ﰡ
في السورة إنذار للناس ودعوة إلى الحق. ولفت نظر إلى الكون ونواميسه للبرهنة على ربوبية الله تعالى واستحقاقه وحده للعبادة. وتنويه بالمؤمنين المخلصين وتنديد بالكافرين وبيان مصير كل منهم. وإشارة إلى تمني العرب بعثة رسول فيهم والأسباب التي جعلتهم يناوئون النبي ﷺ حينما بعثه الله، وقد تكررت في السورة تسلية النبي ﷺ مما يلقاه من تكذيب قومه مما يدل على أنها نزلت في ظروف كان النبي ﷺ فيها حزينا شديد الحسرة.
والسورة شطران أحدهما عام التوجيه، وثانيهما موجه للكفار السامعين.
وآيات كل من الشطرين منسجمة، كما أنه ليس بينهما انفصال وتغاير بحيث بسوغ القول أن فصول السورة نزلت متلاحقة حتى تمت. ويسميها بعض المفسرين بسورة الملائكة «١».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١ الى ٢]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)(١) فاطر: خالق ومنشئ.
(٢) مثنى وثلاث ورباع: اثنين معا وثلاثة معا وأربعة معا. أي إن من
(٣) ممسك: مانع.
(٤) مرسل: معط.
بدأت السورة بتقرير استحقاق الله تعالى للحمد والثناء وأعقبها في بقية الآيتين تعداد بعض مظاهر عظمته وبراهينها في خلق الملائكة وإرسالهم رسلا لعباده ومن قدرته التامة على منح من يريد من رحمته ومنع من يريد دون أن يستطيع أحد منع ما منح ومنح ما منع، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
ومطلع السورة يشبه بعض الشيء مطلع السورة السابقة مما قد يكون فيه قرينة على ترتيب نزولها بعد سابقتها. والمتبادر من الفصول التالية أن الآيتين مقدمة لما بعدهما، كما كان شأن مطلع سورة الفرقان. والمقدمة هنا قوية نافذة كتلك.
وأسلوب الآية الأولى يلهم أن ذكر الملائكة ورسالاتهم وأجنحتهم لم يكن مقصودا لذاته وإنما أريد به الإشارة إلى مظهر من مظاهر قدرة الله وعظمته في الدرجة الأولى.
على أن ذكر ذلك يدل على أن الملائكة وأجنحتهم ورسالاتهم بين الله تعالى وعباده كانوا في أذهان الناس من أهم مظاهر قدرة الله وعظمته، ومن مواضيع تساؤلهم وذهولهم فاحتوت الآية هذا التقرير عنهم بالأسلوب الذي جاء به ليكون في نفس الوقت وسيلة من وسائل التنويه والتذكير بعظمة الله وقدرته.
وأجنحة الملائكة ورسالاتهم إلى أنبياء الله مما ورد في أسفار العهد القديم والجديد المتداولة إلى اليوم بحيث يمكن أن يقال إن هذا الأمر لم يكن غريبا على أذهان العرب السامعين بالإضافة إلى ما كان من عقيدتهم بوجودهم وصلتهم بالله تعالى وحظوتهم لديه وقيامهم بخدمات متنوعة له. على ما شرحناه في سورة المدثر وسور أخرى سابقة حيث يكون في الآيات تنويه بأمر يسلّمون به.
ونكرر هنا ما قلناه سابقا من أن الملائكة وماهيتهم ومهماتهم وكيفية اتصالهم بالله وبالرسل من الحقائق الإيمانية المغيبة التي يجب الإيمان بها مع الوقوف منها
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣ الى ٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)
(١) فأنى تؤفكون: فأنى تذهبون أو أين تنصرفون.
(٢) الغرور: الذي يغر بما يزينه لغيره وبما فيه من زينة تأخذ اللب فيغتر وينخدع. وأكثر المفسرين على أن الكلمة تعني «الشيطان» وورود اسم الشيطان عقبها مما يقوم قرينة أو دليلا. وقد قرأ بعضهم الكلمة بضم الغين وفي هذه الحال يصبح المعنى الاغترار والاعتداد بالنفس. وهذا المعنى مما تتحمله الآية أيضا.
بعد تلك المقدمة جاءت هذه الآيات تذكر الناس بنعم الله عليهم وتحذرهم من الاغترار بالدنيا والاستماع إلى وساوس الشيطان عدوهم الذي هو وحزبه في النار. فالصلة بين هذه الآيات والمقدمة قائمة. وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر أيضا. وهي نافذة الأسلوب كالمقدمة.
وقد جاءت الآيات الثانية معترضة، وجّه الخطاب فيها للنبي ﷺ ثم استؤنف الخطاب للناس. والمتبادر أنها بسبيل تطمين النبي ﷺ وتسليته فإذا كان قومه كذبوه فقد كذبت رسل من قبله أيضا. والأمور راجعة إلى الله الكفيل بمقابلة الناس على أعمالهم فلا ينبغي أن يحزن ويغتم.
والآية الأخيرة دامغة الحجة. فالشيطان عدوّ للناس بإغرائهم بالكفر وتزيينه الشهوات والآثام لهم. وهو يقود من يستمع له ويصبح من حزبه إلى العذاب،
والمتبادر أن ينطوي في هذا تقرير كون السامعين يعرفون أن الإغواء والإغراء وتزيين الشهوات من وساوس الشيطان وهو ما قررته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها وما شرحناه شرحا وافيا بخاصة في سياق تفسير سورتي التكوير وصّ.
تعليق على الأمر بعدم الاغترار بالدنيا
وليس من محل للتوهم بأن الآية الأولى في صدد دعوة الناس إلى نفض أيديهم من الحياة الدنيا. فالقرآن احتوى آيات كثيرة تبيح للناس الاستمتاع بالحياة وطيباتها وزينتها وابتغاء فضل الله ورزقه والسعي إليه، وقد مرّت أمثلة قوية صريحة من ذلك في سورة الأعراف، وإنما هي في صدد التحذير من الاغترار والانشغال بها اغترارا وانشغالا ينسيان صاحبهما واجباته نحو الله ونحو الناس ويدفعانه إلى الاستغراق في المتع والشهوات بدون تورع من إثم وإسراف.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٧ الى ٨]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)
(١) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات: فلا تهلك نفسك من الحسرة عليهم.
تقرر الآية الأولى مصير الكافرين والمؤمنين الصالحين حيث يكون مصير الأولين العذاب الشديد والآخرين مغفرة الله وأجره الكبير كنتيجة لما تقدم من خطاب الناس وتحذيرهم.
أما الآية الثانية ففحوى الشطر الأول منها يدل على أنه أريد المقايسة بين الفريقين وتقرير الأفضل منهما، واكتفى بذكر الفريق الثاني منهما بأسلوب استنكاري يدل على تفضيل الفريق الأول واستحالة أن يكون سواء مع الفريق الثاني
أما فحوى الشطر الثاني من الآية الثانية فيلهم أنه أريد به تسلية النبي ﷺ وتهوين موقف الكفار وتكذيبهم. فسوء عملهم وخبث طويتهم يجعلانهم غير مأسوف عليهم إذ انصرفوا عن الدعوة، والله أعلم بحقيقة ما هم عليه وما يصدر منهم، وأنهم لا يستحقون أن يكونوا سببا لإهلاك نفسه حسرة وغمّا عليهم، فالله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء فليس من محل لحزنه واكتئابه.
ولقد روى البغوي عن سعيد بن جبير أن الآية [٨] نزلت في أصحاب الأهواء والبدع. وعن قتادة أنها في الخوارج الذين كانوا يستحلون دماء المسلمين الذين لا يذهبون مذاهبهم وأموالهم. والتجوز في هذا واضح، لأن مضمون الآية وسياقها صريحان بأنها في صدد الذين كفروا برسالة النبي ﷺ وكانوا يعتدّون بما هم عليه.
وكل ما يمكن أن تكون هذه الأقوال قيلت على سبيل التطبيق وبوحي الأحداث التي وقعت في صدر الإسلام. على أنه يصح القول من ناحية أخرى أن التنديد المنطوي فيها عام مطلق يتناول كل من يرتكس في الأعمال المنكرة السيئة ويصر عليها رغم ما يظهر من ضررها وبعدها عن الحق.
تعليق على تعبير فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
والشرح الذي شرحنا به الآيات والمستمد من روحها وأسلوبها ومقامها ومن فحوى آيات عديدة أخرى أوردناها في سياق آية مماثلة في سورة المدثر يزيل ما قد يرد من وهم بأن العبارة بسبيل تقرير تحتيم الله الهدى والضلال على أناس بأعيانهم تحتيما لا تبديل فيه، والآيات التي قبل الآية التي تقرر استحقاق الكافر للعذاب والمؤمن للأجر والمغفرة والتي تتضمن تقرير قابلية الاختيار للإنسان قرينة واضحة
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٩ الى ١٤]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
(١) تثير: تحرك.
(٢) يبور: يفسد ويهلك ويحبط.
(٣) أزواجا: أصنافا أو ذكرانا وإناثا أو أزواجا وزوجات.
(٤) سائغ: مريء سهل التقبل.
(٥) حلية: الأحجار والمعادن الكريمة التي يتزين بها والمقصود هنا ما يستخرج من البحار من مرجان ولؤلؤ.
(٦) قطمير: قشرة النواة.
الآيات: استمرار استطرادي للسياق السابق بسبيل التدليل على قدرة الله في
ففي كل هذا دلائل باهرة على أن الله هو الرب الحقيقي للناس الذي له الملك والحكم وحده في الأكوان، والذي يستحق وحده الخضوع والعبادة والذكر والشكر، أما الذين يشركهم المشركون في الدعاء معه ويدعونهم من دونه من الآلهة والأرباب فإنهم لا يملكون من هذا الكون العظيم شيئا حتى ولا قشرة نواة، وهم لا يسمعون دعاء الداعين، وليس في استطاعتهم أن يستجيبوا لشيء من مطالبهم حتى لو سمعوا دعاءهم، ولسوف يتبرأون يوم القيامة من مشركيهم، وهذا هو الحق الذي لا يتحمل مراء لأنه صادر من خبير عليم. والكلمة الحق هي ما كان صادرا من خبير عليم.
وقد تخلل الآيات التي قررت ما شرحناه تقريرات متصلة بالدعوة وأهدافها، ومحتوية تقريعات وإنذارات للكفار كنتيجة لما هدفت إليه الآيات. فالعزة الحقيقية لله جميعا لا يشاركه فيها مشارك. وعلى من أراد الوصول إلى الكرامة والرضاء الرباني أن يسلك سبيله فيقول الحق ويعمل الخير، أما الذين يمكرون ويتآمرون على السوء ويدبرون المكائد والأذى للناس فلهم العذاب الشديد، والله تعالى كفيل بإحباط مكرهم وإفساد مكائدهم.
وهي قوية نافذة في أسلوبها وما استهدفته من تدعيم للدعوة وأهدافها ومبادئها، وهي مستمرة المدى والتلقين بنفس القوة والنفوذ.
وقد تكرر مثلها تبعا لتكرر المواقف والمناسبات.
ولقد أورد البغوي عن ابن مسعود قال «إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل. ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله» إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها وجه ربّ العالمين. ومصداق ذلك من كتاب الله عز وجل قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ... [١٠] ».
وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. ومع ذلك فالمتبادر أن الصحابي الجليل لم يقصد بقوله إذا صح عنه أن هذه الكلمات كل الكلم الطيب الذي يصعد إلى الله. وأن هذا التعبير شامل لكل كلم طيب فيه تسبيح وفيه إصلاح وفيه دعوة إلى الخير وفيه أمر بالمعروف وفيه نهي عن المنكر.
ولقد عقب البغوي على الحديث فقال إن من ذكر الله بلسانه ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله. وإن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأفعال وهذا غاية السداد.
تعليق على جملة وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ
ولقد توقف المفسرون عند هذه الجملة فرووا عن أهل التأويل تأويلات متعددة حسب تلقي حرف (الهاء) في (عمره)، حيث تلقاه بعضهم للإنسان مطلقا سواء أكان طويل العمر أو قصيره، فقال إن أعمار الناس من قصر وطول مقدرة
والعبارة تتحمل هذه التأويلات جميعها. ومحصلها على كل حال تقرير علم الله وإحاطته بأعمار الناس أسوة بعلمه وإحاطته بكل شؤون كونه وخلقه.
ولقد رجح الطبري وابن كثير التأويل الأول. وقد يكون هذا هو الأوجه.
ولقد أورد ابن كثير حديثين نبويين لهما صلة بالجملة وفيهما تلقين وتوضيح. أحدهما رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه «سمعت رسول الله ﷺ يقول من سرّه أن يبسط الله له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه». وثانيهما أخرجه ابن أبي حاتم مرويّا عن أبي الدرداء قال «قال رسول الله ﷺ إنّ الله تعالى لا يؤخّر نفسا إذا جاء أجلها. وإنّما زيادة العمر بالذّرية الصّالحة يرزقها العبد فيدعون له بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره».
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٥ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)
(٢) الحميد: المحمود أو الحامد، وروح الآية يلهم أن المعنى الثاني هو المقصود.
(٣) تزر: تحمل.
(٤) وازرة: حاملة.
(٥) وزر: حمل. وجملة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى بمعنى لا يحمل إنسان مسؤولية وتبعة أعمال إنسان آخر. وكل يحمل مسؤولية عمله فقط.
(٦) وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذاقربى: وإذا طلب صاحب حمل أو ذنب من غيره ولو كان قريبا له أن يحمل شيئا من ذلك لا يحمل، ومثقلة بمعنى ثقيلة الحمل تنوء بحملها وحدها.
(٧) تزكى: الراجح المتبادر من روح الآية أنها هنا ليست من زكاة المال وإنما هي من تطهير النفس بالإيمان والتقوى والعمل الصالح. ومعظم المفسرين على ذلك.
(٨) الحرور: الجوّ المتوهج بالحرارة.
(٩) الزبر: الكتب أو الصحف.
(١٠) نكيري: هنا بمعنى إنكاري عليهم وشدة عقوبتي لهم.
الآيات استمرار في السياق، وفيها عود على بدء في توجيه الخطاب للناس كما فيها توكيد إنذاري وتبشيري للمؤمنين والكافرين وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
فقد هتفت بالناس بأن الله ليس في حاجة إليهم، وإنما هم الفقراء إليه وإنه لغني عن المنصرفين عنه حميد للمستجيبين إليه. وأنذرتهم بقدرة الله على إبادة الموجودين منهم والإتيان بغيرهم، وهو أمر يسير عليه لأنه الخالق المبدع القادر على كل شيء. وسلّت النبي ﷺ وثبت فيه المصير والسكينة. فليس عليه إلّا
ولقد أخذهم الله أخذا قويّا، وترك من آثار ذلك ما فيه العبرة لمن بعدهم ليروا كيف كان أخذ الله وعذابه للكافرين به المكذبين لرسله.
والسلسلة كسابقتها قوية رائعة نافذة في أسلوبها وروحها ومضمونها وخطابها للعقل والقلب، واستمدادها من مشاهدات الناس وواقع أمورهم وما استهدفته من أهداف وقررته من تقريرات، وفيها كتلك تلقينات قوية مستمرة المدى أيضا.
ولقد شبه الكفار بالأموات بسبب عدم استماعهم لكلمة الحق، وعدم رؤيتهم الحقيقة الساطعة وعدم الاستجابة إلى داعيهما وهو تشبيه قوي لاذع.
ولقد قصد بذكر التضاد بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والأموات والأحياء بيان الفرق الواضح بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والاستقامة والانحراف، وذوي النوايا الحسنة والقلوب السليمة والعقول الواعية الراغبة في الحق وبين ذوي النوايا الخبيثة والقلوب المريضة والعقول
ولعلّ في الآية [١٨] إشارة إلى ما كان عليه التضامن القبلي والأسروي في المجتمع العربي من قوة، فالعربي كان يتحمل مسؤولية ما اقترف قريبه من جرائم ويشترك في غراماتها، والمتبادر أنه استهدف بذكرها تصوير هول القيامة واضطرار كل امرئ للانشغال بنفسه دون غيره، وعدم حمل أحد مسؤولية أحد مهما كانت الصلة التي تجمع بينهما، وهذا المعنى تكرر مرة بعد مرة لأنه مستمد من واقع حال السامعين. وقد سبق بأسلوب قوي في آيات سورتي عبس والفجر.
مغزى تكرر تسلية النبي ﷺ في آيات السورة
ويلحظ تكرر الآيات التي احتوت تسلية النبي ﷺ وتثبيته والتخفيف عنه وتنوع أساليبها في فصول هذه السورة، مما يمكن أن يدل على أنها نزلت في ظرف كان فيه النبي ﷺ شديد الحزن والحسرة مما يواجهه من مواقف العناد والتكذيب والصد والمكر، ومضامين فصول السورة- فضلا عن الآيات الخاصة في هذا الصدد- تؤيد ذلك أيضا. ولقد تكرر هذا كثيرا في أكثر السور المكية وشرحنا ما تبادر من أسبابه وحكمته في سياق سورة (ق).
تعليق على جملة وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ
مع أن الجملة قد قصد بها في مقامها تسلية النبي ﷺ وتثبيته على ما قلناه في الشرح. فإن هناك من أبعد في التأويل فقال إن كلمة (أمة) تشمل كل حيّ من بني آدم وسائر الحيوانات من دوابّ وطيور وزواحف وحشرات إلخ. وقد يكون القائل استأنس باية سورة الأنعام هذه وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
[٣٨] وتعليقا على ذلك نقول إنه لا يصح فيما نعتقد الاستئناس بآية سورة الأنعام هذه لأنها في صدد تقرير كون الدواب والطيور التي خلقها الله أنواعا مثل
وفي الجملة نقطة أخرى تتحمل تعليقا. وهي تقريرها أن الله تعالى قد بعث في كل أمة سابقة من أمم الأرض من بني آدم نذيرا. وهذا التقرير منطو في آية سورة النحل [٣٦] التي أوردناها آنفا مع زيادة كون دعوة رسل الله ونذره جميعا هي توحيد الله واجتناب الأوثان كمبدأ جوهري ورئيسي. والرسل الذين قصّ القرآن سيرتهم وأممهم بالأسماء قليلون جدا. وقد استدركت هذا المعنى آية سورة غافر هذه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [٧٨].
وعلى كل حال فمن الواجب على المسلم الإيمان بما جاء في الآيات القرآنية من ذلك، والله تعالى أعلم.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
(١) جدد: مفرده جدة، وكلمة جدد تعني طرائق أو خطوط أو قطع.
(٢) غرابيب سود: الغرابيب جمع غربيب وهو الشديد السواد.
في الآية لفت نظر إلى بعض مظاهر خلق الله ونواميس كونه. فالله ينزل من السماء ماء فيخرج به نباتا مختلف الألوان والأنواع والأشكال. وقد خلق الجبال فيها الطرائق المختلفة الألوان كذلك من حمر وبيض وسود وهذا التنوع في الخلق مشهود أيضا في الناس والأنعام والدواب، وفي كل ذلك دلائل على قدرته وعظمته وبديع صنعته من شأنها أن تثير الخشية في القلوب منه وخاصة قلوب العلماء الذين هم أكثر من غيرهم إدراكا لهذه الدلائل. وقد انتهت بتقرير صفتي العزة والغفران لله
والآيتان ليستا منقطعتي الصلة بالسياق، وهما فصل مماثل للفصول السابقة التي احتوت تقريرات عن مشاهد قدرة الله وعظمة كونه، وتخللها دعوة وعظة وتدعيم.
ويلحظ بالإضافة إلى ما قلناه أن الآيات تنطوي على تسلية للنبي ﷺ فجميع ما خلق الله متنوع مختلف، ومن ذلك الناس، فلا غرو أن يكون بينهم الجاهل والأحمق والمعاند والمكابر والمستكبر والعالم والواعي والراضخ للحق والمستجيب إلى دعوة الهدى، ولا موجب- والحال هذه- لغمه وحزنه من موقف الأولين، وفي موقف الآخرين الذين استجابوا إليه الغناء، فالعلماء الواعون هم الذين يدركون معاني دعوته ويستجيبون إليها ويخشون الله عز وجل. وفي الآيات التالية ما يؤيد ذلك.
تعليق على جملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وتلقينها
وجملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ تتضمن بذاتها تنويها بالعلماء ودعوة إلى اتخاذهم قدوة وأسوة. وتتضمن بالإضافة إلى ذلك تحميلهم من التبعات والمسئوليات الخاصة والعامة ما لا تتحمله الطبقات الأخرى، وتنبيههم إلى ما عليهم من واجبات وتبعات خاصة وعامة أيضا. ومن جملة ذلك إدراك الحقيقة الإلهية الكبرى وخشيتها وتقواها والتبشير بها أكثر من غيرهم. ومضاعفة مسؤولياتهم عن التقصير في ذلك. وفي كل هذا تلقين جليل وخطير مستمر المدى على مدى الأجيال كما هو واضح.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن التنويه الذي تضمنته الجملة بالعلماء مصروف بنوع خاص إلى الذين يؤديهم علمهم وإدراكهم إلى معرفة الله تعالى وخشيته وتقواه.
ولقد تكرر في القرآن أولا الإشارة إلى العلماء وما يؤهلهم علمهم له من إدراك تلك الحقائق ومشاهد قدرة الله في الكون وحكمة الأمثال التي يضربها الله في القرآن كما ترى في الأمثلة التالية:
١- وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ..
العنكبوت [٤٣].
٢- وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ.. الروم [٢٢].
ولقد تكرر ثانيا جملة آيات لقوم يتفكرون ويعقلون ويسمعون ويتذكرون ويتدبرون ويعلمون في معرض ذكر آيات الله ومشاهد قدرته وإبداعه في الكون.
حيث ينطوي في كل هذا تساوق مع ما انطوى في سياق الجملة التي نحن في صددها، وتدعيم للتقرير الذي قررناه في مداها، والتلقين الخطير المستمر الذي ينطوي فيها.
وهناك أحاديث نبوية صحيحة عديدة فيها تنويه بالعلم وحثّ عليه وتنويه بالعلماء وفضلهم ومسؤولياتهم، يصح أن يساق في هذا المقام، من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن معاوية أن النبي ﷺ قال «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدّين». وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه «ومن سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» وحديث رواه أبو داود والترمذي عن رسول الله ﷺ قال «وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم. وإنّ العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظّ وافر» «٢».
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٩ الى ٣٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)
(٢) انظر التاج ج ١ ص ٥٣- ٥٤ وهناك أحاديث أخرى في هذه الصفحات فاكتفينا بما أوردناه.
(٢) ظالم لنفسه: جان ومجرم في حق نفسه ومهلكها بإثمه وكفره وعصيانه.
(٣) مقتصد: كناية عن الذين يكتفون باليسير من الطاعات ولا يجتهدون فيها اجتهادا كبيرا.
(٤) الحزن: هنا بمعنى خوف العاقبة وشرّ المصير.
(٥) دار المقامة: دار الإقامة والخلود.
(٦) نصب ولغوب: النصب بمعنى التعب بفتح النون وضمها. واللغوب بمعنى الإعياء من التعب.
عبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وهي متصلة بالسياق كما هو المتبادر وصلتها بالآية السابقة لها خاصة واضحة في التناسب بين العلماء وبين الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا، فكأنّما جاءت لتنوّه بالعلماء الذين هم جديرون بخوف الله، وتذكر أعمالهم الناتجة عن ذلك.
والآيات قوية نافذة فيما احتوته من تنويه وبشرى، من شأنهما أن يستوليا على النفس ويغمراها بأقوى الاغتباط ويدفعاها إلى التزام الفضائل.
ومما يتبادر أن تكون الآيتان الأولى والثانية في صدد وصف الذين استجابوا للدعوة النبوية واستغرقوا في واجباتهم نحو الله. وبهذا يمكن أن يقوى معنى التسلية الذي نبهنا إليه في سياق الآيات السابقة ويتأيد.
كذلك فإن في الآية [٣١] هدفا ملحوظا في التسلية والتثبيت حيث احتوت توكيدا موجها إلى النبي ﷺ أن ما أنزل إليه من الكتاب هو الحق وهو مصدّق لما قبله من كتب منزلة ومتطابق معها. وفي هذا ما يطمئن نفسه ويجعله لا يعبأ بمواقف
تعليق على جملة أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وتلقينها
وأكثر المفسرين على أن جملة أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا تعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جملة ظالِمٌ لِنَفْسِهِ تحتمل أن يكون المقصود بها المنافق أو الذي لم يستجب إلى الدعوة أو الذي اجترح السيئات من المسلمين.
وأن جملة مُقْتَصِدٌ تعني الذي لا يجتهد اجتهادا كبيرا في الطاعات والأعمال الصالحة، ويكتفي باليسير منها. وأن جملة سابِقٌ بِالْخَيْراتِ هم أقوياء الإيمان المجتهدون اجتهادا كبيرا في الطاعات والأعمال الصالحة. وقال بعض المفسرين إن الطبقات الثلاث هي نفس ما عنتها آيات سورة الواقعة وهي وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. وأن المقتصدين هم أصحاب الميمنة، الذين هم يدخلون الجنة وتكون درجتهم دون درجة السابقين. وأن أصحاب المشأمة هم الكفار «١». وروح الآيات تلهم رجحان قول من قال: إن تعبير ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يعني المسلمين الذين يجترحون السيئات لأن جملة الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا تشملهم جميعا كما هو المتبادر. ولقد ذكر وَالَّذِينَ كَفَرُوا في الآية [٣٦] التي تأتي بعد هذه الآيات حيث ينطوي في ذلك قرينة على صحة ما قلناه وضرورة استبعاد (الكافرين) بالنسبة لجملة فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ.
وهناك أحاديث يرويها المفسرون مؤيدة لهذا أيضا. منها حديث يرويه الطبري بطرقه عن أبي الدرداء قال «سمعت رسول الله ﷺ يذكر هذه الآية فيقول فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا. وأما الظالم نفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغمّ والحزن فذلك قوله حكاية على
وحديث يرويه البغوي عن أبي عثمان النهدي قال: «سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر هذه الآية فقال: قال رسول الله ﷺ سابقنا سابق ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له».
ويلحظ أن مصير الظالم لنفسه ومصير المقتصد ظل مسكوتا عنهما في الآيات. ويتبادر إلى الذهن أن حكمة ذلك قصد تركيز الثناء والتنويه بالسابقين في الخيرات، وإفهام الناس وبخاصة المسلمين أنه لا ينبغي لمسلم أن يكون مقتصدا في القيام بواجباته نحو الله والناس، فضلا عن أنه لا يجوز لمسلم أن يجترح السيئات، وأن الخير كل الخير والفضل كل الفضل في السابقين في الخيرات الذين يجتهدون في القيام بواجباتهم على أحسن وجه وأوسعه وأفضله. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى.
على أن في شمول جملة الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا للصنفين الآخرين على ما ذكرنا وذكره غيرنا من المفسرين استلهاما من فحوى الآية يظل الباب مفتوحا لهما، لكيفّ الظالم لنفسه عن سيئاته ويتوب إلى الله تعالى، ويبدل المقتصد خطته، ويبذل الصنفان جهدهما للّحوق بالسابقين. والبشرى والتنويه اللذان انطويا في الآية بالنسبة للسابقين مما يثير في الصنفين ذلك. ولعل ذلك مما استهدفته الجملة القرآنية.
وجملة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا تنطوي على تنويه عظيم بالأمة الإسلامية، وأذان بأنها قد استقر عليها الاصطفاء، وإرث كتاب الله
(١٦) وآية سورة المائدة هذه وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ... «١» [٤٨].
وفي كل ذلك ما فيه من تلقين وحضّ وتنبيه وتحميل تبعات جسام، كما هو واضح.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
(١) يصطرخون: بمعنى يستغيثون.
(٢) نعمّركم: نطيل من أعماركم.
وفيها قرينة على أن الطبقات الثلاث التي ذكرت في الآيات السابقة هي من المؤمنين.
وقد احتوت وصفا لما سوف يكون الكفار فيه من عذاب شديد دائم لا يموتون منه فيستريحون ولا يخفف منه شيء ولما سوف يشعرون به من الندم على ما فرطوا، ويتمنون على الله ويستغيثون به ليخرجهم منها، ويعيدهم ثانية إلى الدنيا ليصلحوا حالهم فيقال لهم: لقد منحتم الفرصة الكافية بطول العمر ودعوة الرسل وإنذارهم فأضعتموها فليس للظالمين أمثالكم من مهرب ولا نصير.
والآيات في بابها قوية نافذة كسابقاتها، من شأنها أن تثير الخوف والفزع في النفوس وتحمل السامعين على الارعواء، وهو مما استهدفته على ما هو المتبادر.
ولقد وقف المفسرون عند جملة أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وأوردوا بعض الأقوال والأحاديث في مدى ذلك. منها أنها خطاب موجه لكل من بلغ العشرين من عمره أو الأربعين أو الستين. ومن ذلك حديث رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ قال: «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة». وفي رواية «من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر». وفي رواية «لقد أعذر الله إلى صاحب الستين والسبعين». وعلّل الذين قالوا أربعين سنة بأن عقل الإنسان يصل إلى نهاية نضجه فيها. والأحاديث المعزوة إلى النبي ﷺ لم ترد في الصحاح.
ويتبادر لنا بالنسبة لأسلوب الآية أنها تضمنت معنى التبكيت والتنديد لأن الكفار قد أضاعوا الفرصة التي سنحت لهم في الدنيا ليتذكروا ويرعووا. أما بالنسبة لمسألة العمر الذي يكون فيه الإعذار الرباني ملزما فهو بلوغ الإنسان سنّ الرشد الذي يستطيع فيه التمييز بين الحقّ والباطل والهدى والضلال، وتبلغه معالم ذلك بواسطة رسول من الله أو كتاب رباني وسنة نبوية، ثم لا يتبع الحق والهدى. والله تعالى أعلم.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)(١) خلائف: قيل إن الكلمة جمع خليفة وإنها إما بمعنى كون الله جعل آدم وذريته خلفاء في الأرض، كما جاء في آية سورة البقرة [٣٠] وما بعدها. وإما بمعنى أن أمة تخلف أمة وجيلا يخلف جيلا بالتوالي.
(٢) مقتا: غضبا وسخطا وبعدا.
المتبادر أن الآيات جاءت تعقيبية على سابقاتها حيث وجه الخطاب فيها للناس جميعا. فالله يعلم كل سرّ وجهر في السموات والأرض ويعلم كل خطرة من خطرات النفوس ومكنونات الصدور. وجعل السامعين للقرآن خلائف لمن سبقهم من الأجيال مما هو سنة من سنن الكون في جعل البشر خلائف يخلف بعضهم بعضا. فمن كفر منهم فإثم كفره وتبعته عليه وحسب، والكفر إنما يؤدي بصاحبه إلى زيادة من مقت الله وزيادة من الخسران.
تعليق على جملة فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ
والفصل على هذا استمرار للسياق. وهو قوي نافذ الأسلوب كالفصول التي سبقته. وهو من الفصول الصريحة في تقرير كون الإنسان إنما يكفر باختياره، وإن ما يصيبه من شرّ وخسارة ومقت إنما هو بسبب اختياره الكفر ونتيجة له، واختيار الكافر الكفر واختيار المؤمن الإيمان إنما يقعان بما أودعه الله في الإنسان من العقل وقوة التمييز بين الكفر والإيمان، والإقدار على اختيار أحدهما. وبهذا يصبح الجدل الكلامي في أثر إرادة الله تعالى ومشيئته في مفردات أعمال الناس وعدمه في غير محله، فإرادة الله وحكمته اقتضتا أن يكون الإنسان قادرا على التمييز والاختيار
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
. (١) إن يعد: بمعنى لا يعد.
(٢) أن تزولا: لئلا تزولا وتسقطا.
(٣) ولئن زالتا: بمعنى ولو زالتا.
(٤) إن أمسكهما: بمعنى لا يمسكهما.
في الآية الأولى أمر للنبي ﷺ بسؤال المشركين عما خلقه شركاؤهم من الأرض، وعن أي شيء لهم شركة في السموات، وعما إذا كان لديهم كتاب منزل من الله فيه دليل على صحة ما هم عليه من دين وعقائد يجعلهم على ثقة وبينة من أمرهم. ثم تنتهي بتقرير أن كل ما هم عليه وكل ما يقوله بعضهم لبعض ليس إلّا كذبا وخداعا وتغريرا. وهذه النهاية بمثابة جواب على السؤال وبيان حقيقة الأمر في حال المشركين. وأسلوب الآية قوي لاذع في تحدي المشركين وإفحامهم وتسفيههم وتقرير الواقع من أمرهم.
وإنه مع ذلك يحلم على عباده فلا يعجل عليهم بالنقمة رغما عمّا يصدر منهم من موجباتها، وإنه لغفور تتسع مغفرته لذنوبهم إذا ما استغفروه وتابوا إليه. والمتبادر أن الآية الثانية تتمّة للأولى في صدد ما احتوته من تحدّ للمشركين لتوكيد تصرف الله عز وجل المطلق في السموات والأرض خلقا وإبقاء وزوالا دون ما شريك ولا معارض ولا مانع.
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لهاتين الآيتين اللتين وجه الخطاب في أولاهما إلى المشركين بصيغة الضمير المخاطب مما يسوغ القول إن الأمر بسؤال النبي ﷺ للمشركين وتحديهم كان أسلوبيا لحكاية حال المشركين وتوكيد وهن موقفهم، وليس في صدد موقف حجاجي وجاهي كما قد يوهم الضمير المخاطب.
وقد تكرر هذا الأسلوب في مواضع كثيرة من القرآن. والجملة التي جاءت بمثابة جواب في الآية الأولى نفسها قد تدل على ذلك. وقد ورد الضمير فيها بصيغة الغائب.
وعلى هذا فإن الآيتين متصلتان بما سبقهما، وبخاصة بالسابقات القريبات التي احتوت وصف سوء مصير الكفار وإنذارهم وما ينالهم من مقت وخسارة من جرّاء كفرهم.
تلقين جملة إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً في مقامها
ولقد احتوت الفقرات الأخيرة من الآية الثانية تلقينا جليلا فيما انطوى في صفتي الحلم والغفران الربانيتين من المعنى العظيم، وبخاصة في مقام ورودهما على ما شرحناه. ولقد تكرر هذا في مناسبات كثيرة وبأساليب متنوعة منها ما سبق ونبهنا إليه مما يؤكد ويؤيد ما شرحناه في سياق سورة البروج من أن منح فرصة الصلاح والإصلاح والإنابة إلى الله تعالى للمذنب والمقصر والجاحد بالتوبة من
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣)
احتوت الآيات حكاية الأيمان المغلظة التي كان المشركون يحلفونها قبل البعثة النبوية بأنهم لو جاءهم نذير لا تبعوه، ولكانوا به أهدى من الأمم الأخرى، وما كان من أمرهم حينما جاءهم النذير وهو محمد ﷺ حيث ازدادوا كفرا ونفورا.
وذكرت أن سبب الموقف الناكث الذي وقفوه هو استكبارهم عن اتباع النذير الذي جاءهم، ورغبة في معاكسته والكيد له ثم عقبت على ذلك منددة منذرة. فالمكر السيء لن يضر غير أصحابه. وإن الناكثين الماكرين في موقفهم كأنما ينتظرون ويستعجلون سنة الله التي قد خلت في الأولين بإهلاك المكذبين لرسل الله الماكرين بهم مكر السوء وإن سنة الله لن تتبدل معهم ولن تتحول عنهم.
ولا يروي المفسرون رواية ما عن مناسبة نزول الآيتين. وهما معطوفتان على ما سبقهما. والمتبادر أن ضمير الغائب فيهما عائد إلى الكافرين والمشركين موضوع الكلام في الآيات السابقة، بحيث يمكن القول إن الآيتين غير منفصلتين عن السياق. وإنهما احتوتا تذكيرا بالأيمان التي كان هؤلاء يحلفونها، وتنديدا بموقفهم الذي وقفوه حينما جاءهم النذير الذي كانوا يتمنون مجيئه.
تعليق على جملة وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
وما بعدها في الآيتين [٤٢ و ٤٣] وما يتصل بذلك من صور وملابسات والمتبادر أن جملة إِحْدَى الْأُمَمِ في الآية الأولى هم اليهود والنصارى
ويفهم من الآية الأولى من آيتي فاطر اللتين نحن في صددهما أن العرب أو الفريق المستنير منهم مكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من خلاف ونزاع وتشادّ وتكذيب بعض لبعض بل وقتال، فيعجبون من ذلك ويقسمون بأنهم لو جاءهم نذير أو بعث فيهم نبي مثل ما جاء هؤلاء لاتبعوه واهتدوا بهداه وغدوا أهدى من أي منهما.
وفي القرآن آيات عديدة تحكي واقع خلاف الطوائف اليهودية والنصرانية وتشادّها وقتالها قبل البعثة الإسلامية وفي أثنائها. من ذلك آية سورة البقرة هذه وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وآية سورة البقرة هذه تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) ومنها آية آل عمران هذه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) ومنها آيات سورة المائدة هذه: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُ
وليس من ريب في أن العرب أو فريقا منهم من أهل بيئة النبي ﷺ وعصره وفي ظرف بعثته كانوا يعرفون ما حكته الآيات عن حالة اليهود والنصارى. لأنهم كانوا على صلة وثيقة بهم من حيث كان منهم جماعات في مكة والمدينة. وكانوا يلتقون بكثير منهم أيضا في بلاد الشام والعراق ومصر واليمن التي كانوا يصلون إليها في رحلاتهم الصيفية والشتوية. وأن ذلك كان يثير في أنفسهم العجب. وهذا ما يفسره ما حكته آيات الأنعام التي أوردناها آنفا والتي تتضمن ما كان من اعتذارهم من أن الكتب السماوية المنزلة على طائفتين من قبلهم أي اليهود والنصارى كانت بلغة غير لغتهم، فلم يتسن لهم دراستها. ومن أنهم لو أنزل عليهم كتاب بلغتهم لكانوا أهدى منهم. وما حكته آية فاطر التي نحن في صددها من حلفهم الأيمان المؤكدة بأنهم لو جاءهم نذير منهم ليكونن أهدى منهم بأسلوب فيه معنى التعجب والانتقاد.
وواضح أن هذا يدل على أن فريقا من مستكبري العرب قد وصلوا إلى طور شعروا فيه بأن ما عليه العرب من عقائد وتقاليد دينية باطل وضلال فأنفوا منها ونزّهوا أنفسهم عنها، وأنفوا من النصرانية واليهودية لما كان عليه أهلهما من نزاع وخلاف وتهاتر وقتال وشيع وأحزاب، فأدّاهم ذلك إلى ما حكته الآيات عنهم.
وهناك روايات عديدة تذكر أسماء عدد غير يسير من هؤلاء المستنيرين وأنفتهم من عقائد وتقاليد قومهم وانصرافهم عنها، وتنصّر بعضهم وتهوّد بعضهم وأنفة بعضهم عن التهود والتنصر أيضا، وبحثهم عن ملة إبراهيم الحنيفية التوحيدية الخالصة وادعاء بعضهم أنهم عليها «٢». كما أن هناك روايات تفيد أن اليهود كانوا
(٢) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص ٣٩٦- ٤٣٤. [.....]
(١٥٧) التي يمكن أن تلهم أن اليهود والنصارى معا في الحجاز ومكة كانوا يتحدثون عن نبي عربي أمّيّ يبعث، ويذكرون صفاته التي يجدونها في التوراة والإنجيل، فكان العرب أو الفريق المستنير منهم ينتظرون تحقق ذلك ويقسمون بأنهم سيكونون حينئذ أهدى به من النصارى واليهود.
والآيات التي تذكر إيمان من آمن من اليهود والنصارى وفرحهم بما نزل من القرآن على النبي ﷺ وشهادتهم بأنه منزل بالحق من الله تعالى وكونهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، والتي أوردناها في سياق تفسير آية سورة الأعراف المذكورة آنفا مما يدعم ذلك.
وبذلك كله استحكمت حجة آيات سورتي فاطر والأنعام الدامغة القوية على كفار العرب وبخاصة الفريق المستنير الذي كان يقود حركة الصدّ والمناوأة للنبي ﷺ ودعوته لأن ما كانوا ينتظرونه ويتمنونه قد تحقق، وحقّ عليهم التنديد القوي الذي احتوته لأنهم نكثوا أيمانهم وخالفوا أقوالهم ووقفوا مواقف الظلم والبغي.
(٢) انظر تفسير الآيتين أيضا في الطبري وابن كثير ورشيد رضا وغيرهم حيث روى المفسرون في سياقهما روايات تطابق ما ذكرناه.
والآية الثانية من آيتي سورة فاطر التي نحن في صددها تتضمن السبب الذي حدا إلى نكث من نكث أيمانه من هذا الفريق، حينما تحقق ما انتظروا وبعث النبي ﷺ بكتاب عربي مبين وهو الاستكبار عن شخص النبي ﷺ المبعوث فيهم الذي أداهم إلى الوقوف منه موقف التصامم والمناوأة والكيد والبغي والمكر السيء. والمتبادر أنهم من طبقة الزعماء والأغنياء، وفي ذلك الظرف قلّ أن ينبه نابه من غير هذه الطبقة، فأنفوا أن يتبعوا النبي الذي لم يكن من طبقتهم. ولعل منهم من حسد النبي ﷺ لاختصاصه دونهم بالرسالة، فأعمى الهوى بصيرته، وكان مثله كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، على ما جاء في آية سورة الأعراف [١٧٥] التي روى المفسرون في سياقها اسمين من أسماء نابهي العرب الذين كبر عليهم اختصاص النبي ﷺ من دونهم، وهما أمية بن الصلت وأبو عامر الراهب على ما شرحناه في سياق الآية المذكورة. وفي آيات سورة ص هذه وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨). وفي سورة الزخرف آية من هذا الباب فيها صراحة أكثر بالنسبة للموضوع وهي هذه وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أي أنهم استغربوا واستكبروا أن يكون النبي الذي ينزل عليه القرآن محمدا ﷺ الذي لم يكن معدودا من طبقة الزعماء، وقالوا كان ينبغي أن ينزل القرآن على عظيم من عظام مكة أو الطائف.
ولقد كان بنو أمية أكثر بروزا من بني هاشم في مكة وكانت لهم قيادة الحرب فحسبوا حساب استعلاء بني هاشم عليهم إذا نجحت دعوة النبي الهاشمي فحفزهم ذلك إلى مناوأته. ولقد أثر عن عمرو بن هشام المخزومي الذي يكنى في الإسلام
فكل هذا يفسر ما كثرت حكايته في القرآن من مواقف العناد والجدل والمكابرة والتأليب والتكذيب والتحدي والأذى والتهم الباطلة التي وقفها الزعماء والنبهاء الذين لم يكونوا أو لم يكن أكثرهم أغبياء وضعفاء الإدراك على ما تلهمه نصوص القرآن «٢»، وما كثرت حكايته كذلك من الحملات الشديدة التي نزلت فيهم مما لا تكاد تخلو منه سورة مكية، ومما مرّ منه أمثلة كثيرة في السور السابقة، وأوردنا منه كثيرا من سور أخرى في سياق تفسير هذه السور، فنكتفي بذلك دون إيراد نصوص أخرى لأن الأمثلة مبثوثة في مختلف السور القرآنية وبنوع خاص في المكية منها. وفي القرآن إلى هذا آيات تذكر ما كان من أثر تأليب الزعماء للسواد الأعظم ضد النبي ﷺ ودعوته حتى جعلوهم ينقبضون عنه مما كان من أسباب حكاية تلك المواقف والحملات. من ذلك آيات سورة سبأ هذه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وآيات سورة الأحزاب هذه يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا
«تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا. وأعطوا فأعطينا.
حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منّا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك هذا. والله لا نؤمن به ولا نصدقه».
(٢) اقرأ الباب الثالث في حياة العرب العقلية في كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص ٢٣٧- ٣١٦
.
ولقد كانت هذه المواقف الاستكبارية الناكثة الماكرة المؤذية المعجزة المتحدية المكابرة مما يحزّ في نفس النبي ﷺ ويثير فيه الألم والحسرات فاقتضت حكمة التنزيل أن تتوالى الآيات التي تضمنت تسلية النبي ﷺ وتطمينه والتهوين عليه مما مرّ منه أمثله كثيرة في هذه السورة وما قبلها.
تعليق على ما حكاه القرآن من استعجال المشركين العذاب الموعود
وممّا تلهمه الآية الثانية التي نحن في صددها أي الآية [٤٣] من سورة فاطر أن المشركين كانوا يتحدون النبي ﷺ بإنزال العذاب وتعجيله عليهم بأسلوب المستهر الساخر. فأكدت الآية لهم عدم تبدل سنة الله التي خلت في من قبلهم توكيد يتضمن الإنذار. والآيتان التاليتان تتضمنان تدعيما لهذا التوكيد مما ينطوي فيه صحة الاستلهام. واستعجال الكفار العذاب الموعود بالأسلوب الساخر الجاحد قد حكي عنهم في آيات كثيرة منها آيات الأنبياء هذه وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) ومنها آية سورة الحج هذه وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) ومنها آيات سورة العنكبوت هذه وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥).
تلقين الآيات المستمر ضد المتكبرين عن الحق الماكرين بدعاته
هذا، ومع خصوصية الموقف وزمنه فإن ما في الآيات من تنديد بالذين يستكبرون على ما يعلمون أنه الحق ويكابرون فيه ويصدون عنه وينكثون بعهدهم
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
تساءلت الآية الأولى عما إذا كان الكفار لم يطوفوا في الأرض ولم يروا آثار عذاب الله في مساكن الأقوام السابقة، ثم قررت أن أولئك الأقوام كانوا مع ذلك أشد قوة من هؤلاء الكفار فما أعجزوا الله لأنه لا يمكن أن يعجزه شيء في السموات والأرض، وهو العليم المحيط بكل شيء والقادر على كل شيء.
أما الآية الثانية فقد قررت سنة من سنن الله تعالى وحكمة من حكمه. فلو أن الله تعالى آخذ الناس بكل شيء كسبوه واجترحوه مؤاخذة عاجلة لما بقي على ظهر الأرض من يدبّ عليها لأن الناس مقصّرون دائما عن القيام بواجباتهم نحوه ولا يفتأون يجترحون ما يستوجب المؤاخذة والعذاب. ولكن الله يمهلهم إلى الآجال المعينة في علمه، فإذا ما جاءت أنزل بهم ما يستحقون، وهو البصير بكل ما يستحقون، لأنه المطلع على كل أمر من أمور عباده.
وصلة الآيتين بالسياق وبخاصة بالآيتين السابقتين لهما مباشرة واضحة.
وفيهما توكيد وتدعيم لما احتوته الآية السابقة لهما مباشرة على ما نبهنا عليه.
والمتبادر أن السؤال الذي بدأت به الآية الأولى استنكاري، وروح الآية تلهم أن المشركين قد طوفوا في مختلف البلاد، ورأوا آثار الأمم السابقة أو بعضها، وعرفوا أن ما حلّ بها كان عذابا ربانيّا بسبب انحرافاتهم وآثامهم وتكذيبهم لرسلهم. وبذلك تستحكم الحجة عليهم. وفي القرآن آيات عديدة تدل على ذلك
حكمة الله المنطوية في جملة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وتلقينها
ولعل مما انطوى في جملة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى تقرير أن حكمة الله تعالى اقتضت اختبار الناس ومنحهم الفرص التي يختارون فيها ما تدفعهم إليه قابلياتهم ومواهبهم ومداركهم المودعة فيهم من طريق وعمل، وعدم التعجيل في مؤاخذتهم لتكون لهم كذلك الفرصة للصلاح والإصلاح. والآية [٣٧] من السورة احتوت تأييدا لهذا المعنى حيث خاطب الله تعالى الظالمين الذين حكت الآية ما سوف يطلبونه من العودة لإصلاح حالهم بأنهم قد أعطوا الفرصة الكافية، وعمروا العمر الذي يمكن أن يتذكر فيه من أراد أن يتذكر ورغب في الحق والهدى. وفي هذا ما فيه من تدعيم لفكرة كون الصلاح والإصلاح من المبادئ القرآنية المحكمة التي شغلت جزءا مهمّا في القرآن. وقد شرحنا ذلك أيضا في نبذة فكرة التوبة في الإسلام في سياق تفسير سورة البروج.