قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقَالَ غَيره: هم المُنَافِقُونَ.
(عَن الْمَرْء لَا تسْأَل وبصر قرينه فَكل قرين بالمقارن يَقْتَدِي)
قَوْله تَعَالَى: ﴿وماذا عَلَيْهِم﴾ أَي: وَأي شئ عَلَيْهِم ﴿لَو آمنُوا بِاللَّه﴾ وَهُوَ مثل مَا يُحَاسب الرجل نَفسه، فَينْظر فِيمَا لَهُ، وَفِيمَا عَلَيْهِ؛ يَقُول الله تَعَالَى أَي: شئ عَلَيْهِم لَو آمنُوا بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ﴿وأنفقوا مِمَّا رزقهم الله وَكَانَ الله بهم عليما﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن الله لَا يظلم مِثْقَال ذرة﴾ قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " مِثْقَال نملة " والذرة: هِيَ النملة الْحَمْرَاء، ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا﴾ وَقُرِئَ: " يضعفها " وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء. ﴿وَيُؤْت من لَدنه أجرا عَظِيما﴾ .
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا﴾ مَعْنَاهُ: فَكيف الْحَال إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد؟ وَأَرَادَ بالشهيد من كل أمة نبيها، وشهيد هَذِه الْأمة: نَبينَا.
وأختلفوا على أَن شَهَادَتهم على مَاذَا؟ مِنْهُم من قَالَ: يشْهدُونَ على تَبْلِيغ الرسَالَة، وَمِنْهُم من قَالَ: يشْهدُونَ على الْأمة بِالْأَعْمَالِ.
428
﴿إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا (٤١) يَوْمئِذٍ يود الَّذين كفرُوا وعصوا الرَّسُول لَو تسوى بهم الأَرْض وَلَا يكتمون الله حَدِيثا (٤٢) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا﴾
وَاخْتلفُوا فِي أَن النَّبِي هَل يشْهد على من لم يره؟ مِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا يشْهد على من رَآهُ، وَالصَّحِيح: أَنه يشْهد على الْكل، على من رأى، وعَلى من لم ير.
وروى عَن ابْن مَسْعُود: " أَن النَّبِي قَالَ لي: اقْرَأ عَليّ الْقُرْآن " فَقلت: كَيفَ أَقرَأ عَلَيْك الْقُرْآن، وَعَلَيْك أنزل؟ ! فَقَالَ: أُرِيد أَن أسمعهُ من غَيْرِي. قَالَ ابْن مَسْعُود: فافتتحت سُورَة النِّسَاء، فَلَمَّا بلغت قَوْله:
﴿فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا﴾ غمزني رَسُول الله بِيَدِهِ، وَقَالَ: حَسبك، فَنَظَرت إِلَيْهِ، فَإِذا عَيناهُ تَذْرِفَانِ "، وَفِي رِوَايَة: " لما قَرَأت هَذِه الْآيَة، قَرَأَ رَسُول الله:
﴿وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم﴾ " وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: " هَذَا يَا رب فِيمَن رَأَيْته، فَكيف بِمن لم أره؟ " وأصل الحَدِيث صَحِيح.
429
قَوْله تَعَالَى:
﴿يَوْمئِذٍ﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة
﴿يود الَّذين كفرُوا وعصوا الرَّسُول لَو تسوى بهم الأَرْض﴾ وَيقْرَأ: " لَو تسوى بهم الأَرْض " أَي: تستوي، يَعْنِي: يودون أَن يصيروا تُرَابا، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى:
﴿وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا﴾ ، وَذَلِكَ حِين تحْشر الْبَهَائِم ثمَّ يَقُول الله تَعَالَى لَهُم: كونُوا تُرَابا، فيكونون تُرَابا؛ فيود الْكفَّار هُنَالك أَن يصيروا مثل الْبَهَائِم تُرَابا، وَقيل: يودون أَن
429
﴿تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء﴾ تنخرق الأَرْض؛ فساخوا فِيهَا وهلكوا، وتسوى بهم الأَرْض، أَي: عَلَيْهِم الأَرْض.
﴿وَلَا يكتمون الله حَدِيثا﴾ فَإِن قيل: قد أخبر هَاهُنَا أَنهم لَا يكتمون الله حَدِيثا، وَذكر فِي مَوضِع آخر قَوْلهم:
﴿وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين﴾ فقد كتموا، فَكيف وَجه الْجمع؟ قيل: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَهَذَا فِي موطن وَذَاكَ فِي موطن، آخر، وَفِي الْقِيَامَة مَوَاطِن، وَهَذَا جَوَاب مَعْرُوف أوردهُ القتيبي فِي مُشكل الْقُرْآن. وَقيل: مَعْنَاهُ: يودون أَن لَا يكتمون الله حَدِيثا، وَذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ:
﴿وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين﴾ وَنَحْو ذَلِك، فيختم الله على أَفْوَاههم، وينطق جوارحهم؛ فيودون أَنهم لم يكتموا الله حَدِيثا فَهُوَ رَاجع إِلَى قَوْله:
﴿يود الَّذين كفرُوا﴾ وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا يقدرُونَ أَن يكتموا الله حَدِيثا.
430
قَوْله تَعَالَى:
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى﴾ يَعْنِي: لَا تقربُوا مَوضِع الصَّلَاة،
﴿وَأَنْتُم سكارى﴾ فَالْأَصَحّ وَعَلِيهِ أَكثر الْمُفَسّرين أَنه أَرَادَ بِهِ: السكر من الشَّرَاب، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس. وَقَالَ الضَّحَّاك: أَرَادَ بِهِ: السكر من النّوم.
وَالسكر من السكر فَهُوَ أَشد، فالسكر يسد الْعقل والمعرفة، وَالصَّحِيح أَنه فِي السكر من الشَّرَاب.
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف صنع طَعَاما، وَاتخذ شرابًا، ودعا رهطا من أَصْحَاب رَسُول الله، فَأَكَلُوا، وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا، فَدخل وَقت الْمغرب، فَقَامُوا إِلَى الصَّلَاة، وَقدمُوا وَاحِدًا مِنْهُم، فَقَرَأَ سُورَة
﴿قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ﴾ وَقَرَأَ: أعبد مَا تَعْبدُونَ، وَأَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد، قَرَأَ هَكَذَا إِلَى آخر السُّورَة بطرح " لَا "؛
430
﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ إِن الله كَانَ عفوا غَفُورًا (٤٣) ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يشْتَرونَ الضَّلَالَة ويريدون أَن تضلوا السَّبِيل (٤٤) وَالله أعلم﴾ فَنزل قَوْله:
﴿لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ﴾ " أَي: حَتَّى تميزوا، وتعرفوا مَا تَقولُونَ.
فَإِن قيل: كَيفَ خَاطب السكارى، والسكران لَا يُخَاطب؟ قيل أَرَادَ بِهِ لَا تتعرضوا للسكر فِي أَوْقَات الصَّلَاة، فَكَانُوا يشربون بعد ذَلِك بعد صَلَاة الصُّبْح، ويصحون عِنْد الظّهْر، وَيَشْرَبُونَ بعد الْعشَاء الْآخِرَة، ويصحون عِنْد الصُّبْح.
﴿وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل﴾ يَعْنِي: وَلَا تقربُوا الْمَسْجِد مَوضِع الصَّلَاة جنبا، إِلَّا عابري سَبِيل، اخْتلفُوا فِيهِ: قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين وَهُوَ قَول الشَّافِعِي: إِنَّه أَرَادَ بِهِ عبور: الْجنب فِي الْمَسْجِد من غير أَن يجلس؛ فَرخص فِيهِ، وَقَالَ بَعضهم إِنَّه يتَيَمَّم للعبور، ثمَّ يعبر إِذا لم يكن لَهُ بُد من العبور، وَالْآيَة فِي قوم من الْأَنْصَار كَانَت أَبْوَاب بُيُوتهم فِي الْمَسْجِد: فَرخص لَهُم فِي العبور بِالتَّيَمُّمِ، فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا﴾ .
﴿وَإِن كُنْتُم مرضى﴾ أَرَادَ بِهِ: المرضى من القروح والجروح، وَفِيه تفاصيل تذكر فِي الْفِقْه،
﴿أَو على سفر﴾ وحد السّفر: مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة، وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي: مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام
﴿أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط﴾ قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: وَجَاء أحد مِنْكُم من الْغَائِط؛ حَتَّى يَسْتَقِيم الْكَلَام، وَالْغَائِط: اسْم للمطمئن من الأَرْض؛ فَلَمَّا جرت عَادَة الْعَرَب بإتيان الْغَائِط للْحَدَث؛ سمى الْحَدث غائطا باسم الْمَكَان.
﴿أَو لمستم النِّسَاء﴾ وَيقْرَأ: " أَو لامستم النِّسَاء " قَالَ عَليّ، وَابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ الْجِمَاع، قَالَ ابْن عَبَّاس: إِن الله حيى كريم، يكنى بالْحسنِ عَن الْقَبِيح؛ فكنى باللمس عَن الْجِمَاع، وَقَالَ ابْن مَسْعُود، وَابْن عمر: هُوَ اللَّمْس بِالْيَدِ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، فَمن قَالَ بِالْأولِ قَالَ: إِن التَّيَمُّم للْجنب ثَابت بِنَصّ الْكتاب، وَمن قَالَ
431
﴿بأعدائكم وَكفى بِاللَّه وليا وَكفى بِاللَّه نَصِيرًا (٤٥) من الَّذين هادوا يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه وَيَقُولُونَ سمعنَا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فِي الدّين وَلَو﴾ بِالثَّانِي قَالَ: إِن التَّيَمُّم للمحدث ثَابت بِالْكتاب، وللجنب ثَابت بِالسنةِ.
وَقَالَ عمر، وَابْن مَسْعُود: لَيْسَ للْجنب أَن يتَيَمَّم أصلا، وحملوا الْآيَة على اللَّمْس بِالْيَدِ، وتمسكوا بِظَاهِر الْآيَة.
وَالأَصَح أَن اللَّمْس وَالْمُلَامَسَة وَاحِد، وَقَالَ بَعضهم: وَمن قَرَأَ:
﴿أَو لامستم﴾ فَفِيهِ دَلِيل على انْتِقَاض طَهَارَة اللامس والملموس جَمِيعًا. وَمن قَرَأَ (أَو لمستم) فَفِيهِ دلَالَة على انْتِقَاض طَهَارَة اللامس فَحسب.
﴿فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا﴾ أَي: اقصدوا، وتعمدوا، وَالتَّيَمُّم: الْقَصْد، قَالَ الشَّاعِر:
(تيممت قيسا وَكم دونه من الأَرْض من مهمة ذِي شزن)
﴿صَعِيدا﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الصَّعِيد: التُّرَاب، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الصَّعِيد: مَا يصعد من وَجه الأَرْض، وَهُوَ اخْتِيَار الزّجاج، وَقَالَ الزّجاج: لَو ضرب يَده على صَخْرَة صماء حصل التَّيَمُّم، وَإِن لم يعلق بِهِ شئ، وَاسْتَدَلُّوا بقوله:
﴿صَعِيدا زلقا﴾ وَأَرَادَ بِهِ: وَجه الأَرْض، وَالْأول أصح؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي آيَة أُخْرَى:
﴿فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ يَعْنِي: من الصَّعِيد؛ فَدلَّ أَنه التُّرَاب حَتَّى يكون التَّيَمُّم مِنْهُ وَقَوله:
﴿طيبا﴾ أَي: طَاهِرا، وَقَالَ بَعضهم: حَلَالا (فامسحوا بوجهكم وَأَيْدِيكُمْ إِن الله كَانَ عفوا غَفُورًا) فالعفو المسهل والغفور: السَّاتِر.
432
قَوْله تَعَالَى:
﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يُسَمِّي الْيَهُود وَالنَّصَارَى: " أهل الْكتاب "، وَهُوَ اسْم مدح، وهم يسْتَحقُّونَ الذَّم؟
قيل: قَالَ ذَلِك لإلزام الْحجَّة، وَقيل: سماهم بذلك على زعمهم أَنهم أهل الْكتاب.
432
﴿أَنهم قَالُوا سمعنَا وأطعنا واسمع وانظرنا لَكَانَ خيرا لَهُم وأقوم وَلَكِن لعنهم الله بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا (٤٦) يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا مُصدقا لما مَعكُمْ من قبل أَن﴾
﴿يشْتَرونَ الضَّلَالَة﴾ لأَنهم لما استبدلوا الضَّلَالَة بِالْهدى، فكأنهم اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى، وكل مُشْتَر مستبدل.
{ويريدون أَن تضلوا السَّبِيل
433
وَالله أعلم بأعدائكم وَكفى بِاللَّه وليا وَكفى بِاللَّه نَصِيرًا) قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: اكتفوا بِاللَّه وليا واكتفوا بِهِ نَصِيرًا؛ لتَكون " الْبَاء " فِي موضعهَا، وَقَالَ غَيره: الْبَاء صلَة، وَتَقْدِيره: وَكفى الله وليا وَكفى الله نَصِيرًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من الَّذين هادوا يحرفُونَ﴾ قيل تَقْدِيره: ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب من الَّذين هادوا يحرفُونَ، وَقيل مَعْنَاهُ: من الَّذين هادوا فريق يحرفُونَ ﴿الْكَلم عَن موَاضعه وَيَقُولُونَ سمعنَا وعصينا﴾ لأَنهم لما سمعُوا وَلم يطيعوا، فكأنهم قَالُوا: سمعنَا وعصينا.
﴿واسمع غير مسمع﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول الله: اسْمَع، ثمَّ يَقُولُونَ فِي أنفسهم: لَا سَمِعت، فَهَذَا مَعْنَاهُ، وَقَالَ الْحسن: اسْمَع غير مسمع مِنْك، يَعْنِي: اسْمَع منا، وَلَا نسْمع مِنْك ﴿وراعنا﴾ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك، ويريدون بِهِ: النِّسْبَة إِلَى الرعونة، فَذَلِك معنى قَوْله: ﴿ليا بألسنتهم وطعنا فِي الدّين﴾ ؛ لِأَن قَوْلهم: رَاعنا من المراعاة، فَلَمَّا حرفوه إِلَى الرعونة، فَذَلِك معنى قَوْله: ( ﴿ليا بألسنتهم﴾ وَلَو أَنهم قَالُوا سمعنَا وأطعنا واسمع وانظرنا) أَي: انْظُر إِلَيْنَا ﴿لَكَانَ خيرا لَهُم وأقوم﴾ أَي: أعدل (وَلَكِن لعنهم الله بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا) فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلا، لَا يسْتَحقُّونَ بِهِ اسْم الْإِيمَان؛ وَذَلِكَ أَنهم يُؤمنُونَ بِاللَّه، وَالْآخِرَة، ومُوسَى، وَقيل: مَعْنَاهُ: فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا نفر قَلِيل مِنْهُم، وَأَرَادَ بِهِ: عبد الله بن سَلام، وقوما مِنْهُم أَسْلمُوا.
﴿يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا﴾ يَعْنِي: من الْقُرْآن (مُصدقا لما
433
﴿نطمس وُجُوهًا فنردها على أدبارها أَو نلعنهم كَمَا لعنا أَصْحَاب السبت وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا (٤٧) إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد افترى﴾ ﴿مَعكُمْ﴾ من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل
﴿من قبل أَن نطمس وُجُوهًا فنردها على أدبارها﴾ الطمس: المحو، وَمَعْنَاهُ: من قبل أَن نطمس الْوَجْه، ونرده إِلَى الْقَفَا، وَقيل: مَعْنَاهُ: نَبَات الشّعْر عَلَيْهِ، حَتَّى يصير كالقردة، وَقيل: يَجْعَل عَيْنَيْهِ على الْقَفَا ليمشي بقهقرى، وروى: أَن عبد الله بن سَلام لما سمع هَذِه الْآيَة، جَاءَ إِلَى النَّبِي وَيَده على وَجهه، فَأسلم، وَقَالَ: خفت أَن يطمس وَجْهي قبل أَن أصل إِلَيْك، وَكَذَلِكَ كَعْب الْأَحْبَار لما سمع هَذِه الْآيَة أسلم فِي زمن عمر رَضِي الله عَنهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد أوعد الْيَهُود بالطمس إِن لم يسلمُوا، وَلم يطمس وُجُوههم، فَكيف ذَلِك؟ قيل: هَذَا كَانَ فِي قوم معدودين أَسْلمُوا، وَذَلِكَ: عبد الله بن سَلام، وثعلبة بن سعيد، وَأَوْس بن سعيد، والمحيريق، وَجَمَاعَة، وَلَو لم يسلمُوا لطمسوا.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الطمس فِي الْقِيَامَة، قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بقوله
﴿نطمس وُجُوهًا﴾ أَي: نتركهم فِي الضَّلَالَة؛ فَيكون المُرَاد طمس الْقلب
﴿أَو نلعنهم كَمَا لعنا أَصْحَاب السبت﴾ أَي: نجعلهم قردة كَمَا جعلنَا أَصْحَاب السبت قردة
﴿وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا﴾ .
434
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء﴾ قيل: هَذِه أَرْجَى آيَة فِي الْقُرْآن، قَالَ ابْن عمر: كُنَّا نطلق القَوْل فِيمَن ارْتكب الْكَبَائِر بالخلود فِي النَّار، حَتَّى نزلت هَذِه الْآيَة، فتوقفنا
﴿وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد افترى إِثْمًا عَظِيما﴾ أَي: اختلق إِثْمًا عَظِيما، فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ الله تَعَالَى:
﴿إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ﴾ وَقَالَ فِي مَوضِع آخر:
﴿إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا﴾ فَكيف وَجه الْجمع؟
قيل أَرَادَ بِهِ: يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا سوى الشّرك.
434
﴿إِثْمًا عَظِيما (٤٨) ألم تَرَ إِلَى الَّذين يزكون أنفسهم بل الله يُزكي من يَشَاء وَلَا يظْلمُونَ فتيلا (٤٩) انْظُر كَيفَ يفترون على الله الْكَذِب وَكفى بِهِ إِثْمًا مُبينًا (٥٠) ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا﴾
وَفِي الْخَبَر: " أَنه لما قَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا﴾ فَقَالَ رجل: والشرك يَا رَسُول الله؟ فَنزل قَوْله تَعَالَى
﴿إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ﴾ .
435
قَوْله تَعَالَى:
﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين يزكون أنفسهم﴾ نزلت الْآيَة فِي رحبي بن عَمْرو، ومرحب بن زيد، جَاءَا إِلَى النَّبِي بأطفالهما، وَقَالا: هَل على هَؤُلَاءِ ذَنْب؟، فَقَالَ: لَا. فَقَالَا: نَحن مثلهم؛ مَا فعلنَا بِاللَّيْلِ يكفر عَنَّا بِالنَّهَارِ، وَمَا فعلنَا بِالنَّهَارِ يكفر عَنَّا بِاللَّيْلِ، فَنزل قَوْله: (
﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين يزكون أنفسهم﴾ بل الله يُزكي من يَشَاء) " يطهر من يَشَاء.
﴿وَلَا يظْلمُونَ فتيلا﴾ أَي: لَا ينقص من أُجُورهم شئ إِن أَسْلمُوا، وَلَا من أوزارهم إِن لم يسلمُوا. والفتيل والقطمير والنقير: ثَلَاثَة أسامي مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فالفتيل: اسْم لما يكون فِي شقّ النواة، والقطمير: اسْم للقشرة الَّتِي تكون على النواة، والنقير: اسْم للنقطة الَّتِي تكون على ظهر النواة، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس، وَقَالَ غَيره: الفتيل من الفتل، وَهُوَ اسْم لما يحصل من الْوَسخ بَين الإصبعين عِنْد الفتل، قَالَ الشَّاعِر:
(تجمع الْجَيْش ذَا الألوف وتغزو ثمَّ لَا ترزأ الْعَدو فتيلا)
قَالَه النَّابِغَة، وأنشده الْأَزْهَرِي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أنظر كَيفَ يفترون على الله الْكَذِب وَكفى بِهِ﴾ أَي: بِالْكَذِبِ ( ﴿إِثْمًا مُبينًا﴾
ألم تَرَ إِلَيّ الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يُؤمنُونَ بالجبت والطاغوت) قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: الجبت: السحر والطاغوت: الشَّيْطَان، وَبِه قَالَ الشّعبِيّ، وَقَالَ
435
﴿نَصِيبا من الْكتاب يُؤمنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ للَّذين كفرُوا هَؤُلَاءِ أهْدى من الَّذين آمنُوا سَبِيلا (٥١) أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله وَمن يلعن الله فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا (٥٢) أم لَهُم﴾ قَتَادَة: الجبت: الشَّيْطَان والطاغوت: الكاهن، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: هما اسْما رجلَيْنِ من الْيَهُود، فالجبت: حيى بن أَخطب والطاغوت: كَعْب بن الْأَشْرَف، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس: أَن الجبت: السَّاحر بلغَة الْحَبَشَة فعرب، وَذكر عبد الله بن وهب، عَن مَالك بن أنس رَحْمَة الله أَنه قَالَ: الطاغوت: كل مَا يعبد من دون الله، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
﴿وَاجْتَنبُوا الطاغوت أَن يعبدوها﴾ فَقيل لَهُ: مَا " الجبت "؟، فَقَالَ سَمِعت أَنه الكاهن.
﴿وَيَقُولُونَ للَّذين كفرُوا هَؤُلَاءِ أهْدى من الَّذين آمنُوا سَبِيلا﴾ هَذَا قَول جمَاعَة من الْيَهُود وحضروا موسم الْحَج، فَقَالَ لَهُم الْمُشْركُونَ: نَحن أحسن طَريقَة أم مُحَمَّد وَأَصْحَابه؟ فَقَالُوا: أَنْتُم. وَهَذَا دَلِيل على شدَّة معاندة الْيَهُود؛ حَيْثُ فضلوا الْمُشْركين على الْمُسلمين، مَعَ علمهمْ أَنهم لم يُؤمنُوا بِشَيْء من الْكتب، وَأَن الْمُسلمين آمنُوا بالكتب الْمُتَقَدّمَة.
436
﴿أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله﴾ هم الْيَهُود ﴿وَمن يلعن الله فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا﴾ .
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم لَهُم نصيب من الْملك فَإِذا لَا يُؤْتونَ النَّاس نقيرا﴾ فالنقير: اسْم تِلْكَ النقطة على ظهر النواة، وَمِنْهَا تنْبت النَّخْلَة، وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه: اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار وَالنَّفْي، يعْنى: لَيْسَ لَهُم نصيب من الْملك؛ إِذْ لَو كَانَ الْملك لَهُم، فَإِذا لَا يُؤْتونَ النَّاس نقيرا، وَقد ذكرنَا نزع الْملك من الْيَهُود، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه بِمَعْنى الْإِثْبَات، يَعْنِي: لَهُم نصيب من الْملك: وَأَرَادَ بِالْملكِ المَال، ثمَّ هم إِذا لَا يُؤْتونَ النَّاس نقيرا، وَصفهم بِشدَّة الْبُخْل، وَهَذَا على طَرِيق ضرب الْمثل؛ إِذْ من الْيَهُود من يُؤْتِي المَال.
قَوْله تَعَالَى:
﴿أم يحسدون النَّاس على مَا آتَاهُم الله من فَضله﴾ أَي: بل يحسدون، وَاخْتلفُوا فِي النَّاس هَاهُنَا، من المُرَاد بِهِ؟ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْحسن،
436
﴿نصيب من الْملك فَإِذا لَا يُؤْتونَ النَّاس نقيرا (٥٣) أم يحسدون النَّاس على مَا آتَاهُم الله من فَضله فقد آتَيْنَا آل إِبْرَاهِيم الْكتاب وَالْحكمَة وآتيناهم ملكا عَظِيما (٥٤) فَمنهمْ من آمن بِهِ﴾ وَمُجاهد، وَجَمَاعَة: أَرَادَ بِهِ: مُحَمَّدًا وَحده، وَقَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ الْعَرَب؛ حسدهم الْيَهُود ببعث النَّبِي مِنْهُم، وَفِيه قَول ثَالِث: أَرَادَ بِهِ: مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: نَحن النَّاس؛ وَذَلِكَ أَنهم حسدوا، فَإِذا قُلْنَا بالْقَوْل الأول: أَنه مُحَمَّد وَحده؛ فَاخْتَلَفُوا فِي الْفضل الْمَذْكُور فِي الْآيَة مَا هُوَ؟ قَالَ بَعضهم: هُوَ النُّبُوَّة حسد الرَّسُول بهَا، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ تَحْلِيل الزَّوْجَات فِيمَا زَاد على الْأَرْبَع، حسده الْيَهُود عَلَيْهِ؛ فَقَالُوا: مَا بَال هَذَا الرجل همه فِي النِّكَاح، ينْكح، وينكح.
﴿فقد آتَيْنَا آل إِبْرَاهِيم الْكتاب وَالْحكمَة﴾ أَرَادَ بآل إِبْرَاهِيم: دَاوُد، وَسليمَان، وَالْكتاب: هُوَ الْكتاب الَّذِي أنزل عَلَيْهِم، وَأما الْحِكْمَة: قيل: هِيَ النُّبُوَّة، وَقيل هِيَ السّنة.
وَمعنى الْآيَة: أَنهم إِن حسدوا الرَّسُول بِمَا أُوتى من الْفضل، فليحسدوا آل إِبْرَاهِيم؛ فَإِنَّهُم قد أُوتُوا الْكتاب وَالْحكمَة
﴿وآتيناهم ملكا عَظِيما﴾ اخْتلفُوا فِي الْملك الْعَظِيم: فَمن فسر الْفضل بتحليل الزَّوْجَات، فسر الْملك الْعَظِيم بِهِ أَيْضا، وَقد كَانَ لداود تسع وَتسْعُونَ امْرَأَة، ولسليمان مائَة امْرَأَة، وَقيل: كَانَ لِسُلَيْمَان سَبْعمِائة امْرَأَة، وثلثمائة سَرِيَّة، وَقيل: أعْطى نَبينَا صلوَات الله عَلَيْهِ قُوَّة سبعين شَابًّا فِي المباضعة.
وَقيل: الْملك الْعَظِيم: ملك سُلَيْمَان، وَقيل: المُرَاد بِهِ تأييدهم بالجنود من الْمَلَائِكَة.
437
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَمنهمْ من آمن بِهِ﴾ يعْنى: بِالْكتاب
﴿وَمِنْهُم من صد عَنهُ﴾ أَي: أعرض عَنهُ، وَقيل: مَعْنَاهُ: فَمنهمْ من آمن بِمُحَمد، وَمِنْهُم من صد عَنهُ
﴿وَكفى بجهنم سعيرا﴾ والسعير: هِيَ النَّار المسعرة.
437
﴿وَمِنْهُم من صد عَنهُ وَكفى بجهنم سعيرا (٥٥) إِن الَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا سَوف نصليهم نَارا كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا ليذوقوا الْعَذَاب إِن الله كَانَ عَزِيزًا حكيما﴾
438
قَوْله تَعَالَى
﴿إِن الَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا سَوف نصليهم نَارا﴾ أَي نلقيهم فِي النَّار، وَيُقَال: صلى النَّار، إِذا قرب مِنْهَا، قَالَ الشَّاعِر يصف امْرَأَة:
(تجْعَل الْمسك واليلنجوج والند صلاء لَهَا على الكانون)
﴿كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا ليذوقوا الْعَذَاب﴾ قيل: قُرِئت هَذِه الْآيَة عِنْد عمر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ عِنْده معَاذ بن جبل، فَقَالَ: تبدل جُلُودهمْ فِي كل سَاعَة سبعين مرّة، قَالَ عمر: كَذَا سَمِعت رَسُول الله ".
وَقَالَ الْحسن: فِي كل يَوْم سبعين ألف مرّة.
فَإِن قيل: إِذا بدلت جُلُودهمْ، فَكيف يعذب غير الْجلد الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا؟ قيل: إِنَّمَا يعذب الشَّخْص فِي الْجلد دون الْجلد، وَقيل: يُعَاد الْجلد الأول فِي كل مرّة، إِلَّا أَنه سَمَّاهُ جلدا غَيره، وَمثله جَائِز، تَقول الْعَرَب: صغت من خَاتمِي خَاتمًا غَيره، وَإِن كَانَ الثَّانِي إِعَادَة للْأولِ، وَفِي الْخَبَر: " أَن بصر جلد الْكَافِر فِي النَّار أَرْبَعُونَ ذِرَاعا يَعْنِي: غلظه وضرسه مثل جبل أحد، وَمَا بَين مَنْكِبَيْه مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام ".
438
﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سندخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا لَهُم فِيهَا أَزوَاج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (٥٧) إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى﴾
وَفِي الْأَخْبَار: " يكون عَلَيْهِ مائَة جلد، بَين كل جلدين لون من الْعَذَاب "
﴿إِن الله كَانَ عَزِيزًا حكيما﴾ عَزِيزًا: غَالِبا. حكيما: فِيمَا دبر،
439
قَوْله: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سندخلهم جنَّات تجرى من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا لَهُم فِيهَا أَزوَاج مطهرة﴾ وَقد ذكرنَا معنى الْجَمِيع، ﴿وندخلهم ظلا ظليلا﴾ وَهُوَ الْكن الَّذِي يقي من الْحر وَالْبرد.
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أقاويل: أَحدهَا: أَن المُرَاد مِنْهُ: جَمِيع الْأَمَانَات، وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: يجاء بِالَّذِي خَان فِي الْأَمَانَة يَوْم الْقِيَامَة، فَيُقَال لَهُ: رد الْأَمَانَة. فَيَقُول: ذهبت الدُّنْيَا أَنى لي الْأَمَانَة، فتمثل لَهُ الْأَمَانَة فِي النَّار، وَيُقَال لَهُ: خُذ الْأَمَانَة وردهَا، فَيَأْتِي ليَأْخُذ الْأَمَانَة؛ فَيهْوِي فِي النَّار، ثمَّ يعود ليَأْخُذ فَيهْوِي فِيهَا أبدا.
وَفِي الْخَبَر أَنه قَالَ: " أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك، وَلَا تخن من خانك ". وروى عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي أَن قَالَ: " لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ، وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ
439
﴿أَهلهَا وَإِذا حكمتم بَين النَّاس أَن تحكموا بِالْعَدْلِ إِن الله نعما يعظكم بِهِ إِن الله كَانَ سميعا بَصيرًا (٥٨) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم﴾ وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أَرَادَ بِهِ: تَفْوِيض الْأَمر إِلَى الْوُلَاة بِالطَّاعَةِ لَهُم، وَالْقَوْل الثَّالِث - وَهُوَ قَول عَامَّة الْمُفَسّرين -: أَن المُرَاد مِنْهُ رد مَفَاتِيح الْكَعْبَة.
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: " أَن رَسُول الله لما فتح مَكَّة، أَخذ مِفْتَاح الْكَعْبَة من عُثْمَان بن طَلْحَة، وَفتح الْبَاب، وَدخل الْكَعْبَة، فَلَمَّا خرج، قَالَ الْعَبَّاس: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله، اجْمَعْ لي بَين السدَانَة والسقاية فهم رَسُول الله أَن يدْفع الْمِفْتَاح إِلَيْهِ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا﴾ ، فَدَعَا رَسُول الله عُثْمَان بن طَلْحَة، وَدفع إِلَيْهِ الْمِفْتَاح، وَقَالَ: خذوها يَا بني طَلْحَة، خالدة تالدة، لَا يَنْزِعهَا عَنْكُم إِلَّا ظَالِم " وَكَانَ مَعَ عُثْمَان حَيَاته، فَلَمَّا توفّي دَفعه إِلَى أَخِيه شيبَة، فَهُوَ فِي بني شيبَة إِلَى قيام السَّاعَة.
﴿وَإِذا حكمتم بَين النَّاس أَن تحكموا بِالْعَدْلِ﴾ أَي: بِالْقِسْطِ
﴿إِن الله نعما يعظكم بِهِ إِن الله كَانَ سميعا بَصيرًا﴾ .
440
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وَأولى الْأَمر مِنْكُم﴾ اخْتلفُوا فِي أولى الْأَمر، قَالَ ابْن عَبَّاس، وَجَابِر - وَهُوَ قَول جمَاعَة -: هم الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: هم الْوُلَاة والسلاطين، وَقيل: هم أُمَرَاء السَّرَايَا الَّذين بَعثهمْ رَسُول الله فِي الحروب، وَقد صَحَّ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: " من عصى أَمِيري فقد عَصَانِي، وَمن عَصَانِي فقد عصى الله، وَمن أطَاع أَمِيري فقد أَطَاعَنِي، وَمن أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله ".
440
﴿فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا (٥٩) ألم تَرَ إِلَى الَّذين يَزْعمُونَ أَنهم آمنُوا بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك يُرِيدُونَ﴾
وَقَالَ عِكْرِمَة: أَرَادَ بِهِ: أَبَا بكر وَعمر.
﴿فَإِن تنازعتم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول﴾ التَّنَازُع: هُوَ التشاجر، سمى تنَازعا؛ لِأَن كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ ينْزع بِحجَّة وَآيَة.
وَقَوله:
﴿فَردُّوهُ إِلَى الله﴾ يعْنى: إِلَى الْكتاب، وَإِلَى الرَّسُول إِن كَانَ حَيا، وَإِلَى سنته إِن كَانَ مَيتا.
وَالرَّدّ إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَاجِب، مَا دَامَ فِي الْحَادِثَة شئ من الْكتاب وَالسّنة، فَإِن لم يكن فالسبيل فِيهِ الِاجْتِهَاد، وروى أَن مسلمة بن عبد الْملك قَالَ لرجل: إِنَّكُم أمرْتُم أَن تطيعونا، فَقَالَ الرجل: قد نَزعهَا الله مِنْكُم؛ حَيْثُ قَالَ:
﴿فَإِن تنازعتم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول﴾ وَقد تنازعتم، فَقَالَ مسلمة: أَيْن الله؟ فَقَالَ: الْكتاب، وَقَالَ: أَيْن الرَّسُول؟ فَقَالَ: السّنة.
وَقيل: الرَّد إِلَى الله وَالرَّسُول: أَن يَقُول الرجل فِيمَا لَا يدرى: الله وَرَسُوله أعلم، وَهَذَا قَول حسن
﴿إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا﴾ أَي: أحسن مآل وعاقبة.
441
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين يَزْعمُونَ أَنهم آمنُوا بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقد أمروا أَن يكفروا بِهِ وَيُرِيد الشَّيْطَان أَن يضلهم ضلالا بَعيدا﴾ .
فِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه فِي جمَاعَة من الْمُنَافِقين مِنْهُم خلاس بن الصَّامِت، كَانَت لَهُم خُصُومَة مَعَ جمَاعَة من الْمُسلمين، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: نَتَحَاكَم إِلَى الرَّسُول، وَقَالَ المُنَافِقُونَ: نَتَحَاكَم إِلَى الكهنة.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح: " أَن رجلا من الْيَهُود خَاصم رجلا من الْمُنَافِقين،
441
﴿أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقد أمروا أَن يكفروا بِهِ وَيُرِيد الشَّيْطَان أَن يضلهم ضلالا بَعيدا (٦٠) وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا (٦١) فَكيف إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم ثمَّ جاءوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن﴾ فَقَالَ الْيَهُودِيّ: نَتَحَاكَم إِلَى أبي الْقَاسِم إِذْ عرف أَنه لَا يَأْخُذ الرِّشْوَة على الحكم فَيحكم بِالْحَقِّ، وَقَالَ الْمُنَافِق: نَتَحَاكَم إِلَى كَعْب بن الْأَشْرَف، فتحاكما إِلَى النَّبِي فَحكم لِلْيَهُودِيِّ، وَكَانَ الحكم لَهُ، فَقَالَ الْمُنَافِق: لَا أرْضى بِحكمِهِ، نَتَحَاكَم إِلَى أبي بكر، فتحاكما إِلَى أبي بكر، فَحكم لِلْيَهُودِيِّ بِمثل مَا حكم رَسُول الله فَقَالَ الْمُنَافِق: لَا أرْضى بِحكمِهِ، نَتَحَاكَم إِلَى عمر، فتحاكما إِلَى عمر، فَقَالَ عمر: هَل تحاكمتما إِلَى أحد؟ فَقَالَ الْيَهُودِيّ: نعم إِلَى أبي الْقَاسِم، وَإِلَى أبي بكر، وَقد حكما لي، وَهُوَ لَا يرضى، فَقَالَ عمر: مَكَانكُمَا حَتَّى أخرج إلَيْكُمَا، فَدخل الْبَيْت، واشتمل على السَّيْف، ثمَّ خرج، وَضرب عنق الْمُنَافِق، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله، فَقَالَ: أَنْت الْفَارُوق ".
442
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا﴾ هُوَ مَا ذكرنَا، أَن الْمُنَافِقين دعوا إِلَى التحاكم إِلَى الرَّسُول، فأعرضوا عَنهُ، وتحاكموا إِلَى الطاغوت.
قَوْله تَعَالَى
﴿فَكيف إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم﴾ قيل: هَذَا فِي الْمُنَافِقين الَّذين تحاكموا إِلَى الطاغوت، وَقَوله:
﴿أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم﴾ قيل: هُوَ قتل عمر رَضِي الله عَنهُ ذَلِك الْمُنَافِق؛ فَإِنَّهُم جَاءُوا يطْلبُونَ دَمه، وَقيل: هُوَ فِي جَمِيع الْمُنَافِقين، والمصيبة: كل مُصِيبَة تصيبهم فِي الدُّنْيَا والعقبى.
يَقُول الله تَعَالَى: فَكيف الْحَال إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم
﴿ثمَّ جاءوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا﴾ قيل: هُوَ إِحْسَان بَعضهم إِلَى بعض، وَقيل أَرَادوا بِالْإِحْسَانِ: تقريب الْأَمر من الْحق، لَا الْقَضَاء على مر الحكم.
442
﴿أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا (٦٢) أُولَئِكَ الَّذين يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم فَأَعْرض عَنْهُم وعظهم وَقل لَهُم فِي أنفسهم قولا بليغا (٦٣) وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا ليطاع بِإِذن الله وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لَهُم الرَّسُول لوجدوا الله تَوَّابًا رحِيما﴾
وَأما التَّوْفِيق: مُوَافقَة الْحق، وَقيل: هُوَ التَّأْلِيف وَالْجمع بَين الْخَصْمَيْنِ. وَمعنى الْآيَة: أَن الْمُنَافِقين يحلفُونَ مَا أردنَا بالتحاكم إِلَى غَيْرك إِلَّا إحسانا وتوفيقا.
وقِي الْآيَة قَول آخر: أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقين، حلفوا فِي الْمَسْجِد الَّذِي بنوا ضِرَارًا على مَا هُوَ مَذْكُور قي سُورَة التَّوْبَة
﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِن أردنَا إِلَّا الْحسنى﴾ .
443
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذين يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم﴾ خلاف مَا على ألسنتهم ﴿فَأَعْرض عَنْهُم وعظهم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يتَصَوَّر الْجمع بَين الْإِعْرَاض والوعظ وَقد أَمر الله تَعَالَى بهما؟
قيل مَعْنَاهُ: فَأَعْرض عَن عقوبتهم، وعظهم.
وَقيل: مَعْنَاهُ: فَأَعْرض عَن قبُول عذرهمْ، وعظهم ﴿وَقل لَهُم فِي أنفسهم قولا بليغا﴾ القَوْل البليغ: هُوَ مَا يبلغ الْإِنْسَان بِلِسَانِهِ كنه مَا فِي قلبه، وَقيل: هُوَ التخويف بِاللَّه تَعَالَى وَقيل: هُوَ أَن يَقُول: إِن رجعتم إِلَى هَذَا، فأمركم الْقَتْل.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا ليطاع بِإِذن الله﴾ قَالَ أهل الْمعَانِي: قَوْله
﴿إِلَّا ليطاع﴾ كَلَام كَاف مُفِيد بِنَفسِهِ، وَقَوله:
﴿بِإِذن الله﴾ كَلَام آخر وَمَعْنَاهُ بِعلم الله وَقَضَاء الله يعْنى: أَن طَاعَته تقع بِإِذن الله.
﴿وَلَو أَنهم﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقين
﴿إِذا ظلمُوا أنفسهم﴾ يعْنى: بالتحاكم إِلَى الطاغوت
﴿جاءوك فاستغفروا الله﴾ لأَنهم مَا جَاءُوا مستغفرين، وَإِنَّمَا جَاءُوا معتذرين بالأعذار الكاذبة.
قَوْله:
﴿فاستغفروا الله﴾ أَي: سَأَلُوا مغْفرَة الله،
﴿واستغفر لَهُم الرَّسُول﴾ أَي: دَعَا لَهُم الرَّسُول بالاستغفار
﴿لوجدوا الله تَوَّابًا رحِيما﴾ .
443
﴿فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا قي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا (٦٥) وَلَو أَنا كتبنَا عَلَيْهِم أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ﴾
444
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَلَا رَبك لَا يُؤمنُونَ﴾ قَوْله:
﴿فَلَا﴾ : رد لقَوْل الْمُنَافِقين وَعذرهمْ، ثمَّ ابْتِدَاء بقوله:
﴿وَرَبك لَا يُؤمنُونَ﴾ وَالْمرَاد بِهِ: الْإِيمَان الْكَامِل، أَي: لَا يكمل إِيمَانهم،
﴿حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم﴾ أَي: اخْتلف، والاشتجار: الِاخْتِلَاف، وَمِنْه الشّجر لالتفاف أغصانه بَعْضهَا على بعض، قَالَ الشَّاعِر:
(هم الْحُكَّام أَرْبَاب الندي... وسراة النَّاس إِذْ الْأَمر شجر) أَي: اخْتلف، (ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت) أَي: ضيقا، وَمِنْه الحرجة، روى أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ لبَعض الْعَرَب: مَا الحرجة عنْدكُمْ؟ قَالَ: هِيَ شَجَرَة ملتفة، لَا يصل المَاء إِلَيْهَا.
وَمن ذَلِك قَوْله - تَعَالَى -:
﴿يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا﴾ أَي: يضيق مسلكه بِحَيْثُ لَا تصل إِلَيْهِ الْهِدَايَة
﴿ويسلموا تَسْلِيمًا﴾ وَمعنى الْآيَة: لَا يكمل إِيمَانهم حَتَّى يرْضوا بحكمك، وينقادوا لَك، قيل: هَذِه أبلغ آيَة فِي كتاب الله - تَعَالَى - فِي الْوَعيد.
وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول الْآيَة، قَالَ عَطاء، وَمُجاهد: الْآيَة فِي الْمُنَافِقين الَّذين تحاكموا إِلَى الطاغوت، وَقَالَ عبد الله بن الزبير، وَعُرْوَة بن الزبير، وَجَمَاعَة: " الْآيَة نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: حَاطِب بن أبي بلتعة - وَكَانَ من أهل بدر - خَاصم الزبير بن الْعَوام فِي مَاء أَرض عِنْد النَّبِي، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - للزبير: اسْقِ أَرْضك المَاء ثمَّ أرْسلهُ إِلَى جَارك، وَكَانَت أَرض الْأنْصَارِيّ دون أرضه؛ فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: أَن كَانَ ابْن عَمَّتك، فَتَلَوَّنَ وَجه النَّبِي، وَقَالَ للزبير: اسْقِ أَرْضك، واحبس المَاء حَتَّى يبلغ الْجدر " - وَفِي رِوَايَة - حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ ثمَّ سرحه يمر "
444
﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُم وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا (٦٦) وَإِذا لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما (٦٧) ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا (٦٨) وَمن يطع الله﴾
كَانَ النَّبِي ساهل فِي حق الزبير فِي ابْتِدَاء الْأَمر، فَلَمَّا أغضبهُ الْأنْصَارِيّ استوعب جَمِيع حَقه، وكلا الْحكمَيْنِ كَانَ حَقًا، وَفِي الْخَبَر: قَالَ الزبير: " احسب أَن قَوْله:
﴿فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ﴾ نزل فِي هَذَا.
وروى أَن الْيَهُود لما بَلغهُمْ ذَلِك، قَالُوا: انْظُرُوا إِلَى أَصْحَاب مُحَمَّد كَيفَ يخالفونه، وَإِن مُوسَى عتب علينا، فَأمرنَا بقتل أَنْفُسنَا، فَقَتَلْنَا أَنْفُسنَا حَتَّى بلغ الْقَتْلَى سبعين ألفا.
445
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو أَنا كتبنَا عَلَيْهِم أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُم﴾ مَعْنَاهُ: لَو كتبنَا عَلَيْهِم أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم، أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ، بدل مَا أمرناهم بِهِ من طَاعَة الرَّسُول، والانقياد لحكمه ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُم﴾ قَالَ ثَابت بن قيس بن شماس: لَو أَمرنِي رَسُول الله بقتل نَفسِي لقتلت، وَفِي الْخَبَر: أَن ابْن مَسْعُود وعمار بن يَاسر، وثابت بن قيس بن شماس، من ذَلِك الْقَلِيل، وروى أَن النَّبِي أَشَارَ إِلَى عبد الله بن رَوَاحه، فَقَالَ لَهُ: " أَنْت من ذَلِك الْقَلِيل ".
وَيقْرَأ " إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم " فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع؛ فَلِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله: ﴿مَا فَعَلُوهُ﴾ وَذَلِكَ فِي مَحل الرّفْع، وَتَقْدِيره: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا نفر قَلِيل مِنْهُم فَعَلُوهُ. وَمن قَرَأَ بِالنّصب، فعلى الِاسْتِثْنَاء.
﴿وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ﴾ يعْنى: من طَاعَة الرَّسُول، وَالرِّضَا لحكمه (لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا) أَي: تَصْدِيقًا
(وَإِذ لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما) هُوَ الْجنَّة
﴿ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا﴾ قيل: هُوَ الْقُرْآن، وَقيل: الْإِسْلَام.
445
﴿وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما (٧٠) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾
446
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم﴾ سَبَب نزُول الْآيَة، مَا روى: أَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله قَالُوا: يَا رَسُول الله، كَيفَ يكون الْحَال فِي الْجنَّة، وَأَنت فِي الدَّرَجَات الْعلي، وَنحن أَسْفَل مِنْك، وَكَيف نرَاك؟ فَنزلت الْآيَة. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن ذَلِك الْقَائِل كَانَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه الْأنْصَارِيّ.
وروى: أَن رجلا قَالَ: لرَسُول الله أَنْت أحب إِلَى من أَهلِي وَمَالِي وَوَلَدي، وَإِذا غبت عَنى يُصِيبنِي شبه الْجُنُون، حبا لَك، فَكيف حَالي مَعَك فِي الْجنَّة؟ فَنزلت الْآيَة " ﴿فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين﴾ قيل: ذَلِك بِأَن ينزل إِلَيْهِم النَّبِيُّونَ؛ حَتَّى يروهم، لَا أَن يرفعوا إِلَى درجاتهم، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يفوتهُمْ رُؤْيَة النَّبِيين ومجالستهم، وَقَوله: ﴿وَالصديقين﴾ يعْنى: أَصْحَاب رَسُول الله، وَالصديق المبالغ فِي الصدْق، ﴿وَالشُّهَدَاء﴾ الَّذين اسْتشْهدُوا يَوْم أحد.
وَاخْتلفُوا فِي أَنهم لم سموا شُهَدَاء؟ قَالَ بَعضهم: لأَنهم قَامُوا بِشَهَادَة الْحق حَتَّى قتلوا، وَقيل: لِأَن أَرْوَاحهم تشهد الْجنَّة عقيب الْقَتْل، ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ الصَّالح: من اسْتَوَت سريرتيه عَلَانِيَته ﴿وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ الرفيق: الْوَاحِد، وَهُوَ بِمَعْنى الْجمع هَاهُنَا ﴿ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما﴾ .
( ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ). لم يرد تفيسير بشأنها
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا خُذُوا حذركُمْ﴾ أَي: عدتكم، والحذر: مَا يتقى بِهِ من الْعَدو، نَحْو الْعدة وَالسِّلَاح، (فانفروا ثبات) جمع " ثبة " قَالَ ابْن عَبَّاس: " الثبة ": مَا فَوق الْعشْرَة، وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: " الثبة " النَّفر، وَمَعْنَاهُ: انفروا جماعات، نَفرا نَفرا (أَو انفروا جَمِيعًا).
وَهَذَا دَلِيل على أَن الْجِهَاد فرض على الْكِفَايَة، وَقيل إِن الْآيَة صَارَت مَنْسُوخَة؛
446
﴿خُذُوا حذركُمْ فانفروا ثبات أَو انفروا جَمِيعًا (٧١) وَإِن مِنْكُم لمن ليبطئن فَإِن أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قَالَ قد أنعم الله عَليّ إِذْ لم أكن مَعَهم شَهِيدا (٧٢) وَلَئِن أَصَابَكُم فضل من الله﴾ لقَوْله - تَعَالَى -:
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤمنِينَ لينفروا كَافَّة﴾ .
447
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِن مِنْكُم لمن ليبطئن﴾ أَي: ليتأخرن، والبطء: التَّأْخِير.
وَقيل: هَذَا فِي عبد الله بن أبي بن سلول ﴿فَإِن أَصَابَتْكُم مُصِيبَة﴾ يعْنى: بِالْقَتْلِ وَالْجرْح فِي الْجِهَاد ﴿قَالَ قد أنعم الله على إِذْ لم أكن مَعَهم شَهِيدا﴾ أَي: حَاضرا
﴿وَلَئِن أَصَابَكُم فضل من الله﴾ أَي: الْغَنِيمَة (ليَقُولن) - بِنصب اللَّام - وَيقْرَأ فِي الشواذ: بِرَفْع اللَّام وَالْمعْنَى وَاحِد ﴿كَأَن لم تكن بَيْنكُم وَبَينه مَوَدَّة﴾ قيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: فَإِن أَصَابَتْكُم مُصِيبَة، قَالَ: قد أنعم الله على؛ إِذْ لم أكن مَعَهم شَهِيدا، كَأَن لم تكن بَيْنكُم وَبَينه مَوَدَّة، أَي: معاقدة ومعاهدة على الْجِهَاد، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: مَوَدَّة الصُّحْبَة. ثمَّ ابْتَدَأَ ﴿وَلَئِن أَصَابَكُم فضل من الله ليَقُولن يَا لَيْتَني كنت مَعَهم فأفوز فوزا عَظِيما﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فليقاتل فِي سَبِيل الله الَّذين يشرون الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: يبيعون ﴿بِالآخِرَة وَمن يُقَاتل فِي سَبِيل الله فَيقْتل أَو يغلب فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما﴾ وَهُوَ معنى قَوْله فِي سُورَة التَّوْبَة: ﴿فيقتلون وَيقْتلُونَ﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿وَمَا لكم لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله﴾ عتب على أَصْحَاب رَسُول الله بترك الْقِتَال
﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ وهم الَّذين أَسْلمُوا بِمَكَّة وَسَكنُوا بأعذار، وَبَعْضهمْ منعُوا من الْهِجْرَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: كنت أَنا وَأمي من الْمُسْتَضْعَفِينَ.
قَالَ الْأَزْهَرِي: معنى الْآيَة: لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله، وَفِي سَبِيل الْمُسْتَضْعَفِينَ؛ بتخليصهم من أَيدي الْمُشْركين
﴿من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا أخرجنَا من هَذِه الْقرْيَة﴾ وَهِي مَكَّة بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين
﴿الظَّالِم أَهلهَا﴾ أَي: الْمُشرك أَهلهَا
﴿وَاجعَل لنا من لَدُنْك وليا﴾ أَي: من يَلِي أمرنَا {وَاجعَل لنا من لَدُنْك
447
﴿ليَقُولن كَأَن لم تكن بَيْنكُم وَبَينه مَوَدَّة يَا لَيْتَني كنت مَعَهم فأفوز فوزا عَظِيما (٧٣) فليقاتل فِي سَبِيل الله الَّذين يشرون الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة وَمن يُقَاتل فِي سَبِيل الله فَيقْتل أَو يغلب﴾ ﴿نَصِيرًا﴾ أَي: من يمْنَع الْعَدو عَنَّا؛ فَاسْتَجَاب الله دعوتهم، حَتَّى فتح رَسُول الله مَكَّة، وَولى عَلَيْهَا عتاب بن أسيد، فَكَانَ ينصف الْمَظْلُوم، وينتصف من الظَّالِم.
448
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿الَّذين آمنُوا يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله وَالَّذين كفرُوا يُقَاتلُون فِي سَبِيل الطاغوت﴾ قد بَينا معنى الطاغوت ﴿فَقَاتلُوا أَوْلِيَاء الشَّيْطَان﴾ أَي: الْكفَّار ﴿إِن كيد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفا﴾ قيل كَانَ ضَعِيفا بِمَعْنى: أَنه لَا يرد أحدا عَن الْإِسْلَام وَالْهِدَايَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ أَن كَيده كَانَ ضَعِيفا يَوْم بدر، حِين رأى الْمَلَائِكَة، وَخَافَ أَن يأخذوه، فهرب، فكيده ضَعِيف بِأحد هذَيْن الْمَعْنيين.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين قيل لَهُم كفوا أَيْدِيكُم﴾ قيل: هَذَا فِي قوم أَسْلمُوا بِمَكَّة فآذاهم الْمُشْركُونَ؛ " فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، ائْذَنْ لنا نقاتلهم، فَقَالَ لَهُم:
﴿كفوا أَيْدِيكُم وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة﴾ ؛ فَإِنِّي لم أُؤمر بِالْقِتَالِ، ثمَّ لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، فَأمر بِالْقِتَالِ، فكرهوا الْقِتَال " قيل: أُولَئِكَ الَّذين أَسْلمُوا وَقَالُوا ذَلِك، مِنْهُم: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد بن أبي وَقاص، وَقُدَامَة بن مَظْعُون، والمقداد بن الْأسود الْكِنْدِيّ، وَجَمَاعَة.
﴿فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال﴾ يعْنى: بعد الْهِجْرَة
﴿إِذا فريق مِنْهُم يَخْشونَ النَّاس كخشية الله أَو أَشد خشيَة﴾ أَي: يَخْشونَ النَّاس كخشيتهم من الله، أَو أَشد خشيَة، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَا كَانُوا يَخْشونَ أَمر الله بِالْقِتَالِ، وَإِنَّمَا ذَلِك: خشيَة طبع البشرية.
﴿وَقَالُوا رَبنَا لم كتبت علينا الْقِتَال لَوْلَا أخرتنا إِلَى أجل قريب﴾ أَي: هلا أخرتنا إِلَى أجل قريب؛ فنموت بآجالنا، قيل: هَذَا قَول الْمُنَافِقين، وَقيل: كَانَ ذَلِك قَول بعض
448
﴿فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما (٧٤) وَمَا لكم لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا أخرجنَا من هَذِه الْقرْيَة الظَّالِم أَهلهَا وَاجعَل لنا من لَدُنْك﴾ أَصْحَاب رَسُول الله: قَالُوا ذَلِك خوفًا و (جبنا) لَا اعتقادا. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ قَول طَلْحَة بن عبيد الله؛ قَالَ ذَلِك خوفًا ثمَّ تَابَ عَنهُ.
﴿قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل﴾ يعْنى: أَن مَا تستمتعون بِهِ من الدُّنْيَا فَهُوَ قَلِيل، وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: " مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا كَمَا يغمس أحدكُم الْمخيط فِي الْبَحْر، فَلْينْظر بِمَ يرجع؟ ! "
﴿وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى وَلَا تظْلمُونَ فتيلا﴾ أَي: لَا ينقص من أجرهم شئ، وَلَا مِقْدَار الفتيل.
449
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة﴾ مَعْنَاهُ: أَيْنَمَا كُنْتُم يأتيكم الْمَوْت، وَإِن كُنْتُم فِي بروج مشيدة، والبروج: الْحُصُون، قَالَ السّديّ: وَهِي قُصُور بيض فِي السَّمَاء، قَوْله:
﴿مشيدة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس - فِي القَوْل الْمَعْرُوف -: هِيَ الْمَعْرُوفَة المطولة، وَقَالَ عِكْرِمَة: المشيدة: المجصصة، والشيد: الجص. وَقَالَ بَعضهم: المشيد: المجصص، والمشيدة: المرفوعة، وَفِيه قَول آخر عَن ابْن عَبَّاس: أَنه أَرَادَ: فِي بروج من حَدِيد.
﴿وَإِن تصبهم حَسَنَة يَقُولُوا هَذِه من عِنْد الله وَإِن تصبهم سَيِّئَة يَقُولُوا هَذِه من عنْدك﴾ فالحسنة: الخصب، والسيئة: الجدب، وَقيل الْحَسَنَة: النَّصْر، وَالظفر يَوْم بدر، والسيئة: الْهَزِيمَة وَالْقَتْل يَوْم أحد، وَمعنى الْآيَة: أَن الْمُسلمين إِذا أَصَابَتْهُم حَسَنَة، فَقَالَ الْكفَّار: هَذَا من عِنْد الله وَإِن تصبهم سَيِّئَة قَالُوا هَذَا من عنْدك أَي: بشؤمك؛ وَذَلِكَ أَن النَّبِي لما قدم الْمَدِينَة أصَاب أَهلهَا نوع سوء؛ فَقَالَت الْيَهُود: مَا رَأينَا أشأم
449
﴿وليا وَاجعَل لنا من لَدُنْك نَصِيرًا (٧٥) الَّذين آمنُوا يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله وَالَّذين كفرُوا يُقَاتلُون فِي سَبِيل الطاغوت فَقَاتلُوا أَوْلِيَاء الشَّيْطَان إِن كيد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفا (٧٦) ألم تَرَ﴾ من هَذَا الرجل؛ مُنْذُ دخل دِيَارنَا، قد غلت أسعارنا، ونقصت ثمارنا؛ وَذَلِكَ بلية للْمُسلمين، وَهَذَا نَحْو مَا قَالُوا لصالح عَلَيْهِ السَّلَام
﴿اطيرنا بك وبمن مَعَك﴾ وَفِي قصَّة مُوسَى:
﴿يطيروا بمُوسَى وَمن مَعَه﴾ وَفِي سُورَة " يس ":
﴿إِنَّا تطيرنا بكم﴾ .
﴿قل كل من عِنْد الله﴾ أَي: الخصب، والجدب، والنصر، والهزيمة، كل من عِنْد الله،
﴿فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا﴾ أَي: مَا لَهُم لَا يعلمُونَ حَدِيثا. والْحَدِيث: الْقُرْآن هَاهُنَا، أَي: لَا يعلمُونَ مَعَاني الْقُرْآن.
450
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله﴾ يَعْنِي: مَا أَصَابَك من خصب، فَمن فضل الله،
﴿وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة﴾ أَي: من جَدب
﴿فَمن نَفسك﴾ أَي: بذنبك.
وَالْخطاب وَإِن كَانَ مَعَ الرَّسُول، فَالْمُرَاد بِهِ: الْأمة؛ وَذَلِكَ معنى قَوْله - تَعَالَى -:
﴿وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم﴾ قيل مَعْنَاهُ: وَمَا أَصَابَك من حَسَنَة أَيهَا الْإِنْسَان فَمن الله، وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة، فَمن نَفسك؛ فَيكون الْخطاب مَعَ كل أحد من النَّاس، وَقيل: مَعْنَاهُ
﴿مَا أَصَابَك من حَسَنَة﴾ أَي: من النَّصْر، وَالظفر فَمن فضل الله
﴿وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة﴾ أَي: من هزيمَة، وَقتل يَوْم أحد
﴿فَمن نَفسك﴾ أَي: بذنب نَفسك من مُخَالفَة النَّبِي كَمَا سبق.
فَإِن قيل: كَيفَ وَجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ قد قَالَ - فِي الْآيَة الأولى -:
﴿قل كل من عِنْد الله﴾ قيل: معنى الْآيَة الأولى: أَن الخصب والجدب والنصر والهزيمة
450
﴿إِلَى الَّذين قيل لَهُم كفوا أَيْدِيكُم وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال إِذا فريق مِنْهُم يَخْشونَ النَّاس كخشية الله أَو أَشد خشيَة وَقَالُوا رَبنَا لم كتبت علينا الْقِتَال لَوْلَا﴾ كلهَا تقع من عِنْد الله، وَمعنى الْآيَة الثَّانِيَة
﴿وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك﴾ أَي: مَا أَصَابَك من سَيِّئَة من الله، فبذنب نَفسك؛ عُقُوبَة لَك.
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة مُتَعَلق لأهل الْقدر أصلا؛ فَإِن الْآيَة فِيمَا يُصِيب النَّاس من النعم والمحن، لَا فِي الطَّاعَات والمعاصي؛ إِذْ لَو كَانَ المُرَاد مَا توهموا، لقَالَ: مَا أصبت من حَسَنَة، فَمن الله وَمَا أصبت من سَيِّئَة؛ فَلَمَّا قَالَ: مَا أَصَابَك من حَسَنَة وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة؛ دلّ أَنه أَرَادَ: مَا يُصِيب الْعباد من النعم والمحن، لَا فِي الطَّاعَات والمعاصي، وَحكى عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد، عَن مُجَاهِد، أَن ابْن عَبَّاس قَرَأَ: " وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك وَأَنا كتبتها عَلَيْك " وَكَذَا حكى عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ كَذَلِك، وَهُوَ مَعْرُوف عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ يُؤَيّد قَوْلنَا: إِن المُرَاد: بذنب نَفسك.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: مُضْمر فِيهِ، وَتَقْدِيره: فَمَال هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا؛ يَقُولُونَ: مَا أَصَابَك من حَسَنَة، فَمن الله، وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة، فَمن نَفسك فَيكون حِكَايَة لقَوْل الْكفَّار
﴿وأرسلناك للنَّاس رَسُولا وَكفى بِاللَّه شَهِيدا﴾ .
451
قَوْله تَعَالَى: ﴿من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله﴾ روى: " أَن النَّبِي قَالَ: " من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله تَعَالَى وَمن أَحبَّنِي فقد أحب الله، فَقَالَت الْيَهُود: إِن هَذَا الرجل يُرِيد أَن نتخذه رَبًّا وَحَنَانًا، كَمَا اتَّخذت النَّصَارَى عِيسَى بن مَرْيَم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة على وفَاق قَول الرَّسُول " ﴿وَمن تولى فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم حفيظا﴾ أَي: كل أمره إِلَى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَيَقُولُونَ طَاعَة﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقين يَقُولُونَ بِاللِّسَانِ: مرنا، فَإِن أَمرك طَاعَة
﴿فَإِذا برزوا﴾ أَي: خَرجُوا {من عنْدك بَيت طَائِفَة مِنْهُم غير الَّذِي
451
﴿أخرتنا إِلَى أجل قريب قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى وَلَا تظْلمُونَ فتيلا (٧٧) أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة وَإِن تصبهم حَسَنَة يَقُولُوا هَذِه من﴾ ﴿تَقول﴾ قَالَ أَبُو رزين: بَيت أَي: ألف. وَقَالَ غَيره: بَيت، أَي: بدل؛ وَالأَصَح أَنه من التبييت، وَهُوَ فعل الشَّيْء لَيْلًا، يُقَال: هَذَا أَمر بَيت لَيْلًا، قيل: أَي: فعل بِاللَّيْلِ، وَيجوز أَن يُقَال لما فعل بِالنَّهَارِ: تبييتا؛ لِأَن الْفِعْل بِاللَّيْلِ إِنَّمَا سمى تبييتا؛ لِأَن الْإِنْسَان بِاللَّيْلِ يكون أفرغ لتدبير أمره، فعلى هَذَا الْمَعْنى يجوز أَن يُقَال لما فعل بِالنَّهَارِ: تبييتا، قَالَ الشَّاعِر:
(بيتوا أَمرهم بلَيْل فَلَمَّا أَصْبحُوا أَصْبحُوا على ضوضاء)
وَمعنى
﴿بَيت طَائِفَة مِنْهُم غير الَّذِي تَقول﴾ أَي: خالفوا بِاللَّيْلِ مَا قَالُوا بِالنَّهَارِ
﴿وَالله يكْتب مَا يبيتُونَ﴾ أَي: يُحْصى ويحفظ؛ ليجازى عَلَيْهِ، وَقيل: يَأْمر الكتبة حَتَّى يكتبوا (فَأَعْرض عَنْهُم) قَالَ الضَّحَّاك: مَعْنَاهُ: لَا تخبر بِأَسْمَائِهِمْ، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - يعرف الْمُنَافِقين، وَمَا كَانَ يخبر بِأَسْمَائِهِمْ
﴿وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا﴾ أَي: اتَّخذهُ وَكيلا.
452
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿أَفلا يتدبرون الْقُرْآن﴾ التدبر: النّظر فِي الْأَمر إِلَى آخِره، وَهُوَ من دبر الشَّيْء: آخِره، وَفِي الْخَبَر: " من أَشْرَاط السَّاعَة: وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا دبرا " أَي: آخرا وَمِنْه قَوْله: " لَا تدابروا " أَي: لَا يول بَعْضكُم ظَهره إِلَى بعض عَدَاوَة.
452
﴿عِنْد الله وَإِن تصبهم سَيِّئَة يَقُولُوا هَذِه من عنْدك قل كل من عِنْد الله فَمَال هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا (٧٨) مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك﴾ فَقَوله
﴿أَفلا يتدبرون الْقُرْآن﴾ أَي: أَفلا يتفكرون فِي الْقُرْآن
﴿وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ فِي الْقُرْآن تنَاقض وَلَا تفَاوت؛ فَهَذَا معنى الْآيَة.
وَقَالَ الزّجاج: مَا أخبر عَن الْغَيْب فكله صدق، لَيْسَ بعضه صدقا، وَبَعضه كذبا، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن كُله بليغ صَحِيح، لَيْسَ فِيهِ مرذول وَلَا فَاسد.
453
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقين إِذا جَاءَهُم أَمر وَخبر من أَمر السَّرَايَا الَّذين بَعثهمْ رَسُول الله، فَإِن كَانَ بالأمن والنصر، كتموا، وَقصرُوا فِي الْأَخْبَار، وَإِن كَانَ بالخوف والهزيمة أذاعوا بِهِ، وَزَادُوا.
وَفِي الْآيَة إِضْمَار، وتقديرها: وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن قصروا فِي الْإِخْبَار بِهِ، وكتموا، [وَإِذا] جَاءَهُم أَمر من الْخَوْف أذاعوا بِهِ
﴿وَلَو روده إِلَى الرَّسُول﴾ قيل أَرَادَ بقوله:
﴿وَلَو ردُّوهُ﴾ يَعْنِي: ضعفة الْمُسلمين الَّذين سمعُوا تِلْكَ الْأَخْبَار من الْمُنَافِقين قَالُوا مثل قَوْلهم؛ فَقَالَ الله تَعَالَى:
﴿وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول﴾ وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ فِي الْكَلَام الْمُؤمنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، لَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول.
﴿وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم﴾ يَعْنِي: إِلَى أُمَرَاء السَّرَايَا
﴿لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم﴾ يَعْنِي: لَو طلبُوا تِلْكَ الْأَخْبَار من عِنْد أُمَرَاء السَّرَايَا، ووكلوا الْإِخْبَار بهَا إِلَيْهِم؛ لعلمه الَّذين يحبونَ أَن يعلموه على حَقِيقَته كَمَا هُوَ، والاستنباط: هُوَ اسْتِخْرَاج الْعلم وَمِنْه النبط، وهم قوم يستخرجون المَاء، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْعلمَاء يَعْنِي: وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول، وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلم الَّذين يستنبطونه مِنْهُم مَا يَنْبَغِي أَن
453
﴿وأرسلناك للنَّاس رَسُولا وَكفى بِاللَّه شَهِيدا (٧٩) من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله وَمن تولى فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم حفيظا (٨٠) وَيَقُولُونَ طَاعَة فَإِذا برزوا من عنْدك بَيت طَائِفَة مِنْهُم غير﴾ يكتم، ويعلمون مَا يَنْبَغِي أَن يفشي، يَعْنِي: الْعلمَاء.
﴿وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ اسْتثْنى الْقَلِيل، وَلَوْلَا فَضله لاتبع الْكل الشَّيْطَان؟ قيل: اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ الْفراء: هَذَا الِاسْتِثْنَاء رَاجع إِلَى قَوْله:
﴿أذاعوا بِهِ﴾ إِلَّا قَلِيلا، وَقَوله:
﴿وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لَا تبعتم الشَّيْطَان﴾ ، كَلَام تَامّ، وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله:
﴿لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم﴾ ثمَّ قَالَ:
﴿وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لَا تبعتم الشَّيْطَان﴾ وَقيل: هُوَ على نظمه، وَمَعْنَاهُ: وَلَوْلَا مَا تفضل الله عَلَيْكُم بِهِ من الْبَيَان لما يَنْبَغِي أَن يفعل وَمَا يَنْبَغِي أَن يجْتَنب
﴿لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا﴾ .
وَفِيه قَول رَابِع: أَنه أَرَادَ بِالْقَلِيلِ: قوما اهتدوا بِالْحَقِّ قبل بعث الرَّسُول، وإنزال الْقُرْآن، وأقروا بِالتَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ مثل: زيد بن عَمْرو بن نفَيْل، وورقة بن نَوْفَل، وَجَمَاعَة، وَقد قَالَ فِي زيد بن عَمْرو بن نفَيْل: " إِنَّه يبْعَث أمة على حِدة ".
454
قَوْله تَعَالَى ﴿فقاتل فِي سَبِيل الله﴾ كَذَا يتَّصل بِمَا سبق من قَوْله: ﴿وَمَا لكم لَا تقاتلون﴾ لما عَاتَبَهُمْ على ترك الْقِتَال، قَالَ للرسول: إِن لم يُقَاتل هَؤُلَاءِ، فقاتل أَنْت وَحدك ﴿لَا تكلّف إِلَّا نَفسك وحرض الْمُؤمنِينَ عَسى الله أَن يكف بَأْس الَّذين كفرُوا﴾ يَعْنِي: عَذَاب الَّذين كفرُوا، وَعَسَى من الله وَاجِب، وَالْمرَاد بِهِ: تطميع الْمُؤمنِينَ، ﴿وَالله أَشد بَأْسا﴾ أَي: أَشد عذَابا ﴿وَأَشد تنكيلا﴾ التنكيل من النكل، وَهُوَ الْمَنْع، وَمِنْه النكال: وَهُوَ مَا يفعل بالإنسان، فَيمْنَع غَيره عَن فعله.
قَوْله تَعَالَى:
﴿من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب مِنْهَا وَمن يشفع﴾
454
﴿الَّذِي تَقول وَالله يكْتب مَا يبيتُونَ فَأَعْرض عَنْهُم وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا (٨١) أَفلا يتدبرون الْقُرْآن وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا (٨٢) وَإِذا جَاءَهُم﴾ ﴿شَفَاعَة سَيِّئَة يكن لَهُ كفل مِنْهَا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: الشَّفَاعَة الْحَسَنَة: هِيَ الْإِصْلَاح بَين النَّاس، والشفاعة السَّيئَة: هِيَ الْمَشْي بالنميمة بَين النَّاس، وَقيل: هُوَ فِي كل الشفاعات، فالشفاعة الْحَسَنَة: هِيَ أَن يَقُول قولا حسنا؛ ينَال بِهِ الْخَيْر، والشفاعة السَّيئَة: هِيَ أَن يَقُول قولا قبيحا؛ يلْحق بِهِ سوء.
قَوْله:
﴿يكن لَهُ نصيب مِنْهَا﴾ أَي: من أجرهَا، وَقَوله:
﴿يكن لَهُ كفل مِنْهَا﴾ أَي: من وزرها، والكفل: النَّصِيب، قَالَ الله تَعَالَى:
﴿يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته﴾ أَي نَصِيبين.
وَاعْلَم أَن الْإِنْسَان يُؤجر على الشَّفَاعَة، وَإِن لم يشفع؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول:
﴿من يشفع﴾ ، وَلم يقل: من يشفع، وَقد روى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " اشفعوا تؤجروا، وَيَقْضِي الله على لِسَان نبيه مَا شَاءَ ".
وَاعْلَم أَن الشَّفَاعَة مُسْتَحبَّة فِي كل الْحُقُوق إِلَّا فِي حُدُود الله تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز فِيهَا الشَّفَاعَة ليترك الْحَد، وَقد قَالَ: " من شفع فِي حد من حُدُود من الله تَعَالَى فقد ضاد الله فِي ملكه " أَي: نازعه فِي ملكه.
﴿وَكَانَ الله على كل شَيْء مقيتا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: المقيت: المقتدر، قَالَ الشَّاعِر:
(وَذي ضغن كَفَفْت النَّفس عَنهُ وَكنت على مساءته مقيتا)
وَالْقَوْل الثَّانِي عَن ابْن عَبَّاس: المقيت: الْحَافِظ، وَفِي الْخَبَر: " كفى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَن
455
﴿أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا (٨٣) فقاتل فِي سَبِيل الله لَا تكلّف إِلَّا نَفسك وحرض الْمُؤمنِينَ عَسى الله أَن يكف بَأْس الَّذين كفرا وَالله﴾ يضيع من يقوته " أَي: من قوته، وَفِي رِوَايَة: " من يقيت " أَي: من فِي حفظه، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الله تَعَالَى على كل حَيَوَان مقيت، أَي: يُوصل الْقُوت إِلَيْهِ؛ فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿وَكَانَ الله على كل شَيْء﴾ أَي: حَيَوَان
﴿مقيتا﴾ .
456
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿وَإِذا حييتُمْ بِتَحِيَّة﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد بالتحية هَاهُنَا: السَّلَام، وأصل التَّحِيَّة: هُوَ دُعَاء بِالْحَيَاةِ، وَهُوَ فِي الشَّرِيعَة عبارَة عَن السَّلَام، وَالسَّلَام: دُعَاء السَّلامَة، وَقد تكون التَّحِيَّة بِمَعْنى: الْملك والبقاء، وَمِنْه: التَّحِيَّات لله، وَقَالَ الشَّاعِر:
(وَلكُل مَا نَالَ الْفَتى قد نلته إِلَّا التَّحِيَّة)
يَعْنِي: إِلَّا الْملك، وعَلى معنى السَّلَام أنشدوا قَول الشَّاعِر:
(إِنَّا محيوك يَا سلمى فحيينا وَإِن سقيت كرام النَّاس فاسقينا)
﴿فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَو ردوهَا﴾ أَرَادَ بِهِ: رد السَّلَام بِأَحْسَن مِمَّا سلم، أَو ترد كَمَا سلم، فَإِذا قَالَ: السَّلَام عَلَيْك، فالمستحب أَن تَقول: وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة الله، وَإِذا قَالَ: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله، تَقول: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، وَهُوَ الْأَحْسَن.
وَفِي الْخَبَر: " أَن رجلا جَاءَ، فَسلم على النَّبِي، فَقَالَ: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله، فَدخل آخر وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله، فَقَالَ: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله
456
﴿أَشد بَأْسا وَأَشد تنكيلا (٨٤) من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب مِنْهَا وَمن يشفع شَفَاعَة﴾ وَبَرَكَاته، فَدخل ثَالِث، وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، فَقَالَ: وَعَلَيْكُم؛ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام - إِن الأول وَالثَّانِي تركا من التَّحِيَّة شَيْئا؛ فأجبت بِأَحْسَن، وَإِن الثَّالِث لم يتْرك من التَّحِيَّة شَيْئا فَرددت عَلَيْهِ ".
وَاعْلَم أَن السَّلَام، سنة ورد السَّلَام فَرِيضَة، لكنه فرض على الْكِفَايَة، حَتَّى إِذا سلم على جمَاعَة فَرد أحدهم؛ سقط الْفَرْض عَن البَاقِينَ، وَكَذَلِكَ السَّلَام سنة على الْكِفَايَة، حَتَّى إِذا كَانَت جمَاعَة، فَسلم أحدهم كفى فِي السّنة. وروى الْحسن مُرْسلا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " السَّلَام سنة ورده فَرِيضَة ".
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: أَرَادَ بالتحية: الهبات والهدايا، وَقَوله:
﴿فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا﴾ أَرَادَ بِهِ: الثَّوَاب على الْهَدِيَّة، وَهُوَ سنة، " وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يقبل الْهَدِيَّة، ويثيب عَلَيْهَا "، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول.
﴿إِن الله كَانَ على شئ حسيبا﴾ أَي: محاسبا، وَقيل كَافِيا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:
﴿جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا﴾ أَي: كَافِيا.
457
﴿سَيِّئَة يكن لَهُ كفل مِنْهَا وَكَانَ الله على كل شئ مقيتا (٨٥) وَإِذا حييتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَو ردوهَا إِن الله كَانَ على كل شئ حسيبا (٨٦) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ليجمعنكم إِلَى يَوْم﴾
458
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ليجمعنكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ﴾ " اللَّام " لَام الْقسم، وَتَقْدِيره: وَالله ليجمعنكم الله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَاخْتلفُوا: أَنه فيمَ يجمعهُمْ؟ قَالَ بَعضهم: يجمعهُمْ فِي الإهلاك وَالْمَوْت إِلَى الْقِيَامَة، وَقَالَ بَعضهم: يجمعهُمْ فِي الْقُبُور إِلَى الْقِيَامَة.
وَاخْتلفُوا: لم سميت الْقِيَامَة قِيَامَة؟ قَالَ بَعضهم: لِأَن النَّاس يقومُونَ فِيهَا إِلَى رب الْعَالمين، كَمَا قَالَ الله تعالي: ﴿يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين﴾ وَقيل: إِن النَّاس يقومُونَ فِيهَا إِلَى الْحساب. ﴿وَمن أصدق من الله حَدِيثا﴾ أَي: قولا وخبرا.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين﴾ اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول الْآيَة على ثَلَاثَة أَقْوَال: قَالَ زيد بن ثَابت: هَذَا فِي الَّذين تخلفوا عَن رَسُول الله يَوْم أحد، فَقَالَ بعض الصَّحَابَة لرَسُول الله: اعْفُ عَنْهُم؛ فَإِنَّهُم تكلمُوا بِالْإِسْلَامِ. وَقَالَ بَعضهم: اقتلهم؛ فَإِنَّهُم مُنَافِقُونَ؛ فَنزلت الْآيَة
﴿فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين﴾ " أَي: مَا لكم افترقتم فيهم فرْقَتَيْن؟ عتب عَلَيْهِم بالاختلاف بَينهم، وَحكم بنفاقهم.
وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَة فِي جمَاعَة من أهل مَكَّة هَاجرُوا إِلَى الْمَدِينَة، وَأَسْلمُوا، ثمَّ اسْتَأْذنُوا رَسُول الله فِي الرُّجُوع إِلَى مَكَّة، بعلة أَن لَهُم بهَا بضائع؛ فَرَجَعُوا، وَارْتَدوا فَقَالَ بعض أَصْحَابه: هم مُسلمُونَ؛ لأَنهم تكلمُوا بِالْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعضهم: هم قد نافقوا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى:
﴿فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين﴾ وَحكى مُجَاهِد هَذَا عَن ابْن عَبَّاس.
وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة فِي قوم من الْمُشْركين أَسْلمُوا بِمَكَّة، وَكَانُوا يعاونون الْمُشْركين، ويظاهرونهم؛ فَاخْتلف الصَّحَابَة فيهم
458
﴿الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ وَمن أصدق من الله حَدِيثا (٨٧) فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين وَالله أركسهم بِمَا كسبوا أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا (٨٨) ﴾ فرْقَتَيْن؛ فَنزل قَوْله - تَعَالَى -:
﴿فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين وَالله أركسهم بِمَا كسبوا﴾ أركسهم وركسهم بِمَعْنى وَاحِد.
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود
﴿وَالله ركسهم﴾ قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: نكسهم، وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: مَعْنَاهُ: أعادهم، يعْنى: إِلَى الْكفْر بِمَا كسبوا، وَمِنْه: الركس؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَعَاما فَصَارَ رجيعا.
﴿أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله﴾ يعْنى: أتريدون أَن ترشدوا من أضلّهُ الله
﴿وَمن يضلل الله﴾ يعْنى: وَمن يضلله
﴿فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا﴾ أَي: طَرِيقا إِلَى الْحق.
459
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ودوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا﴾ يعْنى: الَّذين عَادوا إِلَى الْكفْر ودوا أَن تعودوا إِلَى الْكفْر ﴿فتكونون سَوَاء﴾ يعْنى: فِي الْكفْر.
﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم أَوْلِيَاء﴾ مَنعهم من الْمُوَالَاة مَعَهم ﴿حَتَّى يهاجروا فِي سَبِيل الله﴾ أَي: حَتَّى يسلمُوا ﴿فَإِن توَلّوا﴾ يعْنى: فِي الْكفْر ﴿فخذوهم﴾ أَي: فأسروهم، وَالْأَخْذ هَاهُنَا: الْأسر، وَيُقَال للأسير: أخيذ ﴿واقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم وليا وَلَا نَصِيرًا﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿إِلَّا الَّذين يصلونَ إِلَى قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق﴾ قَالَ أَبُو عبيده: مَعْنَاهُ إِلَّا الَّذين ينتسبون إِلَى قوم، وَأنْشد فِيهِ قَول الشَّاعِر:
(إِذا اتَّصَلت قَالَت لبكر بن وَائِل وَبكر سباها والأنوف رواغم)
يعْنى: إِذا انتسبت تِلْكَ الْقَبِيلَة.
وَأنكر أهل الْمعَانِي هَذَا على أَبى عبيده، وَقَالُوا: هَذَا لَا يَسْتَقِيم فِي معنى هَذَا الِاسْتِثْنَاء الْمَنْع من الْقَتْل، وَمَا كَانَ الْمَنْع لأجل النِّسْبَة، فَإِن النَّبِي كَانَ يُقَاتل الْمُشْركين من قُرَيْش، وَإِن كَانُوا من نسبه، بل معنى قَوْله:
﴿إِلَّا الَّذين يصلونَ﴾ أَي:
459
﴿ودوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا فتكونون سَوَاء فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم أَوْلِيَاء حَتَّى يهاجروا فِي سَبِيل الله فَإِن توَلّوا فخذوهم واقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم وليا وَلَا نَصِيرًا (٨٩) ﴾ يخالطون، ويتصلون بِقوم كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي موادعة وعهد.
وَذَلِكَ هِلَال بن عُوَيْمِر الْأَسْلَمِيّ، وَقَومه، وَكَانَ الله - تَعَالَى - منع من قتل أُولَئِكَ مِمَّن اتَّصل بهم، وَفِي ذمامهم
﴿أَو جاءوكم﴾ أَو يصلونَ بِقوم جاءوكم للمعاهدة وَالْمُوَادَعَة،
﴿حصرت صُدُورهمْ﴾ ضَاقَتْ، فضاقت صُدُورهمْ من الْقِتَال مَعكُمْ، وَمن معاونتكم على الْقِتَال مَعَ قَومهمْ؛ لأجل الرعب الَّذِي ألْقى الله - تَعَالَى - فِي قُلُوبهم، وَقَرَأَ الْحسن - وَهُوَ قِرَاءَة يَعْقُوب وَسَهل - " حصرة صُدُورهمْ " على الْحَال، أَي: ضيقَة صُدُورهمْ، قَالَ الْمبرد: حصرت صُدُورهمْ على سَبِيل الدُّعَاء، كَقَوْلِه:
﴿قَاتلهم الله﴾ كَأَن الله - تَعَالَى - يَقُول:
﴿حصرت صُدُورهمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَو يقاتلوا قَومهمْ﴾ على سَبِيل الدُّعَاء.
﴿وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم﴾ معنى هَذَا: أَن الله - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي ألْقى الرعب فِي قُلُوبهم، وكفهم عَن قتالكم، حَتَّى جَاءُوا معاهدين، وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم
﴿فلقاتلوكم﴾ ؛ فَإِذا لَا تقاتلوهم وَمن اتَّصل بهم
﴿فَإِن اعتزلوكم فَلم يُقَاتِلُوكُمْ وألقوا إِلَيْكُم السّلم﴾ يعْنى: الصُّلْح فانقادوا، واستسلموا
﴿فَمَا جعل الله لكم عَلَيْهِم سَبِيلا﴾ أَي: طَرِيقا عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ والقتال.
460
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿سَتَجِدُونَ آخَرين يُرِيدُونَ أَن يأمنوكم ويأمنوا قَومهمْ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ: أَسد وغَطَفَان، جَاءُوا إِلَى النَّبِي وَأَسْلمُوا؛ فَلَمَّا رجعُوا إِلَى قَومهمْ قَالُوا: إِنَّا آمنا بالعقرب والخنفساء وَرَجَعُوا إِلَى الْكفْر.
وَقَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ: سراقَة بن مَالك بن جعْشم، لما جَاءَ إِلَى النَّبِي، وَقَالَ: أَنا مِنْكُم، ثمَّ رَجَعَ إِلَى قومه، فَقَالَ أَنا مِنْكُم.
460
﴿إِلَّا الَّذين يصلونَ إِلَى قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق أَو جاءوكم حصرت صُدُورهمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَو يقاتلوا قَومهمْ وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم فلقاتلوكم فَإِن اعتزلوكم فَلم يُقَاتِلُوكُمْ وألقوا﴾
﴿يُرِيدُونَ أَن يأمنوكم ويأمنوا قَومهمْ﴾ أَي: يُرِيدُونَ أَن يأمنوا مِنْكُم، وَمن قَومهمْ.
﴿كلما ردوا إِلَى الْفِتْنَة أركسوا فِيهَا﴾ أَي كلما دعوا إِلَى الشّرك دخلُوا فِيهِ.
﴿فَإِن لم يعتزلوكم ويلقوا إِلَيْكُم السّلم﴾ يَعْنِي: القيادة والاستسلام
﴿ويكفوا أَيْديهم فخذوهم﴾ أَي: فأسروهم
﴿واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم﴾ وَجَدْتُمُوهُمْ،
﴿وأولئكم جعلنَا لكم عَلَيْهِم سُلْطَانا مُبينًا﴾ حجَّة بَيِّنَة بِالْقَتْلِ والقتال.
461
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى أَن عَيَّاش بن أبي ربيعَة قتل الْحَارِث بن يزِيد، وَكَانَ الْحَارِث يُؤْذِي عياشا فِي الْجَاهِلِيَّة، حَتَّى أسلم عَيَّاش؛ فَنَذر أَن يقْتله مَتى ظفر بِهِ، فظفر بِالْحَارِثِ وَقد أسلم الْحَارِث، وَلم يعلم هُوَ بِإِسْلَامِهِ، فَنزلت الْآيَة:
﴿وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا﴾ وَهَذَا نهى عَن قتل الْمُؤمن على الْإِطْلَاق، وَقَوله:
﴿إِلَّا خطأ﴾ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن إِن وَقع خطأ. وَقَالَ بَعضهم: " إِلَّا " بِمَعْنى " وَلَا " يعْنى: وَلَا خطأ، وَلَا يعرف فِي كَلَام الْعَرَب " إِلَّا " بِمَعْنى " وَلَا "؛ وَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي النَّهْي عَن قتل الْخَطَأ، وَالْخَطَأ لَا يدْخل تَحت النَّهْي وَالْأَمر، وَالْأول أصح، ثمَّ ذكر حكم الْقَتْل الْخَطَأ، فَقَالَ:
﴿وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة﴾ أَي: فاعتقوا رَقَبَة مُؤمنَة، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء، فَقَالَ الْحسن، وَالشعْبِيّ، وَالنَّخَعِيّ: أَرَادَ بِهِ: رَقَبَة بَالِغَة وَلَا تُجزئ الرَّقَبَة الصَّغِيرَة، وَإِن كَانَت مُؤمنَة، وَقَالَ عَطاء وَهُوَ الَّذِي أَخذ بِهِ الْفُقَهَاء: إِنَّه تُجزئ الصَّغِيرَة.
﴿ودية مسلمة إِلَى أَهله﴾ يَعْنِي: سلمُوا الدِّيَة إِلَى أَهله، وَظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَن تكون الدِّيَة قي قتل الْخَطَأ فِي مَال الْقَاتِل، كالكفارة، لَكِن عرفنَا بِالسنةِ أَن الْكَفَّارَة فِي مَال الْقَاتِل وَالدية على الْعَاقِلَة.
وَقَوله:
﴿إِلَّا أَن يصدقُوا﴾ يَعْنِي: أَن يتصدقوا، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب كَذَلِك، وَمعنى التَّصَدُّق: الْعَفو عَن الدِّيَة
﴿فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن فَتَحْرِير رَقَبَة﴾
461
﴿إِلَيْكُم السّلم فَمَا جعل الله لكم عَلَيْهِم سَبِيلا (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرين يُرِيدُونَ أَن يأمنوكم ويأمنوا قَومهمْ كل مَا ردوا إِلَى الْفِتْنَة أركسوا فِيهَا فَإِن لم يعتزلوكم ويلقوا إِلَيْكُم السّلم﴾ ﴿مُؤمنَة﴾ أَكثر الْمُفَسّرين وَهُوَ قَول الْحسن، وَقَتَادَة، وَمُجاهد وَجَمَاعَة: أَن المُرَاد بِهِ: وَإِن كَانَ من [نسب] قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن، وَمَعْنَاهُ الْمُؤمن يكون فِي دَار الْإِسْلَام، وقرابته فِي دَار الْحَرْب، فَيقْتل خطأ، قالواجب بقتْله الْكَفَّارَة، وَلَا دِيَة؛ لِأَنَّهَا إِذا سلمت إِلَى قرَابَته يقووا بهَا على الْمُسلمين، وَالأَصَح وَالَّذِي عرفه الْفُقَهَاء أَن المُرَاد بِهِ: الْمُؤمن الَّذِي أسلم فِي دَار الْحَرْب، فيقتله من لم يعلم إِسْلَامه، فَالْوَاجِب فِيهِ الْكَفَّارَة، دون الدِّيَة.
﴿وَإِن كَانَ من قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق﴾ هَذَا فِي أهل الذِّمَّة والمعاهدين
﴿فديَة مسلمة إِلَى أَهله﴾ يَعْنِي: على الْقدر الَّذِي اخْتلف فِيهِ
﴿وتحرير رَقَبَة مُؤمنَة فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين تَوْبَة من الله﴾ يَعْنِي: ليتوبوا إِلَى الله
﴿وَكَانَ الله عليما حكيما﴾ .
462
قَوْله تَعَالَى
﴿وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم﴾ نزلت الْآيَة فِي مقيس بن ضَبَابَة اللَّيْثِيّ، أسلم وَأَخُوهُ هِشَام، ثمَّ وجد أَخَاهُ مقتولا فِي بني النجار؛ فجَاء إِلَى النَّبِي فِي ذَلِك، فَبعث مَعَه رجلا فهربا إِلَى بني النجار، وَأمرهمْ أَن يدفعوا إِلَيْهِ قَاتل أَخِيه، أَو يسلمُوا الدِّيَة، فجاءا إِلَيْهِم، وبلغا الرسَالَة فَقَالُوا: سمعا وَطَاعَة لرَسُول الله، وَالله مَا نَعْرِف الْقَاتِل، وَسَاقُوا الدِّيَة إِلَيْهِ مائَة من الْإِبِل؛ فَلَمَّا رجعا أقبل مقيس وَقتل الفِهري، وَاسْتَاقَ الْإِبِل، وَلحق بِمَكَّة وارتد، وَقَالَ الشّعْر:
(قتلت بِهِ فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أَرْبَاب فارع) (فأدركت ثَأْرِي واضطجعت مُوسِرًا وَكنت إِلَى الْأَوْثَان أول رَاجع)
فَنزلت الْآيَة فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أَمر النَّبِي بقتْله؛ فجَاء الْجَمَاعَة الَّذين عينهم
462
﴿ويكفوا أَيْديهم فخذوهم واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم وأولائكم جعلنَا لكم عَلَيْهِم سُلْطَانا مُبينًا (٩١) وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية﴾ للْقَتْل يَوْم فتح مَكَّة؛ فَقتل وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة فَقَوله:
﴿وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا﴾ فالقتل الْمُتَعَمد عِنْد أَكثر الْعلمَاء: هُوَ الَّذِي يحصل بِكُل مَا يقْصد بِهِ الْقَتْل، وَقَالَ سعيد بن الْمسيب، وَطَاوُس: الْقَتْل الْعمد لَا يكون إِلَّا بالحديد
﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه﴾ أَي: طرده عَن الرَّحْمَة
﴿وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما﴾ وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة مَدَنِيَّة لم ينسخها شئ؛ فَكَانَ يَقُول: لَيْسَ لقَاتل الْمُؤمن تَوْبَة، وَسُئِلَ عَن تَوْبَته؛ فَقَالَ: أَنى تكون لَهُ التَّوْبَة، فَقيل لَهُ: أَلَيْسَ قد قَالَ الله تَعَالَى:
﴿وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة ويخلد فِيهِ مهانا إِلَّا من تَابَ﴾ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: تِلْكَ آيَة مَكِّيَّة، وَهَذِه آيَة مَدَنِيَّة لم تنسخ بِشَيْء حَتَّى قبض رَسُول الله.
وَقَالَ زيد بن ثَابت: الشَّدِيدَة بعد الهينة بِسِتَّة أشهر، يَعْنِي بالهينة آيَة الْفرْقَان، وبالشديدة هَذِه الْآيَة.
وروى حميد، عَن أنس، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَبى الله تَعَالَى أَن يكون لقَاتل الْمُؤمن تَوْبَة " وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " لقتل الْمُؤمن أعظم عِنْد الله من زَوَال الدُّنْيَا ".
وَالأَصَح، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة: أَن لقَاتل الْمُؤمن عمدا تَوْبَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:
﴿وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ وآمن﴾ وَقَوله:
﴿وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء﴾ وَلِأَن الْقَتْل الْعمد لَيْسَ بأشد من الْكفْر، وَمن
463
﴿مسلمة إِلَى أَهله إِلَّا أَن يصدقُوا فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة وَإِن كَانَ من قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق فديَة مسلمة إِلَى أَهله وتحرير رَقَبَة مُؤمنَة فَمن لم يجد﴾ الْكفْر تَوْبَة؛ فَمن الْقَتْل أولى، وَأما الَّذِي روى عَن ابْن عَبَّاس، فعلى سَبِيل التَّشْدِيد وَالْمُبَالغَة فِي الزّجر عَن الْقَتْل، وَهُوَ مثل مَا روى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه قَالَ: إِن لم يقتل يُقَال لَهُ: لَا تَوْبَة لَك، منعا لَهُ عَن الْقَتْل، وَإِن قتل يُقَال لَهُ: لَك تَوْبَة، حَتَّى يَتُوب. وروى أَن رجلا جَاءَ إِلَى ابْن عَبَّاس وَسَأَلَهُ: هَل لقَاتل الْمُؤمن تَوْبَة، قَالَ: لَا، فَجَاءَهُ آخر، وَسَأَلَهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: نعم، لَهُ تَوْبَة، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِن الأول لم يكن قتل؛ فمنعته عَن الْقَتْل، وَإِن الثَّانِي؛ قتل؛ فأرشدته إِلَى التَّوْبَة.
وَاعْلَم أَن لَا مُتَعَلق فِي هَذِه الْآيَة لمن يَقُول بالتخليد فِي النَّار لأهل الْكَبَائِر من الْمُسلمين؛ لأَنا إِن نَظرنَا إِلَى سَبَب نزُول الْآيَة، فالآية نزلت فِي قَاتل كَافِر كَمَا بَينا، وَقيل: إِنَّه فِيمَن يقتل مستحلا، وَالْأولَى أَن تَقول فِيهِ مَا قَالَه أَبُو صَالح: إِن معنى قَوْله:
﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا﴾ إِن جازى، وَبِه نقُول: إِن الله تَعَالَى إِن جازاه ذَلِك خَالِدا، فَهُوَ جَزَاؤُهُ، وَلكنه رُبمَا لَا يجازي، وَقد وعد أَن لَا يجازى وَيغْفر لمن يَشَاء، وَهُوَ لَا يخلف الميعاد، وَحكى عَن قُرَيْش بن أنس رَحمَه الله أَنه قَالَ: كنت فِي مجْلِس فِيهِ عَمْرو بن عبيد، فَقَالَ: لَو قَالَ الله لي يَوْم الْقِيَامَة: لم قلت بتخليد الْقَاتِل الْمُتَعَمد فِي النَّار؟ فَأَقُول لَهُ: أَنْت الَّذِي قلت:
﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا﴾ قَالَ قُرَيْش: وَكنت أَصْغَر الْقَوْم، فَقلت لَهُ: أَرَأَيْت لَو قَالَ الله تَعَالَى لَك: أَلَسْت قلت
﴿وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء﴾ فَمن أَيْن علمت أَنى لم أشأ مغْفرَة الْقَاتِل؟ فَسكت وَلم يسْتَطع الْجَواب.
وَحكى أَن عَمْرو بن عبيد جَاءَ إِلَى أبي عَمْرو بن الْعَلَاء رَحمَه الله وَقَالَ لَهُ: هَل يخلف الله وعده؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: أَلَيْسَ قد قَالَ الله تَعَالَى:
﴿وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا﴾ فَأَنا على هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يخلف وعده، فَقَالَ أَبُو عَمْرو: وَمن العجمة أتيت يَا أَبَا عُثْمَان؛ إِن الْعَرَب لَا تعد الإخلاف فِي الْوَعيد خلفا
464
﴿فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين تَوْبَة من الله وَكَانَ الله عليما حكيما (٩٢) وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما (٩٣) يَا أَيهَا الَّذين﴾ وذما، وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْخلف فِي الْوَعْد، وَأنْشد لَهُ قَول الْقَائِل فِيهِ:
(إِنِّي إِذا أوعدته وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي)
فقد تمدح بالخلف فِي الْوَعيد، وَقَالَ آخر:
(وَإِذا وعد السَّرَّاء أنْجز وعده وَإِن وعد الضراء فالعفو مانعه)
فَالله تَعَالَى يجوز أَن يخلف فِي الْوَعيد، وَإِنَّمَا لَا يخلف الميعاد.
465
قَوْله تَعَالَى:
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله﴾ أَي: سافرتم فِي سَبِيل الله، يَعْنِي: الْغَزْو
﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ وَيقْرَأ: " فتثبتوا " ومعناهما: ترك العجلة.
وَفِي الْخَبَر: " التأني من الله، والعجلة من الشَّيْطَان "
﴿فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا﴾ يقْرَأ " إِلَيْكُم السَّلَام " وَيقْرَأ " إِلَيْكُم السّلم "، فالسلام: هُوَ التَّسْلِيم الْمَعْهُود، وَالسّلم: المقادة والاستسلام، وَالسّلم: الصُّلْح، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي يزِيد بن الْقَعْقَاع: " لست مُؤمنا " من الْأمان
﴿تَبْتَغُونَ عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يَعْنِي: تَبْتَغُونَ الدُّنْيَا، وَفِي الْآثَار: " الدُّنْيَا عرض حَاضر، يَأْكُل مِنْهَا الْبر والفاجر، وَالْآخِرَة وعد صَادِق، يقْضِي فِيهَا ملك قَادر ".
465
(
﴿آمنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا تَبْتَغُونَ عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله مَغَانِم كَثِيرَة كَذَلِك كُنْتُم من قبل فَمن الله عَلَيْكُم فَتَبَيَّنُوا إِن الله﴾ فَعِنْدَ الله مَغَانِم كَثِيرَة) أَي: غَنَائِم كَثِيرَة.
﴿كَذَلِك كُنْتُم من قبل فَمن الله عَلَيْكُم﴾ أَي: تفضل الله عَلَيْكُم، وَفِيه قَولَانِ: قَالَ سعيد بن جُبَير: مَعْنَاهُ كَذَلِك كُنْتُم من قبل تكتمون الْإِيمَان، فَمن الله عَلَيْكُم، وَفِيه قَولَانِ بالإظهار، وَقَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: كَذَلِك كُنْتُم من قبل ضلالا، فَمن الله عَلَيْكُم بالهداية
﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ إِعَادَة تَأْكِيد
﴿إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا﴾ وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: " أَن النَّبِي بعث سَرِيَّة، فَلَقوا رجلا يُقَال لَهُ: مرداس بن عَمْرو من فدك، لَهُ غنيمات، فانحاز بهَا إِلَى الْجَبَل لما أحس بالسرية، ثمَّ تقدم إِلَيْهِم، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم أَنا مُؤمن، فبادر إِلَيْهِ أُسَامَة بن زيد وَهُوَ يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقَتله، وَأخذ سلبه، والغنيمات الَّتِي لَهُ، فَلَمَّا رجعُوا إِلَى النَّبِي قَالَ لأسامة: أقتلت رجلا يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله، فَقَالَ: إِنَّه إِنَّمَا أسلم مُتَعَوِّذًا، وَقَالَ: إِنَّمَا أسلم، ليحرز نَفسه وَمَاله، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: هلا شققت عَن قلبه؟ فَقَالَ أُسَامَة: اسْتغْفر لي يَا رَسُول الله، فَقَالَ كَيفَ لَك بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَة؟ فَقَالَ: اسْتغْفر لي يَا رَسُول الله، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: كَيفَ بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَة؟ هَكَذَا حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثًا - فَنزلت الْآيَة فِيهِ.
﴿وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام﴾ " وَلِأَن ذَلِك الرجل كَانَ قد سلم عَلَيْهِم، وَأسلم لَهُم
﴿لست مُؤمنا تَبْتَغُونَ عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يعْنى: تَبْتَغُونَ بقتْله غنيمات كَانَت لَهُ.
وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي اسْتغْفر لأسامة، وَأمره بِإِعْتَاق رَقَبَة وَكَانَ أُسَامَة من علية الصَّحَابَة، وعاش إِلَى زمَان على - رضى الله عَنهُ - فَدَعَاهُ على إِلَى الْمُقَاتلَة مَعَه فِي الحروب، فَقَالَ لعلى: أَنْت أعز على من كل أحد، وَلَو قَاتَلت الْمُسلمين مَعَ أحد لقاتلت مَعَك، وَلَكِنِّي مُنْذُ سَمِعت رَسُول الله قَالَ لي: كَيفَ بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَة، امْتنعت من الْقِتَال، فَإِن أَعْطَيْتنِي سَيْفا يُمَيّز الْمُسلم من الْكَافِر حَتَّى أقَاتل فَتَركه على.
466
﴿كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا (٩٤) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولى الضَّرَر والمجاهدين فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فضل الله الْمُجَاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم على﴾
وَكَانَ مِمَّن اعتزل الْفَرِيقَيْنِ هُوَ وَسعد بن أبي وَقاص، وَزيد بن ثَابت، وَعبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
وَقيل: إِن قَاتل صَاحب الغنيمات، كَانَ الْمِقْدَاد بن عَمْرو الْكِنْدِيّ - هُوَ ابْن الْأسود - هَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف فِي سَبَب نزُول الْآيَة، وَفِي الْآيَة قَول آخر: " أَنَّهَا نزلت فِي محلم بن جثامة اللَّيْثِيّ، قتل رجلا وَهُوَ يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله، ثمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِي، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، اسْتغْفر لي، فَقَالَ: لَا غفر الله لَك، فَقَامَ يبكي، وَانْصَرف، فَلَمَّا مَاتَ دفن فِي الأَرْض، فلفظته الأَرْض، ثمَّ دفن فلفظته الأَرْض، ثمَّ دفن فلفظته الأَرْض - هَكَذَا ثَلَاثًا - فَأمر النَّبِي حَتَّى ألقِي عَلَيْهِ الْحِجَارَة، قَالَ: إِن الأَرْض لتنطبق على من هُوَ شَرّ مِنْهُ - يعْنى من محلم -، وَلَكِن الله - تَعَالَى - أَرَادَ أَن يريكم الْآيَة ".
467
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولى الضَّرَر﴾ اعْلَم أَن الَّذِي نزل فِي الِابْتِدَاء من هَذِه الْآيَة قَوْله: " لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ والمجاهدين فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم " قَالَ زيد بن ثَابت: " كَانَ النَّبِي يملى على هَذِه الْآيَة، وَفَخذه على فَخذي، فَدخل عبد الله بن أم مَكْتُوم، وَقَالَ يَا رَسُول الله، أَنا رجل ضَرِير، وَلَو اسْتَطَعْت أَن أقَاتل لقاتلت مَعَك؛ فتغشى رَسُول الله الْوَحْي؛ فثقل فَخذه على فَخذي حَتَّى كَاد يرضه؛ فَلَمَّا سرى عَنهُ، قَالَ لي: اكْتُبْ
﴿غير أولى الضَّرَر﴾ فَنزل هَذَا الْقدر فِي ابْن أم مَكْتُوم، وَكَانَ ضريرا من أولى الضَّرَر، وَقَوله:
467
﴿القاعدين دَرَجَة وكلا وعد الله الْحسنى وَفضل الله الْمُجَاهدين على القاعدين أجرا عَظِيما (٩٥) دَرَجَات مِنْهُ ومغفرة وَرَحْمَة وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (٩٦) إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة﴾
﴿غير أولي الضَّرَر﴾ يقْرَأ على وُجُوه: " غير " - بِرَفْع الرَّاء - وَتَقْدِيره: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الَّذين هم غير أولي الضَّرَر، وَيقْرَأ: بِفَتْح الرَّاء، على الِاسْتِثْنَاء، يعْنى: إِلَّا أولي الضَّرَر، وَقيل: هُوَ نصب على الْحَال، يعْنى: فِي حَال الصِّحَّة، وَانْتِفَاء الضَّرَر، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ أصحاء، وَهَذَا أشهر الْقِرَاءَتَيْن، وَكَذَلِكَ قَرَأَ النَّبِي " غير أولي الضَّرَر " - بِكَسْر الرَّاء يعْنى -، من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر،
﴿فضل الله الْمُجَاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم على القاعدين دَرَجَة﴾ أَرَادَ بالقاعدين هَاهُنَا: أولى الضَّرَر، فضل الْمُجَاهدين عَلَيْهِم بِدَرَجَة؛ لِأَن الْمُجَاهدين باشروا الْجِهَاد مَعَ النِّيَّة، وَأولُوا الضَّرَر كَانَت لَهُم نِيَّة الْجِهَاد، وَلَكِن لم يباشروا؛ فنزلوا عَنْهُم بِدَرَجَة
﴿وكلا وعد الله الْحسنى﴾ يعْنى: الْجنَّة
﴿وَفضل الله الْمُجَاهدين على القاعدين أجرا عَظِيما﴾ وَأَرَادَ بالقاعدين هُنَا: غير أولي الضَّرَر، فضل الله الْمُجَاهدين عَلَيْهِم أجرا عَظِيما
468
﴿دَرَجَات مِنْهُ ومغفرة وَرَحْمَة﴾ قَالَ ابْن محيريز: هِيَ سَبْعُونَ دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْفرس الْمُضمر سبعين سنة، وَفِي الْخَبَر " فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، أعدهَا الله للمجاهدين فِي سَبيله "، وَقيل: أَرَادَ بالدرجات: الْإِسْلَام، وَالْهجْرَة، وَالْجهَاد، وَالشَّهَادَة فِي الْجِهَاد، وفاز بِتِلْكَ الدَّرَجَات المجاهدون ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة﴾ قَرَأَ عِيسَى بن عمر النَّحْوِيّ: " تتوفاهم " - بالتائين - وَالْمَعْرُوف " تَوَفَّاهُم " وَأَصله: تتوفاهم، فأدغمت إِحْدَى التائين تَخْفِيفًا، على الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة، فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: تتوفاهم الْمَلَائِكَة والمتوفى ملك وَاحِد، كَمَا قَالَ:
﴿قل يتوفاكم ملك الْمَوْت﴾ ؟ قيل: ذكره بِلَفْظ
468
﴿ظالمي أنفسهم قَالُوا فيمَ كُنْتُم قَالُوا كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض قَالُوا ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا فَأُولَئِك مأواهم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال﴾
الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ الْوَاحِد، وَمثله شَائِع فِي كَلَام الْعَرَب، وَقيل: إِن لملك الْمَوْت أعوانا، فَلَعَلَّهُ أَرَادَهُ مَعَ أعوانه؛ فَلذَلِك ذكر بِلَفْظ الْجمع.
قَالَ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك: الْآيَة فِي قوم أَسْلمُوا بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة، فَلَمَّا هَاجر النَّبِي إِلَى الْمَدِينَة، تخلفوا عَن الْهِجْرَة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر حملهمْ الْكفَّار مَعَ أنفسهم إِلَى بدر كرها، فَقتلُوا بَين الْكفَّار.
وَقَوله
﴿ظالمي أنفسهم﴾ يعْنى: بالشرك؛ فَإِنَّهُم قتلوا مُشْرِكين؛ إِذْ مَا كَانَ يقبل الْإِسْلَام بعد هِجْرَة النَّبِي إِلَّا بِالْهِجْرَةِ، ثمَّ أُبِيح ذَلِك بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح ".
﴿قَالُوا فيمَ كُنْتُم﴾ يعْنى: الْمَلَائِكَة قَالُوا لأولئك الَّذين أَسْلمُوا وَلم يهاجروا:
﴿فيمَ كُنْتُم﴾ يعْنى: فِي أَي الْفَرِيقَيْنِ كُنْتُم، فِي الْمُسلمين أم الْمُشْركين؟ وَهَذَا سُؤال توبيخ، لَا سُؤال استعلام
﴿قَالُوا كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض﴾ يعْنى: كُنَّا بِمَكَّة مستضعفين بَين الْمُشْركين
﴿قَالُوا﴾ يعْنى: الْمَلَائِكَة
﴿ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا﴾ يعْنى: إِلَى الْمَدِينَة
﴿فَأُولَئِك مأواهم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا﴾ حكم لَهُم بالنَّار؛ لأَنهم مَاتُوا مُشْرِكين
469
﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ وهم أَصْحَاب الْأَعْذَار
﴿من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان﴾ مِنْهُم الْوَلِيد بن الْوَلِيد، وَسَلَمَة بن هِشَام، وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة.
قَالَ ابْن عَبَّاس: كنت أَنا وَأمي من الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وهم الَّذين دَعَا لَهُم النَّبِي فِي الْقُنُوت، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ انج الْوَلِيد بن الْوَلِيد وَسَلَمَة بن هِشَام، وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وأشدد وطأتك على مُضر، هَكَذَا كَانَ يدعوا لَهُم
469
﴿وَالنِّسَاء والولدان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (٩٨) فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا (٩٩) وَمن يُهَاجر فِي سَبِيل الله يجد فِي الأَرْض مراغما كثيرا﴾ شهرا، حَتَّى نَجوا، وَقدمُوا؛ فَترك ذَلِك الدُّعَاء، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: أَلا ترونهم قد قدمُوا ".
﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة﴾ يعْنى: لِلْخُرُوجِ
﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا﴾ أَي: طَرِيقا إِلَى الْمَدِينَة
470
﴿فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم﴾ " وَعَسَى " من الله وَاجِب؛ لِأَنَّهُ للإطماع، وَالله - تَعَالَى - إِذا أطمع عبدا أوجب لَهُ وأوصله إِلَيْهِ.
﴿وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا﴾ روى: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، كتب بهَا أَصْحَاب رَسُول الله إِلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وَكَانَ فيهم شيخ كَبِير يُقَال لَهُ: جندع بن ضَمرَة وَيُقَال لَهُ حبيب بن ضَمرَة فَقَالَ: لست من الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنا أعرف طَرِيق الْمَدِينَة، وَقَالَ لِبَنِيهِ: احْمِلُونِي إِلَى الْمَدِينَة، فَحَمَلُوهُ يأْتونَ بِهِ، فَلَمَّا بلغ التَّنْعِيم؛ أدْركهُ الْمَوْت، فَبلغ ذَلِك أَصْحَاب رَسُول الله فَقَالُوا: لَو وصل إِلَى الْمَدِينَة لأتمم الله أجره؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله﴾ يعْنى: تمّ أجره.
وَقَوله:
﴿وَمن يُهَاجر فِي سَبِيل الله يجد فِي الأَرْض مراغما كثيرا وَسعه﴾ المراغم: المُهَاجر، والمراغمة: المهاجرة، المُهَاجر، قَالَ أَبُو عمر بن الْعَلَاء: وَإِنَّمَا سميت المهاجرة مراغمة؛ لِأَنَّهُ من هَاجر مراغم قومه وقرابته، وَقَالَ الشَّاعِر:
(كطود يلوذ بأركانه... عَزِيز المراغم والمهرب)
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مراغما، أَي: متحولا يتَحَوَّل إِلَيْهِ، وَقَالَ مُجَاهِد: مراغما، أَي: متزحزحا، وَقَوله:
﴿وسعة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: وسعة فِي الرزق، قَالَ قَتَادَة:
470
﴿وسعة وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (١٠٠) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من﴾ وَمَعْنَاهُ: وسعة من الضَّلَالَة إِلَى الْهَدْي.
﴿وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله﴾ قد ذكرنَا أَنه فيمَ نزل
﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾ .
471
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض﴾ أَي: سافرتم
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا﴾ .
قصر الصَّلَاة فِي السّفر لَا خلاف فِي جَوَازه فِي حَال الْخَوْف، وَأما فِي حَال الْأَمْن: قَالَ سعد بن أبي وَقاص: إِنَّه لَا يجوز، وَبِه قَالَ دَاوُد، وَأهل الظَّاهِر؛ تمسكا بِظَاهِر الْقُرْآن، وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء وَهُوَ قَول أَكثر الْأمة -: إِنَّه يجوز الْقصر فِي حَال الْأَمْن؛ لما روى عَن يعلي بن أُميَّة أَنه قَالَ لعمر - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا بالنا نقصر، وَقد أمنا، وَالله - تَعَالَى - يَقُول فِي كِتَابه:
﴿أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ﴾ قَالَ عمر: عجبت مِمَّا تعجبت أَنْت، فَسَأَلت النَّبِي، فَقَالَ: صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم، فاقبلوا صدقته " وروى " أَن رَسُول الله سَافر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة - لَا يخَاف إِلَّا الله - وَقصر الصَّلَاة " وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَام - يقصر الصَّلَاة فِي جَمِيع أَسْفَاره، وَلم ينْقل أَنه أتم فِي سفر مَا؛ وَلذَلِك قَالَ الشَّافِعِي: الْقصر أولى؛ وَإِن جَازَ الْإِتْمَام.
وروى عَن جَابر، وَالْحسن - وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس -: أَن صَلَاة الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَصَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْخَوْف رَكْعَة، وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " فرض الله - تَعَالَى - الصَّلَاة على لِسَان نبيه فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي
471
﴿الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا إِن الْكَافرين كَانُوا لكم عدوا مَبْنِيا (١٠١) وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة فلتقم طَائِفَة مِنْهُم مَعَك وليأخذوا أسلحتهم فَإِذا سجدوا فليكونوا﴾ الْخَوْف رَكْعَة " وَأكْثر الْأمة على أَن الْقصر فِي الْخَوْف رَكْعَتَانِ، مثل قصر السّفر، ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْقصر على قَوْلَيْنِ: أَنه إِبَاحَة، أم وَاجِب، قَالَ بَعضهم: هُوَ إِبَاحَة، وَهُوَ اخْتِيَار الشَّافِعِي، وَهُوَ أصح؛ لقَوْله عز ذكره:
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح﴾ وَهُوَ مثل قَوْله:
﴿فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا﴾ .
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ وَاجِب. وَالْخلاف بَين السّلف مَشْهُور فِيهِ.
وَقَوله:
﴿إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا﴾ أَي: يقتلكم، والفتنة بِمَعْنى: الْقَتْل هَاهُنَا، وَقَرَأَ أَبى بن كَعْب: " أَن تقصرُوا من الصَّلَاة أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا " - من غير قَوْله:
﴿إِن خِفْتُمْ﴾ - ويروى عَن أَبى أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَنه قَالَ: نزل قَوْله:
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة﴾ هَذَا الْقدر فَحسب، ثمَّ مضى حول، وَلم ينزل شئ؛ فَسئلَ رَسُول الله عَن صَلَاة الْخَوْف، ثمَّ نزل قَوْله: (
﴿إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا إِن الْكَافرين كَانُوا لكم عدوا مُبينًا﴾ وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة) فَأَشَارَ إِلَى أَنه رَاجع إِلَى صَلَاة الْخَوْف، لَا إِلَى صَلَاة السّفر.
472
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة﴾ بَين فِي هَذِه الْآيَة كَيْفيَّة صَلَاة الْخَوْف، وَأعلم أَن صَلَاة الْخَوْف جَائِزَة بعد رَسُول الله على قَول أَكثر الْعلمَاء، وَقَالَ بَعضهم: صَلَاة الْخَوْف لَا تجوز لأحد بعده، وَهُوَ قَول أَبى يُوسُف؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة، قَوْله:
﴿وَإِذا كنت فيهم﴾ فَشرط كَونه فيهم، وَالأَصَح هُوَ الأول. وَقَوله:
﴿وَإِذا كُنْتُم فيهم﴾ لَيْسَ على سَبِيل الشَّرْط، وَإِنَّمَا خرج الْكَلَام على وفْق الْحَال، وَقد ورد أَن أَصْحَاب رَسُول الله صلوا بعده صَلَاة الْخَوْف.
472
(
﴿من وَرَائِكُمْ ولتأت طَائِفَة أُخْرَى لم يصلوا فليصلوا مَعَك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الَّذين كفرُوا لَو تغفلون عَن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عَلَيْكُم مَيْلَة وَاحِدَة وَلَا جنَاح عَلَيْكُم﴾ فلتقم طَائِفَة مِنْهُم مَعَك وليأخذوا أسلحتهم) وَسبب نزُول الْآيَة: مَا روى أَبُو عَيَّاش الزرقي: " أَن رَسُول الله نزل بعسفان، وَكَانَ على خيل الْمُشْركين خَالِد بن الْوَلِيد، فصلى النَّبِي مَعَ أَصْحَابه صَلَاة الظّهْر، فَقَالَ الْمُشْركُونَ: قد وجدنَا مِنْهُم غرَّة إِن قصدناهم، وحملنا عَلَيْهِم، فَقَالَ بَعضهم: سَتَأْتِيهِمْ صَلَاة هِيَ أحب إِلَيْهِم من أَوْلَادهم، وأهاليهم - يعنون صَلَاة الْعَصْر - فَنزل جِبْرِيل، وَأخْبرهُ بمقالتهم، وَأمر بِصَلَاة الْخَوْف ".
وَقد روى عَن رَسُول الله صَلَاة الْخَوْف بروايات شَتَّى، وَأخذ الشَّافِعِي بِرِوَايَة صَالح بن خَوات بن جُبَير عَن أَبِيه عَن النَّبِي: " أَنه صلى صَلَاة الْخَوْف، فَجعل أَصْحَابه فرْقَتَيْن، وَصلى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة، فَقَامُوا، وَأَتمُّوا رَكْعَتَيْنِ، وذهبوا إِلَى وَجه الْعَدو؛ وَجَاءَت الطَّائِفَة الثَّانِيَة وَالنَّبِيّ ينتظرهم، فصلى بهم الرَّكْعَة الثَّانِيَة وانتظرهم جَالِسا حَتَّى قَامُوا وَأَتمُّوا رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ سلم بهم " فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿فلتقم طَائِفَة مِنْهُم مَعَك وليأخذوا أسلحتهم﴾ .
وَاخْتلفُوا فِي أَنهم مَتى يَأْخُذُونَ أسلحتهم؟ قَالَ بَعضهم: يأخذونه فِي الصَّلَاة؛ ليكونوا أهيب فِي عين الْعَدو؛ فعلى هَذَا يَأْخُذُونَ من السِّلَاح مَا لَا يمنعهُم من الْإِتْيَان بأركان الصَّلَاة، وَقَالَ آخَرُونَ: يَأْخُذُونَ السِّلَاح إِذا ذَهَبُوا إِلَى وَجه الْعَدو.
﴿فَإِذا سجدوا﴾ يعْنى: فَإِذا صلوا {فليكونوا من وَرَائِكُمْ ولتأت طَائِفَة أُخْرَى لم
473
﴿إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر أَو كُنْتُم مرضى أَن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركُمْ إِن الله أعد للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا (١٠٢) فَإِذا قضيتم الصَّلَاة فاذكروا الله قيَاما وقعودا وعَلى جنوبكم فَإِذا﴾ يصلوا فليصلوا مَعَك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) والحذر: مَا يتقى بِهِ للحذر من الْعَدو
﴿ود الَّذين كفرُوا لَو تغفلون﴾ لَو وجدوكم غافلين
﴿عَن أسلحتكم وأمتعتكم﴾ يَعْنِي: بِالصَّلَاةِ
﴿فيميلون عَلَيْكُم مَيْلَة وَاحِدَة﴾ أَي: فيحملون عَلَيْكُم حَملَة وَاحِدَة.
﴿وَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر أَو كُنْتُم مرضى أَن تضعوا أسلحتكم﴾ رخص لَهُم فِي وضع السِّلَاح فِي حَال الْمَطَر، وَالْمَرَض؛ لِأَن السِّلَاح يثقل حمله فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ.
﴿وخذوا حذركُمْ إِن الله أعد للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا﴾ .
474
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا قضيتم الصَّلَاة﴾ يَعْنِي: صَلَاة الْخَوْف، ﴿فاذكروا الله قيَاما وقعودا وعَلى جنوبكم﴾ يَعْنِي: الذّكر بالتسبيح والتهليل، والتحميد، والتمجيد. ﴿فَإِذا إطمأننتم﴾ يَعْنِي: فَإِذا سكنتم وأقمتم وأمنتم ﴿فأقيموا الصَّلَاة﴾ يَعْنِي على أَرْكَانهَا وهيئتها كَمَا عَرَفْتُمْ ﴿إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا﴾ قَالَ مُجَاهِد: أَي: فرضا مؤقتا يُؤدى (فِي) أوقاته، وَقَالَ زيد بن أسلم: أَرَادَ بِهِ: فرضا منجما يَأْتِي نجم بعد نجم.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلَا تهنوا فِي ابْتِغَاء الْقَوْم إِن تَكُونُوا تألمون فَإِنَّهُم يألمون كَمَا تألمون﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن الْكفَّار يَوْم أحد لما انْهَزمُوا، بعث النَّبِي طَائِفَة من أَصْحَابه على إثرهم، فشكوا ألم الْجِرَاحَات؛ فَنزلت الْآيَة "
﴿وَلَا تهنوا فِي ابْتِغَاء الْقَوْم﴾ أَي: لَا تضعفوا فِي طلب الْقَوْم.
﴿إِن تَكُونُوا تألمون﴾ أَي: توجعون وتشكون الْأَلَم، فَإِنَّهُم يألمون، أَي: يوجعون ويشكون الْأَلَم كَمَا تألمون، قَالَ الشَّاعِر فِي مَعْنَاهُ:
(قَاتل الْقَوْم يَا خزاع وَلَا يدخلنكم... )
474
﴿اطمأننتم فأقيموا الصَّلَاة إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا (١٠٣) وَلَا تهنوا فِي ابْتِغَاء الْقَوْم إِن تَكُونُوا تألمون فَإِنَّهُم يألمون كَمَا تألمون وترجون من الله مَا لَا يرجون وَكَانَ﴾ (من قِتَالهمْ، فَشد الْقَوْم أمثالكم لَهُم شعر فِي الرَّأْس لَا ينشرون إِن قتلوا)
﴿وترجون من الله مَا لَا يبرجون﴾ أَي: وتأملون من الله مَالا يأملون، من الظفر فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَاب فِي الْآخِرَة، وَقَالَ الْفراء وَالْكسَائِيّ: الرَّجَاء بِمَعْنى الْخَوْف، وكل راج خَائِف؛ لِأَنَّهُ يخَاف أَلا يدْرك المأمول، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:
﴿مَا لكم لَا ترجون لله وقارا﴾ وَأَجْمعُوا على أَن مَعْنَاهُ: لَا تخافون لله عَظمَة، قَالَ الشَّاعِر:
(لَا ترتجي إِذا تلاقى الزائدا أسبعة تلقى مَعًا أم وَاحِدًا)
﴿وَكَانَ الله عليما حكيما﴾
475
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى " أَن طعمة بن أُبَيْرِق من بني ظفر بن الْحَارِث سرق درعا، فَلَمَّا أَتَاهُم بِهِ أَلْقَاهُ فِي دَار يَهُودِيّ، وَقَالَ: إِنَّه سرق وَفِي رِوَايَة: أودعهُ عِنْد يَهُودِيّ فَلَمَّا ظهر، قَالَ: إِن الْيَهُودِيّ سَرقه؛ فجَاء قومه إِلَى النَّبِي وهم بَنو ظفر بن الْحَارِث؛ ليدافعوا عَنهُ، وهم النَّبِي بِدفع السّرقَة عَنهُ، وَقطع يَد الْيَهُودِيّ، وَكَانَ عِنْد قومه أَنه السَّارِق؛ فَنزل قَوْله:
﴿إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ﴾ أَي: لتَحكم بِالْحَقِّ.
﴿لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أَرَاك الله﴾ أَي: بِمَا علمك، وَحكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إياك والرأي فَإِن
475
﴿الله عليما حكيما (١٠٤) إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أَرَاك الله وَلَا تكن للخائنين خصيما (١٠٥) واستغفر الله إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما (١٠٦) وَلَا تجَادل عَن الَّذين يَخْتَانُونَ أنفسهم إِن الله لَا يحب من كَانَ خوانًا أَثِيمًا (١٠٧) يستخفون من النَّاس وَلَا يستخفون من الله وَهُوَ مَعَهم إِذْ يبيتُونَ مَا لَا يرضى من القَوْل وَكَانَ الله بِمَا يعْملُونَ محيطا﴾ الله تَعَالَى يَقُول:
﴿بِمَا أَرَاك الله﴾ وَلم يقل: بِمَا رَأَيْت،
﴿وَلَا تكن للخائنين خصيما﴾ يَعْنِي: طعمة من الخائنين، فَلَا تكن مدافعا عَنهُ
476
﴿واستغفر الله﴾ أمره بالاستغفار؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد هم أَن يدافع عَنهُ ﴿إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما﴾ .
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تجَادل عَن الَّذين يَخْتَانُونَ أنفسهم﴾ أَي: يخونون أنفسهم والاختيان: افتعال من الْخِيَانَة ﴿إِن الله لَا يحب﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: مَعْنَاهُ: إِن الله لَا يقرب ﴿من كَانَ خوانًا أَثِيمًا﴾ الخوان: الخائن والأثيم: ذُو الْإِثْم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يستخفون من النَّاس وَلَا يستخفون من الله وَهُوَ مَعَهم﴾ بشكوى بني ظفر بن الْحَارِث، مَعْنَاهُ: يستترون من النَّاس، وَلَا يستترون من الله، وَهُوَ مَعَهم ﴿إِذْ يبيتُونَ مَالا يرضى من القَوْل﴾ قد بَينا أَن التبييت: تَدْبِير الْفِعْل لَيْلًا؛ وَذَلِكَ التبييت مِنْهُم أَن قوم طعمة قَالُوا: ندفع أمره إِلَى النَّبِي؛ فَإِنَّهُ يسمع يَمِينه، وَقَوله؛ لِأَنَّهُ مُسلم، وَلَا يسمع من الْيَهُودِيّ؛ لِأَنَّهُ كَافِر، فَلم يرض الله تَعَالَى قَوْلهم ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ محيطا﴾ .
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي: أَنْتُم يَا هَؤُلَاءِ، قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: هَا أَنْتُم الَّذين ﴿جادلتهم عَنْهُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: خاصمتم، وأصل الْجِدَال: الجدل، وَهُوَ الفتل، وَيُقَال: شخص أجدل، إِذا كَانَ وثيق الْخلق، وَيُقَال للصقر: أجدل؛ لِأَنَّهُ أقوى الطُّيُور على الصَّيْد.
﴿فَمن يُجَادِل الله عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة أم من يكون عَلَيْهِم وَكيلا﴾ يَعْنِي: من الَّذِي يتَوَلَّى أَمرهم، ويذب عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة؟
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمن يعْمل سوءا أَو يظلم نَفسه ثمَّ يسْتَغْفر الله يجد الله غَفُورًا رحِيما﴾ عرض التَّوْبَة على طعمة وَقَومه فِي هَذِه الْآيَة، وَأمرهمْ بالاستغفار.
476
(
﴿١٠٨) هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ جادلتم عَنْهُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا فَمن يُجَادِل الله عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة أم من يكون عَلَيْهِم وَكيلا (١٠٩) وَمن يعْمل سوءا أَو يظلم نَفسه ثمَّ يسْتَغْفر الله يجد الله غَفُورًا رحِيما (١١٠) وَمن يكْسب إِثْمًا فَإِنَّمَا يكسبه على نَفسه وَكَانَ الله عليما حكيما (١١١) وَمن يكْسب خَطِيئَة أَو إِثْمًا ثمَّ يرم بِهِ بَرِيئًا فقد احْتمل بهتانا وإثما مُبينًا (١١٢) وَلَوْلَا فضل الله﴾
477
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يكْسب إِثْمًا فَإِنَّمَا يكسبه على نَفسه﴾ سَبَب هَذَا أَن قومه قَالُوا لَهُ: تب إِلَى الله، فَحلف أَنى مَا سَرقته، وَإِنَّمَا سَرقه الْيَهُودِيّ؛ فَذَلِك الَّذِي يَقُول الله - تَعَالَى - وَمن كَسبه الْإِثْم ﴿وَكَانَ الله عليما حكيما﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمن يكْسب خَطِيئَة أَو إِثْمًا﴾ هُوَ سَرقته الَّتِي ذكرنَا، ﴿ثمَّ يرم بِهِ بَرِيئًا﴾ هُوَ نسبته السّرقَة إِلَى الْيَهُودِيّ الَّذِي كَانَ بَرِيئًا عَنْهَا ﴿فقد احْتمل بهتانا وإثما مُبينًا﴾ فالبهتان: الْكَذِب الَّذِي يتحير مِنْهُ الْإِنْسَان، وَهُوَ البهت، وَأَرَادَ بالإثم الْمُبين: الْيَمين الْفَاجِرَة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْك وَرَحمته﴾ هَذَا خطاب للرسول ﴿لهمت طَائِفَة مِنْهُم أَن يضلوك﴾ يعْنى: قوم طعمه، هموا أَن يلبسوا عَلَيْك؛ لتدافع عَنهُ ﴿وَمَا يضلون إِلَّا أنفسهم﴾ أَي: يرجع وباله عَلَيْهِم ﴿وَمَا يضرونك من شئ﴾ يعْنى: ضَرَره عَائِد عَلَيْهِم، وَلَا يَضرك؛ لِأَنَّك مَعْصُوم ﴿وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ: وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب بالحكمة، وَقيل: أَرَادَ بِالْكتاب: الْقُرْآن، وبالحكمة: السّنة ﴿وعلمك مَا لم تكن تعلم﴾ يعْنى: من أَحْكَام الْقُرْآن، وَقيل: من علم الْغَيْب، وَقيل: علمك قدرك، وَلم تكن تعلمه ﴿وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿لَا خير فِي كثير من نَجوَاهُمْ إِلَّا من أَمر بِصَدقَة﴾ . النَّجْوَى: السرائر فِي التَّدْبِير، قَالَ الزّجاج: كل مَا انْفَرد بتدبيره قوم يَخُوضُونَ فِيهِ؛ فَهُوَ نجوى: سرا كَانَ أَو عَلَانيَة، وَأَرَادَ هَاهُنَا: نجوى قوم طعمه وتدبيرهم، وَقيل: هُوَ فِي جَمِيع الْحَوَادِث.
﴿إِلَّا من أَمر بِصَدقَة﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ إِلَّا نجوى من أَمر بِصَدقَة، وَقيل: هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، يعْنى: لَكِن من أَمر بِصَدقَة
﴿أَو مَعْرُوف﴾ وَهُوَ كل مَا عرفه الشَّرْع {أَو
477
﴿عَلَيْك وَرَحمته لهمت طَائِفَة مِنْهُم أَن يضلوك وَمَا يضلون إِلَّا أنفسهم وَمَا يضرونك من شئ وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما (١١٣) لَا خير فِي كثير من نَجوَاهُمْ إِلَّا من أَمر بِصَدقَة أَو مَعْرُوف أَو إصْلَاح بَين النَّاس وَمن يفعل ذَلِك ابْتِغَاء مرضات الله فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما (١١٤) وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد﴾ إصْلَاح بَين النَّاس) وَفِي الْخَبَر: " كل كَلَام ابْن آدم عَلَيْهِ إِلَّا ثَلَاثَة: أَمر بِمَعْرُوف، أَو نهى عَن مُنكر، أَو ذكر الله " وَقيل لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة - حِين روى هَذَا الحَدِيث؛ فَقَالُوا -: مَا أَشد هَذَا الحَدِيث؟ ! فَقَالَ: اقْرَءُوا قَوْله - تَعَالَى -:
﴿لَا خير فِي كثير من نَجوَاهُمْ إِلَّا من أَمر بصدقه﴾ الْآيَة.
وروى: أَن رَسُول الله قَالَ لأبى أَيُّوب الْأنْصَارِيّ: " أَلا أدلك على صَدَقَة هِيَ خير لَك من حمر النعم - أَي: من الصَّدَقَة بحمر النعم؟ - قَالَ: بلَى يَا رَسُول الله، فَقَالَ: أَن تصلح بَين النَّاس إِذا تفاسدوا، وَأَن تقرب بَينهم إِذا تباعدوا ".
﴿وَمن يفعل ذَلِك ابْتِغَاء مرضات الله فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما﴾ .
478
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ﴾ أَرَادَ بِهِ: طعمه، جادل النَّبِي، ثمَّ لحق بِمَكَّة، وارتد حِين ظهر عَلَيْهِ الحكم بِالْقطعِ.
قَالَ سعيد بن جُبَير: إِنَّه لما لحق بِمَكَّة سرق هُنَالك، فَوجدَ فِي نقب يسرق، فَقتل.
478
﴿مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا (١١٥) إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد ضل ضلالا بَعيدا (١١٦) إِن يدعونَ من دونه إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يدعونَ إِلَّا شَيْطَانا مرِيدا (١١٧) لَعنه الله وَقَالَ﴾
وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه حِين لحق بِمَكَّة نزل على الْحجَّاج بن غلاط الْأَسْلَمِيّ، فَقَامَ فِي بعض اللَّيْل يسرق، فأحسوا بِهِ، فَأَخَذُوهُ واجتمعوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: إِنَّه ضيف، وتركوه؛ فلحق بحرة بني سليم، وَكَانَ يعبد الْأَصْنَام، وَمَات عَلَيْهِ؛ فَفِيهِ نزلت الْآيَة
﴿وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ﴾ لِأَنَّهُ لما ارْتَدَّ، فقد اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
وَاسْتدلَّ أهل الْعلم بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الْإِجْمَاع حجَّة.
قَوْله:
﴿نوله مَا تولى﴾ أَي: نوله مَا اخْتَارَهُ، وَقيل: نكله إِلَى (من) تولاه
﴿ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا﴾ .
479
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء﴾ وَقد ذكرنَا معنى الْآيَة فِيمَا سبق ﴿وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد ضل ضلالا بَعيدا﴾ روى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ انه قَالَ: هَذِه أحب آيَة إِلَيّ فِي الْقُرْآن.
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن يدعونَ من دونه﴾ أَي: مَا يدعونَ من دونه
﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ قيل: مَعْنَاهُ الْأَوْثَان، وَإِنَّمَا سميت الْأَوْثَان إِنَاثًا؛ لأَنهم كَانُوا يسمونها باسم الْإِنَاث، فَيَقُولُونَ: اللات، والعزى، وَمَنَاة، وَكَانُوا يَقُولُونَ لصنم كل قَبيلَة: أُنْثَى بني فلَان، قَالَ أبي بن كَعْب: كَانَ مَعَ كل صنم جنية من الشَّيَاطِين، وَقيل: مَعْنَاهُ: الْموَات وَإِنَّمَا سمي الْموَات إِنَاثًا؛ لِأَن الْإِنَاث أرذل الجنسين، وأدونهما، فَكَذَلِك الْموَات أرذل من الْحَيَوَان، وَكَانَت أصنامهم من الْموَات والجماد.
قَالَ الضَّحَّاك: أَرَادَ بِهِ: الْمَلَائِكَة، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَة إناث، وَكَانَ بَعضهم
479
﴿لأتخذن من عِبَادك نَصِيبا مَفْرُوضًا (١١٨) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الْأَنْعَام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وَمن يتَّخذ الشَّيْطَان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا﴾ يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة، ويصورون الْأَصْنَام على صور الْمَلَائِكَة، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " إِلَّا أنثا " جمع الْأَوْثَان، وَقَرَأَ فِي الشواذ أَيْضا " إِلَّا أنثا " جمع الْإِنَاث؛ فَيكون على جمع الْجمع كالمثل.
﴿وَإِن يدعونَ إِلَّا شَيْطَانا مرِيدا﴾ ؛ لأَنهم إِذا عبدُوا الْأَصْنَام، فقد أطاعوا الشَّيْطَان، وَأَرَادَ بِهِ: إِبْلِيس، والمريد العاتي المتمرد، وَحَقِيقَته: العاري من كل خير، وَمِنْه الْأَمْرَد، وَيُقَال: شَجَرَة مرداء، إِذا تساقطت أَغْصَانهَا.
480
﴿لَعنه الله﴾ أَي: أبعده الله من الرَّحْمَة؛ معاقبة، وَلذَلِك لَا يجوز لعن الْبَهَائِم؛ لِأَنَّهَا لَا تستوجب الْعقُوبَة، والطرد عَن الرَّحْمَة.
﴿وَقَالَ لأتخذن من عِبَادك نَصِيبا مَفْرُوضًا﴾ أَي: مِقْدَارًا مَعْلُوما، قيل فِي التَّفْسِير: من كل ألف تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتسْعُونَ للشَّيْطَان وَوَاحِد لله. وأصل الْفَرْض: الحز وَالْقطع، وَمِنْه فرض الْقوس: وَهُوَ الشق الَّذِي يَجْعَل فِيهِ الْوتر. وَمِنْه فرض السِّوَاك: وَهُوَ الْموضع الَّذِي يَجْعَل فِيهِ الْخَيط، وَمِنْه فرضة الْبَحْر: وَهُوَ المشرع الَّذِي توقف إِلَيْهِ السَّفِينَة، وَالْفَرْض: نوع من التَّمْر يكون بعمان، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا أكلت سمكًا وفرضا ذهبت طولا وَذَهَبت عرضا)
قَوْله تَعَالَى:
﴿ولأضلنهم﴾ أَي: لأغوينهم، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ نسب إِلَيْهِ الإضلال، وَلَيْسَ إِلَيْهِ الضَّلَالَة؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ: التزيين والدعوة إِلَى الضَّلَالَة، وَقد قَالَ: " بعثت دَاعيا، وَلَيْسَ إِلَى من الْهِدَايَة شئ، وَبعث الشَّيْطَان مزينا، وَلَيْسَ إِلَيْهِ من الضَّلَالَة شئ ".
﴿ولأمنينهم﴾ قيل: مَعْنَاهُ: أمنينهم ركُوب الْأَهْوَاء، وَقيل
480
﴿مُبينًا (١١٩) يعدهم ويمنيهم وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا (١٢٠) أُولَئِكَ مأواهم جَهَنَّم وَلَا يَجدونَ عَنْهَا محيصا (١٢١) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سندخلهم جنَّات تجْرِي من﴾ مَعْنَاهُ: أمنينهم طول الْعُمر فِي النَّعيم؛ ليؤثروا الدُّنْيَا على الْآخِرَة، وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: أمنيهم إِدْرَاك الْآخِرَة مَعَ ركُوب الْمعاصِي.
﴿ولآمرنهم فليبتكن آذان الْأَنْعَام﴾ أَرَادَ بِهِ: الْبحيرَة الَّتِي تَأتي فِي سُورَة الْمَائِدَة، والبتك: الْقطع، وَالْمرَاد بِهِ: شقّ الآذان،
﴿ولآمرنهم فليغيرن خلق الله﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَول مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: فليغيرن دين الله، أَي: وضع الله فِي الدّين: بتحليل الْحَرَام، وَتَحْرِيم الْحَلَال، وَنَحْو ذَلِك، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ قَول أنس، وَعِكْرِمَة: أَرَادَ بِهِ: إخصاء الْأَنْعَام، وَكَانَ أنس يكره إخصاء الْبَهَائِم من أجل هَذَا، وَكَانَ يُجِيزهُ الْحسن، وَقَالَ ابْن مَسْعُود: أَرَادَ بِهِ الوشم، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ تغير الْأَنْسَاب؛ وَذَلِكَ أَن ينْتَقل من نسب إِلَى نسب، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ: الخضاب بِالسَّوَادِ، وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ، وَإِنَّمَا الخضاب الْمُبَاح بالحمرة، والصفرة
﴿وَمن يتَّخذ الشَّيْطَان وليا من دون الله﴾ أَي: يواليه باتباعه
﴿فقد خسر خسرانا مُبينًا﴾ .
481
قَوْله تَعَالَى: ﴿يعدهم﴾ وعده قد يكون بالتخويف كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ﴿الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر﴾ وَقيل: أَنه يتَمَثَّل فِي صُورَة الْآدَمِيّ، فيعد، ويمنى، وَكَانَ قد ظهر يَوْم بدر فِي صُورَة سراقَة بن مَالك بن جعْشم وَظهر فِي الْيَوْم الَّذِي اجْتمعت فِيهِ قُرَيْش، وَتَشَاوَرُوا فِي إِخْرَاج النَّبِي، فِي صُورَة شيخ من نجد.
وَقَوله ﴿ويمنيهم﴾ قد ذكرنَا، وَمن ذَلِك تمنى الْإِنْسَان قَضَاء الشَّهَوَات.
وَاعْلَم أَن الْإِنْسَان لَا يُؤَاخذ بِغَلَبَة الشَّهْوَة، واشتهاء الشَّهَوَات؛ لِأَن ذَلِك شئ جبل عَلَيْهِ، ويؤاخذ بالتمني، وَذَلِكَ أَن يتَمَنَّى خمرًا ليشربه، أَو امْرَأَة؛ ليزني بهَا، فَذَلِك من الْمعْصِيَة، ويؤاخذ بِهِ ﴿وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا﴾ الْغرُور: إِيهَام الْوُصُول إِلَى النَّفْع من مَوضِع الضّر
﴿أُولَئِكَ مأواهم جَهَنَّم وَلَا يَجدونَ عَنْهَا محيصا﴾ أَي: معدلا.
481
﴿تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا وعد الله حَقًا وَمن أصدق من الله قيلا (١٢٢) لَيْسَ بأمانيكم﴾
482
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سندخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا وعد الله حَقًا﴾ فَإِن قيل: مَا الْفَائِدَة فِي تكْرَار الْوَعْد والوعيد فِي الْقُرْآن؟ قيل: فَائِدَته: التوكيد، قطعا من سَوَاء التَّأْوِيل، وَقيل إِنَّمَا كرر الْوَعْد على تفاصيل الْإِيمَان، وَكرر الْوَعيد على تفاصيل الْكفْر، ﴿وَمن أصدق من الله قيلا﴾ أَي: قولا.
قَوْله تَعَالَى:
﴿لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب﴾ قَالَ مَسْرُوق هُوَ أَبُو عَائِشَة مَسْرُوق بن الأجدع الْهَمدَانِي: أَرَادَ بِهِ: لَيْسَ بأمانيكم أَيهَا الْمُسلمُونَ، وَلَا أماني أهل الْكتاب، وهم الْيَهُود، وَالنَّصَارَى.
وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بقوله:
﴿لَيْسَ بأمانيكم﴾ مُشْركي الْعَرَب،
﴿وَلَا أماني أهل الْكتاب﴾ يَعْنِي: الْيَهُود، وَالنَّصَارَى، فعلى القَوْل الأول معنى الْآيَة: أَن الْيَهُود قَالُوا: نَحن أولى؛ لِأَن ديننَا أقدم وَكِتَابنَا أقدم.
وَقَالَت النَّصَارَى: نَحن أولى؛ لأَنا على دين عِيسَى، وَهُوَ روح الله، وكلمته، وَكَانَ يحيي الْمَوْتَى.
وَقَالَ الْمُسلمُونَ: نَحن أولى؛ لِأَن نَبينَا خَاتم النَّبِيين، وَكِتَابنَا نَاسخ للكتب، وَقد آمنا بِكِتَابِكُمْ، وَلم تؤمنوا بكتابنا؛ قَالَ الله تَعَالَى:
﴿لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب﴾ يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمر بالأماني، وَإِنَّمَا الْأَمر بِالْعَمَلِ الصَّالح، وَقد قَالَ: " لَيْسَ الدّين بالتمني، وَلَا بالتحلي.. " الْخَبَر.
وَأما على القَوْل الثَّانِي: معنى الْآيَة: أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَالُوا: نَحن أهل الْجنَّة،
482
﴿وَلَا أماني أهل الْكتاب من يعْمل سوءا يجز بِهِ وَلَا يجد لَهُ من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣) وَمن يعْمل من الصَّالِحَات من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ﴾ وَذَلِكَ قَول الله تَعَالَى:
﴿وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى﴾ وَقَالَ الْمُشْركُونَ: لَا جنَّة، وَلَا نَار، وَلَا بعث؛ قَالَ الله تَعَالَى:
﴿لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب﴾ أَي: لَيْسَ كَمَا قَالَ الْمُشْركُونَ، وَلَا كَمَا قَالَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
﴿من يعْمل سوءا يجز بِهِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَسَعِيد بن جُبَير، وقتاده، وَجَمَاعَة الْمُفَسّرين: إِن الْآيَة على الْعُمُوم فِي حق كل عَامل. وَقَالَ الْحسن: أَرَادَ بِهِ: أهل الشّرك.
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت، قَالَت الصَّحَابَة: أَيّنَا لم يعْمل سوءا؟ وَشقت عَلَيْهِم الْآيَة، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُول الله فِي ذَلِك، فَقَالَ: مَا مِنْكُم من أحد تصيبه مُصِيبَة، إِلَّا كفر عَنهُ، حَتَّى الشَّوْكَة يشاكها، والنكبة ينكبها ".
وروى: " أَن أَبَا بكر دخل على رَسُول الله، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله: " أَلا أقرئك آيَة أنزلت عَليّ؟ قَالَ: بلَى فَقَرَأَ:
﴿من يعْمل سوءا يحز بِهِ﴾ قَالَ أَبُو بكر: فَوجدت انقصاما فِي ظَهْري، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: مَالك يَا أَبَا بكر؟ فَقلت: كَيفَ النجَاة بعد هَذِه الْآيَة، هلكنا، وأينا لم يعْمل سوءا؟ فَقَالَ: أما أَنْت يَا أَبَا بكر، والمؤمنون تُجْزونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فتلقون الله تَعَالَى وَمَا عَلَيْكُم ذَنْب، وَأما الْكَافِرُونَ يجمع عَلَيْهِم، ثمَّ يجزون بِهِ فِي الْآخِرَة " وَفِي رِوَايَة قَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام:
483
﴿نقيرا (١٢٤) وَمن أحسن دينا مِمَّن أسلم وَجهه لله وَهُوَ محسن وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا (١٢٥) وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكَانَ الله بِكُل شَيْء﴾ " أَلَسْت تنصب؟ أَلَسْت تحزن؟ أَلَسْت تمرض؟ أَلَيْسَ تصيبك اللأواء؟ فَذَلِك الَّذِي تُجْزونَ بِهِ " فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿من يعْمل سوءا يجز بِهِ وَلَا يجد لَهُ من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا﴾ .
484
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يعْمل من الصَّالِحَات من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ نقيرا﴾ أَي: مِقْدَار النقير، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى لما أحَال الْخلق على الْعَمَل بَين الْعَمَل فِي هَذِه الْآيَات، وَجَزَاء الْعَمَل.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمن أحسن دينا مِمَّن أسلم وَجهه لله﴾ أَي: أخْلص عِبَادَته لله، وَقيل: توجه عِبَادَته إِلَى الله، وَالْوَجْه يذكر بِمَعْنى: الدّين وَالْعِبَادَة، وَمِنْه قَول الْمصلى: وجهت وَجْهي، أَي: ديني وَهُوَ الصَّلَاة.
﴿وَهُوَ محسن وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا﴾ وَإِنَّمَا خص إِبْرَاهِيم؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَقْبُول الْأُمَم أجمع، وَقيل: لِأَنَّهُ بعث على مِلَّة إِبْرَاهِيم؛ وَزيد لَهُ أَشْيَاء.
﴿وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا﴾ يَعْنِي: حبيبا، لَا خلل فِي حبه، والخلة: صفاوة الْمَوَدَّة، فَمَعْنَاه: أَنه اتَّخذهُ حبيبا، وَجعله صَفيه، وخاص نَفسه، كَمَا يكون الحبيب مَعَ الحبيب، قَالَ الشَّاعِر:
(قد تخللت مَسْلَك الرّوح منى وبذا سمى الْخَلِيل خَلِيلًا)
وَقيل: الْمُحْتَاج من الْخلَّة، وَهِي الْحَاجة، يَعْنِي: جعل حَاجته إِلَى نَفسه، دون غَيره، وَقَالَ الشَّاعِر:
(وَإِن أَتَاهُ خَلِيل يَوْم مَسْأَلَة فَقَالَ لَا غَائِب مَالِي وَلَا حرم)
484
﴿محيطا (١٢٦) ويستفتونك فِي النِّسَاء قل الله يفتيكم فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُم فِي الْكتاب فِي يتامى النِّسَاء اللَّاتِي لَا تؤتونهن مَا كتب لَهُنَّ وترغبون أَن تنكحوهن وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْولدَان وَأَن تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفعلُوا من خير فَإِن الله كَانَ بِهِ عليما (١٢٧) وَإِن﴾ يَعْنِي: وَإِن أَتَاهُ مُحْتَاج، وَالْأول أصح؛ لِأَن قَوْله
﴿وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا﴾ يَقْتَضِي الْخلَّة من الْجَانِبَيْنِ. وَلَا يتَصَوَّر الْحَاجة من الْجَانِبَيْنِ. وَفِي الْخَبَر قَالَ: " إِن الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا، وَلَو كنت متخذا خَلِيلًا، لاتخذت أَبَا بكر؛ وَلَكِن ود وإخاء إِيمَان، وَإِن صَاحبكُم خَلِيل الله ".
485
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكَانَ الله بِكُل شئ محيطا﴾ الْمُحِيط: هُوَ الْعَالم بالشَّيْء بِجَمِيعِ مَا يتَصَوَّر الْعلم بِهِ.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ويستفتونك فِي النِّسَاء﴾ أَي: يطْلبُونَ فتواك فِي النِّسَاء، قيل: هَذَا فِي أم كجة وَقد بَينا قصَّتهَا، وَأَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا لَا يورثون النِّسَاء وَالصبيان.
﴿قل الله يفتيكم فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُم فِي الْكتاب﴾ قَالَ الزّجاج: يعْنى: ويفتيكم كَمَا يُتْلَى عَلَيْكُم فِي الْكتاب
﴿فِي يتامى النِّسَاء﴾ هَذَا إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ باليتامى: النِّسَاء
﴿اللَّاتِي لَا تؤتونهن مَا كتب لَهُنَّ﴾ قَالَ الْحسن، وَجَمَاعَة: أَرَادَ بِهِ: لَا تؤتونهن حقهن من الْمِيرَاث
﴿وترغبون أَن تنكحوهن﴾ بِهِ، بِمَعْنى: عَن أَن تنكحوهن لدمامتهن، وحملوا الْآيَة على الْمِيرَاث.
وَقَالَت عَائِشَة: أَرَادَ بِهِ: لَا تؤتونهن مَا كتب لَهُنَّ من الصَدَاق. وَقَوله:
﴿وترغبون أَن تنكحوهن﴾ يَعْنِي: فِي أَن تنكحوهن،
﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْولدَان﴾ يَعْنِي:
485
﴿امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصلحا بَينهمَا صلحا وَالصُّلْح خير وأحضرت الْأَنْفس الشُّح وَإِن تحسنوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا (١٢٨) وَلنْ﴾ ويفتيكم فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ من الْوَالِدَان، وهم الصغار
﴿وَأَن تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ
﴿وَمَا تَفعلُوا من خير فَإِن الله كَانَ بِهِ عليما﴾ .
486
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا﴾ النُّشُوز: هُوَ الِارْتفَاع، وَالْمرَاد بِهِ، ارْتِفَاع الزَّوْج، والتكبر بِنَفسِهِ على الزَّوْجَة، وَمِنْه النشز.
﴿أَو إعْرَاضًا﴾ يعْنى: أَو خَافت إعْرَاضًا من الزَّوْج
﴿فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصلحا﴾ وَقُرِئَ: " أَن يصالحا بَينهمَا صلحا " يَعْنِي: بَين الزَّوْجَيْنِ، وَاخْتلفُوا فِيمَن نزلت الْآيَة، قَالَ بَعضهم: نزلت فِي امْرَأَة رَافع بن خديج، فَإِنَّهَا كَبرت، وَتزَوج رَافع عَلَيْهَا شَابة وخافت أَن يعرض عَنْهَا؛ فَنزلت الْآيَة.
وَقَوله:
﴿أَن يصلحا بَينهمَا صلحا﴾ يَعْنِي: أَن يتْرك شَيْئا من الْقسم، وترضى بِأَن يكون الْقسم للشابة أَكثر، وَقيل: هُوَ الصُّلْح عَن الْمهْر بِالْإِبْرَاءِ، وَنَحْوه، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي سَوْدَة بنت زَمعَة؛ أَرَادَ النَّبِي أَن يطلقهَا؛ فَقَالَت: لَا تُطَلِّقنِي، قد وهبت لَيْلَتي لعَائِشَة، فَلَا تُطَلِّقنِي حَتَّى أحْشر يَوْم الْقِيَامَة فِي زمرة نِسَائِك.
﴿وَالصُّلْح خير﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ: الصُّلْح خير من الْفرْقَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الصُّلْح خير من النُّشُوز، والإعراض
﴿وأحضرت الْأَنْفس الشُّح﴾ وَالشح: الْبُخْل، وَقيل: هُوَ أقبح الْبُخْل، وَحَقِيقَته: الْحِرْص على منع الْخَيْر، وَأَرَادَ بِهِ: شح الزَّوْجَيْنِ على حقيهما
﴿وَإِن تحسنوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا﴾ .
486
﴿تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم فَلَا تميلوا كل الْميل فتذروها كالمعلقة وَإِن تصلحوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما (١٢٩) وَإِن يَتَفَرَّقَا يغن الله كلا من سعته وَكَانَ الله وَاسِعًا حكيما (١٣٠) وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب﴾
487
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم﴾ قَالَ عمر، وَعلي، وَابْن عَبَّاس، أَرَادَ بِالْعَدْلِ: الْمحبَّة فِي الْقلب ﴿فَلَا تميلوا كل الْميل﴾ يعْنى: إِن ملتم فِي الْمحبَّة، فَلَا تميلوا فِي الْقسم، وَقد قَالَ: " اللَّهُمَّ هَذَا قسمي فِيمَا أملك، فَلَا تؤاخذاني فِيمَا لَا أملك " ﴿فتذروها كالمعلقة﴾ يَعْنِي لَا أَيّمَا وَلَا ذَات بعل، وَقيل: كالمحبوسة ﴿وَإِن تصلحوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يغن الله كلا من سعته﴾ يَعْنِي: الزَّوْجَيْنِ إِذا تفَرقا، فالزوج يجد الزَّوْجَة، وَالزَّوْجَة تَجِد الزَّوْج ﴿وَكَانَ الله وَاسِعًا حكيما﴾ أَي: وَاسع الْفضل وَالرَّحْمَة وَالْقُدْرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا الله﴾ هَذِه وَصِيَّة الله الْعباد بالتقوى، ( ﴿وَإِن تكفرُوا فَإِن لله مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكَانَ الله غَنِيا حميدا﴾
وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا) فَإِن قيل: أَي فَائِدَة فِي تكْرَار قَوْله:
﴿وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض﴾ قيل: لكل وَاحِد مِنْهَا وَجه: أما الأول: فَمَعْنَاه: وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض، وَهُوَ يُوصِيكُم بالتقوى، فاتقوه، واقبلوا وَصيته.
487
﴿من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا الله وَإِن تكفرُوا فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكَانَ الله غَنِيا حميدا (١٣١) وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا (١٣٢) إِن يَشَأْ يذهبكم أَيهَا النَّاس وَيَأْتِ بِآخَرين وَكَانَ الله على ذَلِك قَدِيرًا (١٣٣) من كَانَ يُرِيد ثَوَاب﴾
وَأما الثَّانِي: يَقُول: فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض، وَكَانَ الله غَنِيا حميدا؛ فَاطْلُبُوا مِنْهُ مَا تطلبون.
وَأما الثَّالِث يَقُول: وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا، أَي: اتخذوه وَكيلا وَلَا تتكلوا على غَيره.
488
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن يَشَاء يذهبكم أَيهَا النَّاس وَيَأْتِ بِآخَرين﴾ روى: " أَن النَّبِي كَانَ يضْرب بِيَدِهِ كتف سلمَان، وَيقْرَأ: ﴿وَيَأْتِ بِآخَرين﴾ وَيَقُول: سلمَان وَأَصْحَابه " ﴿وَكَانَ الله على ذَلِك قَدِيرًا﴾ .
قَوْله تَعَالَى: ﴿من كَانَ يُرِيد ثَوَاب الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ أَرَادَ بِهِ: الْكفَّار؛ فَإِنَّهُم يعْملُونَ ابْتِغَاء ثَوَاب الدُّنْيَا، وطلبا لنعيمها، وَلَا يطْلبُونَ ثَوَاب الْآخِرَة، وَلَا يُؤمنُونَ بهَا؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿من كَانَ يُرِيد ثَوَاب الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكَانَ الله سميعا بَصيرًا﴾ .
قَوْله تَعَالَى:
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ﴾ القوام: مُبَالغَة من الْقَائِم، والقسط: الْعدْل، وَمَعْنَاهُ: كونُوا قائلين بِالْعَدْلِ
﴿شُهَدَاء لله﴾ لأَنهم إِذا شهدُوا بِالْحَقِّ وَقَامُوا بِالْعَدْلِ، كَانُوا شُهَدَاء لله
﴿وَلَو على أَنفسكُم﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يشْهد على نَفسه؟ قيل: شَهَادَته على نَفسه: هُوَ الْإِقْرَار، وَهُوَ معنى مَا روى عَن ابْن عَبَّاس: " قُولُوا الْحق وَلَو على أَنفسكُم ".
﴿أَو الْوَالِدين والأقربين﴾ أَي: قُولُوا الْحق، وَلَو على الْوَالِدين والأقربين، قيل: نزلت الْآيَة فِي رجل كَانَت عِنْده شَهَادَة على أَبِيه، فهم أَن يمْتَنع عَنْهَا؛ فَنزل قَوْله:
488
﴿الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكَانَ الله سميعا بَصيرًا (١٣٤) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَو على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا فَالله أولى بهما فَلَا تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا﴾
﴿أَو الْوَالِدين والأقربين﴾ ،
﴿إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا﴾ قَالَ السّديّ: نزل ذَلِك فِي رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي، أَحدهمَا غَنِي، وَالْآخر فَقير، وَكَانَ ضلع النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْفَقِير، وَكَانَ عِنْده أَن الْفَقِير لَا يُخَاصم بِالْبَاطِلِ، وَكَانَ الْحق للغني فِي الْبَاطِن؛ فَنزلت الْآيَة
﴿إِن يكن غَنِيا أَو فَقير﴾ .
قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: لَا تجادلوا الْغَنِيّ لغناه، وَلَا ترحموا الْفَقِير لفقره، وَقَالَ عَطاء: لَا تحيفوا على الْفَقِير، وَلَا تعظموا الْغَنِيّ؛ فَهَذَا معنى الْآيَة، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: قومُوا بِالشَّهَادَةِ، سَوَاء كَانَ الْمَشْهُود عَلَيْهِ غَنِيا أَو فَقِيرا، وَسَوَاء كَانَ الْمَشْهُود لَهُ غَنِيا أَو فَقِيرا، وَلَا تمتنعوا عَن الشَّهَادَة للغني لغناه، وَلَا عَن الشَّهَادَة على الْفَقِير لفقره.
وَقَوله:
﴿إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا﴾ : يَعْنِي: إِن يكن الْمَشْهُود عَلَيْهِ غَنِيا، أَو فَقِيرا
﴿فَالله أولى بهما﴾ أَي: كلوا أَمرهمَا إِلَى الله، قَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ: فَالله أعلم بهما.
﴿فَلَا تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا﴾ قيل: مَعْنَاهُ: فَلَا تتبعوا الْهوى بِأَن تعدلوا، أَي: لِتَكُونُوا عادلين، كَمَا يُقَال: لَا تعص فترضى رَبك، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تتبعوا الْهوى لتميلوا من الْحق إِلَى الْبَاطِل
﴿وَإِن تلووا﴾ وَهِي من اللي قَالَ الشَّاعِر:
(وَكنت داينت بِهِ حسانا مَخَافَة الإفلاس والليانا)
وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه خطاب للحكام، وَمعنى
﴿وَإِن تلووا﴾ أَي: تميلوا إِلَى أحد الْخَصْمَيْنِ، أَو تعرضوا عَنهُ.
وَالثَّانِي وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين أَنه خطاب للشُّهُود، واللي مِنْهُم: تَحْرِيف الشَّهَادَة " والإعراض: كتمان الشَّهَادَة وَالْأول: قَول ابْن عَبَّاس، وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة: " وَإِن تلوا " فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن أَصله: " وَإِن تلووا " فإدخلت إِحْدَى الواوين
489
(
﴿١٣٥) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَالْكتاب الَّذِي نزل على رَسُوله وَالْكتاب الَّذِي أنزل من قبل وَمن يكفر بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر فقد ضل ضلالا بَعيدا (١٣٦) إِن الَّذين آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لَهُم﴾ فِي الْأُخْرَى تَخْفِيفًا، وَالْمعْنَى مَا بَينا، وَالثَّانِي: أَنه من الْولَايَة، يَعْنِي: وَإِن تلوا الْقيام بأَدَاء الشَّهَادَة
﴿أَو تعرضوا﴾ فتتركوا أَدَاء الشَّهَادَة
﴿فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا﴾ .
490
قَول تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله﴾ أَكثر الْمُفَسّرين عَليّ أَنه فِي الْمُؤمنِينَ، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا آمنُوا، أَي اثبتوا على الْإِيمَان، كَمَا يُقَال: قف حَتَّى أرجع إِلَيْك للرجل الْوَاقِف أَي: أثبت وَاقِفًا.
وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ خطاب لِلْمُنَافِقين، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ آمنُوا بِالْقَلْبِ، وَقَالَ الضَّحَّاك وَهُوَ رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَن ابْن عَبَّاس: هُوَ خطاب لأهل الْكتاب، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا بمُوسَى وَعِيسَى آمنُوا بِمُحَمد ﴿وَالْكتاب الَّذِي نزل على رَسُوله﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿وَالْكتاب الَّذِي أنزل من قبل﴾ يَعْنِي: الْكتب الْمنزلَة من قبل الْقُرْآن.
﴿وَمن يكفر بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر فقد ضل ضلالا بَعيدا﴾ أَي: بَعيدا عَن الْحق.
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن الَّذين آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ ازدادوا كفرا﴾ قَالَ قَتَادَة: هَذَا فِي الْيَهُود، آمنُوا بمُوسَى، ثمَّ كفرُوا بِهِ بِعبَادة الْعجل، ثمَّ آمنُوا بمُوسَى بِالتَّوْبَةِ، ثمَّ كفرُوا بِعِيسَى، ثمَّ ازدادوا كفرُوا بِمُحَمد، وَقيل: هُوَ فِي جَمِيع أهل الْكتاب من الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ آمنُوا بِنَبِيِّهِمْ، ثمَّ كفرُوا بِهِ، وآمنوا بِكِتَابِهِمْ، ثمَّ كفرُوا بِهِ ثمَّ ازدادوا كفرا بِمُحَمد. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ فِي قوم مرتدين آمنُوا، ثمَّ ارْتَدُّوا، ثمَّ آمنُوا ثمَّ ارْتَدُّوا.
وَمثل هَذَا هَل تقبل تَوْبَته؟
قَالَ عَليّ: لَا تقبل تَوْبَته؛ فَإِنَّهُ إِذا آمن، ثمَّ كفر، ثمَّ آمن، ثمَّ كفر، فَلَو أَرَادَ أَن يُؤمن
490
﴿وَلَا ليهديهم سَبِيلا (١٣٧) بشر الْمُنَافِقين بِأَن لَهُم عذَابا أَلِيمًا (١٣٨) الَّذين يتخذون الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ أيبتغون عِنْدهم الْعِزَّة فَإِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا (١٣٩) وَقد نزل عَلَيْكُم فِي﴾ لَا يقبل مِنْهُ، وَيقتل؛ لقَوْله - تَعَالَى -:
﴿لم يكن الله ليغفر لَهُم﴾ .
وَأكْثر أهل الْعلم على أَنه: تقبل تَوْبَته، وَيحْتَمل أَن تكون الْآيَة فِي الْمُنَافِقين، وَقوم من أهل الْكتاب، كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللِّسَانِ، ثمَّ يرجعُونَ إِلَى الْكفْر، ثمَّ يأْتونَ، فيؤمنون، ثمَّ يرجعُونَ إِلَى الْكفْر.
﴿لم يكن الله ليغفر لَهُم﴾ فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله - تَعَالَى -:
﴿لم يكن الله ليغفر لَهُم﴾ ، وَمَعْلُوم أَن الله لَا يغْفر الْكفْر؟ قيل: أجَاب النقاش فِي تَفْسِيره أَن مَعْنَاهُ: أَن الْكَافِر إِذا أسلم، يغْفر لَهُ كفره السَّابِق، فَهَذَا الَّذِي أسلم، ثمَّ كفر ثمَّ أسلم، ثمَّ كفر، لَا يغْفر كفره السَّابِق الَّذِي كَانَ يغْفر لَو ثَبت على الْإِسْلَام
﴿وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا﴾ أَي: طَرِيقا إِلَى الْحق.
492
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿بشر الْمُنَافِقين بِأَن لَهُم عذَابا أَلِيمًا﴾ فَإِن قيل: مَا معنى الْبشَارَة بِالْعَذَابِ الْأَلِيم؟ قيل: أصل الْبشَارَة: كل خبر تَتَغَيَّر بِهِ بشرة الْوَجْه، سارا كَانَ أم مَكْرُوها، لكنه فِي الْغَالِب إِنَّمَا يسْتَعْمل فِي الْخَبَر السار، فَإِذا اسْتعْمل فِي الْخَبَر السيء كَانَ على الأَصْل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: ضع هَذَا مَوضِع الْبشَارَة، كَمَا تَقول الْعَرَب: تحيتك السَّوْط، وعقابك السَّيْف.
يعْنى: وضعت السَّوْط مَعَ التَّحِيَّة، قَالَ الشَّاعِر:
(وخيل قد دلفت بهَا لخيل تَحِيَّة بَينهم ضرب وجيع)
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿الَّذين يتخذون الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ﴾ هَذَا فِي الْمُنَافِقين، كَانُوا يوالون الْكفَّار، ويظنون أَن النُّصْرَة وَالْغَلَبَة لَهُم
﴿أيبتغون عِنْدهم الْعِزَّة﴾ يعْنى: أيطلبون عِنْدهم الْقُوَّة وَالْغَلَبَة
﴿فَإِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا﴾ أَي: الْقُوَّة وَالْغَلَبَة كلهَا لله - تَعَالَى -.
492
﴿الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم إِن الله جَامع الْمُنَافِقين والكافرين فِي جَهَنَّم جَمِيعًا (١٤٠) الَّذين يتربصون بكم فَإِن كَانَ لكم فتح من الله قَالُوا ألم نَكُنْ مَعكُمْ وَإِن كَانَ للْكَافِرِينَ نصيب قَالُوا﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: قد نرى فِي بعض الْأَحْوَال الْغَلَبَة للْكفَّار؛ فَمَا معنى قَوْله:
﴿فَإِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا﴾ ؟ قيل: مَعْنَاهُ: أَن المقوى هُوَ الله - تَعَالَى - فِي الْأَحْوَال كلهَا.
وَقيل: مَعْنَاهُ: الْغَلَبَة بِالْحجَّةِ لله جَمِيعًا.
492
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقد نزل عَلَيْكُم فِي الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم﴾ .
هَذَا إِشَارَة إِلَى مَا أنزل فِي سُورَة الْأَنْعَام ﴿وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم....﴾ الْآيَة. نهى عَن الْقعُود مَعَهم، وَمَا حكم الْقعُود مَعَهم؟ أما إِذا قعد مَعَهم... ورضى بِمَا يَخُوضُونَ فِيهِ، فَهُوَ كَافِر مثلهم، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿إِنَّكُم إِذا مثلهم﴾ . وَإِن قعد، وَلم يرض بِمَا يَخُوضُونَ فِيهِ، فَالْأولى أَن لَا يقْعد، وَلَكِن لَو قعد كَارِهًا، فَلَا يكفر، وَهَذَا هُوَ الحكم فِي كل بِدعَة يخاض فِيهَا، فَلَو تركُوا الْخَوْض فِيهِ وخاضوا فِي حَدِيث غَيره، فَلَا بَأْس بالقعود مَعَهم وَإِن كره؛ لقَوْله ﴿حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره﴾ قَالَ الْحسن: وَإِن خَاضُوا فِي حَدِيث غَيره لَا يجوز الْقعُود مَعَهم؛ لقَوْله فِي سُورَة الْأَنْعَام: ﴿وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين﴾ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه يجوز، وَآيَة الْأَنْعَام مَكِّيَّة وَهَذِه الْآيَة مَدَنِيَّة، والمتأخر أولى.
{إِن الله جَامع الْمُنَافِقين والكافرين فِي جَهَنَّم جَمِيعًا
الَّذين يتربصون بكم) يعْنى: الْمُنَافِقين ينتظرون أَمركُم (فَإِن كَانَ لكم فتح من الله) يعْنى: ظفر
﴿قَالُوا ألم نَكُنْ مَعكُمْ﴾ يعْنى: كُنَّا مَعكُمْ، فاجعلوا لنا نَصِيبا من الْغَنِيمَة
﴿وَإِن كَانَ للْكَافِرِينَ نصيب﴾ يعْنى: وَإِن كَانَت الْقُوَّة للْكَافِرِينَ {قَالُوا ألم نستحوذ عَلَيْكُم
492
﴿ألم نستحوذ عَلَيْكُم ونمنعكم من الْمُؤمنِينَ فَالله يحكم بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا (١٤١) إِن الْمُنَافِقين يخادعون الله وَهُوَ خادعهم وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى يراءون النَّاس وَلَا يذكرُونَ الله إِلَّا قَلِيلا (١٤٢) مذبذبين بَين ذَلِك لَا إِلَى﴾ ونمنعكم من الْمُؤمنِينَ) الاستحواذ: الِاسْتِيلَاء وَالْغَلَبَة وَمِنْه قَوْله - تَعَالَى -:
﴿استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان﴾ قَالَ الْمبرد: معنى هَذَا: قَالُوا: ألم نغلبكم على رَأْيكُمْ، ونمنعكم من الْمُؤمنِينَ، وَالدُّخُول فِي جُمْلَتهمْ، وتخذيل الْمُؤمنِينَ عَنْكُم.
وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: ألم نستول عَلَيْكُم بالنصرة لكم من جِهَة مراسلتنا إيَّاكُمْ بأخبار الْمُؤمنِينَ، وأمورهم، وتخذيلنا إيَّاهُم عَنْكُم. (
﴿فَالله يحكم بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة﴾ وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا) قَالَ على، وَابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ: فِي الْقِيَامَة، وَقيل: هُوَ سَبِيل الْحجَّة، أَي: لَا تكون الْحجَّة للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ أبدا.
493
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿إِن الْمُنَافِقين يخادعون الله وَهُوَ خادعهم﴾ يخادعون الله، أَي: يعاملون الله مُعَاملَة المخادعين حَيْثُ أظهرُوا الْإِيمَان، وأبطنوا الْكفْر، وَهُوَ خادعهم، أَي: يعاملهم مُعَاملَة المخادعين، وَذَلِكَ على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه حكم بإيمَانهمْ فِي الظَّاهِر، وكفرهم فِي الْبَاطِن، كَمَا فعلوا هم وَالثَّانِي: أَنه فِي الْقِيَامَة يعطيهم نورا، كَمَا يعْطى الْمُؤمنِينَ، ثمَّ إِذا كَانُوا على الصِّرَاط طفئ نورهم، وَذهب الْمُؤْمِنُونَ بنورهم، وَهَذَا معنى قَوْله:
﴿وَهُوَ خادعهم﴾ وَقيل: مَعْنَاهُ: يخادعون رَسُول الله، وَهُوَ خادعهم، أَي: يجازيهم على مخادعتهم الرَّسُول، وسمى الثَّانِي خداعا على الازدواج، كَمَا قَالَ:
﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا﴾ وَفِي حَدِيث عدى بن حَاتِم أَن النَّبِي قَالَ: " يُؤْتى بناس من النَّاس يَوْم الْقِيَامَة إِلَى الْجنَّة، حَتَّى إِذا دنوا مِنْهَا، واستنشقوا رائحتها، وَرَأَوا فِيهَا من النَّعيم، يَأْمر الله - تَعَالَى - بصرفهم عَنْهَا، فيرجعون بحسرة مَا رَجَعَ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ بِمِثْلِهَا، فَيَقُولُونَ: يَا رب، لَو أدخلتنا النَّار قبل أَن ترينا مَا أريتنا كَانَ أَهْون علينا، فَيَقُول الله - تَعَالَى -: ذَاك أردْت لكم،
493
﴿هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا (١٤٣) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ أتريدون أَن تجْعَلُوا لله عَلَيْكُم سُلْطَانا مُبينًا (١٤٤) إِن﴾ وكنتم إِذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وَإِذا لَقِيتُم النَّاس، لقيتموهم مخبتين، هبتم النَّاس وَلم تهابوني، أجللتم النَّاس، وَلم تجلوني، تركْتُم للنَّاس، وَلم تتركوا لي؛ فاليوم أذيقكم الْعَذَاب، مَعَ مَا حرمتم من الثَّوَاب ".
وَقَوله:
﴿وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى﴾ يعْنى: متثاقلين، وَهَذَا دأب الْمُنَافِقين؛ لقلَّة الدَّوَاعِي لَهُم، وَأما الْمُؤمنِينَ ينشطون إِلَى الْقيام إِلَى الصَّلَاة؛ لِكَثْرَة الدَّوَاعِي لَهُم،
﴿يراءون النَّاس﴾ أَي: يعْملُونَ مَا يعْملُونَ، مراءه للنَّاس، لَا اتبَاعا لأمر الله.
وَاعْلَم أَن الرِّيَاء لَا يُوجب الْكفْر، وَهُوَ عيب عَظِيم، وَأما النِّفَاق كفر مَحْض.
﴿وَلَا يذكرُونَ الله إِلَّا قَلِيلا﴾ قَالَ الْحسن: لِأَنَّهُ لما لم يتَقَبَّل عَمَلهم، كَانَ قَلِيلا
494
﴿مذبذبين بَين ذَلِك﴾ أَي: متذبذبين وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَبى بن كَعْب، وَمَعْنَاهُ: مضطربين متحيرين ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ ، يعْنى: لَا إِلَى الْكفَّار بالتصريح بالشرك، وَلَا إِلَى الْمُؤمنِينَ باعتقاد الْإِيمَان.
وروى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مثل الْمُنَافِق كَمثل الشَّاة العائرة بَين ربيضين، إِن جَاءَت إِلَى هَذِه، نطحتها، وَإِن جَاءَت إِلَى هَذِه نطحتها " ﴿وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا﴾ أَي: وَمن يضلله الله، فَلَنْ تَجِد لَهُ طَرِيقا إِلَى الْحق.
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون
494
﴿الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار وَلنْ تَجِد لَهُم نَصِيرًا (١٤٥) إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا واعتصموا بِاللَّه وَأَخْلصُوا دينهم لله فَأُولَئِك مَعَ الْمُؤمنِينَ وسوف يُؤْت الله الْمُؤمنِينَ أجرا﴾ الْمُؤمنِينَ) فِي الْآيَة نهى عَن مُوالَاة الْمُؤمنِينَ مَعَ الْكفَّار
﴿أتريدون أَن تجْعَلُوا لله عَلَيْكُم سُلْطَانا مُبينًا﴾ السُّلْطَان: الْحجَّة، وَمِنْه يُقَال: للأمير سُلْطَان؛ لِأَنَّهُ ذُو الْحجَّة، وَمَعْنَاهُ: أتريدون أَن تجْعَلُوا لله عَلَيْكُم حجَّة بَيِّنَة فِي عذابكم، بِحَيْثُ لَا يبْقى لكم عذر عِنْده؟ !.
495
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار﴾ وَيقْرَأ: " فِي الدَّرك " بجزم الرَّاء - قَالَ أَبُو عبيده، والأخفش: النَّار دركات، وَالْجنَّة دَرَجَات، قَالَ أهل الْعلم: يجوز أَن يكون فِرْعَوْن وهامان أَشد عذَابا من الْمُنَافِقين، وَإِن كَانَ المُنَافِقُونَ فِي الدَّرك الْأَسْفَل. قَالَ ابْن مَسْعُود: الدَّرك الْأَسْفَل: تَابُوت من حَدِيد مقفل عَلَيْهِم، وَقيل: تَابُوت من النَّار. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: والدرك الْأَسْفَل: بَيت مطبق عَلَيْهِم، تتوقد النَّار فِيهِ من فَوْقهم، وَمن تَحْتهم ﴿وَلنْ تَجِد لَهُم نَصِيرًا﴾ مَانِعا من الْعَذَاب.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِلَّا الَّذين تَابُوا﴾ أَي: أَسْلمُوا ﴿وَأَصْلحُوا﴾ أَي: داموا على التَّوْبَة ﴿واعتصموا بِاللَّه﴾ الِاعْتِصَام: هُوَ الِامْتِنَاع بالشَّيْء مِمَّا يخَاف، فالاعتصام بِاللَّه: هُوَ الِامْتِنَاع بِطَاعَتِهِ من كل مَا يخَاف عَاجلا، وآجلا ﴿وَأَخْلصُوا دينهم لله﴾ شَرط الْإِخْلَاص بِالْقَلْبِ؛ لِأَن الْآيَة فِي الْمُنَافِقين، والنفاق: كفر الْقلب، فزواله بالإخلاص ﴿فَأُولَئِك مَعَ الْمُؤمنِينَ وسوف يُؤْت الله الْمُؤمنِينَ أجرا عَظِيما﴾ ، وَإِنَّمَا لم يقل: فَأُولَئِك هم الْمُؤْمِنُونَ، وسوف يُؤْتِيهم الله أجرا عَظِيما؛ غيظا على الْمُنَافِقين.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿مَا يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم﴾ هَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير، وَمَعْنَاهُ: لَا يعذب الله الْمُؤمن الشاكر، وَتَقْدِير قَوْله:
﴿إِن شكرتم وآمنتم﴾ أَي: إِن آمنتم وشكرتم، وَالشُّكْر ضد الْكفْر، وَالْكفْر: ستر النِّعْمَة وَالشُّكْر: إِظْهَار النِّعْمَة
﴿وَكَانَ الله شاكرا عليما﴾ الشُّكْر من الله قبُول الْعَمَل، وَمَعْنَاهُ: وَكَانَ
495
﴿عَظِيما (١٤٦) مَا يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم وَكَانَ الله شاكرا عليما (١٤٧) لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم وَكَانَ الله سميعا عليما (١٤٨) إِن تبدوا خيرا أَو﴾ الله قَابلا للطاعات، عليما بِالنِّيَّاتِ.
496
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: إِلَّا من ظلم، فَيجوز لَهُ أَن يجْهر بالسوء بالإخبار عَن ظلم الظَّالِم، وَالدُّعَاء عَلَيْهِ، قَالَ الْحسن: دعاؤه عَلَيْهِ: أَن يَقُول: اللَّهُمَّ اعني عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ استخرج حَقي مِنْهُ.
وَقيل: يجوز لَهُ أَن يشْتم، وَلَكِن بِمثل مَا شتم، لَا يزِيد عَلَيْهِ، بِمَا لم يكن قذفا، وَقد ورد فِي الحَدِيث: " السبتان بالسبة رَبًّا " قَالَ مُجَاهِد: هُوَ فِي الضَّيْف يَأْتِي قوما، فَلم يقروه، وَلم يحسنوا ضيافته، يجوز لَهُ أَن يجْهر بالسوء لَهُم.
وَيقْرَأ: " إِلَّا من ظلم " بِفَتْح الظَّاء وَاللَّام.
قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: إِلَّا من ظلم، فأجهر قَوْله بالسوء، وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى الْآيَة الْمُتَقَدّمَة، وَتَقْدِيره: مَا يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم إِلَّا من ظلم وَقيل: هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، يعْنى: لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل، لَكِن يجْهر بالسوء من ظلم ﴿وَكَانَ الله سميعا عليما﴾ سميعا لأقوالكم: عليما بنياتكم.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن تبدوا خيرا أَو تُخْفُوهُ﴾ مَعْنَاهُ: إِن تبدوا شَيْئا من الصَّدقَات؛ ليقتدي بكم، أَو تُخْفُوهُ؛ مَخَافَة الرِّيَاء ﴿أَو تعفوا عَن سوء﴾ تصابون بِهِ ﴿فَإِن الله كَانَ عفوا قَدِيرًا﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿إِن الَّذين يكفرون بِاللَّه وَرُسُله﴾ أَرَادَ بِهِ الْيَهُود لما كفرُوا بِمُحَمد فكأنهم كفرُوا بِاللَّه
﴿ويريدون أَن يفرقُوا بَين الله وَرُسُله﴾ يُرِيدُونَ أَن يُؤمنُوا بِاللَّه، ويكفروا بالرسول
﴿وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض﴾ يُؤمنُونَ بمُوسَى، ويكفرون بِعِيسَى، وَمُحَمّد
﴿ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا﴾ أَي: مذهبا يذهبون إِلَيْهِ.
496
﴿تُخْفُوهُ أَو تعفوا عَن سوء فَإِن الله كَانَ عفوا قَدِيرًا (١٤٩) إِن الَّذين يكفرون بِاللَّه وَرُسُله ويريدون أَن يفرقُوا بَين الله وَرُسُله وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا (١٥٠) أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا واعتدنا للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا (١٥١) وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله وَلم يفرقُوا بَين أحد مِنْهُم أُولَئِكَ سَوف يُؤْتِيهم أُجُورهم وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (١٥٣) يسئلك عَن أهل الْكتاب أَن تنزل عَلَيْهِم كتابا من﴾
497
﴿أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا﴾ إِنَّمَا حقق كفرهم، ليعلم أَنهم كفار مُطلقًا لِئَلَّا يظنّ ظان أَنهم لما آمنُوا بِاللَّه وَبَعض الرُّسُل لَا يكون كفرهم مُطلقًا ﴿اعتدنا للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله وَلم يفرقُوا بَين أحد مِنْهُم أُولَئِكَ سَوف يُؤْتِيهم أُجُورهم﴾ إِنَّمَا سَمَّاهُ أجرا مجَازًا؛ لِأَنَّهُ ذكره بِإِزَاءِ الْعَمَل، لِأَن الْعَمَل يُوجِبهُ، وَهَذَا نَحْو قَوْله - تَعَالَى - فِي قصَّة مُوسَى: ﴿إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك أجر مَا سقيت لنا﴾ سَمَّاهُ أجرا على مُقَابلَة الْعَمَل؛ لِأَن مُوسَى عمل؛ ليؤجر عَلَيْهِ ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿يَسْأَلك أهل الْكتاب أَن تنزل عَلَيْهِم كتابا من السَّمَاء﴾ هم الْيَهُود، قَالُوا للنَّبِي لن نؤمن لَك حَتَّى تنزل علينا كتابا من السَّمَاء جملَة، كَمَا أنزلت التَّوْرَاة على مُوسَى جملَة.
قَالَ الْحسن: وَلم يكن ذَلِك سُؤال انقياد، وَإِنَّمَا ذَلِك سُؤال تحكم، واقتراح؛ فَإِنَّهُم لَو أنزل عَلَيْهِم الْكتاب جملَة، كَمَا سَأَلُوا؛ لم يُؤمنُوا، وَالله - تَعَالَى - لَا ينزل الْآيَات على اقتراح الْعباد، وَإِنَّمَا ينزلها على مَشِيئَته
﴿فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك﴾ أَي: أعظم من ذَلِك
﴿فَقَالُوا أرنا الله جهرة﴾ أَي: عيَانًا، وَذَلِكَ أَن الْعَرَب كَانَت تعد الْعلم بِالْقَلْبِ رُؤْيَة؛ فَقَالَ:
﴿جهرة﴾ ليعلم أَنه أَرَادَ العيان، وَقَالَ أَبُو عبيده: مَعْنَاهُ:
497
﴿السَّمَاء فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك فَقَالُوا أرنا الله جهرة فَأَخَذتهم الصاعقة بظلمهم ثمَّ اتَّخذُوا الْعجل من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات فعفونا عَن ذَلِك وآتينا مُوسَى سُلْطَانا مُبينًا (١٥٣) ورفعنا فَوْقهم الطّور بميثاقهم وَقُلْنَا لَهُم ادخُلُوا الْبَاب سجدا وَقُلْنَا لَهُم لَا تعدوا فِي السبت وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا (١٥٤) فبمَا نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيَات الله وقتلهم الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا﴾
فَقَالُوا جهرة: أرنا الله
﴿فَأَخَذتهم الصاعقة بظلمهم﴾ ،
﴿ثمَّ اتَّخذُوا الْعجل﴾ يعْنى: إِلَهًا
﴿من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات فعفونا عَن ذَلِك﴾ فِيهِ استدعاء للتَّوْبَة، وَمَعْنَاهُ: أَن أُولَئِكَ الَّذين اجترموا ذَلِك الإجرام، عَفَوْنَا عَنْهُم؛ فتوبوا أَنْتُم، حَتَّى نعفو عَنْكُم
﴿وآتينا مُوسَى سُلْطَانا مُبينًا﴾ حجَّة بَيِّنَة من المعجزات.
498
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ورفعنا فَوْقهم الطّور بميثاقهم﴾ الطّور: جبل الطّور، وَقيل: كل جبل ينْبت شَيْئا، فَهُوَ طور، فَإِن لم ينْبت، لَا يُسمى طورا، والميثاق: الْعَهْد الْمُؤَكّد بِالْيَمِينِ.
﴿وَقُلْنَا لَهُم ادخُلُوا الْبَاب سجدا﴾ قيل: إِنَّهُم سجدوا على أَنْصَاف وُجُوههم، حَتَّى دخلُوا الْبَاب، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم قَالُوا: بِهَذَا السُّجُود رفع الْعَذَاب عَنَّا، فَلَا نَتْرُك هَذَا السُّجُود، وَكَانُوا يَسْجُدُونَ بعد ذَلِك على أَنْصَاف وُجُوههم.
﴿وَقُلْنَا لَهُم لَا تعدوا فِي السبت﴾ وَقَرَأَ نَافِع - بِرِوَايَة قَالُوا -: ﴿لَا تعدوا﴾ - بجزم الْعين، مُشَدّدَة الدَّال وَفِي رِوَايَة ورش عَنهُ ﴿لَا تعدوا﴾ - بِفَتْح الْعين مُشَدّدَة الدَّال وَمعنى الْكل: لَا يتعدوا فِي السبت ﴿وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿فبمَا نقضهم ميثاقهم﴾ وَمَا للصلة، وَإِنَّمَا تدخل فِي الْكَلَام؛ لتفخيمه، وتجزيله
﴿وكفرهم بآيَات الله وقتلهم الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف﴾ قد ذكرنَا كل هَذَا
﴿بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم﴾ الطَّبْع: الْخَتْم، وَقَالَ
498
﴿اقليلا (١٥٥) وبكفرهم وَقَوْلهمْ على مَرْيَم بهتانا عَظِيما (١٥٦) وَقَوْلهمْ إِنَّا قتلنَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ لفي شكّ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا (١٥٧) بل رَفعه الله إِلَيْهِ﴾ لزجاج: جعل قُلُوبهم، كالمطبوع لَا يفلح، وَلَا يصلح أبدا، وَلَا يدخلهَا خير؛ فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا
499
﴿وبكفرهم وَقَوْلهمْ على مَرْيَم بهتانا عَظِيما﴾ أَرَادَ بِهِ: نسبتهم مَرْيَم إِلَى الزِّنَا.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿وَقَوْلهمْ إِنَّا قتلنَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم﴾ .
قيل: إِن الله - تَعَالَى - ألْقى شبه عِيسَى على الَّذِي دلهم عَلَيْهِ؛ فَقَتَلُوهُ وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا حبسوا عِيسَى فِي بَيت، وَجعلُوا عَلَيْهِ رقيبا، فَألْقى الله تَعَالَى شبه عِيسَى على الرَّقِيب؛ فَقَتَلُوهُ، وَقيل: إِنَّهُم مَا كَانُوا يعْرفُونَ عِيسَى بِعَيْنِه، وَكَانُوا يعرفونه باسمه، وَكَانُوا يطلبونه؛ فَقَالَ لَهُم يهوذا - وَهُوَ وَاحِد من أَصْحَاب عِيسَى -: أعطوني شَيْئا، أدلكم على عِيسَى؛ فَأَعْطوهُ ثَلَاثِينَ درهما؛ فدلهم على غَيره، فَقتلُوا ذَلِك الْغَيْر؛ فَهَذَا قَوْله:
﴿وَلَكِن شبه لَهُم﴾ ،
﴿وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ لفي شكّ مِنْهُ﴾ وَذَلِكَ أَن الرجل الَّذِي قَتَلُوهُ على ظن أَنه عِيسَى، كَانَ يُشبههُ بِوَجْهِهِ، وَلَا يُشبههُ بجسده، فَوَقع فيهم الِاخْتِلَاف، فَقَالَ بَعضهم: الَّذِي قَتَلْنَاهُ كَانَ عِيسَى، وَقَالَ بَعضهم: لم يكن عِيسَى. وَقيل: هُوَ الِاخْتِلَاف بَين عُلَمَائهمْ، وأغتامهم؛ فَإِن علماءهم كَانُوا يعلمُونَ أَنهم لم يصلبوا عِيسَى وَكَانَ عِنْد جهالهم وأغتامهم أَنهم قتلوا عِيسَى،
﴿وَمَا لَهُم بِهِ من علم﴾ يعْنى: من حَقِيقَة علم
﴿إِلَّا اتِّبَاع الظَّن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا﴾ قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَوْله:
﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ كَلَام تَامّ، وَقَوله:
﴿يَقِينا﴾ رَاجع إِلَى مَا بعد، وَتَقْدِيره: " بل رَفعه الله إِلَيْهِ يَقِينا، قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: وَمَا قتلوا
499
﴿وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما (١٥٨) وَإِن من أهل الْكتاب إِلَّا ليُؤْمِنن بِهِ قبل مَوته وَيَوْم الْقِيَامَة يكون عَلَيْهِم شَهِيدا (١٥٩) فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم وبصدهم عَن سَبِيل الله كثيرا (١٦٠) وَأَخذهم الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ وأكلهم أَمْوَال النَّاس﴾ الَّذِي ظنُّوا أَنه عِيسَى يَقِينا أَنه عِيسَى، وَقيل: الْهَاء كِنَايَة عَن عِيسَى، أَي: وَمَا قتلوا عِيسَى يَقِينا
﴿بل رَفعه الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما﴾ .
500
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِن من أهل الْكتاب إِلَّا ليُؤْمِنن بِهِ قبل مَوته﴾ مَعْنَاهُ: وَأَن من أهل الْكتاب أحدا إِلَّا ليؤمن بِهِ، وَهُوَ مثل قَوْله: ﴿وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها﴾ أَي: وَأَن مِنْكُم أحد.
وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: ﴿قبل مَوته﴾ قَالَ الْحسن - وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس -: إِنَّه كِنَايَة عَن الْكِتَابِيّ، وَقَالَ: مَا من كتابي من الْيَهُود، إِلَّا وَهُوَ يُؤمن بِعِيسَى قبل مَوته فِي وَقت الْيَأْس، حِين لَا يَنْفَعهُ، حَتَّى قيل لِابْنِ عَبَّاس: وَإِن مَاتَ حرقا أَو غرقا أَو هدما؟ قَالَ: نعم.
وَقَالَ قَتَادَة - وَهُوَ رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس -: إِن " الْهَاء " كِنَايَة عَن عِيسَى، يعْنى: مَا من كتابي إِلَّا يُؤمن بِعِيسَى قبل موت عِيسَى، وَذَلِكَ حِين ينزل من السَّمَاء، وَقَالَ عِكْرِمَة: هَذَا فِي مُحَمَّد مَا من كتابي إِلَّا ويؤمن بِهِ قبل الْمَوْت، وَهَذَا قَول ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لم يجر ذكر مُحَمَّد فِي الْآيَة ﴿وَيَوْم الْقِيَامَة يكون عَلَيْهِم شَهِيدا﴾ يعْنى: عِيسَى.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿فبظلم من الَّذين هادوا﴾ يعْنى: مَا ذكر من إجرامهم
﴿حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم﴾ هُوَ مَا ذكرنَا فِي سُورَة الْأَنْعَام {وعَلى الَّذين هادوا حرمنا
500
﴿بِالْبَاطِلِ وأعتدنا للْكَافِرِينَ مِنْهُم عذَابا أَلِيمًا (١٦١) لَكِن الراسخون فِي الْعلم مِنْهُم والمؤمنون يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك والمقيمين الصَّلَاة والمؤتون الزَّكَاة والمؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أُولَئِكَ سنؤتيهم أجرا عَظِيما (١٦٣) إِنَّا أَوْحَينَا﴾ كل ذِي ظفر) الْآيَة على مَا سَيَأْتِي {وبصدهم عَن سَبِيل الله كثيرا
501
وَأَخذهم الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ وأكلهم أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ) يعْنى: الرشا ﴿اعتدنا للْكَافِرِينَ مِنْهُم عذَابا أَلِيمًا﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿وَلَكِن الراسخون فِي الْعلم مِنْهُم﴾ لَكِن للإضراب عَن كَلَام، وَالدُّخُول فِي كَلَام آخر،
﴿والراسخون﴾ : المبالغون فِي الْعلم أولُوا البصائر فِيهِ، وَأَرَادَ بِهِ: الَّذين أَسْلمُوا من عُلَمَاء الْيَهُود: مثل عبد الله بن سَلام، وَيَمِين بن يَمِين، وَأسد وَأسيد ابْني كَعْب، وَجَمَاعَة
﴿والمؤمنون﴾ أَرَادَ بِهِ: الْمُهَاجِرين، وَالْأَنْصَار
﴿يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك﴾ يعْنى: الْقُرْآن
﴿وَمَا أنزل من قبلك﴾ يعْنى: سَائِر الْكتب الْمنزلَة
﴿والمقيمين الصَّلَاة﴾ فِي هَذَا إِشْكَال من حَيْثُ النَّحْو، قيل: إِن هَذَا ذكر لعَائِشَة، وَأَبَان بن عُثْمَان، فادعيا الْغَلَط على الْكَاتِب، وَقَالا: يَنْبَغِي أَن يكْتب: " والمقيمون الصَّلَاة " وَلَيْسَ هَكَذَا؛ بل هُوَ صَحِيح فِي النَّحْو، وَهُوَ نصب على الْمَدْح، وَتَقْدِيره: واذْكُرُوا المقيمين الصَّلَاة، أَو أعنى: المقيمين الصَّلَاة، وهم المؤتون الزَّكَاة، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(النازلين بِكُل معترك والطيبون [معاقد] الأزر)
أَي: أعنى النازلين بِكُل معترك، وهم الطيبون معاقد الأزر؛ فَيكون نصبا على الْمَدْح، وَقيل تَقْدِيره: وَمَا أنزل على المقيمين الصَّلَاة، قَوْله:
﴿والمؤتون الزَّكَاة﴾ رُجُوع إِلَى نسق الأول
﴿والمؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أُولَئِكَ سنؤتيهم أجرا عَظِيما﴾ .
501
﴿إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان وآتينا دَاوُود زبورا (١٦٣) ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك وكلم الله مُوسَى﴾
502
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين من بعده﴾ هَذَا بِنَاء على مَا [سبق] من قَوْله ﴿يَسْأَلك أهل الْكتاب أَن تنزل عَلَيْهِم كتابا من السَّمَاء﴾ يَقُول الله - تَعَالَى -: قد جعلناك رَسُولا بِالطَّرِيقِ الَّذِي [قد] جعلنَا سَائِر الْأَنْبِيَاء رسلًا، وَهُوَ الْوَحْي، ﴿وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان﴾ ذكر عدَّة من الرُّسُل الَّذين أوحى إِلَيْهِم.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم قدم ذكر عِيسَى، وَهُوَ مُتَأَخّر؟ قيل: " الْوَاو " لَا توجب التَّرْتِيب، وَإِنَّمَا هِيَ للْجمع، وَقيل: ذكره اهتماما بأَمْره، وَكَانَ أَمر عِيسَى أهم ﴿وآتينا دَاوُد زبورا﴾ قَرَأَ حَمْزَة: " زبورا " - بِضَم الزَّاي - فالزبور: فعول بِمَعْنى الْمَفْعُول، وَهُوَ الْكتاب الَّذِي أنزل الله - تَعَالَى - على دَاوُد، فِيهِ التَّحْمِيد، والتمجيد، وثناء الله - تَعَالَى -، وَالزَّبُور: الْكِتَابَة، والزبرة قِطْعَة الْحَدِيد، وَيُقَال: مَا لَهُ زبر أَي: مَا لَهُ عقل، وَأما الزبُور: جمع الزبر.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل﴾ وَأَرْسَلْنَا رسلًا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل
﴿ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك وكلم الله مُوسَى تكليما﴾ إِنَّمَا كَلمه بِنَفسِهِ من غير وَاسِطَة، وَلَا وَحي، وَفِيه دَلِيل على من قَالَ: إِن الله خلق كلَاما فِي الشَّجَرَة؛ فَسَمعهُ مُوسَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ:
﴿وكلم الله مُوسَى تكليما﴾
502
﴿تكليما (١٦٤) رسلًا مبشرين ومنذرين لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما (١٦٥) لَكِن الله يشْهد بِمَا أنزل إِلَيْك أنزلهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة يشْهدُونَ﴾
قَالَ الْفراء، وثعلب: إِن الْعَرَب تسمى مَا توصل إِلَى الْإِنْسَان: كلَاما، بِأَيّ طَرِيق وصل إِلَيْهِ، وَلَكِن لَا تحَققه بِالْمَصْدَرِ، فَإِذا حقق الْكَلَام بِالْمَصْدَرِ، لم تكن إِلَّا حَقِيقَة الْكَلَام، وَهَذَا كالإرادة، يُقَال: أَرَادَ فلَان إِرَادَة، فَيكون حَقِيقَة الْإِرَادَة، وَلَا يُقَال: أَرَادَ الْجِدَار أَن يسْقط إِرَادَة، وَإِنَّمَا يُقَال: أَرَادَ الْجِدَار، من غير ذكر الْمصدر؛ لِأَنَّهُ مجَاز، فَلَمَّا حقق الله كَلَامه مُوسَى بالتكليم، عرف أَنه حَقِيقَة الْكَلَام من غير وَاسِطَة، قَالَ ثَعْلَب: وَهَذَا دَلِيل من قَول الْفراء أَنه مَا كَانَ يَقُول بِخلق الْقُرْآن.
فَإِن قَالَ قَائِل: بِأَيّ شئ عرف مُوسَى أَنه كَلَام الله؟ قيل: بتعريف الله - تَعَالَى - إِيَّاه، وإنزال آيَة عرف مُوسَى بِتِلْكَ الْآيَة أَنه كَلَام الله - تَعَالَى -، وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة أَنه سمع كَلَام الله حَقِيقَة، بِلَا كَيفَ، وَقَالَ وَائِل بن دَاوُد: معنى قَوْله:
﴿وكلم الله مُوسَى تكليما﴾ أَي: مرَارًا، كلَاما بعد كَلَام.
503
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿رسلًا مبشرين ومنذرين﴾ أَي: أرسلنَا رسلًا
﴿لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل﴾ وَهَذَا دَلِيل على أَن الله - تَعَالَى - لَا يعذب الْخلق قبل بَعثه الرُّسُل، وَهَذَا معنى قَوْله:
﴿وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا﴾ وَقَالَ - تَعَالَى -
﴿وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى﴾ .
﴿وَكَانَ الله عَزِيزًا﴾ أَي: مقتدرا على معاونة الْخلق (حكيما) ببعث الرُّسُل. وَفِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء أَنه قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله عَن عدد الْأَنْبِيَاء فَقَالَ: مائَة وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا، فَقلت: كم الرُّسُل مِنْهُم؟ قَالَ: ثلثمِائة وَخَمْسَة عشر [جما غفيرا] ".
503
﴿وَكفى بِاللَّه شَهِيدا (١٦٦) إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله قد ضلوا ضلالا بَعيدا (١٦٧) إِن الَّذين كفرُوا وظلموا لم يكن الله ليغفر لَهُم وَلَا ليهديهم طَرِيقا (١٦٨) إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أبدا وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا (١٦٩) يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم﴾
504
قَوْله - تَعَالَى - ﴿لَكِن الله يشْهد بِمَا أنزل إِلَيْك﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: أَن قوما من عُلَمَاء الْيَهُود حَضَرُوا عِنْد النَّبِي، فَقَالَ لَهُم: " أَنْتُم تعلمُونَ أَنى رَسُول الله؟ فَقَالُوا: لَا نعلم ذَلِك؛ فَنزل قَوْله: ﴿لَكِن الله يشْهد بِمَا أنزل إِلَيْك أنزلهُ بِعِلْمِهِ﴾ " أَي: مَعَ علمه، كَمَا يُقَال: جَاءَنِي فلَان بِسَيْفِهِ، أَي: مَعَ سَيْفه، وَفِيه دَلِيل على أَن لله علما، هُوَ صفته، خلاف قَول الْمُعْتَزلَة خذلهم الله.
﴿وَالْمَلَائِكَة يشْهدُونَ وَكفى بِاللَّه شَهِيدا﴾ فَإِن قيل: إِذا شهد الله لَهُ بالرسالة، فَأَي حَاجَة إِلَى شَهَادَة الْمَلَائِكَة؟ قيل: لِأَن الَّذين حَضَرُوا عِنْد النَّبِي، كَانَ عِنْدهم أَنهم عُلَمَاء الأَرْض؛ فَقَالُوا: نَحن عُلَمَاء الأَرْض، وَنحن ننكر رِسَالَتك، فَقَالَ الله تَعَالَى: إِن أنكرهُ عُلَمَاء الأَرْض، يشْهد بِهِ عُلَمَاء السَّمَاء، وهم الْمَلَائِكَة، على مُقَابلَة زعمهم وظنهم؛ لَا للْحَاجة إِلَى شَهَادَتهم؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿وَكفى بِاللَّه شَهِيدا﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله﴾ صدهم عَن سَبِيل الله كَانَ بكتمان نعت مُحَمَّد ﴿قد ضلوا ضلالا بَعيدا﴾ أَي: هَلَكُوا، والضلال: الْهَلَاك.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿إِن الَّذين كفرُوا وظلموا﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أَي معنى لقَوْله:
﴿وظلموا﴾ وَقد قَالَ:
﴿كفرُوا﴾ وظلمهم كفرهم؟ قيل: مَعْنَاهُ: كفرُوا بِاللَّه، وظلموا مُحَمَّدًا بكتمان نَعته.
وَقيل: ذكره تَأْكِيدًا
﴿لم يكن الله ليغفر لَهُم﴾ فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن الله - تَعَالَى - لَو غفر للْكَافِرِينَ أجمع، كَانَ يسع ذَلِك رَحمته، لكنه قطع القَوْل بِأَن لَا يغْفر لَهُم،
504
﴿الرَّسُول بِالْحَقِّ من ربكُم فآمنوا خيرا لكم وَإِن تكفرُوا فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكَانَ الله عليما حكيما (١٧٠) يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ فآمنوا﴾
﴿وَلَا ليهديهم طَرِيقا﴾ يعْنى: الْإِسْلَام
505
﴿إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم﴾ يعْنى: الْيَهُودِيَّة ﴿خَالِدين فِيهَا أبدا وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم الرَّسُول بِالْحَقِّ من ربكُم فآمنوا خيرا لكم﴾ تَقْدِيره: يكن الْإِيمَان خيرا لكم ﴿وَإِن تكفرُوا فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكَانَ الله عليما حكيما﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ﴾ الغلو: مُجَاوزَة الْحَد، وَالْآيَة فِي النَّصَارَى، قَالَ الْحسن: يجوز أَن تكون فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّهُم غلوا فِي أَمر عِيسَى، أما الْيَهُود بالتقصير فِي حَقه، وَأما النَّصَارَى بمجاوزة الْحَد فِيهِ.
الغلو غير مَحْمُود فِي الدّين، روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إيَّاكُمْ والغلو فِي الدّين؛ فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بالغلو ".
﴿وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته﴾ وَقد بَينا أَقْوَال الْعلمَاء فِي كَونه " كلمة " وَجُمْلَته ثَلَاثَة أقاويل: أَحدهَا: أَنه بكلمته، وَهِي قَوْله: كن، فَكَانَ، وَالثَّانِي: أَنه يَهْتَدِي بِهِ، كَمَا يَهْتَدِي بِكَلِمَة الله، الثَّالِث: كَلمته: بشارته الَّتِي بشر بهَا فِي الْكتب " يكون عِيسَى " فَهَذَا معنى قَوْله: (
﴿وكلمته﴾ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ) وَفِي تَسْمِيَته " روحا " ثَلَاثَة أقاويل:
505
﴿بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة انْتَهوا خيرا لكم إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد سُبْحَانَهُ أَن يكون لَهُ ولد لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا (١٧١) لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر﴾ أَحدهَا: أَنه كَانَ لَهُ روح كَسَائِر الْأَرْوَاح، إِلَّا أَن الله - تَعَالَى - أَضَافَهُ إِلَى نَفسه تَشْرِيفًا.
وَالثَّانِي: أَنه تحيا بِهِ الْقُلُوب، كَمَا تحيا الْأَبدَان بِالروحِ.
الثَّالِث: أَن الرّوح: هُوَ النفخ الَّذِي نفخ فِي مَرْيَم جِبْرِيل بِإِذن الله؛ فَسمى ذَلِك النفخ روحا.
(فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة) وَكَانَت النَّصَارَى يَقُولُونَ بِالثَّلَاثَةِ، كَانُوا يَقُولُونَ: ابْن، وآب، وروح الْقُدس، وَهَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -:
﴿لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة﴾ وَقَوله:
﴿انْتَهوا خيرا لكم﴾ تَقْدِيره: يكن الِانْتِهَاء خيرا لكم.
﴿إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد سُبْحَانَهُ أَن يكون لَهُ ولد﴾ وَاعْلَم أَن الله - تَعَالَى - كَمَا لَا يجوز لَهُ أَن يتَّخذ ولدا، لَا يجوز عَلَيْهِ التبني؛ فَإِن التبني إِنَّمَا يكون حَيْثُ يكون بِهِ الْوَلَد، فَإِذا لم يتَصَوَّر لله ولد وَلم يجز عَلَيْهِ التبني
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا﴾ .
506
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله﴾ الاستنكاف: التكبر مَعَ الأنفة، وَمَعْنَاهُ: لن يأنف الْمَسِيح أَن يكون عبدا
﴿وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون﴾ وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة من ذهب إِلَى تَفْضِيل الْمَلَائِكَة على الْبشر؛ لِأَن الله تَعَالَى ارْتقى من عِيسَى إِلَى الْمَلَائِكَة، وَلَيْسَ فِي الْآيَة مستدل، وَإِنَّمَا قَالَ: (وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون) [لَا] لِامْتِنَاع مكانهم ومقامهم على مقَام الْبشر، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك على مَا عِنْد النَّصَارَى،
506
﴿فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا (١٧٢) فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله وَأما الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذَابا أَلِيمًا وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا (١٧٣) يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم برهَان من ربكُم وأنزلنا إِلَيْكُم نورا مُبينًا (١٧٤) فَأَما الَّذين آمنُوا بِاللَّه واعتصموا بِهِ فسيدخلهم فِي رَحْمَة مِنْهُ وَفضل ويهديهم إِلَيْهِ صراطا مُسْتَقِيمًا (١٧٥) يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد﴾ وَلَعَلَّه كَانَ عِنْدهم أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْبشر، فَقَالَ ذَلِك على مَا فِي زعمهم.
وَقَوله:
﴿وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ الْفرق بَين الاستنكاف والاستكبار: أَن الاستنكاف هُوَ التكبر مَعَ الأنفة، والاستكبار: هُوَ الغلو، والتكبر من غير أَنَفَة.
507
﴿فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله﴾ قيل: زِيَادَة فَضله: مَا لَا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت، وَلَا خطر على قلب بشر.
وَقيل: هُوَ الشَّفَاعَة، وَفِي الحَدِيث: " يشفع الصالحون يَوْم الْقِيَامَة لمن يعْرفُونَ ".
﴿وَأما الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذَابا أَلِيمًا وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم برهَان من ربكُم﴾ قيل: هُوَ مُحَمَّد، على هَذَا أَكثر الْمُفَسّرين. وَقيل: هُوَ الْقُرْآن.
والبرهان فِي اللُّغَة: هُوَ الْحجَّة ﴿وأنزلنا إِلَيْكُم نورا مُبينًا﴾ هُوَ الْقُرْآن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَما الَّذين آمنُوا بِاللَّه واعتصموا بِهِ فسيدخلهم فِي رَحْمَة مِنْهُ وَفضل﴾ يعْنى الْجنَّة ﴿ويهديهم إِلَيْهِ صراطا مُسْتَقِيمًا﴾ .
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة﴾ روى عَن الْبَراء بن عَازِب أَنه قَالَ: آخر سُورَة أنزلت كَامِلَة: سُورَة بَرَاءَة، وَآخر آيَة أنزلت هَذِه الْآيَة.
507
﴿فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك وَأَن كَانُوا اخوة رجَالًا وَنسَاء فللذكر مثل حَظّ﴾
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: " أَن النَّبِي دخل على جَابر وَهُوَ مَرِيض، وَكَانَ قد أغمى عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاء وَتَوَضَّأ، ثمَّ رشه عَلَيْهِ، فأفاق، فَقَالَ جَابر: يَا رَسُول الله، مَاذَا أصنع فِي مَالِي، وَإِنَّمَا ترثني كَلَالَة؟ فَنزلت الْآيَة "، وَقد سبق الْكَلَام فِي الْكَلَالَة.
وَتلك الْآيَة فِي تَوْرِيث الاخوة وَالْأَخَوَات من الْأُم، وَهَذِه الْآيَة فِي تَوْرِيث الاخوة وَالْأَخَوَات من الْأَب وَالأُم، وَمن الْأَب
﴿إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد﴾ تَقْدِيره: لَيْسَ لَهُ ولد، وَلَا وَالِد، وعَلى هَذَا أَكثر الْعلمَاء، أَن الْكَلَالَة: هَذَا، وَأَن الْأُخوة وَالْأَخَوَات لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَب، إِلَّا مَا يحْكى عَن عمر - رضى الله عَنهُ -: أَنه ورثهم مَعَ الْأَب، وَقد سبق.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿لَيْسَ لَهُ ولد﴾ أَرَادَ بِهِ: الذّكر، وعَلى هَذَا أَكثر الْعلمَاء: أَن الاخوة وَالْأَخَوَات إِنَّمَا لَا يَرِثُونَ مَعَ الابْن، ويرثون مَعَ الْبِنْت، وَحكى عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر -: أَن الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات لَا يَرِثُونَ مَعَ الْبِنْت، تمسكا بِظَاهِر الْآيَة، وَقد بَينا أَن المُرَاد بِهِ: الابْن، وَالْآيَة فِي نفي الْفَرْض مَعَ الْوَلَد وَعِنْدنَا: إِنَّمَا يَرِثُونَ بِالتَّعْصِيبِ، فَإِن الْأَخَوَات مَعَ الْبَنَات عصبَة.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك وَإِن كَانُوا اخوة رجَالًا وَنسَاء فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ يبين الله لكم أَن تضلوا﴾ .
قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: يبين الله لكم أَن لَا تضلوا، وَهُوَ قَول أبي عبيده، قَالَ أَبُو عبيده: وَذكر الْكسَائي حَدِيثا فِي مَعْنَاهُ؛ فأعجبه ذَلِك، وَذَلِكَ مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يدعونَ أحدكُم على ابْنه أَن يُوَافق قدرا " أَي: أَن لَا يُوَافق قدرا.
508
﴿الْأُنْثَيَيْنِ يبين الله لكم أَن تضلوا وَالله بِكُل شَيْئا عليم (١٧٦) ﴾
وَقَالَ البصريون: مَعْنَاهُ: يبين الله لكم كَرَاهِيَة أَن تضلوا
﴿وَالله بِكُل شئ عليم﴾ .
وَالله أعلم، صدق الله وَصدق رَسُول الله وعَلى آله أَجْمَعِينَ.
509
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم غير﴾
تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة
القَوْل فِي تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة قَالَ الشَّيْخ الإِمَام - رَضِي الله عَنهُ - سُورَة الْمَائِدَة مَدَنِيَّة كلهَا إِلَّا قَوْله تَعَالَى:
﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا﴾ فَإِنَّهُ نزل بِعَرَفَات على مَا سنبين، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: كلهَا محكمَة لم ينْسَخ مِنْهَا شَيْء. وَقَالَ الشّعبِيّ: لم ننسخ مِنْهَا شَيْء. إِلَّا قَوْله - تَعَالَى -:
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحلوا شَعَائِر الله﴾ على مَا سنبين.
وروى عَن أبي ميسرَة أَنه قَالَ: أنزل الله - تَعَالَى - فِي هَذِه السُّورَة ثَمَانِيَة عشر حكما لم ينزلها فِي سَائِر الْقُرْآن.
5
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net
-
© 2025