تفسير سورة سورة فاطر من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ خالقهما ابتداء من غير مثال سبق ﴿جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً﴾ إلى الأنبياء بكلامه وهدايته، ورسلاً إلى الناس بنقمته ورحمته وهم من خاصة خلق الله تعالى. ومن خواصهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. ولا حصر لهم عدداً ولا إحاطة بهم وصفاً ﴿أُوْلِي أَجْنِحَةٍ﴾ ذوي أجنحة ﴿مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ أي إن لبعضهم جناحان، ولبعضهم ثلاثة، ولبعضهم أربعة ﴿يَزِيدُ﴾ تعالى ﴿فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ﴾ أي يزيد في خلق ملائكته، أو يزيد في أجنحتهم؛ فقد رأى نبينا محمد جبريل عليه الصلاة والسلام - على صورته - ساداً ما بين الأفق. وقيل: إن إسرافيل عليه السلام له اثنا عشر ألف جناح. والزيادة في الخلق: تشمل كل خلق خلقه الله تعالى. فقد خلق تعالى الإنسان؛ والزيادة في خلقه: اعتداله وحسنه وجماله. وخلق العينان؛ والزيادة في خلقهما: حورهما. وخلق الصوت والزيادة في خلقه: ملاحته وحلاوته. وخلق الخط؛ والزيادة في خلقه: وضوحه وحسنه. وخلق الشعر؛ والزيادة في خلقه: إرساله وتهدله ونعومته
﴿مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ﴾ رزق، أو مطر، أو صحة، أو ما شاكل ذلك
﴿يأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ فاعبدوه واشكروا له ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ﴾ بما ينزله من أمطار، ويجريه من أنهار من ﴿الأَرْضِ﴾ بما يخرجه من نبات وأقوات، وثمار وأزهار ﴿لاَ إِلَهَ﴾ يعبد ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ له الحمد، وله الشكر، وله الثناء الجميل ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ فكيف تصرفون عن عبادته؛ وأنتم لا ترزقون إلا بسببه، ولا تنعمون إلا بسببه
﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الشيطان
﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ﴾ أتباعه وأولياءه ﴿لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
بسبب طاعتهم له، وانغماسهم في كفرهم ومعاصيهم
﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ﴾ زينه له شيطانه، ورغبته فيه نفسه ﴿فَرَآهُ حَسَناً﴾ وهو في الحقيقة أقبح من القبح، وأسوأ من السوء والجواب محذوف تقديره «أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً» كمن هدي إلى الصراط المستقيم؟ ﴿لاَّ يَسْتَوُونَ﴾ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ يضل من يشاء إضلاله؛ بسبب انصرافه عن آيات ربه بعد أن جاءته بينات محكمات، وبعد أن أدخلها الله تعالى في لبه، وسلكها في قلبه ولا تنس قول الحكيم العلم ﴿فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وقوله جل شأنه: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾
(انظر آية ٢٠٠ من سورة الشعراء) ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ أي لا تقتل نفسك عليهم غماً وحسرة ﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ مجدب؛ لا نبات فيه ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ﴾ أي أحيينا الأرض بالمطر المستكن في السحاب؛ فأنبتت بعد جدبها ﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ أي مثل إحيائنا للأرض الميتة: كذلك يكون بعثكم وإحياؤكم
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً﴾ في الدنيا والآخرة؛ فلا تنال بالمال، ولا بالولد، ولا بالجاه؛ وإنما تنال بطاعة الله تعالى؛ فمن أرادها فليعمل عملاً صالحاً يؤهله لنيلها ﴿إِلَيْهِ﴾ تعالى ﴿يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ وهو كل كلام يتقرب به إلى الله تعالى؛ ويدخل فيه قوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ فكل قول حسن؛ هو من الكلم الطيب. وكذلك قوله جل شأنه: ﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ و ﴿الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ من أسباب العزة عندالله، وعند الناس؛ وصعود الكلم الطيب إليه تعالى: معناه أنه جل شأنه يعلمه، ويسرع بالجزاء عليه، ويحسن إلى صاحبه ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ﴾ العبادة الخالصة
﴿يَرْفَعُهُ﴾ أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب؛ فقد يكون الكلم الطيب رياء، أو مداهنة. أو «والعمل الصالح» يرفع عامله إلى مصاف الأتقياء. وقيل: «والعمل الصالح يرفعه» الكلم الطيب. يؤيده قراءة من قرأ «والعمل الصالح» بالنصب. هذا «والعمل الصالح» غير قاصر على العبادات فحسب؛ بل يشمل سائر الأعمال والمصنوعات التي يعهد بعملها إلى الناس. قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» وما من شك أن الأعمال الصالحة المتقنة: ترفع صاحبها عند الله وعند الناس؛ فيزداد بها علواً ورفعة ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ أي المكرات السيئات ﴿وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ يفسد ويبطل
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ أي خلق أصل الإنسان «آدم» من تراب ﴿ثُمَّ﴾ خلقكم ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ مني. (انظر آية ٢١ من سورة الذاريات) ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً﴾ أنصافاً، أو ذكراناً وإناثاً ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ﴾ المعمر: طويل العمر. أي ما يزاد في عمر طويل العمر ﴿وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ هو اللوح المحفوظ؛ مكتوب فيه تلك الزيادة، وذلك النقصان. قيل: إن الزيادة: هي ما يستقبله من عمره، والنقصان: ما يستدبره منه. ونقصان الأعمار وزيادتها: أمر مسلم به، مقطوع بوقوعه: فالإحسان، وبر الوالدين، والصدقة، وصلة الرحم؛ فهي - فضلاً عن أنها مرضاة للرب - تطيل الأجل، وتزيد القوة، وتنمي الصحة، وتضفي السعادة قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره - عمره - فليصل رحمه» وقد ورد أنه مكتوب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا؛ فإن وصل رحمه: زيد في عمره كذا ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ النقصان والزيادة ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ هين لا يشق عليه
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ﴾ الملح والعذب ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ شديد العذوبة والحلاوة ﴿وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ شديد الملوحة ﴿وَمِن كُلٍّ﴾ منهما ﴿تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً﴾ هو السمك ﴿وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ هي اللؤلؤ والمرجان ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ﴾
-[٥٣١]- السفن ﴿فِيهِ مَوَاخِرَ﴾ مخرت السفينة الماء: أي شقته ﴿لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ بالتجارة والكسب
﴿يُولِجُ﴾ يدخل ﴿الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ بنقصان الليل، وزيادة النهار ﴿وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ﴾ بنقصان النهار، وزيادة الليل ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ تعبدون ﴿مِن دُونِهِ﴾ غيره ﴿مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾ وهو القشرة الرقيقة الملتفة على النواة.
وهو مبالغة في القلة، والحقارة. أي أنهم لا يملكون شيئاً مطلقاً
﴿إِن تَدْعُوهُمْ﴾ تنادوهم ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ أي يتبرأون منكم، ومن عبادتكم لهم
﴿يأَيُّهَا النَّاسُ﴾ خطاب لسائر الناس: غنيهم قبل فقيرهم، وسليمهم قبل سقيمهم، وقويهم قبل ضعيفهم؛ يقول لهم ربهم، وخالقهم، ومالكهم ﴿أَنتُمُ﴾ جميعاً ﴿الْفُقَرَآءُ﴾ المحتاجون ﴿إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ﴾ وحده ﴿هُوَ الْغَنِيُّ﴾ المستغني بنفسه عن غيره ﴿الْحَمِيدُ﴾ المحمود في صنعه والفقر: هو الافتقار؛ وجميع الناس - على اختلاف طبقاتهم، وتباين أجناسهم - مفتقرون إليه تعالى في كل شؤونهم؛ فالغني لا يكون إلا بأمره، والسعادة لا تكون إلا بمشيئته، والسلامة لا تتم إلا بإرادته، والحاجة دائماً إليه، والاستعانة دائماً به
﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ﴿وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ﴾ أي إن تدع نفس مثقلة بالذنوب ﴿إِلَى حِمْلِهَا﴾ أي إلى حمل حملها الثقيل من الذنوب ﴿لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ﴾ المدعو للحمل ﴿ذَا قُرْبَى﴾ ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذٍ شأنه يغنيه} ﴿وَمَن تَزَكَّى﴾ تطهر بفعل الطاعات، وبترك المعاصي ﴿فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾ لأن ثواب ذلك عائد إليه وعليه
﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ الكافر والمؤمن، أو الجاهل والعالم
﴿وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ﴾ الكفر والإيمان، أو الجهل والعلم (انظر آية ١٧ من سورة البقرة)
﴿وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ﴾ الحق والباطل، أو الجنة والنار
﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ﴾ أي الذين دخلوا في الإسلام، ومن لم يدخلوا فيه. ويصح أن يكون جميع ما تقدم على ظاهره
﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾ أي كما أنك لا تسمع الموتى - سكان القبور - فكذلك لا تستطيع إسماع الكفار: موتى القلوب
﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ أي وما من أمة سبقت؛ إلا مضى فيها رسول ينذرهم سوء عاقبة الكفران، ويخوفهم وخامة الظلم والطغيان
﴿جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الآيات الواضحات ﴿وَبِالزُّبُرِ﴾ الصحف ﴿وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ الواضح؛ كالتوراة والإنجيل
﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ عذبتهم؛ بسبب تكذيبهم لرسلهم، وإنكارهم لكتبهم ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ إنكاري عليهم، وتعذيبي لهم
﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ﴾ فاكهة ﴿مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾ كحمرة التفاح وصفرته، وبياض العنب وسواده، واختلاف ألوان الفاكهة وطعومها؛ مع سقياها بماء واحد ﴿يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ﴾ ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ﴾ طرق لونها أبيض، وأخرى لونها أحمر؛ وهذا مشاهد يعرفه كل من ارتاد الجبال وطرقاتها، ورأى مفاوزها ومسالكها. وقد رأيت ذلك رأي العين - ورآه الكثيرون - بجبال مكة المشرفة ﴿وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ أي وطرق سوداء حالكة السواد. يقال: أسود غربيب. ومنه الغراب لسواده
﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ﴾ الاختلاف الظاهر في الثمرات، والجبال والطرق ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ﴾ حق خشيته، ويعرفه حق معرفته ﴿مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ الذين يعلمون رحمته ونقمته، وعفوه وبطشه، وحلمه وقهره، ومغفرته وعذابه؛ ويعلمون أنه تعالى على كل شيء قدير
والعلم: هو في نفسه غاية الغايات، ونهاية النهايات؛ ألا ترى أنه يرشدك إلى بارئك، ويلهمك ما ينجيك، ويطلق عقلك من عقال الأوهام، ويقاوم التعصب والتقليد؛ وينزه فكرك من القيود، ويوصلك إلى المعرفة الخالصة، والحق المجرد وكل علم لا يصل بك إلى هذا المستوى؛ فليس بعلم
والعلم أيضاً وسيلة سامية، لغايات بالغة السمو: فبغير العلم لا تستطيع أن تعالج مشاكل الحياة علاجاً سليماً محكماً، وبغيره لا تستطيع أن تحمي نفسك وتدفع عنها إيذاء المؤذين، وعدوان المعتدين
فالعلم إذن يجمع بين الحق والقوة، والسعادة والسيادة، والعظمة والسلطان. فبالعلم استطاع الإنسان - في دفاعه عن نفسه - أن يستعمل اللسان والسنان، وبالعلم استطاع أن يسخر الماء والهواء، والبخار والكهرباء؛ حتى صار الإنسان بعلمه: كمن يضع في أصبعه خاتم سليمان، ويجلس على بساطه
أما رجال السياسة؛ فهم - رغم غزارة علمهم، وسعة مداركهم - غير جديرين بشرف الانتساب إلى العلم: لأنهم جعلوه وسيلة للخسران، لا للعمران، وللفناء، لا للبقاء ومثلهم في ذلك كمثل إبليس:
-[٥٣٣]- حاز علم العلماء، وسلك سلوك الجهلاء
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ ويعملون بما فيه ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ﴾ محافظين عليها في أوقاتها ﴿وَأَنفَقُواْ﴾ على الفقراء ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ بفضلنا؛ لا بكسبهم ﴿سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ من غير من، ولا أذى، ولا رياء: يسرون في النافلة «الصدقة» ويعلنون في الفريضة «الزكاة» أو يسرون ستراً على الفقير، وجبراً لخاطره، ويعلنون ليقتدى بفعلهم من عداهم. أولئك ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ وهي طلب ثواب الله تعالى، والنجاة من عقابه
هذا والتجارة معه تعالى من أربح التجارات وأحسنها، وأعلاها وأغلاها (انظر آية ٢٤٥ من سورة البقرة)
﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ما تقدمه من الكتب
﴿اصْطَفَيْنَا﴾ اخترنا ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ بالكفر، وتحمل الإثم، وذل المعصية ﴿وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم. أو هم الذين أعطوا الدنيا حقها، والآخرة حقها ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ لا يبغي من الدنيا مغنماً، ولا يقرب محرماً
وهذه الأصناف الثلاثة: هي التي عناها الله تعالى بقوله ﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ فأصحاب الميمنة: هم المعنيون بقوله تعالى ﴿وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ وأصحاب المشأمة: هم المعنيون بقوله ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ والسابقون السابقون: هم المعنيون بقوله جل شأنه ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ وهم السابقون إلى الخيرات والمكرمات ﴿بِإِذُنِ اللَّهِ﴾ بأمره وتوفيقه {
جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جنات الإقامة
﴿الَّذِي أَحَلَّنَا﴾ أنزلنا ﴿دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ دار الإقامة: وهي الجنة. وسميت بذلك: لأن الإقامة فيها مؤبدة ﴿لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ تعب ﴿وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ إعياء
﴿لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ﴾ ويستريحوا
﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا﴾ من النار، وأعدنا إلى الدنيا ﴿نَعْمَلْ﴾ فيها عملاً ﴿صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ من قبل. قال تعالى رداً عليهم ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ أي «أوَلم نعمركم» في الدنيا الوقت الطويل الذي يتذكر فيه من أراد أن يتذكر، ويهتدي فيه من أراد أن يهتدي ﴿وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ محمد عليه الصلاة والسلام. وقيل «النذير» الشيب، أو موت الأهل والأحباب. والأول أحق بالصواب وأجدر
﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ ما غاب فيهما عن البصر، واحتجب عن الوهم ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بخفايا القلوب
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ﴾ خلائف: جمع خليفة. أي يخلف بعضكم بعضاً في تملك الأرض، والتمتع بخيراتها ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أي عليه إثم كفره وعقوبته ﴿وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً﴾ المقت: أشد البغض ﴿وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً﴾ خسراناً؛ وأي خسران أشق وأشد من خسران الجنة ونعيمها؟ وأي خسران أدهى وأنكى من الخلود في جهنم وجحيمها؟
﴿الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ تعبدون ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ﴾ أي إن الله تعالى عالم غيب السموات والأرض، ومبدعهما، وخالق من فيهما؛ وقد خلقكم تعالى شعوباً متعددة، وأمماً شتى، وأجناساً متباينة؛ ووالى - سبحانه وتعالى - خلقكم وإنشاءكم؛ فإذا ما انقرضت أمة؛ أخلف مكانها أمة أخرى، وإذا ما فني شعب؛ أحل مكانه شعباً آخر. وجميع ذلك خلق الله تعالى؛ فماذا خلق آلهتكم في هذه الأرض التي أنتم عليها؟ ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ﴾ شركة مع الله ﴿فِي﴾ خلق ﴿السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً﴾ مكتوباً يؤكد هذه الشركة ﴿فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ حجة ﴿مِّنْهُ﴾ أي من هذا الكتاب ﴿بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً﴾ باطلاً
﴿إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾ ما يمسكهما
﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ غاية اجتهادهم في الأيمان ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ محمد ﴿مَّا زَادَهُمْ﴾ مجيؤه ﴿إِلاَّ نُفُوراً﴾ من الحق، وانصرافاً عن الإيمان
﴿اسْتِكْبَاراً﴾ منهم وعلواً
-[٥٣٥]- ﴿فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ﴾ أي ما زادهم مجيؤه إلا أن مكروا المكر السيء. والمكر: الخداع يحيط ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ﴾
ما ينتظرون ﴿اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ﴾ أي إلا طريقتنا مع الأولين: وهي تعذيبهم وقت تكذيبهم، واستئصالهم وقت كفرهم
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ من المكذبين، وكيف فعلنا بهم ﴿وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي أشد من أهل مكة؛ فما أعجزونا، وما استطاعوا النجاة من انتقامنا ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ﴾ ليفوته
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ﴾ بما ارتكبوا من المعاصي
﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا﴾ أي ظهر الأرض
﴿مِن دَآبَّةٍ﴾ الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان، أو حيوان، أو غيرهما
﴿وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو القيامة
﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾ فيجازيهم على ما عملوا.
535
سورة يس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
535