيع: ما لي لا أكون شريفاً؟ وذلك الابتلاء لينظر تعالى ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ على ما ابتليتم به، أم تكفرون؟ ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾ بعباده، عالماً بما سيؤول إليه أمرهم وحالهم
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ لا يؤمنون بالآخرة ﴿لَوْلاَ﴾ هلا ﴿وَعَتَوْا﴾ طغوا
﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ﴾ يوم القيامة؛ لأنهم لا يرونهم إلا يومها؛ ويومذاك ﴿لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ الكافرين؛ بل لهم العذاب والخزي والحرمان ولا تكون البشرى إلا لصالحي المؤمنين ﴿وَيَقُولُونَ﴾ أي يقول الملائكة ﴿حِجْراً مَّحْجُوراً﴾ أي حراماً محرماً أن يبشر أو يدخل الجنة؛ إلا من قال: لا إله إلاالله، وقام بحقها. وقيل: هو من قول الكافرين؛ بمعنى: عوذاً معاذاً؛ يستعيذون من الملائكة الذين يدفعونهم إلى جهنم، ويدعونهم إلى نارها
﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ أي إنا لا نقيم لحسنات الكفار وزناً يوم القيامة
﴿وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ أي منزلاً؛ وهو المكان الذي يقال فيه؛ أي ينام وقت القيلولة؛ وهي منتصف النهار
﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ﴾ تتشقق ﴿بِالْغَمَامِ﴾ قيل: تتشقق السماء عن غمام أبيض؛ وهو المعنى بقوله تعالى ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾ ﴿وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ﴾ من أمكنتها وسماواتها ﴿تَنزِيلاً﴾ بأمر ربها
﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ أي الملك الحقيقي؛ الذي فيه الرفع والخفض، والإعزاز والإذلال؛ وليس كملك الدنيا وملوكها؛ الذين لا حول لهم ولا طول
﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ ألماً وحسرة وندماً
-[٤٣٨]- ﴿يَقُولُ يلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾ طريقاً إلى الهدى
﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً﴾ وفلاناً: هو الشيطان الموسوس: إنسياً كان أو جنياً
﴿لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ﴾ صرفني عن القرآن وما فيه من عظات، وآيات بينات
﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ أي متروكاً؛ والمراد ترك أحكامه، أو ترك تلاوته والاتعاظ به. وقيل: اتخذوه محلاً للهجر والسخرية. والهجر: فحش القول
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ﴾ هلا ﴿نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ﴾ لنتأكد أنه منزل من عند ربه؟ قال تعالى رداً عليهم ﴿كَذَلِكَ﴾ أنزلناه مفرقاً منجماً ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ نقوي قلبك بحفظه واستيعابه، وفهمه ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ أي بيناه تبييناً، ونزلناه بتمهل وتؤدة
﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾ يريدون به تكذيبك وإبطال أمرك ﴿إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ الدامغ لباطلهم ﴿وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ بياناً للأمور؛ وقد وصفهم الله تعالى بقوله:
﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ يجرون عليها؛ وفي هذا منتهى الإذلال والتعذيب
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة. وقد شرع الله تعالى في تسلية رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام؛ بسرد تكذيب الأمم السابقة لرسلهم - كما كذبه قومه - وما حل بأقوامهم من تعذيب وتدمير
﴿فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ وهم فرعون وقومه من القبط؛ فذهبا إليهم برسالة ربهم وكتابه؛ فكذبوهما وآذوهما ومن آمن بهما ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً﴾ أهلكناهم إهلاكاً
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً﴾ عظة وعبرة ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾
أعددنا وهيأنا
﴿وَعَاداً﴾ قوم هود ﴿وَثَمُودَاْ﴾ قوم صالح ﴿وَأَصْحَابَ الرَّسِّ﴾ الرس: البئر غير مطوية؛ وقد كانوا حولها وقت نزول العذاب فانهارت بهم؛ ولذا تسموا باسمها. وهم قوم شعيب عليه السلام ﴿وَقُرُوناً﴾ أمماً
﴿تَبَّرْنَا تَتْبِيراً﴾ أهلكنا إهلاكاً؛ من التبر: وهو الكسر والإهلاك
﴿وَلَقَدْ أَتَوْا﴾ أي مر كفار مكة ﴿عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ﴾ السوء: العذاب؛ وهي قرية سذوم: أعظم قرى قوم لوط؛ وقيل: سدوم. وقد أهلكها الله تعالى وأمطرها حجارة. وقد كانت قريش تمر بها في تجاراتهم إلى الشام ﴿بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً﴾ أي لا يؤمنون بالبعث
﴿لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا﴾ دمنا وبقينا على عبادتها
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ أي نسي مولاه، واتبع هواه، وانقاد له في كل الأمور. قيل: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر؛ فإذا مر بحجر أحسن منه عبده وترك الأول (انظر آية ١٧٦ من سورة الأعراف)
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ بسط الظل الظاهر للعيان؛ ليتمتع به كل إنسان ﴿وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً﴾ مستقراً لا تنسخه شمس. أو المراد بسكونه: منع الشمس من الطلوع ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾ أي على تحرك الظل؛ إذ أن الأشياء لا تعرف إلا بأضدادها؛ فلولا الشمس ما عرف الظل
﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ﴾ أي قبضنا الظل الممدود ﴿قَبْضاً يَسِيراً﴾ خفياً بطيئاً؛ بطلوع الشمس، أو بزوالها؛ حيث يقبض الظل ويتقلص، ويحل محله الإظلام التام
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً﴾ أي ساتراً كاللباس ﴿وَالنَّوْمَ سُبَاتاً﴾ أي راحة. وقيل: موتاً لأنه الموت الأصغر. قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾ ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً﴾
أي ينشر فيه الخلق لطلب المعايش، أو هو كالبعث من الموت
﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ أي أرسل الرياح لتبشر الناس بالمطر وسمي المطر رحمة: لأن به حياة النفس، والأرض، والنبات، والحيوان
﴿لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ جدباً؛ لا نبات فيها ﴿وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً﴾ إبلاً وبقراً وغنماً ﴿وَأَنَاسِيَّ﴾ جمع إنسان أو جمع إنسي
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ﴾ بيناه؛ والمراد به القرآن الكريم؛ وقيل: المراد به الماء؛ وليس بشيء؛ وقد جاء ذكر القرآن في صدر السورة ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ وقوله ﴿لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ﴾ القرآن ﴿بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي﴾ وقوله تعالى:
﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ﴾ أي بالقرآن - لا بالماء - والجهاد به: الأمر بالعمل بما فيه، والقتال عليه
﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ جعلهما متلاصقين مختلطين ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ شديد العذوبة ﴿وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ شديد الملوحة ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً﴾ حاجزً ﴿وَحِجْراً مَّحْجُوراً﴾ حائلاً يمنع أحدهما عن الآخر
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ﴾ المني ﴿بُشْرَى﴾ إنساناً ﴿فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً﴾ بأن يتزوج، ويزوج، فيناسب، ويصاهر؛ وبذلك ينتج وينجب من يناسب ويصاهر أيضاً؛ فلا تنقطع البشرية
﴿وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً﴾ أي معيناً عليه أعداءه؛ من شياطين الإنس والجن
﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي على التبليغ ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ أي لا أطلب أجراً لي على التبليغ؛ إلا من شاء أن يتخذ طريقاً لمرضات ربه؛ فينفق من ماله، ويتصدق مما آتاه الله
﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾ هو قول: سبحانالله، والحمدلله قال «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» ﴿وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً﴾ عليماً بها؛ فيجازيهم عليها ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ﴾ استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود
﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ أي عنه؛ والباء تكون بمعنى عن؛ إذا اقتضى السياق ذلك. ونظيره قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ أي عن عذاب. ومعنى «فاسأل به» أي اسأل عما ذكر من خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش ﴿خَبِيراً﴾ أي خبيراً بذلك؛ وهو الله تعالى: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ وقال بعض الأجلاء: «فاسأل به خبيراً» أي اسأل عن الرحمن «خبيراً» وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ وقد ورد اسم الرحمن في كتبهم؛ وقد كان المشركون أنكروا على الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الاسم الكريم عند نزول قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى﴾ وقد وصف الله تعالى ما حدث منهم بقوله جل شأنه:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ﴾ مستنكرين ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ ألست تزعم أن ما تدعونا إليه إلهاً واحداً؟ ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ﴾ ذكر الرحمن ﴿نُفُوراً﴾ على نفورهم، وكفراً على كفرهم
﴿تَبَارَكَ﴾ تعالى وتنزه وتقدس الله ﴿الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً﴾ وهي اثنا عشر (انظر آية ١٦ من سورة الحجر) ﴿وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً﴾ يضيؤها؛ وهو الشمس ﴿وَقَمَراً مُّنِيراً﴾ ينير الأرض عند طلوعه، ويهدي السائرين والمسافرين.
هذا وقد ولع أقوام باكتشاف القمر؛ ولم تقف أطماعهم عند حد النظر؛ بل أرادوا أن يلجوه، ويسبروا غوره، ويعرفوا ما وراءه. وزعم بعضهم أنه سيرسل صاروخاً يفجر به جزءاً من القمر؛ ليكون هذا التفجير طريقاً إلى اكتشافه.
وما رأينا فيما رأينا ولا سمعنا فيما سمعنا حمقا يعدل هذا الحمق ولا جهلا يوازي هذا الجهل! فإننا لو افترضنا جدلا أن الوصول إلى القمر بالطريق التي يرسمونها، ومن اليسر بالدرجة التي يتوهمونها، فهمل من الحكمة، وهل من السداد أن يحطم الإنسان ما يريد أن يكتشفه وينتفع به؟!
وماذا يكون الحال لو ثبت أن في هذه الكواكب سكاناً عقلاء، وأنت هؤلاء السكان قد بلغوا
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: النص التالي في النسخة الإلكترونية، وليس في المطبوع:
وقوام البحث العلمي الصحيح: أن نبحث أموراً ثلاثة:
أولها: أن التحدي واقع على الإنس والجن معاً ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾.
ثانيها: أقطار السموات والأرض، ومدى هذه الأقطار، وكنهها ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ﴾
ثالثها: السلطان؛ الذي تستطيع أن تنفذ به الإنس والجن من أقطار السموات والأرض؛ متى توفر لهم ﴿لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ وهل يمكن توفر هذا السلطان أم لا؟
الأول: التحدي يجب أن يكون بأمر؛ ليس في طاقة المتحدِّي إتيانه.
وقد ثبت من القرآن نفسه: قول الجن «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً».
فوجب أن يكون التحدي: أبعد من لمس السماء، أو أن يكون اللمس غايته؛ لأنهم قد منعوا عنه بالحرس والشهب.
الثاني: أن مدى أقطار السموات والأرض؛ يستدعينا أن نستوفي المقاييس بين السماء والأرض؛ لمعرفة أقطارهما، والكواكب المتعلقة بالأرض، والمسخرة لخدمتها وخدمة سكانها؛ فالقمر: الذي وصلوا إليه، والمريخ والزهرة: اللذان يحاولون الوصول إليهما؛ بل المجموعة الشمسية كلها؛ بما فيها من كواكب، وأنجم ومجرات: كلها مسخرة للأرض ﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ﴾
-[٤٤٢]- من العلم ما بلغنا وأنهم قد رغبوا فيما رغبنا فيه، من اكتشاف بعض الكواكب القريبة منهم - كالأرض مثلا- فإذا بنا نفاجأ يوما ما بصاروخ موجه إلى الأرض من القمر أو سكان الزهرة أو المريخ، وإذا بنا في لحظة من اللحظات وقد طاحت القارة الأمريكية أو الأوروبية أو غيرهما من القارات، في سبيل استكشاف سكان بعض الكواكب للكوكب الأرضي
أليس في هذا من الحمق والخرق ما يكفي لأن نغل يد من يقول بذلك ويعمل في سبيله، وأن نلقي به في غياهب البيمارستانات، حتى يرتد إليه عقله، ويثوب إليه رشده
وإذا سرنا وراء السائرين، وقلنا مع القائلين: بأن الإنسان سيبلغ القمر لا محالة، وأنه سيسكنه ويستعمره في بضع سنين، فما الفائدة التي تعود على بني الإنسان من سكنى القمر أو سكنى بعض الكواكب؟ ولنفترض أننا قد وصلنا إليه الآن فعلا، فهل تقف مطامع الإنسان عند هذا الحد أو يشمر عن ساعد الجد، فيسعى للوصول إلى الزهرة فالمريخ - وقد طمع من الآن في ولوجهما، وبدأ في قياس أبعادهما، وطريق الوصول إليهما - وها نحن أولاء قد وصلنا إلى القمر وسكناه، وإلى المريخ فاستعمرناه، وإلى الزهرة فملكناه، فهل تقف المطامع إلى هذا الحد، أم تتصاعد إلى عطارد، فالمشترى، فزحل
-[٤٤٣]- وآخر المطاف قد يفكر الإنسان في ولوج الشمس؛ ليسبر غورها، ويكشف لثامها؛ ولم لا: ألم يتغلب على سائر الأجواء، ويتملك الأرض والسماء؟ فإن كانت الشمس قطعة من النيران؛ فإنه يستطيع حتماً مكافحتها بما أوتي من حذق وعلم؛ فليأخذ كل صاعد إلى الشمس آلة صغيرة مما أعد لإطفاء الحرائق؛ فيعيش في النيران، كما يعيش المنعم في الجنان
وإذا ملك الإنسان الكواكب واستعمرها - كما يزعم - فهل يقف عند ذلك؛ أم يقلب ناظريه إلى العرش والكرسي، وإلى الملك اللانهائي؛ فيطمع في معرفة حدوده وأركانه وتخومه؛ وكيف نشأ الكون؟ وكيف بدأ؟ وكيف صنع؟ ومن هو هذا الصانع؟ وأين هو؟ هلم إلى لقائه؛ بل إلى محاربته ألم ننكر وجوده؟ ألم نكفر بحقيقته؟ ألم نقل: لا إله إلا المادة، ولا خالق إلا الطبيعة، ولا رازق إلا السعي، وأن المخلوقات إنما خلقت من لا شيء، والموجودات وجدت من غير شيء؟ وها هو الكون قد جبناه، والملكوت قد حصرناه؛ فأين يوجد ما تزعمون أنه الله؟
-[٤٤٤]- فيا أيها ذا الأحمق الأخرق: لقد وصلت إلى درجة من الفهم؛ ما كنت لتعقلها لولا ما وهبك الله تعالى من عقل، ووصلت إلى درجة من العلم؛ ما كنت لتعلمها لولا هداية العزيز الأكرم، الذي ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ فقد استطعت أن تقيس سرعة الصوت والضوء، وأن تحسب تنقلات الشمس والقمر في بروجهما، وتحديد زمن كسوفهما وخسوفهما؛ وشأن كليهما وتأثيره في الحيوان، والنبات، والجماد.
وقد أدركت - بما علمك الله تعالى - بعض القوانين الكونية، وكثيراً من الأسرار الطبيعية
كل ذلك قمين بهدايتك إلى خالقك وموجدك، وجدير بإنابتك له وتعبدك ولكنك أيها الإنسان - كشأنك دائماً - جحود كنود فقد جعلت هذه الفتوحات الربانية باباً لكفرك وتكذيبك، ومصدراً لإلحادك وعنادك؛ ولم تقل: جل الصانع، وتبارك الخالق بل قلت: ما أجمل الطبيعة وأبدعها أليست هي مصدر الكون، وأصل الحياة؟ وما الكون إلا وليد الصدفة، وما الإنسان إلا وليد الطبيعة
فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؛ الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك اعلم أن الذي أدركته وملكته واستعمرته: لا يعدل قطرة من بحر ملك ربك الزاخر، وأن ما علمته من الكواكب، وما أدركته من صفاتها ومقوماتها؛ إن هو إلا ذرة في مجموعة من النجوم - لا تستطيع أن تحصيها ولو أضفت إلى عمرك أعمار النسور، وأضفيت على نفسك قوى الجبابرة والعمالقة - وهذه النجوم مجتمعة - ما عرفت منها وما لم تعرف - إن هي إلا ذرة في مجموعة أخرى؛ لا يحيط بها العلم، ولا يدركها الوهم؛ وهكذا هكذا بغير انتهاء
واعلم أنك - وقد استويت خلقاً، وأوتيت علماً وفهماً، وسلطك الله تعالى على ما هو أكبر منك جسماً، وأشد مراساً؛ من مخلوقاته - لو سلط عليك قليلاً من النمل لأهلكك، أو ريحاً من الرمل لأفنتك وها هو الميكروب الذي عرفته، وبما آتاك الله تعالى من علم اكتشفته: لو سلطه الله تعالى عليك لجعلك كالعصف المأكول؛ كما فعل بأصحاب الفيل
فيا أخي في الإنسانية، وعدوي في اللادينية: ثب إلى رشدك، وقف عند حدك، والزم أدبك؛ واعلم أن نفسك ليست بأخس من النعل، ولا بأحقر من الحديدة في حافر البغل؛ وهما لا يوجدان بغير موجد، ولا يكونان بغير مكون. فكيف توجد أنت - يا لابس الحذاء، وراكب البغل - بلا خالق، وتأكل بلا رازق، وتولد بلا مصور، وتتعلم بلا معلم، وتتربى بلا مرب، وتحفظ بلا حفيظ، وتهتدي بلا هاد، وتغنى بلا مغن؟ كيف يفوتك ذلك وأنت اللبيب الأريب؟ وقد أبان لك الله تعالى الطريقين، وهداك النجدين؛ فاحذر يا أخي من الوقوع في براثن الشيطان؛ إنه لك عدو مبين؛ وإني لك لناصح أمين
ومن عجب أن يتبرع أناس بأنفسهم، ويضحون بأرواحهم، ويطلبون أن يكونوا من بين المسافرين إلى الكواكب؛ كأن السفر إلى الكواكب قد أصبح بين عشية وضحاها حقيقة ثابتة واقعة لا محالة. ومثلهم في ذلك كمثل من سعى إلى حتفه بظلفه؛ فلن يبلغ الكواكب بالغ، ولن يسافر إليها مسافر فكما أن أجواء أعماق البحار والأنهار غير صالحة لسكنى بني الإنسان - مع صلاحيتها لسكنى كثير من الحيوان - فإن أجواء الكواكب لا تصلح لسكناه، أو لبقائه بضع دقائق على قيد الحياة؛ كما أن الأرض لا تصلح لحياة ساكني البحار، ولا ساكني الكواكب.
وهذا وقد قال الحكيم العليم - في معرض التعجيز والتحدي - ﴿يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ أي بقوة عظيمة قاهرة؛ وأنى لكم ذلك؟ ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ﴾ فإن استطعتم يا معشر البلهاء؛ أن تبلغوا الكواكب فابلغوها، وأن تصعدوا إلى النجوم فاصعدوا إليها؛ فقد سبقكم إلى ذلك فرعون؛ حيث قال لهامان: ﴿يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً﴾ فما نالهما سوى الخزي والخذلان
وما فرعون وهامان بأكفر ولا أحمق منكم: فقد كذب بخالقه كما كذبتم، وأنكر إلهه كما أنكرتم؛ فأنتم في الغفلة سواء؛ كما أنكم في الكفر أشقاء؛ ولم يبق إلا أن تنزل بساحتكم الأرزاء، وبجسومكم الأدواء؛ ومآلكم جميعاً إلى النار، وبئس القرار
فيا أيها الناس استجيبوا لقول خالق الناس؛ واحذروا ما أعده لأمثالكم من نار ونحاس؛ واحفظوا على أنفسكم أموالكم وعقولكم؛ واعلموا أن استعمار الأنهار، وسكنى قاع البحار؛ أقرب إليكم من استعمار الكواكب وسكناها ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ أي يخلف أحدهما الآخر ﴿لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ﴾ يتذكر؛ فإن فاتته عبادة في أحدهما؛ أدركها في الآخر ﴿أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾ أو أراد أن يشكر ربه. هذا وشكره تعالى باللسان: أقل مراتب الشكر؛ وإنما يكون الشكر بالعبادة، والصدقة،
-[٤٤٥]- والصيام، والقيام (انظر آية ١٥٢ من سورة البقرة)
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً﴾ أي متواضعين، هينين؛ بدون كبر، ولا مرح، ولا بطر ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ﴾ بسفههم: قابلوه بحلمهم؛ و ﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ أي قالوا قولاً يسلمون به من الإثم الذي وقع فيه الجاهلون ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾
أي هلاكاً لازماً، ومغرماً لا كسب فيه
﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ﴾ نفقة على أنفسهم وعيالهم ﴿لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ أما إذا كان الإنفاق في الصدقات؛ فيستحب الإسراف فيه. قال: «لا سرف في الخير» ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ أي عدلاً بين الإسراف والتقتير؛ وكفى بالمرء سرفاً: أي ينيل نفسه كل ما تبتغيه
﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً﴾ أي جزاء الإثم. وأي إثم أشد من الإسراف، والشرك، وقتل النفس، وارتكاب الزنا
﴿وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾ أي يخلد في العذاب خلوداً أبدياً لا انقضاء له (انظر آية ٩٣ من سورة النساء)
﴿إِلاَّ مَن تَابَ﴾ عن الإسراف، والعصيان، والقتل؛ قبل أن يدركه الموت وأسبابه ﴿وَآمَنَ﴾ ب الله إيماناً يقينياً ﴿وَعَمِلَ﴾ عملاً ﴿صَالِحاً﴾ وذلك لأن الإيمان لا يتم إلا بالعمل الصالح بعد أن بين الله تعالى الموبقات المهلكات، وذكر جزاءها؛ وهو الخلود في النار: ذكر إثماً من أكبر الآثام وأشدها: وهو شهادة الزور
﴿وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ ولا يخفى ما في شهادة الزور من ضياع للحقوق، وإتلاف للأموال، وإفساد للضمائر؛ إلى غير ذلك من إهدار للدماء، وفشو للجرائم وشهادة الزور: من أكبر الكبائر قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسولالله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس - وقال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور» كررها ثلاثاً؛ لمزيد قبحها، وفادح شرها هذا وقد كان قدماء المصريين يحكمون على شاهد الزور بالقتل ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ﴾ أي بالفحش، وكل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو} أي معرضين عنهم
﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ أي قرىء القرآن، أو ذكروا بما فيه ﴿لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً﴾ أي بل يسمعونها، ويتبصرون فيها؛ ليعملوا بها
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾
بأن يكونوا طائعين لك ولنا، مشفقين منك وعلينا. وقرة العين: هدوؤها واستقرارها بالاطمئنان؛ أو هو من القر: وهو البرد؛ لأن دمع السرور: بارد، ودمع الحزن: ساخن. ولذا يقال في الدعاء: أقر الله عينك، وأسخن عين عدوك ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ أي قدوة يقتدي بنا في الخير
﴿أُوْلَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر ﴿يُجْزَوْنَ﴾
-[٤٤٦]- على صنيعهم وقولهم هذا ﴿الْغُرْفَةَ﴾ هي واحدة الغرفات؛ وهي أعالي الجنات؛ ومنه قوله تعالى ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ وقيل: الغرفة: الدرجة العليا ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ أي جزاء صبرهم على الطاعات، وعن المعاصي
﴿قُلْ﴾ يا محمد لكفار مكة ﴿مَا يَعْبَأُ﴾ ما يكترث ﴿بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ﴾ له في الملمات والشدائد؛ فيكشفها عنكم: إثباتاً لألوهيته وربوبيته؛ وتسجيلاً لعدولكم عن الإيمان إلى الشرك، وكفركم بربكم؛ بعد إنجائكم وإغاثتكم؛ قال تعالى ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ بالقرآن والرسول ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً﴾ أي سوف يكون تكذيبكم هذا لزاماً لكم؛ تجزون به، وتعاقبون عليه أو سوف يكون العذاب ملازماً لكم.
446
سورة الشعراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

446
Icon